سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم/العتاب/د.عثمان قدري مكانسي
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم
العتاب
الدكتور عثمان قدري مكانسي
عتب عليه وعاتبه : لامه وخاطبه مخاطبة الإدلال ، طالباً حُسْن مراجعته ، ومذكّراً إياه بما كرهه منه .
ويقال : يُعاتَب مَنْ تـُرجَى عنده العتبى : مَنْ يرجى عنده الرجوع عن الذنب والإساءة . والعتاب الذي عوتب به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم يدل دلالة قاطعة ـ من ضمن الدلائل الأخرى ـ على أن هذا الكتاب العظيم من عند الله سبحانه وتعالى ـ { لمن كان له قلب أوألقى السمع وهو شهيد }( من الأية 37 ق )ـ وإلا فكيف يعاتب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا كان القرآن ـ كما يدّعي السفهاء ـ من عند رسول الله ؟! .
والعتاب أسلوب من أساليب التربية فيه :
1ـ إظهار عدم الرضا من تصرف ، كان غيره أولى أن يُتصرَّف به .
2ـ فيه مسحة كبيرة من حب واحترام صادرةٌ ممن عاتب .
3ـ فيه استمرار للعلاقة بين مَنْ عاتب ومن عوتب .
4ـ فيه رغبة في تصحيح الخطأ دون جرح مشاعر المعاتَب .
وسأقدّم إن شاء الله صوراً من عتاب الله تعالى نبيّه الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم صوراً من عتاب الله سبحانه المؤمنين الصالحين :
1ـ فقد قال الله سبحانه وتعالى معاتباً نبيّه الكريم متلطفاً في عتابه :
{ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)}(التوبة) .
ففي غزوة تبوك استثقل المنافقون الخروج مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبعد الشُقّة ، فقال أناس منهم : استأذنوا رسول الله فإن أذن لكم فاقعدوا ، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا . . فقد كانوا مصرّين على القعود عن الغزو ، وإن لم يؤذن لهم . . . وقدّم الله تعالى العفو على العتاب إكراماً لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلاً : عفا الله عنك ، ثم قال : هلا تركتهم حتى يظهر لك الصادقُ منهم في عذره من الكاذب المنافق ، ولم أذنت لهؤلاء المنافقين في التخلف عن الخروج لمجرّد الاعتذار ؟ .
ثم أكد الله سبحانه وتعالى أن الذي يستأذن كراهية الجهاد في سبيل الله ليس مؤمناً بالله واليوم الآخر ، فالمؤمن يجود بالنفس والنفيس في سبيل الله ، مخلص في إيمانه مُتقٍ للرحمن .
ـ ويقول الله سبحانه وتعالى في قصة أسرى بدر حين اختلفت آراء المسلمين في مصيرهم ، فقال بعضهم نقتلهم ، وكان منهم الفاروق عمر ـ رضي الله عنه ـ حتى يعلم المشركون أنْ لا هوادة مع الكافرين الذين يحادون الله ورسوله ، وقال بعض المسلمين ـ ومنهم الصديق رضي الله عنه ـ بل نـُبقي عليهم فيفتدون أنفسهم ، ولعلّ الله يهديهم إلى الدين القويم ، ويخرج من أصلابهم من يجاهد في سبيل الله .
وكان الرسول الكريم الرحيم بالناس مع الفريق الثاني ، ثم نزلت الآيات تعاتب الرسول صلى الله عليه وسلم لإبقائه على الأسرى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) }(الأنفال) ، فلا ينبغي للنبي أن يأخذ الفداء من الأسرى إلا بعد أن يكثر القتل في المشركين ، ويبالغ فيهم ، فالفداء حطام الدنيا الزائل ، والله يريد لنا العز الباقي ، ثواب الآخرة . ولولا أن الله تعالى كتب على نفسه أن لا يأخذ المجتهد في خطئه لمسَّ المسلمين عذابٌ أليم .
وروي أن هذه الآية لما نزلت قال رسول الله صلى الله علبه وسلم : ( لو نزل العذاب لما نجا منه غير عمر ) .
ويقول الله تعالى مؤكداً ما سبق المعنى نفسَه في سورة القتال : { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا . .}((من الآية 4(محمد/القتال)) .
ـ جاء عبد الله بن أم مكتوم إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطلب منه أن يعلمه مما علمه الله ، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشغول مع جماعة من كبراء قريش يدعوهم إلى الإسلام ، فعبس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجهُهُ وأعرض عنه فنزل القرآن الكريم بالعتاب : { عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) . . . }(عبس) .
وجاء الحديث بلغة الغائب تلطفاً برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن الأعمى ـ ابن أم مكتوم ـ حين جاءه وهو يحاور المشركين كره الرسول مجيئه حتى لا يقطع حديثاً كان يظن أن المشركين ـ من ورائه ـ يمكن أن يؤمنوا .
وابن أم مكتوم كان يريد أن يتعلم ، ويتطهر من ذنوبه بما يتلقّاه من موعظة الرسول الكريم . ولعله يريد أن يتعظ بما يسمع فكان الأولى أن يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليه ويهتم به ، أما الكفار فهؤلاء لا يريدون الإيمان والتطهر من دنس الكفر والعصيان ، وليس الرسول صلى الله عليه وسلم مطالباً بهدايتهم إنما عليه البلاغ فقط .
2ـ وفي حديث الإفك يعاتب الله سبحانه وتعالى المؤمنين ، حين سمعوا هذا الافتراء على الصدّيقة عائشة زوجة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم ينفوا هذه التهمة ـ وكان أولى بهم أن يظنوا الخير فيها ـ وهي المرأة الحصان الطاهرة زوجة نبيهم ، وهلاّ قاسوا الأمر عليهم ؟ فهل يفعل الرجل المسلم ما ظنوه في أخيهم صفوان بن المعطل ؟! وهل تفعل المرأة المسلمة ما ظنوه في أمهم عائشة ؟!! .
والله تعالى أمرهم أن لا ينشروا أمثال هذه الافتراءات ، بل عليهم أن يسألوا المفترين الطاعنين عن أربعة شهداء ، يشهدون أنهم رأوا رأي العين ما افترَوه على السيدة عائشة ، وإلا فهم كاذبون ، والله تعالى يشهد على كذبهم ، قال تعالى :
{ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)}(النور) .
وأترك للأخ القارىء أن يعود للآيات التي تلي الآيتين السابقتين ، ليرى ذلك العتاب الذي ساقه الله تعالى مرشداً وهادياً المسلمين أن لا يتأثروا بالشائعات ، وأن يتحكموا بعاطفتهم وأن يحكّموا عقولهم قبل أن يُصدِروا آراءهم وينغمسوا فيما أراد المنافقون لهم من سوء .
ـ وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر يخطب يوم الجمعة ، فأقبلت عير من الشام بطعام قدم بها ( دحية الكلبي ) وكان أصاب أهلَ المدينة جوعٌ وغلاء سِعْر ـ وكانت عادتهم أن تدخل العير المدينة بالطبل والصياح سروراً بها ـ فلما دخلت العير كذلكَّ انفضَّ أهل المسجد إليها ، وتركوا رسول الله قائماً على المنبر ، لم يبقَ معه سوى اثني عشر رجلاً ، فنزلت الآية تدل على أن ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة ، فليطلبوا الرزق من الله وليبتغوا مرضاته :
ـ نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى. . . لما تطاول عليهم الزمن بدّلوا كتاب الله الذي بين أيديهم ، ونبذوه وراء ظهورهم واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ، فعند ذلك قست قلوبهم ، فلا يقبلون موعظة ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد ، فعاتبهم قائلاً : أما حان للمؤمنين أن ترق قلوبهم وتلين لمواعظ الله ، ولما نزل به الكتاب من الآيات الواضحة ؟ . . . { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)}(الحديد) .
فقال المؤمنون الصادقون : (( لقد آنَ لنا يا رب لقد آنَ )) .
والعتاب من المحب للمحبوب يفتح القلوب للخير ، والأفئدة للصواب والعقول للحق ، دون استثارة أو حنق .
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم/عدم التدخّل فيما لا يعني/د.عثمان قدري مكانسي
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم
عدم التدخّل فيما لا يعني
الدكتور عثمان قدري مكانسي
ما أبلغ القول : (( رحم الله امرأ عرف حدّه ، فوقف عنده )) .
هذا دعاء لإنسان حفظ نفسه ، وُجودَه وغيبته ، وامتنع عن الخوض في أمر لا يخصه ، فاستراح من تجريح الناس وانتقاداتهم ، سلبيّة كانت أم إيجابيّة ، ولم يترك لهم مجالاً ينفذون منه إليه . وقد قيل قديماً : ( من تدخّل فيما لا يعنيه وجد ما لا يرضيه ) .
ولكننا هنا ـ أيضاً ـ نلفت النظر إلى آداب إسلامية ، وقيم إيمانيّة هي :
1ـ أن يفكر الإنسان فيما حوله ، ويتدبّر ما يراه دون أن يقحم نفسه في أمور لم تطلب منه ، ولا تعود بالنفع على مجتمعه .
2ـ أن ينأى بنفسه عن المواقف المحرجة ، فإن كان لا بد فاعلاً كأنْ يناط به مهمّة ما ، فليتدخل بمقدار ما تسمح له الحاجة ، على أن يتسلح بالأسباب ، ويقدّم الأعذار التي توضح موقفه .
3ـ أن يوطن نفسه على ردود فعل قد تناله بما لا يسرّه ، فيتحمَّلُها بصبر ويستوعبها بحكمة ، ويمتصها بوعي ، ثم يوجهها الوجهة المناسبة ، أو يتغاضى عنها كأْنْ لم تكنْ ، فهو إذ ذاك يمتلك الموقف مبرئاً نفسه أو موضحاً موقفه .
وباب هذا الأسلوب القرآني التعليمي قوله تعالى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)}(الإسراء) .
وقوله سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ }(من الآية 101 المائدة) فكل شيء يأتي في الوقت المناسب للأمر المناسب .
ولا ينبغي أن نفرض رأينا فيما لا نعرفه فهؤلاء المشركون استنكروا أن يكون سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً واقترحوا أحد هذين الرجلين (( الوليد بن المغيرة )) في مكة ، أو (( عروة بن مسعود الثقفي )) في الطائف رسولاً إليهم من ربهم فهما من كبار عظماء مكة والطائف ، ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقير يتيم ، ظناً منهم أن العظيم ذو الجاه والمال ، وفاتهم أن العظيم عند الله له مقاييس العظمة التي تؤهله لرضى الله سبحانه وتعالى من سموٍّ الروح ، وعظمة النفس ، وامتلاك نواصي الخير ، وليس لأحد أن يقترح الرجل الذي يريده ،قال تعالى :
{ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)}(الزخرف) .
وليس لأحد حتى الرسول عليه الصلاة والسلام أن يزيد فيما كلّف به أو يتقوّل ما لم يؤمر به { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)(الحاقة) .
ولم يدّع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه يفعل ما يشاء ، أو يعلم الغيب فله حدود لا يتخطاها { قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ }(من الآية 50 الأنعام) ،
{ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)}(ص) .
ولما كذّبوا بما جاء به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَوعدهم العذابَ ، فتحدَّوْه قائلين قل لربك يرسل علينا عذابه ، فكان جواب القرآن الكريم : { قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)}(الأنعام) .
فليس لرسول الله ـ صلى الله علي وسلم ـ أن يحاسبهم ، أو يستعجل لهم العذاب ، أو ينأى عنهم ويهجرهم ، فهو مرسل يفعل ما يؤمر ، وينفذ أوامر ربه ، قال تعالى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ . . }(من الآية 128 آل عمران) ، وقال سبحانه : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّاالْبَلَاغُ }(من الآية 48 الشورى) ، وقال سبحانه منبهاً رسوله أنه منذر ومبلغ فقط : { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)}(الأحقاف) .
وما دور الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا الإنذار فهو مرسل فقط لا يستطيع أن يفرض على الناس الإيمان ، فهو هبة من الله سبحانه وتعالى للناس ، قال تعالى : { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22)}(الغاشية) ،
وقال سبحانه : { قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)}(الجن) ،
وقال سبحانه : { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ }(من الآية 6 الشورى) ،
وقال تعالى: (( إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)}(فاطر) .
وحين رأى المشركون أن أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذين آمنوا به ، من ضعفاء مكة وعبيدها قالوا له : اطردهم من مجلسك لنأتيك ، فنحن لا نجلس مع هؤلاء !! فما كان من القرآن الكريم إلا أن أعلن عكس ما يريدون فقال سبحانه :
{ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ
أ ـ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ
ب ـ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ
جـ ـ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)} (الأنعام) .
بل إنه سبحانه عظّم هؤلاء المؤمنين وأمر رسوله الكريم أن يتباسط لهم ، ويكرمهم فقال :
{ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ . . .}(من الآية 54 الأنعام) .
وأمر الله رسوله ـ وهو قدوتنا وعلينا أن نفعل مثلما يفعل لنكون قريبين منه ـ أن لا ينظر إلى متاع الدنيا وان لا يتمنّاه فهو فتنة فقال : (( وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)}(طه) .
وهؤلاء الناس تجادلوا في عدد أهل الكهف ، وما يُجدي معرفة عددهم ؟ وهل ترفع هذه المعرفة صاحبها ؟ لا . . . ما هو إلا مراء لا غنىّ فيه (( سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)}(الكهف) .
ولعلَّ من الإعظام لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أن ننوّه إلى أنه عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على إيمان الجميع ، خوفاً عليهم من نار جهنّم وراغباً أن يكونوا من أهل الجنّة فهو رؤوف بالمسلمين ، رحيم بهم { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)}(التوبة) .
فتراه يهتم إن رآهم معرضين ، حزيناً كاسف البال ، فينبه الله سبحانه بلطف إلى أنه لن يؤمن إلا القليل ، فلا يهلك نفسه حزناً عليهم ، ولا يتحسر عليهم { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)}(الكهف) ، { فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ }(من الآية 8 فاطر) .
وأعظِم بهذا الرسول الحبيب ،
اللهم شفـّعه فينا واحشرنا تحت لوائه اللهم آمين .
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم/الكتمان والسرية/د.عثمان قدري مكانسي
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم
الكتمان والسرية
الدكتور عثمان قدري مكانسي
يقولون : إذا ذاع السر بين اثنين فقد فشا .
ويقولون : إذا لم تستطع حفظ سرك في صدرك ، فلا تلومنَّ على بثّه أحداً .
والرسول عليه الصلاة والسلام يقول :
(( استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان )) .
ولحفظ السر فوائد عديدة منها :
1ـ أن عدوّك لا يعرف ما نويته أو خططت له ، فهو منك دائماً على حذر .
2ـ أن أمرك يظل في يديك ما دمت تحفظ سرك فإن ذاع انكشفت .
3ـ أن أصدقاءك يأتمنونك على أسرارهم فأنت ثقة عندهم .
وفي القرآن الكريم عدة مواضع فها أمر بالكتمان ليظل الموقف سليماً مستوراً .
فقد رأى يوسف في المنام رؤيا قصها على أبيه يعقوب . . فما هي ؟ { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)}(يوسف) ، فعلم الأب أن يوسف سيكون نبياً ، يبلّغه الله مبلغ الحكمة ، ويجعله ممن اصطفاهم ، ويعلمه تفسير الأحلام ، وأن إخوته حين يعلمون أنه سيكون نبياً من دونهم سيحتالون لإهلاكه حسداً وغيرةً منه فـ { قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) }(يوسف).
وقد دعته امرأة العزيز وراودته عن نفسه فأبى ، فحاولت أن تكيد له فادّعت أنه هو الذي راودها ، فبرّأه من كيدها إن كان قميصه قُدَّ من دبر ، وأنّ واحداً من أهلها شهد ببراءته ، وأن النساء قطَّعْنَ أيديهن دهشة لجماله ، وما عُدْنَ يصبرن عن لقائه ، فقال العزيز : نسجنه كتماناً للقصّة أن تشيع في العامة { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) }(يوسف) .
وتمر الأيام وتنقضي السنون ، ويصير يوسف عليه السلام الوزير المؤتمن على خزائن الأرض ، ويأتيه الناس من أصقاع الأرض للميرة ، ومن بينهم إخوته أولادُ أبيه الذين أرادوا إهلاكه ، فأكرمهم ، لكنّه أخبرهم أنه لن يميرهم في المرة القادمة إلا ومعهم أخوهم بنيامين ، وهو أخوه الشقيق ، واستعجالاً لعودتهم جعل ثمن البضاعة داخلها ، وكأنّه نسيها معهم فاضطروا للعودة ومعهم بنيامين بعد أن أخذ منهم أبوهم العهد أن يحافظوا عليه فلا يغدروا به . . { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)}(يوسف) فاستكتمه ، ذلك أنه أراد أن يعلّم إخوته أنهم أخطأوا في حقه .
وقد أحسن يوسف إذ وصّى أخاه أن يكتم سرّهما ، فما علموا أن أخاهم سرق حتى افتروا على يوسف قائلين : { إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ.. }(يوسف من الآية 77) فهل أظهر يوسف لهم حقيقته يوبخهم ويعريهم بكذبهم هذا ؟ لا فما تزال القصة في أولها { ...فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ }( يوسف من الآية 77 ) وهذا يدل على فكر سديد وحكمة بالغة وصبر على المكاره .
ـ وهؤلاء أصحاب الكهف الذين فروا بدينهم إلى الله ينامون فيه ثلاث مئة وتسع سنوات ، وحين يأذن الله بيقظتهم يشعرون بالجوع ويقولون بعضهم لبعض : { فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)}(الكهف) .
إذاً فللسرية والكتمان :
1ـ يرسلون واحداً فقط لشراء الطعام .
2ـ ويتلطف في دخول المدينة .
3ـ ويتصرف بهدوء وحكمة حتى لا يتعرف عليه أحد .
وهكذا نجدهم حذرين ، راغبين أن لا يعرفهم أحد فيوصِل خبَرَهم إلى الملك الكافر المتجبر .
ـ وحين وُلِد موسى خافت عليه أمه أن يقتله فرعون فأوحى الله تعالى إليهما أن ترضعه وتلقيه في اليم ، وهو سبحانه المتكفل بإرجاعه إليها . . فلما وقع بيد فرعون كاد يقتله لولا أن زوجة فرعون أحبته ، ورجته أن يكون قرّة عين لها ، وسمعت أم موسى بوصول الوليد إلى قصر فرعون ، فجزعت خوفاً وشفقة على ابنها وكادت تبوح بأنها أمه ، لكن الله تعالى ثبَّتها وألهمها الصبر ، وهذا نوع من أنواع الكتمان وحفظ السر{ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)}(القصص) .
وتتبعه أخته على الشاطىء الآخر ، تقص أثره مستخفيةً ، فرأته اتجه إلى قصر فرعون ، وعُرِضَتْ على موسى المراضع فأباهن ، فلما خرج الخدم يبحثون عن مرضع له خارج القصر دلّتهم أخته على أمه ، فجاءت ، فلما وجد ريح أمه أقبل على ثديها فقال فرعون : مَن أنتِ فقد أبى كل ثديٍ إلا ثديك ؟ فكتمت سرّها وقالت : إني امرأة طيّبة الريح ، طيّبة اللبن ، لا أكاد أوتى بصبي إلا قبلني . فدفعه إليها ، فرجعت إلى بيتها ومعها ابنها { وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)}(القصص) .
ـ أما المنافقون في المدينة فقد كان كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحده يعرفهم بأعيانهم ، أمة بقية الصحابة والمسلمين فكانوا يشعرون بهم غير متأكدين منهم ، يشعرون بهم من تصرفاتهم المريبة ونشرهم للأراجيف ، والأكاذيب لبلبلة الأفكار ، وخلخلة الصفوف ، ونشر أخبار السوء ، وينضم إلى هؤلاء المنافقين ضعافُ الإيمان ، أصحابُ الفجور .
فهل يترك هؤلاء يعيثون فساداً في مدينة الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ لا . . فقد هددّهم الله بكشف خباياهم وفضحهم على الملأ ثم إخراجهم من المدينة ، وقتالهم لأنهم يظهرون الإيمان ، ويبطنون الكفر . . . لم يفضحهم الله عزَّ وجلَّ بل كتم حالتهم عساهم يؤمنون . . . والله بعباده رحيم { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)}(الأحزاب) .
والكتمان يدل على الإرادة الحازمة لصاحبه ، والقدرة على تحمل المسؤولية ، ومن ثمَّ التصرف السليم في الأحوال العادية والعصيبة .
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم/المعاملة بالمثل/د.عثمان قدري مكانسي
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم
المعاملة بالمثل
الدكتور عثمان قدري مكانسي
لن تكون ظالماً إذا عاملت المسيء بمثل ما عاملك به من سوء ، بل تكون عادلاً،قال تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ }(من الآية 194 البقرة) .
فإذا ما كلت له الصاع صاعين دونما حاجة إلى ذلك كنت ظالماً ، أما إذا نويت أن تردعه عن غيّه وفساده ، وزجَره عن إساءته فلا بأس في ذلك .
أما إذا أحسن إليك أحدهم فرددت عليه إحسانه دونما زيادة كنت عادلاً كذلك ، فإن زدته في الخير وأكرمتَه كنت محسناً . . والإسلام يحثنا على ذلك : قال تعالى:
{ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا }(من الآية 86 النساء) ،
وقال سبحانه: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } (من الآية 26 يونس) .
والقرآن الكريم مليء بكثير من هذه الآيات التي تدعو الإنسان أن يتفكر ويتدبّر ، فلا يقدم على الإساءة إلى نفسه والآخرين كيلا يرى جزاءً وفاقاً لما قدَّمت يداه ، وليقدم على الإيمان وفعل الخير والإحسان لينال الفضل والرضوان .
قال تعالى : { وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا }(من الآية 20 المزمل) .
وقال سبحانه : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)}(المدثر) ، فإن كسبت خيراً لقيت خيراً وإن كسبت شراً لقيت شراً ، وقال سبحانه : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)}(الأحقاف) .
وتأمل هاتين الآيتين الكريمتين ، تصف الأولى المنافقين والمنافقات ونسيانهم الحقَّ ، وتصف الثانية المؤمنين والمؤمنات وعملهم الذي يثابون عليه :
1ـ { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ
أ ـ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ
ب ـ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ
جـ ـ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ
د ـ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ
هـ ـ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)}(التوبة) .
إذاً نسي المنافقون الله فنسيهم . . .
ووعدهم النار ولعنهم فهم مقيمون فيها خالدين .
2ـ { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
أ ـ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
ب ـ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
جـ ـ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ
د ـ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
هـ ـ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)}(التوبة) .
إذاً فالمؤمنين أولياء لله سبحانه يطيعونه وهو سبحانه سيرحمهم . . . ووعدهم الجنات الرائعة والمساكن الطيبة بالإضافة إلى ما هو أكبر من ذلك . . رضوان الله سبحانه . وهل هناك أعظم من هذا الفوز ؟ لا والله ، فلكلٍ جزاؤه حسب عمله . . .
وهاتان الآيتان صريحتان في مبدأ المعاملة بالمثل . قال تعالى : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)}(النساء)
فلماذا ؟ . . لأن الله تعالى العادل الذي لا يظلم أحداً قرّر ، وأمره نافذ :
أ ـ { أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)
ب ـ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)
جـ ـ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40)
د ـ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)}(النجم) .
إنَّ الذين يمكرون بالمؤمنين ، ويكذبون دين الله ورسله يهددهم الله سبحانه أن يكون عقابهم شديداً ، بل قد يكون متنوعاً على قدر سوء أعمالهم سواءً بسواء .
قال تعالى : { أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ
أ ـ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ
ب ـ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)
جـ ـ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)
د ـ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)}(النحل) .
وهذا ذو القرنين حين خيّره الله سبحانه وتعالى تعذيب من قاتله أو الإحسان إليهم سار على القاعدة نفسها ، قال تعالى:
{ قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)}(الكهف) .
فهناك إذاً إكرامان : في الدنيا القول الحسن وما يناسب ، وفي الآخرة الجنة والحسنى . وعذابان : في الدنيا عذابٌ بيد المؤمنين ، وفي الآخرة عذاب الله تعالى .
ـ ماذا حلَّ بمن خالف نبيَّ الله صالحاً عليه السلام ، فكفر به ، وقتل الناقة ، وتآمر على قتل النبي نفسه وأهله . . إنه الجزاء من جنس العمل :
{ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)} (النمل) .
فقد أصر هؤلاء المجرمون على :
أ ـ قتل النبي وآله .
ب ـ وإنكار فعلتهم الشنيعة .
فماذا كان من أمرهم ؟ . . . هم يدبرون والله تعالى يدبّر وينفّذ ويحمي رسوله الكريم صالحاً وأهله المؤمنين .
أرسل على ثمود صيحة قويّة دمّرتهم جميعاً ، وما تزال بيوتهم خاوية تشهد على ظلمهم أنفسهم ، وعلى قدرة الله فيما يريد . . ولا رادَّ لقضائه .
فصاحب الحسنة :
1ـ يأخذ أفضل مما عمل .
2ـ لا يخاف العذاب يوم الآخرة حين يخاف الناس .
وصاحب السيئة :
1ـ يلقى في النار على وجهه خائباً خاسراً .
2ـ يوبّخ على سيئته ويقرّعُ عليها .
وقال تعالى :
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ
وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا
ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)}(الجاثية) .
وقال سبحانه :
{ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ
وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)}(الشورى)
فهو الغفور الرحيم .
ـ وحادثة الإفك مشهورة تولّى كبرَها المنافقُ عبد الله بن أبي بن سلول الأب ، كبيرُ المنافقين ، حين قال كلمته الفاسقة عن زوجة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، تلك الزوجة الطاهرة الصديقة بنت الصديق عائشة بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ وعن الصحابي الفاضل صفوان بن المعطل ، وكل مَنْ خاض في هذه الحادثة له نصيب مما فعل . . وقد كانت درساً كبيراً تعلم فيه المسلمون أن يعتقدوا الخير في الرسول وآله ، والخيرَ في المسلمين عامة وأن يمحِّصوا كلَّ ما يسمعون قبل إذاعته . .
قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)}(النور) .
أما اليهود أخزاهم الله تعالى فقد أكرمهم الله عزّ وجل ، فأرسل إليهم سيدنا موسى عليه السلام وأخرجهم من الذل الذي كانوا فيه عند الفراعنة في مصر ، وهيألهم دخول القدس ، وبذل لهم من نعمائه الشيء الكثير فما كانوا ليؤمنوا ، فعاقبهم بما يستحقون .
وعودة إلى سورة الأعراف الآيات [ 160 ـ 165 ] تجد هذه النعم الكريمة الوافرة التي وهبهم الله تعالى إياها ، فما رعوها حقَّ رعايتها فعاقبهم بما يستحقون ، قال عز وجل:
{ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }(من الآية 160 الأعراف) .
{ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)}(الأعراف) .
{ . . . . كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } (الأعراف) ، { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)} (الأعراف) .
وأخيراً يأمرنا الله تعالى إذا عاقبنا أن يكون العقاب مساوياً للجريمة ، وينبهنا إلى أن العفو خير وأجدى ، ولأنّ الله سبحانه يجزي الصابرين الأجر الجزيل ، ويعوض العافين الخير الوفير .
أ ـ { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ
ب ـ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
جـ ـ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ
د ـ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)
هـ ـ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)}(النحل) .
فالعفو عند المقدرة شيء رائع فهو :
1ـ استعلاء على تفاهات الحياة .
2ـ تعظيم للمسلم في أعين الناس .
3ـ تشجيع للآخرين أن يكونوا مثله ويتبعوه .
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم/د.عثمان قدري مكانسي/الترغيب والترهيب
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم
الترغيب والترهيب
الدكتور عثمان قدري مكانسي
القرآن الكريم كتاب ربنا سبحانه وتعالى إلينا ، يهدينا بما فيه من حقٍ ووضوح إلى صراط الله المستقيم ، ويفتح لنا بفضله وكرمه آفاق الحياة على نهج مضيء ، وسبيل واضح .
في الإنسان بذرة خير إن تعهدها بالعناية والرعاية زكت ونمت ، فأضفت على صاحبها من حوله الأمن والأمان والسعادة والهناء .
وفيه بذرة شر إن أهملها ، ولم يلق إليها بالاً ، زاحمت بذرة الخير ودافعتها ، فإذا ساعدتها نوازع فاسدة ، كامنة في حنايا الإنسان اشتدت واستفحلت ، وبدا خطرها على صاحبها ومَنْ حوله ، فدبت الفوضى وضربت أطنابها في المجتمع .
ومن طبْع الإنسان أن يعمل الخير ، لأن الله تعالى فطره على الهدى والصلاح ، ودله على طريقه .
ومن طبعه أن يقع في الخطأ والتفلت والتهاون ، لأن الله تعالى خلقه من عجل ، وخلقه ضعيفاً يصيب الذنوب والآثام .
لذلك كانت الجنة للتائبين العائدين إلى ربهم ، والنارُ للعاصين المتنكبين سبيل الهدى والرشاد.
ونرى القرآن العظيم يستعمل أسلوب الترغيب والترهيب بمقدار ما يقوّم سلوك الإنسان ، فيمضي به إلى ما يرضي الله تعالى ، حتى إذا لقيه أجزل له الثواب ، ونجّاه من العقاب .
وليس في القرآن ـ على الأغلب الأعم ـ آية ترغيب إلا تبعها ما فيه ترهيب ، وما من آية فيها ترهيب إلا تبعها ما فيه ترغيب .
فالترغيب والترهيب متلازمان ، والحكمة في ذلك :
1ـ التذكير الدائم بالثواب والعقاب ليظل الإنسان حريصاً على نيل المثوبة والبعد عن العقوبة .
2ـ أن مَنْ لا يؤثر فيه الترغيب وثوابُه ، يؤثر فيه الترهيب وعقابُه .
وإني لأعجب ممن يدعون الباع الطويل في التربية ، والخبرة المديدة في مضمارها أنهم يرفضون الترهيب أسلوباً للتربية ، ويكتفون بالترغيب زاعمين أن الخوف من العقاب يجعل صاحبه يلتزم ما يؤمر به ، وينتهي عما نهى عنه بالإكراه ، فإذا زال سبب الخوف تصلّف وعاد سيرته الأولى ، فهم ـ لذلك ـ يدأبون على نوع واحد من التربية هو الترغيب ، ويقولون إن الترهيب يخلق جيلاً جباناً معقداً . . . والردّ عليهم بسيط لأنه جواب الفطرة :
أولاً : إن الله تعالى أعلم بالإنسان وما يقوّمه ، فهو الذي خلقه فقدّره ، يعلم ما يصلحه ، والقرآن الكريم الذي أنزله مَنْ يعلم السرَّ وأخفى مليء بالترغيب والترهيب .
ثانياً : التربية غير محددة بزمان ولا مكان حتى نقول : إذا زال الخوف تفلّت وعاد سيرته الأولى ، فهما مستمرّان إلى آخر يوم من حياة الإنسان .
كما أن الترغيب والترهيب لا ينبغي أن يكونا طارئين على حياة الإنسان ، إنما يجب أن يكونا من مكوّنات نفسه يصحبانه في حياته ، ويكونان دافعاً ذاتياً إلى الخير ، وكابحاً ضمنيّاً عن الشرّ .
ثالثاً : إن الواقع ليكذَّب ادعاءاتهم ، فالحوافز ذات تأثير كبير في بذل الجهد للوصول إلى الهدف .
لكنَّ الخوف من الوقوع في المحظور أكبر تأثيراً ، فقد تجد أناساً يبذلون الجهد ، ويسعَوْن بخطا حثيثة للوصول إلى الأحسن ، لكنك ترى عامّة الناس يبذلون الجهد ويثابرون على أمرٍ ما خوفَ الانتكاسة والعودة إلى الوراء ، والسقوطِ فيما يحذرونه ويتجنّبونه .
فالترهيب كالترغيب تأثيراً ، والقرآن الكريم يتناولهما بمقدار يناسب المطلوب ، لأنهما كجرعة الدواء ، ينفع إذا استعمل بحكمةٍ ، ويضرُ إن زاد عن الحد .
ـ فمن الأمثلة عليهما ، قوله تعالى مخاطباً الكفار الزاعمين أن القرآن مفترى :
{ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا
أ ـ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ
ب ـ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)
جـ ـ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) }(البقرة) .
فهم لا يستطيعون إيجاد سورة واحدة تشابه صور القرآن الكريم ، ولو استعانوا بكل المخلوقات إنسهم وجنّهم . ولما كانوا ـ هكذا ـ عاجزين فليعلموا أن القرآن منزل من رب العالمين ، أما جزاء الكافرين فنار الله التي تأكل الحجارة لقوتها وشدتها ، فضلاً عن المجرمين الكافرين ، الذين عصوا الله ورسوله . ونعوذ بالله من عصيانه ، نشهد أنه الملك الجبار ، الواحد الأحد ، الفرد الصمد . . . إنها كلمات تهزّ أرباب النهى وأصحاب العقول .
فإذا ما أحسَّ الإنسان تلك الرعدة في قلبه جسمه ، وعلم أنه عاجز ضعيف التجأ إلى القوي العزيز فسمعه يقول :
{ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
أ ـ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
ب ـ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ
جـ ـ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا
د ـ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ
هـ ـ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}(البقرة) .
فالآية : فيها بشرى للمؤمنين الذين يعملون الصالحات .
وهذه البشرى جنات ، وليست جنَّة واحدة ، فيها الماء الكثيرُ الزلالُ ، ثمارها تشبه في الصورة ثمار الدنيا ، ولكنَّ طعمها ولذّتها لا يعدِلُهما شيء . لهم في هذه الجنات نساء طاهرات زاكيات ، لسن كنساء الدنيا المرهقات بمطالبهن ، الكثيرات في إيذائهن حاشا الصالحات منهنّ.
وليس في الجنة موت ، بل نعيم خالدٌ ، وحياة رغيدة تدوم أبد الآبدين ، وتزداد خيراً وفضلاً . . نسأل الله أن يجعلنا من أهلها .
فحين تعتري الإنسان هزة الخوف ، ويرتعد من عذاب الله إن كفر وضلَّ يجد السكينة والأمان في الإيمان بالله ، والعمل على مرضاته .
ترغيب وترهيب يصوغان فكر الإنسان ، ويدفعانه للصواب والرشاد .
ـ وتأمل معي التمازج الرائع بين الترغيب والترهيب في هذه الآيات الكريمة :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)}(آل عمران) .
فالجملة الأولى تحذير ، الثانية ترغيب والثالثة تحذير والرابعة ترغيب .تتابع الجمل محذرة ومرغّبة ، فتندمج الرغبة والرهبة في نفس المتلقي لتكوّن في ذبذباتها الصاعدة الهابطة انفعالاً في النفس المؤمنة ، فيتولد الحذر من سوء العاقبة ، والأمل في مآل طيّب حميد .
ـ وقارن معي هاتين الآيتين في الوعد والجزاء : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)} (المائدة) .
أ ـ فالذين آمنوا يقابلهم الذين كفروا .
ب ـ والذين عملوا الصالحات يقابلهم الذين كذّبوا بآياتنا .
جـ ـ والذين نالوا المغفرة والأجر العظيم يقابلهم أصحاب الجحيم .
فاختر لنفسك ما يناسبك أيها الإنسان .
ـ وانظر معي إلى هذا البيان الإلهي الدويّ : { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)} (المائدة) .
هل جاءكم هذا البيـان ؟ * وهل سمـعتُم الأذانْ ؟
إمــا عـــقــاب مـا حـقٌ * مـا بـيـن نـار ودخـانْ
أو رحمة لمـَن أطـاع * الله في روض الجنـان *
ـ ومن الأمثلة في الترغيب والترهيب قوله تعالى :
{ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ
أ ـ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ
ب ـ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا
جـ ـ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)}(الأنعام) .
والبصيرة هنا القلبُ المستنير والعقلُ المدرك تأتيه الآيات البينات من ربه فَمَنْ آمن بها وعمل بتعاليمها أفاد نفسه ونجا ، ومن ضلَّ عنها وأنكرها خاب وخسر . . . وما على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا البلاغ .
ـ ونجد في المعنى نفسه قول الله تعالى : { وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ
أ ـ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 8 )
ب ـ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)} (الأعراف) .
وهل أشد خسارة من أن يخسر الإنسان نفسه في جهنّم خالداً فيها . . ؟ !!.
ـ وتعال معي أيها الإنسان ـ إن كنت لبيباً ـ إلى هذه الصورة ذات الشقين المختلفين :
الصورة الأولى : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} (الأعراف) .
هذه صورة النعيم للمؤمنين الذين أطاعوا الله ورسوله ، فما صورة الكافرين ؟! .
الصورة الثانية : { وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ (45)} (الأعراف) .
فمن صد عن سبيل الله لعنه الله ، ومن لعنه الله كان من الخاسرين . . .
ـ ومن الأمثلة الشديدة الوضوح قوله تعالى :
أ ـ { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ
ب ـ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ
جـ ـ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
أ ـ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا
ب ـ وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا
جـ ـ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)} (يونس) .
فمن أي الفريقين أنت أيها القارىء الذكي ؟ !! .
ـ والأشقياء مأواهم النار لهم من شدة كربهم زفيرٌ لا يخرج من نفوسهم إلا بشدة ، وقال بعض المفسرين : إن صراخ الكافرين في جهنم وأصواتهم صوت الحمير أوّله زفير وآخره شهيق ـ والعياذ بالله ـ قال تعالى :
{ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ
إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) } (هود) .
والسعداء ـ جعلنا الله منهم ـ خالدون في جنة يأخذون ما آتاهم ربهم من فضل وعطاء يتزايدان . . وعطاء الله لأوليائه يستمر أبد الآبدين .
{ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} (هود) .
ـ وفي سورة الرعد مقدَّمة ُترهيب وترغيب ثم ذكرُ أسباب دخول الجنّة ، ثم بيانٌ لعذاب أهل النار مما يجعل أهل الألباب يسارعون إلى مرضاة الله . . ولكنْ إذا ضيّع الناس عقولهم ما يصنعون ؟ إنهم يقتدون بكل شيء دون فائدة .
{ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ
لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
أ ـ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)
ب ـ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ
جـ ـ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ
د ـ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)
هـ ـ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ
و ـ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ
ز ـ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً
ح ـ وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) }(الرعد) .
أ ـ { وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ
ب ـ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ
جـ ـ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)}(الرعد) .
فلينظر أحدنا أيُّ الصفات تنطبق عليه ؟ وليعملْ لما ينجيه من عذاب الله .
ـ ونسمع هنا صوت المولى عزَّ وجلَّ ـ نسمعه بأسماع القلوب الحساسة والأفئدة الصافية ـ يطلب إلى رسوله الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يخبر عباده بقدرته على العفو والمغفرة ـ لمن آمن واتقى ـ والعذاب والويل لمن كفر وطغى : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}(الحجر) .
جملتان قصيرتان في اللفظ مليئتان في المعنى . .
ـ يا أيها الإنسان إن كنت تريد الدنيا فقط فربما أعطيناك وربما منعناك ، وكنت من أهل النار تصلاها خاسئاً خائباً ، وإن كنت إنما تريد الآخرة وتعملُ لها بقلب مؤمن شكرنا لك همتك ، وأوصلناك إلى ما تريد ، قال تعالى:
{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)} (الإسراء).
ـ وهذه صورة أخرى توضح خاتمة كلٍّ من الفريقين .
( فاختر لنفسك يا إنسان ما نفعا ) .
ـ وعاين أيها الأخ الحبيب مآل من كذّب باليوم الآخر ـ والعياذ بالله .
أ ـ { بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ
ب ـ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)
جـ ـ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)
د ـ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)
هـ ـ لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) }(الفرقان)
فهم حين أنكروا يوم البعث والنشور لم يعملوا له ، وأهملوه فكانت النتيجة :
أ ـ أن جهنّم صارت لهم مآلاً .
ب ـ يسمعون غضبها وغليانها من بعد بعيد وهي تراهم وتتشوق إليهم وتنتظر الأمر بالتقاطهم .
جـ ـ يدخلونها مصفدين ، أيديهم إلى أعناقهم .
د ـ يلقون فيها في مكان ضيّق يخنقهم .
هـ ـ يدعون على أنفسهم بالموت والهلاك دون فائدة .
و ـ يسخر منهم الزبانية قائلين : ادعوا على أنفسكم كثيراً .
{ قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)} (الفرقان) .
فالمؤمنون نجوا من مصير الكفار المرعب ، وربحوا الجنّة وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فكانوا أهلها ينالون كل ما يتمنّون ، فالله تعالى وعد المؤمنين بها ، وكان حقاً عليه ما وعدهم إياه سبحانه وتعالى .
اللهم اجعلنا من أهل خاصتك في الجنّة يا رب العالمين .
ـ وفي سورة السجدة وصف للمؤمنين يؤهلهم لجنات الله ورضوانه عسانا نكون منهم { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا
أ ـ خَرُّوا سُجَّدًا
ب ـ وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
جـ ـ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)
د ـ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ
هـ ـ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا
و ـ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) .
وتعال إلى وصف أهل النار أعاذنا الله من مصيرهم { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ
أ ـ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ
ب ـ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)}(السجدة) .
ـ ولفتة سريعة إلى صورة رائعة للمؤمنين في الجنة { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)}(القيامة) .
ـ ولفتة سريعة أخرى إلى لوحة كئيبة مزرية للكافرين في النار { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)} (القيامة) .
الأولى : صورة الأبرار من أهل السعادة ، وجوهم مشرقة مضيئة من أثر النعيم ، تنظر إلى جلال ربها ، وتهيم في جماله ، وهذا أعظم نعيم لأهل الجنة ، رؤية المولى جلّ وعلا بلا حجاب . . اللهم اجعلنا منهم ، فأنت ذو الفضل والكرم والعطاء والمنن .
الثانية : صورة الكفرة ذوي الوجوه الكالحة العابسة ، وجوه الأشقياء من أهل الجحيم . يتوقعون أن تنزل بهم داهية عظمى ، تكسر فقار ظهورهم . . نسأل المولى النجاة من هذا المصير المرعب .
وهكذا تتوالى آيات الترغيب والترهيب موضحةً نهاية كل من المؤمنين الصادقين والكافرين الضالين . تنذر وتحذر ، وتبشر وترغّب . . أما أهل البصائر ومَنْ هداهم الله فإلى رحمة الله ، وأما الآخرون ممن حقت عليهم كلمة العذاب ففي خسران :
يــا رب إنـي مؤمـن * أجـوك أن تـغـفـر لـي
أحـب أن تـعـفوَ عن * ما قـد بـدا مــن زلـلـي
وحبُ طه واتباع الحـق * يـــحـــيـــي أمـــلــــي
إنــي إلــيـه أنـتـمــي * فهبني حسن العمل**
الهوامش:
* الأبيات للمؤلف
** من كتاب صور من تأذي الرسول في القرآن الكريم ص 87
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم/المديح/د.عثمان قدري مكانسي
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم
المديح
الدكتور عثمان قدري مكانسي
تقول : مدحتُ فلاناً ، إذاً أثنيتَ عليه بما له من الصفات الحميدة .
والمديح :
أ ـ تعبير عن الرضا بما يصدر من أعمال أو أقوال تسرُّوتُحمدُ .
ب ـ صفات محمودة للعاقلين الواعين ذوي الهمم العالية .
جـ ـ دفع يشجع الممدوح على التزام ما يرفعه في أعين الناس .
د ـ يوحي للآخرين أن يكونوا مثل الممدوحين في هذه الصفات .
وقد مدح الله تعالى أنبياءه الكرام ذوي القدر العلي :
أ ـ مدح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
{ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}(القلم) .
(( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)}(النجم) .
فزكّى لسانه وعقله وجليسه .
ب ـ ومدح إبراهيم عليه السلام :
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)}(النحل) .
جـ ـ ومدح نوحاً عليه السلام :
{ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81)}(الصافات)
وكذلك مدح إبراهيم وموسى وهارون وإلياس كمدحه نوحاً [سورة الصافات ، الآيات : ( 109 ـ 111 ) ، ( 120 ـ 122 ) ، ( 123 ـ 124 )] .
ـ والقرآن الكريم يسجل للمؤمنين صفات منحتهم رضاه سبحانه وتعالى ، وجعلتهم أهلاً لجنته ورضوانه .
والمنزلة الرفيعة ألوان بديعة ومنازل رفيعة ، منها :
ـ الصبر والتوكل على الله:
{ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)}(النحل) .
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم/الذمُّ /د.عثمان قدري مكانسي
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم
الذمُّ
الدكتور عثمان قدري مكانسي
ذمَّ الرجلَ : عابه ولامه وأظهر معايبه ومثالبه .
والذمُّ :
أ ـ تعبير عن السخط وعدم الرضا .
ب ـ نوع من الهجاء لمن لا ترتضي منه تصرفاتٍ وأقوالاً مذمومة .
جـ ـ إظهار المعايب المنبوذة التي تسقط مروءة فاعلها كي :
1ـ يتجنبه الناس .
2ـ يتجنب الناس الوقوع بمثلها .
والقرآن الكريم يسجل للكافرين والمشركين والمنافقين صفات سببت لهم غضب المولى سبحانه نعوذ بالله أن نفعلها أو نكون من أهلها .
منها :
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم/د.عثمان قدري مكانسي/فضح المواقف
من أساليب التربية في القرآن الكريم
فضح المواقف
الدكتور عثمان قدري مكانسي
الأعداء نوعان :
الأوّل : صريح العداء كاليهود والكفار والنصارى .
والثاني : عدو باطني لكنّه أشد إيذاء ، وهم المنافقون .
وقد تجد من العدو الصريح قدراً من التزام الحدود لأنّه مكشوف تحذر منه ، لكنه لا يفوّت فرصة تجعله ينال منك ويحاول جهده ـ إن كان ضعيفاً ـ إظهار اللباقة والموضوعية في صراعه معك ، وإن أحسَّ من نفسه القوة لم يرعَ عهداً ولا ذمّة . . قال تعالى : { لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)}(التوبة) .
المنافق:
العدو الباطني ...إنه يظهر لك الودَّ والحبَّ ويختلط بك ، ويشاركك كثيراً من عبادتك وأفكارك ، ويتعرف على أسرارك ودخائلك ، ويختلق الأعذار في التخلي عنك ، ويخذلك في الوقت المناسب ، ويذيع أسرارك ، ويوصلها للآخرين .
فهو جراثيم تفتك بجسمك ، والانتصار عليه أو التخلص منه يحتاج إلى أضعاف كثيرة من الجهد الذي تبذله للعدو الظاهر . .
والقرآن الكريم علمنا كيف يكون الدفاع الحقيقي عن حياض المجتمع الإسلامي ، إنّه الهجوم . . . فالهجوم أفضل وسيلة للدفاع .
ومن سبل الهجوم فضح مواقف الأعداء .
وقد يكون كشف عوراتهم قبل أن يقوموا بعمل عدائي وذلك :
1ـ لتحذير المسلمين منهم .
2ـ لإخافة الأعداء حين يعرفون أن تصرفاتهم وأقوالهم مكشوفة .
وقد يكون ذلك بعد قيامهم بعمل عدائي قولاً وتصرفاً وذلك :
1ـ لعزلهم عن المجتمع الإسلامي فيمايزهم ويفاصلهم .
2ـ حتى لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين .
وقد عرّى القرآن الكريم مواقف " اليهود ، والمنافقين والكفار ، والنصارى " ونذكر أمثلة مناسبة لكل فئة منهم :
اليهود :
فهم يحاولون تشكيك المسلمين بالرسول والرسالة بأسلوب خبيث ، ويوصى بعضهم بعضاً بالحذر من المسلمين ، وأكل أموالهم دون وازع من دين ، قال تعالى : { وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)}(آل عمران) .
{ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)}(آل عمران) .
كما أنّ اليهود يحرّفون كتبهم عن قصد . قال تعالى : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)}(آل عمران) .
واليهود إضافة إلى أنهم يحرفون كلام الله ، فيحذفون ، ويزيدون ، يجهرون بالعصيان ، ويدعون على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويشتمونه ويطعنون في الإسلام فهم ملعونون إلا من آمن منهم واتقى ، قال تعالى : { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ، وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ ، وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)}(النساء) .
واليهود يهزأون بالإسلام وشعائره ويقلدون المسلمين في صلاتهم ، عابثين ساخرين ، ولا غرو فهم أبناء القردة والخنازير . أهل غدر وعدوان يأكلون المال الخبيث ، ولا يعرفون الحلال من الحرام ، كما أن أحبارهم ورهبانهم مثلهم لا يعرفون لله حقاً . قال تعالى : { وإذا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)}(المائدة) .فهم يسخرون من المصلين وصلاتهم . فقد غاب عن عقولهم – لو كان لهم عقول – أن الصلاة لقاء بين الله وعباده ن بين المحبين ومحبوبهم .
(( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)}(المائدة) . فاستحقوا أن يكونوا قردة وخنازير لأنهم عبدوا الطغيان ، فكانوا مثالاً للشر ، وقادة في الضلال .
وقال تعالى : { وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)}(المائدة) . يعتدون ويسارعون في الفتن وأكل المال الحرام دون رادع ، وشاركهم الإثم أحبارهم ورهبانهم ، فكانوا شركاءهم في الجريمة .
بل إن فجورهم وكفرهم وصل بهم إلى الاستكبار ومسِّ الذات الإلهية ، حين افتروا عليه ـ سبحانه ـ فعاقبهم أن عادى بعضهم بعضاً وأبغضهم الناسُ جميعاً لفسادهم ، قال تعالى :
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ
غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا
بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا
وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)}(المائدة) .
أما قصتهم مع نبي الله موسى عليه السلام ، فسورة الأعراف تسجيل دقيق لخبثهم وفسادهم . فهم بعد أن نجاهم الله من فرعون ورأوا قوماً يعكفون على أصنام لهم قالوا فوراً : { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ }(من الآية 138الأعراف) .
وصنعوا عجلاً من حليِّ نسائهم يعبدونه : { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) }(الأعراف) .
وحين أمروا بدخول القدس أباح الله تعالى لهم كلَّ ثمارها ، يأكلون ما شاءوا ، ومتى شاءوا ، وأمرهم نبيهم أن يقولوا : يا الله حُطَّ عنا ذنوبنا . فبدّلوا ذلك ، ودخلوا يزحفون على أستاههم بدل السجود لله والخشوع له ، وبدّلوا من حطة إلى حنطة استهزاء وسخرية ، قال تعالى : { وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) }(الأعراف) . وكان الرجز الطاعون الذي أباد منهم عشرات الآلاف جزاءً وفاقاً .
وقصتهم في اصطياد السمك يوم السبت ، وقد نهاهم الله عن ذلك اختباراً لهم معروفة ، فلما احتالوا ورمَوا شباكهم في ذلك اليوم عاقبهم الله ، فجعلهم قردة خاسئين . . قال تعالى : { فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) }(الأعراف) .
وحين رفض هؤلاء اليهود الامتثال لأمر الله وتطبيقَ شريعته ، اقتلع الله جبل الطور ورفعه فوق رؤوسهم يهددهم بإسقاطه عليهم فامتثلوا مكرهين لا قانعين ، شأنهم في كل الأمكنة والعصور . . قال تعالى : { وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) }(الأعراف) .
هذا غيض من فيض يدل على قبح مواقف اليهود وعتوّهم وكفرهم ، ليكون المسلمون على دراية بهم وبفسادهم ، فيظلوا منهم على حذر .
الكفار :
هؤلاء الذين آذوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه البررة الكرام لم يألوا جهداً في تجييش الجيوش وبذل المال لمحاربة الرسول الكريم وإطفاء دين الله في الجزيرة ، ولكنَّ الله تعالى كان لهم بالمرصاد فأبطل مكرهم وجعل ما صرفوه حسرة في قلوبهم ، ثم مصيرهم إلى النار .
قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) }(الأنفال) .
أما الأصنام التي يعبدونها من دون الله فلن تنفعهم ، ضلَّ سعيهم في الدنيا ، ويوم القيامة لهم النار بسبب كفرهم ، واستهزائهم بالمؤمنين ، قال تعالى :
{ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا(105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)}(الكهف) .
والكفّار يجتمعون ظاهراً على الأصنام ويعظم بعضهم أصنام بعض للحفاظ على المودة الظاهرة في الدنيا ، أما في الآخرة فسيكفر بعضهم ببعض ، ويتلاعنون ومأواهم النار لا يخرجون منها ، قال تعالى : { وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)}(العنكبوت) .
وبعض هؤلاء الكفار من يخلف الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مجلسه ، يحدث الناس عن رحلاته إلى بلاد فارس والروم ، فيشغلهم بترّهات الأمور عن الإيمان بالله والاستجابة لرسوله ، ويهزأ بآيات الله مستكبراً ، قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)}(لقمان) .
وقال تعالى: { وَقَالُوا
أ ـ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ
ب ـ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ
جـ ـ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ
د ـ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)}(فصلت) .
إنه إصرار عجيب على الكفر والعناد .
وفي سورة نوح نلحظ ما يلي : { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6)}(نوح) الزهد الشديد في قبول الدعوة وعدم سماعها ،
{ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)}(نوح) ، الإصرار على رفضها ، والتكبر على سماعها .
وقال تعالى: { قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ
أ ـ عَصَوْنِي
ب ـ وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21)
جـ ـ وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22)
د ـ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)
هـ ـ وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا . . .(24) }(نوح) .
المنافقون :
يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولكنهم يتحاكمون إلى غير شرع الله ، مما يدلُّ فسادهم وكفرهم .
قال تعالى يفضحهم :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
أ ـ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ
ب ـ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ
جـ ـ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)}(النساء) .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)}(النساء) .
{ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ
أ ـ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ
ب ـ وَعِظْهُمْ
جـ ـ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)}(النساء) .
والمنافقون حين ارتدوا إلى الكفر بعد إسلامهم ضلوا وتاهوا ، وتمنّوا لو عاد إلى الكفر كل المسلمين حتى يكونوا مثلهم ، فهؤلاء لا حرمة لهم عند المسلمين ولا كرامة .
ويفضح الله مواقف المنافقين الذين يدَّعون الإيمان بالله وبالرسول ولا يتحاكمون إليه فيشنّع عليهم ، قال تعالى : { وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)
أ ـ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)
ب ـ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
1ـ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
2ـ أَمِ ارْتَابُوا
3ـ أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ
4ـ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ (50)}(النور) .
ومن صفات المنافقين الكذب والتعلل بغير الحقيقة هرباً من القتال ، لأنهم يظنون أن المسلمين إن قاتلوا هربوا أو قُتلوا ، هكذا ظنهم السيء ، قال تعالى : { سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)}(الفتح) .
وقد وعد الله سبحانه المسلمين في صلح الحديبية أن غنائم خيبر لمن حضر هذا الصلح ، فمنع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المنافقين أن يذهبوا معهم إلى حرب خيبر ، فأظهروا الغيرة والحسد ، وألصقوهما بالمسلمين كذباً وافتراءً ، قال تعالى : { سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)}(الفتح) .
ويعرّي الله سبحانه كذبهم حين يدّعون أنهم يؤمنون بالإسلام ، ويشهدون للرسول بالنبوة
{ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ
قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)}(المنافقون) .
والسورة كلها تسلط الضوء على مخازيهم ، قال تعالى :
1ـ { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)
2ـ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)
3ـ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)
4ـ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ( 8 )}(المنافقون) .
وفي سورة التوبة تحليل دقيق للمنافقين ، وكشف لدخائلهم وسرائرهم التي يحاولون إخفاءها ، ولكثرة الآيات في ذلك أذكر بعض المواقف ، وأحيل إلى مكانها في سياق الآيات :
ـ يحلفون بالله كذباً أنهم لا يستطيعون الخروج ، ولو استطاعوا ما قصّروا ، والحقيقة أنهم رأوا تبوك بعيدة فاستنكفوا عن مصاحبة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (1) .
ـ لا يكون التردد والبقاء في المدينة إلا عن كفر بالله واليوم الآخر ، والبخل بالمال والنفس(2).
ـ ولو خرج المنافقون مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمسلمين إلى تبوك لبذروا الفتنة في الناس ، وأسرعوا فيهم إلى الغيبة ، والنميمة ، وحاولوا إلقاء العداوة بينهم ، وفي المسلمين بعض ضعفاء الإيمان قد يستمعون إليهم ، فقد فعلوا ذلك في غزوة أحد وأغووا بني المصطلق (3) .
ـ بعضهم ادعى أنه لا يصبر على الزنا إن رأى نساء بني الأصفر ، فاستأذن (4) .
ـ يفرحون لمصاب المسلمين ويحزنون إن انتصروا ، ويتربصون بهم الدوائر (5) .
ـ ينفقون كارهين للمراءاة فقط ، لذلك لا يقبل الله تعالى نفقاتهم ، لأنها غير خالصة لله ، ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى (6) .
ـ يتجنبون القتال جبناً وخوفاً ، وألسنتهم سليطة ، تقف حين يأخذون من الصدقات ، ويلمزون الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن منعهم (7) .
ـ يعيبون الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويقولون ما لا يليق بجنابه (8) .
ـ يخافون المسلمين ، ولا يخافون الله ، فهم لا يعرفون الله (9) .
ـ يحذرون أن ينزل الله آيات تفضحهم ، وتعرّيهم ، ويتحدثون بما لا يليق في حق الإسلام العظيم ، بحجة أنهم يلعبون ويلهون (10) .
ـ المنافقون والمنافقات يأمرون بالمنكر ، وينهون عن المعروف ، ويبخلون فتقصر أيديهم عن فعل الخيرات . نسوا الله فلم يحسبوا حسابه ، وهؤلاء هم الفاسقون أهل النار فيه مع الكفار في لعنة دائمة وعذاب مقيم (11).
النصارى :
هم الذين كان لهم في التاريخ دور مسيء إلى المسلمين في عهد الإسلام الأوّل وحاربوه في مؤتة وتبوك وأجنادين واليرموك . . . وهم الذين جاءوا بقضّهم وقضيضهم في العصور الوسطى ، فاحتلوا البلاد الشامية ، وقتلوا المسلمين وذبحوهم ، وهم الآن يبتزون خيراتهم ويذيقونهم الهوان لماذا ؟ تعالَ معي إلى بعض ما فعلوه .
قال تعالى :{ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)}(المائدة) .
واتخذوا عيسى عليه السلام ولداً لله ـ سبحانه وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً ـ قال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ ..}(من الآية 115 البقرة) .
{ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ..}(من الآية 4 الزمر) .
وبعضهم جعل عيسى عليه السلام هو الله ـ تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً ـ : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ...}(من الآية 17 المائدة) .
فلما جاء وفد نجران من النصارى يدّعون أن لله سبحانه ابناً ، وأصروا على ذلك أمام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأمر الله تعالى رسوله أن يقول : { قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)}(الزخرف) .
وأمره أن يباهل وفد النصارى هؤلاء ، قال تعالى : { الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)}(آل عمران) .
ولهذا أمرنا الله تعالى أن نتحاشى موالاتهم وموالاة اليهود والكفار ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)}(المائدة) .
فهل نرضى أن نكون من اليهود أو النصارى ؟!! .
وهل نرضى أن نحشر إلى الله تعالى ظالمين ؟!! .
إن في هذا لعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
الهوامش:
(1) انظر : سورة التوبة ، الآية : 42 .
(2) انظر : سورة التوبة ، الآية : 45 .
(3) انظر : سورة التوبة ، الآيتان : 47 ، 48 .
(4) انظر : سورة التوبة ، الآية : 49 .
(5) انظر : سورة التوبة ، الآيات : 50 ـ 52 .
(6) انظر : سورة التوبة ، الآيتان : 53 ، 54 .
(7) انظر : سورة التوبة ، الآيتان : 57 ، 58 .
(8) انظر : سورة التوبة ، الآية : 61 .
(9) انظر : سورة التوبة ، الآية : 62 .
(10) انظر : سورة التوبة ، الآيتان : 64 ، 65 .
(11) انظر : سورة التوبة ، الآيتان : 67 ، 68 .
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم/د.عثمان قدري مكانسي/التحدي
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم
التحدي
الدكتور عثمان قدري مكانسي
يقولون تحدّاه : نازعه في أمر ، وباراه فيه وغالبه ، ويقولون كذلك : تعمّد الشيء .
ففي التحدي ثقة بالنفس وعلوّ في الهمة ، وإحساس بالاقتدار فوق ما يستطيعه الأخرون .
وفي القرآن الكريم كثير من التحدي للناس على اختلاف أنواعهم ، وللكفار المعاندين بشكل عام ، والمناوئين المعاندين بشكل خاص ، والمتقولين الزاعمين ما لا يستطيعونه بشكل أخص .
وقد يكون التحدي للإعجاز ، وقد يكون للسخرية ، ولفضح الزاعمين . ولهذا الأسلوب إيجابيات كثيرة منها :
1ـ أن يقف المتخرصون عند حدودهم ، فلا يدّعوا ما ليس لهم .
2ـ أن لا يغتروا بأنفسهم فيحسبوا لكل شيء حسابه .
3ـ أن يتنبّه المخدوعون بهم فينفضّوا عنهم وينبذوهم .
4ـ أن يفكر هؤلاء وغيرهم تفكيراً منطقيّاً ينأى بهم عما يسيء إليهم . . .
ومن أمثلة ذلك : أن الكفار من الوثنيين وأهل الكتاب زعموا أن هذا القرآن لم ينزل من عند الله بل " تقوّله " الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وحاشاه فهو الصادق الأمين الذي لا ينطق عن الهوى ، فيتحدّاهم القرآن الكريم .
1ـ أن يأتوا بمثله : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)}(الإسراء) .
2ـ فلما عجزوا وهذا دأب الأفاكين تحدّاهم بأقلّ من ذلك فقال تعالى: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)}(هود) .
3ـ فلما عجزوا ـ وسيعجزون لأنه كلام الله ـ تحداهم بأن يأتوا بأقل من ذلك فقال : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)}(البقرة) .
وقال أيضاً : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ . . . }(يونس) .
لن يستطيع الإنس والجنّ مجتمعين أن يفعلوا ذلك ، وهاقد مرت إحدى وثلاثون عاماً وأربع مائة وألف عام ، وما زال التحدي قائماً فشتان ما بين القدير والضعيف .
وقد حاول الأقزام المتنبئون فكان ما قالوه سخافة ، تدعو إلى السخرية والرثاء .
ـ وينكر الكفار أن يعودوا إلى الحياة بعدما أرمّوا ، فينبههم في الآيات التالية إلى أمرين اثنين :
الأوّل : أن الله خلقهم ولم يكونوا شيئاً وسيعيدهم من شيء ، فأي الأمرين أشدَّ ؟! أليس الخلق أصعب ، وليس هناك مستحيل على الله سبحانه .
الثاني : التنبيه إلى الخسارة المؤكدة لمن كفر .
قال تعالى : { يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)}(النازعات) .
وقال تعالى : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)}(يس) .
وقال تعالى : { قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)}(يونس) .
وقال تعالى : { وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)}(الإسراء) .
وقال تعالى : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)}(التغابن) .
ـ ويتحدى اليهود أن يتمنّوا الموت حين زعموا أنهم اولياء الله ولا يعذّبهم فقال : { قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)}(الجمعة) .
ـ لن يترك الله تعالى الإنسان يفعل ما يشاء ، ولا بدَّ من الحساب والعقاب ، أو الثواب ، والله قادر على كل شيء ، يعيد الإنسان كما كان حتى بصمات أصابعه ، قال تعالى : { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) }(القيامة) .
وقال : { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)}(القيامة) .
ـ ومما نجد فيه تحدياً ساخراً إنفاق الكفار أموالهم ضدَّ المسلمين ، وخسارتهم في مكرهم هذا : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
أ ـ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
ب ـ فَسَيُنْفِقُونَهَا
جـ ـ ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً
د ـ ثُمَّ يُغْلَبُونَ
هـ ـ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)}(الأنفال) .
أرأيت إلى هذا التعقيب الرائع الذي يصور المكر السيء الذي يحيق بأصحابه ؟ .
ـ أما الإشراك بالله فهي مظاهر عدة يظهر فيه التحدي والغضب بآن وواحد فهم يجعلون لله ولداً ـ سبحانه أن يكون له ولد ـ فيأمر الله تعالى نبيّه أن يباهل نصارى نجران في ذلك فيأبون خوفاً من الحقيقة واعترافاً ضمنياً بها : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)} (آل عمران) .
ونرى الغضب يسح على النصارى الكاذبين سحّاً ، ويسيل سيلاً ، فما ينبغي لله ـ سبحانه ـ الكامل ، المطلق الكمال ـ أن يحتاج إلى ولد :
{ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)}(مريم) .
والعجيب أنهم يزعمون أن إشراكهم بالله برضى منه ـ سبحانه ـ ومشيئته !!
{ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)}(الأنعام) .
إنّه بيَّنَ الحقَّ لكم وسبيله ، والباطل وطرقه الملتوية وودعكم تختارون فتنالون ما تستحقون إما ثواباً ، وإما عقاباً .
ويدعي الكفار أن الجِنّة ـ والعياذ بالله ـ أنسباء الله سبحانه ، وقد نكح منهم ، فولدت له الملائكة فيخزيهم مبكتاً : { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)}(الصافات)
وسيحاسب الله تعالى الجنّ يوم القيامة كما يحاسب البشر . وهل يحاسب أحد أنسباءه ؟ نعوذ بالله من الظلم والظلمات . وإذا كان لله شركاء وعندكم بيّنة على ذلك فهاتوها ، ووضحوا ما صنعته هذه الآلهة المزعومة ؟
أ ـ { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ
ب ـ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)
جـ ـ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)
د ـ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)}(الأحقاف) .
ويطلب الله تعالى الدليل مرات ومرات من المشركين كي يثبت الحجة عليهم:
{ هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)}(الكهف) وليس أظلم من المفتري الكذّاب . . .
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم/د.عثمان قدري مكانسي/التقريع والتوبيخ
من أساليب التربية في القرآن الكريم
التقريع والتوبيخ
الدكتور عثمان قدري مكانسي
التقريع : التعنيف ، . والتوبيخ : اللوم والتهديد والتعبير.
وهذا الأسلوب دواء لمن أخطأ فأصرَّ على الخطأ ، يستوي فيه من أخطأ في موقف ، وأصرَّ عليه غيرَ عارف بخطئه ، ومن عرف أنه مخطىء فأصرّ عليه معانداً ، وإن كان الثاني أشدَّ زلة ، إذاً فالتوبيخ والتقريع نتيجة لتكرار الخطأ دون الرغبة في تركه إلى الصحيح من القول والفعل .
وقد يكون هذا الأسلوب :
1 ـ للمصرّين على مواقفهم فكرةً وعملاً ـ وأنت تعلم أنهم لا يرعوون ـ لإقامة الحجة عليهم ، كي لا يتنصّلوا فيما بعد من مواقفهم هذه .
2 ـ لتتخذ العقوبة المناسبة في حقهم معتمداً على القاعدة التي تقول : ( قد أعذر من أنذر ) فيكون موقفهم في تذرّعهم ضعيفاً .
3 ـ لتنبّه الآخرين أن لا يقعوا فيما وقع فيه غيرهم من الأخطاء والتصرفات الذميمة .
وهذا الأسلوب ـ عادة ـ يأتي بعد فضح المواقف التي اتسم بها من حاد عن الصواب ، فاستحق العقاب . واستحق الوصف الذي لا يرضاه أولو الألباب .
ولا نقصد هنا بأسلوب التقريع والتوبيخ الأساليب البلاغية التي جاءت إنما نقصد إلى :
أ ـ التعجب مما صدر عنهم من تصرفات .
ب ـ إظهار التصرف الذي كان عليهم أن يلتزموه فخالفوه ، مثال ذلك قوله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)}(البقرة) .
فالتعجب من أمرهم للناس بالبرّ والنأي عنه ، فحريٌّ بالعاقل أن يكون أول الناس في التزام ما يأمر به لأنه قدوة ، ولأنه يدلُّ على صدقه فيما يدعو إليه وصواب ما يفعله .
وقوله تعالى : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا
أ ـ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ
ب ـ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)} (البقرة) .
وقوله جلّ شأنه : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً
1 ـ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ
2 ـ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ
3 ـ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) } (البقرة) .
وحين يظهرون الإيمان أمام المؤمنين خداعاً ، ويتواصون سرّاً أن يخفوا صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة ، فلا يظهروها للمسلمين كي لا تكون حجة للمسلمين عليهم ـ معشر اليهود ـ في عدم اتباعه صلى الله عليه وسلم ، يقول الله تعالى كاشفاً سترهم موبخاً إياهم موضحاً حقيقة الأمر : { أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) }(البقرة) .
ومما استحق عليه اليهود التوبيخ والتعنيف ، ما أخبرنا به الله تعالى في كتابه قائلاً :
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ
أ ـ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ
ب ـ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)}(البقرة) .
{ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ
أ ـ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ
ب ـ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا
أ ـ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
ب ـ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}(البقرة) .
فهم يفعلون غير ما تأمرهم بهم الديانة اليهودية التي يزعمون أنهم ينتمون إليها .
ومن صفات اليهود الفاضحة التي استحقوا عليها التوبيخ :
أ ـ { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) }(البقرة) .
ب ـ { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)}(البقرة) .
جـ ـ {. . . . فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)}(البقرة) .
الاستكبار على أنبيائهم ، وتكذيبهم وقتل الكثير منهم ، والتشدّق بفسادهم وكفرهم والجرأة على الله ، والكفر به .
وحين دُعُوا إلى الإيمان بالرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ادَّعوْا أنهم يؤمنون فقط بما أنزل عليهم في التوراة ، ويؤمنون برسلهم فقط ، وهم كاذبون في دعواهم ، لأنهم كانوا يقتلون أنبياءهم ، ولو كانوا يؤمنون بهم وبرسالتهم ما قتلوهم ، فيقول سبحانه موبخاً : (( فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}(البقرة) .
والمنافقون قال الله تعالى فيهم :
{ ..فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) }(النساء) . أتدري لماذا ؟ إنهم ادّعوا أن اتباعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصيبهم بالبلاء والجهد ، مع أن الله سبحانه وتعالى جعل الحسنة والسيئة والنعمة والنقمة كلها من عند الله {.. قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (78)}(النساء).
واقرأ معي هذه الصفات الخسيسة التي اتسم بها اليهود :
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ
لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ
مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ
وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ
لَمْ يَأْتُوكَ ( يقبلون كلام من لا يحضر مجلسك تكبّراً وعناداً وإفراطاً في العداوة والبغضاء ـ يهود خيبر ـ) يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ
يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ
( إن أمركم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالجلد فاقبلوا) وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ...}(من الآية 41 المائدة)
(إن أمركم بالرجم فلا تقبلوا)
{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ...}( من الآية 42 المائدة).
(السحت : الحرام من الرشوة والربا ، وما شابه ذلك )
فهذه الصفات جعلتهم أهل فتنة ، قلوبهم فاسدة ، لهم خزي في الدنيا ، وعذاب في الآخرة .
أما المنافقون الذين يسرعون إلى مرضاة اليهود والنصارى ـ وما أكثرهم هذه الأيام ـ فقد جعلوا أنفسهم منهم إذْ جعلوهم أولياء لهم ، فهؤلاء إذاً نفوسهم مريضة ، ضالّون ، ظالمون ، سيندمون حيث لا ينفع الندم :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ
فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)}(المائدة) .
وهؤلاء الكفار من اليهود والنصارى يدعون أن لله ولداً ، فيقرعهم سبحانه ، ويصفهم بالكذب : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)}(التوبة).
(يضاهئون : يشابهون ويماثلون)،
والعبودية اتّباع وتنفيذ ورضا ، فالرهبان والأحبار يحرفون الكلم من بعد مواضعه وأتباعهم ينفذون ما خططوه لهم ،قال تعالى: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ }(من الآية 31التوبة) .
وهم { يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) }(التوبة) .
والله سبحانه { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)}(التوبة) . فأشار الله سبحانه إلى الكفار من أهل الكتاب المناوئين لدينه موبخاً واصفاً إياهم بالشرك والكفر .
ويسخر المنافقون من صدقة قليلة دفعها رجل مؤمنٌ فقير ، فيسخر الله منهم
{ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) }(التوبة) .
وهؤلاء المنافقون لا يغفر الله لهم أبداً أبداً { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ...))
لماذا ؟!
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) }(التوبة).
إنها روعة في نفي المغفرة لهؤلاء مع بيان سبب شدة النفي ، وتهديد لمن تحدثه نفسه أن يكون مثلهم .
ولما فرح المخلفون عن غزوة تبوك وقالوا لا تنفروا في الحرّ بيّن الله تعالى لهم أن نار جهنم أشد حراً لكنهم لا يفقهون ثم وبخهم وقرَّعهم بقوة قائلاً : { فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) }(التوبة) .
ونرى هنا توبيخاً لمن يذكر الله في الشدّة وينساه في الرخاء بل ينكر فضله متناسياً ما كان ، قال تعالى :
{ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)}(يونس) .
أما فرعون المتأله المستكبر الذي سام بني إسرائيل سوء العذاب فإنه حين يغرقه الله وتغرغر روحه يقول : إنّه أسلم لله . . فكيف كان التوبيخ والتقريع ؟ قال تعالى : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)}(يونس) .
اعترف بإله بني إسرائيل وأنكر ألوهيّة نفسه التي أضلَّ بها قومه ورعيّته ، وأقرَّ أنه واحد من المسلمين لا يزيد عنهم ولا ينقص . . وليته قالها قبل هذه اللحظة ، فلن ينفعه هذا الإيمان الذي جاء متأخراً :
أ ـ { آَلْآَنَ
ب ـ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ
جـ ـ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)}(يونس) .
( أتتوب في وقت لا تقبل فيه التوبة) .
وكفّار مكة لم يقدِّروا فضل الله عليهم إذ جعل حياتهم فيها آمنةً رغداً تحترمهم القبائل ، وتؤمُّ بيتهم الحرام وتحرس قوافلهم ، وجعل لهم رحلة الشتاء إلى اليمن ، ورحلة الصيف إلى الشام ، فجعلوا له شركاء ، وضلوا عن سبيله . . { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)}(إبراهيم) .
ولم أر توبيخاً أشدُّ من توبيخ مَنْ جعل لله سبحانه ولداً ، اقرأ معي هذه الجمل التي تعصف بالقلوب ، وتزلزل البنيان من القواعد ، غضباً ممن اعتدى على كمال الله وجلاله ، ووحدانيّة الله في ألوهيته :
{ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88)
أ ـ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)
ب ـ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)
جـ ـ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)
د ـ وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)
هـ ـ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)
ز ـ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94)
ح ـ وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)}(مريم) .
( إدّاً : منكراً فظيعاً)
وتدبّر معي التضَجّر من الإشراك على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام ، وممن يتخذون من دون الله آلهة : { أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)}(الأنبياء) .
حقاً إنهم لا يعقلون .
لقد اعترفوا حين تحدثت الفطرة بأن هذه الآلهة المزعومة لا تعقل ، ولا تنطق فهم حين عبدوها كانوا أقلَّ منها عقلاً ، فكيف يعبد الإنسان شيئاً صنعه بيده ؟!!
{ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)}(الأنبياء) .
ويكون التوبيخ على أشده حين يفتري مَنْ يفتري دون برهان ، ولا دليل ولا مزعة من ظنّ مقبول ، فهم حين يجعلون ملائكة الرحمن إناثاً يسألهم الله موبخاً : { أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) }(الزخرف) .
وحين ادّعوا أن الله تعالى أمرهم أن يعبدوا ملائكته ـ وحاشاه سبحانه ـ أن يأمرهم بذلك أقام عليهم الحجة { مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) }(الزخرف) .
وحين سمّوا أصنامهم بما يحلو لهم وقالوا هي بنات الله سخر ـ سبحانه ـ منهم ووبخهم قائلاً :
{ أ َلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)}(النجم) .
وفي سورة الرحمن توبيخ يقرع أسماع أعداء الله ، يستمر من أوّل السورة إلى آخرها قرعاً مدوياً بترتيب متلاحق يخلع الأفئدة إحدى وثلاثين مرة : { فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) }(الرحمن) . . إنه تعنيف شديد وتهديد رهيب ، ولوم ما بعده لوم .
ولاحظ التوبيخ التصويري في قوله تعالى : { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) }(المعارج) .
(مهطعين : مسرعين مادي أعناقهم ) ، فهؤلاء الكفار يتجمعون حول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جماعات متفرقة ، يصيخون إليه مائلين رؤوسهم متعجبين مما يقول ، هؤلاء يجيبهم الله تعالى باستفهام إنكاري فيه تقريع وتوبيخ ، فلا يطمع أحدهم أن يدخله الله جنات النعيم بعد أن كذّب خاتم المرسلين ، ثم يردعهم بقوله سبحانه { كَلَّآ } ، ليس الأمر كما يطمعون . لقد خلقهم الله من الأشياء المستقرة ، من نطفة ثمّ من علقة ، ثم من مضغة ، فمِنْ أين يتشرّفون بدخول جنات النعيم على شركهم وكفرهم ؟!! .
وفي أول سورة المطففين توبيخ لمن يأخذ أكثر مما يستحق ، ويعطي أقل مما يجب أن يعيطه ، وهذه دونيّة الفساد ما بعدها دونيّة : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)}(المطففين) .
والقرآن بأسلوبه العجيب يعطي هؤلاء المعاندين المستكبرين ما يستحقونه من تحقير يناسب نفوسهم وجِبِلَّتَهُمْ الفاسدة ، نسأل الله العفو والعافية .
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم/د.عثمان قدري مكانسي/الإستعلاء
سلسلة من اساليب التربية في القرآن الكريم
الاستعلاء
الدكتور عثمان قدري مكانسي
هو الشعور بالانتماء إلى الله العزيز العلي ، مما يولّدُ :
أ ـ الإحساس بالترفع عن سفساف الحياة الدنيا .
ب ـ وتحمل الأذى والصبر عليه ابتغاء رضوان الله تعالى .
جـ ـ والعزوف عن بهارج الحياة والرغبة في الآخرة .
د ـ والثبات على المبدأ الصحيح ، والبذل في سبيله كل غال ورخيص .
هـ ـ والنظر إلى طلاب الدنيا برحمة ، ومحاولة انتشالهم من شباكها .
و ـ والتعامل معهم دون الخوض فيما هم فيه ، دون نبذهم والتكبر عليهم .
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تحمل هذه المفاهيم وتدعو إليها .
ـ فهؤلاء أصحاب الكهف فتية طاهرون ، آمنوا بالله سبحانه وتعالى ، ولجأوا إليه ، فقبلهم ، وزادهم منه هداية وتقوى ، وثبتهم على دين الحق ، فأعلنوا بإصرار وعزم عقيدتهم وتوحيدَهم لربهم ، مستعلين على ظلام الشرك والوثنية : { وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)}(الكهف).
ـ وهذا يوسف عليه السلام راودته التي هو في بيتها ، فاستعصم ، واستعان بالله عليها . . فلما انتشر خبرها بين نساء المدينة استزارتهن لتلقمهنَّ حجرها ، وتضع بين أيديهن سبب رغبتها فيه فلما رأين جماله ـ عليه السلام ـ وقعن فيما وقعت فيه ـ فدعونه إلى مسايرتهنّ جميعاً ، فأبى ، واستعلى ، فهددته بالسجن ـ فكان السجن ـ أحب إليه من الوقوع في الزنا :{ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)}(يوسف) .
ـ وهؤلاء المنافقون يعودون إلى المدينة بعد غزوة بني المصطلق ، ويتشاجر على الماء ساقيان ، أحدهما لأنصاري ، والآخر لعمر بن الخطاب رضي الله عنه من المهاجرين ـ ويرى رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول الفرصة مناسبة لخلخلة الصف المسلم ، فيقول : لا تنفقوا على المهاجرين حتى يتفرّقوا عن محمد ، ونسي أن خزائن السموات والأرض لله وحده . ثم ادّعى أنه العزيز وأن المسلمين أذلاء ، ولئن وصلوا إلى المدينة ليمنعنّ العزيزُ الذليلَ من دخول المدينة ، فسمع ابنه ـ وكان مؤمناً ـ ما قال أبوه ، فوقف على باب المدينة يمنع أباه من دخولها قائلاً : وراءك ، والله لا تدخل المدينة أبداً حتى تقول : إن رسول الله هو الأعز وأنا الأذل ، فقالها ، وسجّلها الله تعالى آية في العالمين : { هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)}(المنافقون) .
ـ وقد ذَكَرْنا أن انتماء المسلم لله سبحانه الذي مجّد نفسه فقال : { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ }(من الآية 114 طه)/(من الآية 116 المؤمنون) ، وقال أيضاً : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ۚ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۚ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۖ وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)}(فاطر) ومحققاً : { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)}(المجادلة) .
فهذا سيدنا سليمان يرسل إلى ملكة سبأ ، يدعوها وقومها إلى عبادة الله وحده ، فكانت عاقلة لبيبة ، ردّت عليه بالحكمة ، فبدأت بإرسال هدية مالية ضخمة ، علّه يسكت عنها إن كان من أهل الدنيا ، فماذا كان ردّه عليه السلام ؟ إنّه أعلن لمن جاءه وللحاضرين جميعاً أنّ المال ليس هدفاً وغاية يرمي إليه الإنسان { فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)}(النمل) .
ـ وتأمّل معي الجواب الواحد لنبيين عظيمين ، استعليا على الدنيا وما فيها . .
أما الأول فخليل الرحمان سيدنا ابراهيم ، الذي ألقاه قومه في النار ، فأنقذه الله منها ، فانطلق معرضاً عن الدنيا ، راغباً في الله سبحانه :
{ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)}(الصافات) .
وأما الثاني ، فكليم الله موسى الذي خرج بقومه من مصر إلى بلاد الشام هرباً ، فلحق به فرعون وجنوده: { فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)}(الشعراء) .
أرأيت إلى المشكاة الواحدة التي قبس منها هذان النبيان العظيمان ، وإخوانهما من الأنبياء الكرام ؟ !! .
ـ وهذا سيدنا شعيب يفعل فعلهما ، فقومه يضيقون عليه وعلى المؤمنين ويقولون له :
أ ـ { لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا
ب ـ قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)
ـ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا
جـ ـ وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا
ـ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا
د ـ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا
هـ ـ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ
ـ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)}(الأعراف) .
ـ ويجمع فرعون سحرَتَه ويستعين بهم على إرهاب موسى والناس ، ليضلّهم ويفرض سلطانه عليهم دون حقٍ إلا سبيل القوة والخداع ، فألقى السحرة حبالهم وعصيهم ، وسحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحرٍ عظيم ، فخاف موسى مما رأى . . . ولكن الله تعالى كان مع موسى ، ومن كان مع الله أفلح وانتصر . وصار أعداء الأمس أتباع اليوم .
{ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)}(طه) .
ـ وكما قال الله تعالى لموسى عليه السلام { إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى } قالها للمؤمنين بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد ، حيث أصابهم من المعركة ما أصابهم من قتلى وجرحى ـ وواساهم ورفع من معنوياتهم ، وأنّه سبحانه معهم :{ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)}(آل عمران) .
وقالها أيضاً لهم حين أمرهم أن يطيعوا الله ويطيعوا الرسول ، ولا يبطلوا أعمالهم: { ولا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)(محمد) .
ـ وهذا سيدنا إبراهيم ، ـ وسيدنا إبراهيم أمّةٌ وحده والخير أصلٌ فيه ، ومنه نتعلم بما وهبه المولى سبحانه من كمال وسداد ـ يهدده أبوه المشرك إن لم يترك دينه ويعدْ إلى الضلال أن يرجمه فماذا يقول له ؟ وبم يجيبه ؟ إنّه عليه السلام دعاه إلى الإيمان فأبى ، ونصحه فرفض ، ووضح له فأصمَّ أذنيه ، وأغلق عينيه عن رؤية الحق :
{ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) } (مريم)
إنه عليه السلام نأى بنفسه عن والده ، وسأل الله السلامة له وسار في ركب الهداية لا يحيد عنه .
ـ وعاد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمسلمون إلى المدينة من حرب المشركين في غزوة أحد ، فسمعوا من المرجفين أنصار المشركين أن أهل مكة عادوا ليستأصلوهم ـ وخوّفهم هؤلاء المنافقون من المشركين ـ فقالوا لهم : عددهم كبير ، وأسلحتهم ماضية ، وهم عازمون على إنهاء وجودكم ، فلم يكن من المسلمين الذين علَّمهم قائدهم الشجاع ـ صلى الله عليه وسلم ـ الاستعلاء بالله والاستعانة به على كل مكروه إلا إن احتسبوا ذلك عند الله سبحانه ، وجعلوه ملجأهم ونصيرهم وتوكلوا عليه فرجعوا بنعمة السلامة ، وفضل الأجر والثواب :
{ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ
فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ
وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)} (آل عمران) .
ـ وأخيراً نقف ملياً أمام صفات عباد الرحمن في سورة الفرقان :
{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) } ،
{ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ }(من الآية 68) ،
{ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)}
فهم :
1 ـ لا يتكبرون .
2 ـ يتلطّفون مع الناس ولا يردون الإساءة بالإساءة .
3 ـ يوحدون الله قولاً وعمل .
4 ـ وقافون عند حدود الله :
أ ـ لا يقتلون لمجرّد القتل .
ب ـ لا يزنون ولا يرتكبون الفواحش .
جـ ـ يقولون الحق فقط .
د ـ يعرضون عن اللغو وفارغ الكلام .
هـ ـ يسمعون آيات ربهم بوعي وفهم .
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم/د.عثمان قدري مكانسي/الجزاء
سلسلة من اساليب التربية في القرآن الكريم
الجزاء
الدكتور عثمان قدري مكانسي
هو أن ينال الإنسان حقّه لفعلٍ فَعَله ، أو قولٍ قاله إن خيراً فخيرٌ ، وإن شراً فشرّ ، وأن تقضيَه المِثْلَ المناسب .
وكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا مِنْ خلفه أكّدَ على الجزاء :
1ـ لأنَّ فيه العدل ، ينصف المظلوم ، ويردع الظالم .
2ـ لأنّ الإنسانَ خُلِقَ يتنازعه الخير والشرُّ، فكان الجزاء مساعداً على كبح الشر،وإطلاق الخير .
3ـ لأنّه عنوان القوّة ، والحقّ بغير قوة يضيع فلا بدّ من الجزاء لنصرة الحق .
ـ قال الله سبحانه وتعالى مؤكداً على الحساب المؤدي إلى الجزاء بشقيه الثواب والعقاب
{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}(الزلزلة) .
ونبّه إلى أن العمل يعود على صاحبه بالنفع والضرر ، فقال سبحانه : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا . . .}(من الآية 46 فصلت) .وقال جلّ جلاله : { وجزاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ...}(من الآية 40 الشورى) ، وقال أيضاً : { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)}(الرحمن) .
ـ والذي أقصده من الجزاء في هذا الباب الثواب والعقاب في الحياة الدنيا ، أما الآخرة وحسابها ثواباً وعقاباً ، فقد تناولته ضمن أبواب أخرى ، وسوف أتناول هنا :
1ـ جزاء الأقوام الذين كذبوا أنبياءهم أو آمنوا بهم .
2ـ جزاء الأقوام الذين كفروا نعمة الله .
3ـ الجزاء الذي نال بعضَ الأفراد نعمةً ونقمةً ، من الله تعالى أو من البشر .
1ـ قصَّ علينا القرآن الكريم جزاء عديد من الأمم الذين كذبوا أنبياءهم .
ـ فهذا سيدنا نوح لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً ، يدعوهم إلى الله وحده ، فيأبون ذلك ، ويتواصون بتكذيبه ، فماذا كانت العقوبة ؟ قال تعالى يحددها :
أ ـ { فَكَذَّبُوهُ
ب ـ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ
جـ ـ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ
د ـ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا
هـ ـ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)}(يونس) .
ـ وهذا سيدنا هود أرسل إلى قوم عاد ، يأمرهم بعبادة الله وحده ، واستغفاره والاتكال عليه وحده ، فردوا عليه رداً قبيحاً ، واتهموه بالسَّفه ، فتبرأ منهم ، ولجأ إلى الله سبحانه وتعالى ، فعاقبهم الله تعالى عقاباً شديداً { كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21)}(القمر) .
ـ أما ثمود قوم صالح عليه السلام فلم يكونوا خيراً من أسلافهم ، فإنهم لما كذّبوه وقتلوا الناقة هددهم بالعذاب بعد ثلاثة أيام ، ثم بدأ عذاب الخزي العظيم . . قال تعالى :
{ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) }(هود) .
ـ وقوم لوط كانوا يعملون الفواحش ، وحين جاءته الملائكة أسرع إليه هؤلاء المجرمون ليفعلوا فيهم ما اعتادوا من الفاحشة ، فكانت قاصمةَ الظهر إذ نجّى الله تعالى لوطاً وأهله إلا امرأته ، وكان موعد العذاب الصبح { فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)}(هود) .
ـ وهذا سيدنا شعيب يدعو قومه إلى دعوة الأنبياء كلهم ـ التوحيد ـ وإيفاء المكيال والميزان حقهما ، وعدم أكل حقوق الناس والبغي والفساد ، فاستهزؤوا به ، وسفّهوا رأيه وهدّدوه بالرجم ، فكيف نزل عليهم العذاب ؟ قال تعالى : { وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)}(هود) .
ـ وفرعون ذلك المتألّه الجبار المتكبّر سام بني إسرائيل سوء العذاب ، ذبح أبناءهم ، واستحيا نساءهم ، وكفر بالله عزّ وجلّ ، ونادى متحدياً ، قال تعالى : { فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)}(النازعات) فكيف أباده الله تعالى ؟! أمر الله تعالى موسى أن ينطلق ليلاً إلى جهة الشرق ، حيث سيناء ، ثم بلاد الشام لينجو بقومه من شرّ فرعون ، فتبعهم هذا الشيطان ليستأصلهم
{ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (66)}(الشعراء) .
ـ إن الجزاء قد يكون ماحقاً للمدن وأهلها ، وقد تبقى هذه المدن شاهدة على استئصال أهلها ، فتبقى خالية منهم ليعتبر المارّون عليها { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ
(100)}(هود) .
أما الذين آمنوا برسالات أنبيائهم ، وعرفوا الله فأسلموا له ـ سبحانه ـ قيادهم فقد عاشوا في الدنيا حياة رغيدة ـ مثالهم قوم يونس عليه السلام إذ قال الله تعالى يحدثنا عنه : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)}(الصافات) .
2ـ إن قوم سبأ لما كفروا نعمة الله خرّب الله ملكهم ، وشتت شملهم ، ومزّقهم شرَّ ممزّق ، وجعلهم عبرةً لمن يعتبر .
فقد كانت قراهم متقاربة ، والأمان بينها وافراً والبساتين تظلل الطرقات ، فيسافر الإنسان من اليمن إلى بلاد الشام لا يحتاج للزاد ، فكفروا بأنعم الله ، فماذا كانت النتيجة ؟ { فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)} (سبأ) .
إن الذي يُعْرِض عن ذكر الله يعاقبه ، فهؤلاء كما رأينا أرسل الله عليهم الطوفان فغرقت دورهم ، وخربت بساتينهم ، وانقلبت ثمارهم أشواكاً مرّةً وسدراً ، ولم يكتفوا بذلك بل سألوا الله أن تكون الأرض مفاوز وصحارى في سفرهم ، حتى يشعروا بمشاق السفر . . وهذا تفكير سفيه عجيب . . . فعاقبهم الله على كفرهم النعمة بأن :
1 ـ باعد بين مدنهم .
2 ـ جعلهم أخباراً تروى دالة عى جحودهم .
3 ـ فرّقهم في البلاد شذر مذر ، ليكونوا عبرة لمن يعتبر .
قال تعالى : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)}(سبأ) .
ـ ألم يقل الله سبحانه وتعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)}(الحديد) هكذا كان ذو القرنين ، يمشي على هدى من الله ونور ، جعله هادياً للناس في مشارق الأرض ومغاربها ، ومكّن له فيها ، وسهّل له ما يساعده على نشر الدين في المعمورة ، فكان إذا مرَّ على قوم دعاهم إلى الله ، فإن كفروا عذّبهم بالقتل ، وبعد القتل نار الله الحامية ، وإن آمنوا أحسن إليهم ، فعاشوا في خير الدنيا وبركتها ، ثم يلقون عند الله سبحانه الجنّة ، ونعيمها . . ثوابان . . وعقابان
{ قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)}(الكهف) .
3 ـ كان لرجل مسلم من أهل صنعاء بستان فيه أنواع النخيل والزروع والثمار ، فإذا حان وقت جني الثمر أو الحصاد ، دعا الفقراء ، فأعطاهم نصيباً وافراً منه ، وأكرمهم غاية الإكرام ، فلما مات ورثه أبناؤه الثلاثة ، فلم يكونوا مثله ، فعزموا على منع الفقراء ، وجني الثمر خفية في الصباح ، وحلفوا على ذلك فماذا كانت العقوبة ؟ أرسل الله عليها ناراً في الليل أحرقت الأشجار ، وأتلفت الثمار فذهبوا إلى حديقتهم صباحاً فلم يروا فيها شجراً ولا ثمراً ، فظنوا أوّل الأمر أنهم ضلوا الطريق ، ثم تبيّن لهم أن الله سبحانه عاقبهم بنيّتهم السيئة ، فندموا وتابوا على فعلتهم بعد فوات الأوان .
وكان الله تعالى اختبر أهل مكة ، بدعوة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين كلفهم أن يشكروا ربهم فكفروا بنعمته فكان مثلهم كمثل أصحاب البستان
{ إ ِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32)}(القلم) .
إن عقوبتهم رادعة ، تعلموا منها أن يكونوا كراماً وأن يساعدوا الفقراء ليكون الله في عونهم ، فالله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه .
- وما جزاء من يتهم الشريفات العفيفات بما لا يليق ، فيمتهنهنّ ويقذف أعراضهنّ ؟ إنه الجلد وإسقاط حقهم المدني ، ثم الجزاء الأخرويّ الشديد ، فهم في عداد الفاسقين :
ـ { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
1 ـ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً
2 ـ وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا
3 ـ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)}(النور) .
والعقوبة في هذه الآية ثلاثة أنواع :
الأولى : عقوبة جسدية (( الجلد )) .
الثانية : عقوبة معنوية لا تقبل لهم شهادة فحقوقهم المدنية ساقطة .
الثالثة : عقوبة في الآخرة . . النار لأنهم فاسقون .
ـ حين دعت امرأة العزيز سيدنا يوسف إلى الزنا وارتكاب الفاحشة عصمه الله تعالى ، وبدل أن يكافئه المجتمع لطهره وعفافه فتكون هذه المكافئة دفعاً لشباب الأمة إلى سلوك مسلكه عوقب بالسجن !!! ليضيع في متاهات أقبيته ، ويضيع الشباب في حمأة الرذيلة !! { قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)} (يوسف) . وفعلاً سجنوه!!
{ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)}(يوسف) .
والدلائل كلها تشير إلى براءته ، ولكنْ سهلٌ على كبار القوم أن يلفّقوا التهم إلى الشرفاء ، لينجوا بأنفسهم بصرف الأنظار إلى غيرهم . . . !! .
هذا عن العقوبة ، أما أمثلة الجزاء ثواباً .
فإن يوسف عليه السلام حين أوّل منام الملك ، ورفض الخروج من السجن ، إلا أن تظهر براءته ، فاعترفت امرأة العزيز بالحقيقة ، سُرَّ الحاضرون لنزاهته { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)} (يوسف) فانتقل من السجن إلى الصدارة والوزارة .
وهذا موسى عليه السلام يصل إلى مدين ويسقي للفتاتين ويأوي إلى ظل شجرة ، فيدعو الله التيسير ، فتأتيه إحداهما قائلة : {... إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ...}(من الآية 25 القصص) . فيزوجه أبوها إياها ، ويعيش آمناً .
والثواب على عمل الخير يدفع إلى الاستمرار فيه .
وليتنا نقف ملياً عند هذه الآيات التي تكررت في سورة الصافات في حقِّ الأنبياء الكرام : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وهارون ، وآل ياسين { سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81)} (الصافات) .
{ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)}(الصافات) .
{ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)} (الصافات) .
{ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)}(الصافات) .
فَذِكْرُهُمْ إلى آخر الزمان تقدير ، وتبجيل ، وتعظيم . . . أهناك أحسن من هذا الثواب العظيم المستمر إلى أبد الآبدين ؟ ولهم في الآخرة المكان العالي والمكانة الرفيعة .
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم/د.عثمان قدري مكانسي/الحذر والحَيطة
سلسلة من اساليب التربية في القرآن الكريم
الحذر والحَيطة
الدكتور عثمان قدري مكانسي
تعلمنا من آبائنا وأجدادنا أنّ درهم وقاية خير من قنطار علاج ، وسدّ الثغرات أسهل بكثير من إعادة بناءٍ أهملناه ، فانهدم .
كما أن الحذر مطلوب في أيام السلم والحرب ، ومن الصديق والعدو ، ومن الأقارب والأباعد . والحذر كذلك مطلوب من عذاب الله ، وفتنة الشيطان ، والتصرف مع الآخرين بما لا يليق . وبشكل عام يجب الحذر وأخذ الحيطة دائماً ومن كل شيء ، دون الوصول إلى التوهّم والتوجس الذي يزيد عن حده ، ولله درّ القائل :
احــذر عـدوّك مــرّةً * واحذر صديقك ألف مره
فلربما انقلب الصديق * فـكان أعلم بالمـضـرَّه
1ـ فهناك الحذر من العدو المتربص في كل زمان ومكان ، ينتظر حالة الغفلة والاسترخاء في الصف الإسلامي ، وهي حالة تتعارض مع حالة اليقظة . . إن العدو بارع بانتهاز الفرص التي تصنعها له حالة ُ الغفلة ، فماذا يفعل العدو ، إنه يميل علينا ميلة لا تبقي ولا تذر ، تهلك الحرث والنسل ، وتهتك العرض ، وتغتصب الأرض ، وتستولي على الديار ، وتتحكم بعباد الله بطغيان لا مثيل له .
قال تعالى : { وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً }(من الآية 102 النساء) .
ويقول الله تعالى آمراً بالاحتراز من العدو والاستعداد له : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)}(النساء).
وقد أمر الله تعالى أن لا نتخذ الكافرين أولياء ، وأن لا نجالسهم إذا استهزؤوا بديننا ، ومَنْ استمرأ الجلوس معهم ، ومؤانستهم كان منهم ، وانتهى إلى مصيرهم فقال :{ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) }(النساء).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)}(النساء) .
ويؤكد الله سبحانه وتعالى المعنى حين يقول ناهياً عن مجالسة اليهود والنصارى وموالاتهم:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)}(المائدة) .
وسورة " المنافقون " كلها تحذير منهم . وإليك مثالاً واحداً ، فهم :
1ـ يدّعون أنهم آمنوا بمحمد نبياً ويشهدون بذلك .
2ـ الله سبحانه يؤكد نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام ويشهد أن المنافقين يكذبون في شهادتهم .
3ـ والمنافقون يتخذون الأيمان سبيلاً إلى الإيهام بصدقهم .
4ـ يجب الحذر منهم لأنّهم لا يقرّون على قرار ، يؤمنون مرة ويكفرون أخرى .
5ـ لا يغرَّنّ منظرُهم وفخامةُ مظهرهم ، فهم خشب مسنّدة ظاهرها متين ، وجوفها فارغ .
6ـ يجب الحذرُ منهم ، فهم أشدَّ كرهاً للمسلمين ، وهم كذّابون .
قال تعالى : { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ
هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)}(المنافقون) .
2ـ وهناك الحذر من الشيطان ، قال تعالى : {. . . . وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)}(الأنعام) .
فالشيطان يأمر بالمفاسد ، والحذرُ من اتباعه واجب ، والاحتراس مطلوب : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ۚ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)}(النور) .
وبما أن الشيطان عدو لنا ، فمن الواجب أن تتخذه عدواً ، فهو يورد من اتبعه النار ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)}(فاطر) .
وعلى هذا الأساس كانت الاستعاذة بالله من الشيطان ، ومكره ، ووسواسه ، وتشكيكه بالحق! قال تعالى : { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) }(الأعراف) .
3ـ وهناك الحذر من عذاب الله ، والفتنة ، وعدم الاستجابة للرسول الكريم .
فالرسول الكريم يدعو إلى الله ودينه القويم ، فمن نأى وصدَّ صرف الله قلبه عن الإيمان ، وأصابته فتنة تودي به إلى قعر جهنّم ، قال تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) }(الأنفال) .
كما أنه لا يجوز خطبة امرأة في عدتها ، فمن فعل فقد أثم ، قال تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ . . . }(من الآية 235 البقرة) .
وينهانا الله تعالى عن مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين يأمر بأمر ، فينسَلُّ بعضهم إلى الوراء خارجاً دون استئذان ، وهو الآن في لقاء مع القائد والتزام الوجود من أدب اللقاء ، والاستئذان مشروع لمغادرة مكان الاجتماع ، ويحذرنا الله تعالى أن تعلو أصواتنا في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وأمام حجرته الشريفة ، فهذا من الأدب معه صلى الله عليه وسلم: { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)}(النور) .
أما خيانة الله ، فبترك فرائضه ، وخيانة الرسول بترك سنته ، وخيانة الأمانة عدمُ تحمل مسؤولية العمل بكتاب الله وسنّة رسوله ، وترك الدعوة إلى الله سبحانه ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) }(الأنفال).
والله سبحانه وتعالى ، حذّر الرسول الكريم من الركون إلى الذين كفروا . . هؤلاء الذين يريدون منه عليه الصلاة والسلام أن ينصرف عن وحي الله تعالى ، أو أن يزيد على هذا الوحي ما يخالف الدين ، وحاشا رسولَ الله أن يفعل هذا ، فهو الأمين المؤتمن ، ولكنّه درس لنا معشر المسلمين في الثبات على دين الله ، والدفاع عنه دون أن نهتمَّ بوعيد الكفار وتهديدهم ، أو إغرائهم للدعاة ، فالمؤمن وقاف على حدود الله :{ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)}(الإسراء).
وانظر إلى حذر الوالد يعقوب ، ففي أكثر من مكان في سورة يوسف يظهر الحذر في حديثه مع أولاده ، فلما سألوه أن يرسل أخا يوسف ( بنيامين ) معهم لأن يوسف منع عنهم الكيل إلا بحضوره ، قال تعالى : { قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) }(يوسف) .
ثم طلب منهم موثقاً على إعادته إن استطاعوا :{ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّىٰ تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ ۖ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)}(يوسف) .
ثم أمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة خوف العين الحاسدة ، وهو موقن أن الله يفعل ما يشاء . .
وهذا موسى يستصرخه رجل من بني قومه على رجل من آل فرعون فيجيبه ، ويضرب ذلك الرجل فيقتله ، وهو لا يريد قتله ، فاستغفر ربه ، ووعده ألا يكون عوناً للمجرمين . . . وبعد أن قتله { فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ }(من الآية 18 القصص)
والترقب : انتظار الطلب أن يدركه
حتى إن الفتاتين اللتين كانتا مع الأنعام ابتعدتا عن الرجال لا تختلطان بهم ، وتنتظران حتى يفرغوا فتتقدّمان لسقي ماشيتهما { وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)}(القصص) .
وحين أُمر موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون قال حاذراً طالباً مساعدة أخيه : { قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)}(القصص) .
فالحذر في كل الأمور مطلوبٌ ، حتى ولو كان كل شيء معك . . فقد قيل : ( من مأمنه يؤتى الحذر ) .
ويجب الحذر من تناقل الإشاعات أياً كانت ، فهي مغرضة مؤذية إذا تناقلها الناس دون تمحيصها { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)}(الحجرات) .
والحذر يأمرنا كذلك أن نردَّ كل ما نسمعه إلى المختصين كي لا نقع في المحذور الذي يحفره لنا الأعداء ، قال تعالى : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)}(النساء).
وتأمل معي حَذّرّ النملة التي رأت جيش سليمان عليه السلام قادماً إلى الوادي ، فحذَّرت النمل أن تبتعد عن الطريق كي لا ينالها الأذى { وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)}(النمل) .
أفلا يكون المسلم العاقل أشدَّ حذراً منها كي لا يقع في المحذور ؟!! .
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم/د.عثمان قدري مكانسي/اساليب القتال
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم
أساليب القتال
الدكتور عثمان قدري مكانسي
خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المدينة إلى معركة أحد بجيش قوامه ألف مقاتل . ولما تراءى الجمعان عاد عبد الله بن أبي سلول بثلاث مئة من المنافقين إلى المدينة غير راغبين في القتال . أما حجتهم فلأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يُصغِ إلى قولهم أن يتحصنوا في المدينة ،إنما استمع لقول الشباب ، فخرج بهم إلى ظاهرها ، أما الحقيقة فهي أن المنافقين جبناء كما ذكرنا ذلك في أسلوب " تطهير الصف " . ولماذا يقاتلون ، وهم يرون أن المشركين أقرب إليهم من المسلمين ، ويتمنون من كل قلوبهم أن ينتصر المشركون على المسلمين ! .
1ـ انتظام الصفوف :
إذاً عاد ثلاث مئة ، وبقي المسلمون سبع مئة ، والمشركون ثلاثة آلاف مقاتل ، فهم إذن أكثر من المسلمين بما ينوف على أربعة أضعاف .
كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحدد مكان المقاتلين ، ويصفُّهم لقتال عدوهم . وحين ساور الخوف قبيلتين مسلمتين هما : بنو سلمة وبنو الحارث ـ فقد أهموا أن يعودوا لاعتقادهم أن العدد غير المكافىء لا يبشر بنصر ـ جاءهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم يشجعهم ويثبتهم ، ويرفع من عزائمهم ، وهكذا كان .
قال تعالى : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)}(آل عمران) .
فالقتال إذاً كان صفوفاً تثبتت في مكانها تصدُّ الهجوم ، ثم تنتقل إلى الهجوم .
وهناك أيضاً ترتيب الأصناف ، كل مع جنسه قال تعالى:
{ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)}(النمل) .
يوزعون : يوقف أوائلهم لتلحقهم أواخرهم .
فلم تكن هناك فرجات بين الأنواع ، وإن كانت منفصلة يتبع بعضها بعضاً ، وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى أنه يجب أن يكون المقاتلون لُحمة واحدة ، وصفاً منضبطاً ، وحركة متتابعة { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)}(الصف) .
والانتظام صفوفاً يورث الهيبة والجلال في نفس الناظر ، ففي يوم القيامة تنزل الملائكة من السماء صفوفاً متتابعة ، تبعث على الخوف ، والإجلال ، والرهبة ،قال تعالى:
{ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)}(النبأ) .
{ كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)}(الفجر) .
والصفُّ المتراص دلالة على الوحدة والقوة ، فهذا فرعون يأمر السحرة أن يأتوا صفاً واحداً ليرهبوا بمنظرهم وحركتهم موسى عليه السلام ، وليزرعوا الإعجاب والإكبار في نفوس عامة الشعب ، بل إن السحرة أنفسهم كانوا أصحاب هذا الأسلوب،قال تعالى :
{ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)}(طه) .
2ـ القتال من وراء الحصون :
ويكشف الله سبحانه وتعالى جبن اليهود ، وهلعهم من لقاء المسلمين ، فهم لا يقاتلون وجهاً لوجه ، إنما يتتّرسون بالحصون العالية القوية ، والجُدُرِ السميكة المتينة ، يقول الله سبحانه وتعالى :
{ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14){(الحشر) .
وهم الآن على قوتهم ، وكثرة سلاحهم لا يقاتلون مشاة هاجمة ، أو محمولة ، وإنما يقاتلون وهم داخل الدبابات ، ومن وراء الخنادق ، وداخل الملاجىء السميكة ، والصواريخ العابرة والطائرات . . . صحيح أن هذا النوع من القتال الآن هو الأكثر فائدة ونجاة إلا أنهم لا يستطيعون مواجهة الجيش المعادي سفاحاً ، وأفضل سلاح لديهم وأفضل طريقة في القتال بث الفرقة بين المسلمين ، وجعلهم أعداءً بعضهم لبعض .
وحين يعرف المسلمون أنفسهم حق المعرفة ، ويتوحدون ، ويحكِّمون شرع الله فيما بينهم تسقط أسطورة اليهود ، ويذوبون كما يذوب الجليد في الظهيرة الحارة . . .
3ـ الحرب الصاعقة السريعة تشل الحركة :
وقد أكدت الآيات في القرآن الكريم على :
قطع الرقاب وأصابع الأيدي كي لا تستطيع حمل السلاح .
{ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ
1ـ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ
2ـ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)}(الأنفال) .
وهي ، الحرب النفسية الإيجابية للمسلمين ، والسلبية للأعداء ، وتكون الضربة القاضية بقطع الأعناق ، وشلّ الحركة بقطع الأصابع (( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا }(من الآية 4 محمد(القتال)) .
4ـ الإثخان في القتل والاستئصال :
وهنا ينبهنا الله تعالى أن نشتد في قتل الأعداء ، حتى يعلموا أننا لا نرحمهم إن فكروا في الاعتداء علينا ، فإذا كثر فيهم القتل ، وبلغت قلوبهم الحناجر ، واستسلموا جاز لنا أن نأخذ منهم أسرى ، أما في بداية المعركة ووسطها فليس لنا إلا القتل والاستئصال لأعداء الله كي تخنس نفوسهم وتذل ، فلا يفكّروا مستقبلاً في إيذاء المسلمين والتصدي لهم، قال تعالى :
{ فإما تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) }(الأنفال) .
ونجد الأمر بالإثخان ، وكثرة الإصابة في قوله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) }(الأنفال) .
وذكر الله سبحانه وتعالى قُوّة موسى حين دخل المدينة على حين غفلة من أهلها :
{ فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ }(من الآية 15 القصص) .
والوكز : ضربة في الصدر بجمع الكف .
وفي السنَّة النبوية طرقٌ عديدة في القتال ، وليس في القرآن الكريم الكثير منها ، لأنه ـ كما نعلم ـ كتاب تشريع وكتاب حياة ـ التفصيل فيه في الحياة المعيشية غير وارد .
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم/د.عثمان قدري مكانسي/تطهير الصف
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم
تطهير الصف
الدكتور عثمان قدري مكانسي
المجتمع الإسلامي لا يمنع أن يعيش غير المسلمين فيه ، وليس فيه ما يسمى التطهير العرقي الذي تمارسه كثير من الدول ضد المسلمين في أصقاع العالم كله ، والتاريح الإسلامي شاهد على ذلك ، لكنّه يمنع أن يمارسوا ما يخالف الإسلام ، ويفسد المسلمين .
للآخرين أن يمارسوا طقوسهم وعاداتهم دون أن ينتج أثر سلبي على المسلمين فإذا حدث هذا منعوا من إقامتها ، لأن درهم وقاية خير من قنطار علاج ، وقد لا ينفع قناطير في تطهير هذا الأثر السلبي .
كما أن المجتمع الإسلامي في مناسك العبادة ، والأجهزة المهمة التابعة له لا يقبل وجود عنصر غريب عنه ليبقى نقياً صافياً من الشوائب التي قد تعطل مسيرته وتقلل من إيجابيّاته .
وقد علم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن عامله على العراق أبا موسى الأشعري استعمل يهودياً على ديوان المحاسبة ، فأرسل إليه أن يصرفه عن العمل ، لكن أبا موسى أرسل إليه : إننا لا نجد من يقوم مقامه ، فما كان من عمر رضي الله عنه إلا أن أرسل إليه يقول : (( مات اليهودي )) إنهما كلمتان واضحتان لا لبس فيهما . . فاضطر أبو موسى أن يصرفه .
وفي القرآن الكريم ما يعضّدُ فعل عمر رضي الله عنه ، فالصف المسلم ينفي عنه ما يعوق تقدّمه ويثقل كاهله .
ـ فهذا طالوت ملك اليهود ينطلق بجيشه لقتال العماليق ، وقد علم أن في جيشه كثيراً من الجبناء ، وضعفاء الإيمان ، وغير الملتزمين بالطاعة والولاء ، وجيشٌ فيه أمثال هؤلاء يهرب من أوّل لقاء ، فأراد أن يتخلّص منهم ، فمرَّ بهم على نهر،قال تعالى: { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ..}
فتخلص من الكثير منهم وبقي بعضهم في جيشه ، وظل الباقون شوكة في القلب ، فانظر ما فعلوا حين التقى الجيشان
{ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ..}
فالخوف من الجهاد يورث الذل والهوان أما الإيمان بالله والاعتماد عليه فكان في جواب الربانيين حين قالوا :
{ ...قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) }(البقرة) .
تخلص طالوت من القسم الأكبر من جيشه ، فلا حاجة للعدد الكثير الضعيف ، ولا للمختلفين في آرائهم ومشاربهم ، هؤلاء عبء متعب ، وضغث على إبّالة ، والعدد القليل المؤمن المتجانس في الطاعة ، والولاء ، والإيمان خير وأقوى ، وهكذا كان . . فقد انتصرت القلة المؤمنة بإذن الله على العدد الكبير الكافر .
ـ وهذا سيدنا موسى يعود من لقاء ربه في جبل الطور ، فيرى قومه قد ضلوا على الرغم من وجود هارون عليه السلام بينهم ، وكان السامري قد رأى جبريل جاء على فرس الحياة ، فألقى الشيطان في نفسه أن يقبض قبضة من أثر فرس جبريل ، فطرحها على طينٍ صنعه فكان له خوار ، فعبدوه لأن أصول الوثنية فيهم كانت راسخة فماذا فعل موسى :
1ـ عاقب السامريَّ بأن طرده من المجتمع المسلم ، فلا مكان فيه لفاسد .
2ـ حرَّق إله الذي صنعه بنفسه وذرّ رماده في البحر .
3ـ بيّن لليهود أن الله تعالى هو الذي يستحق العبادة لا غيره .
قال تعالى: { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) }(طه) .
وكانت عقوبة السامري المفسد رائعة حين طرده موسى عليه السلام من المجتمع المؤمن .
ـ وفي حج العام التاسع للهجرة كان أميرَ الحج سيدُنا أبو بكر الصديق ، ونزلت سورة براءة على الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأمر علياً رضي الله عنه أن يلتحق بالصديق ليقرأ هذه السورة على المسلمين ، ومنها هذه الآية الكريمة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) }(التوبة) .
فمُنِعَ المشركين أن يحجوا اعتباراً من العام القادم ، فالإسلام دين الطهر ، والمسلمون طاهرون ، والشرك رجس نجس ، والمشركون كذلك ، فلا يسمح لهم أن يختلطوا بالمسلمين حين يؤدون المناسك ، وهكذا طهر البيت الحرام .
ولئن كان المشركون يجلبون الأطعمة والتجارات في مواسم الحج ، لقد أبدل الله مكة رزقاً خيراً من ذلك ، لقد رزقها الغنائم والجزية ، وأموال المسلمين الطاهرة .
ـ لم يكن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلن عن وجهته إذا غزا إلا ما كان في غزوة تبوك ، لأن المسافة بعيدة ، والمشاق كثيرة ، ولا بدَّ أن يعرف المسلمين وجهتهم ليجهزوا أنفسهم ، فأعلمهم بها ، فجاء المنافقون يستأذنونه في البقاء في المدينة بأعذار واهية ، فقبلها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو لا يريد في المقاتلين ذوي أهواء ، مفسدين . لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، بخلاء . وعلم الله فيهم هذه المفاسد فثبطهم وحبب إليهم القعود لأثرهم السلبي ، وحبهم للفتنة ، بينما يجب أن يكون الصف الإسلامي طاهراً من كل هذه الخبائث ليكون لحمة واحدة وصفاً متماسكاً قوياً ، فالسفر طويل ، والعدو كثير العدد والعدّة ، ولا يستطيع تحمل الأمرين إلا المؤمن التقيُّ النقيُّ ذو النيّة الخالصة لله سبحانه وتعالى المجاهد بنفسه وماله في سبيل الله . قال سبحانه:
{ لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) }(التوبة).
ــ ويؤكد القرآن الكريم على طهارة الصف المسلم فهذا الصف نظيف لا يعمل أفراده الفاحشة { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)}(النور) .
ــ أما الذي يرمي المحصنات ، فله عقوبات ثلاث : الأولى عقوبة بَدَنية ، والثانية سحب الحق المدني ، فليس له ما للمسلمين ، والثالثة النار في الآخرة لفسقه ،قال تعالى:
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
1ـ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً
2ـ وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا
3ـ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}(النور) .
والملاحظ إذاً في الآية الآخيرة ، أن الذي أساء للمسلمات لا يعود إلى صف المسلمين إلا إذا تطهَّر بالتوبة ، وأصلح ما أفسده .
ــ وحادثة الإفك تبدأ بآية توضح بأن الذين خططوا لها كانوا يحسبون على المسلمين ، فلما تولّوا إفكها ، وتحملوا وزرها ، انكشفوا ، فبان الصالح من الطالح ، وتطَّهر الصف المسلم منهم حين عرفوا { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ(7)}(النور) .
فأما الذين أذاعوه دون تفكير ، فقد عوقبوا وتابوا إلى الله .
أما المنافق الكبير ابن سلول ، فهذا مع الكفار في جهنم ، والعياذ بالله . وأمثاله في هذا الزمن الذي تكالب فيه المارقون على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها معه في الدرك الأسفل من النار.
1ـ أمْرُ المنافقون المثبطين للعزائم معروف .
2ـ هؤلاء يعوّقون الناس عن الجهاد ، ويصدونهم عن القتال .
3ـ يقولون لإخوانهم في الكفر والنفاق تعالوا إلينا ، واتركوا محمداً ، وأصحابه يهلكوا ، ولا
تقاتلوا معهم .
4ـ يحضرون القتال قليلاً سمعة ورياء ، وهذا غَرَضٌ خبيث يريدون به إيهام المسلمين أنهم
معهم .
5ـ بخلاء بالمودّة ، والشفقة ، والنصح ، فهم لا يريدون للمسلمين النصح .
6ـ إذا حضر القتال رأيتهم في رعب شديد لا مثيل له ، فهم شديدو الجبن .
7ـ وإذا جاء وقت قسمة الغنائم ، فهم سليطو اللسان لا يرحمون المسلمين من ألسنتهم .
8ـ عملهم باطل لنفاقهم ، فهم حقيقةً لم يؤمنوا .
ـ وهذا سيدنا نوح حين غرق ابنه فيمن غرق ، وكان الله تعالى وعده أن ينجي أهله اتجه بقلبه إلى ربه { وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)}(هود) . ولا ننسَ رحمة الأب ببنيه ...
فبم أجابه الله عزّ وجل ؟ : { يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ }(هود) .
وهنا البراءة من الكافر ، ولو كان أقرب الناس إليك ، فما يجمعك معه إلا العمل الصالح والإيمان بالله تعالى .
ــ ونجد امرأة لوط كانت ممن أصابهم الموت ، والدمار مع أنها زوجة نبي الله ولكنْ لا بدَّ من تطهير الصف ليبقى نقياً صافياً ليس فيه معوقات { وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33)}(العنكبوت) .
وهكذا لا يكون الصف سليماً ، ولا يستطيع أن ينهض بدعوته ، إلا إذا كان طاهراً من الأمراض سليماً من المعوّقات ، قوياً ليس فيه طفيليات تمتص نشاطه ، وسوس ينحر فيه .
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم/د.عثمان قدري مكانسي/التمايز والمفاصلة
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم
التمايز والمفاصلة
الدكتور عثمان قدري مكانسي
عرفنا من تطهير الصف أنه لا يجوز أن يكون في الجسم الإسلامي طفيليات تعوق مسيرته ، وتضعف قوّته ، بل يجب أن يتخلّص منها ليبقى نظيفاً سليماً معافى .
لكنْ لا بدَّ من معايشة بعض المجتمعات غير الإسلامية ، قد يكونون معنا ، وقد يكون جيراناً لنا ، نبايعهم ، ونشتري منهم ، ونتبادل معهم المنافع الدنيوية . . . هذا أمر لا مفر منه ، أما الذي لا ينبغي أن يكون ، فهو الودّ لهم والولاء ، فهنا التمايز والمفاصلة والبراء . . . وهذ الذي نريده في هذا الباب .
قال الله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)}(الكافرون). إننا والكفار على طرفي نقيض
ولقد أمر الله سبحانه وتعالى نبيّه محمداً عليه الصلاة والسلام أن يتبع إبراهيم عليه السلام في عقيدته السليمة ، فماذا فعل إبراهيم ؟ قال سبحانه:
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)}(النحل) .
وسيدنا إبراهيم هو الذي { . . . قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)}(الأنعام) .
فكان موقفه غاية في الصراحة والبراءة من المشركين ، والتمايز عنهم .
وهو الذي قال لقومه : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)}(مريم) .
فانفصل عنهم نفسياً وإن ظل بينهم يدعوهم إلى الله تعالى وإلى الدين الحق.
وهو الذي صرح بعداوة الآلهة المزعومة التي يعبدها قومه { قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) }(الشعراء) .
وهو عليه السلام الذي توجّه إلى الله سبحانه وتعالى : { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)}(الصافات)
فالهداية من الله فقط .
وهو عليه السلام الذي أعلن براءته من عبادة غير الله وأمر أبناءه بذلك ،قال سبحانه :
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)}(الزخرف) . وهذا ما ينبغي أن نزرعه في قلوب أبنائنا منذ نعومة أظفارهم .
ولذلك أعلنها النبي عليه الصلاة والسلام ، قال تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)}(يوسف) .
وحين شهد الكافرون أنّ مع الله آلهة أخرى زوراً وبهتاناً كان القول الفصل من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ البراءة منهم {. . . أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)}(الأنعام) .
{ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) }(غافر) . فكان التمايز بيننا وبينهم .
لكنَّ الله سبحانه لا يمنعنا أن نحسن إلى الكفار الذين لم يقاتلونا ، ولم يؤذونا ، فالبر من سمات المسلمين ، والعدل من صفاتهم ، أما الذين قاتلونا وآذونا فهؤلاء لا ينبغي الإحسان إليهم ولا موالاتهم وإلا كنا ظالمين لأنفسنا ـ والعياذ بالله ـ قال تعالى:
{ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) }(الممتحنة) .
ويؤكد ذلك في السورة نفسها " الممتحنة " ناهياً عن موالاة الكافرين:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13) }(الممتحنة) .
فلا تلاقيَ مع الكفار أبداً فطريقنا غير طريقهم ، ومآلنا غير مآلهم ، ولا يجوز الركون إليهم ، واتخاذهم أولياء ، فليعِ المسلمون حقيقة أمرهم ، وليحذروا منهم . .
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم/د.عثمان قدري مكانسي/الإعتراف بالخطأ
سلسلة من أساليب التربية بالقرآن الكريم
الاعتراف بالخطأ
الدكتور عثمان قدري مكانسي
هو فضيلة يفتقر إليها الكثير من الناس ، بل إنه شجاعة يقدم عليها المنصف الجدير بالاحترام . فمن اعترف بخطئه أقرَّ بإنسانيته . فالإنسان خلق من عَجَل ، وفيه عنصر الخطأ ، ومن أقرَّ بخطئه قمين أن يصلح ما أفسده . أما الذي يخطىء ، ويدعي العصمة ، ولا يقرُّ بما اقترفَ ففيه لؤم ولا أمان له .
ـ فهذا أبونا آدم وأمنا حواء ، حين انجرّا وراء إبليس بعد أن أقسم لهما أنه صادق ، فأكلا من الشجرة ، وبدت لهما سوءاتهما اعترفا بالخطأ ، فأقرّا بذنبهما ،قال تعالى:
{ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} (الأعراف) ،
وقد عفا الله تعالى عنه وزوجته حين أقرا بالخطأ ،قال سبحانه:
{ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)}(طه) .
ـ وهذه امرأة العزيز حين أبى يوسف عليه السلام أن يخرج من السجن إلا إذا بُرِّئَت ساحتُه ، يستدعيها ، وصاحباتها الملكُ ويسألهن ،قال تعالى :
{ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ
قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ
قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَـصَ الْحَـقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَـنْ نَفْـسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) }(يوسف) .
ـ هذا سيدنا موسى عليه السلام يستنجده اليهودي في خصامه مع القبطي ،قال سبحانه :
{ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا
فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) }(القصص) .
1ـ علم موسى أنه أخطأ ، ولم يكن يقصد قتل القبطي .
2ـ نسب هذا الفعل إلى الشيطان ، ووسوسته .
3ـ استغفر ربه وأناب إليه ، فتاب الله عليه .
4ـ عاهد ربّه أن لا يعود إلى مثل هذه الأمور .
وعلى هذا فإن موسى عليه السلام حين أتى فرعون يدعوه إلى عبادة الله وحده استنكر فرعون أن يكون القاتل نبياً ، وذكَّره بقتله القبطي ، قال تعالى :{ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) }(الشعراء)، فما كان من موسى عليه السلام أن اعترف بذلك ، قال سبحانه :
{ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)}(الشعراء) .
ونسي فرعون ، أو تناسى أن موسى عليه السلام قتل المصري خطأ أمّا هو فطاغية مجرم قتل عشرات الآلاف من المصريين ، واستعبد بني إسرائيل ، وكان يقتل المواليد من الذكور لِحُلُم رآه ـ قتلهم عن قصد ـ لكنّ الإنسان لا يرى ذنبه مهما كبر ، ويرى ذنب غيره مهما صغر .
ـ وذهب موسى مع الرجل الصالح ليتعلم منه ( في قصة موسى مع الخضر في سورة الكهف ) فلما استعجل العلم مرتين ، مرّة في خرق السفينة ، ومرّة في قتل الغلام رأى في المرة الثالثة أنّه أخطأ ، قال تعالى : { قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) }(الكهف) .
ـ والله سبحانه وتعالى وعد المخطئين الذين فعلوا ما فعلوه عن جهل ، وسوء تقدير ، ثم استدركوا ، فتابوا ، بالمغفرة والرحمة ، { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) }(النحل) .
ـ وهؤلاء أصحاب الجنة لم يكونوا كأبيهم كرماً ، وفضلاً ، وإحساناً فبخلوا على الفقراء أن يعطوهم نصيبهم ، فاتفقوا على قطف ثمارها وبيعها قبل مجيئهم ، فأحرق الله زرعها نكاية بهم ، وجزاء لهم على شحهم ، وبخلهم ، قال تعالى:
{ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) }(القلم).
فاعترفوا بخطئهم ، وأنابوا إلى ربهم واستغفروه ، وأقروا بظلمهم المساكين ، وظلمهم أنفسَهم .
ـ هؤلاء أقروا بما فعلوا في الدنيا ، وما زال في الوقت متسع وإن أنابوا واستغفروا رضي الله عنهم ، ولكنْ في الآخرة لا ينفع الندم ، ولا يفيد الاستغفار ، ففي الدنيا عمل ، وفي الآخرة حساب ، قال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)}(السجدة) .
فبماذا يجيبهم الله سبحانه وتعالى ؟ إنه سبحانه يعاقبهم ويوبخهم : { فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)}(السجدة) .
وهؤلاء المجرمون ، وهم في العذاب الشديد يدعون على أنفسهم ، فهم الذين أوقعوها في جهنّم ، فيخبرهم الله تعالى أنه يكرههم ، ويمقتهم أكثر مما يكرهون أنفسهم ويمقتونها :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)(غافر) .
فالاعتراف إذاً بالخطأ وفي الوقت المناسب ينجي من اقترفه في الدنيا حين يسامحه من أساء إليهم أما الاعتراف في الآخرة ، فهو على نوعين :
الأول : الخطأ في العقيدة كالكفر بالله والشرك به ، فهذا لا غفران له .
الثاني : الخطأ في التصرف ، فالله غفور رحيم نسأله أن يغفر لنا خطايانا أَنْ كنا من المؤمنين .
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم/د.عثمان قدري مكانسي/التعريض والتلميح
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم
التعريض والتلميح
الدكتور عثمان قدري مكانسي
عرّضَ في حديثه : لم يبيّنْه ولم يصرّح به .
وعرّضَ له وبه : قال قولاً وهو يعنيه ، ويريده ، ولم يصرّح به .
ولمَّحَ إلى الشيء تلميحاً : أشار إليه ، وقديماً قالوا : ( ربّ تلميح أوقع من تصريح ) ، وقالوا كذلك : ( إياكِ أعني واسمعي يا جارة ) .
وللتعريض فوائد عديدة ، منها :
1ـ التنبيهُ دون الاتهام والتجريح .
2ـ التراجع عن الشيء دون حرج " حفظ خط الرجعة " .
3ـ تقبّل النصيحة دون فضيحة .
4ـ إيصال الأمر مغلفاً باللطف والأدب .
5ـ التعميم في الحديث دون لفت النظر إلى المعنيّ به .
6ـ المديح والتعظيم للعمل الطيب وأصحابه .
7ـ الجهل بالفاعلين ، أو القائلين ، وإظهار الرضا ، أو الامتعاض .
8ـ الذمّ والتحقير . .
وقد حرص القرآن الكريم ـ وهو يعلمنا ـ على هذا الأسلوب ، لما فيه من تلك الفوائد وغيرها .
ـ فهو على سبيل الجهل بالقائلين وذمّ مقالهم يحدثنا عن الكثير من الناس الذين لا يصل تفكيرهم أبعدَ من أرنبة أنوفهم ، فيطلبون الخير الزائل ، والمكسب القليل النافد فقط ، وهم بذاك يقطعون على أنفسهم الفضل العميم الزائد المستمر ، وعلى نفسها جنت براقش ، قال تعالى: { .....فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)}(البقرة) .
ويمدح مباشرةً أصحاب العقول الراجحة ، والنظرة الثاقبة الذين تتحرك قلوبهم ، وأفئدتهم نحو النعيم المقيم ، والخير الأبدي ، إلى رضى الله وجنته : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) {(البقرة).
لم يحدد الطرفين ، ولكنهم كثير { الناس } كمٌّ هائل ، ولفظ عام ينضوي فيه ابناء آدم إلى يوم القيامة .
ـ ومن الأمثلة على التعريض والتلميح في التوبيخ والذم قوله سبحانه : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)}(آل عمران) .
فقد أصاب المسلمين يوم أحد جراحات . . فما إن عادوا إلى المدينة حتى أرجف المنافقون فيها ـ وهم لفظ { الناس } الأول ،أما المشركون فلمّح إليهم لفظ { الناس } الثاتي ، وقد فكر المشركون أن يعودوا إلى المدينة ليستأصلوا المسلمين . . فماذا فعل المسلمون وماذا قالوا ؟ :
1ـ ازداد إيمانهم بالله لأنهم واثقون بنصره إياهم .
2ـ لجأوا إليه ، واعتمدوا عليه ، وتوكلوا عليه ، وهو سبحانه لا يخيِّبُهم .
3ـ ألقى الله تعالى الرعب في قلوب المشركين ، فانكفأوا عن المدينة إلى مكة ، وعاد المسلمون
راضين مطمئنين . فالشيطان يخوّف أولياءه ، وليس له سلطان على أولياء الله تعالى .
لكنَّ المسلمين جميعاً عرفوا المقصود من كلمة { الناس } الأولى ، وكلمة { الناس } الثانية ، وكذلك عرف المنافقون أنهم قد عُرِّضَ بهم ، فخنسوا وذلّوا . . .
ـ ومن الأمثلة على التعريض دون التصريح في التحقير والذم قوله سبحانه :
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) {(البقرة).
فبعض المنافقين يروق للناس كلامهم ، ويثير إعجابهم بخلابة ألسنتهم وبلاغة بيانهم ، لكنَّ الله تعالى لا تجوز عليه سبحانه مثل هذه الأمور لأنه علام الغيوب ، المطلع على السرائر ، هؤلاء المنافقون يُشهِدون الله ـ زوراً ـ على صلاحهم المزعوم وكلامهم المعسول ، فإذا انصرفوا عن المسلمين عاثوا في الأرض فساداً ، فأحرقوا الزرع ، وأهلكوا النسل .
وإذا وُعظ هؤلاء الفجرة الأفّاكون ، وقيل لهم : اتقوا الله ، وانزعوا عن أقوالكم وأفعالكم القبيحة حَمَلَتْهم الأنَفَةُ ، وحميّة الجاهلية على الإغراق في الفساد ، والإمعان في العناد ، فعقوبتهم النار ، أعاذنا الله من عذابها .
ـ أما المؤمنون الأتقياء ، فهم بريئون ممّا يفعل أولئك ، بل إنهم يبيعون نفوسهم لله سبحانه ، يرجون ثوابه ، ويبتغون مرضاته ، وهؤلاء هم الذين سيرحمهم الله ، ويغفر لهم ، فهو الرؤوف الرحيم بحالهم ، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا منهم ، { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) {(البقرة) .
ـ ومن الأمثلة على التعريض يالمفسدين علماً بما يفعلون ، وتحذيراً منهم قوله تعالى :
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)}(لقمان) .
فكل من يشتري ما يلهي عن طاعة الله ، ويصد عن سبيله ، مما لا خير فيه ، ولا فائدة نحو السمر بالأساطير ، والتحدث بما يضحك ، وما لا ينبغي ، ليضل الناس عن طريق الهدى ، ويبعدهم عن دينه القويم بغير حجة ولا برهان ، ويستهزىء بكتاب الله له عذاب شديد مع الذلة والهوان .
فإذا أفهمته ما يجب أن يفعل ليكون من عباد الله المتقين ، ونهيته عن مباذله ومفاسده صك أذنيه ، وأدبر متكبراً كأنه لم يسمعها ، ويتغافل عنها ، راغباً عنها ، فلهذا ولأمثاله عذاب أليم .
والآيات التي استشهدنا بها بدأت كلها بقوله : { وَمِنَ النَّاسِ } دون أن يحددهم للأسباب التي ذكرناها . وأصحابها يعرفون أنفسهم ، فيغتاظون ، والمسلمون يعرفونهم ، فيحذرونهم ، ويتجنبون الوقوع فيما وقع فيه هؤلاء .
ـ ومن الأمثلة على التعريض توبيخاً ، وذمّاً ، وتقريعاً قوله تعالى في المنافقين :
{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)}(محمد) .
فهؤلاء المنافقون يعتقدون أن الله تعالى لن يكشف للمؤمنين شكهم ونفاقهم ، وأنّه لن يظهر بغضهم وحقدهم على المسلمين . . بل إنه ـ سبحانه ـ فاضحهم ، وكاشفُ أمرهم ، ولو أراد الله سبحانه لعرَّف لرسوله عليهم بأشخاصهم ، وعلاماتهم . . كما أنهم يكشفون أنفسهم في طريقة كلامهم وأسلوب عرضه وتعريضهم بما يسيء للإسلام والمسلمين .
والله سبحانه وتعالى يعلم ما في قلوب عباده كلهم ، شاكرهم ، وعاصيهم ، مؤمنهم وفاجرهم ، وقوله : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } هو التعريض والتلميح نفسه ، فلحن القول عدم التصريح به .
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم/د.عثمان قدري مكانسي/القصد والإعتدال
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم
القصد والاعتدال
الدكتور عثمان قدري مكانسي
قالوا قديماً : ( خير الأمور أوسطها ) والوسطُ : الاعتدالُ ، فهو يأخذ من الطرفين المختلفين أحسن ما فيهما ، ويترك سيئهما ، فيجمع الخير منهما ، ويُسقط ما عدا ذلك .
وقال رسول الله حاثّاً على التأنّي : ( ...فإن المنبَتّ لا أرضاً قطع ، ولا ظهراً أبقى ) (رواه جابر/الدرر السنية).
وحين كلفنا الله سبحانه وتعالى لم يطلب منا سوى ما نستطيعه ، فقال سبحانه : { َاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ...(16)}(التغابن) ، فلم يرهقنا ، ولم يأمرنا بما يقصم الظهر ، ويهدُّ الكاهل ، بل ما نقدر عليه لنقوم بفروض الطاعة وقد قيل : ( إذا أردت أن تطاع فاطلب المستطاع ) .
وحين نزلت الآية :
{ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ
فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) }(البقرة)
جثا المسلمون على ركبهم ، وأكل الخوف قلوبهم ، فما من أحد إلا والأفكار تساوره من كل مكان ، ويخطر على بال أحدهم ما يُسْلِمُ عنقه للقطع ، ولا يبوح بما خطر على باله ، فقال لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ؟ ، بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) (أبو هريرة /صحيح مسلم)، فلما قالوها وذلت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى قوله :
{ آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ
وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ
وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)}(البقرة) .
فارتاحت قلوب المسلمين ، وهدأت نفوسهم ، ورجوا من ربهم التيسير ، فنزلت الآية الأخيرة من سورة البقرة :
{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا
لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ
رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا
رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا
رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ
وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا
أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}(البقرة).
ـ والقصد في كلِّ شيء عنوان المسلم ، فلا يذهب يميناً ، ولا يذهب شمالاً ، بل يكون معتدلاً في كل تصرف من تصرّفاته . . قال تعالى على لسان لقمان يعظ ابنه :
{ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)}(لقمان) .
1ـ لا ينبغي للمسلم أن يكون بخيلاً شحيحاً ، ولا مبذراً مسرفاً :
{ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) }(الإسراء) ، والتبذير في معصية الله والباطل يجعل صاحبه مثل الشيطان .
2ـ فمن بخل ، أو أسرف صار مذموماً من الخالق والخلق ، منقطعاً من المال .
3ـ وأنّ القتل إجرامٌ حرّمه الله ، وعاقب عليه أشدَّ العقاب ، ولا يكون القتل إلا في ثلاثة مواضع معروفة ، أوجبها الله .
4ـ وأنّ من قُتل ظلماً بغير حق يوجب قتله ، فقد جعل الله لوارثه سلطة على القاتل بالقصاص منه ، أو أخذ الدية ، أو العفو ، فلا يتجاوز الحد المشروع بأن يقتل غير القاتل ، أو يمثل به ، أو يقتل اثنين بواحد فِعْلَ أهل الجاهليّة ، وحسبه أن الله نصره على خصمه ، فلا يتجاوز حدّ القصد ، والاعتدال .
5ـ وأن التصرف الحسن بمال اليتيم تثميره وحفظه ، أما أكله فهو ظلم كبير:
{... وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)}(النساء) .
{ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ
وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا
وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ . . .(6)}(النساء)،
فجاز الأكل من مال اليتيم بالقدر القليل ، فلا يفنيه أو يأكل منه كثيراً .
6ـ وأن السير الذي يرتضيه الله تعالى ما ليس فيه فخر ، ولا كبرياء ، ولا تعاظم ، ولا مباهاة .
ـ كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام رسول يبلغ رسالة ربّه ، ويدعو إلى الإيمان به والعمل بما يرضيه ، وهناك من يؤمن به ، فيفرح وترتاح نفسه ، وهناك مَنْ يكفر به ، ويأبى الإيمان ، فيحزن الرسول الكريم ، ويتألم لإعراضهم ، ويشتد حزنه ، فينبهه الله تعالى أن لا يشغل باله فيهم كثيراً ، ويهلك نفسه لإعراضهم :
{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)}(الكهف) .
{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)}(الشعراء) .
{... فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ....(8)}(فاطر) .
فالحزن إذاً من شيمة المسلم الحساس ، وهذا أمر إيجابي ولكنْ حين يزيد عن حده يصبح سلباً . . فالاعتدال مطلوب .
ـ وكل أمر يفعله الله تعالى حكمة واعتدال { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)}(القمر)،
حتى الرزق ينزله بقدر كي لا يطغى الناس ويفسدوا ، وهو – سبحانه - الذي يعرفهم لأنّه الذي خلقهم ، فلا يفتح عليهم ما يزيدهم طغياناً ،
{ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)}(الشورى) .
ـ وهذا قارون ازداد ماله فبغى وطغى ، وهو مثال للإنسان الذي يكثر ماله ، فيرى نفسه فوق الجميع :
{ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ
وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا
وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ
وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي…(78 )}(القصص) .
فقارون :
1ـ بغى على قومه ، وكان حريّاً به أن يكون عوناً لهم .
2ـ ونصحه قومه خمس نصائح :
أ ـ أن يتخلى عن الكبر والبطر ، وينقلب إلى شكر النعمة ، والاعتراف بفضل الله عز وجل .
ب ـ أن يوظف أمواله في خدمة دين الله وابتغاء الآخرة .
جـ ـ والإسلام - كما علِمْنا - دينُ الاعتدال ، فلا ينسَ نصيبه من الدنيا .
د ـ أن يحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليه { ... لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ . . . (7)}(إبراهيم) .
هـ ـ أن لا يتطاول على الناس بهذا المال ، ويفسد ضعفاءهم ، فيشتري ذممهم بالمال .
3ـ ادّعى قارون ـ وهو كاذب مدّع ـ أنّه كسب المال بذكائه ، ونبوغه ، وعبقريته .
ويرى مَن تدبّر هذه الآية أنَّ فيها دعوة إلى الحق ، والقصدَ في التصرف .
ـ وقد تكون النعمة نقمة حين يفرح الإنسان بها ، والفرح كما مرَّ معنا في الآية السابقة ، البطر والأشر والتعالي على الناس والتطاول ، والنعمُ قد تكون صحة وغنى وأمناً .
ـ وحين يقترف الناس الآثام يصيبهم جزاءَ ما اقترفوه جدبٌ ونقمةٌ وبلاء وشدة ، فيبالغون في الجحود والنكران والكفران . أما المؤمن فإنه إن أعطيَ شكر ، وإن مُنع صبر ، فكان له الخير في الأمرين {. . . وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)}(الشورى)} .
ـ ولماذا يقول الله سبحانه وتعالى مهدداً المطففين { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)}(المطففين).
التهديد سببه أنهم لا وسطيّة عندهم ، والوسطيّة إعطاء كل ذي حق حقّه ، والتصرف مع الناس بما يرتضونه لأنفسهم ، ولا يلتزمون الحد الشرعي ولا الحدَّ المنطقي ، فقدوا العدل والاعتدال والقصد وتاهوا في الضلال .
ـ وعاتب الله سبحانه وتعالى نبيّه الكريم في منع نفسه ما أحلَّ الله له من النساء لأن زوجتيه غاضبتاه :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)}(التحريم) .
ولاحِظِ الخطاب المشعرَ بالتوقير والتعظيم ، والتنويه بمقامه الشريف حين خاطبه بلفظ النبوَّة لا باسمه كما خاطب بقيّة الأنبياء بأسمائهم . . . فقال له متلطفاً لماذا تمنع نفسك ما أحلَّ الله لك ، وتضيّق على نفسك في مرضاة أزواجك ، وهنّ أَحْرى أن يُتبعن أنفسهن في مرضاتك ، فأرحْ نفسك من هذا العناء .
وكان قد امتنع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ماريّة ـ ولقاء المرأة أنس ومتعة ـ ليرضي خاطر بعض أزواجه ، وكان له أن لا يمتنع عنها . . .
وهذه اللفتة الإلهية الكريمة تدعو إلى الوسطيّة في التصرف ، والابتعاد عن الإعنات .
ـ وأخيراً ، يقول الله تعالى : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ . . . .(6) }(الطلاق) ، فالله تعالى يأمر المسلمين الذين يطلقون زوجاتهم أن يسكنوهن في بعض مساكنهم التي يسكنونها ، وإن كان فقيراً فعلى قدر الطاقة . . فلا يكلفهم الله سبحانه وتعالى إلا ما يستطيعون . . .
فالقصدَ القصدَ في المعاملة ، والاعتدالَ الاعتدالَ .
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم/د.عثمان قدري مكانسي/أسلوب الحكيم
سلسلة من أساليب التربية في القرآن الكريم
أسلوب الحكيم
الدكتور عثمان قدري مكانسي
قد يسأل أحدهم سؤالاً ، فتجيبه بغير ما يترقبه إما بترك سؤاله ، والإجابة عن سؤال لم يسأله ، وإما بحمل كلامه على غير ما كان يقصِده إشارةً إلى أنه كان ينبغي له أن يسأل هذا السؤال ، أو يقصد هذا المعنى .
ـ من ذلك قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ }(من الآية 189 البقرة) .
هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم يسألون رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الأهلّة ، لِمَ تبدو صغيرةً ثم تزداد حتى يتكامل نورها ، ثم تتضاءل حتى لا ترى ، وهذه مسألة من مسائل علم الفلك ، يُحتاج في فهمها إلى دراسة دقيقة طويلة ، فصرفـَهم إلى بيان الحكمة من الأهلّة ، وكأنّه يقول : كان الأولى بكم أن تسألوا عن حكمة خلق الأهلّة ، لا عن سبب تزايدها في أول الشهر وتناقصها في آخره ، فهي وسائل للتوقيت في المعاملات ، والعبادات .
ـ ومن ذلك قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ }(من الآية 215 البقرة) .
سأل الصحابةُ عن بيان ما ينفقوه ـ ما الذي ينفقونه ـ فأجابهم ببيان المصارف ، تنبيهاً على أن المهم هو السؤال عنها ، لأن النفقة لا يُعتدُّ بها إلا أن تقع موقعها . وكل ما فيه خيرٌ فهو صالح للنفقة . . فالمال ينفق منه ، والطعام كذلك ينفق منه ، ومساعدتك الآخرين في أمورهم وتفريج كروبهم نفقة ، وتبسمك في وجه أخيك صدقة . . إذاً ليس المهم ماذا تنفق فهو كثير ، ومتنوّع ، وشامل إنما الأهم معرفة المواطن التي يجب أن يكون الإنفاق فيها .
ـ ومن ذلك قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ }(من الآية 217 البقرة)
فقد سأل الصحابة رضوان الله عليهم رسولهم الكريم : أيجوز القتال في الشهر الحرام ؟ وهل يحلُّ ذلك ؟ إننا نحسب ذلك حراماً ، ومَنْ فعله أخطأ خطأً ذريعاً . فنبّه القرآن إلى أن القتال فيه ، وإن كان خطأً جسيماً ووزراً عظيماً ، إلا أن هناك ما هو أعظم وأخطر ، إنه الصدُّ عن سبيل الله ، وكفرٌ بالله ، ومنع المؤمنين عن دين الله ، وإخراجهم من مكة . . كلُّ هذا أعظم وزراً ، وذنباً عند الله من قتل من قتلتُم من المشركين في هذا الشهر الحرام ، فإن استعظم المشركون قتالكم لهم في الشهر الحرام ، فليعلموا أن ما ارتكبوه في حق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمؤمنين أعظم وأشنع .
ـ ومن أسلوب الحكيم كذلك قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)}(البقرة) .
فالصحابة يسألونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن سبب حيضة المرأة، فينبههم الله تعالى إلى أمور عدةٍ غير ما سألوه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنه فأخبرهم أن الحيض :
أولاً : أذىً يصيب الزوجين لأنّه شيء مستقذر ، فاجتنبوا النساء فيه مدَّة حيضهِنَّ .
ثانياً : فإن طَهُر المكان ، وصار نظيفاً حقَّ للرجال معاشرة أزواجهنّ ، والتمتع بهنّ ، وقد كانت العادة عند اليهود أن المرأة إذا حاضت عندهم نبذوها ، فلم يجالسوها ولم يؤاكلوها فنبّههم القرآن أن الغرض عدم المعاشرة الزوجية فقط ، فالنساء شقائق الرجال .
ثالثاً : فإذا طهُرَتِ المرأة ، فأتوهنَّ في المكان الذي أحله الله لكم ، وهو مكان النسل والولدِ ، القُبُلُ لا الدُّبُرُ ، فالله يحب التوابين من الذنوب المنزهين عن الفواحش والأقذار .
ـ ومن ذلك قوله تعالى :
{ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ
قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)}(التوبة) .
فالمنافقون يبسطون ألسنتهم في أذيّة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ويقولون : إن عاتَبَنا حلفنا له أننا ما قلنا في حقّه ما يسيء ، فيقبله منا ، فإنّه أذنٌ سامعةٌ يصدق كلَّ ما يقال له !! وهذا سوء أدب منهم في حقّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ! ولكنَّ الرسول الذكي الأديب الأريب الذي رباه ربه ، فأحسن تربيته ، ووصفه بالخلق العظيم يستمع للصادق في صدقه ، حتى إذا فرغ شيّعه بالدعاء ، وبشَّ في وجهه ، ويستمع للكاذب في كذبه حتى إذا فرغ لم يجبه ، بل شيّعه بكلمات تعلمه الأدب دون أن يجرح نفسه لأنه المربي . . القدوة . . وأصحاب الأدب يحمدون له هذه الصفة ، فلا يُجلّ الكريم إلا الكريم . . أما اللئام فيحسبون ـ لخساسة نفوسهم وسوء طبعهم ـ أن الرسول الكريم سمّاع لكل قول . . يصدق كلَّ إنسان ، يجوز عليه الكذب والخداع ، لا يفطن إلى زور القول وغشّه ، من حلف له صدّقه ، ومن دسَّ عليه قولاً قبله .
فيردُّ القرآن معلماً ، ومنبهاً ، فيقول : إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أذنٌ . . نعم . . ولكنّه أذن خير للمسلمين يبلغهم رسالة ربهم التي فيها الخير والفلاح ، وأذن خير للمنافقين ، يستمع إليهم ، ويعلم أنهم كاذبون ، فلا يجْبَهُهم بخداعهم ونفاقهم ، ولا يصدقهم فيما يقولون فالله أرسله رحمةً للعالمين ، أما الذين يؤذون رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فحسبهم الذلة في الدنيا ، والعذاب الأليم في الآخرة .
ـ ومن أسلوب الحكيم كذلك قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)}(يونس) .
فهؤلاء الكفرة المعاندون يقولون معاجزين ـ وكأن الأمر بيد رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ يفعل ما يشاء ـ هلّا أنزل على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ معجزة من ربّه كما كان للأنبياء من قبلُ من الناقة ، والعصا ، واليد ، وما إلى ذلك من المعجزات . . . فينبّه القرآن هؤلاء المجرمين إلى أن أمر الغيب لله وحده ، ولا يأتي بالآيات إلا الله سبحانه . أما الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيبلّغ ما أمره الله تعالى به ، وينتظر قضاء الله ُ فيما يريد ، وما على الرسول إلى البلاغ المبين أفلا ترونه بشراً مثلكم يأكل مما تأكلون ويشرب مما تشربون ؟!! .
ـ ومن أسلوب الحكيم كذك قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)}(الإسراء) .
جاء الكفار يسألون رسول الله ـ صلى الله عيه وسلم ـ عن ماهية الروح ، وكيف تدخل الأجسام ، ولماذا تخرج منها . . . فنّبههم القرآن الكريم ، أنّه كان عليهم أن يعرفوا حدود علمهم ، وأن يسألوا عما يهمهم ويفيدهم في أمر أُخراهم ، لا أن يسألوا عن أمور لن يصلوا إلى فهمها بعلمهم القليل الضحل ، فالروح من أمر الله تعالى ، وأسراره ، وما أُوتي الإنسان من العلم إلا القليل . .
ـ ومن أسلوب الحكيم في القرآن الحكيم قول الله تبارك وتعالى :
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ
فقل يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)}(طه) .
هؤلاء الكفار يميّعون القضيّة ، فيسألون عن خلق الجبال ، وارتفاعها ، وعظمتها ، فينبّه القرآن في جوابه إلى أنّ عليهم أن يعلموا أمرين ، حدوثُهما خطير :
الأول : أن هذه الجبال الشاهقة المتسامقة علوّاً ، التي تناطح السحاب بكلكلها ، الضاربةِ في أعماق الأرض أوتادها . . إذا جاء يوم القيامة ينسفها الله تعالى نسفاً ، فيفتتها كالرمل ، فيتركها ملساء مستوية لا نبات فيها ، ولا بناء ، ولا انخفاض ، ولا ارتفاع . . إنه ليوم عظيم هائل لا بدَّ قادم .
الثاني : أن الناس في هذا اليوم ينطلقون سراعاً إلى أرض المحشر لا يزيغون ، ولا ينحرفون ، ذليلةً لِهيبة الله تعالى ساكنة أصواتُهم ، لا يتكلمون إلا من أذن له الله تعالى في القول . إنه لـَيوم رهيب . على العاقل أن يسأل عنه ويؤمن به ويعمل له ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، ونيّة خالصة . . .
إن أسلوب الحكيم أَخْذٌ بيد السائل إلى الاهتمام بما ينفع ليصل به إلى بر الأمان وشاطىء السلامة . . وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المعلم الرائع في أحاديثه الشريفة ، يسير على هدي القرآن وينير بهذا الأسلوب العظيم درب الإنسان . . . . فهلّا كنا تلاميذ له نُجباء ..؟!!.