سلسلة كلمات في القرآن الكريم / د. عثمان قدري مكانسي

سلسلة كلمات في القرآن الكريم (15)

الدكتور عثمان قدري مكانسي

{ الْبَلَاء }

قال تعالى في سورة الصافات : { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)} .
قال ابن منظور في لسان العرب : بلوت الرجل بَلْواً وبلاء ، وابتليته : اختبرته . وكذلك قال الفيروزآبادي في قاموسه المحيط .
نجد هذا المعنى في قوله تعالى في سورة القلم :
{ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17)} ،
فاختبرهم الله تعالى بعد موت أبيهم الصالح . ونراه في قوله سبحانه في سورة محمد (صلى الله عليه وسلم) :
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)} .
وقد تأتي هذه الكلمة في القرآن الكريم تتضمن معاني أخرى بالإضافة إلى المعنى الأصيل فيها (الاختبار) فيها تفصيل وتنويع وتوضيح . من ذلك :

- أن الابتلاء يكون بالخير والشر كما في قوله عز وجلّ في سورة الأنبياء :
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)}
قال ابن كثير في تفسيره : نختبركم بِالْمَصَائِبِ تَارَة وَبِالنِّعَمِ أُخْرَى فَنَنْظُر مَنْ يَشْكُر وَمَنْ يَكْفُر وَمَنْ يَصْبِر وَمَنْ يقنط كَمَا قَالَ اِبْن عَبَّاس : نبلوكم بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاء وَالصِّحَّة وَالسَّقَم وَالْغِنَى والفقر والحلال وَالْحَرَام وَالطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة وَالْهُدَى والضلال فإذا رجعتم إلينا – يوم القيامة - جازيناكم بأعمالكم .
وكذلك في قوله جل ثناؤه في سورة الأعراف :
{ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)}
والرجوع هنا التوبةُ والإقلاعُ عن الذنب والاستغفار .

- ومن فضل الله تعالى علينا أنه حين يختبرنا يحملنا ما نطيقه . يدل على ذلك قوله في سورة البقرة :
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)}
والابتلاء القليل ينبه برفق ولا يصيب صاحبه بالفزع ، فإن كان الابتلاء شديداً كما في قوله سبحانه في سورة النحل :
{ وَضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّـهِ فَأَذَاقَهَا اللَّـهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)}
فإنه يفزع القلب ويضيّع العقل وهو علامة الهلاك والدمار .وليس للإنسان طاقة بذلك ، أذاق الله الكفار من أهل مكة لباس الجوع حين كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم واِسْتَعْصَوْا عليه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَوْا إلا خلافه فَدَعَا عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُف ، فَأَصَابَتْهُمْ سَنَة أَذْهَبَتْ كُلّ شَيْء لَهُمْ ، فَأَكَلُوا وَبَر الْبَعِير يُخْلَط بِدَمِهِ إِذَا نَحَرُوهُ وخافوا لأنهم بُدِّلُوا بِأَمْنِهِمْ خَوْفًا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه حِين قاتلهم ونصره الله عليهم .

- ويكون الابتلاء بمعنى العلم والمعرفة كما في قوله عز وجلّ في سورة الطارق :
{ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)} ،
تُبلى يَوْم الْقِيَامَة فيظْهَر ما كان الإنسان يخفيه من سر ويبقى السِّرّ علانية والمكنون مشهوراً ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
يُرْفَع لكل غَادِر لِوَاء عند اِسْته يُقَال : هذه غَدْرَة فلان ابن فلان .
ومثلها قوله تقدست أسماؤه في سورة يونس :
{ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ ۚ وَرُدُّوا إِلَى اللَّـهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ۖ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)}
فتعلم ما سلف من عملها ، ألا يقول جل ثناؤه في سورة القيامة :
{ يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)} ، فالصحف تنشر كما بقوله تعالى في سورة التكوير :
{ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)} ، كما يقول سبحانه في سورة الإسراء :
{ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)} ...
وفي قوله عز وجلّ في سورة آل عمران :
{ ... وَلِيَبْتَلِيَ اللَّـهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)}
إظهار المخبوء إلى العلن وكشفه للجميع في ذلك اليوم العصيب .
نسأل الله العافية وحسن الختام .

- وقد يكون في الابتلاء- وقد : هذه للتحقيق- إظهار فضل الله تعالى على المسلمين ، يقول عز من قائل في سورة الأنفال :
{ ... فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)} ، وقد قال تقدست أسماؤه في سورة آل عمران :
{ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّـهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)}،
فكان نصره إياهم فضلاً عميماً ، فالله هو الْمَحْمُود عَلَى جَمِيع مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنْ خَيْر في معركة بدر
ولم يكن ذلك النصر بحول المسلمين وقوتهم ، فقد كانوا قليلين ضعافاً ، وَإِنَّمَا النَّصْر مِنْ عِنْده تَعَالَى ،
روى ابن عباس أن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفع يَدَيْهِ يَوْم بَدْر فَقَالَ : يَا رَبّ إن تهلك هَذِهِ الْعِصَابَة فَلَنْ تُعْبَد فِي الأرض أَبَدًا فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل خُذْ قَبْضَة مِنْ التُّرَاب فَارْمِ بِهَا فِي وُجُوههمْ فَأَخَذَ قَبْضَة مِنْ التُّرَاب فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوههمْ فَمَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَحَد إلا أَصَابَ عَيْنَيْهِ وَمَنْخِرَيْهِ وَفَمَه تُرَابٌ مِنْ تِلْكَ الْقَبْضَة فَوَلَّوْا مدبرين ، ثُمَّ رَدَفَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ يقتلونهم ويأسرونهم ، فعرّف الله تعالى الْمُؤْمِنِينَ نِعْمَته عَلَيْهِمْ مِنْ إِظْهَارهمْ عَلَى عَدُوّهُمْ مَعَ كَثرَة عَدُوّهُمْ وَقِلَّة عَدَدهمْ لِيَعْرِفُوا بِذَلِكَ حَقَّهُ وَيَشْكُرُوا بِذَلِكَ نِعْمَته

- ويأتي مع البلاء إسعاد المسلمين ورفع درجاتهم ، فيكون فيه الخير الكثير مما يحفزهم إلى الاجتهاد في البلاء والصبر والتحمل ، يقول الله تعالى في سورة محمد (صلى الله عليه وسلم) :
{ ... وَلَوْ يَشَاءُ اللَّـهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ...(4)} ،
ففي قتال العدو محامد كثيرة منها الشعور بالعزة والنصر وشفاء قلوب المؤمنين وراحة النفس، قال سبحانه :
{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّـهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14)} ،
وهذه سعادة ما بعدها سعادة نرجو الله أن يحققها فينا فنرى في عدونا ما تقر به العيون . هذا في الدنيا أما الشهيد فله في الآخرة ست خصال : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
إن للشهيد عند الله ست خصال : أن يغفر له في أول دفقة من دمه، ويُرى مقعده من الجنة ، ويُحَلّى حلة الإيمان ، ويُزَوّج من الحور العِين ، وَيُجَار مِنْ عَذَاب القبر ، وَيَأْمَن مِن الْفَزَع الأكبر، وَيُوضَع عَلَى رَأْسه تَاج الْوَقَار مرصع بالدر والياقوت ، الياقوتة خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زَوْجَة مِن الحُور الْعِين ، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه .
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ وَابْن مَاجَهْ .
 
سلسلة كلمات في القرآن الكريم (16)

الدكتور عثمان قدري مكانسي



{ سَلَكَ } ومشتقاتها

يقول ابن منظور – رحمه الله - في معجمه لسان العرب : سلكت الشيء في الشيء ، فانسلك أي أدخلته فيه فدخل ، وسلَكتُه وأسلكته بمعنى واحد – يقصد أنهما متعديان لمفعول – ويقول قاصداً السرعة والدقة في إيجاد المدخل : السّلْك : إدخال شيء تسلكه فيه كما تطعن الطاعن فتسلك الرمح فيه إذا طعنتَه تلقاء وجهه على سجيحته ( سجيته السهلة ) . ولا يكون الطعن إلا سريعاً ينفذ إلى الداخل بقوة ودقة . وعلى هذا فرجل مُسـَلّك : نحيف . والنحافة تسهل عملية السلْك .

وجاء الفعل { سَلَكَ } بمشتقاته إحدى عشرة مرة تحمل هذه المعاني المتشابهة :


- ففي قوله تعالى في سورة المدثـّر : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر (42)} ، تسأل الملائكة المشركين سبب دخولهم النار ، : وَقِيلَ : إِنَّ المؤمنين يَسْأَلُونَ الملائكة عَن أَقْرِبَائِهِم , فَتَسْأَل الملائكةُ الْمُشْرِكِينَ فيقولون لهم : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر } فأدخلكم فيها ؟ وهذا المعنى واضح في الآيات السابقة لهذه الآية حيث يسأل المؤمنون – وهم في الجنة يتنعمون – الكفارَ في النار :
{ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)} ،فيجيبونهم بأمرين اثنين كانوا يجتنبونهما :
{ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)} ففي أولهما استنكفوا عن عبادة الله تعالى ، وفي ثانيهما لم يكونوا يحسنون إلى عباده . ويجيبونهم بأمرين اثنين آخرين كانوا يخوضون فيهما : { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)} . أما خوضهم فكان في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ اتهموه بالسحر والكهانة والكذب والشعر .وكانوا تبعاً لعتاة المكذبين الضالين . أما المصيبة الأخيرة قاصمة الظهر فكانت في كفرهم بالله وإنكارهم اليوم الآخر .

وأما قوله سبحانه في سورة الشعراء :
{ كَذَٰلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)} ،

فقد أدخل الله عز وجلّ الشرك في قلوبهم لأنهم طلبوه كما في قوله عز وجلّ في سورة مريم :
{ قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَـٰنُ مَدًّا ... (75)} [مريم] وقوله جل ثناؤه في سورة الإسراء :

{ مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18)} ،
فهم – المشركين – لا يؤمنون حتى يقعوا في الواقعة التي لا خلاص منها . ونجد المعنى نفسه في قوله تقدست أسماؤه في سورة الحجر :
{ كَذَٰلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)} ،

فيكذبون بالقرآن العظيم والرسول الكريم ، فيعاقبهم الله تعالى بإدخال الكفر في قلوبهم ليكونوا من أهل النار ، والعياذ بالله أن نكون من أهلها .

ونجد في سورة الجن المعنى نفسه إذ يقول الله تعالى :
{ ... وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)} ،

والعذاب الصعد : المشقة التي لا راحة فيها . بل تزداد وتيرته وتتصاعد .
قال القرطبي " يُكَلَّف الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة أَنْ يَصْعَد جبلاً فِي النَّار مِنْ صَخْرَة مَلْسَاء , يُجذب مَن أَمَامه بسلاسل , وَيضرِب مَنْ خَلفه بِمَقَامِع حَتَّى يبلُغ أعلاها , ولا يبلغ فِي أَربعِينَ سَنَة . فَإِذَا بَلَغَ أعلاها أُحدِرَ إِلَى أَسْفَلهَا , ثم يُكَلَّف أَيْضًا صُعُودهَا , فَذَلِكَ دَأْبه أَبَدًا , وَهُوَ قَوْله عز من قائل : { سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)} [الْمُدَّثِّر].


أما قوله سبحانه في سورة الحاقة يصف عذاب المشركين الكافرين :
{ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)} .

فمخيف ٌوالله ومخـْزٍ إذ تـُدخَل السلسلة مِنْ فِيهِ وَتـُخرَج مِنْ دُبُره , فَيُنَادِي أَصْحَابه هَلْ تعرفونني ؟ فيقولون : لا , وَلَكِنْ قد نرى مَا بِك مِنْ الخِزْي فَمَنْ أَنْتَ ؟ فَيُنَادِي أَصْحَابَهُ أَنَا فلان بن فلان , لِكُلِّ إِنْسَان منكم مثل هَذا . ولعل هذا التفسير أَصَحّ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الآية , يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله عز وجلّ :
{ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ... (71)} [الإسراء] .


وأود أن أؤكد أن " السلك " في هذه الايات إدخال الشيء في شيء بعد إيجاد مسلك له لم يكن موجوداً من قبل وبهذا يكون الألم الشديد نسأل الله العافية .

- أما قوله تعالى في سورة الجن :
{ إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} ،

فالمعنى كما قالت العلماء : رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ : لَمَّا تَمَدَّحَ سُبْحَانَهُ بِعِلْمِ الْغَيْب واستأثر من البشر من يرضاهم رسله ، وخاب من أشرك به , كَانَ فِيهِ دلِيل عَلَى أَنَّهُ لا يَعلَم الْغَيب أَحدٌ سِوَاهُ , ثمَّ استثنى مَن ارتضاه من الرسل , فَأودعهم مَا شَاءَ مِنْ غَيبه بِطَرِيقِ الْوَحي إِلَيهِم , وَجَعَلَهُ مُعْجِزَة لَهم ودلالة صَادِقَة عَلَى نُبُوَّتهمْ . أما المنجّمون أمثالهم مِمَّنْ يَضْرِب بِالْحَصَى وَيَنْظُر فِي الْكُتُب وَيَزْجُر بِالطَّيْرِ مِمَّن اِرْتَضَاهُ مِنْ رَسُول فَيُطْلِعهُ عَلَى مَا يَشَاء مِنْ غَيْبه , بَلْ هُوَ كَافِر بِاَللَّهِ مُفترٍ عليه بحَدْسِهِ وَتَخمِينه وَكَذِبه . ثم سلك الله ملائكة يَحْفَظُونَهُ عَنْ أَن يقرب مِنهُ شَيْطَان ; فَيَحْفَظ الوَحي مِنْ اِسْتِرَاق الشَّياطِين والإلقاء إِلَى الْكَهَنَة . قَالَ الضَّحَّاك : مَا بَعَثَ اللَّه نَبِيًّا إلاّ وَمَعَهُ ملائكة يَحْرُسُونَهُ مِنْ الشياطين عَنْ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِصُورَةِ الْمَلَك , فَإِذَا جَاءَهُ شَيْطَان فِي صُورَة الْمَلَك قَالُوا : هَذَا شَيْطَان فَاحْذرْهُ . وَإِنْ جَاءَهُ الْمَلَك قَالُوا : هَذَا رَسُول رَبّك. وَقَالَ اِبن عَبَّاس: { رَصَدًا } هم حَفَظَة يَحْفَظُونَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمَامه وَوَرَائِهِ مِنْ الْجنّ والشياطين . قَالَ قَتَادَة وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب : هُمْ أَرْبَعَة مِنْ الملائكة حَفَظَة .

ونلحظ بالسلك هنا الإحاطة والحراسة والصون .

- ونرى في قوله عز وجلّ في سورة طه :
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا ... (53)} ،

فجعل الله تعالى الأرض قراراً تَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهَا وَتَقُومُونَ وَتَنَامُونَ عَلَيْهَا وتسافرون على ظهرها وَسَلَكَ لكم فِيهَا سُبُلا أَيْ و طُرُقًا تَمْشُونَ فِي مَنَاكِبهَا كَمَا قَالَ تقدست أسماؤه :
{ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)} [الأنبياء] ،

ونلحظ " بالسلك " التنظيم والترتيب ودقة الصنع . يقول القرطبي " هي الطُرُق . نَظِيره قوله جلّ وعلا :
{ وَاَللَّه جَعَلَ لَكُمْ الأرض بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا (20)} [نوح]

، والفج : المسلك بين جبلين .

- وقوله تعالى في سورة القصص :
{ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ... (32)} ،

نرى السهولة واليسر في الإدخال والإخراج ، قال القرطبي " إِذَا أَدخَلْت يَدك فِي جَيب دِرْعك ، ثمَّ أَخرَجتهَا فإنها تخرج تتلألأ كأنها قطعة قمر فِي لَمَعَان البرق مِن غير بَرَص " وقال الحسن البصري " لما خرجت يده كأنها المصباح أيقن مُوسَى أَنـّه لَقِيَ رَبّه. "

- كما نجد رحمة الله في الاحتفاظ بالماء العذب النازل من السماء في تجاويف الأرض . يقول الله سبحانه :
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ .. (21)} [الزمر] ، فالماء من السماء ابتداءً كما في قوله عز وجلّ :

{ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا ... (9)} [ق] ،
فَإِذَا أَنْزَلَ الْمَاء مِنْ السَّمَاء كَمَنَ فِي الأرض ثمَّ يَصْرِفهُ تَعَالَى فِي أجزائها كَمَا يَشَاء ، وَيُنْبِعهُ عُيُونًا مَا بَيْن صِغَار وَكِبَار بِحَسَبِ الْحَاجَة إِلَيْهَا . فهذا الإدخال سهل ميسر يُحفظ بأمر الله في الخزانات الأرضية التي جُهزت للاحتفاظ بالماء في بحار عذبة في تجاويف الأرض .

- أَذِنَ الله تعالى للنحل بقوله : { ... فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ... (69)} [النحل] إِذْنًا قَدَريًّا تَسْخِيريًا أَنْ تأكل من كل الثمَرَات وَأَنْ تسلك الطُّرُق الَّتِي جَعَلَهَا اللَّه تَعَالَى مُذَلَّلَة لَهَا ومُسَهَّلَة عليها حيث شاءت مِنْ هَذَا الْجَوّ الْعَظِيم وَالْبَرَارِيّ الشاسعة وَالأودية وَالْجبال الشاهقة ثمَّ تَعُود كُلّ وَاحِدَة مِنْهَا إِلَى بَيْتهَا لا تَحيد عنه يَمْنَة ولا يَسرة بَل إِلَى بَيْتهَا وَمَا لَهَا فِيهِ مِنْ صغار وَعَسَل فَتَبْنِي الشَّمْع وتصنع الْعَسَل مِنْ فِيهَا وَتَبِيض الْفِرَاخ ، ثُمَّ تُصبِح إِلَى مَرَاعِيهَا . وَقَالَ قَتَادَة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا } أَيْ مُطِيعَة فجعلاه حالاً مِن السَّالكة.


ونحن ندعو الله تعالى أن يَسلكنا في عباده الصالحين ، دون حساب ولا عقاب ، وأن يسلكنا الجنة فيجعلها مأوانا ، إنه على مايشاء قدير ، وبالإجابة جدير.
 
التعديل الأخير:
سلسلة كلمات في القرآن الكريم (17)

الدكتور عثمان قدري مكانسي


{ الْعَدْل }

في أَسماء الله سبحانه: العدل هو الذي لا يَمِيلُ به الهوى فيَجورَ في الحكم، وهو في الأَصل مصدر سُمِّي به ، فوُضِعَ مَوْضِعَ العادِلِ، وهو أَبلغ منه لأَنه جُعِلَ المُسَمَّى نفسُه عَدْلاً.
قال ابن منظور في معجمه لسان العرب : العدل ما قام في النفوس أَنه مُسْتقيم، وهو ضِدُّ الجَوْر. عَدَل الحاكِمُ في الحكم يَعْدِلُ عَدْلاً وفي صحاح اللغة : العدل :خلاف الجَوَر. يقال: عَدَلَ عليه في القضيّة فهو عادِلٌ .
وفي مقاييس اللغة : العدلُ : العين والدال واللام أصلان صحيحان، لكنَّهما متقابلان كالمتضادَّين: أحدُهما يدلُّ على استواء، والآخر يدلُّ على اعوجاج .
ونجد في القرآن الكريم كلمة { الْعَدْل } بمشتقاتها وردت ثماني وعشرين مرة أدّتْ فيها معاني عدّة . وهذا دأب العربية المطواعة التي مدحها الله تعالى في قرآنه المجيد :
{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} (يوسف) ،
وقال سبحانه :
{ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195)} (الشعراء) .
ومن جمال لغتنا العربية أن كثيراً من كلماتها تحمل التضاد في المعنى إنْ وحدها كقولك : الجون ، السليم ، الزعيم .. أو بحروف جر توضح المعنى كقولك : ذهب إليه ، فأتاه ، وذهب عنه فقلاه . وتقول : رجعت إليه ورجعت عنه . وتقول دخلت فيه ودخلت منه ، فتولدت معان متعددة تساعد على إثراء الأفكار والمعاني، والسياحة فيها بسهولة ، والتعبير عنها بسلاسة .
وقد ورد { الْعَدْل } في الآيات الكريمة يحمل دلالات متعددة – كما ذكرنا – منها :

1 - الاستقامة والمساواة :
كقوله تعالى في سورة الشورى :
{ ... وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ... (15)} ،
فالله أمر نبيه الكريم أن يحكم بالعدل والمساواة بين الناس أحَبهم أم كرههم ، فقد قامت الدنيا على العدل والحياة الطيبة على المساواة ، أما الظلم والجور فموت وقهر . ولو قرأنا الكلمات المضيئة قبل قوله { وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } وبعدها ، وهي قوله تعالى :
{ فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ }
{ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ }
{ ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ }
{ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ }
{ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ }
{ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ }
{ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ }
{ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ }
{ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } ،
لوجدنا الإسلام يدعو أتباعه للحياة في جو رائع من القيم التي تجعل الحياة هانئة سعيدة ، فالدعوة إلى الله أول الطريق والغاية من هذه الحياة ، وعلى الداعية أن يكون الأسوة والقدوة فيستقيم في تصرفاته على هدي ونور من الله ، ويبتعد عن الأهواء { ... وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّـهِ ... (50)} (القصص) ؟ ، والمسلم يؤمن بكل الأنبياء صلوات الله عليهم وكتبهم { ... لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ... (285)} (البقرة) ، وبذلك كانت له الإمامة للناس أجمعين ، فكان أهلاً لقيادتهم والحكم بينهم بالعدل يدعو الناس إلى عبادة الله الواحد ، فهو رب الخلق جميعاً ، وكل إنسان محاسب بما يعمل وسيلقى الله تعالى يوم القيامة فيقرره بكل شيء ، ثم يلقى جزاءه .
وعلى هذا أكد مولانا سبحانه العدلَ في الحكم في سورة النساء:
{ ... وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ... (58)} ،
ويدخل في معنى الناس المسلمُ وغيره ، فالعدل أساس الملك وهو ما دعا إليه الولى سبحانه ، فلا يُحابى مسلمٌ ولا قريبٌ ولا صديق ، فالحق أحق أن يُتّبع ، وهذا نفهمه من قوله عز وجلّ في سورة المائدة :
{ ... اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ... (8)} ،
وميزان الحكم بل الحياة كلها { التَّقْوَىٰ } وقوله تقدست أسماؤه قبلها في نفس الآية الكريمة :
{ ... وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ... } والمسلم وحده الذي يسعى لإحقاق الحق وإبطال الباطل ، ولو خالف هواه فحكم لمن يكرههم ويبغضهم ويعاديهم إن إرضاء الله تعالى وإقامة الحق هو الهدف المنشود . وتاريخ المسلمين في حربهم وسلمهم يشهد لهم بذلك .

2 - الفدية والمثيل :
يوم القيامة المنعطفُ الخطير الذي نسأل الله تعالى أن ينجينا فيه من غضبه والنار ، هنالك تلهج ألسنة الناس كلهم مؤمنهم وكافرهم بالدعاء ، فالخوف من العذاب والوقوع في جهنم ديدن المخلوقات كلها – نسأل الله العفو والعافية – أما الكفار والمنافقون فلا خلاص لهم مما يحذرون ، ولا مناص من الخلود في النار وهناك ، قال سبحانه في سورة المعارج :
{ يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ (15)... } ،
ولن تقبل من الكافر فدية – وهو في ذلك الوقت لا يملك شيئاً فقد ترك كل ما كان يملكه في الدنيا واقتسمه الورثة ، وقد صور الله تعالى هلع الكفار من النار والرغبة في النجاة منها في آيات عدة نذكر منها آيتين كريمتين في سورة المائدة :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (37)} ،
و ذكر العدل بمعنى الفدية والمثيل فقوله عز وجلّ في سورة البقرة :
{ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (48)} ،
ألا ترى أن العدل الفدية والمثيل واضحان تماماً في هذه الآية ، ألا أقول لمن تزوج أخت زوجتي : (عديلي ) ؟ فهو عند الحمو مثيلي . يقول الله جل ثناؤه في عدم قبول الفداء من الكافر :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّار فَلَنْ يُقْبَل مِنْ أَحَدهمْ مِلْء الأرْض ذَهَبًا وَلَوْ اِفْتَدَى بِهِ ... (91)} (آل عِمران)،
وقال عز من قائل في سورة الأنعام :
{ وَإِنْ تَعْدِل كُلّ عَدْل لا يُؤْخَذ مِنْهَا (70)} ،
على فرض أن معه ما يفتدي به نفسه فهو أمر مرفوض فقد سبق السيف العذل .

3 - الانحراف عن الحق :
نقول : عدل فيه : حكم بالحق ، وعدل عن الحق : تجاوزه فلم يحكم به . وهو الميل إلى الباطل . مثاله قول الله تعالى في فاتحة سورة الأنعام :
{ ... ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)} ، فجَعَلُوا لَه شَرِيكًا وَعدلاً ، واتخذوا لَه صَاحِبَة وَوَلَدًا تَعَالَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا . قال القرطبي رحمه الله : ثم الذين كفروا يَجْعَلُونَ لله عدلاً وشريكاً وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ الأشياء وحده قَالَ اِبن عَطِيَّة : فـ { ثُمَّ } دالـّة عَلَى قبح فعل الكافرين لأن المعنى : أَنَّ خَلْقه السَّمَوَات والأرض قَدْ تَقَرَّرَ وَآيَاته قَدْ سَطَعَتْ وَإِنْعَامه بِذَلِكَ قَدْ تَبَيَّنَ ، ثُمَّ بَعْد ذَلِكَ كله عَدَلُوا بِرَبِّهِمْ فَهَذَا كَمَا تَقُول : يَا فلان؛ أَعْطَيْتُك وَأَكْرَمْتُك وَأَحْسَنْت إِلَيْك ، ثُمَّ تَشْتُمنِي ؟! وَلَوْ وَقَعَ الْعَطْف بالواو فِي هَذَا وَنَحْوه لَمْ يَلْزَم التَّوْبِيخ كَلُزُومِهِ بـ { ثمّ } ، وَاَللَّه أَعْلَم ..
ويقول تقدست أسماؤه للمنحرفين عن الحق الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى في سورة النمل :
{ ... أَإِلَـٰهٌ مَّعَ اللَّـهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)} ،
فيجعلون له عِدلاً ونظيراً وهو وحده خَلَقَ تِلْكَ السَّمَوَات فِي اِرْتِفَاعهَا وَصَفَائِهَا وَمَا جَعَلَ فِيهَا مِنْ الْكَوَاكِب النَّيِّرَة وَالنُّجُوم الزَّاهِرَة والأفلاك الدائرة وَخَلَقَ الأرض على هيئتها وَ جَعَلَ فِيهَا مِنْ الْجِبَال وَالسُّهُول وَالْفَيَافِي وَالْقِفَار وَالزُّرُوع وَالأشْجَار وَالثِّمَار وَالْبِحَار وَالْحَيَوَان عَلَى اختلاف الأصناف والأشكال وبث فيها المناظر الخلابة والأشكال البديعة كما قال عز وجل قبله في نفس الأية : { مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرهَا ... (60)} ، ولا يقدر على ذلك إلا الْخَالِق الرَّازِق الْمُسْتَقِلّ بِذَلِكَ ، الْمُتَفَرِّد بِهِ دُون مَا سِوَاهُ مِن َالأنداد كَمَا اِعْتَرَفَ بِهِ ِ المشركون أنفسُهم ، فقد قَالَ سبحانه :
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّـهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (87)} (الزخرف) ،
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّـهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّـهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)} (العنكبوت) ،
فهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ الْفَاعِل لِجَمِيعِ ذلك وحده لا شَرِيك لَهُ ، ثم هم يعبدون مَعَهُ غَيْره مما يعترفون أنه لا يخلق ولا يرزق ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقّ أَن يُفْرَد بِالْعِبَادَةِ مَنْ هو الْمُتَفَرِّد بِالْخَلْقِ وَالرِّزْق ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { أَإِلَه مَعَ اللَّه } يُعْبَد وَقَدْ تَبَيَّنَ لكل ذِي لُبّ أَنَّه الخالق الرازق ؟ .

4 - البديل :
نجد في سورة المائدة عقوبة قتل الصيد في الحج والعمرة :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)} ، فمن اصطاد وخالف فعليه عقوبة يفعلها مكفرة عما فعل مناسبة للذنب الذي اقترفه ، فقد يكون هدياً أو أطعاماً لمساكين الحرم أو صدقة تناسب الخطأ الذي ارتكبه ، فكانت كلمة العدل هنا البديل المناسب كي يعلم أنه فعل ما ليس له أن يفعله .

5 - الفهم والعقل :
وهذا ما نجده في الآية السابقة التي توضح عقوبة الصائد في الحج والعمرة فالذي يحكم ويقرر حجم العقوبة وبديلها اثنان من أهل الفهم والدراية وأصحاب العقول الراجحة ، وبهذا يكون معنى { عَدْل } في هذه الآية ما يوضح صفة أهل الحل والعقد . نجد المعنى نفسه في سورة الطلاق :
{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)} ،
فإذا طلق أحدهم زوجته ، فقاربت العدة على الانتهاء { فَأَمْسِكُوهُنَّ } بِأَنْ تُرَاجِعُوهُنَّ { بِمَعْرُوفٍ } مِنْ غَيْر ضِرَار { أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } ، فاتركوهنّ حَتَّى تنقضي عدتهنّ ولا تُضارّوهنّ بِالْمُرَاجَعَةِ { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْل مِنْكُمْ } عَلَى الْمُرَاجَعَة أَوْ الْفِرَاق ، وهذان الشاهدان ينبغي أن تتوفر فيهما التقوى والدين ويشهد الناس لهما بذلك .

 
التعديل الأخير:
سلسلة كلمات في القرآن الكريم (18)

الدكتور عثمان قدري مكانسي

{ الضَّلَال }*

قال الجوهري في صحاحه : الضلال : ضد الرشاد .
وقال ابن منظور في لسان العرب : الضلال والضلالة ضد الهدى والرشاد . ويقول بنو تميم بكسر عين الفعل الماضي : ضلِـلت . ويقول أهل نجد بفتحها : ضلـَلت . والمضارع لكليهما أضِلّ أبعدنا الله عن الضلالة وجعلنا من أهل الهدى والرشاد .

وردت الكلمة بمشتقاتها في القرآن الكريم أكثر من ثلاث مئة وخمس وسبعين مرة ، تحمل المعنى الأساس الذي ذكرناه قبل قليل .
مثال ذلك وهو الأكثر - لأنه الأصل – قوله تعالى في سورة البقرة :
{ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)} فماذا بعد الإيمان إلا الكفر والضلال ؟! . وقوله تعالى في سورة القلم :
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)} ، وفي قوله تعالى في سورة النمل :
{ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ (92)} ،
فرسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس جميعاً لعبادة رب واحد ، ويبين للناس الطريق القويم ، ويبشرمن آمن بالخير في الدارين وينذر من تنكب الطريق بعذاب الله يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
ونضيف إلى هذا المعنى معاني تدور في هذا الفلك ، وتحمل بالإضافة إليها إشراقات يقتضيها سياق كل آية أو قصة ، فهيا إلى تلك المعاني التي تفتح الآفاق وتفتّق الأذهان ، في رياض لغتنا العربية الغناء .

1 - يقولون : أضللتُ الشيء إذا غيّبتُه ، وأضللت الميت إذا دفنتُه . مثاله في القرآن الكريم قوله تعالى في سورة السجدة :
{ وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (10)} ؟ ، فالكفار يستنكرون العودة يوم القيامة بعد أن تُدفن أجسادهم في الأرض وتُغَيّب فيها ، فتتحلل وتذوب . ونسوا أن الله الخالق يفعل ذلك متى شاء . وعودة الشيء أهون عليه سبحانه . والإنشاء والإعادة أمران سهلان يسيران عليه ، فهو يقول للشيء : { كُن فَيَكُونُ } .
ومثاله كذلك قوله سبحانه في سورة الأنعام :
{ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ۚ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)} ،
فالمشركون يقسمون – كاذبين – أنهم لم يشركوا بالله في الدنيا ، فقد بحثوا يوم المحشر عن آلهتهم ، فلم يجدوها ، لقد غابت عنهم ومُحيتْ آثارها . بل إن العلاقات الحميمة التي كانت تجمع بعضهم ببعض في عبادتهم لأوثانهم وأصنامهم انقلبت عداوة ، ولم يروا أثراً لما كانوا يعبدون . نجد مثاله في سورة الأنعام نفسها في قوله عز وجلّ :
{ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (94)} .
ونجد في قوله تقدست أسماؤه في سورة طه :
{ .. لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى (52)} ، أن الله لا يغيب عنه شيء في السموات ولا في الأرض ، يؤكدها قوله جل ثناؤه في سورة يونس :
{ ... وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ... (61)}
ومتابعة واعية لهذا المعنى يضع بين يدينا الكثير من الآيات .


2 - من معاني { الضَّلَال } : التيه والانحراف . مثال هذا المعنى قوله تعالى في سورة المائدة : { ... وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} ،
فقد انحرفوا وأمالوا عن الحق كثيراً من أتباعم ومن وثق بهم . وفي سورة النجم ينفي الله تعالى الغواية والانحراف عن نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم :
{ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ (2)} ، والدليل على ذلك أن كلامه صواب ، وجبريل بأمر الله يسدد عمله ، قال سبحانه :
{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ (5)} .
كما أن الشيطان يُغوي الإنسان ويُميله ويحرفه عن جادة الصواب إن ركن إليه وتبعه. مثال ذلك قوله عز من قائل في سورة يس :
{ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} ؟ .

3 - وتعني كلمة { الضَّلَال } بمعنى الوقوع في المتاهة والخطأ : كقوله تعالى ينعى على الكفار تخبطهم في حديثهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ومحاولة تيئيسه من الدعوة ، والتضييق عليه ليتركها ، فوقعوا في أخطاء كبيرة :
{ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)} (الإسراء) وهي نفس الآية (9) من سورة الفرقان .
وهؤلاء (أصحاب الجنة) الذين خالفوا طريقة أبيهم الصالح في العطف على المساكين والإحسان إليهم - في سورة القلم - فقرروا بعد موته ان يمنعوهم الخير الذي كان فمرر الله عليها بعض جنوده فجعلوا الحديقة يباباً ، فلما ذهبوا إليها مصبحين لم يعرفوها وظنوا أنهم – أولاً أخطأوا الطريق ، ثم عرفوا بعد التأكد أنهم أخطأوا التصرف ، فندموا وتابوا إلى الله وعاهدوه سبحانه إن عفا عنهم وغفر لهم أن يكونوا أتقياء كراماً لا يقطعون أحداً من رفدهم ، قال عز وجلّ :
{ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)} .
كذلك نرى المجرمين يسخرون من ضعفاء المسلمين ويأبون أن يساعدوهم ، ويستهزئون من دعوة المصلحين لهم أن يساعدوا فقراءهم وضعفاءهم ، قال جل ثناؤه في سورة يس :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّـهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّـهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (47)} ،
فما دام المستضعفون بمنزلة الأغنياء عند الله فليُعِنهم هو سبحانه ، والضعيف – بزعمهم- ليس عند الله كالغني القادر . ولهذا قالوا لنوح عليه السلام ومن جاء بعده من الأنبياء إنهم لن يؤمنوا بدعوته مادام الفقراء البسطاء معه ، قال تقدست أسماؤه في سورة الشعراء :
{ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)} ؟! .


4 - من معاني { الضَّلَال } النسيان : مثاله قول الله تعالى في آية الدّين من سورة البقرة حين يذكر شهادة المرأتين : { .. أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ... (282)} ، ولا يكون التذكير إلا للناسي .


5 - ومن معاني { الضَّلَال } الخسران وإبطال الثواب : ومن أمثلة ذلك المعنى قوله تعالى في سورة محمد :
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)} ، فالكافر ليس له في الآخرة نصيب ، وكل عمل لا يقوم على أساس الإيمان ليس لصاحبه خلاق في الأمن والنجاح يوم القيامة ، وأضل أعمالهم ، أحبطها فخسروها . وعلى هذا نرى في قوله سبحانه في السورة نفسها :
{ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)} ، فقوله : { فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } : لن يحبطها ، ولن يبطل ثوابها ، بل { وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } فيزيدهم من فضله وكرمه .
ومثال ذلك قوله تعالى في سورة غافر :
{ ... وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)} ، وقوله سبحانه في السورة نفسها : { ... وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)} ، فمكر الكافر وكيده في الدنيا عليه وليس له ، ودعاؤه في في الآخرة لا يُقبل ، إنه لا ينجو هناك إلا المؤمن الموحّد.
ونرى معنى الإبطال والتضييع في قوله تعالى في سورة الفيل :
{ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)} ،
فهذا أبرهة دفع جيشه لهدم الكعبة وجاء مصمماً على ذلك ، فتصدت له ولجيشه جماعات الطير تحمل في قوادمها وأفواهها سلاح الاستئصال ، فدمّرت جيشه وأهلكته .

6 - ويأتي { الضَّلَال } بمعنى الغفلة والجهل بالشيء : فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة يبحث عن الحقيقة ، فهداه الله إليها بعد غفلة عنها وجهل بها ، هذا ما نجده في قوله تعالى في سورة الضحى :
{ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (7)} ، إلم يقل له في آية من سورة يوسف توضح المراد من ذلك :
{ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)} ؟ " فالضلال هنا الجهل بالشيء والغفلة عنه .
ولما اتهم فرعون سيدنا موسى بالكفر حين قتل القبطي ، فقال له كما في قوله عز من قائل في سورة الشعراء:
{ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)}
، رد عليه موسى نافياً الكفر ومثبتاً الجهل والغفلة إذ ذاك كما في قوله سبحانه بعدها :
{ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)} .
وحين ذكر يعقوب عليه السلام ابنه يوسف وابيضت عيناه من الحزن ، فهو كظيم قال له أبناؤه مستنكرين ذلك كما في سورة يوسف :
{ قَالُوا تَاللَّـهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)} ، وسبق أن قالوا في آية أخرى معرّضين بحب أبيهم يوسف وأخاه بنيامين :
{ ... إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (8)} وكيف يكون الضلال لنبي سوى التماهي في حب الولد الصغير وشعور الكبار أن أباهم لا يوليهم انتباهه كما ينبغي !! إنهم يعرفونه نبياً ولا يقصدون بالضلال ذلك المعنى المعاكس للهدى والرشاد .

7 - وقد يأتي { الضَّلَال } بمعنى الهلاك . مثال ذلك قوله تعالى في سورة القمر :
{ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47)} ،
قال القرطبي إن الضلال هنا الهلاك لمساوقته كلمة { سُعُر } .
وفي قوله سبحانه في سورة الإسراء : { مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ... (15)} ، وقد جاءت الكلمات السابقة نفسها دون تغيير ضمن آية أخرى في سورة يونس مع إضافة حرف الفاء :
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (108)} } ، ومعنى { يَضِلُّ عَلَيْهَا } : يهلكها ، ويدخلها عذاب جهنم .
وفي قوله عز وجلّ في سورة النساء : { ... يُبَيِّنُ اللَّـهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ... (207)} ، نجد معنى الهلاك واضحاً . فمن لم يتبع البينة ويعمل بها هلك . وكذلك نجده في قوله تقدست أسماؤه في سورة الكهف :
{ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ... (104)} ، فخاب وهلك .

8 - بقي أن نقول : إن الأصنام لا تضل الناس لأنها لا تعي ولا تعقل ، فكيف تضلهم وتبعدهم عن الطريق القويم ؟ قال تعالى في سورة إبراهيم :
{ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ ... (36)} إنهم ضلوا وافتُتِنوا بسببها فصارت كأنها هي التي أضلتهم .
سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ضوالّ الإبل ، فنهاه عن أخذها ، وحذّره النار إن تعرّض لها ، ثم قال عليه الصلاة والسلام :
( مالك ولها ، معها حِداؤها وسقاؤها ، ترد الماء ، وتأكل الشجر ) ،
أراد صلى الله عليه وسلم أنها بعيدة المذهب في الأرض طويلة الظمأ ، ترد الماء والرعي دةن راع يحفظها ، فلا تتعرّض لها ، ودعها حتى يأتيها ربها .

* بتصرف بسيط جدا​
 
سلسلة كلمات في القرآن الكريم (19)

الدكتور عثمان قدري مكانسي​


النظر

نجدُ في مختار الصحاح قوله : النَّظَر والنَّظَرَانُ بفتحتين : تَأَمُّل الشَّيْءِ بالعَيْن. وقد نَظَر إلى الشَّيْءِ… والنَّظَر أيضاً : الانتِظار يقال : نَظَره يَنْظُره بالضم نَظَراً. ويقال للعَين النَّاظِرة. والنَّاظِرُ الحافِظُ. والنَّظِرة بكسر الظاء التأخير. وأَنْظَرَه أَخَّرَه. واسْتَنْظَرَه اسْتَمْهَلَه. و تَنَظّره تَنَظُّراً انْتَظَره في مُهْلَةٍ.
وفي لسان العرب قوله : النَّظَر حِسُّ العين . نَظَره يَنْظُره نَظَراً ومَنْظَراً ومَنْظَرة ونَظَر إِليه وتقول نَظَرت إِلى كذا وكذا مِنْ نَظَر العين ونَظَر القلب .
ويقول القائل للمؤمَّل يرجوه إِنما نَنْظُر إِلى الله ثم إِليك أَي إِنما أَتَوَقَّع فضل الله ثم فَضْلك .
والنَّظَر تأَمُّل الشيء بالعين ، وقوله عز وجل في سورة البقرة : { وأَغرقنا آل فرعون وأَنتم تَنظُرون (50)} قال أَبو إِسحق قيل معناه وأَنتم تَرَوْنَهم يغرَقون . والنَّظَرُ الانتظار ويقال نَظَرْتُ فلاناً بمعنى انْتَظَرْتُه . و { انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } : انْتَظِرُونا .

وفي القرآن الكريم من هذه المعاني وغيرها أو مما يُشتق منها الوفر الكثير ، فهلم إلى القرآن .

من ذلك :

1 - الرؤية : في قوله تعالى :
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} (القيامة)
وهي نظرة حب وإجلال وتعظيم .
ومن الرؤية قوله سبحانه في وصف البقرة :
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)} (البقرة) ،
وفي المعنى نفسه في سورتي الأعراف والشورى :
{ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ } ،
ومن الرؤية قوله عز وجل على لسان موسى عليه السلام في سورة الأعراف :
{ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ... (143)} .

2 - نظرة الخوف : في قوله تعالى في سورة التوبة :
{ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا ... (127)}
فهم يخافون أن تنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم سورة تنبئه بما في قلوب المنافقين فتفضحهم ، وتفضح نفاقهم .
وكذلك في سورة الأحزاب :
{ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ ... (19)}
نظر الخائف المستسلم .
وفي سورة الشورى يصور القرآن خوفهم من النار :
{ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ ... (45)} ،
ونجد خوف المنافقين من القتال في سورة محمد (صلى الله عليه وسلم) :
{ ... رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ (20)} .

3 - نظرة الاستسلام والخضوع : في قوله سبحانه في سورة الصافات :
{ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ (19)} ،
وفي قوله عز وجلّ في سورة البقرة :
{ ... فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (55)} ،
ونرى الاستسلام واضحاً في سورة الواقعة :
{ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ (84)} ،
ونجد مع الخوف والفزع الاستسلام حين يرون النار من طرف أعينهم ، ولا يجرؤون على النظر إليها ، ويستسلمون لمصيرهم المرعب الذي يقذفهم في النار بين لحظة وأخرى ، إنها لحظات رهيبة والله رهيبة :
{ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ ... (45)} (الشورى).

4 - نظرة التأمل والتدبر : في قوله جل ثناؤه في سورة الصافات يصف نظرة التفكر والتدبر :
{ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)} ،
وكذلك نجد هذه النظرة في قوله عز من قائل في سورة الحشر :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ... (18)}
والعاقل هو الذي يحسب حساب الغد الآتي . ونرى مثاله أيضاً في سورة عبس :
{ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) ... } ،
فمن تأمل وبحث وصل إلى وجود الله ووحدانيته ، وأنه سبحانه الآمر الناهي يفعل ما يشاء .
كذلك في سورة الطارق :
{ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) ... } ،
وهناك دعوات في المسير في الأرض والنظر المتأمل المتفكر في سور الحج ،ويوسف ، والروم ، وفاطر، وغافر ، ومحمد ، تبدأ بقوله تقدست أسماؤه : { أََوَلَمْ يَسِيرُوا } أو { أََفَلَمْ يَسِيرُوا } ؟ مثالها في سورة يوسف:
{ ... أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)} .

5 - نظرة المعاينة : في قوله تعالى في سورة البقرة :
{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (50)} ،
يرون الأمر ويشاهدونه . ونجد في سورة يونس المعاينة وتقليب الأمر :
{ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)} ،
ونجد المعاينة للأدلة في قوله سبحانه يخاطب موسى عليه السلام :
{ ... قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي .. (143)} (الأعراف) ،
وقول سليمان عليه السلام للهدهد حين بعثه برسالته إلى مملكة سبأ وملكتها :
{ اذْهَب بِّكِتَابِي هَـٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)} (النمل) ؟ ،
وكذلك نرى المعاينة في قوله عز وجلّ في سورة يونس :
{ قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...(101)} ،
إنها نظرات ولمسات لا يراها إلا القلب السليم .

6 - نظرة التعجب : وغالب التعجب من كفر الكافرين واستكبارهم عن الحق ،مثال ذلك في سورة الإسراء في قوله جلّ وعلا:
{ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)} ، فالكفار يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم تارة بالكهانة وتارة بالسحر وأخرى بالكذب ورابعة بالشعر ، وكلامهم عجيب لا ينبغي أن يصدر عن رجال يعقلون .
وفي سورة المائدة تعجب واضح من فسادهم وكفرهم :
{ ... انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (75)} ،
والتعجب من ضرب الأمثال مرة أخرى في سورة الفرقان :
{ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)} ،
ثم انظر متعجباً من الاستمرار على ضلالهم بعدما رأوا الآيات في سورة الأنعام :
{ ... انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)} ،
{ ... انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) .

7 - نظرة الانتظار : قوله تعالى في سورة الذاريات في نهاية ثمود قوم صالح :
{ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ (44)} ،
وَذَلِكَ أَنَّهُم اِنْتَظَرُوا العَذَاب ثلاثة أَيَّام فَجَاءَهُمْ فِي صَبِيحَة الْيَوم الرَّابِع بُكرَةَ النَّهَار. وكان انتظارهم تحدياً ، فنالوا عقاباً يستحقونه على كفرهم وعنادهم . ونجد هذا المعنى في قوله سبحانه في سورة البقرة :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُواَ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)} .
بعض المفسرين قالوا هي من الرؤية والانتظار والتأني كذلك . وكقوله عز وجلّ في سورة الحديد على لسان المنافقين يخاطبون المؤمنين :
{ ... انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ... (13)}
ولا نور في ذلك اليوم إلا للمؤمنين ، ونرى معنى الانتظار في قوله تقدست أسماؤه في سورة فاطر :
{ ... فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ... (43)}
وهي عقوبة الله لهم على تكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره .
ومن معنى الانتظار قوله تعالى في سورة الأحزاب :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ... (53)} ،
لا دخول إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا إجابة لدعوة أو وليمة ، ولا بأس أن ينتظر المسلمون في بيته نضج الطعام واستواءه، ثم يأكلون وينصرفون غير منتظرين ، ولا يتأخرون .

8 - نظرة الاختبار : كقوله تعالى في سورة النمل :
{ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)} ،
فسليمان عليه السلام يختبر الهدهد حين جاءه بخبر ملكة سبأ وقومها .
وكذلك نجد معنى الاختبار في السورة نفسها :
{ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)} ،
وسألها سليمان عليه السلام عن عرشها بعد أن أراها إياه وقد جاء به مَن عنده علم من الكتاب يختبر ذاكرتها وذكاءها.
ونجد اختبار الصبر والإيمان لبني إسرائيل على لسان موسى في قوله سبحانه في سورة الأعراف:
{ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)} .

9 - نظرة الدهشة والانبهار : نجدها في قوله تعالى في سورة الزمر يصف المشركين حين يُنفخ في الصور :
{ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ (68)}
فيعلمون الحقيقة إذ ذاك ويندمون حين لا ينفع الندم . ونجد المعنى نفسه في سورة الصافات في قوله سبحانه:
{ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ (19)}
وقد عقدت المفاجأة ألسنتهم ، وعلموا أنهم خسروا أنفسهم إذ كذّبوا بآيات الله .

10 - نظرة التهديد والتوبيخ : من أمثلة ذلك قوله تعالى يوبخ الكافرين الصادّين عن سبيل الله في سورة المائدة:
{ ... انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (75)} ،
وقوله سبحانه في سورة الأنعام :
{ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)}
وقوله تعالى في السورة نفسها :
{ ... انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)} ،
بيان للآيات وتصريف واضح للأمور ، والكافرون صادون عن سبيل الله كافرون برسالاته . وأشد من ذلك أن الله جلّ وعلا يغضب على الكافرين غضباً شديداً والدليل على هذا في سورة آل عمران أن الجليل يخزيهم :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّـهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَـٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّـهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)} .

11 - نظرة التأخير : كما في قوله تعالى في سورة الأحزاب :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ... (53)}
فلا تتأخروا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأكل .
ومن التأخير قوله تعالى في إنظار المعسر في سورة البقرة :
{ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280)}
فيؤخر الدائن المدين المعسر في السداد إلى وقت اليسر والمقدرة .

12 - نظرة البهجة والسرور :كما في قوله تعالى في سورة المطففين يصف وجوه المؤمين السعداء في الجنة:
{ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)} ،
وانظر معي إلى المؤمنين يتمتعون وبيتهجون في جنة الرحمن في السورة نفسها :
{ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (35)} .

13 - نظرة المعرفة واليقين بالأمر : كما في قوله تعالى في سورة النبأ :
{ ... يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ... (45)}
ويعلم علم اليقين أنه هالك لا محالة . ومن نظرة العلم واليقين كذلك قوله سبحانه في سورة البقرة :
{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّـهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ۚ وَإِلَى اللَّـهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)}
والمعنى نفسه نجده في سورة الأنعام في قوله عز وجلّ :
{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ... (158)}
فيعلمون أن تكذيبهم للرسل وصدهم عن دعوة الحق قد أرداهم في جهنم ، فلا نجاة ولا محيص عن ذلك ... ونجد نظرة العلم واليقين في سورة الأنفال ، فبعض المسلمين لا يرغبون بالقتال وبجادلون في ذلك ، فعبر القرآن عن هذا بقوله عزّ من قائل :
{ ... كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6)} ،
ولم يكن هذا لائقاً بهم .

14 - نظرة الاحتقار للكفر وأهله : كما في قوله تعالى في سورة طه على لسان موسى عليه السلام للسامري :
{ ... وَانظُرْ إِلَىٰ إِلَـٰهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)}
وتصور درجة الاحتقار بتحريق الإله المزعوم ونسف رماده في البحر أمام أعين عابديه ، ونجد معنى الاحتقار نفسه في قوله سبحانه يصف إغراق قوم فرعون بكلمة (النبْذ) :
{ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)} (القصص) .
{ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)}(الذاريات) .

15 - وأخيراً نظرة الاستشارة والاستئمار : كما في سورة الصافات بين إبراهيم وولده إسماعيل حين أمره الله تعالى في المنام بذبحه :
{ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ... (102)} ؟ .
إنها كلمة قالها لإعلامه فقط ، ولن يأخذ برأيه إن خالف ، فأمر الله لا بد منه .​
 
سلسلة كلمات في القرآن الكريم (20)

الدكتور عثمان قدري مكانسي


{ بَلَغَ } ومشتقاتها

يقول صاحب الصحاح في معنى بلغ : بَلَغْتَ المكان بُلوغاً: وصلت إليه، وكذلك إذا شارفتَ عليه. ومنه قوله تعالى : { فإذا بلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي قارَبْنَهُ. وبَلَغَ الغلامُ: أدرك. والإِبْلاغُ: الإيصالُ، وكذلك التَبْليغُ، والاسمُ منه البَلاغُ. والبَلاغُ أيضاً: الكفايةُ ، وبَلَّغْتُ الرسالةَ أوصلتها. وبَلَّغَ الفارسُ، إذا مَدَّ يدَه بعنان فرسه ليزيد في جَرْيه. وشيءٌ بالِغٌ، أي جيِّدٌ. وقد بَلَغَ في الجودة مَبْلَغاً. ويقال: أمرُ اللهِ بَلْغٌ بفتح الباء، أي بالِغٌ من قوله سبحانه في سورة الطلاق : { ... إنّ اللهَ بالِغٌ أَمْرُهُ ... (3)} . وقولهم: أَحْمَقُ بِلْغٌ بكسر الباء، أي هو مع حماقته يَبْلُغُ ما يريد.
والبَلاغَةُ: الفصاحةُ. وبَلُغَ الرجلُ بضم العين ، أي صار بَلِيغاً. والبَلاغاتُ، كالوشاياتِ. والبُِلَغينُ: الداهية.
وفي الحديث أن عائشة قالت لعليّ رضي الله عنهما حين أُخِذَتْ: " بَلَغْتَ مِنَّا البُِلَغينَ " . وبالَغَ فلانٌ في أمري، إذا لم يقصِّر فيه. والبُلْغَةُ: ما يُتَبَلَّغُ به من العَيش. وتَبَلَّغَ بكذا، أي اكتفَى به. وَتَبَلَّغَتْ به العِلَّةُ أي اشتدّتْ. والبالِغاءُ: الأكارعُ في لغة أهل المدينة.

وقد وردت كلمة بلغ ومشتقاتها في القرآن الكريم قريب الثمانين مرة بالمعاني التي ذكرناها وبمعان أخرى لا تبعد عنها ، وهي :

1- الدعوة إلى الله تعالى : كقوله سبحانه في سورة الأعراف :
{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّـهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)} ،
وقوله عز وجلّ في السورة نفسها :
{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)}
ففي الآية الأولى يستمر في تقديم النصح لهم ، فهذا دأب المصلحين الذين يريدون الخير للناس جميعا ، وفي الآية الثانية يعلل ما يفعله سوى الناصح المحب الأمين في تبليغ الرسالة .
ونرى الدعوة إلى الله في سورة المائدة في قوله تعالى :
{ ... فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)} ،
ثم يقول جل وعلا في السورة نفسها :
{ مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ... (99)} ،
ففي الآية الأولى يستعمل أسلوب القصر ـ إنما ـ خشية أن يشكوا فيتولّوا ، وفي الثانية يستعمل أسلوب الاستثناء ليثبت عمل الرسل في البشرية . وجاءت الكلمة بهذا المعنى في القرآن كثيراً .

2 ـ قد تأتي بمعنى شبّ وصار رجلاً : كقوله تعالى يحكي عن يوسف عليه السلام في سورة يوسف :
{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)} ،
وكقوله سبحانه يحكي عن موسى عليه السلام في سورة القصص :
{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)} .
ونجد الاستواء في الحديث عن موسى لأنه سيتحمل الصعاب غريباً مطارداً وسيعود برسالة ثقيلة إلى فرعون الظالم ، فلا بد أن يكون قوياً متمرساً . وكقوله عز وجلّ في سورة النور :
{ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا ... (59)} ،
والحُلم أول مرحلة الشباب وبناء الأسرة ، يعضد هذا قوله جل ثناؤه في سورة النساء :
{ وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ... (6)} ،
وحين يبلغ الرجل النكاح يشعر باستقلاله والرغبة في تحمل المسؤولية . فاليتيم حين يبلغ النكاح لن يعود يتيماً ، وهذا ما نراه واضحاً في قوله تعز من قائل في سورتي الأنعام والإسراء :
{ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } ،
فإن شب وبلغ أشده كان أهلاً لتحمل مسؤولية أسرته التي نشأ فيها وليكوّن أسرة تخصه .
والعبد الصالح في سورة الكهف أقام الجدار بأمر الله جل وعلا :
{ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ... (82)} .

3 ـ وقد تكون بمعنى الكمال الإنساني : كقوله تعالى في سورة الأحقاف يحكي قصة المؤمن السويّ الذي بلغ سن الأربعين :
{ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)} ،
وقد بُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم في سن الأربعين وهو سن الكمال البشري .
والدعاء نفسه دعا به سليمان عليه السلام حين سمع قول النملة تحذر قومها من جيشه في سورة النمل :
{ ... وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)} .
تأتي الكلمة كذلك بمعنى التمام والكمال في قوله سبحانه في سورة الأنعام :
{ قُلْ فَلِلَّـهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ... (149)} الكاملة التامة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها .

4 ـ وتأتي هذه الكلمة بمعنى الهرم والضعف : كقوله تعالى في سورة آل عمران حكاية على لسان زكريا عليه السلام :
{ قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ... (40)} ؟!
فهو يستغرب أن تحمل زوجته منه وهي عقيم ، وقد صارت عجوزاً وسبقها هو بالضعف وكبر السنّ .
والمعنى نفسه نجده في سورة مريم :
{ قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)} .
ونجد هذا المعنى في سورة الإسراء يرشدنا ربنا تبارك وتعالى إلى توقير الوالدين والرحمة بهما :
{ ... إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)}

5 ـ وتأتي الكلمة ـ بَلَغَ ـ بمعنى التحدي : مثال ذلك في قوله تعالى في سورة الإسراء منبهاً كل من تكبر وتجبر وتعالى على البشر :
{ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)}
فعلام هذه الغطرسة وهذا التفاخر الكاذب؟! ونجد ذلك في قوله سبحانه في سورة الرعد :
{ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)}
فإذا كانت الآلهة المزعومة لا تنفع غيرها بله أن تنفع نفسها فلم يعبدها هؤلاء المغفّلون ؟..
ونجد التهديد ظاهراً في الإنذار الدعوي في كثير من الآيات نذكر بعضها في قوله عز وجلّ في سورة آل عمران :
{ ... وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّـهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)} ، وفي سورة إبراهيم :
{ هَـٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ ... (52)} ، وفي سورة الشورى :
{ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ... (48)} ،
فمن لم يستجب للدعوة فقد أساء لنفسه ، وقد أعذر من أنذر .
ونجد ذلك واضحاً في قوله عز من قائل في سورة النساء يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدد الكافرين :
{ ... فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)} .
ونجد ذلك في التقرير الإلهي الذي يجزي المؤمن المتوكل عليه خير الجزاء ، في سورة الطلاق :
{ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّـهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّـهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} ،
ومن يقف أمام أمر الله وإرادته وقوته – سبحانه - ؟

6 ـ وتأتي بمعنى تمام الأمر وانتهائه : والتبليغ للدعوة يعني لإتمامها كما أمر ربنا ، وهذا نجده كثيراً في القرآن . من أمثلته قوله تعالى في سورة الأحزاب يمدح الرسل وحاملي الدعوة إلى الناس :
{ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّـهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّـهَ وَكَفَىٰ بِاللَّـهِ حَسِيبًا (39)} .
ومن أمثلة انتهاء الأمر الحديث عن عدة النساء ، مثاله قوله سبحانه في سورة البقرة :
{ ... وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ... (235)} ،
فإذا انتهت عدة الأرملة يبدأ نكاحها من رجل آخر ، ونرى هذا في الطلاق تحكيه بداية سورة الطلاق :
{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ... (2)} ،
أما أن يكون الأمر بيد الرجل كما يحب دون رابط ، يعذب زوجته بطلاق ثم إعادة إلى ما شاء فلا يجوز هذا الظلم في دين الله .
ونرى تمام الأمر وانتهاءه في حلق الرؤوس في الحج بعد بلوغ الهدي مكان الأضحية به ، يقول الله جلّ وعلا في سورة البقرة :
{ ... وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ... (196)} .

7 ـ وتأتي الكلمة بلغ بمعنى الوصول إلى الهدف : ففي قصة ذي القرنين في سورة الكهف نجده يبلغ مغرب الشمس ، ومطلعها ، وبين السدين . ونرى قبل هذه الآيات سيدنا موسى يصر على بلوغ مجمع البحرين ، وننبه أن البلوغ أمتن وأوثق من الوصول ، فالبلوغ يعني الثبات والامتزاج والرسوخ . أما الوصول فلا يعني ذلك ، والدليل على ذلك أن القرآن يستعمل البلوغ وليس الوصول كقوله تعالى في سورة الأحقاف :
{ ... بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)} ؟! " ولم يقل : وصول . وعلى ذلك فقِسْ .
وفرعون يريد أن يرى الله ، قالها ساخراً من موسى عليه السلام فأشار إلى وزيره هامان يقول له مستهزئاً بموسى :
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَى ... (37)} (غافر) ،
والأمثلة في هذا المعنى كثيرة في القرآن .

8 ـ وقد تعني الكلمةُ الخوفَ : ومثاله قوله تعالى في سورة الأحزاب يصف إحاطة المشركين واليهود بالمسلمين والخوف الذي تسرب بقوة بادئ الأمر إلى قلوب المسلمين :
{ ... وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّـهِ الظُّنُونَا (10)} ،
ولا تبلغ القلوب الحناجر إلا من شدة الخوف .

9 ـ وقد تعني كلمة ( بَلَغَ ) الأمنَ : في قوله تعالى في سورة التوبة يعلـّم المسلمين أن يبذلوا الجوار لمن يدعونه ، ثم يبلغوه مكاناً آمناً :
{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّـهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ... (6)} .

10 ـ وقد تأتي بمعنى الشورى غير الملزمة : فقد أمر الله تعالى إبراهيم في المنام أن يذبح ابنه ، فإبراهيم يخبر ولده بذلك ولا يستأمره ، وإن سأله { فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ } فهو يعتقد أن الولد شديد الإيمان ، وسوف يريح أباه حين يذعن لذلك . يقول له في سورة الصافات بعد أن { بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } : { يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ... (102)}
والحقيقة أن هذا الموقف صعب لا يرقى إليه إلا الخُلّصُ من الكرام ،وعلى هذا استحق إبراهيم عليه السلام أن يكون خليل الله.

11 ـ وقد تأتي كلمة { بَلَغَ } بمعنى النقص والإخلاف : نجد مثال ذلك في قوله تعالى في سورة المائدة حين يأمر الله تعالى نبيه الكريم أن يبلغ رسالته إلى البشرية :
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ... (67)}.
وقد بلّغ الحبيب المصطفى هذه الرسالة السماوية على أتم وجه وأكمل صورة فاستحق إكرام الله تعالى له صلى الله عليه وسلم وحشرنا في زمرته . ونرى النقص في قوله تعالى في سورة غافر :
{ ... إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ ... (56)} ،
فلم يصلوا هدفهم ، وخاب مسعاهم .

ولا شك أن في هذه الكلمة ومشتقاتها العديدَ مما قصر الفهم عن إدراكه

نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما يزيدنا علماً لنكون من أهل القرآن وحافظيه .

 
سلسلة كلمات في القرآن الكريم (21)

الدكتور عثمان قدري مكانسي​


{ الظَّن }

في القاموس المحيط : الظَّنُّ التَّرَدُّدُ الراجِحُ بين طَرَفَي الاعْتِقَادِ الغيرِ الجازِمِ ، جمعه: ظُنونٌ وأظانينُ، وقد يوضَعُ مَوْضِعَ العِلْمِ. والظِّنَّةُ، بالكسر التُّهَمَةُ جمعها ( تِهم) كعِنَبٍ. والظَّنينُ المُتَّهَمُ. وأظَنَّهُ اتَّهَمَهُ. وأظْنَنْتُه عَرَّضْتُهُ للتُّهَمَةِ.
وفي لسان العرب : الظَّنُّ : شك ويقين إلاَّ أَنه ليس بيقينِ عِيانٍ إنما هو يقينُ تَدَبُّرٍ فأَما يقين العِيَانِ فلا يقال فيه إلاَّ علم ، وفي الحديث : (إياكم والظَّنَّ فإنَّ الظَّنِّ أَكذبُ الحديث) ، أَراد الشكَّ يَعْرِضُ لك في الشيء فتحققه وتحكم به ، وقيل أَراد إياكم وسوء الظَّن وتحقيقَه دون مبادي الظُّنُون التي لا تُمْلَكُ، وخواطر القلوب التي لا تُدْفع . ومنه الحديث : (وإِذا ظَنَنْتَ فلا تُحَقِّقْ) ، قال وقد يجيء الظَّن بمعنى العلم وفي حديث أُسَيْد بن حُضَيْر " وظَنَنَّا أَنْ لم يَجُدْ عليهما " : أَي عَلِمْنا.

وفي آيات القرآن الكريم معان للظنّ دقيقة تجلّي كثيراً من جليل اللَّفتات البيانية الرائعة ، منها :

1- الاعتقاد التام :
مثاله في قوله تعالى في سورة الأنبياء يصور ما فعله يونس عليه السلام حين أنذر قومه ثلاثاً :
{ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ... (87)} ،
ومضى مغاضباً لِقَوْمِهِ ، فاعتقد أن الله سبحانه لن يضَيِّق عَلَيْهِ فِي بَطْن الْحُوت . وهذا من جليل الإيمان بحفظ الله تعالى له .
ومثله : قصة داوود عليه السلام في سورة (ص) :
{ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)} ،
وذلك حين جاءته الملائكة بأمر ربهم يختبرونه في طريقة الحكم بين المتخاصمين ، فحكم للأول دون أن يستمع لحجة الخصم الثاني ، وكان رئيسهم قد وصّاه بالحكم السديد ، فلا يشطط ، قال عز وجلّ :
{ ... وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)} .
فعلم أنه أخطأ ، فسجد لله يستغفره ويُنيب إليه سبحانه .
ومثاله - في سورة الأعراف - رفعُ الجبل فوق اليهود تهديداً لهم أن الجبل سوف يسقط عليهم لو أنهم لم يمتثلوا أمر نبيهم ، ورأوا الموت بأعينهم :
{ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ ... (171)} ،
فالظن هنا يقين واعتقاد ، فقد كان الجبل فوقهم والموت ماثلاً أمامهم . ويوم القيامة يكون الظن يقيناً ، فالمجرمون يقفون أمام النار التي كذّبوا بها في الدنيا ، وسوف يُطرحون فيها حتماً لا شك فيه .
يقول الله تقدست أسماؤه في سورة الكهف :
{ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)} .
وهذا الرجل المؤمن يحمل كتابه بيمينه يوم القيامة فرحاً مسروراً ، ويعلن على الملأ أنه كان مؤمناً باليوم الآخر ، وأنه أعد نفسه في الدنيا لهذا اليوم ، قال جل ثناؤه في سورة الحاقة :
{ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)} ،
فكان الثواب رائعاً : إنه النجاة من النار ودخول الجنة ، والخلود فيها كما قال جل وعلا :
{ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)} .
والأمثلة كثيرة في هذا المعنى تتوارد باطّراد واضح .

2 - الاعتقاد الخاطئ :
ونقصد بذلك أن الكثير يعتقدون أمراً ما وينافحون عنه ، وهو غير ذلك . مثاله في القرآن كثير ،
من ذلك قوله تعالى في سورة فصّلت حين يشهد على الكافر سمعه وبصره وجلدُه :
{ وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ (23)} ،
فهم يعتقدون غير الحقيقة ، فوقعوا في شر اعتقادهم وسوء تقديرهم .
ومثاله كذلك في سورة يونس ينعى على الكافرين سوء اعتقادهم الذي لا ينفعهم حين يجِد الجِد،قال سبحانه :
{ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ... (36)}
ثم نرى الويل والثبور وعظائم الأمور في سورة (ص) - في تهديد القرآن للذين يعتقدون أن الحياة وُجدت دون هدف – فالنار مأوى من يعتقد ذلك ، قال عز وجلّ :
{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)} ،
ونرى الاعتقاد الناقص الخاطئ – في سورة القصص - يُردي صاحبه الهلاك فهذا فرعون وجنوده استكبروا وظنوا الدنيا نهاية المطاف ، فأغرقهم الله تعالى في الدنيا ولهم في الآخرة النار مدحورين فيها أذلاء ملعونين :
{ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)} .
ونرى القرآن – في سورة الفتح - يخاطب المنافقين الذين اعتقدوا أن المسلمين بقيادة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لن يعودوا إلى المدينة حين انطلقوا إلى مكة ليعتمروا ، وأن مشركي قريش سوف يبيدونهم ،فكان ظنهم سيئاً واعتقادهم مخطئاً ، نجد توبيخ القرآن لهؤلاء الذين رغبوا أن ينال السوءُ رسولَ الله والمسلمين ووصفهم بالهالكين البائرين :
{ بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)} .
وعودة إلى القرآن الكريم ترينا الكثير من هذا الظن ذي العاقبة الرديئة المخزية .

3 - تقدير الشيء :
وقد يكون الظن بمعنى التقدير والتفكير . مثال ذلك في سورة النور حين حض القرآن المسلمين - في فرية ابن سلول التي أطلقها على السيدة عائشة وعلى الصحابي الجليل صفوان بن المعطل إذ نفاها وبرّأهما من الفرية – على محاكمة ما يسمعونه ، هل يرضون تلك التهمة لأنفسهم ؟
وهل يمكن للطاهرة زوج أطهر الخلق أن تقع في المحظور الذي يأباه كل ذي خلق ودين ؟ قال تعالى :
{ لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَـٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ (12)} .
ونرى هذا المعنى في مراجعة الرجل مطلقته ، أو من أرادا الطلاق لمشاكل حدثت بين الزوجين ، ثم استدركا أمرهما بعد تفكير وتمحيص ، فرأيا أن عودة أحدهما إلى الآخر خير لهما ، يقول الله سبحانه في سورة البقرة :
{ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّـهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)} ،
ونرى الفكرة نفسها في قول يوسف عليه السلام ، قال عز وجل في سورة يوسف :
{ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ ... (42)} ،
فعلى الرغم أنه عليه السلام أوتي التأويل فإنه ليس يقيناً ، فلا يعلم الغيب إلا الله تعالى ، هذا إذا اعتبرنا الأمر فراسة وتفكراً وحسن تقدير للأمور وهبَهُ الله ُتعالى إياها ، أما إذا كانت من باب الوحي والإلهام فإنها تندرج تحت باب الاعتقاد التام – والله أعلم .

4 - قد يكون الظن شكاً :
وله أمثلة عديدة منها قوله تعالى في سورة الجاثية على لسان الكفار للمؤمنين في اليوم الآخر والجنة والنار:
{ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)} ،
قالوها على سبيل الشك والتوهّم ، وأنه لا يصدقون .
أما في سورة آل عمران في الحديث عن غزوة أحد فالقرآن يصف حال المنافقين الخائفين من القتال :
{ ... يَظُنُّونَ بِاللَّـهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ... (154)} .
روى أنس أَنَّ أَبَا طَلْحَة قَالَ : غَشِيَنَا النُّعَاس وَنَحْنُ فِي مَصَافّنَا يَوْم أُحُد ، فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُط مِنْ يَدِي وَآخُذهُ ،وَيَسْقُط وَآخُذهُ وَالطَّائِفَة الأخرى الْمُنَافِقُونَ لَيْسَ لَهُمْ هَمّ إِلا أَنْفُسهمْ ، أَجْبَن قَوْم وَأَرْعَبهُ وَأَخْذَله لِلْحَقِّ ، إِنَّمَا هُمْ أَهْل شَكّ وَرَيْب فِي اللَّه عَزَّ وَجَلَّ هَكَذَا :
وَهُوَ كَمَا قَالَ اللَّه فَإِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول :
{ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْد الْغَمّ أَمَنَة نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَة مِنْكُمْ ... (154)} ،
يَعْنِي أَهْل الإيمَان وَالْيَقِين وَالثَّبَات وَالتَّوَكُّل الصَّادِق وَهُمْ الْجَازِمُونَ بِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ سَيَنْصُرُ رَسُوله وَيُنْجِز لَهُ مَأْمُوله وَلِهَذَا قَالَ :
{ ... وَطَائِفَة قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسهمْ ... (154)} ،
يَعْنِي لا يَغْشَاهُمْ النُّعَاس مِنْ الْقَلِق وَالْجَزَع وَالْخَوْف يظنون بالله ما لا ينبغي .
وأكثر أهل الأرض يحيون حياة الشك ويرضون بالوهم عن الحق هذا ما يذكره جلّ وعلا مخاطباً النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في سورة الأنعام :
{ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ (116)} .
ومن عاش حياة الوهم ازداد ضلاله ، وكثر افتراؤه .

5 - وقد يكون الظن بمعنى العلم :
ففي سورة يوسف عليه السلام يَذْكُر تَعَالَى أَنَّ نَصْره يَنْزِل عَلَى رُسُله صَلَوَات اللَّه وسلامه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ عِنْد ضِيق الْحَال وَانْتِظَار الْفَرَج مِنْ اللَّه فِي أَحْوَج الأوقات :
{ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)} ،
قال المفسرون وعلى رأسهم عائشة رضي الله عنها : إن الرسل حين علموا أَنَّ قَوْمهمْ كَذَّبُوهُمْ ، واِسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ لمّا طَالَ عَلَيْهِمْ البلاء وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمْ النَّصْر جَاءَهُمْ نَصْر اللَّه .

6 - ويكون الظن بمعنى الأمر الذي لا أصل له : مثال ذلك قوله تعالى في سورة النجم :
{ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ } وأردفها بالأصل والعلم اليقين في قوله سبحانه :
{ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ (23)} ،
فما تهوى أنفسهم باطل لا يرتكز على حق ، وما كان من الله ركن ركين .
ومثاله كذلك في سورة النجم نفسها قولُه عز وجلّ :
{ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالآخرة لَيُسَمُّونَ الملائكةَ تَسْمِيَةَ الأنثى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)} ،
فمن قال لهم إن الملائكة إناث ؟ وهل رأوا ذلك ؟ أم إنهم يخرصون ويدّعون .
وقد قال جل ثناؤه في سورة الزخرف :
{ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَـٰنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْۚ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)} .
وتأمل معي في هذه الآية كـُلاً من : الَّذِينَ ، هُمْ ، عِبَادُ ، الضمير في: خَلْقَهُمْ ، وكلها للمذكر ، فكيف يجعلون الملائكة إناثاً ، والملائكة خلق لا ينطبق عليهم ذلك ؟! سبحان الله .​
 
سلسلة كلمات في القرآن الكريم (22)

الدكتور عثمان قدري مكانسي​


{ يَوْم } ( التصويرية )

ودورها في الغالب الأعمّ نقل المشهد الذي سيحدث في المستقبل إلى الحاضر ، فينتصب حياً أمام الرائي نابضاً بالحياة ، يسمعه ويراه ، ويتقرّاه ويلمسه . وقد ذكر في القرآن الكريم عشرات المرات ، يتبعه الفعل المضارع ( جملة المضاف إليها ) بأحد نوعيه ؛ المبنيّ للمعلوم أو المبنيّ للمجهول . من ذلك :

قوله تعالى في سورة النازعات يصف النفختين فنسمعهما ونحسّهما كأن الأمر أمامنا يعرض فلماً سينمائياً : { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)} ، فإذا الأرض تهتز في زلزالها الكبير فتستوي جبالها بوديانها كما قال سبحانه في سورة الزلزلة : { إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)} ويتحقق قول الله عز وجلّ في سورة طه : { لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)}،ثم تأتي الرجفة الثانية في النفخة الثانية،فيأتي الناس أفواجاً كما في قوله تبارك وتعالى في سورة القمر :
{ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)} .

وقوله جل ثناؤه في سورة النبأ يصف حال البشر يسمعون نفخة الصور الثانية ، فينطلقون نحو مصدر الصوت مستجيبين : { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18)} لا يريم أحدهم ولا يتأخر عن الإجابة ، ولا يلوون على شيء .

وقوله تقدست أسماؤه في سورة عبس يصف حال الفزع بين الناس حيث يطلب كل منهم لنفسه فقط الخلاص والنجاة في هذا اليوم المخيف الذي لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها : { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)} .
ويود الكافر لو افتدى نفسه بأحب الناس إليه جميعاً النار فهلكوا فيها لينجوَ وحده من العذاب الشديد قال عز من قائل في سورة المعارج :
{ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ (15)} .

وقوله جل وعلا في سورة المرسلات يصف الأمم بين يديه ساكتة لا يتكلم أحد منهم إلا بإذنه ولن يُقبل اعتذارُ من أساء في كفره واستكباره وإنكاره وجحوده ، إن ذلك اليوم الرهيب يومُ حسابٍ لا يومُ عمل :
{ هَـٰذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (37)} ،
وتصورهم مبلسين خائفين ينظرون إلى النار – مصيرهم الخالد – من طرْف خفيّ ، نعوذ بالله من هذا المصير البئيس.

وقوله تعالى في سورة النبأ يصف جلال الموقف بين يديه سبحانه ، فالملائكة الكرام الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون يمثلون أمامه دون حركة أو قول ينتظرون أمره سبحانه خائفين من هذا اليوم العظيم وَجـِلين لا يتكلمون إلا بإذنه جل شأنه وعظُم سلطانُه :
{ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)} .

وقوله سبحانه في سورة الحديد في المؤمنين الموحّدين يكرمهم ، وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يهبهم الله نوراً يسعدون به في ظلمة ذلك اليوم المكفهِرّ يمضي معهم حيث ساروا، ويحاول المنافقون وأضرابهم أن يتابعوهم ليقتبسوا من أنوارهم ، فيُمنعون ، ويُفصل بينهم فيعيش أولئك في ظلمات النفاق والعصيان :
{ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ ... (13)} .

ومتابعة لكلمة يوم مضافة إلى الفعل المضارع يرينا صور المستقبل بيّنة صافية تجعلنا نحيط بالموقف إحاطة واضحة لا لبس فيها .​


 
التعديل الأخير:

سلسلة كلمات في القرآن الكريم (23)

الدكتور عثمان قدري مكانسي​


{ إِذْ } ( التصويرية )*

{ إِذْ } (التصويرية) التي تنقل المشهد الذي حدث في الماضي إلى الحاضر فإذا به أمامنا نراه ونسمعه ونعيشه وكأنه يحصل بيننا الآن يتبعه الفعل الماضي ( جملة المضاف إليها ) ،من ذلك :

* قوله تعالى في سورة البقرة يصور لنا الحوار الذي دار بينه سبحانه وبين ملائكته في خلق أبينا آدم عليه السلام :
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} .
فقد رأوا – في رواية من قال إن خلقاً في الأرض كانوا قبل آدم - أن أولئك اقتتلوا وأفسدوا ، فأهلكهم الله وأن هذا المخلوق الجديد – آدم – قد يكون مثل سابقيه سوءاً وفساداً ، فتعجبوا أن يتكرر ذلك الأمر في الأرض بآدم وذرّيته .. فكان هذا الحوار...

* وقوله سبحانه يأمر الملائكة أن يسجدوا لآدم سجود طاعة لله وتكريماً لآدم بتكريم الله له (كما في قوله في سورة الإسراء) :
{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)}،
فإذا بنا نرى بأعين قلوبنا الملائكة تسجد لأبينا بأمر الله وفضله : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ... }،(التي تكررت في سور البقرة والإسراء والكهف وطه) ،
فما علينا إلا أن نحافظ على هذا التكريم بطاعة الله سبحانه والتزام أوامره والانتهاء عن نواهيه .

* وقوله جل وعلا في سورة البقرة يعدد فضله على بني إسرائيل في نجاتهم من فرعون وقومه ، فأخرجهم من مصر إلى بلاد فلسطين المباركة ، وجعل في البحر نجاتهم وفيه هلاك فرعون وجنده ، فكان البحر منجّياً ومهلكاً بآن واحد . ورأوا مصارعهم دون أن يكلفهم قتالهم كما أن الله عز وجل أراد كرامتهم حين سمح بفضله أن يكونوا مع موسى عليه السلام إذ يكلمه ، فأشركوا قبل هذا التكريم واتخذوا العجل إلهاً ، بل إنهم طلبوا أن يروا ربهم جهاراً نهاراً فصعقهم الله تعالى عقوبة لتجرئهم على طلب ما ليس لهم ولا يستطيعونه ، وكان من فضل الله تعالى عليهم أن أنزل على موسى التوراة لتكون لبني إسرائيل نبراساً ....
وقد أخذتنا { إذْ } والفعل الماضي بعدها إلى الماضي البعيد أو قرّبتْ هذا الماضي فتصورناه أمامنا بكل تفاصيله وصُوَرِه رأيَ العين :
{ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ .... (49)}
{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (50)}
{ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ (51)}
{ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)}
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ ... (54)}
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّـهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (55)}

ولو تابعنا إذ والفعل معها في آيات القرآن الكريم لوجدناها تربو على العشرات مصوّرة وموضحة ، تضع المنظر أمامنا بكل أبعاده الحركية والصوتية .

* بتصرف بسيط جدا

 
التعديل الأخير:
سلسلة كلمات في القرآن الكريم (24)

الدكتور عثمان قدري مكانسي​


{ وَرَاء }

وردت كلمة { وَرَاَء } بمشتقاتها في القرآن الكريم أربعاً وعشرين مرة ، فما المقصود بكلمة وراء؟

قال ابن منظور في لسان العرب:
وراء : (خَلفَ). قاله لبيد وابن السكِّيت. ولكنْ إذا كان مما تَمُرُّ عليه فهو (قُدّام) كذلك. قال تعالى:
{ مِن وَرائِه جَهَنَّمُ ... (16)} (إبراهيم) أَي بين يديه.
وقال الزجاج: ورَاءُ يكونُ لخَلْفٍ ولقُدّامٍ ومعناها ما تَوارَى عنك فاسْتَتَر. قال: وليس من الاضداد كما زَعَم بعضُ أَهل اللغة، وأَمّا أَمام فلا يكون إِلاَّ قُدَّامَ أَبداً . وقال عز وجلّ :
{ ... وكان وَراءَهُم مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينةٍ غَصْباً (79)} (الكهف) ،
قال ابن عبَّاس، رضي اللّه عنهما : كان أَمامهم . وقال لبيد بهذا المعنى:
أَلَيْسَ وَرائي، إِنْ تَراخَتْ مَنِيَّتي * لُزُومُ العصَا تُحْنَى عليها الأَصابِعُ​
وقال الفرَّاءُ: لا يجوزُ أَن يقال لرجل ورَاءَكَ: هو بين يَدَيْكَ، ولا لرجل بينَ يدَيْكَ: هو وَراءَكَ، إِنما يجوز ذلك في الـمَواقِيتِ من الليَّالي والأَيَّام والدَّهْرِ. تقول: وَراءَكَ بَرْدٌ شَدِيدٌ، وبين يديك بَرْد شديد، لأَنك أَنـْتَ وَرَاءَه، فجاز لأَنه شيءٌ يأْتي، فكأَنه إِذا لَحِقَك صار مِن وَرائِكَ، وكأَنه إِذا بَلَغْتَه كان بين يديك، فلذلك جاز الوَجْهانِ. من ذلك قوله، عز وجل: { وكان وَرَاءَهُم مَلِكٌ }، أَي أَمامَهمْ.
ملاحظة :
قال أَبو الهيثم: الوَرَاءُ، مـمدود: الخَلْفُ، ويكون الأَمامَ. . وكذلك قوله سبحانه: { من وَرائِه جَهَنَّمْ } فهي بين يديه.قال اللحياني: وراءُ مُؤَنَّثة، وإِن ذُكِّرت جاز، قال سيبويه: وقالوا وَراءَكَ إِذا قلت انْظُرْ لِما خَلْفَكَ.
قال ساعِدةُ بن جُؤَيَّةَ:
حَتَّى يُقالَ وَراءَ الدَّارِ مُنْتَبِذاً * قُمْ، لا أَبا لَكَ، سارَ النَّاسُ، فاحْتَزِمِ​
وقال الأَصمعي:
قال ورَاءَ الدَّارِ لأَنه مُلْقىً، لا يُحْتاجُ إِليه ، مُتَنَحٍّ مع النساءِ من الكِبَرِ والهَرَمِ

من معاني الفعل (ورأ) الذي اشتُقَّ منه الظرفُ { وَرَاء } :
الدفع: تقول : وَرَأْتُ الرَّجلَ: دَفَعْتُه.
وَرَأَ زيدٌ من الطَّعام : امْتَلأَ.
والوَراءُ : الضَّخْمُ الغَلِيظُ الأَلواحِ، قاله الفارسي.

من معاني { وَرَاء } في القرآن الكريم:

ـ الأمام : ولكنّ الأمامَ البعيد لا يُرى فكأنه وراءُ ، قال تعالى :
{ ... وكان وَراءَهُم مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينةٍ غَصْباً (79)} (الكهف) ،
وأقول: إن الحاكم أو الملك حين يطغى فيظلم ويسلب وينهب ،وكان عليه أن يكون رحيماً بالرعية وأبا حنوناً وأخا شفيقاً ، هذا الحاكم لا يستحق أن يكون في الأمام، إنَّ ظُلمَه يجعله خلف الناس جميعاً .

ـ التخلي والاستبدال : قال سبحانه :
{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّـهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّـهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)} (البقرة) ،
تخلّوا عنه وتمسكوا بما تمليه الشياطين عليهم.ومثاله كذلك قوله عز وجل :
{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّـهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ... (187)}(آل عمران)

ـ والوراءُ ولَدُ الوَلَدِ، وفي التنزيل العزيز :
{ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)} (هود) .
قال الشعبي: الوَراءُ: ولَدُ الوَلَدِ.

ـ ما عدا ذلك : قال جل ثناؤه : { فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } (الآية (7) في المؤمنون ، و الآية (31) في المعارج) ،
قال ابن الأَعرابي في قوله، عز وجل :
{ وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ ... (91)} (البقرة) أَي بما سِواه. وهو (الإسلام).

ـ أو تدل على الحل بعد التحريم : كقوله جلّ وعلا :
{ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ... (24)} (النساء) ، وقوله تقدست أسماؤه :
{ فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } (7)} (المؤمنون) ،
فحرم الزنا والاتصال المحرم

ـ وقد تأتي بمعنى المكان نفسه ، وهذا أصل ما جاءت له : كقوله تعالى :
{ ... فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ ... (102)} (النساء) ،

ـ الموت : كقوله عز من قائل على لسان زكريا عليه السلام :
{ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا ... (5)}(مريم) ،
خاف إن مات أن تنقطع الدعوة إلى الله بعده فهو يريد ذرية صالحة تحمل عبء الدعوة بعده.

ـ الإحاطة : قال تعالى :
{ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّـهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ (20)} (البروج) ،
وهي القدرة والإحكام وبسط السيطرة.

ـ التهديد والتوبيخ والوعيد : كقوله سبحانه :
{ مِّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئًا ... (10)} (الجاثية)،
وكذلك في قوله عز وجلّ :
{ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11)} (الانشقاق) .

ـ وقد تأتي بمعنى الغيب : قال جل ثناؤه :
{ ... وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)} (المؤمنون) ،وكقوله جل وعلا :
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّـهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا ... (51)} (الشورى)

ـ وقد تأتي بمعنى التيئيس : كقوله تقدست أسماؤه عن المنافقين يوم القيامة :
{ ... قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا ... (13)} (الحديد) .
وليس لهم يوم القيامة نور ،لقد طمسوه في الحياة الدنيا .

ـ وقد تأتي بمعنى الستر والحجاب : في قوله عز من قائل :
{ ... وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ... (53)} (الأحزاب) .
وهذه دعوة إلى الحياء والأدب وصون المرأة.

ـ الرعونة والاستعجال غير المبرر : قال تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)} (الحجرات)،

ـ وقد تأتي بمعنى فجاءة الموت السريعة : قال سبحانه :
( ... وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ... (94)} (الأنعام).​
 
التعديل الأخير:
عودة
أعلى