بعد اندلاع الحرب العالمية في آب 1914 بفترة وجيزة، طلبت مجموعة من كبار الأثرياء من أحد المهندسين، أن يحول أحد القصور القديمة إلي ناد خاص.. وقد أصر هؤلاء الأثرياء على حفظ أسمائهم طيّ الكتمان، لأنّهم يريدون التعبير عن عميق امتنانهم وشكرهم، للضباط الذين يعرّضون حياتهم للخطر في سبيل الوطن.. وقد قام هذا النادي بتوفير كل وسائل الترفية والتسلية والمتعة.. كان استعمال النادي مقتصرا علي ضباط الخدمة، عندما يعودون من الجبهة لتمضية إجازاتهم في لندن.. أما الأعضاء الجدد، فكان يجري تقديمهم إلي النادي عن طريق أحد الأخوة الضباط، وتجري مقابلة بين الضيوف وأحد المسئولين.. فإذا اقتنع هذا بأنه يمكن الوثوق بهم، أخبرهم كيف يجري العمل في النادي.. لذلك كان علي الضابط المتقدم للدخول أن يعد بشرفة أن لا يذكر اسم أي شخص قابلة خلال مكوثه في النادي أو بعد خروجه.. ثم يُشرح لهذا الضيف كيف أنه سيقابل مجموعة من أشهر سيدات المجتمع في لندن وهن مقنّعات، فعليه أن لا يحاول معرفة شخصية أي منهن.. وإذا حدث بالمصادفة أن تعرّف علي إحداهن، فوعده يشمل المحافظة علي سرّهن.
وبعد انتهاء هذه الخطوات الأولية، يؤخذ الضابط إلي غرفته الخاصة التي فرشت علي أفخم طراز.. وكان يطلب من الضيف أن يعتبر بنفسه في منزله، ويعلم بأنه ستزوره سيدة ترتدي قلادة عنق كتب عليها رقم غرفته.. فإذا أحب بعد أن يتم التعرف عليها أن يصحبها إلي غرفة الطعام، فهذا يعود إليه وله كامل الحرية.
وحدث في شهر تشرين الثاني من عام 1916، أن وصلت رسالة إلي أحد الشخصيات السياسية الهامة، تطلب منه القدوم إلي النادي لتلقي معلومات علي غاية من الأهمية، فقدم بسيارته الخاصة وطلب من سائقه الانتظار، ثم دلف إلى الداخل، حيث اصطحبه المسئولون إلي مخدع وثير ثم تركوه منفردا.. ولم يلبث أن دلفت إلي المخدع امرأة شابة، ما أن شاهدته حتى كاد أن يغمي عليها، فقد كانت زوجته، وهي تصغره بسنوات عديدة، وتقوم بعملها كمضيفة للضباط في إجازاتهم منذ وقت ليس بالقصير!!.. ولقد كان الموقف حرجا بالفعل، فالزوجة لا تعلم شيئا من المخطط الذي جمعهما، وليس لديها أية معلومات سرية لتفشيها، وقد كانت مقتنعة أن المصادفة السيئة هي التي أدت للقائهما وجها لوجه.. وعرف الزوج عن دور المضيفة التي تقوم به في النادي، ولكن شفته لم تتحرك وكأنها ميتة، فهو عضو في الحكومة ولا يمكن أن يتحمل الفضيحة!
كان كل عضو في النادي ـ رجلا أو امرأة ـ جاسوسا علي الآخرين، ينقل أخبارهم إلي رؤسائه، فتتكون من الإخباريات معلومات، كانت تطبع وتسجّل فيما يسمي "الكتاب الأسود".. فيذكر في هذا الكتاب عيوب ونواقص الأفراد، ورذائلهم الخاصة ونقاط ضعفهم.. كما تذكر أوضاعهم المالية وأحوالهم العائلية، ومدي تعلقهم بأقربائهم وأصدقائهم.. كما تدون صلاتهم وتأثيراتهم علي كل من رجال السياسة المرموقين ورجال الصناعة ورجال الدين.
وفي تشرين الثاني من عام 1916، حاول أحد أعضاء البرلمان الإنكليزي أن يفضح أمر "النادي الزجاجي"، وأن يبين حقيقته، فقد شكا ثلاثة من الضباط بأن النادي يحاول ابتزاز المعلومات منهم بعد أن دخلوا في العضوية، وأن النادي هو مركز للجاسوسية ينقل المعلومات الهامة إلي العدو.. وقد اشترك أيضا في هذه المغامرة سيدة أسترالية وسائقها، والعديد من زوجات وبنات الرسميين في الحكومة.. ولكن هذه المحاولة لكشف حقيقة النادي آلت إلي الكتمان، فسياسة الحكومة كانت تميل إلي الاعتقاد بأن فضيحة بهذا الحجم قد تسبب كارثة وطنية، في وقت يواجه فيه الجيش ضربات بحرية وبرية وجوية قاسية.. عندئذ بدأت الصحافة (التحررية) تهاجم رئيس الوزراء، فاتهمته باستخدام غير الأكفاء في المناصب الحكومية، كما اتهم بأن له ارتباطات واسعة مع صناعيين وممولين ألمان في الفترة التي سبقت الحرب، وبأنه يميل إلي القيصر.. واتهم أيضا بأنه غير قادر علي اتخاذ التدابير الحازمة والقرارات المستعجلة.. واستعملت عبارة ”انتظر وستري اسكويت".
وقد أدّت فضائح تتعلق بارتباط بعض الرسميين ذوي المناصب العليا بالنادي الزجاجي، إلى استقالة الحكومة.. وبهذا تكون الإمبراطورية البريطانية قد اضطرت بالقوة إلي تغيير الفرسان السياسيين في منتصف الحرب الكبرى.. ولما استقال السيد اسكويت في كانون الأول 1916، تلته وزارة ائتلافية يرأسها دافيد لويد جورج.. أما وينستون تشر شل وبلفور فكانا من أبرز أعضائها.
وقد علمت من السجلات الرسمية أن الضباط الثلاثة الذين قدّموا الشكوى بخصوص النادي الزجاجيّ، قد "قتلوا أثناء العمليات في الحرب"، وهذا شيء معقول في أيام الحرب.. بعد ذلك علمت أنّ السيدة الأسترالية وسائقها قد ألقي القبض عليهما بحجة الدفاع عن المملكة.. ثم أعلن أن العضو المذكور في فضيحة البرلمان قد اعتزل الحياة العامة.. وبعد أسابيع قليلة نقلت من منصبي في المخابرات الملكية، وعيّنت كضابط بحريّ في سلاح الغواصات البريطاني.. ولقد خسرنا 33% من ضباطنا ورجالنا، وكنت أنا من الذين قدّر لهم أن يبقوا علي قيد الحياة.
***
هذا ولم اكتشف مدي الأهمية السياسة الصهيونية بالنسبة للذين يخططون السيطرة الكاملة علي اقتصاديات العالم، إلا بعد مدة طويلة من الحرب، وبعد أن بدأت بنفسي دراسة التاريخ المعاصر والأديان المقارنة.. والأحداث التالية تتكلم عن نفسها:
عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، كان اسكويت رئيسا للوزراء، وكان معاديا للصهيونية.. فقرر الممولون الدوليون إزاحة حكومة اسكويت، وإحلال حكومة ائتلافية مكانها، علي أن يكون للويد جورج ووينستون تشرشل عمل كبير فيها.. وكان دافيد لويد جورج محاميا عن الحركة الصهيونية، التي خططت لها ومولتها عائلة روتشيلد.. أما وينستون تشرشل فكان مؤازرا للصهيونية السياسية منذ دخوله إلي المعترك السياسي.
***
في عام 1917 كان الممولون الدوليون يمدون في نفس الوقت الحركتين البلشفية والنازية.. وقد يبدو من غير المعقول أن يبقي المجلس النيابي البريطاني دون علم بما يجري حوله، خصوصا بعد أن وجدت الحكومة نفسها مضطرة للتدخل لإخلاء سبيل تروتسكي ورفاقة الثوريين، بعد أن ألقي القبض عليهم في هاليفكس، بينما كانوا في طريقهم من نيويورك إلي روسيا.
أما بالنسبة لسياسة بريطانيا عام 1916 تجاه روسيا، فان المبرر الوحيد لها، هو إن الحكومة البريطانية كانت تعلم أن المساعدة المالية والعسكرية لن تقدم من قبل أميركا، حتى تسقط الحكومة الروسية.. وقد يبدو هذا التحليل سخيفا ولكن الحقائق التالية تؤكده:
بدأت الثورة الروسية في شباط 1917 وعزل القيصر في الخامس من آذار نفس العام.. مباشرة بعد ذلك، رفع يعقوب شيف الشريك في مؤسسة كوهن ـ لوب في نيويورك، القيود المالية المفروضة علي الحلفاء، وأمر ابنه مورتيمر بإرسال برقية إلي السير ارنست كاسل تقول: "بسبب الأعمال الأخيرة التي تقوم في ألمانيا، والتطورات في روسيا، لن نستمر في حظر الأموال عن حكومات الحلفاء".
وفي الخامس من نيسان من نفس العام، أعلنت الحكومة البريطانية عن إرسال أرثر جيمس بلفور وزير خارجيتها إلي الولايات المتحدة، للاتصال بممثلي المصارف الأميركية، وإبلاغهم رسميا بأن الحكومة البريطانية ستتبنى مشاريعهم المتعلقة بالصهيونية، مقابل تعهدهم بإدخال أميركا إلي جانب الحلفاء.. وهكذا دخلت أميركا الحرب، وهبطت الكتائب الأمريكية الأولي في فرنسا في السابع من حزيران 1917.. وفي 18 تموز كتب اللورد روتشيلد إلي السيد بلفور ما يلي:
"عزيزي السيد بلفور.. أخيرا أصبح بإمكاني أن أرسل لك الصيغة التي طلبتها، فإذا تلقيت ردا إيجابيا من حكومة صاحب الجلالة ومنكم شخصيا، فسأقوم بإبلاغ ذلك إلي "الاتحاد الصهيوني" في اجتماع خاص، سوف يدعي إليه لهذا الغرض خصيصا".
وجاء في النسخة الأولية للنص ما يلي:
1. تقبل حكومة صاحب الجلالة بمبدأ وجوب إعادة تأسيس فلسطين كوطن قومي لليهود.
2. سوف تبذل حكومة صاحب الجلالة كل طاقتها لتأمين الوصول إلي هذا الهدف، وسوف نتناقش فيما يتعلق بالطرق والوسائل التي يتطلبها تحقيق هذا الهدف مع المنظمة الصهيونية.
وهكذا خضعت الحكومة البريطانية ـ ممثلة بالمستر بلفور ـ دون قيد أو شرط، للشروط التي وضعها اللورد روتشيلد وزملاؤه زعماء المنظمة الصهيونية.. ويتبين لنا ارتباط هذه الحكومة بهؤلاء، من قبولها لطلباتهم الأخرى، ولاسيما طلب تعيين اللورد ريدينغ Reading رئيسا للبعثة الاقتصادية البريطانية في الولايات المتحدة، في حين أن اللورد ريدينغ هذا ليس سوي السير روفوس إسحاق، الذي اقترن اسمه بفضيحة فاركوني الشهيرة.. وقد تبني إقناع الحكومة البريطانية بتعيينه لهذا المنصب الحساس، اللورد روتشيلد ذاته، وزملاؤه من الزعماء الصهيونيين السير هربرت صاموئيل (الذي أصبح فيما بعد، أول مندوب سام لبريطانيا في فلسطين)، والسير ألفرد موند (الذي منح أيضا لقب لورد فيما بعد).
وقد أجري اللورد ريدينغ محادثات مالية هامة مع الحكومة الأميركية، لم نتمكن من كشف سرها.. ولكن كان من نتائجها إعادة تنظيم بنك إنجلترا علي أسس جديدة بعد عام 1919، ونشوء بعض الارتباطات المالية الخفية.. وننقل فيما يلي فقرات من رسالة أرسلها (يعقوب شيف) إلي أحد الزعماء الصهيونيين المدعو (فريد مان) في شهر أيلول 1917: "إنني أعتقد الآن جازما، أنه أصبح أمرا ممكن التحقيق، مساعدة بريطانيا وأميركا وفرنسا لنا في كل الظروف، للبدء بهجرة مستمرة واسعة النطاق لشعبنا إلي فلسطين، ليستقر فيها.. وسيكون من الممكن فيما بعد الحصول علي ضمان من الدول الكبرى لاستقلال شعبنا.. وذلك حينما يبلغ عددنا في فلسطين مقدارا كافيا لتبرير مثل هذا الطلب".
***
وهناك رسالة أخري تحمل ما هو أخطر من ذلك.. ففي 26 أيلول 1917، كتب لويس مارشال الممثل لمؤسسة كوهن ـ لوب، إلي صديق صهيونيّ له يدعي ماكس سينيور: "لقد أخبرني الماجور ليونيل دي روتشيلد من التنظيم اليهودي البريطاني، أن وعد بلفور وقبول الدول الكبرى به، لهو عمل ديبلوماسي من أعلي الدرجات.. والصهيونية ما هي إلا عمل مؤقت من خطة بعيدة المدى، وما هي إلا مشجب مريح يعلق عليه السلاح الأقوى.. وسنبرهن للقوي المعادية أن احتجاجاتها ستذهب هباء، وستعرض أصحابها إلي ضغوط كريهة وصعبة".
وما الخطة بعيدة المدى المذكورة في هذه الرسالة، إلا إشارة إلى أن الممولين الدوليين ينوون السيطرة التامة علي اقتصاديات العالم، وعلي جميع المصادر الطبيعية والقوي البشرية في الكون بأسره.
***
في يوم 28 كانون الثاني 1915 دوّن رئيس الوزراء الإنكليزي المستر اسكويت، الفقرات التالية في سجّله اليومي: "تلقيت للتو من هربرت صاموئيل، مذكرة بعنوان "مستقبل فلسطين".. وهو يظن أننا نستطيع إسكان ثلاثة أو أربعة ملايين من اليهود الأوروبيين في ذلك البلد، وقد بدت لي فكرته هذه كنسخة جديدة من أقاصيص الحروب الصليبية.. وأعترف بنفوري من هذه المقترحات التي تضم مسؤوليات إضافية إلي مسؤولياتنا".
وتقدم لنا هذه العبارات، البرهان الكافي علي أن المستر اسكويت لم يكن ميالا إلي الصهيونية.. طبعا مصير اسكويت ووزارته تقررا منذ ذلك الحين.
***
كان الصهيونيون يسيطرون منذ أمد بعيد علي الصناعات الحربية في إنكلترا.. وعندما قررت المؤامرة محاربة نظام اسكويت المعادي للصهيونية، وجدت إنكلترا نفسها فجأة في وسط الحرب أمام أزمة شديدة في الصناعات الكيميائية، التي هي الأساس لصنع الذخائر الحربية والمتفجرات.. وامتدت الأزمة أيضا إلي مصانع المدافع، التي اضطرت لتقنين إنتاجها.. وألقي الشعب التبعة بالطبع علي عاتق الحكومة.
وكان المشرف علي الإنتاج الكيماوي في إنكلترا، السير فريدريك ناثان.. وقد عهد هذا إلي معامل برونر وموند بتلافي أزمة إنتاج المواد الكيماوية، ومنحها أرصدة حكومية ضخمة لهذا الغرض.. أما مالكا هذه المعامل ـ السيدان برونر وموند اليهوديان ـ فقد بنيا معملا كيماويا ضخما في سيلفر تاون.. وبالرغم من أنّه بني بأرصدة حكومية، إلا إنه حين بدأ إنتاجه، أخذت أجهزة الدعاية والصحافة التي يسيطر عليها المرابون الصهيونيون، تكبل آيات المديح جزافا لبرونر وموند، وتنسج هالات التمجيد المزيفة حولهما وحول الماليين اليهود، ناسبة لهم أنّهم يدعمون الإنتاج الحربي البريطاني، في وقت تحيط فيه الإخطار ببريطانيا.. وهكذا ظهر هؤلاء بمظهر المنفذين، وبقيت تبعة اللوم علي عاتق الحكومة.. بيد أن معمل سيلفرتاون لم يلبث أن انفجر فجأة، وقتل أكثر من أربعين شخصا في هذا الانفجار المدبر، وتهدم ثمانمائة منزل.. وكانت النتيجة أن الإنتاج الحربي الكيماوي ركد من جديد، وعادت الأزمة تهدد وزارة اسكويت.. وظل الأبطال المزيفون بمنجى من اللوم، يحيط بهم العطف والمديح.. ويجب أن نذكر أن السير الفرد موند المذكور، والذي كان يشرف علي العمل الكيماوي كمبعوث من قبل الملك، أصبح هو بعينه فيما بعد، رئيس الوكالة اليهودية في فلسطين!!
***
هذا، وقد كانت إنكلترا ملتزمة بمساعدة حليفتها روسيا، وتزويدها بالبنادق والذخائر.. فكان من نتائج هذا التقصير في صناعة الأسلحة والمواد الكيماوية، أن لاقي الجيش الروسي ضربات قاسية في الجبهة الشرقية، لأن الأسلحة والذخائر لم تصله.. وأعلنت الصحف أن الجنود الروس كانوا يحاربون بالعصي وبقبضات أيديهم، حتى يذبحوا أمام الجنود الألمان.. وفي رسالة كتبها البروفسير برتارد بارز Bernard pares ووجهها إلي لويد جورج، كلمات تظهر بوضوح أن الأسلحة والذخائر منعت عن روسيا القيصرية قصدا، وذلك لخلق أجواء مناسبة للثورة... تقول رسالة بارز التي كتبت عام 1915 "صار لزاما علي أن أنقل رأيي الأكيد بأن فشل السادة فيكر ـ ما كسم وشركائهما Vickers – Maxim في تزويد روسيا بالسلاح، الذي كان يجب أن يصل البلاد قبل خمسة أشهر، يعرقل العلاقات بين البلدين، وخصوصا تعاونهما في الحرب الحالية.. وقد بلغني بالتأكيد أنه لم تصل إلي روسيا أي مساعدة من أي نوع من إنكلترا".
وكان لويد وزيرا للمالية ومسئولا عن تمويل الحرب.. أما السادة فيكر ـ ما كسيم وشركاؤهما، فكانوا تحت راية السير أرنست كاسيل وكيل أعمال مؤسسة كوهن ـ لوب في نيويورك، والذي كان بدوره مرتبطا بعائلة روتشيلد والممولين الدوليين في إنكلترا وفرنسا وألمانيا.
ولنبين أن السادة فيكر ـ ماكسيم وشركائهما كانوا تحت تأثير مؤسسة كوهن ـ لوب في ذلك الوقت، ننقل قول بوريز برازيل: "في 4 شباط 1916، عقد الحزب الثوري الروسي في أميركا، اجتماعا في نيويورك، حضره 62 موفدا.. وقد كشف النقاب عن آن تقارير سرية وصلت الحزب من روسيا، تفيد بأن الوقت أصبح مناسبا.. وتم التأكيد للمجتمعين بأن مساعدات مالية كافية ستقدم من قبل أشخاص يتعاطفون مع قضية تحرير الشعب الروسي.. وفي هذا الخصوص ذكر اسم يعقوب شيف مرارا عديدة.. ويعقوب شيف هذا كان في ذلك الوقت عضوا كبيرا في مؤسسة كوهن ـ لوب في نيويورك.. وعلي وجه التقريب فان خمسين عضوا من الاثنين والستين الذين حضروا اجتماع شباط 1916 كانوا قد اشتركوا فعلا في الثورة الروسية عام 1905.. ومرة أخري كان عليهم أن يحرّضوا علي العمل الثوريّ، ولكن يعقوب شيف كان قد خطط أن يغتصب لينين ثمار النصر".
وعندما ناقش المجلس البرلماني رسالة بارز المذكورة والموجهة إلي لويد جورج، تقول الأخبار إن لويد جورج دافع عن سياسة حكومته، بأن "الصدقة والإحسان يجب أن يبدأ في البلد، لأن قواتنا البريطانية تقاتل في فرنسا، ولا تملك سوي أربع رشاشات لكل كتيبة.. ويجب قبل أن تصدر الأسلحة إلي روسيا، أن نسلح جنودنا نحن".. ويقال إن اللورد كتشنر أجاب لويد جورج بقوله: "أنا أعتبر أكثر من أربع رشاشات لكل فصيلة تبذيرا، عندما أري فشلنا في تزويد السلاح ـ الذي وعدنا به روسيا ـ قد نتج عنه وجود بندقية واحدة فقط مع كل ستة جنود روس".
وقد استغل المتآمرون العالميون هذه العبارة التي نطق بها كتشنر، وأمروا عملاءهم ليستعملوها في تشويه سمعته.. فانتشر في العالم كله، أن كتشنر يعتبران أكثر من أربع شاشات للكتيبة الواحدة، عمل تبذيري لا يحتاج إليه الجنود البريطانيون في حربهم في فرنسا.. وقد استمر هذا التشويه حتى أيامنا هذه، وظهر في "سيرة دافيد لويد جورج"، الذي صدر حديثا، كما ظهر في نفس السيرة منقحة في المجلة الأسبوعية "تورنتو ستار".. وقد أرسلت إلي محرر الجريدة المذكورة، الحقيقة المتعلقة بهذا الحدث التاريخي الهام، فأجاب معتبرا التصحيح الذي أطلبه منه عملا ديناميكيا صعبا لا يمكنه معالجته، وأخبرني أنّه نقل رسالتي إلي "الدايلي ستار".. وليس ضروريا أن أقول إن "الحقيقة" لم تنشر أبدا.
***
تقول موسوعة المعرفة اليهودية عن الصهيونية: "لقد أجبرت الحرب العالمية علي نقل مركز المنظمة الصهيونية من برلين إلي نيويورك.. ونقلت السلطة بأجمعها إلي لجنة الطوارئ الاحتياطية للصهيونية، برئاسة القاضي الأمريكي ل.د. برانديس Brandies".
ويقول يعقوب دي هاس في كتابه "لويس ديمبتز برانديس": "أما المكتب الصهيوني للهجرة، فإنه تشعب وامتد ليشمل جميع القطاعات الحربية التي احتلها الحلفاء، وشملت تركيا وسوريا وفلسطين والأردن وبغداد.. وبالواقع فان أي قرش واحد من الملايين التي استلمها المكتب لم تذهب سدى.. وابتدأت باستعمال مكاتب الشؤون الخارجية للولايات المتحدة للاتصال وللإيداع، ثم نجحت مكاتب الهجرة نجاحا باهرا، وأصبح بالإمكان الاعتماد عليها.. حتى إن وزارة المالية الأميركية اعتمدت عليها واستخدمتها في إيصال الأموال والرسائل، التي لم تتمكن الحكومة من إيصالها بنجاح.. وقد قدمت السفارات في العواصم الأوروبية مبالغ نقدية، بناء على طلب أمين سر الهيئة التنفيذية للمنظمة الصهيونية في نيويورك".
ويقول فراي في كتابه "مياه تتدفق علي الشرق" في الصفحة 51:
"ومنذ ذلك الحين، أصبح تأثيرهم ملموسا أكثر وأثر في الدوائر السياسية في أميركا وأوروبا، وخصوصا مكتب الهجرة الصهيوني، الذي كان بإمكانه إرسال الأموال والمعلومات للعناصر التخريبية في أرض العدو".
وبعد ذلك، نجد محافل الشرق الأكبر تعود مرة أخري إلي الصورة، فنجد م. ارزبرغر يقول في الصفحات 145 ـ 146 من كتاب "تجاري في الحرب العالمية": "في السادس عشر من آذار 1916، دفع التحالف الإسرائيلي إلي محفل الشرق الأكبر في باريس 700.000 فرنك، كما يمكننا أن نبرهن من سجلات المحفل في روما، أن مليونا من الليرات الإيطالية قد حولت إلي هذا المحفل في 18 آذار 1916.. ولست من السذاجة بحيث أتخيل أن التحالف الإسرائيلي استعمل محفلين فقط بهدف إرسال مليون ليرة لمساعدة اليهود الإيطاليين".
يقول أ.ن. فيلد في كتابه "كل هذه الأشياء" ـ وهو يتحدث عن الحوادث التي تلت فصل الكويت عن العراق عام 1916 ـ في الصفحة 104: "لقد أصبح التأثير اليهودي في السياسة البريطانية واضحا، بعد ظهور السيد لويد جورج".
ويقول ل. فراي في الصفحة 55 من كتابه "مياه تتدفق علي الشرق": "عقد الاجتماع الرسميّ الأول للجنة السياسية الصهيونية، في السابع من شباط 1917، في منزل الدكتور موسى غاستر.. وقد نوقش في هذا الاجتماع بالتفصيل، البرنامج الصهيوني الذي سيستخدم كقاعدة في المفاوضات الرسمية، التي تشمل مصير فلسطين وأرمينيا ومنطقة ما بين النهرين (العراق) ومملكة الحجاز".
أما ج. م. ن. جيفريس، فيضيف أيضا هذه المعلومات في الصفحة 139 من الكتاب الذي كنا نستشهد به: "أبلغت تفاصيل هذا الاجتماع بالشفرة إلي التنظيم الصهيوني في الولايات المتحدة.. ومن الآن فصاعدا بدأ التنظيم الصهيوني في الولايات المتحدة يتدخل في صياغة السياسة البريطانية، وفي توجيه القضايا البريطانية الداخلية".
ولكي نصوّر بشكل ملموس مدي سيطرة الممولين الدوليين علي قضايا الحكومة البريطانية، ننقل كلام صموئيل لاندمان الذي يقول: "بعد أن تم الاتفاق بين السير مارك سايكس ووايزمان وسوكولوف، تقرر إرسال رسالة سرية إلي القاضي برانديس ـ رئيس لجنة الطوارئ الاحتياطية للصهيونية في نيويورك ـ تخبره فيها أن الحكومة البريطانية مستعدة لمساعدة اليهود في الحصول علي فلسطين، مقابل تعاطف يهودي فعال، ومقابل تأييد قضية الحلفاء في الولايات المتحدة الأمريكية، بشكل يخلق تيارا قويا يدعم اشتراك الولايات المتحدة في الحرب.. وقد أرسلت الرسالة بالشفرة عبر مكتب الخارجية البريطانية، كما أرسلت رسالات سرية أخري إلي القادة الصهيونيين في روسيا عن طريق الجنرال ماكدونو.. وقد استطاع الدكتور وايزمان (أحد مؤسسي الصهيونية السياسية) أن يؤمّن عن طريق الحكومة الإعفاء من الخدمة لستة من الشبان الصهيونيين، وذلك كي يعملوا بنشاط من أجل القضية الصهيونية.. وكانت الخدمة العسكرية في ذلك الوقت إجبارية، ولم يعف منها إلا أولئك المشتغلين بإعمال وطنية هامة، تمنعهم من الخدمة الفعلية علي الجبهة.. وأنا أتذكر الدكتور وايزمان وهو يكتب رسالة إلي الجنرال ماكدونو (مدير العمليات العسكرية)، يطلب مساعدته في الحصول علي التسريح من الخدمة الفعلية لليون سيمون وهاري ساشر وسمون ماركس وهابا مسون وتولكوسكي وأنا شخصيا.. وكما طلب الدكتور وايزمان، فقد نقلت من المكتب الحربي إلي وزارة الإعلام ـ وفيما بعد إلي المكتب الصهيوني ـ حوالي شهر كانون الأول 1916.. ومنذ ذلك الوقت، ولسنوات عدة، اعتبرت الصهيونية حليفة الحكومة البريطانية.. ولم يعد هناك صعوبات في الحصول علي جوازات سفر، أو في الانتقال بالنسبة لأي شخص يدعمه مكتبنا.. وعلي سبيل المثال، فإن شهادة وقعتها بنفسي، وكان يحملها يهودي عثماني، قبلها المكتب الوطني البريطاني، وعامل صاحبها معاملة الأصدقاء، لا الأعداء كما كانت الحالة بالنسبة للرعايا الأتراك".
***
تبين دراسة حياة ديزرائيلي Disraeil أنه أمضي العديد من أمسيات أيام الآحاد عند آل روتشيلد في لندن.. وتبين أيضا أنه بينما كانت مؤسسة كوهن ـ لوب في نيويورك تمول الثورة اليهودية في روسيا، كان آل روتشيلد اللندنيين مديري أعمال القيصر في لندن.. ونعلم أيضا أن آل روتشيلد في لندن كانوا مع حزب الأحرار، وأنه بين عام 1840 ـ 1917 كانت صحافة الأحرار التي كان يديرها آل روتشيلد، معادية للروس. ويخبرنا ديزرائيلي أن القادة السياسيين والماليين في ألمانيا كانوا يعتبرون مناهضين، لأنهم لم يسمحوا للممولين الدوليين أن يفعلوا تماما كما يشاءون.. وكان يمثل آل روتشيلد في ألمانيا البارون فون بليشريدر في برلين، وعائلة واربرغ في هامبورغ.. وفي روسيا ساعد آل ويتشتاين في أوروبا آل غينزبرغ في سانت بطرسبرج علي رعاية مصالح روتشيلد في ذلك البلد.
وهناك رجل آخر عمل بنشاط كبير لمصلحة الممولين الدوليين، وهو اوتو كاهن Otto Kahn.. ولقد استطاع هذا أن يخفي حقيقة هدفه كثوري عالمي، خلف أعلام الوطنية في العديد من الدول التي عاش فيها، وتظاهر بأنه مواطن محب لوطنه في كل منها.. ولد السيد أوتر كاهن في ألمانيا، ثم هاجر إلي الولايات المتحدة كما فعل بول واربرغ.. وكهذا الأخير أيضا أصبح شريكا في مؤسسة كوهن ـ لوب.. وعند وصوله إلي أميركا مباشرة حصل علي وظيفة كاتب عند سبياير وشركائه، وذلك كي يجعل الأمور تبدو عادية وليست غريبة.. ثم تزوج فيما بعد حفيدة السيد وولف Wolf، أحد مؤسسي مؤسسة كوهن ـ لوب وشركاه.. ولما زارت السيدة كاهن موسكو عام 1931، استقبلت رسميا من قبل الحكومة السوفيتية، التي أقامت علي شرفها مأدبة ضخمة واستقبالات باهرة عديدة.. وقد اصطف الجيش الأحمر الستاليني علي الطرقات عندما مرت.
وفي الثاني من نيسان 1934، ظهرت مقالة في "الديلي هيرالد" كتبها السيد هانين سوافار وفيها يقول: "لقد عرفت أوتوا كاهن المليونير لسنوات عديدة.. لقد عرفته عندما كان وطنيا ألمانيا، كما عرفته عندما كان وطنيا أمريكيا.. وكان من الطبيعي عليه عندما أراد أن يدخل مجلس العموم البريطاني، أن ينتمي إلي الحزب الوطني".. وكان يمكن للسيد أوتوا كاهن، أن يصبح رئيسا علي اتحاد العالم المتكلم بالإنكليزية English Speaking Union، لولا أن نشاطه الثوري انكشف بطريق الصدفة، عندما تم البرهان علي أن منزله كان مكان اجتماع العملاء السوفيات، مثل نينا سمورودين وكلير شار يدان ولويس بريانت ومارغريت هارسون.
وفي صيف عام 1917، اجتمع في ستوكهولم في السويد ممثلون عن المصالح للصرفية في بريطانيا وألمانيا وفرنسا وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية.. وقد حضر السيد بروتو بويوف وزير الداخلية الروسي، كما حضر السيد واربرغ من هامبورغ.. وكان هذا الأخير شقيق بول واربورغ الشريك في مؤسسة كوهن ـ لوب وشركائهما في نيويورك، والذي وضع مسودة التشريع لنظام الاحتياط الفيدرالي عام 1910.. وسيظهر لنا أنه حتى يتم القرار بتمويل لينين وتروتسكي للإطاحة بالحكومة السوفياتية، اجتمعت وفود من جميع الدول المحاربة، وأنه في النهاية سيصدر قرار يجعل مؤسسة كوهن ـ لوب في نيويورك تضع مبلغ 50 مليون دولار تحت تصرف لينين وتروتسكي في بنوك السويد.
وقد بعث ضباط المخابرات السرية في كل من بريطانيا وأميركا، بتقارير إلي حكوماتهم بشأن هذه الحقائق.. ومات الضابط أ. ن. كرومي Cromie وهو يقاوم الجماهير الثورية التي هاجمت القنصلية البريطانية في سانت بطرسبرغ، فقتل وهو يحاول إبعادهم، ريثما يتمكن المجتمعون به من إحراق الوثائق المتعلقة بهذا الأمر وبغيره من الأمور.
ثم نقلت الحكومة الأميركية إلي الحكومة البريطانية، التقارير التي وصلتها من ضباط المخابرات.. كما أن السيد اودندايك Oudendvke وزير الأراضي المنخفضة Netherlands في بتروغراد ـ الذي كان رجل المصالح البريطانية في روسيا بعد موت الكوماندر كرومي ـ حذر الحكومة البريطانية.. وقد نشر هذا التحذير في نيسان 1919، كجزء من ورقة بيضاء عن الثورة البلشفية، نشرتها كينغز برنتر Kings Printer.
أما خطة يعقوب شيف بشأن السماح لتروتسكي وعصابته في العودة من نيويورك إلي سانت بطرسبرغ، فقد فشلت عندما احتجزتم الرسميون في الحكومة الكندية في هالفاكس في مقاطعة وفاسكوشيا، وهم في طريقهم إلي روسيا.. وهنا تبدو سيطرة الممولين الدوليين، الذين احتجوا مباشرة إلي الحكومات المعينة، فأطلق سراح تروتسكي وجميع أفراد عصابته الثورية، وسمح لهم أن يمروا بأمان في القطاعات البريطانية الحصينة.
وهناك برهان آخر عن ارتباط السياسيين البريطانيين بثورة 1917 الروسية، حصل عليه الدكتور بتروفسكي Petrovesky، الذي يشرح الدور الذي لعبه السير بتشانان السفير البريطاني.. لقد برهن بتروفسكي أنه مع علم حكومة لويد جورج بما يجري خلف الستار، إلا إنها ساعدت تروتسكي والقادة الثوريين معه، في الوصول إلي روسيا.. بينما ساعدت القيادة العليا الألمانية الممولين الدوليين في إيصال لينين وعصابته الثورية من سويسرا إلي بتروغراد.. وقد خصّص للينين وأتباعه عربة قطار خاصة لنقلهم في رحلتهم عبر الأراضي الألمانية.
ويكشف السيد بتروفسكي أن ميليوكوف Milioukoff ـ الذي عين كوزير للشؤون الخارجية في الحكومة الروسية في ربيع 1917 ـ كان هو الرجل الذي تفاوض بشأن هذه المؤامرة، التي اشترك فيها كل من الدولتين المتحاربتين (بريطانيا وألمانيا).
ومن المعروف انه استحسانا للتعاون الذي أبداه الجنرال الألماني ستان، وافقت الحكومة البريطانية علي طلب ميليوكوف إطلاق سراح م. م. ليتفينوف Litvinov، وكان ضباط المخابرات البريطانية قد أسروه كجاسوس ألماني.. أما التعرف علي شخصية ليتفينوف فهي ذات أهمية بالغة، فهو ابن لوالدين يحملان اسم فينكلينستان.. ولما انضم إلي الحركة الثورية العالمية غير اسمه، فصار ماير والاش.. ولما صار له علاقة وثيقة بالحزب البلشفي وبلينين، ظهر اسمه مرة أخري ليكون ماكسيم ليتفينوف.. إنه الشخص نفسه بليتنفينوف الجاسوس الألماني، وهو الشخص نفسه الذي قبض عليه وهو يحاول أن يدفع أوراق الخمسمئة روبل التي حصل عليها ستالين عندما سرق بنك تيفليس Tiflis Bank.
بعد إطلاق سراحة مباشرة، عاد ليتفينوف إلي روسيا، وساعد بحكومة كيرننسكي المؤقتة، وبحركة المينشفيك السوفيتية.. ثم تولي ليتنفيوف منصب مساعد ستالين للشؤون الخارجية، بين عام 1930 وعام 1939.. وقد عين عضوا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي عام 1935.. ومقدرة ليتنفوف علي الاغتيال وعلي استلام النقود المسروقة وعلي العمل كجاسوس وكرجل عصابات دولي وكزعيم للنشاط الثوري في العديد من الدول، كل هذا جعل دول العالم ترحب به عندما عين رئيسا لمجلس الأمن في الأمم المتحدة!!!!!!.. وهذا يوضح حقيقة أن النورانيين يتحكمون بالذين يسيطرون علي الأمم المتحدة ظاهريا!!
وهكذا يتبين لنا، أن الحكومة الائتلافية البريطانية التي استلمت زمام الأمر من رئيس الوزراء اسكويت في كانون الأول 1916، لم تفعل أي شيء لتقف دون تنفيذ الممولين الدوليين خططهم للثورة الروسية، مع أنها تعلم أن نجاح هذه الثورة سيؤدي إلي سحب الجيوش الروسية من الحرب.. والبرهان علي أن الصهيونيين في كل من بريطانيا وأميركا اتفقوا علي الإطاحة بالإمبراطورية الروسية، يمكن إن نجده في حقيقة أن لينين أعلن عن تأسيس حكمة الديكتاتوري في تشرين الثاني 1917، وفي نفس الوقت أعلن لويد جورج أيضا أن سياسة الحكومة البريطانية تقضي بدعم خطة روتشيلد في تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين.. وهذا يبرهن علي أن لويد جورج لم يحقد علي الممولين الدوليين لإخراجهم روسيا من الحرب، مع أنها حليفة لبريطانيا.
***
وجه المرابون اهتماماتهم إلي فلسطين، لتكون المركز الجغرافي المناسب لخطتهم العامة في السيطرة علي العالم.. وبالإضافة إلي ذلك، فإنهم كانوا يعلمون أن أشهر الجيولوجيين العالميين، قد كشف عن مناطق واسعة تحتوي علي ثروات معدنية تقع في المنطقة المحيطة بالبحر الميت.. وهكذا قرر هؤلاء أن يتبنوا الصهيونية السياسية، لإجبار دول العالم علي الاعتراف بالوطن القومي لليهود في فلسطين، بحيث يكون لهم دولة مستقلة يمكنهم السيطرة عليها بأموالهم وسلطتهم.. وإذا حققت مؤامرتهم هدفها البعيد في إقامة حرب عالمية ثالثة، عندئذ يستعلمون دولتهم المستقلة هذه في توسيع نطاق نفوذهم وسيطرتهم لتشمل جميع أمم الأرض.. وعندما يتحقق ذلك، سيتمكنون من تنصب زعيمهم "ملكا علي الكون" و"الإله علي هذه الأرض".
وبعد استصدار وعد بلفور، الذي أيدته كل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، صدرت الأوامر إلي اللورد اللنبي بطرد الأتراك من آسيا الصغرى، واحتلال الأرض المقدسة.. ولم يكشف عن حقيقة النوايا في تسليم فلسطين إلي اليهود، إلا بعد أن انتهي العرب من مساعدة اللورد اللنبي في تحقيق مهمته!!!!!
وكان الشعور العام في ذلك الوقت، أن فلسطين ستصبح محمية بريطانية.. أما المرابون العالميون فما إن تم احتلال فلسطين حتى طلبوا من الحكومة البريطانية والحلفاء تعيين لجنة صهيونية في فلسطين، وتعيين مندوبيهم السياسيين أعضاء لها، علي أن تكون مهمة هذه البعثة، تقديم النصح للجنرال كلايتون الحاكم العسكري لفلسطين، وتعمل أيضا كوسيلة اتصال بين اليهود والقيادة العسكرية.. وقد باشرت هذه اللجنة عملها بالفعل في آذار عام 1918 وكان أعضاؤها التالون:
- الكولونيل أورمسباي غور ـ اللورد هارليك فيما بعد ـ الذي كان مديرا لبنك ميدلاند، وبنك ستاندارد في جنوب أفريقيا.
- الكولونيل جيمس دي روتشيلد، ابن أدموند دي روتشيلد، رئيس الفرع الفرنسي لأسرة روتشيلد، ومنشيء عدد كبير من المستعمرات اليهودية في فلسطين.. وقد أصبح جيمس دي روتشيلد عضوا في مجلس العموم البريطاني بين 1929 و 1945، ثم عيّنه تشرشل وزيرا للشؤون البرلمانية في حكومته العمالية الائتلافية.
- الملازم أدوين صاموئيل، الذي عين مديرا للرقابة في الحكومة البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية.. وعندما تأسست إسرائيل عام 1948 عين مديرا للإذاعة الإسرائيلية.
- المستر إسرائيل سيف، مدير شركات ماركس وسبنسر البريطانية الضخمة.. وله اتصالات وعلاقات وثيقة بالمرابين الدوليين.
- ليون سيمون، الذي نال فيما بعد درجة فارس، وأصبح المدير المسؤول عن مكاتب البريد العامة في بريطانيا.. وقد سيطر علي جميع أجهزة الهاتف، وجميع أنواع الاتصالات اللاسلكية.
- أما بقية أعضاء اللجنة فكانوا: الدكتور إلدر، السيد جوزف كارين والسيد حاييم وايزمان، وكلهم اصدقاء مقربون إلي الصهاينة الأغنياء في أميركا.
يقول السير ستورز بأن هذه اللجنة أرسلت إلي فلسطين قبل أن يعقد مؤتمر السلام، وحتى قبل نهاية الحرب، وذلك لإعداد الجو الملائم فيها لإنشاء الوطن العربيّ القوميّ لليهود، وتحريك أعوانهم للمساعدة المالية.
معاهدة فرساي
معاهدة فرساي كانت إحدى أكثر الوثائق التي وقعها ممثلوا ما يسمى بالدول المتمدنة إجحافا وظلما.. وقد أدي هذا الظلم الذي وقع علي الشعب الألماني إلي قيام حرب عالمية أخرى، وجعل قيام هذه الحرب أمرا لا مفر منه.
يجب علينا أولا أن نعي حقيقة الظروف التي أحاطت بتوقيع الهدنة في 11 تشرين ثاني 1918.. فالقيادة الألمانية العليا لم تطلب هذه الهدنة لأن قواتها كانت في خطر من انهزامها، بل إن القوات الألمانية لم تكن قد لاقت أي هزيمة علي أراضي المعارك.. ولكن القيادة العليا الألمانية طلبت الهدنة حتى تستطيع الوقوف في وجه قيام ثورة شيوعية في البلاد.. ذلك أن روزا لوكسمبورغ وتنظيمها الذي يسيطر عليه اليهود، كانوا يخططون للقيام بنسخة ثانية مما قام به لينين في روسيا قبل عام.
أما الأحداث التي جعلت القيادة العليا الألمانية تتحقق من الخطر في الجبهة الداخلية فهي كما يلي:
تمكنت خلايا روزا لوكسمبورغ الثورية من التغلغل في الأسطول البحري الألمانيّ، واشتد نشاطهم عام 1918، فنشروا شائعات بأن القيادة الألمانية قرّرت التضحية بالسفن الحربية وبملاحيها، في معركة مشتركة ضد الأساطيل الأمريكية والبريطانية معا، وروجوا الإشاعات بأن هذه العملية تهدف إلي تعطيل وشل القوات الحليفة، بشكل يسمح لأسياد الحرب الألمان باحتلال الشواطئ البريطانية بدون مقاومة.. وعملت الخلايا الشيوعية هذه علي تغذية الشائعات والتحريض علي العصيان هامسة بأن هذا الهجوم سينتهي بالفشل حتما، لأن العلماء البريطانيون استطاعوا تحضير سلاح كيميائي سري جديد، يمّكن الحلفاء من حرق السفن المعادية وإحاطتها باللهب، فتؤدي النيران والحرارة والنقص في الأوكسجين إلي قتل كلّ كائن حيّ.. ثم بدأ المخربون يؤكدون بأن الوسيلة الوحيدة للخلاص من خطر داهم كهذا، هو بالثورة لإنهاء الحرب.. وفي 3 تشرين الثاني 1918، أعلن جنود البحرية الألمانية العصيان.. وتلي ذلك يوم 7 تشرين الثاني فرار وحدة كبيرة من الغواصات في طريقها إلي الجبهة الغربية، فلقد أخبروا أنهم سيعملون كرأس حربة في الهجوم المزعوم لاحتلال بريطانيا.
وفي هذا الوقت، كانت الاضطرابات قد سببت تعطيل عدد كبير من المراكز الصناعية الألمانية، كما أن المخربين كانوا ينشرون روح الانهزامية، فتدهورت الأحوال لدرجة تنازل القيصر عن العرش في 9 تشرين الثاني.
بعد تنازل القيصر شكل الحزب الديمقراطي الاجتماعي حكومة جمهورية، ووقعت الهدنة في 11 تشرين ثاني 1918.. ولكن الاضطرابات لم تتوقف، بل ازدادت عنفا ضد الاشتراكيين هذه المرة، وذلك عن طريق الخلايا الشيوعية المنظمة Spartacus Bund.. ثم لعبت روزا لوكسمبورغ ورقتها الكبرى، حين اشترطت علي الحكومة الجمهورية تسريح الجيش الألماني، مقابل إنهاء الاضطرابات.. وقد منع هذه العمل القيادة الألمانية العليا من استعمال جيشها المنظّم لمنع قيام الثورة التي أعلنت في كانون الثاني 1919.
بعد انهيار الثورة اليهودية التي قامت بها روزا لوكسمبورغ، أخذ الشعب الآري الألماني علي نفسه أن ينتقم من الشعب اليهوديّ، فقتل الآلاف من اليهود، وقبض علي الرجال والنساء والأطفال ليلا وأعدموا.. أما روزا ومساعدها كارل ليبكنيشت، فقد القي القبض عليهما ثم أطلق ضابط ألماني النار علي رأسيهما، وكأنه يقتل كلابا مسعورة.
ولكي يزيدوا الحقد ويضرموا نار العداوة ضد اليهود، عمد هؤلاء إلي تحميل اليهود المسؤولية عن الهزيمة العسكرية، كما أذاعوا أن اليهود هم المسئولون عن بنود معاهدة فرساي الظالمة.. ومن ناحية ثانية ضاعفت الدعاية الاتجاه الوطني الاشتراكي في ألمانيا، بتصوير بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة علي أنها دول رأسمالية أنانية، واقعة تحت تأثير الممولين العالميين.. وهكذا مهدوا الطريق لظهور هتلر.
بعد توقيع المعاهدة مباشرة، أعلن لينين أن واجبهم الأول يقضي بإنشاء العالم الشيوعي الذي يسيطر علي دول العالم بأجمعها، والذي تقع حدوده بين خطي العرض 35 و 36 من النصف الشمالي للكرة الأرضية.. وأعلن أنه سيسعى للعمل الثوري ضمن هذه الحدود وأن أهم الدول هي أسبانيا وإيطاليا واليونان، وبعض المناطق في آسيا الصغرى، وتشمل فلسطين كما تضم بعض مناطق الصين والمنطقة التي تضم حدود كل من كندا والولايات المتحدة.
تسمي خطة لينين هذه في الأوساط العسكرية "خطة الثيران الشمالية"، لأن هذه الحيوانات الشمالية استطاعت أن تبقي علي وجه الحياة، لأنها كانت تدافع عن نفسها بوقوفها بشكل دائرة، موجهة قرونها الحادة إلي الدببة والذئاب التي تهاجمها.. ويعلل بعد ذلك لينين تخليه عن روزا لوكسمبورغ، بأنه استطاع أن ينظم القوات السوفياتية ليقف في وجه الهجوم العدواني الذي قامت به الدول الرأسمالية بين عامي 1919 و 1921.. وأعلم لينين في المؤتمر الأممي الثالث عام 1912، أن أسبانيا ستكون البلد الثاني لنشر الحكم العمالي، ولام زورا لوكسمبورغ علي إضرامها نار العداوة ضد السامية في ألمانيا.. عندئذ أرسل المؤتمر كارل راديكس ليقود حملة شيوعية في ألمانيا، وصدرت إليه التعليمات بالبدء بتنظيم وتدريب الحزب المذكور، ولكنه حُذر من اتخاذ خطوات ثورية حتى تأتيه الأوامر من الكومنتيرن (الاتحاد العالمي للأحزاب الشيوعية).
***
وقد سيطر الممولون الدوليون علي مؤتمر السلام، الذي انتهي بمعاهدة فرساي.. والبرهان علي ذلك واضح، في أن رئيس الوفد الأمريكي كان بول واربورغ ذاته، الذي أشرنا إليه بصورة كافية في فصل سابق، فهو الممثل الرئيسي لمجموعة المرابين العالميين في أمريكا.. ولم يكن رئيس الوفد الألماني سوي شقيقة ماكس واربورغ.
ويقول الكونت دي سانت أولاير: "إن الذين يبحثون عن الحقيقة في غير الوثائق، يعرفون أن الرئيس نيلسون، الذي تم انتخابه كرئيس للجمهورية بعد أن موّله البنك الأكبر في نيويورك (كوهن ـ لوب) كان يسير تحت إرشادات وأوامر هذا البنك".
أما الدكتور ديلون فيوضح أنّ "اليهود هم الذين وجهوا مؤتمر السلام هذا التوجيه، واختاروا فرساي في باريس ليحققوا برنامجهم بدقة، والذي نفذ حرفيا".
وبالنسبة لمسودة الانتداب البريطاني علي فلسطين، فإن تخطيطها كان على يد البروفسور فيلكس فرانكفورتر، الصهيوني الأميركي البارز، الذي أصبح فيما بعد المستشار الأوّل في البيت الأبيض، في عهد الرئيس روزفلت.. وساعده في ذلك كل من السير هربرت صاموئيل والدكتور فيويل والمستر ساشار والمستر لاندمان والمستر بن كوهن والسيد لوسيان وولف ـ الذي كان تأثيره كبيرا جدا علي المستر دافيد لويد جورج، ويقال إنه كان يملك جميع أسرار شؤون بريطانيا الخارجية.
وعندما بدأت المحادثات التمهيدية للمؤتمر، كان المستشار الخاص للسيد كليمانصو ـ رئيس وزراء فرنسا ـ هو المسيو مانديل.. ولم يكن هذا في الحقيقة إلا اسما مستعارا لأحد أفراد آل روتشيلد.. وكان هناك أيضا المستر هنري مورغنزاو ـ أحد أفراد الوفد الأمريكي ـ وهو نفسه والد الرجل الذي أصبح فيما بعد السكرتير المالي للرئيس روزفلت.. وحضر أيضا تلك المحادثات المستر أوسكارلا ستراوس، الذي عرف بتنبيه الشديد لمخطط الممولين، والذي كان له دور بارز في تكوين عصبة الأمم.
وبشأن هذه المعاهدة أيضا، يقول السيد لوسيان وولف في الصفحة 408 من "دراسات عن تاريخ اليهود": "وهناك مجموعة صغيرة أخري من اليهود البارزين تظهر تواقيعهم علي معاهدة السلام، فقد وقع معاهدة فرساي عن فرنسا لويز كلوتز ـ الذي تورط فيما بعد بقضية مالية واختفي عن الأنظار ـ وعن إيطاليا البارون سومينو، ومستر أدوين مونتاغ عن الهند".
وننقل فيما يلي أقوال بعض كبار المفكرين في الغرب، التي تشكل بحد ذاتها بيانا لا يحتاج إلي تفسير:
يذكر المؤرخ والدبلوماسي الإنكليزي الشهير هارولد نيكلسون في مؤلفه الضخم "صنع السلام 1919 ـ 1944" صفحة 244 أن لوسيان وولف طلب منه شخصيا أن يتبني رأيه، وهو أن اليهود يجب أن يتمتعوا بحماية عالمية، وأن يتمتعوا في الوقت نفسه بكل حقوق المواطن في أية دولة.
ويقول الكاتب الفرنسي جورج باتو، في كتابه "المشكلة اليهودية" ص38: "إن المسؤولية تقع علي عاتق اليهود الذين أحاطوا بلويد جورج وويلسون وكليمانصو".
***
وننتقل الآن إلي هنغاريا، ونحن نتحدث عن نهاية الحرب العالمية الأولي، فنجد أن بيلاكون اغتصب السلطة في ربيع 1919، ثم حاول تطبيق آراء لوسيان وولف.. ولكن حكمه الديكتاتوري لم يدم أكثر من ثلاثة أشهر، قتل خلالها عشرات الآلاف من المسيحيين وأجلوا عن ممتلكاتهم.. وشملت الضحايا جميع الناس من عمال وجنود وتجار وملاك أراضي.. ولم يفرق بين الرجل والمرأة أو بين رجل الدين والرجل العادي.. وفي هذا الصدد تقول مجلة نيو انترناشيونال في كتابها السنوي عام 1919 "تألفت حكومة بيلاكون في أكثريتها من اليهود، الذين استلموا أيضا مراكز إدارية.. وقد اتحد الشيوعيون مع الاشتراكيين، الذين كانوا أكثر شبها بأحزاب العمال ومجموعات اتحادات العمال.. ومع هذا فإن بيلاكون لم يختر مساعديه من هؤلاء، ولكنه اختارهم من بين اليهود، مؤلفا بذلك حكما بيروقراطيا يهوديا".
ويسجل التاريخ أنه بعد ثلاثة أشهر من التخريب والاغتصاب والقتل الجماعيّ، عُزل بيلاكون.. ولكنه بدلا من أن يعاقب، فإنه أدخل إلي مستشفي للأمراض العقلية.. وبعد ذلك تم إخلاء سبيله على يد تلك المجموعة القوية التي كان يعمل لمصلحتها.. ثم عاد بيلاكون إلي روسيا، ليستلم رئاسة منظمة تشيكيا الإرهابية، والتي عملت علي إرهاب الأوكرانيين وإخضاعهم لستالين، عندما أمر ببدء البرنامج الزراعي الجماعي.. وكان من نتيجة هذا الإرهاب أن مات خمسة ملايين من العمال جوعا، لعدم تنفيذهم القانون الزراعيّ، كما دفع بأكثر من خمسة ملايين أيضا للعمل الإجباري في سيبيريا.. ولما أراد ستالين أن يحوّل أسبانيا إلي بلد تحكمه الديكتاتورية الشيوعية في عام 1936، وقع اختياره علي بيلاكون لينظم (حكم الإرهاب) في أسبانيا.
***
ونعود إلي مؤتمر فرساي، لنري مشاهد أخري من سيطرة الممولين، الدوليين وذلك بحادثة معروفة جرت خلال المحادثات التمهيدية للمؤتمر.. فالظاهر أن هذه المحادثات بدأت تميل إلي سياسة لا يرضي عنها الممولون، لأن برقية مكونة من ألفي كلمة أرسلها يعقوب شيف من نيويورك إلي الرئيس ويلسون، الذي كان يحضر المؤتمر في باريس، وقد تضمنت هذه البرقية تعليمات للرئيس بشأن ما سيفعله بكل من قضية فلسطين ومصير الانتداب فيها، وبشأن التعويضات الألمانية وقضية سيليسيا العليا ومنطقة السار وممر دانزينغ.. وأرخت البرقية بتاريخ 28 أيار 1919، وقد أرسلها شيف باسم اتحاد الأمم المتحررة.
بعد استلام البرقية، غيّر الرئيس ويلسون موقفه فجأة، وأخذت المفاوضات تجري مجرى آخر.. بهذا الصدد يقول الكونت دي سانت أولاير: "إن النصوص التي تضمنتها معاهدة فرساي فيما يتعلق بالقضايا الخمس الرئيسية، هي من وضع يعقوب شيف وأبناء جلدته".
بعد أن دُفعت الدول الحليفة لجعل فلسطين محمية بريطانيا، أعلم الممولون الدوليون عملاءهم أن بنود المعاهدة ستكون قاسية جدا، بشكل لا يمكن أن يتحمله الشعب الألماني طويلا.. وكان هذا جزءا من المخطط الذي يرمي إلي زيادة حقد الشعب الألماني ضد الإنكليز والفرنسين والأميركيين واليهود، ليكونوا علي استعداد للحرب من جديد لاستعادة حقوقهم المشروعة.
وبعد توقيع معاهدة فرساي مباشرة، بدأت الحرب الرأسمالية المزيفة ضد البلاشقة.. وقد مكّنت هذه الحرب لينين من تخليه عن مساعدة الثورة الشيوعية في ألمانيا، وفي الدعوة إلي الصمود والالتحام للحفاظ علي المكاسب التي حققها في روسيا.. ومن ناحية ثانية فان هذه الحرب لم تكن أبدا ذات خطر علي ديكتاتورية لينين.. ولما انتهت عام 1921، كان من نتائجها الواضحة، الشهرة الواسعة التي نالها البلاشقة، في مقابل خسارة مماثلة للدول الرأسمالية.. وقد مهدت هذه النتيجة الطريق لعملاء الممولين الدوليين، كي يدخلوا الدول الشيوعية في عضوية عصبة الأمم تحت ستار السلام العالمي الدائم.
وكانت بريطانيا هي أول الدول التي حققت رغبات الممولين الدوليين واعترفت بالدول الشيوعية.. ثم تلتها فرنسا في 1924، وبعدها جاء دور الولايات المتحدة، فاعترف روزفلت بالدول الشيوعية في 1933.. وهكذا اعترفت عصبة الأمم بالدول السوفيتية الشيوعية.. ومنذ ذلك اليوم أصبحت عصبة الأمم ألعوبة في يد ستالين، وتمكن عملاؤه من صياغة سياستها والسيطرة علي نشاطاتها.. وما أن دخلت الدول الشيوعية في عصبة الأمم حتى أخذ أعضاء محفل الأكبر الماسوني دورهم فيها.
ونشير هنا إلي محرر جريدة التايمز الإنكليزية، وهو يكهام ستيد الذي كان من أكثر الناس إطلاعا علي الشؤون العالمية، والذي أشار في أكثر من مناسبة إلي تدخّل رجال المصارف والممولين الدوليين في الشؤون الدولية.. وقد كتب هذه العبارة المحددة عقب توقيع معاهدة فرساي مباشرة: "إنني ألح وأصرّ علي أنّ المحركين الأول، هم يعقوب شيف وواربوغ وغيرهم من أصحاب المصارف الدوليين، الذين كانوا يرغبون بشكل قوي في الحصول علي مساعدة البلاشقة اليهود، لتأمين ميادين عمل لليهود الألمان في روسيا".
وننقل أيضا ما كتبه ليوماكس في عدد آب 1919 من الناشيونال ريفيو، حيث يقول: "ومهما تكن نوعية السلطة التي تحكم داوننغ ستريت [تحكم بريطانيا]، محافظة كانت أم متطرفة، تؤيد الائتلاف أو تقف في صف البلاشقة، إلا إنها في جميع الأحوال تقع في أيدي اليهود العالميين.. وهنا يمكن سر الأيادي الخفّية التي لم يكن قد ظهر لها أي تفسير واع".
عندما زار ونستون تشرشل فلسطين في آذار 1921، طلب مقابلة وفد القادة المسلمين.. ولما قابلهم عرضوا له خشيتهم من الهدف الذي تعمل له الصهيونية السياسية، وهو الاستيلاء علي فلسطين واستغلال أراضيها لمصلحة اليهود، وبينوا له أن العرب يعيشون في تلك الأرض منذ أكثر من ألف سنة ((هذا أشبه بأن نقول إنّ المصريين يعيشون في مصر منذ ألف سنة!!!.. هذه أرض الفلسطينيين يعيشون فيها منذ القدم، وبقدوم العرب دخلوا الإسلام وتكلموا العربية، مثلهم مثل باقي دولنا))، وطلبوا منه استخدام نفوذه لرفع هذا الظلم.. وقد نقل عنه قوله: "أنتم تطلبون مني أن أتخلي عن وعد بلفور، وأن أوقف الهجرة اليهودية.. وهذا ليس في طاقتي، كما إنني لا أرغب فيه.. نحن نعتقد أنه لخير العالم واليهود والإمبراطورية البريطانية والعرب أنفسهم أيضا.. ونحن ننوي أن نحقق هذا الوعد".
لا بد أن يكون تشرشل وهو ينطق بهذا الجواب، كان يفكر بذلك التهديد الذي أطلقه حاييم وايزمان ونشره رسميا في 1920، ويقول فيه: "سوف نستقر هنا في فلسطين شئتم ذلك أم أبيتم.. إن كل ما تستطيعون عمله هو تعجيل أو إبطاء هجرتنا، ولكنه مهما يكن فإنه من الأفضل لكم أن تساعدونا، لتتجنبوا تحويل قدراتنا البناءة إلي قدرات مدمرة، تدمر العالم".
يجب أن نتدبر أمر تهديد وايزمان هذا، ونفهم معه أيضا ذلك البيان الذي صدر عن أحد الممولين الدوليين، في اجتماع للصهاينة عقد في بودابست عام 1919.. فلقد نقل الكونت أولاير كلامه وهو يتحدث عن احتمالات قيام الحكومة العالمية، ويقول: "وفي سبيل الوصول إلي العالم الجديد [الذي ينتظره هؤلاء]، أعطت منظمتنا البرهان علي فعاليتها في عمليتي الثورة والبناء، وذلك بخلقها لعصبة الأمم، التي هي في الحقيقة من عملنا.. وستشكل الحركة البلشقية الدافع الأول، بينما تشكل عصبة الأمم الفرامل في الجهاز الذي سيحتوي معا علي القوة الدافعة والقوة الموجهة.. وماذا ستكون النهاية؟.. إنها محددة سلفا في مهمتنا".. قيام الحكومة العالمية الواحدة.
وهناك شيء مهم وقع تحت يدي بعد ثماني سنوات من إنهائي لهذا الفصل، وذلك عن طريق المخابرات السرية الكندية، التي نقلت تقريرا عن المؤتمر الاستثنائي "للجنة الطوارئ لحاخامي أوروبا"، الذي عقد في بودايست في 12 كانون الثاني 1952..
وإنني أنقل ذلك التقرير، وهو عبارة عن الخطاب الحرفي للحاخام أيمانويل رابينوفيتش في المؤتمر المذكور:
"تحية لكم يا أبنائي.. لقد استدعيتم إلي هذا الاجتماع الخاص لإطلاعكم علي الخطوط الرئيسية لمنهاجنا الجديد، وهو المنهاج المتعلق بالحرب المقبلة كما تعلمون، والتي كان مخططنا الأصلي يقضي بإرجائها عشرين عاما، حتى نتمكن خلال ذلك من تدعيم مكاسبنا التي حصلنا عليها نتيجة للحرب العالمية الثانية.. ولكن ازدياد أعددنا في بعض المناطق الحيوية يسبب معارضة شديدة، لذلك صار لزاما علينا أن نستعمل جميع الوسائل التي في حوزتنا، لإشعال حرب عالمية ثالثة في مدة لا تتجاوز خمس سنوات.
يجب أن أبلغكم أن الهدف الذي لا زلنا نعمل من أجله منذ ثلاثة آلاف عام قد أصبح في متناول يدنا الآن.. أستطيع أن أعدكم أنه لن تمر عشر سنوات، حتى يأخذ شعبنا مكانه الحقيقي في العالم، ويصبح كل يهودي ملكا، وكل جوييم عبدا.. [تصفيق من الحضور].. إنكم لا تزالون تذكرون نجاح حملاتنا الدعائية التي طبقناها خلال الثلاثينيات، والتي أوجدت شعورا معاديا للأمريكيين في ألمانيا، وشعورا بالكره الشديد للألمان عند الأمريكيين.. وتعلمون أن هذه الحملة أعطت ثمارها بقيام الحرب العالمية الثانية.. أما الآن فهناك حملة مماثلة نشنّها بقوة عبر العالم.. فنحن نثير الآن حمّى الحرب عند الشعب الروسي، بخلق ميل معاد لأميركا، التي يجتاحها في الوقت نفسه شعور معاد للشيوعية.. هذه الحملة ستجبر الدول الصغيرة علي الاختيار بين أن تصبح شريكة لروسيا أو متحالفة مع الولايات المتحدة.. أما أكثر المشاكل التي نواجهها في الوقت الحالي، فهي إتارة الروح العسكرية عند الأمريكيين، الذين أخذوا يبدون كرها شديدا للحرب.. ومع أننا فشلنا في تحقيق خطتنا في تعميم التدريب العسكري علي كل الشعب الأمريكي، إلا إننا سنأخذ كل الاحتياطات للحصول علي موافقة الكونغرس علي مشروع بهذا الصدد بعد انتخابات 1952 مباشرة.. إن الشعب الروسي والشعوب الآسيوية هم تحت سيطرتنا، ولا يقفون حائلا ضد قيام الحرب.. ولكننا يجب أن ننتظر حتى يصبح الشعب الأمريكي هو أيضا مستعدا لمثل هذه الحرب.. ونحن نأمل بتحقيق هدفنا هذا باستعمال قضية العداء للسامية، بنفس الطريقة التي جعلت الأمريكيين يتحدون ضد الألمان أعداء السامية في الحرب العالمية الثانية.. ونحن ننتظر قيام موجات عداء للسامية في روسيا، بشكل يسبب تلاحم الشعب الأمريكي ضد القوة السوفياتية.. كما أننا سنقوم بنفس الوقت عن طريق الإغراء المالي، باستخدام عناصر مؤيدة للروس في عدائهم للسامية، ونبث هذه العناصر في المدن الأمريكية الكبرى.. وستخدم هذه العناصر غرضين نسعى لهما، وهما فضح المعادين لنا حتى نتمكن من إسكاتهم، وتوحيد الشعب الأمريكي في بُوتقة واحدة ضد الشعب الروسي.. وفي خلال خمس سنوات سيحقق منهاجنا هذا أغراضه، وتقوم الحرب العالمية الثالثة التي ستفوق في دمارها جميع الحروب السابقة.. وستكون إسرائيل، بالطبع، بلدا محايدا.. حتى إذا تم تدمير وإهلاك الطرفين المتحاربين، سنقوم نحن بعملية التحكيم والرقابة علي بقايا أشلاء جميع الدول.. وستكون هذه الحرب معركتنا الأخيرة في صراعنا التاريخيّ ضد الجوييم.. بعد ذلك سنكشف عن هويتنا لشعوب آسيا وأفريقيا.. وأستطيع أن أعلن لكم جازما، بأن الجيل الأبيض الذي ولد في الأيام التي نعيشها الآن سيكون آخر الأجيال البيضاء.. ذلك لأن لجنة التحكيم والرقابة ستمنع التزاوج بين البيض، بحجة نشر السلام والقضاء علي الخلافات بين الأجناس البشرية.. وبهذا يتم القضاء علي العنصر الأبيض، عدونا اللدود، ويصبح مجرد خيال وذكرى.. وسنعيش بعد ذلك في عهد السلام والرخاء الذي لن يقل عن عشرة آلاف من السنين.. وسنحكم العالم بأسره، لأنه سيكون من السهل علي عقولنا المحركة، السيطرة الدائمة علي العالم من الملونين ذوي البشرية السوداء".
سؤال من أحد الحاخامين الحاضرين: "أرجو من الحاخام رابينوفتش أن يحدثنا عن مصير الأديان المختلفة بعد الحرب العالمية الثالثة؟"
رابينوفتش: "لن تكون هناك أديان بعد الحرب العالمية الثالثة، كما لن يكون هناك رجال دين.. فإن وجود الأديان ورجال الدين خطر دائم علينا، وهو كفيل بالقضاء علي سيادتنا المقبلة للعالم، لأن القوة الروحية التي تبعثها الأديان في نفوس المؤمنين بها ـ وخاصة الإيمان بحياة أخري بعد الموت ـ يجعلهم يقفون في وجهنا.. بيد أننا سنحتفظ من الأديان بالشعائر الخارجية فقط.. وسنحافظ على الدين اليهوديّ، وذلك لغاية واحدة، هي الحفاظ علي الرباط الذي يجمع أفراد شعبنا، دون أن يتزوجوا من غير سلالتهم أو أن يزوجوا بناتنا لأجنبي.. وقد نحتاج في سبيل هدفنا النهائي إلي تكرار نفس العملية المؤلمة التي قمنا بها أيام هتلر.. أي أننا قد ندبر وقوع بعض حوادث الاضطهاد ضد مجموعات أو أفراد من شعبنا.. أو بتعبير آخر سوف نضحي ببعض أبناء شعبنا، حتى نحصل بذلك علي الحجج الكافية التي تبرر محاكمة وقتل القادة في أميركا وروسيا كمجرمي حرب، وذلك بعد أن نكون قد فرضنا شروط السلام.. ونحن اليوم بحاجة إلي الإعداد لهذه المهمة وهذه التضحيات.. لقد تعود شعبنا على التضحية دائما.. ولن تكون خسارة بضعة آلاف من اليهود خسارة جسيمة، إذا قارناها بما سيحصل عليه شعبنا من السيطرة علي العالم وقيادته.
وحتى تستيقنوا من قدرتنا علي السيطرة علي العالم، انظروا إلي اختراعات الرجل الأبيض، كيف حولناها إلى سلاح خطير ضده.. فالراديو والمطبعة أصبحنا اليوم المعبر والمتحدث عن رغباتنا، كما أن معامل الصناعات الثقيلة ترسل الأسلحة إلي آسيا وأفريقيا لتحارب شعوبها الرجل الأبيض نفسه صانع هذه الأسلحة.. واعلموا أننا طورنا برنامج النقطة الرابعة في واشنطن، ليشمل التطوير الصناعي للمناطق المتخلفة من العالم، بحيث يصبح الرجل الأبيض تحت رحمة المجموعات الضخمة من الشعوب السوداء، التي ستفوقه تكنولوجيا بعد أن تدمر الحرب النووية وزراعته الصناعية.
وبهذه الرؤية للنصر النهائي يتوهج أمام أعينكم، عودوا إلي مناطقكم وباشروا العمل بجد ودون هوادة، حتى يحل أخيرا اليوم الذي ستكشف فيه إسرائيل عن مهمتها الحقيقية، وهي أن تكون النور الذي يضيء العالم" ـ [النوراني تعني حامل النور].
هذا الخطاب يؤكد أيضا استنتاجاتي ومعلوماتي السابقة التي أوردتها، وهي أن القوي الخفية هي التي أثارت العداء للسامية، وبنفس الوقت العداء للشيوعية، بشكل يخدم أهدافها.. كما أن الخطاب يبرهن علي أن النورانيين استعملوا الشيوعية والنازية والفاشية للوصول إلي طموحهم الخفيّ.. وهم، يستعملون الديمقراطية المسيحية ضد الشيوعية للوصول إلي المرحلة التالية من خطتهم البعيدة، وهي الحرب العالمية الثالثة.
***
ولقد استطاع الممولون الدوليون ـ باختفائهم وراء بنود معاهدة فرساي ـ التحكم بإعادة بناء الجيش الألماني، وإعادة تحسين اقتصاديات البلاد.. بعد ذلك دخلوا مع القيادة الألمانية العليا في اتفاقية Abmachungen، وبموجبهات تمّ الاتفاق علي أن يزود الروس الجنرالات الألمان سرا بجميع الأسلحة والذخائر اللازمة لبناء جيش حديث مؤلف من عدة ملايين.. واتفقوا علي أن يضع الديكتاتور السوفيتي تحت تصرفهم جميع التسهيلات، لتدريب جميع الضباط الألمان.
هذا وقد تم تحقيق بنود اتفاقية Abmachungen، بعد أن قام الممولون الدوليون بتمويل هذا المشروع الضخم.. هكذا استطاع هؤلاء أن يؤمّنوا بناء القوة العسكرية والاقتصادية في الدول الشيوعية والفاشية علي السواء.. واستطاعوا أن يهيئوا الظروف للقيادة الألمانية لكي تتخطي بنود معاهدة فرساي، وخصوصا القيود العسكرية المفروضة عليهم.
وعن طريق معامل السلاح والذخيرة الشيوعية وراء جبال الأورال، ثم تزويد المؤسسات الألمانية بكل ما تحتاجه.. وهذه المؤامرة لا يمكن إن تعني إلا النية المبيتة للممولين الدوليين بإضرام نار الحرب العالمية الثانية.. ولم تكن الدول المسماة بالحليفة بمعزل عما يجري وراء الستار، ولكنها كانت تعلمه أولا بأول.. وهذا لمسته بنفسي عندما حضرت مؤتمر نزع السلاح البحري في لندن عام 1930.. وهو برهان آخر علي صدق ديزرائيلي عندما قال: "الحكومات المنتخبة لا تحكم".
والحقيقة أن هذه الفترة من التاريخ معقدة جدا وليس من السهل علي المواطن العادي أن يفهما.
فالشيوعية والنازية تجمع بينمها صفات مشتركة عديدة: فكلامها مبدأ إلحادي ينكر وجود القوّة الإلهية.. وكلاهما ينادي ويشجع الحرب والكراهية والقوة.. ومبادئهما مناهضة للمبادئ المسيحية في السلام والحب والتربية.. وهذا يجعل من قادة كلا المعتقدين العميقين في الإلحاد والمادة عملاء للشيطان.. وهم جميعا ينفذون المؤامرة الشيطانية في إبعاد البشر عن طاعة العلي القدير.. وكلا المعتقدين يستعمل أيضا شكلا من أشكال محافل الماسونية في الشرق الأكبر، لرد الناس عن أديانهم.
وتبين لنا الدراسة التحليلية للتاريخ بين عام 1914 و 1943، أن جماعة المرابين العالميين وجهوا جهودهم في هذه المرحلة لتحقيق الأهداف التالية:
1. إثارة الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي يسمح بخلق جو مناسب للعمل الثوري، يسمح لهم بالسيطرة الكاملة علي الإمبراطورية الروسية.
2. تغيير الرؤوس الحاكمة في أوروبا، قبل أن تبدأ أي مجموعة مجموعاتهم بالسيطرة، وإقامة الحكم المطلق.
3. إجبار حكومتي بريطانيا وفرنسا علي الموافقة علي إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
لقد أجبرت الحكومة البريطانية علي مساعدة الممولين الدوليين لتنفيذ مخططهم في إنجاح الثورة البلشقية، وذلك كي تحصل بريطانيا علي مساعدة الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب.. ويمكننا أن نجزم بأن السفينة لويزيانا أغرقت لتبرر السياسة الأميركية تجاه الحرب، تماما كان حادث بيرل هاربر المبرر لدخولها في الحرب العالمية الثانية.. ((كشفت الوثائق التي أفرجت عنها بريطانيا في التسعينيات، أنّ البريطانيين هم الذين دفعوا اليابانيين للهجوم على أمريكا، وذلك باستخدام سفينة بحرية بريطانية ترفع علم أمريكا، استخدمت شفرة أمريكية يعلم البريطانيون أنّ اليابانيين قد حلّوا شفرتها، في تناقل رسائل كاذبة تؤكد عزم أمريكا على الهجوم على اليابان، ممّا دفع هؤلاء لأخذ زمام المبادرة.. ويقال إن الرئيس الأمريكيّ كان على علم مسبق بنية اليابان مهاجمة بيرل هاربور، ولكنّه تجاهل الأمر لرغبته في إيجاد مبرر لدخول الحرب!))
وجاء في النسخة الأصلية بشأن الانتداب البريطاني علي فلسطين ما يلي: "لتحويل فلسطين إلي وطن قومي لليهود".. ولكن هذه العبارة تغيرت في اللحظة الأخيرة، لتكون "لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين".. وقد تم هذا لإخفاء الطموح السرّيّ للصهيونية.
وكما أخفى الصهاينة طموحهم في الاستيلاء علي فلسطين كلها، أخفوا أيضا حقيقة الثروات المعدنية الطائلة الموجودة علي شواطئ البحر الميت، ولم يكشفوا عن ذلك إلا بعد إعلان الانتداب من قبل فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة.
وهكذا استعمل المرابون الدوليون الصهيونية، لكي يتحكموا بسيادة الدولة ذات المركز الجغرافي المتوسط، ليمدوا سيطرتهم علي بقية دول العالم، كما مدوا سيطرتهم علي الاتحاد السوفياتي.
ستالين
لم يقدر لزوج ستالين الثاني التوفيق، لأنه التقي بامرأة يهودية حسناء اسمها روزا كاغنوفيتش.. ويقال إنه كان يعاشرها عندما أقدمت زوجتة الثانية ناديا علي الانتحار.. ومن المعتقد أن انتحار ناديا لا يعود إلي قصص ستالين الغرامية فقط، بل إلي الأسى الشديد الذي أصابها، بسبب قسوة زوجها في القضاء وعلي عدد كبير من خصومه، الذين كانت تري فيهم إخوة لها في الدين بينما يراهم هو منحرفين.
وكان شقيق روزا ـ ويدعي لازار كاغونوفيتش ـ صديقا مقربا لستالين، الذي جعله عضوا في المكتب السياسي "البوليتبيرو"، وبقي كذلك حتى وفاة ستالين.. وقد برهن لازار عن مقدرته في الإشراف علي الصناعات الثقيلة، عندما قام بتطوير حقول دونيتز بازين البترولية وإنشاء اوتوستراد موسكو.. وقد تزوج ابنه ميخائيل ابنة ستالين (سفيتلانا) في 15 تموز 1951.. وكانت سفيتلانا متزوجة من شخص آخر عندما تقرر هذا الزواج.. ولم يعلم أي شيء عن مصير الزوج الأول، سوي أنه قد انزاح عن الطريق فجأة، تماما كما فعل ستالين عندما تزوج روزا بعد أن أزاح زوجته الثانية، أو بعد أن أزاحت هي نفسها!!
وبالإضافة إلي زواج ستالين من يهودية، فإن نائبه مولوتوف هو أيضا قد تزوج من يهودية، وهي شقيقة سام كارب ـ الرأسمالي الأمريكي الكبير، صاحب شركة الاستيراد الضخمة "كارب اكسبورتنغ" ـ ثم خطبت ابنه مولوتوف إلي ابن ستالين فاسيلي في عام 1951.. وهكذا نري أن المكتب السياسي "البوليتبورو" كان إلي حد ما بيد أسرة ستالين والمقربين إليها.
وقد توصل ستالين إلي أن يصبح في الطبقة العليا للحزب الثوري الروسي، لأن معظم القادة المرموقين في المراحل الأولي من الثورة الشيوعية كانوا داخل السجون.. ولم يترقّ ستالين إلي أي مركز خلال ديكتاتورية لينين، إلا إنه في الفترة الأخيرة من حكم لينين، بدأ يتقدم الصفوف الأولي.. وعندها بدأ الصراع بينه وبين تروتسكي وغيره من بعض اليهود الخصوم.. وانتهي هذا الصراع باستلامه الحكم، الذي لم يتخل عنه حتى وفاته.
في عام 1927 حاول تروتسكي القيام بانتفاضة ضد ستالين، متهما إياه بالانحراف عن الإيديولوجية الماركسية والنزوع إلي إقامة دكتاتورية استعمارية توتاليتارية كبديل للإتحاد الأصيل للجمهوريات السوفياتية الاشتراكية.. وهنا قام ستالين بحملة تطهير، قضى فيها علي عدة ملايين، كما أرسل عددا مماثلا إلي المنفي والأشغال الإجبارية.. وهكذا كانت نهاية العديد من قادة الحركة الثورية منذ الأممية الأولى، أن يلاحقوا حتى الموت أو السجن.. ومن بين القادة الذين تخلص منهم ستالين: تروتسكي، زينوفييف، كامينيف، ومارتينوف وزاسوليش، ودوش وبارفوس، واكسلرود، وراديك وبورتزكي وسفيردلوف، ودان، وليبر، ومارتوف.. ولم يبق من المقربين اليه عند وفاته، إلا لازار كاغانوفيتش صهره، وروزا زوجته الثالثة.
***
سار ستالين علي سياسة لينين في إنشاء عالم الشيوعية بين خطي عرض 35 و 45 من النصف الشمالي للكرة الأرضية.
كانت خطة ستالين تقضي بألا يورّط قواته المسلحة في حرب مع الدول الأخرى، وأن يسير علي سياسة إشعال الثورات جنوبي الاتحاد السوفياتي بين خطي عرض 35 و 45.. وقد أعطت هذه السياسة ثمارها بسرعة، لأنه عند وفاة ستالين كانت الشيوعية قد سيطرت علي نصف المنطقة المذكورة، كما أن نصف سكان الأرض كانوا قد وقعوا تحت التأثير الشيوعي.
((تذكر القمع والاضهاد والتهجير الذي أصاب المسلمين في الجمهوريات الإسلامية التي احتلتها روسيا، للقضاء على دينهم ولغاتهم وتراثهم.. هذا بخلاف الثورات الاشتراكية التي دمرت مجتمعاتنا في نصف القرن الماضي، وما زلنا ندفع ثمن كوارثها حتّى اليوم!!))
هذا وقد حافظ ستالين علي خطة لينين بالبدء بأسبانيا في عملية التحويل إلي الشيوعية، لأنه هذا سيجعل من السهل تعريض فرنسا وبريطانيا للسيطرة الشيوعية، وتصبح بعد ذلك ألمانيا بين فكي الكماشة.. وإذا حدث ما يمنع وقوع أسبانيا تحت السيطرة الشيوعية، فإن حادثا كهذا سيكون من الأسباب المساعدة علي نشوب حرب عالمية ثانية.
وعندما كان ستالين يعد للثورة الأسبانية، شارك مشاركة فعالة في الحرب الاقتصادية، التي كانت تدور رحاها بعد توقيع الهدنة عام 1918. فقد ظهرت طبقات ذات غني فاحش بعد الحرب العالمية لعدم مشاركتها في الحرب، كما أن شعوب الدول الحليفة عاشت برخاء زائد في السنتين اللتين تلنا الحرب.. ولكن قبل أن يتمكن المستثمرون من استثمار أموالهم بعد أوصلوا إلي القمة، سحبت أموال طائلة من الأسواق، وحددت الاعتمادات في البنوك، وبدأت عملية المطالبة بالديون تشتد.. وكانت هذه المأساة الصغرى التي كان يعيشها العالم بين 1923 و 1925، والتي كانت مقدمة للمأساة الكبرى التي خططت لها القوى لتكون عام 1930.
هذا وقد حدثت المأساة الكبرى هذه، بعد أن تغيرت السياسة المالية عام 1925، وعاد الرخاء يتقدم بخطي واسعة حتى الغني الفاحش في كل من أميركا وبريطانيا وكندا واستراليا.. وعاد الاستثمار عن طريق الأسهم والشركات أقوي مما كان عليه قبل 1925.. عندئذ وقبل انتهاء عام 1929، وقعت الضربة المفاجئة.. ونزلت أعظم مأساة اقتصادية عرفها العالم الحرّ في تاريخه كله.. وكان من نتيجتها أن الملايين من الناس أصبحوا بحاجة إلي لقمة العيش.. وانتحر الآلاف.. وقد وقع اللوم يومذاك علي سوء الإدارة والحكم، الذي جعل من عشرات الملايين من البشر مدقعين في الفقر، ورفع 300 فقط من أصحاب الملايين ليصبحوا من أصحاب "التريليونات".
أما ستالين فقد بدأ خطته الصناعية الخماسية عام 1925، وذلك للعمل علي ما أسماه تحسين الأوضاع الداخلية للدول الشيوعية.. وشملت الخطة استغلال لموارد الطبيعية وتصنيعها وتحسين الوسائل الزراعية وتحديث الصناعة.. وقد موّل هذه الخطة الخماسية المرابون الدوليون، وذلك عن طريق قروض ساهمت مساهمة قوية في تحسين الاقتصاد الروسي وبناء القوة العسكرية الروسية والألمانية معا.
ثم جاءت خطوة ستالين التالية، وهي إنشاء المزارع الجماعية.. وكان الشعب الروسي قد عاش لقرون عديدة أقل من العبيد في الأرض التي كان يستغلها الإقطاعيون، ثم وعدهم لينين بأن يعيشوا عيشة أفضل، حيث انفصل أكثر من مليونين من عائلات الفلاحين عن إقطاعهم، ووزعت الأراضي، وأصبحوا جميعا ملاكا مستقلين.. وفي أول كانون الثاني 1916 ارتفع عدد هذه العائلات إلي 6.200.000 عائلة.
ولكن الحظ السيء كان يلاحق هؤلاء، لأن الممولين الدوليين كانوا يريدون الحصول علي القروض التي دفعوها للخطة الزراعية ولتموين الجيش الألماني، فأصروا علي التحكم بصادرات وواردات الدول الشيوعية، كما طلبوا بتنفيذ المزارع الجماعية علي أنها الوسيلة الوحيدة لزيادة الإنتاج الزراعي.
وقد سجل التاريخ ما حدث عندما نفذ ستالين بالقوة مشروع المزارع الجماعية، فأكثر من خمسة ملايين من الفلاحين واجهوا الإعدام أو ماتوا من الجوع، لأنهم رفضوا تنفيذ المشروع أو حاولوا الوقوف في وجهة.. كما أن أكثر من خمسة ملايين غيرهم تم نقلهم إلي سيبيرا لكي يقوموا بالأعمال الإجبارية.. بل أكثر من هذا، هو أن القمح الذي صادره ستالين من الفلاحين تم بيعه للمرابين الدوليين، ليضاف إلي كميات القمح الأخرى التي اشتراها هؤلاء من بلدان أخري.. وكان الغرض من هذه العملية هو تعويم السواق العالمية بهذه المادة الأساسية وبشكل رخيص، وذلك للمضاربة علي القمح الأمريكي والكندي، كي يكسد ولا يجد الأسواق التي تشتريه.. كما أن المرابين قاموا بضربة أخري للّحوم والمواشي الكندية والأميركية، وذلك عن طريق شراء كميات ضخمة من اللحوم المبردة والمعلبة من الأرجنتين وغيرها من البلدان المنتجة للحوم.
وبين عامي 1920 و 1929 خفض الممولون الدوليون أسعار الشحن في سفن جميع الدول تقريبا، ما عدا بريطانيا وأميركا وكندا.. فكان من نتيجة هذه القرصنة التجارية، أن استحال علي السفن من هذه البلدان الثلاثة أن تنافس أسعار الشحن في السفن الأخرى، فرابطت آلاف السفن التجارية في موانئها، وتوقفت عملية التصدير بشكل لم يعرف من قبل.
في نفس الوقت الذي كان ميزان الصادرات في الدول الحليفة يهبط بشكل عجيب، كان هناك ارتفاع مقابل في عملية الاستيراد من كل من ألمانيا واليابان ودول أوروبا الوسطي.. وهكذا ساءت الحالة في البلدان الحليفة.. ففي كندا مثلا يعتمد خمسة من كل ثمانية من أصحاب الدخل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة علي عملية التصدير.. وإذا انخفض ميزان التصدير، تبعه مباشرة انخفاض وانتكاس تجاري.. ذلك أن القدرة الشرائية لخمسة من كلّ ثمانية من أصحاب الدخل تنخفض.. يؤثر هذا أيضا علي كل من يعتمد علي الخدمات بأنواعها كوسيلة لكسب عيشه.. وإذا بقي هذا الانخفاض في ميزان المدفوعات علي حاله أو توقفت الصادرات، فإن الانتكاس التجاري يتحول إلي أزمة ويتدهور إلي مأساة.
وحتى يتأكد أصحاب المؤامرة العالمية من انزلاق الهيكل الاقتصادي للدول الحليفة إلي الهاوية، راحوا يعوّمون الأسواق العالمية بالقمح واللحم بأسعار منخفضة جدا وأقل من كلفة الإنتاج في كل من كندا وأميركا واستراليا.. فكان من نتيجة هذا التعويم أن فاضت مستودعات القمح في الدول الحليفة ولم تتمكن من بيعه، بينما كانت شعوب بعض الدول تموت جوعا لحاجتها الماسة للخبز واللحم.. وكانت بريطانيا تعوض الفرق السنوي الشاسع بين ميزان الصادرات والواردات بخدماتها فيما وراء البحار، حيث تكسب ما يعادل 85 مليون جنيه إسترليني.. ولكنها أصيبت بضربة قاسية جدا عندما منعتها المنافسة غير العادلة من الحصول علي هذا المبلغ.. هذا وقد استغل المرابون العالميون هذه الأزمة الاقتصادية المصطنعة لخلق جو من التنافر والخلاف بين مختلف دول الكومنولث، وذلك بهدف إضعاف الإمبراطورية البريطانية وتفكيكها.
ماذا كانت هذه الحرب الاقتصادية؟.. ركود شديد في تجارة وصناعة وزراعة الدول الحليفة والدول الرأسمالية، وفي نفس الوقت ازدياد شديد وتوسع هائل في نشاط الدول الشيوعية ودول حلف المحور..
وهكذا أخذوا يهيئون الوضع الدولي لقيام حرب عالمية ثانية في الوقت الذي يريدونه.
الثورة الأسبانية
في القرن الثالث عشر الميلادي شكّل البابا أنيوسينس الثالث محاكم التفتيش، لاعتقال الزنادقة الذين يتظاهرون بالتدين والتحقيق معهم ((الصحيح: للتنكيل بالمسلمين واليهود بمنتهى الوحشية والخسّة!!).. وكانت أسبانيا قبل ذلك قد أكرمت اليهود وعاملتهم معاملة ودية جدا ((هذا عندما كان يحكمها المسلمون)).. ومن هنا نجد أن جميع جرائم المرابين الملحدين وعملائهم في أسبانيا وفي غيرها من الدول تلصق باليهود.. واستمر عمل محاكم التفتيش أيام إيزيلا وفردينايد، أي بين عامي 1475 و 1504.
ولما جاء حكم توركومادا، وجدت محاكم التفتيش أن خلايا المرتدين والمخربين تنتشر انتشارا واسعا في البلاد وتتبع تنظيما دقيقا.. عندئذ حذت أسبانيا حذو غيرها من الدول الأوروبية وطردت اليهود من أراضيها، مما شجّع المتطرفين علي تنظيم أعمال عنف جماهيرية ضد اليهود، فوقع عدد من المذابح المؤلمة، أدانتها سلطات الكنيسة في روما وهاجمتها بشكل علني.
وفي القرن السابع عشر، بعد إعادة تنظيم رجال المصارف العالميين، عاد عملاؤهم وتسربوا إلي إدارة الخزينة الأسبانية، وكان لهؤلاء نشاط واسع إبان الثورتين الفرنسية والإنكليزية.. وبذلك حاولوا جهدهم إضعاف الاقتصاد الإسباني وتهيئة البلاد للحركات الثورية.
وقد يكون من المهم جدا أن نتعرف علي خيوط المؤامرة السياسية التي حيكت بين عام 1839 وعام 1939، لنكوّن صورة واضحة عن أسلوب العمل الثوريّ، وهو يتألف من ثلاث مراحل لا بد منها:
1- تغلغل أفراد الحزب الثوري في المناصب الحكومية, وفي مراكز الخدمات العامة والقوات المسلحة والتنظيمات العمالية، بغية الاستعداد لتحطيم الحكومة من الداخل عندما يسمح الوقت بذلك وتصدر الأوامر.
2- ربط الحزب الثوري بالحزب الاشتراكي أو الحزب اليساري، بغية الإطاحة بالحكومة، سواء أكانت ملكية أو جمهورية.
3- القيام بنشاطات تخريبية بغية اختلاق الفوضى، لزعزعة الرأي العام في حكومة الجبهة الشعبية المؤتلفة كما يسمونها عادة، فيكون الفشل حليفها، مما يمهد الطريق لقيام ديكتاتورية البروليتاريا، التي ما إن تظهر للوجود حتى تبدأ عمليات التطهير، وتظهر بعدها الديكتاتورية التوتاليتارية.. وهذا ما حدث بالفعل في روسيا عام 1917.
وسنري الآن كيف نفذت هذه المراحل الثلاث في أسبانيا، البلد الذي كان هدف لينين، ثم ستالين من بعده.
***
جري أول إضراب عامّ نظمه عملاء كارل ماركس في أسبانيا عام 1865.. وفي عام 1868 أرسل زعماء الحركة الثورية العالمية السنيور فانيلي إلي أسبانيا، ليقوم بتوحيد نشاطات الفوضويين مع الثوريين الماركسيين.. وكان السنيور فانيلي صديقا حميما لباخونين، الذي كان بدوره علي علاقة وثيقة بماركس وانجلز.. ولكن باخونين لم يبق علي صلات وثيقة مع ماركس، لأنه عارض سياسته عام 1870، فطرد من الأممية الأولي (المؤتمر الأول) لقادة الحركة الثورية العالمية.
تابع كل من باخونين وفانيلي نشاطهما كل علي حِدَة، فتمكن باخونين من التأثير علي القادة الثوريين الأسبان وإنشاء التحالف الاشتراكي الديمقراطي عام 1872.. وقد أصدرت الحكومة قرارا بمنع هذا التنظيم، ولكنه بقي يعمل سرا.
وفي نفس الوقت كان "محفل الشرق الأكبر" قد أنشأ تنظيمات قوية في داخل أسبانيا.
وفي المؤتمر العام الذي عقد في زارغوزا، وافق الجناح الأسباني للماركسية الدولية، علي التحالف مع حركة الرفض الفوضوية.. وبعد هذا التحالف ركز الفريقان جهدها علي توحيد جميع الفئات العمالية، وإنشاء تحالف واسع سمي بالكامورا.. وفي عام 1873، توّج هذا التحالف الواسع نشاطه بقيام الثورة وإنشاء الجمهورية الأسبانية الأولي.
وكالمعتاد، رافق هذا النشاط الثوري قيام عهد من الإرهاب وانتشار الفوضى بشكل مريع.. وقد حملت هذه الأعمال الفوضوية الجنرال بافيا علي القيام بحركته الانقلابية.. وعندها عاد العمل الثوري إلي السرية مرة أخرى، ولكنها لم تدم طويلا، إذ سرعان ما ساند أعضاء الحركة الثورية قادة الحركة التحررية المعتدلة، وعادوا مرة أخري إلي الظهور علي مسرح السياسة.. عندها قاموا بتغذية النزاع القائم بين الموالين لأحفاد الملك دون كارولز، وبين الموالين لأحفاد ايزبيلا.. وقد انتهي هذا النزاع بانهزام الموالين لأحفاد كارولز عام 1876.
في هذا الوقت كانت الحركات العمالية في أوجها، وأغلبها يعمل بهدف نبيل غايته تحقيق العدالة للعمال.. وكان معظم العمال يرفضون السياسة المتطرفة لحركة الرفض اليسارية، ولذلك نظموا أنفسهم في "اتحاد العمال".. ولكنّ القادة المعتدلين لهذا الاتحاد سرعان ما وجدوا أنفسهم خارجه، بعد أن تسرّب الثوريّون المتطرفون إلي داخل الاتحاد، وبدأ وعمليات التصفية من الداخل.. وبقيت أعمال التصفية مستمرة حتى عام 1888، عندما أعلن بابلو اغليسياس إنشاء "الاتحاد العام للعمال"، ليضم أكبر عدد من المعتدلين.. وكان هذا الاتحاد العام يعرف في أسبانيا بــ U. G. T.. وقد بقي دون دعم الحكومة حتى أعلنت الحكومة الاتحاد الأيبري، الذي كان يضم جميع المتطرفين والمنضمين إلي حركات الرفض الفوضوية.
ثم في سنة 1910 شكلت الاتحادات العمالية المتطرفة اتحادا نقابيا عاما، عرف في أسبانيا بـ C. N. T.. وبقي هذا الاتحاد النقابي العام يعمل هو والعديد من النقابات الأخرى حتى عام 1913، عندما تمّ تعليق هذه النقابات بسبب الإضرابات المتكررة.. وكانت الحكومة توافق وتتعاون مع الحركات العمالية وتؤيد المطالب الجماعية، ولكن المتطرفين كانوا قد بدأوا يستغلون هذه النقابات لغاياتهم الخاصة وينفذون مآربهم.. فحلت الحكومة جميع النقابات، ووجد العمال أنفسهم من جديد بدون حماية.
وعاد الثوريون المتطرفون ليستغلوا هذا الوضع الجديد للعمال، ليوجهوا أعمالهم بشكل أعنف من السابق وأشد خطورة.. فبدأوا يزيدون نشاطاتهم ضد جميع الأحزاب السياسية وضد الدولة نفسها.. وفي عام 1916 أعيد تنظيم الاتحاد النقابيّ المتطرف المعروف باسم G. R. T، وظهر علي المسرح اسم زعيمين هما: بيستاتا وسيغوي، اللذين تمكنا من توحيد العمل النقابي في مدينة برشلونة.
ومما ساعد علي إنجاح التنظيمات النقابية المتطرفة، هو الإجحاف الذي لحق بالعمال إبان الحرب العالمية الأول وما بعدها.. فقد كانت أسبانيا قد كسبت أموالا طائلة أيام الحرب لأنها كانت دول حيادية، ولكن العمال بشكل عام لم يشاركوا في الازدهار الواسع الذي عم البلاد، فتدفقوا علي التنظيمات المتطرفة يسعون إلي تحقيق مكاسبهم ورفع الظلم عنهم.. وفي نفس الوقت ثابر بعض القادة المعتدلون علي نشاطهم، وتوصلوا إلي إنشاء الاتحاد النقابي الحر عام 1920.
وفي الفترة التي تلت ذلك العام واستمرت حتى عام 1923، اشتد النزاع بين الحركات النقابية اليسارية من جهة أخري.. وعمت البلاد إضرابات محلية وعامة وأعمال عنف واغتيالات واسعة للقادة العماليين، بهدف إضعاف الفرقاء لأعدائهم.. وقد ارتكبت كل هذه الجرائم باسم "الحرية"، حتى وصلت الحالة إلي فوضي تامة.. عندئذ طلب الملك الأسباني من الجنرال بريمودي ربفيرا ضبط الأمن في البلاد، ومنحه مطلق الصلاحيات العسكرية ليمنع الشيوعيين من القيام بثورة أخري.
كانت أول نتيجة للحكم الديكتاتوري الذي تزعمه دي ريفيرا أن أنهي الحرب مع المغرب نهاية ناجحة.. وكانت شخصية الجنرال فرانكو قد تبلورت من خلال هذه الحرب، وأخذت شعبيته تزداد وتنتشر.. وقد استطاع بعدله وحزمة أن يكسب ود الشعب المغربي وصداقته وإعجابه (!!!!!!!).. وبالرغم مما قيل عن دي ريفيرا، إلا إنه من المعدل أن نقول إنه تمكّن من إعادة النظام إلي البلاد، وقام بتحسين أحوال العمال بعد أن تعاون مع اباليرو، كما قام بإصلاحات اجتماعية عديدة.. ولكن هذا النشاط الواسع أضعف الجنرال دي ريفيرا وتدهورت صحته عام 1929.. وهذا علي الأرجح ما يفسر الأخطاء في تقدير الأشخاص التي ارتكبها عام 1930.. فقد اختار في ذلك العام اثنين من زعماء الحركة الاشتراكية وهما بستيرو وسابوري. وكأنه قد شعر بثقل المسؤولية علي كاهله فأراد أن يرفعها عنه، فطلب منهما أن يعيدا تنظيم الجهاز الانتخابي للأمة، لكي يستطيع الشعب تقرير مصيره والاختيار بين الملكية أو الجمهورية.. ولم يُعرف السبب الكامن وراء اختيار هذين الرجلين وسيبقي هذا الحدث بدون تفسير.. وقد قام بيسترو وسابوريت بما يجب علي قائدين ثوريين أن يقوما به، فطوقا الجهاز الانتخابي وأعدّاه ليكون انتخاب حكومة اشتراكية أمرا حتميا.. وانتشر التزوير في الانتخابات، ليقترع في مدريد وحدها 40.000 من المتوفين ومن الناخبين المزورين.
وكانت محافل الشرق الأكبر في أسبانيا قد نظمت اتحادا خاصا سمته "الاتحاد العسكري الأخوي"، ويهدف إلي الإطاحة بالنظام الملكي.. وقد استطاع أن يحصل علي وعد 21 من أصل 23 جنرالا أسبانيا، بأن يساعدوه علي إقامة الحكم الجمهوري.. وقد ذكر هذه المعلومات الجنرال مولا، قائد قوى الأمن الداخلي في أسبانيا، وذلك في كتابه: “Tempestad Calma Intriga Y Crisis"، حيث يخبرنا فيه أن المحافل وضعت تحت تصرف الجنرالات عند انتمائهم لها، مبلغ مليون ونصف بيزفيتا، وذلك لمساعدتهم علي الهرب في حال فشل الحركة الجمهورية.. وكان فرانكو أحد الجنرالين الذين لم ينضما إلي "الاتحاد العسكري الأخوي".. ويؤكد كلام الجنرال مولا، جنرال آخر كان من بين الذين انضموا إلى "الاتحاد العسكري الأخوي" وهو الجنرال كانوا لوبيز، حيث قال في حديث له في البرلمان الإسباني (الكورتس): "لقد جمعت الماسونية منذ عام 1925 غالبية كبار ضباط الجيش، وذلك تحت شعار الاتحاد العسكري الأخوي".
ومن بين الذين دخلوا كأعضاء في هذا الاتحاد، كابانيلاس وسانجورجو وغويد ومولا ولوبيز وأوشاو كويبو دي لانا وغيرهم.
ويضيف لوبيز قائلا: "وقد صدرت الأوامر مرتين لهؤلاء الجنرالات، مرة عام 1929 للإطاحة بالديكتاتورية التي تزعمها دي ريفيرا، ومرة للإطاحة بالملكية عام 1931.. وقد نفذ الجنرالات هذه الأوامر كما جاءت".
ويخبرنا الجنرال مولا كيف حنث هو وغالبية الجنرالات بوعدهم للمحافل، وذلك عندما شعروا أنهم قد استغلوا بكل بساطة لتنفيذ المخططات السرية، التي أعدها ستالين ليحول أسبانيا إلي ديكتاتورية شيوعية أخري.
وقد نشرت المجلة الفرنسية في تقرير لها عام 1932، أن ستالين وعد بمبلغ مئتي ألف دولار، كإسهام منه في تمويل مراكز التدريب الثوري في أسبانيا.. كما تبين الكشوفات المقدمة للمؤتمر الشيوعي الدولي عام 1931، أن القادة الثوريين تسلموا مبلغ مئتين وأربعين ألف جنيه ـ بالعملة الإنكليزية ـ كما كان تحت تصرفهم مبلغ مليونين ونصف بيزيتا لشراء الأسلحة والذخائر.. ويقول الجنرال مولا إنه وصل أسبانيا عام 1938 قادما من روسيا، مئتا قائد ثوري كانوا قد تدربوا في مؤسسة لينين في موسكو.
***
ومنذ عام 1930 وحتى تاريخ بدء العمليات الانتخابية، كانت قد بدأت حملة التشهير ضد ملك أسبانيا وعائلته الملكية.. ومن بين الأكاذيب السخيفة، الزعم أنه كان يسفك دم جندي أسباني كل يوم، وذلك لإبقاء أمير استوريا علي قيد الحياة، وهو المعروف بأنه يعاني من النزيف الدموي.. واتُهم الملك بالفجور ـ تماما كما اتهمت إمبراطورية روسيا زورا بأنها كانت عشيقة لراسبوتين.
وبعد أن انتهت عمليات التزوير وأفرغت من صناديق الاقتراع أصوات الريفيين المؤيدين للملكية.. وبعد أن أعلنت نتائج الانتخابات لصالح حكومة جمهورية، أصدر الملك ألفونسو الثالث عشر بيانه الأخير إلي الشعب، الذي قال فيه: "لقد برهنت الانتخابات التي جرت يوم الأحد أنني لم أعد أحظى بمحبة وتقدير شعبي.. ولكنني مازلت مقتنعا أن هذه الأحوال ستتغير، لأني كنت دائما أجاهد في سبيل أسبانيا وأضحي مخلصا من أجلها.. قد يرتكب الملك بعض الأخطاء، وبدون شك لقد ارتكبت بعضها، لكنّ شعبي كان دائما صفوحا عن أخطاء الآخرين بدون أي حقد أو ضغينة.. لقد كان بإمكاني، وأنا الأسباني والملك علي جميع الأسبان، أن أستعمل جميع صلاحياتي للحفاظ علي حقوقي الملكية بوجه من يظهر أية مقاومة.. لكنني آثرت أن اتنحّى، خوفا من أن تنقسم البلاد فيقاتل الأسباني أخاه في حرب أهلية.. وأنا إذ أغادر البلاد، أصر علي أنني ما أزال مؤمنا بالحق الذي جاءني عبر التاريخ، والذي سأسال عنه يوميا من الأيام.. كما وأني إذ أتخلى عن جميع صلاحياتي الحالية في ممارسة الحكم ـ وفي قناعتي بأن هذا سيكون لصالح البلاد وليكون الشعب كله مسئولا عن نفسه ـ أضرع إلي الله أن يقوم كل أسباني بواجبه الذي يميله عليه حبه لأسبانيا، بنفس القدر الذي كنت أقوم به".
***
حتى ذلك الحين، كان المتآمرون قد نفذوا الخطوة الأولى، وبدءوا يعدون للخطوة التالية.. ولم يكن جميع أفراد الحكومة الجديدة من عملاء المرابين، بل كان بينهم أعداد كبيرة من المخلصين، ولكنهم كانوا جميعا بدون سلطة وبدون صلاحيات.. أما السلطة الحقيقية فقد كانت بأيدي العملاء الشيوعيين والفوضويين، الذين بدءوا يُعدون للمرحلة الثانية، وهي إنشاء ديكتاتورية البروليتاريا.. وابتغوا لتحقيق هذا الغرض طريقة اللعب علي الحبلين، فأوحت بعض الخلايا الشيوعية إلي الحكومة بارتكاب بعض الأخطاء، بينما راحت خلايا أخرى خارج الحكومة تشنّ هجوما علي الحكومة لارتكابها هذه الأخطاء، وتنعتها بالسذاجة والفساد.. وهنا بدأ عملاء موسكو بتنفيذ جميع أنواع الجرائم، لدفع الناس إلي القبول ـ بل حتى المطالبة ـ بديكتاتورية البروليتريا للحفاظ علي البلاد وعلي أمنها الداخلي.
وكان الجنرال دي ريفيرا قد استخدم لارغو كابا ليرو ومجموعته، في تخفيف حده النزاع القائم بين العمال وأرباب العمل.. ولكن ما إن ظهرت الحكومة العمالية إلي الوجود، حتى كشف كابا ليرو عن حقيقته، وأعلن بصراحة عام 1935 أنه تمكن من إنشاء "عشرات الآلاف من الخلايا الشيوعية في جميع أنحاء أسبانيا".. وهذا يفسر الاستقبال والتصفيق الحار الذي قوبل به الوفد الأسباني في المؤتمر العام الحادي عشر للجنة التنفيذية للأممية الشيوعية، وامتداح الوفد لأن "الإعدادات للثورة تجري بشكل سريع ومناسب تماما للخطة الثورية في أسبانيا".. وفي المؤتمر الثاني عشر للأممية الشيوعية وجهت كلمات الثناء التالية للوفد الأسباني: "لقد لا حظنا في أسبانيا بالذات، قيام أعمال ثورية وإضرابات متكررة علي مدي شهور عديدة، بشكل لم يشهده هذا البلد من قبل.. وليس هذا الصراع العمالي إلا الخطوة الأساسية لقيام الثورة الأسبانية".
***
ما حدث بعد ذلك في أسبانيا يكشف الكثير من وجوه المؤامرة، وخصوصا ما حدث ضمن التنظيم الشيوعي نفسه.. وكما يقول المثل القديم "عندما يختلف اللصوص تظهر الحقيقة"، فإن هذا ما حدث بالفعل في أسبانيا.. فقد كان الزعماء الثلاثة للحركة الشيوعية مورين وسيرجس ونين، قد أتموا دراستهم الثورية في مؤسسة لينين في موسكو، وعادوا لقيادة الحركة الثورية.
وبعد سنوات من الحياة الصاخبة والمليئة بالنشاط الثوري، جلس مورين ليكتب عام 1926 كتابة Hacia la Segunda Revolution، الذي أظهر فيه معارضته لستالين لأنه قد انحرف عن العقائدية الماركسية.. واتهم مورين ستالين بأنه يستخدم القوي الشيوعية لتحقيق مآربه الخاصة في الحكم الديكتاتوري الاستعماري.
وهكذا بدأ الصراع بين ستالين وبين الشباب الثلاثة مورين وسيرجس ونين.. وأثبت هؤلاء عن مهارتهم في تجميع العمال والسيطرة عليهم، فقرر ستالين التخلص منهم يعد أن قاموا بما عليهم حتى بداية الحرب الأهلية.. وكان أمر ستالين بتصفيتهم قد حدد بأن "يظهر موتهم للشعب وكأنه استشهاد بطولي في سبيل الشيوعية"، فأرشد الشيوعيون فرانكو علي مكان مورين، فأعدم بعد أن حوكم.. أما سيرجس فتقول التقارير إنه مات بأيدي الشيوعيين أنفسهم.. وقتل نين في ظروف غامضة.. وبعدها أعلن للملأ أن موت هؤلاء لم يتم إلا علي يد أعداء الشيوعية.
ولكن هذا الصراع لم يمرّ هكذا بدون نتائج أو فضائح.. فلقد أخذ الشيوعيون يفضحون بعضهم البعض ويبينون الحقيقة الخفية لوجودهم.. ومن بين هذه الفضائح ما كتبه سيرجس، حيث يقول: "لقد تم تطور الشيوعية عام 1936 من الثورية الأممية إلي القومية، بشكل قوة عسكرية ضخمة يقوم علي خدمتها أحزاب عديدة في دول مختلفة، وتقوم هذه الدولة القوية بتمويل هذه الأحزاب.. فبعد عام 1936 شكل الستالينيون الحزب الإسباني الاشتراكي الموحد، الذي رعاه المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية.. وكان الهدف من ذلك إنشاء قوة جديدة ذات طبيعة فاشية، تتمكن من تطويق فرنسا، الحليف المحتمل لروسيا في الحرب التي يجري إعدادها".
ويقول مورين أيضا "جرت السياسة الإنكليزية منذ القديم علي تدمير أعدائها، حتى تفرض نفسها لحمايتهم، وحتى تجعل نهوضهم من جديدا أمرا مستحيلا.. ونحن نعرف أن أسبانيا هي ضحية إنكلترا في المقام الأول، وضحية فرنسا في المقام الثاني.. وإذا مالت أسبانيا نحو إنكلترا زادت فرنسا في اضطهادها.. وما دامت فرنسا وإنكلترا كلتاهما من الدول الرأسمالية، فلن يكونا الحليف الطبيعي لأسبانيا.. لذلك كان الخط المنطقي لأسبانيا هو أن تنحاز إلي البرتغال وألمانيا وإيطاليا وروسيا، لأن مثل هذا التكتل سيجعل من فرنسا وإنكلترا بلدين محايدين بالنسبة لها".
ويشرح لنا سيرجس، كيف أن التجمع اليساري في أسبانيا تمكن من نشر دعايته بشكل واسع في الصحافة العالمية، في حين أن فرانكو لم يكن ليحظى إلا بالنذر السير من اهتمام الصحف.. وقد كتب سيرجس يقول: "لم يعرف التاريخ من قبل، طرقا وأساليب دنيئة ومنحطة، كالتي استعملها ستالين من وراء المؤتمر الأممي الثالث للشيوعية.. فقد وجه ستالين وأعوانه الدعاية الكاذبة، بشكل متواصل وبدون أي مراعاة للحقيقة والصدق.. واستعملوا أسلوب التكرار والسخرية حتى أصبح هذا الأسلوب ميكانيكا بالنسبة لهم.. ولم يستعمل هذا الأسلوب علي النطاق المحليّ، بل تمكنت البيروقراطية السوفياتية من توسيعه إلي نطاق دولي.. فما إن تطلق "الازفستيا" أكذوبة في فلنتيا، حتى تتناقلها مباشرة الصحف في باريس وستوكهولهم ووارسلو وبروكسل ولندن ونيويورك ومالبورن وبيونس آيريس.. وهكذا يتم توزيع الملايين من النسخ التي تحمل الأكاذيب المضللة.. ولا يبقي أمام المثقفين ثقافة واسعة، الذين يعادون الفاشية، إلا تصديق الصحافة لأنها الوسيلة الأولي لاستقاء المعلومات.. ومن هنا يشعر المرء بأن العالم اليوم يعاني من عملية ضخمة للتضليل الأخلاقي.. وهذا ما يجعلني أقر ـ وأنا أشعر بالأسى ـ بصدق كلمات تروتسكي، عندما اعتبر دعاية الكومنترن الستاليني "زهري" الحركة العمالية".
وهكذا يصبح الكلام الذي جاء علي لسان سيرجس ومورين بعد أن انشقا عن موسكو، مطابقا تماما لما جاء في المنشور البابوي الذي أمر بتوزيعه البابا بيوس الحادي عشر في آذار عام 1937، وجاء في أحد أقسامه: "وهناك تفسير آخر لهذا الانتشار الواسع للأفكار الشيوعية.. إنها الدعاية الشيطانية بحق، التي لم يشهد لها العالم مثيلا.. فهي تدار من مركز رئيسي واحد، وتوزع علي مختلف مناطق العالم، بشكل يناسب جميع الناس.. كما تسيطر علي مصادر مالية ضخمة جدا تبقى دائما تحت تصرفها، وتُمكّنها من السيطرة علي العديد من المنظمات والمؤتمرات الدولية، وعلي أعداد ضخمة من العمال.. وتستغل هذه الدعاية الصحف والمجلات والسينما والمسرح والإذاعة والمدارس وحتى الجامعات.. وشيئا فشيئا تتمكن من الدخول إلي عقول الناس من مختلف الطبقات أو الفئات.. وهناك عنصر آخر يسهل انتشار الشيوعية، هو الإسكات أو التضييق علي قطاع كبير من الصحافة العالمية.. ونحن نقول تضييق، لأنه التفسير الوحيد لسكوت الصحافة أو بقائها بعيدة عن جو الإرهاب الذي عم روسيا والمكسيك وحتى جزءا كبيرا من أسبانيا.. وكيف تسكت الصحافة وهي التي تبحث دائما بنهم عن الأخبار لتملأ بها صفحاتها، ولا تتغاضى عن أي خبر صغير أو كبير، فما بالك بتنظيم عالمي كالشيوعية الروسية. إن هذا السكوت يعود من جهة إلي قصر النظر للأبعاد السياسية، ومن جهة أخري لوجود القوي الشريرة العديدة التي مازالت تعمل منذ وقت طويل علي تحطيم المجتمع.. وها نحن نري النتائج المؤسفة لهذه الدعاية أمام أعيننا.. انتشار واسع للشيوعية، وتفاخر أبطالها الصريح بتحطيم الثقافة المسيحية واقتلاع كل ذكري لها من قلوب الناس، وخصوصا من قلوب الشباب.. وفي أسبانيا دمروا كل ما استطاعوا تدميره من الكنائس والأديرة، وأزالوا كل ما استطاعوا إزالته من مظاهر الدين المسيحيّ.. ولم تكتفِ نظريتهم نفسها بذبح المطارنة وآلاف الرهبان ورجال الدين من الجنسين، بل تعدتهم إلي أولئك الذين نذروا أنفسهم لخدمة العمال والفقراء، فكانت الأكثرية الساحقة من ضحاياهم من بين عامة الشعب ومن جميع الطبقات.. وقد ماتوا جميعا بحقد وحشي بربري لا يمكن أن تصدق أنه يقع في هذا العصر.. ولا يستطيع أي رجل عاقل أو سياسي مسئول، أن ينكر أن ما يحدث في أسبانيا يمكن أن يحدث غدا في أي بلد متمدن آخر.. هذا ما يحدث إذا حذفنا فكرة الله من قلوب البشر، لأنه عندها لا يمكن أن يمنعهم أي شيء عن ارتكاب أبشع الجرائم البربرية".
الحرب الأهلية في أسبانيا:
يقول الجنرال مولا Mola: "بعد انتخاب الحكومة الاشتراكية في إسبانيا ورحيل الملك عن البلاد، حدث انجراف واسع النطاق نحو الانضمام إلي محافل الشرق الأكبر الماسونية.. وقد فكر المسئولون والرسميون أنهم بطلبهم الدخول إلي هذه المحافل، سيكونون بمأمن من الظلم الذي كانت تمارسه الأكثرية الماسونية في الحكومة، وأنهم بهذا يبرهنون عن إيمانهم بالحكم الجمهوري، وبذلك ينجون من خراب محتم".
***
كتب تشرشل: "لقد ساعد الشيوعيون في إقامة الحكم الجمهوري، ليتمكنوا مرة أخري من خلق الفوضى الاقتصادية والسياسية، حتى يتوصلوا إلي جعل القادة يعلنون بالمنطق إلي شعبهم الذي عمته الفوضى، أن الطريق الوحيد لاستعادة النظام والقانون ولإنقاذ الموقف، لا يكون إلا بديكتاتورية البروليناريا".
وهكذا كانت الخطوة المنطقية بعد الإطاحة بالملكية، هي مهاجمة الدين الذي يؤمن به الشعب، فادخلوا العلمانية إلي المدارس، وقاموا بحملة واسعة ضد السلطة الأبوية والسلطة الكنسية.. وبعد خلق الآلاف من اللادينيين ومن البلاشقة الشبان المعادين للقيم الاجتماعية، لم يعد عليهم إلا الانتظار حتى تسنح الفرصة المناسبة، لدفع هذه الجماهير كي تستعمل القوة ضد القانون والنظام.
وفي اجتماع عقد في نادي اتينيو في مدريد، لدراسة البرنامج السياسي المقبل، تم الاتفاق علي النقاط الثماني التالية:
1- خلق ديكتاتورية جمهورية.
2- معاقبة كل مسئول عن عمل غير شرعي في ظل هذه الديكتاتورية فورا.
3- تسريح الحرس الأهليّ والجيش والبوليس، واستبداله الجيش الجمهوريّ به، والذي تم اختياره من الطبقات العمالية ومن أعضاء النوادي الجمهورية.
4- مصادرة ممتلكات الهيئات الدينية.
5- تأميم الأراضي. (لاحظ أنّ مصادرة الممتلكات والأراضي، تضمن تدمير كل السلطات والقوى القديمة في المجتمع ـ خاصة مع تدمير سلطة الدين ـ لضمان سيطرة هؤلاء الطغاة على المجتمع.. وهذا هو نفس ما فعلته الثورات الشيوعية والاشتراكية في مصر والوطن العربي.. وطبعا وزعوا الأراضي على الفقراء وزجوا بالملايين في تعليم عقيم وقطاع عام خرب اقتصادنا، فقط لرشوة كلّ هؤلاء وشراء ولائهم!!.. والنتيجة هي الواقع المريض الذي نعيشه اليوم!!))
6- القضاء علي وكالات الصحافة المعادية للنظام الجمهوري الديكتاتوري.
7- استغلال المدارس التكنيكية للخدمة العامة مع بعض الأبنية الأخرى.
8- تأجيل انعقاد المجلس التشريعيّ لإسبانيا والبرتغال، حتى يتم تنفيذ هذا البرنامج.
وكان من أبرز القادة السياسيين في ذلك الوقت أزانا Azana ذو الفكر التحرري، وبريتو Prieto الاشتراكي، وكابا ليروCaballero الشيوعي.. وقد تظاهر أزانا بأنه لا يؤيد هذه الاقتراحات المتطرفة وسخر منها، مع أنه بالفعل كان يؤيدها سرا، لأنه ما إن تم انتخابه حتى قام بتنفيذها فورا.
وبعد الاتفاق هلي هذه النقاط الثماني، تم انتخاب المجلس التشريعي التأسيسي.. وتحت شعار "القانون هو الذي يعمل علي الدفاع عن الشعب"، تم إنشاء ديكتاتورية عديمة الشفقة لم يكن فيها من مظاهر الديمقراطية إلا اسمها، وهو "الجمهورية العمالية".. ثم قام ثوري مدرب يدعي جيمينزا أسوا Jiminez Asua بوضع مسودة الدستور.. أما أزانا فقد وجه اهتمامه الأكبر نحو القضاء علي الكنيسة والتخلص من رجال الدين.. وفي كانون الأول 1932 أسس "الرابطة الإلحادية"، وقام بتمويل مجلتها "سن ديوس" Sin Dios (المنكرون للألوهية) من أموال الشعب.. وقد تم الوصول إلي هذه الأهداف جميعا تحت اسم الديمقراطية!!.. وأعلن للشعب عن طريق القادة أنهم الآن قد حرروا من سيطرة الكنيسة ورجال الدين، الذين تحالفوا مع الإقطاعيين من الملوك المستبدين.. ثم جاء الدور التالي من المخطط، وهو خلق جو من الفوضى والشغب، فبدأ النشاط الثوري في كتالونيا Catatonia.. واستطاع الجنرال بريمو أن يحيطه أول الأمر، لكن النشاط الثوري عاد للظهور من جديد.. وفي كانون الثاني 1933 كتب مراسل "المورننغ بوست" اللندنية أن "مخازن ضخمة للقنابل والبنادق والذخيرة قد تم العثور عليها في جميع أنحاء أسبانيا.. كما أن البوليس تمكّن من التأكد من أن مبالغ ضخمة من المال قد صرفت لإشعال الثورة.. وقد تبين عند تفتيش الذين قبض عليهم أنهم يحملون مبالغ ضخمة من المال".
وبعد ثورة كاتاونيا، قامت الثورة في استروريا Astruria، عندما اتُهم بعض الضباط ببيع السلاح عام 1934.
عندئذ حاول فرانكو جاهدا أن يعيد تنظيم الجيش الأسباني، وأن يضع حدا للفوضى.. لكنه لم يَلقَ مساعدة كافية من السلطات الحكومية.. وهنا يمكننا أن نشير إلي التنظيم السري المحكم للحزب الشيوعي، إذا علمنا أن أكثر من ثلاثمئة كنيسة قد تم إحراقها في وقت واحد في مئة قرية ومدينة متباعدة.. كما انتشر الاغتيال بشكل واسع، حتى ظهر احتراف القتل بشكل واضح ورخيص، بحيث صار في الإمكان قتل أي عدو للثورة وتصفيته بدفع 50 بيزيتا (أكثر بقليل من نصف دولار أميركي).. وهكذا استعمل عملاء موسكو الظروف الفوضوية التي تعيشها أسبانيا، لينفذوا خطة لينين بشأن هذا البلد.. فالتعذيب وبتر الأعضاء والاغتصاب والإحراق وإراقة الدماء والقتل، كلها وسائل استعملتها الشيوعية للوصول إلي السلطة.
وهكذا تدهورت الأحوال في أسبانيا من سيئ إلي أسوأ، ولم تأتِ بداية عام 1936 حتى عمّ الاضطراب والهيجان البلاد بأسرها.. عندئذ حل الرئيس المجلس التشريعي التأسيسي "Cortes"، وعيّن السادس عشر من شباط موعدا لانتخابات عامة.. وحتى يحين موعد الانتخابات، قام جيل روبلز وكالفو سوتيلو بحملة معادية للشيوعية، بينما كانت الدعاية للبلاشقة تتم عن طريق نشرة تدعى "أصدقاء روسيا"..
في هذه الإثناء كان لارغو كاباليرو الشيوعي يقبع في السجن، إثر فشله في تنفيذ محاولة انقلابية.. وقد أجرى معه المستر إدوارد كنوبلر مقابلة نشرها بعنوان "مراسل في أسبانيا"، يقول فيها: "وسنحصل علي 265 مقعدا، فنغير النظام تغييرا شاملا.. ولن تمضي سنوات خمس إلا ونكون قد قمنا بالاستعدادات لتحقيق هدفنا النهائي، وهو اتحاد الجمهوريات الايبرية.. وهكذا ستعود شبة الجزيرة الايبرية لتكون بلدنا الأوحد.. ونحن نأمل أن تنضم البرتغال بالطرق السلمية، غير أننا قد تستعمل القوة إذا احتاج الأمر.. ويمكنك أن تري من خلال هذه القضبان حاكم أسبانيا القادم.. لقد أعلن لينين أن أسبانيا ستكون الدولة السوفياتية الثانية في أوروبا، وستتحقق نبوءته هذه، وسأكون أنا لينين الثاني الذي سيقوم بتحقيقها".
وبعد انتخابات متحيزة تماما، لم تشهد أسبانيا لها مثيلا في تاريخها، كتب الرئيس زامورا يقول: "وصلت الجبهة الشعبية إلي السلطة في 16 شباط، بفضل نظام انتخابي سيء جدا وغير عادل أبدا.. وبفضل هذا النظام توصلت الجبهة الشعبية لنيل أكثرية تقريبية، بينما هي في الحقيقة لا تشكل إلا أقلية بعيدة عن الفوز" (((لاحظ أنّ هذه دائما هي نتيجة أيّ انتخابات!! فهي لا يسيطر عليها إلا الأقوى سلطة ونفوذا ومالا وإعلاما!!!))).
علي أن النتائج لم تكن في صالح الجبهة في التصويت الأول، لأنها نالت 200 من أصل 465 صوتا.. وهذه النسبة لا تؤهلها لتشكيل حكومة، فكان لا بد لهم من أن يتحالفوا مع أقليات برلمانية، فتحالفوا مع الباسك وغيرهم، وشكلوا مجلسا يتولي إعادة الانتخابات في جميع المحافظات.. ولقد تأكدوا من نجاحهم هذه المرة، بعد أن تمكنوا من تشويه سمعة بعض المرشحين اليمينيين وتشكيك الناس بكفاءتهم.. وجاءت النتائج النهائية لينالوا 265 صوتا ـ تماما كما تنبأ كاباليرو!.. ومع هذا فقد جاء تقسيم الأصوات علي الشكل التالي:
أحزاب الوسط والأحزاب اليمينية 4.610.000 صوتا.
حزب الجبهة الشعبية 4.356.000 صوتا.
وبهذا تكون زيادة الوسط واليمين علي الجبهة 554.000 صوتا.
ويستطيع القارئ أن يري أن نجاح الجبهة الشعبية جاء بسبب توحيد القوي اليسارية بشكل واضح وعجيب، حتى إنها جمعت لواءها من الاشتراكي المعتدل حتى الشيوعي البلشفي.
وهكذا نري كيف أعد الشيوعيون الستالينيون الوضع العام في أسبانيا حتى وصلوا إلي هذه النتائج.. لقد جاء في السجلات الحكومية للفترة التي سبقت انتخابات شباط 1936 ما يلي: "منذ نهاية ديكتاتورية الرئيس دي رييرا عام 1931، قامت ثورة واحدة قتل فيها 2.500 شخص، و 7 انتفاضات و 9.000 إضراب، و 5 تأجيلات للميزانية، وزيادة بليوني بيزيتا علي المصارف الداخلية، وحُلت 1000 بلدية، وتوقفت 114 جريدة، وعاشت البلاد سنتين ونصف من الحكم العسكري".
أما في الأسابيع الستة التي تلت إنشاء حكومة الجبهة الشعبية برئاسة ازانا وكابا ليرو وبريتو، فقد حدثت الأمور التالية:
أولا: اغتيالات وسرقات: في مراكز القيادة السياسية 58 حادثا، في المؤسسات الخاصة 105 حوادث، في الكنائس 36 حادثا.
ثانيا: حرائق: في مراكز القيادة السياسية 12 حريقا، المؤسسات الخاصة 60، الكنائس 106.
ثالثا: أعمال شغب: إضرابات عامة 11، انتفاضات 169، قتلي 76، جرحي 364.
وجاء في حديث لكاباليرو في منطقة زاراغوزا: "يجب أن ندمر أسبانيا حتى تصبح لنا.. وفي يوم الانتقام لن نترك حجرا علي حجر".. وأعلن في مكان آخر: "قبيل الانتخابات كنا نسأل عما نريده، ولكن الآن وبعد الانتخابات سنأخذ ما نريد بأي وسيلة كانت.. ويجب علي اليمينيين أن لا يتوقعوا أي رحمة من العمال، لأننا لن نخلي سبيل أحد من أعدائنا".
وأعلن ازانا هو الآخر، وقد ظهرت السعادة عليه: "أن أسبانيا لم تعد بلدا كاثوليكيا أبدا".
وقد جاء في تقرير مراسل جريدة "التايمز" عن أوضاع برشلونة في شباط 1936 ما يلي: "أنذر أحد المجالس الحكومية عددا من الرسميين بضرورة التخلي عن مناصبهم في شباط، وقد نفذ الإنذار فورا".. وبعد شهر كتب يقول: "أصبح الآن هم جميع الشيوعيين أن يقيموا ديكتاتورية البروليتاريا".. ثم كتب بعد مدة أيضا: "بدأت الاشتراكية الأسبانية تسير بسرعة نحو الشيوعية.. ويلاقي ماركس ولينين تأييدا شديدا من قبل الشبان، الذين يعتبرون أنفسهم تلاميذ لهما.. ويعتقد هؤلاء الشباب أن الحصول علي السلطة هو المطلب الثوري للاشتراكية الأسبانية، وأن العنف والقسوة هما الوسيلة الناجحة للحصول علي هذه السلطات.. ويعتقدون أيضا أن الطريق الوحيد للمحافظة علي السلطة هو ديكتاتورية البروليتاريا.. وهكذا تنتشر تعاليم هذه المبادئ الهدامة بصورة واسعة".. وفي آذار 1936 كتب هذا المراسل أيضا يقول: "لقد أنشد النواب في البرلمان الإسباني نفسه، النشيد الوطني السوفيتي وهم يرفعون قبضات أيديهم مؤدين التحية الشيوعية".
والآن نسأل أنفسنا: لماذا تحوّل الشباب الإسباني بإعداد كبيرة إلي الشيوعية؟
تشير التحريات إلي أن أزانا ـ أحد قادة الثورة المذكورين سابقا ـ ظهر للشعب علي أنه صاحب أفكار تحررية، يؤمن بالاشتراكية ولا يعادي الدين.. وكان يحتج علي الإرهاب الذي يقوم به الهدامون والشيوعيون.. ولكن هذه الصورة تغيرت تماما عندما وصل إلي السلطة السياسية، حيث استعمل هذه السلطة للقضاء علي المجالس الدينية وعلي مدارسها، ثم عهد إلي فرانسيسكو فرار بتأسيس المدارس العلمانية.. وهكذا أصبح التلاميذ ينشدون الأناشيد العلمانية عند بدء دروسهم، بدل أن ينشدوا لله خالقهم وخالق الكون بأسره.. ومن هذه الأناشيد:
"نحن أبناء الثورة نحن أبناء الحرية.. بنا ظهر فجر جديـــد للإنسانية"
كما أنشدوا أيضا تراتيل أخرى في مدارس برشلونة منها:
"اقذف المتفجرة، ركز اللغم جيدا، تمسك بقوة المسدس، وأنشد كلمات الثورة.. قف مستعدا بسلاحك حتى الموت، ودمر بمسدسك وديناميتك الحكومة"!!
وهناك أناشيد أخري مماثلة، كانت تذاع بالإنكليزية من إذاعة موسكو، موجهة للشيوعيين الإنكليز بين عامي 1937 و 1938.. هذا وقد رفض ناشرو الصحف البريطانية والأمريكية أن ينشروا الحقيقة لأنها ظهرت غريبة لا تصدق.. ومع هذا فإن الحقيقة المرة جاءت في رسالة من فرانسيسكو فرار إلي أحد الرفاق، كتب فيها يقول: "وحتى لا نخيف الناس ونعطي مبررا لإغلاق مؤسساتنا، كنا نسميها المدارس الحديثة وليس مدارس لتعليم مبادئ الرفض والتغيير.. ومع أنني أرغب بإقامة الثورة، إلا أنني كنت أكتفي في ذلك الوقت بزرع الأفكار الثورية في عقول الشباب، بحيث يصبح عندهم الاعتقاد الجازم بضرورة استعمال العنف ضد البوليس ورجال الدين، وبحيث تصبح وسائلهم الوحيدة هي القنابل والسموم".
وقد استعملت هذه الرسالة كدليل ضد فرار، عندما ألقت عليه القبض قوات فرانكو خلال الحرب الأهلية.. ولما حكم علي فرار بالإعدام بتهمة الخيانة، ثارت ثائرة محفل الشرق الأكبر في باريس، واحتج لدي جميع المحافل في العالم، مدعيا أن فرار هذا قتل لنشاطاته المعادية للكاثوليكية.
ويكفينا أن ننقل قول لينين: "إن أفضل الثوريين هو شاب متحرر من المبادئ الأخلاقية".. ونحن نعلم أن كلمات لينين هي بمثابة قانون بالنسبة للشيوعيين، لذلك عمل جميع أفرادهم علي خلق جيل من الشباب من الجنسين، لا يؤمن بالقيم الاجتماعية والخلقية.
تشمل الخطوات الأولي لبرنامج تربية الشباب الثوري تفكيك روابط الأسرة، وإثارة الأولاد علي سلطة آبائهم حتى قبل بلوغهم سن الرشد.. ولقد أدخل هؤلاء المخربين في روع الأطفال أن آباءهم هم جيل رجعيّ متأخر، وأنهم يربون أولادهم علي الكذب والأساطير، كما هي الحال في قصة بابا نويل والمكان الذي يخرج منه المولود!
وعلّل المخربون هذا التأخر عند الآباء، بأنه نتيجة للاستغلال الرأسمالي، وأن الجيل القديم هو ضحية التعاليم الرجعية.. ومن هنا كان علي الولد أن يعلّم والدية الأفكار التقدمية الحديثة، وألا يسمح لهما أبدا بالسيطرة عليه وتوجيهه كما يشاءان.. وكان الهدف من هذه الحملة الهدامة هو تقويض قدسية ووحدة الحياة العائلية.
وتأتي الخطوة التالية وهي: إزالة احترام رجال الدين من نفوس الأطفال.. وحتى يتوصلوا إلي ذلك صوروا رجال الدين وكأنهم الفئة الأقل ذكاء والأضعف بنية في المجتمع، وأنهم في الحقيقة خدام للطبقات الحاكمة.. وتعلّم الأولاد قول ماركس المعروف: "الدين أفيون الشعوب، لأنه يعلم الخنوع والقبول بالفقر والمرض والعمل المرهق، بهدف إصلاح الروح".. وهكذا صار الرهبان بالنسبة للأطفال "ذئابا في ثياب حملان" و "غربانا" تأكل من جهل وسذاجة العامة من الشعب.. وإذا حدث أن تورط أحد الرهبان في فضيحة، استعملت جميع وسائل الدعاية للنيل من الدين ككل.
حتى إذا اتضحت هذه الصورة البشعة لرجال الدين عند الشباب، بدأ الهجوم الفعليّ علي الدين، وانطلقت عمليات السخرية من الدين بشكل مقرف للغاية.. فصوروا المسيح علي أنه ابن غير شرعي لمريم، تلك الشابة اليهودية التي خدعت يوسف وأوهمته أن ابنها هو هدية الروح القدس.. ووصفوا المسيح بأنّه مخادع يخفي الضعف في شخصيته بالسحر والشعوذة التي يسميها معجزات.. وقالوا إن التلاميذ الاثنى عشر للمسيح هم أعوانه الشريرون!!.. ولم يقفوا عند هذا الحد، بل اتخذوا من أحب الحكايات عن المسيح ـ وهي أنه كان صانع أحذية في سن مبكرة جدا ـ ليستعملوها بمعني آخر، وهو انه كان يستعمل السحر لبيع الخمور في حفلات الزفاف.. واتهموا المسيح أيضا وجميع أتباعه من الكاثوليك بأنهم من آكلي لحوم البشر، واعتمدوا في ذلك علي النص التوراتي الذي عاتب فيه المسيح أتباعه على أنهم إذا لم يأكلوا من لحمه ويشربوا من دمه فإنهم لن يحظوا بالخلود!!
وكان يجري تدريب المراهقين عن طريق المرافقة والمصاحبة، فيصاحب أحد المدربين مراهقا يعلمه التحرر، الذي يتحول فيما بعد إلي تحلل من جميع القيم، وانفلات كامل من جميع القوانين.. ويتعلم المراهقون أن الخطيئة الوحيدة هي في عدم طاعة قادتهم، وأن هناك جريمتين فقط يمكن أن يرتكبهما الفرد: إهمال الواجب، وخيانة أسرار الحزب.
بعد كل هذه الخطوات يأتي دور الاحتكاك الفعلي مع البوليس.. وحتى يعتاد الشباب المدربون حديثا علي هذه الأعمال، يدخلونهم في مجموعات أو عصابات يقودها قادة شيوعيون.. ويدرب هؤلاء القادة الشباب علي الأعمال المخلة بالنظام والقانون، ويرغمونهم علي الاقتتال حتى يتعرفوا علي مقدارتهم الجسدية.. ثم يدفعونهم إلي ارتكاب جرائم صغيرة تكون الخطوة الأولي إلي جرائم أخرى، وبعدها يسمحون لهم بالتعرف أكثر فأكثر علي التنظيم السري للشيوعية.
ويستعمل الشيوعيون قصص الإجرام والتمثيليات الجنسية المريضة كجزء من حربهم النفسية.. وتقوم هذه التمثيليات المعدة بشكل خاص، بإثارة الدوافع الشريرة الكامنة عند الأطفال، كالميول السادية.. كما أنّها تضعف من الدرع الأخلاقي الذي يصون بعض الأولاد.. فحتى اللعب صارت تمثل مسدسات وجنودا وبنادق، بالإضافة إلي الأفلام السينمائية التي صارت تكثر من تصوير الجرائم وإطلاق النار.. وكل هذا يعمل علي تحطيم الروح المسيحية العادية عند الناشئة، ويجعلهم يتأقلمون مع المناظر القاسية والموت المفاجئ واستعمال الأسلحة.. وهناك أيضا كتب ومجلات الدعارة التي وزعها ونشرها الشيوعيون بشكل واسع وبأسعار رخيصة.. وهذه المنشورات أعدت خصيصا لتحطيم ذلك الوجه الأخلاقي الذي أوجدته وطورته قيم الثقافة المسيحية.
أما تأثير السينما فقليلا ما يدركه الناس.. فلقد لعبت السينما الحديثة دورا كبيرا جدا في انقلاب الشباب علي بيوتهم وأوطانهم وأديانهم.. فدور السينما تعرض أفلاما تدور فيها لأكثر من ساعة جميع الأعمال الإجرامية التي يقوم بها الفاسقون من الرجال والنساء، والتي يعاقبها الضمير ويحرمها القانون.. وفي النهاية تخصص دقيقة واحدة فقط لعقاب هؤلاء، بأن يموتوا أو يقبض عليهم رجال القانون!!.. ولما عرض فيلم الثورة المكسيكية في مدينة غالفستون في تكساس، وهو يصور تصويرا حقيقيا تلك الثورة، حيث يقتل الرجال أو يجرون من منازلهم ويذبحون علي يد الثوار، كانت نتيجة هذه المشاهد أن أغمي علي المشاهدات.. أما المشاهدون فقد تقيا أكثرهم من هذه الصور.. ولقد أدي هذا إلي منع الفيلم.. ولكننا اليوم نجد أن أفلاما كهذا الفيلم تعرض في حفلات خاصة يطلبها الأطفال والناشئة!!.. وهذا مثال علي مدى ما حققته السينما تدريجيا من سيطرة علي شبابنا، بحيث أصبحوا قساة لا تهمهم المناظر الدموية المؤذية، وأصبحوا يشاهدون ـ بدون أي انزعاج ـ مناظر القتل والاغتصاب.. كل هذا التخطيط يؤكد المبدأ الثوري الذي يقول "لا يمكننا أن نحقق بسرعة إصلاحا ملحا جدا، إلا عن طريق عمل ثوري".
وفي البلاد التي لم تخضع بعد لقادة الحركة الثورية العالمية تقوم، وكالات أفلام خاصة بتوزيع آخر ما يتصوره خيال، من مشاهد الدعارة والرذيلة، لتعرض سرا علي مجموعات من الناس.. وتصور هذه الأفلام جميع الانحرافات الجنسية التي عرفتها البشرية ((الآن صارت هذه المواد الإباحية تبث في القنوات الفضائية بل والأرضية!!!)).. وتستعمل هذه الأفلام لإفساد الشباب، مما يشجعهم علي الانخراط في صفوف المنظمات الثورية.
وهكذا تتم عملية تربية الشباب الثوري.. حتى إذا برهن الشاب عن عدائه للدين وللقيم الاجتماعية، وبدت عليه ملامح القسوة والشدة، أرسل إلي موسكو، حيث يتم تعريفه "بالحرب الثورية وبحرب الشوارع".. وهذا بالطبع يختلف عن التدريبات التي تعطي لقادة المثقفين والعمال.
ولقد حققت الحرب النفسية الثورية دورها في العالم الغربي كما حققته في أسبانيا، فالانسان هناك أصبح يسمع آخر التطورات العالمية وأخبار الجرائم وحوادث الطائرات والسيارات والاغتيالات الوحشية، ثم يذهب لينام بهدوء دون أن يرفّ له جفن.. بينما كانت أخبار مثل هذه، لو حدثت قبل خمسين سنه تمحو النوم من الجفون.
لقد أصبحت هذه الأعمال الإرهابية أمورا عادية تحصل كل يوم، وأصبحت عندنا مناعة ضد الانفعال والاضطراب الذي كان يصيبنا عندما كنا نشاهد في الماضي عملا غير عادي.. أصبحنا لا نكثرث عندما نسمع خبر الإطاحة بحكومة ما عن طريق القوة، ولو كنا نكثرت، لفعلنا شيئا ما لوقف ما يحدث.
وعندما كانت الشيوعية تتوغل في أسبانيا، كان الناس يقولون "لن تستطيع الشيوعية أن تسبب أي ثورة هنا"، لأن معظم الناس يوجهون أسماعهم إلي من يحدثهم عن الأمن والاستقرار المزعومين.. إنهم كالنعامة يضعون رؤوسهم في التراب عندما يشاهدون اعداءهم ويظنون أنهم بمأمن منهم.. ولكن عليهم أن يتذكروا أنهم بوضع رؤوسهم تحت التراب لا ينقذون إنسانا من قاتل أو مغتصب، ولا يبعدونه عن قنبلة متفجرة.
***
عندما اقترب موعد الانتفاضة الثورية في أسبانيا، تشجع موزعو الأدب الخليع والصور العاهرة، حتى إنهم كانوا يقفون علي أبواب الكنائس يعرضونها علي المصلين عند دخولهم وخروجهم منها!!.. وتصور أغلفة هذه المناشير الرهبان والراهبات في أوضاع مخلّة.. ويذكر المراسل المستر أضرار كنوبلو الذي يعتبر بحق مرجعا عن الحرب الأهلية في أسبانيا، كتابه "مراسل في أسبانيا": "بين الفينة والفنية، كانت وقود رجال الدين البروتستانت تأتي لتحتج علي بعض الكتابات المعادية لرجال الدين.. فيتم استقبالهم علي أحسن وجه، ثم يأخذهم مرشد خاص إلي حيث تريد السلطات الشيوعية.. وبعد يوم أو يومين يعودون إلي بيوتهم وقد تم التأثير عليهم بالشكل المناسب.. ولكن حدث في أحد الأيام أن دخل وفد من رجال الدين إلي إحدى المكتبات للبحث عن بعض المؤلفات.. وقبل أن يستطيع موظف المكتبة منعهم، شاهدوا بعض نسخ مجلتي "La Traca" و"Bicharracos".. وظهر علي أغلفة هذه المجلات صور مخلة بين رهبان وراهبات شبه عاريات.. كما اشتملت المجلتين على العديد من الصور البذيئة.. وخرج الوفد وكأن بهم مسا".
ويمكننا أن نعقد مقارنة بين حالة أسبانيا خلال أعوام 1923 ـ 1936، وبين حالة كندا في الوقت الحاضر.. حيث الخلاف قائم فيها بين السكان الذين ينطقون الإنكليزية والسكان الذين ينطقون الفرنسية.. فهناك في أسبانيا يعيش شعب الباسك المتميز بلغته وثقافته وعاداته التي ترجع إلي عهود سحيقة جدا.. كما أن هذا الشعب يعرف بكبريائه وتدينه الشديد.. ويعتقد الباسك ـ كما يعتقد الكنديون الفرنسيون ـ أنهم يستحقون استقلالا قوميا.. وحتى يحققوا هذا الاستقلال نظموا حركة انفصالية لتحرير الباسك وفصله عن بقية أسبانيا.. وكان طبيعيا بالنسبة لمخططي الحركة العالمية في أسبانيا، ألا يهملوا هذا الوضع، فالباسك شعب كاثوليكي شديد الإيمان، وهو يؤمن أنه سيكون علي حق عندما يحارب من أجل الاستقلال.. ولكن الأكثرية من هذا الشعب عملت مع الشيوعيين لتحقق أهدافها، دون أن تعلم إنها متحالفة معهم.. وحدث هذا عندما تسرب الشيوعيون إلي المجتمع الباسكي وأخفوا حقيقتهم، حتى صاروا قادة "الانفصال".. وعندئذ قادوا شعب الباسك نحو المذبحة، تحت شعارات الوطنية والحماس الديني.. وكان هؤلاء القادة مثل الرئيس اغويير Aguirre، وغيرال Giral، ونيرجنNergin، يعملون علي الحبلين، رابطين بين شعار الصليب المسيحي وشعار المنجل والمطرقة الشيوعيين.. ولما اشتعلت الثورة تركت الجماهير لتلاقي مصيرها.. وبينما كان المئات يلاقون حتفهم، كان اغوييرAguirre رئيس دولة الباسك وقائد جيشها يجلس في مكتبه في بلباو Bilbao.
وقد جاء مقدمة كتاب "الظلم الأحمر في بلاد الباسك" The Red Persecution in The Basque Country، التي كتبها F. J. Olondriz ما يلي:
"وعندما جاء اليوم المحدد، شعر الانفصاليون الباسك وقد أثارتهم العاطفة العمياء، أنهم متحدون بقوة مع الشيوعيين.. مع الملحدين الهدامين.. ودخل الباسك الحرب وتحملوا مسؤولية الذبح والقتل، معتقدين بشرعية جميع الأساليب الوحشية.. لقد تجاهل هؤلاء كلمات رئيسهم الديني البابا بيوس الحادي عشر، التي جاءت في الأمر العام الذي وزع علي جميع أبرشيات الروم الكاثوليك، والتي تقول: الشيوعية هي ارتداد عن الدين لا جدال فيه.. ولا يسمح أبدا لمن يرغب في خدمة الثقافة المسيحية أن يتعاون مع الشيوعية بأي شكل من الأشكال".
***
بدأت الحرب الأهلية في أسبانيا 1936.. وقد أعلن كالفو سوتيلو في المجلس التشريعي Cortes أنه في الفترة بين شباط وحزيران من عام 1936، حدث 113 إضرابا عاما، 218 إضرابا جزئيا، بينما أحرق 284 بناية و 171 كنيسة، و69 ناديا و10 مكاتب صحيفة، كما ارتكبت 3300 عملية اغتيال.
وبسبب هذا الإعلان، قفز رئيس الوزراء كساريس كويروغا علي قدميه وأجابه بغضب: "ستكون أنت المسئول شخصيا عن الانفعالات التي سيسببها خطابك".. أما الشيوعية دولوريز إباروري فقد وقفت في المجلس وأشارت إلي سوتيلو صارخة: "لقد لفظ هذا الرجل خطابه الأخير".
وبالفعل كان هذا خطاب سوتيلو الأخير، لأنه سحب من منزله علي يد جنود يقودهم الكابت دون أنجل مورينو، وجره هؤلاء إلي باحة إحدى الكنائس القريبة وقتلوه.. ولقد كان هذا الحادث السبب وراء ترك بعض الجنرالات لمحفل الشرق الأكبر، وطلبهم من فرانكو أن يتسلم قيادة البلاد.. ويجب أن نعلم أن دولوريز إباروري كانت عملية لستالين، وكانت مهمتها إفساد ضباط الجيش، وتنظيم وتدبير غارات علي القوات الحكومية.. وقد أدت مهمتها المتعددة الجوانب علي الوجه الأكمل.
وبعد اغتيال سوتيلو أغار حرس الطوارئ علي منازل العديد من الشخصيات البارزة المعادية للشيوعية، ولكن أكثرهم تمكن من الفرار بعد أن تم إخطارهم بالأمر مسبقا.
وفي يوم الانتخابات (شباط 1936)، اتصل فرانكو تلفونيا بالجنرال بوزاس ـ قائد الحرس الشعبي ـ وأخطره بأن الشيوعيين المنتخبين للمجلس التشريعي يخططون لإثارة الشغب وأعمال العنف، بهدف الإطاحة بالحكومة الجمهورية.. ثم اتصل بالجنرال موليرو وزير الحربية، وأخبره بالأمر وبالخطر الداهم.. واقترح فرانكو أن يُسمح له بإعلان الأحكام العرفية في البلاد.. وقد استطاع فرانكو أن يحصل علي موافقة أكثر القيادات للعمل علي إيقاف موجة العنف والشغب، ولم يبق عليه إلا توقيع مجلس الوزراء، ليستعيد النظام وليمنع قيام الحركة الثورية ضد الحكومة الجمهورية.. ولم يتمكن فرانكو من الحصول علي هذا التوقيع، لأن رئيس الوزراء طلب إعفاءه من مهمة تصديق مثل هذا القرار.. وكانت إجابة فرانكو له صريحة، إذ قال: "أنت السبب فيما آلت إليه الحالة في أسبانيا.. وعليك الآن أن تحاول إنقاذها".
عندئذ صدرت الأوامر للجنرال فرانكو أن يذهب إلي جزر الكناري.. وكان هذا بمثابة نفي له من أسبانيا.
وقبل أن يغادر فرانكو البلاد، اجتمع بالجنرالين مولا وفاريلا، اللذين أكدا له أن بقية الجنرالات سيتركون المحافل الماسونية العسكرية عندما يعرفون الحقيقة.
وقبل أن ينتهي الاجتماع، تم الاتفاق علي طريقة اتصال سرية بين مولا وفرانكو.. وما أن غادر فرانكو أسبانيا إلي جزر الكناري، حتى جدد عملاء ستالين نشاطهم في البلاد.
وفي 23 حزيران 1936، بعث فرانكو وبرسالة مطولة إلي وزير الحربية، يعيد فيها تحذيره من أخطار محددة.. ولكن هذه التحذيرات لم تنل إلا الإهمال، لأن الوزراء الشيوعيين في الحكومة الجمهورية كانوا يسيطرون علي سياستها وتحركاتها.
حتى إذا جاء مقتل كالغو سوتيلو في 13 تموز، قرر فرانكو أن يبدأ العمل، فأرسل رسائل بالشفرة إلي بعض الجنرالات، الذين أقسموا أن يحاربوا من أجل إنقاذ أسبانيا من براثن الشيوعية ومن الانخراط في فلك الروس.. ومن بين الذين اتصل بهم فرانكو، مولا وغوديد وفانجول وسانجورجو وساليكويت، وبعض الضباط في البحرية الأسبانية.. كما اتصل بكويبو دي.. وبعد إرسال الرسائل، طار فرانكو من جزر الكناري إلي تطوان، حيث يمكنه الاعتماد علي القوات المغربية.
وفي 21 تموز، أصدرت فرانكو بيانه الذي حدّد القضية بأقل عدد من الكلمات: "من واجب الجميع أن يدخلوا هذا الصراع الواضح بين روسيا وأسبانيا".. وهكذا بدأت الحرب الأهلية، فانقسمت البلاد إلي فئتين: الموالون Loyalists وهم جميع الفئات اليسارية التي جمعتها الجبهة الشعبية تحت لوائها، و الوطنيون Nationalists وهم جميع الفئات التي انضمت تحت قيادة فرانكو، وضمّت كل الأحزاب اليمينية.. وكانت الدعاية التي سرت في ذلك الوقت قد أقنعت الرجل الإسباني العادي، أنّ مجموعة صغيرة من الجنرالات قد دبرت انقلابا عسكريا لتحويل، حكومة الجبهة الشعبية الجمهورية إلي ديكتاتورية عسكرية.
وانقسم الشيوعيون إلي مجموعتين.. الأولي تريد تحويل ديكتاتورية البروليتاريا إلي حكم مطلق علي الطريقة التي اتبعها ستالين، والثانية كانت ترغب في جعل أسبانيا جزءا لا يتجزأ من الجمهوريات السوفياتية التي تدعو لها الماركسية.
وأما القوميون الأسبان فقد ضموا فيمن ضموا، الحركة الملكية التي كانت تنادي بإعادة الملك إلي أحفاد دون كارولز منذ 1837.. وقد ساعد هؤلاء فرانكو، فقط لأنهم لا يتحملون أن يروا الشيوعية تنتشر في أسبانيا.. وإلي جانب الملكين ضم جيش فرانكو حزب الكتائب الأسبانية، وهو حزب يميني متطرف كان يضم مجموعة من النازيين الألمان، الذين يؤمنون بالحرب الشاملة لإبادة أعدائهم اليساريين.. وفي حالة من الانقسام كهذه، كان لابد من أن يتهم اليمينيون جميع اليساريين بالشيوعية، وأن يتهم اليساريون جميع اليمنيين بالفاشية.. ومن جراء هذا الانقسام أيضا، صارت البلاد عرضه لأعمال الإرهاب، وخصوصا التي ارتكبها الشيوعيون، الذين عذبوا واغتصبوا وأعدموا الآلاف، كجزء من خطة إرهابية للسيطرة علي الوضع.. ولكن بعض الفئات المتطرفة التي عملت مع فرانكو لم تسكت، وعاملت أعداءها بالمثل.. وهكذا نجد أن الحروب الأهلية تنخفض بالإنسان إلي درجة أحط من الوحوش.. وهنا يقع اللوم كله علي أولئك الذين يثيرون مثل هذه الحروب.
والعجيب أن خطة فرانكو ومحاولته هزيمة الشيوعيين لم تفشل، مع العلم بأن التحريات التي تلت الحرب الأهلية أثبتت أن مجموعات كبيرة من الخونة كانت قد تسربت إلي الجيش وتسلمت مراكز حساسة، وذلك بمساعدة عملاء موسكو من أعضاء حكومة الجبهة الشعبية في أسبانيا.
وقبل قيام الحرب الأهلية، كان جوليو الفيريز ديل فايو، وزيرا للخارجية في حكومة الجمهوريين ورئيسا عاما لشؤون الجيش الأسباني، وكانت الأغلبية العظمي من هؤلاء تنتمي إلي الحزب الشيوعي، فعملت علي إجبار الجنود علي الانضمام للحزب.. وقد نشر السفير السابق للجمهورية الأسبانية في باريس هذه الحقيقة، في مجلة "نيويورك تايمز" في 19 أيار 1939.
وهناك دليل آخر نورده علي لسان انداليكو بريتو، أحد النواب الاشتراكيين، الذي كان يشغل أيضا منصب وزير الدفاع أيام الحرب الأهلية، وهو نفسه الذي كان يوجه الحرب ضد فرانكو.. يقول في تقرير نشرة في باريس عام 1939 بعنوان: "كيف ولماذا تركت وزارة الدفاع الوطني؟": "لقد كان تحمل المسؤولية صعبا جدا، وذلك لأن الشيوعيين كانوا يشغلون مراكز حساسة، وقد أخفوا بسرية تامة حقيقة أمرهم وانتماءاتهم، وتمكنوا من دخول الأحزاب الأخرى.. وأذكر علي سبيل المثال واحدا منهم، وهو الدكتور جوان، الذي كان له سلطة قوية خلال الحرب الأهلية.. ولأنني رفضت إطاعة الأوامر الصادرة من موسكو، طردني جوان نرجن من الحكومة التي ترأّسها في الخامس من نيسان 1938.. واستطاع طردي من مركز وزير الدفاع الوطني، بعد أن وجه ضدي مؤامرتين في وقت واحد.. الأولي قامت بها قوات البوليس السري الروسي ورجاله العسكريون في بلادنا، والثانية ثم تنفيذها علي يد الشيوعية الأسبانية.. فالروس كانوا يأمرون والشيوعية الأسبانية كانت تنفذ".
ويدّعي الدكتور جوان هذا انه ليس شيوعيا وإنه لم يكن يوما من الأيام كذلك، ولكنه هو الذي أمر بتسليم سبعة آلاف صندوق من الذهب الأسباني إلي ستالين.. وقد حملت هذه الصناديق علي السفن: كين، ونيف وفولجيلز التي رفعت العلم الروسي.. ورافق هذه السفن جوزية فيلاسكو وأرتورو كانديلا كأمناء ورجال ثقة، حتى وصلت السفن الثلاث إلي أوديسا في روسيا.. وتم كل شيء في الخفاء.. حتى أعضاء حكومة الجبهة الشعبية لم يكونوا علي علم بذلك.. وفي عهد جوان أيضا تم تعيين ثلاثة من الشيوعيين في مناصب مساعدي "سكرتيريا" الدفاع، وكانوا هم المسيطرون الفعليون علي القوات الإسبانية، برا وبحرا وجوا.
ومع أن لارغو كاباليرو كان شيوعيا، إلا إنه لما رفض إطاعة الأوامر الصادرة إليه من الموفدين العسكريين، تجاهل الشيوعيون أوامره وهو في مركز الرئاسة.. وكان كاباليرو يحاول أن يكفر عن أخطائه التي ارتكبها، ولكنه وجد أن الوقت أصبح متأخرا جدا.
وهناك إشارة لثيو روجرز في كتابة "أسبانيا في الرحلة المأسوية"، إلي وقوع وثائق في يد فرانكو والجنرال مولا، عن قيام ثورة واسعة النطاق، أكيدة الوقوع.. يقول روجرز: "تم العثور علي وثائق وخطط من بعض الشيوعيين والفوضويين.. وهي تظهر أن هناك خطة مدروسة بدقة قد وضعت للانقلاب علي الحكومة المركزية في مدريد، وإنشاء ديكتاتورية سوفياتية"
وقد تأجل تنفيذ الخطة الشيوعية ثلاث مرات، حتى تستكمل القوات العميلة ترتيباتها النهائية الأخيرة.
وكان علي العالم بأسره أن يلم بالخطة التي أعدتها موسكو ضد أسبانيا، لأن الوثائق التي كانت تحمل الأمر النهائي بالثورة من الكومنترن إلي الحركة الثورية الأسبانية، تم كشفها ونشرت في "صدي باريس" في نيسان 1936.
وجاء في هذه الجريدة ما يلي:
"نص التعليمات الموجهة إلي الميليشيا الحمراء".
"هذه التعليمات الموجهة إلي الميليشيا الحمراء الأسبانية، ليست صادرة من تنظيم مركزي أسباني، ولكنها صادرة من فرع الخدمات التكنيكية التابع للحزب الشيوعي الفرنسي، الذي بتعاون مع الكومنترن وموفدية في فرنسا.. هذه الوثيقة التي ننشرها الآن قد وقعت في أيدي الحكومة، ونحن مقتنعون بان المسيو دالادير وزير الحربية والدفاع قد أعطي الأوامر لأخذ الاحتياطات الدفاعية والوقائية اللازمة".
وجاء في النص الذي اختصرناه ما يلي:
1. تقوية فرق الصدام والحرس في الثكنات وتزويدهم بالمسدسات الأوتوماتيكية.. هذه الفرق هي أفراد الحزب الشيوعي التي تخدم في القوات العسكرية الدائمة وفي القوات الاحتياطية.
2. سيتم الاتصال بين هذه الفرق وبين من سيهاجمون الثكنات.. وسيلبس المهاجمون اللباس الموحد، ويكونون تحت إمرة ضباطنا الذين نثق بهم كل الثقة.
3. عندما يبدأ القتال، سيتم إدخال ضباطنا وجنودنا إلي الثكنات سرا.. وعندما تستقبلهم لجنة خاصة ويعملون سوية معنا داخل الثكنات حسب الخطة المتفق عليها.
4. ستقوم اللجنة المؤمّنة داخل الثكنات، بإعداد لوائح كل يومين، تشمل العناصر المعادية والحيادية والمؤازرة والخبراء.. وعندما تقع الثكنات في أيدينا، سنتخلص بسرعة وبدون تردد من المصنفين كأعداء لنا، وخصوصا الضباط والقادة.
5. سيزود كل عنصر من عناصر اللجان بلائحة تشمل أسماء الأفراد الذين يجب عليه قتلهم شخصيا.
6. بعد التخلص من الأعداء، يتعرض الحياديون لامتحانات قاسية للتخلص من التردد الذي يصيب هؤلاء عادة.
7. تعمل اللجنة المسئولة عن الحياديين، الترتيبات اللازمة للسماح لمجموعات الحراسة الموجودة خارج الثكنات بالدخول إليها، بحجة المساندة لوضع حد للثورة.
8. تتألف المجموعات المكلفة بتصفية الجنرالات المعادين المسجلين علي اللوائح، من عشر رجال مسلحين بالمسدسات الحربية.. ولكل جنرال مساعدان وسكرتير يجب أولا قتلهم في بيوتهم.. وعلي هذه المجموعة المكلفة بتنفيذ هذه العملية المهمة ألا تتراجع أمام أيّ صعوبة كانت وإن اضطرت للتخلص ممن يقف في وجهها مهما كان عمره أو جنسه.
9. أما الجنرالات المسرحون من الخدمة والذين تشملهم اللوائح، فتجري تصفيتهم بمجموعات تتألف من ثلاثة عناصر، تقوم بمهمتها علي الشكل المذكور في المقطع السابق.
10. تفاصيل عن كيفية احتلال بعض البيوت والعقارات في المراكز الستراتيجية وتحصينها بالأسلحة، بحيث تتمكن الميليشيا الشيوعية من نصب كمائن للقوات الهاربة من الثكنات.. وجاء في التعليمات "بينما يقوم ضباط الميليشيا بحماية السيارات، تقوم مجموعات الميليشيا بالتقدم إلي المراكز الاستراتيجية كمفارق الطرق بسياراتهم ودباباتهم، وهم يحملون الأسلحة الرشاشة لمنع أي مساعدة من أن تصل إلي المدن.. ستحمل الشاحنات كميات من القنابل اليدوية".
11. عندما تبدأ الثورة، تقوم مجموعات الميليشيا وهي ترتدي لباس الحرس الأهلي والحرس الهجومي، باعتقال رؤوس الأحزاب السياسية، بحجة الاحتياطات الضرورية لحمايتهم.. وبعد الاعتقال تتم عملية تصفية الجنرالات المسرحين.. وتقوم هذه المجموعات ذات اللباس الموحد باعتقال الرأسماليين البارزين الواردة أسماؤهم في اللائحة "ب" من القرار المعمم رقم 32.
12. يجب ألا يستعمل العنف مع هؤلاء الرأسماليين، إلا عندما يبدون مقاومة.. ولكن يجب إجبارهم علي تسليم أموالهم الموجودة في البنوك وسنداتهم المالية.. بعدها يتم التخلص منهم ومن عائلاتهم ولا يترك منهم أحد.
13. يستعمل نفس الأسلوب الذي استعمل في روسيا، في معاملة أفراد القوات المسلحة الذين يظهرون ولاءهم وتعاطفهم معنا.. فنستغل خدماتهم أولا، ثم يتم التخلص منهم كالأعداء تماما.. لأنه حتى تتكلل مساعينا بالنجاح ويكون لها صفة الدوام، يجب أن ننظر إلي الجندي المحايد علي أنه أفضل من الذي يخون القوانين العسكرية عندما يواجه الخطر، فهذا لا يمكن أن نتوقع منه إلا الخيانة إذا تركنا له الفرصة المناسبة.
14. تتم عمليات الاتصال ونقل الأوامر بواسطة سيارات صغيرة أو دراجات نارية تكون مسلحة بمسدسات حربية.
15. يجب وضع تقارير دقيقة جدا عن حياة المحايدين والمؤازرين، تشمل كل شيء عنهم، حتى أمورهم العائلية، والأفراد الذين تربطهم بهم روابط الحب والتعلق.. هذه الأشياء تهمنا عند الضرورة.. وإذا حدث أن أظهر أحد عناصرنا أوحد الموالين أو الحياديين ضعفا أو مقاومة للأوامر أو رفضا لها، عندئذ يجب أن تنقل فورا الشكاوى بحقه إلي اللجنة العليا.
16. يجب تنظيم الميليشيا وتوزيع عناصرها، بشكل يبعد الفرد عن منطقة سكنه أو المحلة التي يوجد له فيها أقارب، لأن التجارب الماضية علمتنا أنه في اللحظة الأخيرة كان الأفراد يرفضون الأوامر الصادرة إليهم بسبب العاطفة التي تربطهم بأقاربهم وأهليهم.. كما أن الصداقات كانت السبب في كثير من التلكؤ في تنفيذ الأوامر حسب الخطط التي كنا نعدها. ((يذكرني هذا بقوات الأمن المركزي التي تطلق الرصاصات على شعبها في الانتخابات!!!))
17. يجب اعتبار أصحاب عنابر البضائع والمخازن التجارية من الفئة الرأسمالية المهمة.. ويتم تنظيم هذه العنابر والمخازن لخدمة الحكومة العمالية عن طريق لجان إدارية.
18. يتطرق هذا المقطع لقضية استعمال المجاعة كوسيلة للقضاء السريع علي المعارضة.. وفي النص ما يلي: "يمنع تزويد الطبقة البرجوازية بالطعام والشراب خلال الأسبوع الأول، وحتى تتشكل اللجنة التأسيسية بشكل طبيعي.. أما الأطعمة المخزنة في الثكنات والتي لا يمكن الاستيلاء عليها فيجب إفسادها بالبرافين وغيره من المواد المفسدة للأطعمة".
ومنذ أن صدرت هذه التعليمات، بدأت القيادات الثورية في جميع الدول بوضع الخطط اللازمة للتصرف مع رجال البوليس والطوارئ، لأن التجارب أظهرت أن أفراد هذين التنظيميين الرسميين "يبقون مخلصين لسادتهم البورجوازيين".. وشملت هذه الخطة الخطوات الثلاث التالية:
1. التسرب داخل هاتين القوتين.
2. إفساد التنظيم الداخلي في هذين التنظيميين.
3. يطلب من أفراد الحزب أن يشتروا أو يستأجروا الأماكن المشرفة علي مراكز البوليس وسرايا الطوارئ، حتى يتم القضاء علي الأفراد وهم يبدلون الدوريات.. وبهذا يأتي توقيت بدء الثورة، في الوقت الذي يتم فيه تبديل الدوريات.
وهكذا حددت هذه المعلومات التفاصيل اللازمة حتى تتمكن قيادة الحزب الشيوعي من الاستيلاء علي المرافق العامة والإدارات الرسمية في أسبانيا.. وكان الغرض من هذا هو السيطرة التامة بأقصر وقت علي جميع مخازن المواد الغذائية ووسائل المواصلات.
وبعد انتهاء هذه الخطوات الأولية، يؤخذ الضابط إلي غرفته الخاصة التي فرشت علي أفخم طراز.. وكان يطلب من الضيف أن يعتبر بنفسه في منزله، ويعلم بأنه ستزوره سيدة ترتدي قلادة عنق كتب عليها رقم غرفته.. فإذا أحب بعد أن يتم التعرف عليها أن يصحبها إلي غرفة الطعام، فهذا يعود إليه وله كامل الحرية.
وحدث في شهر تشرين الثاني من عام 1916، أن وصلت رسالة إلي أحد الشخصيات السياسية الهامة، تطلب منه القدوم إلي النادي لتلقي معلومات علي غاية من الأهمية، فقدم بسيارته الخاصة وطلب من سائقه الانتظار، ثم دلف إلى الداخل، حيث اصطحبه المسئولون إلي مخدع وثير ثم تركوه منفردا.. ولم يلبث أن دلفت إلي المخدع امرأة شابة، ما أن شاهدته حتى كاد أن يغمي عليها، فقد كانت زوجته، وهي تصغره بسنوات عديدة، وتقوم بعملها كمضيفة للضباط في إجازاتهم منذ وقت ليس بالقصير!!.. ولقد كان الموقف حرجا بالفعل، فالزوجة لا تعلم شيئا من المخطط الذي جمعهما، وليس لديها أية معلومات سرية لتفشيها، وقد كانت مقتنعة أن المصادفة السيئة هي التي أدت للقائهما وجها لوجه.. وعرف الزوج عن دور المضيفة التي تقوم به في النادي، ولكن شفته لم تتحرك وكأنها ميتة، فهو عضو في الحكومة ولا يمكن أن يتحمل الفضيحة!
كان كل عضو في النادي ـ رجلا أو امرأة ـ جاسوسا علي الآخرين، ينقل أخبارهم إلي رؤسائه، فتتكون من الإخباريات معلومات، كانت تطبع وتسجّل فيما يسمي "الكتاب الأسود".. فيذكر في هذا الكتاب عيوب ونواقص الأفراد، ورذائلهم الخاصة ونقاط ضعفهم.. كما تذكر أوضاعهم المالية وأحوالهم العائلية، ومدي تعلقهم بأقربائهم وأصدقائهم.. كما تدون صلاتهم وتأثيراتهم علي كل من رجال السياسة المرموقين ورجال الصناعة ورجال الدين.
وفي تشرين الثاني من عام 1916، حاول أحد أعضاء البرلمان الإنكليزي أن يفضح أمر "النادي الزجاجي"، وأن يبين حقيقته، فقد شكا ثلاثة من الضباط بأن النادي يحاول ابتزاز المعلومات منهم بعد أن دخلوا في العضوية، وأن النادي هو مركز للجاسوسية ينقل المعلومات الهامة إلي العدو.. وقد اشترك أيضا في هذه المغامرة سيدة أسترالية وسائقها، والعديد من زوجات وبنات الرسميين في الحكومة.. ولكن هذه المحاولة لكشف حقيقة النادي آلت إلي الكتمان، فسياسة الحكومة كانت تميل إلي الاعتقاد بأن فضيحة بهذا الحجم قد تسبب كارثة وطنية، في وقت يواجه فيه الجيش ضربات بحرية وبرية وجوية قاسية.. عندئذ بدأت الصحافة (التحررية) تهاجم رئيس الوزراء، فاتهمته باستخدام غير الأكفاء في المناصب الحكومية، كما اتهم بأن له ارتباطات واسعة مع صناعيين وممولين ألمان في الفترة التي سبقت الحرب، وبأنه يميل إلي القيصر.. واتهم أيضا بأنه غير قادر علي اتخاذ التدابير الحازمة والقرارات المستعجلة.. واستعملت عبارة ”انتظر وستري اسكويت".
وقد أدّت فضائح تتعلق بارتباط بعض الرسميين ذوي المناصب العليا بالنادي الزجاجي، إلى استقالة الحكومة.. وبهذا تكون الإمبراطورية البريطانية قد اضطرت بالقوة إلي تغيير الفرسان السياسيين في منتصف الحرب الكبرى.. ولما استقال السيد اسكويت في كانون الأول 1916، تلته وزارة ائتلافية يرأسها دافيد لويد جورج.. أما وينستون تشر شل وبلفور فكانا من أبرز أعضائها.
وقد علمت من السجلات الرسمية أن الضباط الثلاثة الذين قدّموا الشكوى بخصوص النادي الزجاجيّ، قد "قتلوا أثناء العمليات في الحرب"، وهذا شيء معقول في أيام الحرب.. بعد ذلك علمت أنّ السيدة الأسترالية وسائقها قد ألقي القبض عليهما بحجة الدفاع عن المملكة.. ثم أعلن أن العضو المذكور في فضيحة البرلمان قد اعتزل الحياة العامة.. وبعد أسابيع قليلة نقلت من منصبي في المخابرات الملكية، وعيّنت كضابط بحريّ في سلاح الغواصات البريطاني.. ولقد خسرنا 33% من ضباطنا ورجالنا، وكنت أنا من الذين قدّر لهم أن يبقوا علي قيد الحياة.
***
هذا ولم اكتشف مدي الأهمية السياسة الصهيونية بالنسبة للذين يخططون السيطرة الكاملة علي اقتصاديات العالم، إلا بعد مدة طويلة من الحرب، وبعد أن بدأت بنفسي دراسة التاريخ المعاصر والأديان المقارنة.. والأحداث التالية تتكلم عن نفسها:
عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، كان اسكويت رئيسا للوزراء، وكان معاديا للصهيونية.. فقرر الممولون الدوليون إزاحة حكومة اسكويت، وإحلال حكومة ائتلافية مكانها، علي أن يكون للويد جورج ووينستون تشرشل عمل كبير فيها.. وكان دافيد لويد جورج محاميا عن الحركة الصهيونية، التي خططت لها ومولتها عائلة روتشيلد.. أما وينستون تشرشل فكان مؤازرا للصهيونية السياسية منذ دخوله إلي المعترك السياسي.
***
في عام 1917 كان الممولون الدوليون يمدون في نفس الوقت الحركتين البلشفية والنازية.. وقد يبدو من غير المعقول أن يبقي المجلس النيابي البريطاني دون علم بما يجري حوله، خصوصا بعد أن وجدت الحكومة نفسها مضطرة للتدخل لإخلاء سبيل تروتسكي ورفاقة الثوريين، بعد أن ألقي القبض عليهم في هاليفكس، بينما كانوا في طريقهم من نيويورك إلي روسيا.
أما بالنسبة لسياسة بريطانيا عام 1916 تجاه روسيا، فان المبرر الوحيد لها، هو إن الحكومة البريطانية كانت تعلم أن المساعدة المالية والعسكرية لن تقدم من قبل أميركا، حتى تسقط الحكومة الروسية.. وقد يبدو هذا التحليل سخيفا ولكن الحقائق التالية تؤكده:
بدأت الثورة الروسية في شباط 1917 وعزل القيصر في الخامس من آذار نفس العام.. مباشرة بعد ذلك، رفع يعقوب شيف الشريك في مؤسسة كوهن ـ لوب في نيويورك، القيود المالية المفروضة علي الحلفاء، وأمر ابنه مورتيمر بإرسال برقية إلي السير ارنست كاسل تقول: "بسبب الأعمال الأخيرة التي تقوم في ألمانيا، والتطورات في روسيا، لن نستمر في حظر الأموال عن حكومات الحلفاء".
وفي الخامس من نيسان من نفس العام، أعلنت الحكومة البريطانية عن إرسال أرثر جيمس بلفور وزير خارجيتها إلي الولايات المتحدة، للاتصال بممثلي المصارف الأميركية، وإبلاغهم رسميا بأن الحكومة البريطانية ستتبنى مشاريعهم المتعلقة بالصهيونية، مقابل تعهدهم بإدخال أميركا إلي جانب الحلفاء.. وهكذا دخلت أميركا الحرب، وهبطت الكتائب الأمريكية الأولي في فرنسا في السابع من حزيران 1917.. وفي 18 تموز كتب اللورد روتشيلد إلي السيد بلفور ما يلي:
"عزيزي السيد بلفور.. أخيرا أصبح بإمكاني أن أرسل لك الصيغة التي طلبتها، فإذا تلقيت ردا إيجابيا من حكومة صاحب الجلالة ومنكم شخصيا، فسأقوم بإبلاغ ذلك إلي "الاتحاد الصهيوني" في اجتماع خاص، سوف يدعي إليه لهذا الغرض خصيصا".
وجاء في النسخة الأولية للنص ما يلي:
1. تقبل حكومة صاحب الجلالة بمبدأ وجوب إعادة تأسيس فلسطين كوطن قومي لليهود.
2. سوف تبذل حكومة صاحب الجلالة كل طاقتها لتأمين الوصول إلي هذا الهدف، وسوف نتناقش فيما يتعلق بالطرق والوسائل التي يتطلبها تحقيق هذا الهدف مع المنظمة الصهيونية.
وهكذا خضعت الحكومة البريطانية ـ ممثلة بالمستر بلفور ـ دون قيد أو شرط، للشروط التي وضعها اللورد روتشيلد وزملاؤه زعماء المنظمة الصهيونية.. ويتبين لنا ارتباط هذه الحكومة بهؤلاء، من قبولها لطلباتهم الأخرى، ولاسيما طلب تعيين اللورد ريدينغ Reading رئيسا للبعثة الاقتصادية البريطانية في الولايات المتحدة، في حين أن اللورد ريدينغ هذا ليس سوي السير روفوس إسحاق، الذي اقترن اسمه بفضيحة فاركوني الشهيرة.. وقد تبني إقناع الحكومة البريطانية بتعيينه لهذا المنصب الحساس، اللورد روتشيلد ذاته، وزملاؤه من الزعماء الصهيونيين السير هربرت صاموئيل (الذي أصبح فيما بعد، أول مندوب سام لبريطانيا في فلسطين)، والسير ألفرد موند (الذي منح أيضا لقب لورد فيما بعد).
وقد أجري اللورد ريدينغ محادثات مالية هامة مع الحكومة الأميركية، لم نتمكن من كشف سرها.. ولكن كان من نتائجها إعادة تنظيم بنك إنجلترا علي أسس جديدة بعد عام 1919، ونشوء بعض الارتباطات المالية الخفية.. وننقل فيما يلي فقرات من رسالة أرسلها (يعقوب شيف) إلي أحد الزعماء الصهيونيين المدعو (فريد مان) في شهر أيلول 1917: "إنني أعتقد الآن جازما، أنه أصبح أمرا ممكن التحقيق، مساعدة بريطانيا وأميركا وفرنسا لنا في كل الظروف، للبدء بهجرة مستمرة واسعة النطاق لشعبنا إلي فلسطين، ليستقر فيها.. وسيكون من الممكن فيما بعد الحصول علي ضمان من الدول الكبرى لاستقلال شعبنا.. وذلك حينما يبلغ عددنا في فلسطين مقدارا كافيا لتبرير مثل هذا الطلب".
***
وهناك رسالة أخري تحمل ما هو أخطر من ذلك.. ففي 26 أيلول 1917، كتب لويس مارشال الممثل لمؤسسة كوهن ـ لوب، إلي صديق صهيونيّ له يدعي ماكس سينيور: "لقد أخبرني الماجور ليونيل دي روتشيلد من التنظيم اليهودي البريطاني، أن وعد بلفور وقبول الدول الكبرى به، لهو عمل ديبلوماسي من أعلي الدرجات.. والصهيونية ما هي إلا عمل مؤقت من خطة بعيدة المدى، وما هي إلا مشجب مريح يعلق عليه السلاح الأقوى.. وسنبرهن للقوي المعادية أن احتجاجاتها ستذهب هباء، وستعرض أصحابها إلي ضغوط كريهة وصعبة".
وما الخطة بعيدة المدى المذكورة في هذه الرسالة، إلا إشارة إلى أن الممولين الدوليين ينوون السيطرة التامة علي اقتصاديات العالم، وعلي جميع المصادر الطبيعية والقوي البشرية في الكون بأسره.
***
في يوم 28 كانون الثاني 1915 دوّن رئيس الوزراء الإنكليزي المستر اسكويت، الفقرات التالية في سجّله اليومي: "تلقيت للتو من هربرت صاموئيل، مذكرة بعنوان "مستقبل فلسطين".. وهو يظن أننا نستطيع إسكان ثلاثة أو أربعة ملايين من اليهود الأوروبيين في ذلك البلد، وقد بدت لي فكرته هذه كنسخة جديدة من أقاصيص الحروب الصليبية.. وأعترف بنفوري من هذه المقترحات التي تضم مسؤوليات إضافية إلي مسؤولياتنا".
وتقدم لنا هذه العبارات، البرهان الكافي علي أن المستر اسكويت لم يكن ميالا إلي الصهيونية.. طبعا مصير اسكويت ووزارته تقررا منذ ذلك الحين.
***
كان الصهيونيون يسيطرون منذ أمد بعيد علي الصناعات الحربية في إنكلترا.. وعندما قررت المؤامرة محاربة نظام اسكويت المعادي للصهيونية، وجدت إنكلترا نفسها فجأة في وسط الحرب أمام أزمة شديدة في الصناعات الكيميائية، التي هي الأساس لصنع الذخائر الحربية والمتفجرات.. وامتدت الأزمة أيضا إلي مصانع المدافع، التي اضطرت لتقنين إنتاجها.. وألقي الشعب التبعة بالطبع علي عاتق الحكومة.
وكان المشرف علي الإنتاج الكيماوي في إنكلترا، السير فريدريك ناثان.. وقد عهد هذا إلي معامل برونر وموند بتلافي أزمة إنتاج المواد الكيماوية، ومنحها أرصدة حكومية ضخمة لهذا الغرض.. أما مالكا هذه المعامل ـ السيدان برونر وموند اليهوديان ـ فقد بنيا معملا كيماويا ضخما في سيلفر تاون.. وبالرغم من أنّه بني بأرصدة حكومية، إلا إنه حين بدأ إنتاجه، أخذت أجهزة الدعاية والصحافة التي يسيطر عليها المرابون الصهيونيون، تكبل آيات المديح جزافا لبرونر وموند، وتنسج هالات التمجيد المزيفة حولهما وحول الماليين اليهود، ناسبة لهم أنّهم يدعمون الإنتاج الحربي البريطاني، في وقت تحيط فيه الإخطار ببريطانيا.. وهكذا ظهر هؤلاء بمظهر المنفذين، وبقيت تبعة اللوم علي عاتق الحكومة.. بيد أن معمل سيلفرتاون لم يلبث أن انفجر فجأة، وقتل أكثر من أربعين شخصا في هذا الانفجار المدبر، وتهدم ثمانمائة منزل.. وكانت النتيجة أن الإنتاج الحربي الكيماوي ركد من جديد، وعادت الأزمة تهدد وزارة اسكويت.. وظل الأبطال المزيفون بمنجى من اللوم، يحيط بهم العطف والمديح.. ويجب أن نذكر أن السير الفرد موند المذكور، والذي كان يشرف علي العمل الكيماوي كمبعوث من قبل الملك، أصبح هو بعينه فيما بعد، رئيس الوكالة اليهودية في فلسطين!!
***
هذا، وقد كانت إنكلترا ملتزمة بمساعدة حليفتها روسيا، وتزويدها بالبنادق والذخائر.. فكان من نتائج هذا التقصير في صناعة الأسلحة والمواد الكيماوية، أن لاقي الجيش الروسي ضربات قاسية في الجبهة الشرقية، لأن الأسلحة والذخائر لم تصله.. وأعلنت الصحف أن الجنود الروس كانوا يحاربون بالعصي وبقبضات أيديهم، حتى يذبحوا أمام الجنود الألمان.. وفي رسالة كتبها البروفسير برتارد بارز Bernard pares ووجهها إلي لويد جورج، كلمات تظهر بوضوح أن الأسلحة والذخائر منعت عن روسيا القيصرية قصدا، وذلك لخلق أجواء مناسبة للثورة... تقول رسالة بارز التي كتبت عام 1915 "صار لزاما علي أن أنقل رأيي الأكيد بأن فشل السادة فيكر ـ ما كسم وشركائهما Vickers – Maxim في تزويد روسيا بالسلاح، الذي كان يجب أن يصل البلاد قبل خمسة أشهر، يعرقل العلاقات بين البلدين، وخصوصا تعاونهما في الحرب الحالية.. وقد بلغني بالتأكيد أنه لم تصل إلي روسيا أي مساعدة من أي نوع من إنكلترا".
وكان لويد وزيرا للمالية ومسئولا عن تمويل الحرب.. أما السادة فيكر ـ ما كسيم وشركاؤهما، فكانوا تحت راية السير أرنست كاسيل وكيل أعمال مؤسسة كوهن ـ لوب في نيويورك، والذي كان بدوره مرتبطا بعائلة روتشيلد والممولين الدوليين في إنكلترا وفرنسا وألمانيا.
ولنبين أن السادة فيكر ـ ماكسيم وشركائهما كانوا تحت تأثير مؤسسة كوهن ـ لوب في ذلك الوقت، ننقل قول بوريز برازيل: "في 4 شباط 1916، عقد الحزب الثوري الروسي في أميركا، اجتماعا في نيويورك، حضره 62 موفدا.. وقد كشف النقاب عن آن تقارير سرية وصلت الحزب من روسيا، تفيد بأن الوقت أصبح مناسبا.. وتم التأكيد للمجتمعين بأن مساعدات مالية كافية ستقدم من قبل أشخاص يتعاطفون مع قضية تحرير الشعب الروسي.. وفي هذا الخصوص ذكر اسم يعقوب شيف مرارا عديدة.. ويعقوب شيف هذا كان في ذلك الوقت عضوا كبيرا في مؤسسة كوهن ـ لوب في نيويورك.. وعلي وجه التقريب فان خمسين عضوا من الاثنين والستين الذين حضروا اجتماع شباط 1916 كانوا قد اشتركوا فعلا في الثورة الروسية عام 1905.. ومرة أخري كان عليهم أن يحرّضوا علي العمل الثوريّ، ولكن يعقوب شيف كان قد خطط أن يغتصب لينين ثمار النصر".
وعندما ناقش المجلس البرلماني رسالة بارز المذكورة والموجهة إلي لويد جورج، تقول الأخبار إن لويد جورج دافع عن سياسة حكومته، بأن "الصدقة والإحسان يجب أن يبدأ في البلد، لأن قواتنا البريطانية تقاتل في فرنسا، ولا تملك سوي أربع رشاشات لكل كتيبة.. ويجب قبل أن تصدر الأسلحة إلي روسيا، أن نسلح جنودنا نحن".. ويقال إن اللورد كتشنر أجاب لويد جورج بقوله: "أنا أعتبر أكثر من أربع رشاشات لكل فصيلة تبذيرا، عندما أري فشلنا في تزويد السلاح ـ الذي وعدنا به روسيا ـ قد نتج عنه وجود بندقية واحدة فقط مع كل ستة جنود روس".
وقد استغل المتآمرون العالميون هذه العبارة التي نطق بها كتشنر، وأمروا عملاءهم ليستعملوها في تشويه سمعته.. فانتشر في العالم كله، أن كتشنر يعتبران أكثر من أربع شاشات للكتيبة الواحدة، عمل تبذيري لا يحتاج إليه الجنود البريطانيون في حربهم في فرنسا.. وقد استمر هذا التشويه حتى أيامنا هذه، وظهر في "سيرة دافيد لويد جورج"، الذي صدر حديثا، كما ظهر في نفس السيرة منقحة في المجلة الأسبوعية "تورنتو ستار".. وقد أرسلت إلي محرر الجريدة المذكورة، الحقيقة المتعلقة بهذا الحدث التاريخي الهام، فأجاب معتبرا التصحيح الذي أطلبه منه عملا ديناميكيا صعبا لا يمكنه معالجته، وأخبرني أنّه نقل رسالتي إلي "الدايلي ستار".. وليس ضروريا أن أقول إن "الحقيقة" لم تنشر أبدا.
***
تقول موسوعة المعرفة اليهودية عن الصهيونية: "لقد أجبرت الحرب العالمية علي نقل مركز المنظمة الصهيونية من برلين إلي نيويورك.. ونقلت السلطة بأجمعها إلي لجنة الطوارئ الاحتياطية للصهيونية، برئاسة القاضي الأمريكي ل.د. برانديس Brandies".
ويقول يعقوب دي هاس في كتابه "لويس ديمبتز برانديس": "أما المكتب الصهيوني للهجرة، فإنه تشعب وامتد ليشمل جميع القطاعات الحربية التي احتلها الحلفاء، وشملت تركيا وسوريا وفلسطين والأردن وبغداد.. وبالواقع فان أي قرش واحد من الملايين التي استلمها المكتب لم تذهب سدى.. وابتدأت باستعمال مكاتب الشؤون الخارجية للولايات المتحدة للاتصال وللإيداع، ثم نجحت مكاتب الهجرة نجاحا باهرا، وأصبح بالإمكان الاعتماد عليها.. حتى إن وزارة المالية الأميركية اعتمدت عليها واستخدمتها في إيصال الأموال والرسائل، التي لم تتمكن الحكومة من إيصالها بنجاح.. وقد قدمت السفارات في العواصم الأوروبية مبالغ نقدية، بناء على طلب أمين سر الهيئة التنفيذية للمنظمة الصهيونية في نيويورك".
ويقول فراي في كتابه "مياه تتدفق علي الشرق" في الصفحة 51:
"ومنذ ذلك الحين، أصبح تأثيرهم ملموسا أكثر وأثر في الدوائر السياسية في أميركا وأوروبا، وخصوصا مكتب الهجرة الصهيوني، الذي كان بإمكانه إرسال الأموال والمعلومات للعناصر التخريبية في أرض العدو".
وبعد ذلك، نجد محافل الشرق الأكبر تعود مرة أخري إلي الصورة، فنجد م. ارزبرغر يقول في الصفحات 145 ـ 146 من كتاب "تجاري في الحرب العالمية": "في السادس عشر من آذار 1916، دفع التحالف الإسرائيلي إلي محفل الشرق الأكبر في باريس 700.000 فرنك، كما يمكننا أن نبرهن من سجلات المحفل في روما، أن مليونا من الليرات الإيطالية قد حولت إلي هذا المحفل في 18 آذار 1916.. ولست من السذاجة بحيث أتخيل أن التحالف الإسرائيلي استعمل محفلين فقط بهدف إرسال مليون ليرة لمساعدة اليهود الإيطاليين".
يقول أ.ن. فيلد في كتابه "كل هذه الأشياء" ـ وهو يتحدث عن الحوادث التي تلت فصل الكويت عن العراق عام 1916 ـ في الصفحة 104: "لقد أصبح التأثير اليهودي في السياسة البريطانية واضحا، بعد ظهور السيد لويد جورج".
ويقول ل. فراي في الصفحة 55 من كتابه "مياه تتدفق علي الشرق": "عقد الاجتماع الرسميّ الأول للجنة السياسية الصهيونية، في السابع من شباط 1917، في منزل الدكتور موسى غاستر.. وقد نوقش في هذا الاجتماع بالتفصيل، البرنامج الصهيوني الذي سيستخدم كقاعدة في المفاوضات الرسمية، التي تشمل مصير فلسطين وأرمينيا ومنطقة ما بين النهرين (العراق) ومملكة الحجاز".
أما ج. م. ن. جيفريس، فيضيف أيضا هذه المعلومات في الصفحة 139 من الكتاب الذي كنا نستشهد به: "أبلغت تفاصيل هذا الاجتماع بالشفرة إلي التنظيم الصهيوني في الولايات المتحدة.. ومن الآن فصاعدا بدأ التنظيم الصهيوني في الولايات المتحدة يتدخل في صياغة السياسة البريطانية، وفي توجيه القضايا البريطانية الداخلية".
ولكي نصوّر بشكل ملموس مدي سيطرة الممولين الدوليين علي قضايا الحكومة البريطانية، ننقل كلام صموئيل لاندمان الذي يقول: "بعد أن تم الاتفاق بين السير مارك سايكس ووايزمان وسوكولوف، تقرر إرسال رسالة سرية إلي القاضي برانديس ـ رئيس لجنة الطوارئ الاحتياطية للصهيونية في نيويورك ـ تخبره فيها أن الحكومة البريطانية مستعدة لمساعدة اليهود في الحصول علي فلسطين، مقابل تعاطف يهودي فعال، ومقابل تأييد قضية الحلفاء في الولايات المتحدة الأمريكية، بشكل يخلق تيارا قويا يدعم اشتراك الولايات المتحدة في الحرب.. وقد أرسلت الرسالة بالشفرة عبر مكتب الخارجية البريطانية، كما أرسلت رسالات سرية أخري إلي القادة الصهيونيين في روسيا عن طريق الجنرال ماكدونو.. وقد استطاع الدكتور وايزمان (أحد مؤسسي الصهيونية السياسية) أن يؤمّن عن طريق الحكومة الإعفاء من الخدمة لستة من الشبان الصهيونيين، وذلك كي يعملوا بنشاط من أجل القضية الصهيونية.. وكانت الخدمة العسكرية في ذلك الوقت إجبارية، ولم يعف منها إلا أولئك المشتغلين بإعمال وطنية هامة، تمنعهم من الخدمة الفعلية علي الجبهة.. وأنا أتذكر الدكتور وايزمان وهو يكتب رسالة إلي الجنرال ماكدونو (مدير العمليات العسكرية)، يطلب مساعدته في الحصول علي التسريح من الخدمة الفعلية لليون سيمون وهاري ساشر وسمون ماركس وهابا مسون وتولكوسكي وأنا شخصيا.. وكما طلب الدكتور وايزمان، فقد نقلت من المكتب الحربي إلي وزارة الإعلام ـ وفيما بعد إلي المكتب الصهيوني ـ حوالي شهر كانون الأول 1916.. ومنذ ذلك الوقت، ولسنوات عدة، اعتبرت الصهيونية حليفة الحكومة البريطانية.. ولم يعد هناك صعوبات في الحصول علي جوازات سفر، أو في الانتقال بالنسبة لأي شخص يدعمه مكتبنا.. وعلي سبيل المثال، فإن شهادة وقعتها بنفسي، وكان يحملها يهودي عثماني، قبلها المكتب الوطني البريطاني، وعامل صاحبها معاملة الأصدقاء، لا الأعداء كما كانت الحالة بالنسبة للرعايا الأتراك".
***
تبين دراسة حياة ديزرائيلي Disraeil أنه أمضي العديد من أمسيات أيام الآحاد عند آل روتشيلد في لندن.. وتبين أيضا أنه بينما كانت مؤسسة كوهن ـ لوب في نيويورك تمول الثورة اليهودية في روسيا، كان آل روتشيلد اللندنيين مديري أعمال القيصر في لندن.. ونعلم أيضا أن آل روتشيلد في لندن كانوا مع حزب الأحرار، وأنه بين عام 1840 ـ 1917 كانت صحافة الأحرار التي كان يديرها آل روتشيلد، معادية للروس. ويخبرنا ديزرائيلي أن القادة السياسيين والماليين في ألمانيا كانوا يعتبرون مناهضين، لأنهم لم يسمحوا للممولين الدوليين أن يفعلوا تماما كما يشاءون.. وكان يمثل آل روتشيلد في ألمانيا البارون فون بليشريدر في برلين، وعائلة واربرغ في هامبورغ.. وفي روسيا ساعد آل ويتشتاين في أوروبا آل غينزبرغ في سانت بطرسبرج علي رعاية مصالح روتشيلد في ذلك البلد.
وهناك رجل آخر عمل بنشاط كبير لمصلحة الممولين الدوليين، وهو اوتو كاهن Otto Kahn.. ولقد استطاع هذا أن يخفي حقيقة هدفه كثوري عالمي، خلف أعلام الوطنية في العديد من الدول التي عاش فيها، وتظاهر بأنه مواطن محب لوطنه في كل منها.. ولد السيد أوتر كاهن في ألمانيا، ثم هاجر إلي الولايات المتحدة كما فعل بول واربرغ.. وكهذا الأخير أيضا أصبح شريكا في مؤسسة كوهن ـ لوب.. وعند وصوله إلي أميركا مباشرة حصل علي وظيفة كاتب عند سبياير وشركائه، وذلك كي يجعل الأمور تبدو عادية وليست غريبة.. ثم تزوج فيما بعد حفيدة السيد وولف Wolf، أحد مؤسسي مؤسسة كوهن ـ لوب وشركاه.. ولما زارت السيدة كاهن موسكو عام 1931، استقبلت رسميا من قبل الحكومة السوفيتية، التي أقامت علي شرفها مأدبة ضخمة واستقبالات باهرة عديدة.. وقد اصطف الجيش الأحمر الستاليني علي الطرقات عندما مرت.
وفي الثاني من نيسان 1934، ظهرت مقالة في "الديلي هيرالد" كتبها السيد هانين سوافار وفيها يقول: "لقد عرفت أوتوا كاهن المليونير لسنوات عديدة.. لقد عرفته عندما كان وطنيا ألمانيا، كما عرفته عندما كان وطنيا أمريكيا.. وكان من الطبيعي عليه عندما أراد أن يدخل مجلس العموم البريطاني، أن ينتمي إلي الحزب الوطني".. وكان يمكن للسيد أوتوا كاهن، أن يصبح رئيسا علي اتحاد العالم المتكلم بالإنكليزية English Speaking Union، لولا أن نشاطه الثوري انكشف بطريق الصدفة، عندما تم البرهان علي أن منزله كان مكان اجتماع العملاء السوفيات، مثل نينا سمورودين وكلير شار يدان ولويس بريانت ومارغريت هارسون.
وفي صيف عام 1917، اجتمع في ستوكهولم في السويد ممثلون عن المصالح للصرفية في بريطانيا وألمانيا وفرنسا وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية.. وقد حضر السيد بروتو بويوف وزير الداخلية الروسي، كما حضر السيد واربرغ من هامبورغ.. وكان هذا الأخير شقيق بول واربورغ الشريك في مؤسسة كوهن ـ لوب وشركائهما في نيويورك، والذي وضع مسودة التشريع لنظام الاحتياط الفيدرالي عام 1910.. وسيظهر لنا أنه حتى يتم القرار بتمويل لينين وتروتسكي للإطاحة بالحكومة السوفياتية، اجتمعت وفود من جميع الدول المحاربة، وأنه في النهاية سيصدر قرار يجعل مؤسسة كوهن ـ لوب في نيويورك تضع مبلغ 50 مليون دولار تحت تصرف لينين وتروتسكي في بنوك السويد.
وقد بعث ضباط المخابرات السرية في كل من بريطانيا وأميركا، بتقارير إلي حكوماتهم بشأن هذه الحقائق.. ومات الضابط أ. ن. كرومي Cromie وهو يقاوم الجماهير الثورية التي هاجمت القنصلية البريطانية في سانت بطرسبرغ، فقتل وهو يحاول إبعادهم، ريثما يتمكن المجتمعون به من إحراق الوثائق المتعلقة بهذا الأمر وبغيره من الأمور.
ثم نقلت الحكومة الأميركية إلي الحكومة البريطانية، التقارير التي وصلتها من ضباط المخابرات.. كما أن السيد اودندايك Oudendvke وزير الأراضي المنخفضة Netherlands في بتروغراد ـ الذي كان رجل المصالح البريطانية في روسيا بعد موت الكوماندر كرومي ـ حذر الحكومة البريطانية.. وقد نشر هذا التحذير في نيسان 1919، كجزء من ورقة بيضاء عن الثورة البلشفية، نشرتها كينغز برنتر Kings Printer.
أما خطة يعقوب شيف بشأن السماح لتروتسكي وعصابته في العودة من نيويورك إلي سانت بطرسبرغ، فقد فشلت عندما احتجزتم الرسميون في الحكومة الكندية في هالفاكس في مقاطعة وفاسكوشيا، وهم في طريقهم إلي روسيا.. وهنا تبدو سيطرة الممولين الدوليين، الذين احتجوا مباشرة إلي الحكومات المعينة، فأطلق سراح تروتسكي وجميع أفراد عصابته الثورية، وسمح لهم أن يمروا بأمان في القطاعات البريطانية الحصينة.
وهناك برهان آخر عن ارتباط السياسيين البريطانيين بثورة 1917 الروسية، حصل عليه الدكتور بتروفسكي Petrovesky، الذي يشرح الدور الذي لعبه السير بتشانان السفير البريطاني.. لقد برهن بتروفسكي أنه مع علم حكومة لويد جورج بما يجري خلف الستار، إلا إنها ساعدت تروتسكي والقادة الثوريين معه، في الوصول إلي روسيا.. بينما ساعدت القيادة العليا الألمانية الممولين الدوليين في إيصال لينين وعصابته الثورية من سويسرا إلي بتروغراد.. وقد خصّص للينين وأتباعه عربة قطار خاصة لنقلهم في رحلتهم عبر الأراضي الألمانية.
ويكشف السيد بتروفسكي أن ميليوكوف Milioukoff ـ الذي عين كوزير للشؤون الخارجية في الحكومة الروسية في ربيع 1917 ـ كان هو الرجل الذي تفاوض بشأن هذه المؤامرة، التي اشترك فيها كل من الدولتين المتحاربتين (بريطانيا وألمانيا).
ومن المعروف انه استحسانا للتعاون الذي أبداه الجنرال الألماني ستان، وافقت الحكومة البريطانية علي طلب ميليوكوف إطلاق سراح م. م. ليتفينوف Litvinov، وكان ضباط المخابرات البريطانية قد أسروه كجاسوس ألماني.. أما التعرف علي شخصية ليتفينوف فهي ذات أهمية بالغة، فهو ابن لوالدين يحملان اسم فينكلينستان.. ولما انضم إلي الحركة الثورية العالمية غير اسمه، فصار ماير والاش.. ولما صار له علاقة وثيقة بالحزب البلشفي وبلينين، ظهر اسمه مرة أخري ليكون ماكسيم ليتفينوف.. إنه الشخص نفسه بليتنفينوف الجاسوس الألماني، وهو الشخص نفسه الذي قبض عليه وهو يحاول أن يدفع أوراق الخمسمئة روبل التي حصل عليها ستالين عندما سرق بنك تيفليس Tiflis Bank.
بعد إطلاق سراحة مباشرة، عاد ليتفينوف إلي روسيا، وساعد بحكومة كيرننسكي المؤقتة، وبحركة المينشفيك السوفيتية.. ثم تولي ليتنفيوف منصب مساعد ستالين للشؤون الخارجية، بين عام 1930 وعام 1939.. وقد عين عضوا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي عام 1935.. ومقدرة ليتنفوف علي الاغتيال وعلي استلام النقود المسروقة وعلي العمل كجاسوس وكرجل عصابات دولي وكزعيم للنشاط الثوري في العديد من الدول، كل هذا جعل دول العالم ترحب به عندما عين رئيسا لمجلس الأمن في الأمم المتحدة!!!!!!.. وهذا يوضح حقيقة أن النورانيين يتحكمون بالذين يسيطرون علي الأمم المتحدة ظاهريا!!
وهكذا يتبين لنا، أن الحكومة الائتلافية البريطانية التي استلمت زمام الأمر من رئيس الوزراء اسكويت في كانون الأول 1916، لم تفعل أي شيء لتقف دون تنفيذ الممولين الدوليين خططهم للثورة الروسية، مع أنها تعلم أن نجاح هذه الثورة سيؤدي إلي سحب الجيوش الروسية من الحرب.. والبرهان علي أن الصهيونيين في كل من بريطانيا وأميركا اتفقوا علي الإطاحة بالإمبراطورية الروسية، يمكن إن نجده في حقيقة أن لينين أعلن عن تأسيس حكمة الديكتاتوري في تشرين الثاني 1917، وفي نفس الوقت أعلن لويد جورج أيضا أن سياسة الحكومة البريطانية تقضي بدعم خطة روتشيلد في تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين.. وهذا يبرهن علي أن لويد جورج لم يحقد علي الممولين الدوليين لإخراجهم روسيا من الحرب، مع أنها حليفة لبريطانيا.
***
وجه المرابون اهتماماتهم إلي فلسطين، لتكون المركز الجغرافي المناسب لخطتهم العامة في السيطرة علي العالم.. وبالإضافة إلي ذلك، فإنهم كانوا يعلمون أن أشهر الجيولوجيين العالميين، قد كشف عن مناطق واسعة تحتوي علي ثروات معدنية تقع في المنطقة المحيطة بالبحر الميت.. وهكذا قرر هؤلاء أن يتبنوا الصهيونية السياسية، لإجبار دول العالم علي الاعتراف بالوطن القومي لليهود في فلسطين، بحيث يكون لهم دولة مستقلة يمكنهم السيطرة عليها بأموالهم وسلطتهم.. وإذا حققت مؤامرتهم هدفها البعيد في إقامة حرب عالمية ثالثة، عندئذ يستعلمون دولتهم المستقلة هذه في توسيع نطاق نفوذهم وسيطرتهم لتشمل جميع أمم الأرض.. وعندما يتحقق ذلك، سيتمكنون من تنصب زعيمهم "ملكا علي الكون" و"الإله علي هذه الأرض".
وبعد استصدار وعد بلفور، الذي أيدته كل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، صدرت الأوامر إلي اللورد اللنبي بطرد الأتراك من آسيا الصغرى، واحتلال الأرض المقدسة.. ولم يكشف عن حقيقة النوايا في تسليم فلسطين إلي اليهود، إلا بعد أن انتهي العرب من مساعدة اللورد اللنبي في تحقيق مهمته!!!!!
وكان الشعور العام في ذلك الوقت، أن فلسطين ستصبح محمية بريطانية.. أما المرابون العالميون فما إن تم احتلال فلسطين حتى طلبوا من الحكومة البريطانية والحلفاء تعيين لجنة صهيونية في فلسطين، وتعيين مندوبيهم السياسيين أعضاء لها، علي أن تكون مهمة هذه البعثة، تقديم النصح للجنرال كلايتون الحاكم العسكري لفلسطين، وتعمل أيضا كوسيلة اتصال بين اليهود والقيادة العسكرية.. وقد باشرت هذه اللجنة عملها بالفعل في آذار عام 1918 وكان أعضاؤها التالون:
- الكولونيل أورمسباي غور ـ اللورد هارليك فيما بعد ـ الذي كان مديرا لبنك ميدلاند، وبنك ستاندارد في جنوب أفريقيا.
- الكولونيل جيمس دي روتشيلد، ابن أدموند دي روتشيلد، رئيس الفرع الفرنسي لأسرة روتشيلد، ومنشيء عدد كبير من المستعمرات اليهودية في فلسطين.. وقد أصبح جيمس دي روتشيلد عضوا في مجلس العموم البريطاني بين 1929 و 1945، ثم عيّنه تشرشل وزيرا للشؤون البرلمانية في حكومته العمالية الائتلافية.
- الملازم أدوين صاموئيل، الذي عين مديرا للرقابة في الحكومة البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية.. وعندما تأسست إسرائيل عام 1948 عين مديرا للإذاعة الإسرائيلية.
- المستر إسرائيل سيف، مدير شركات ماركس وسبنسر البريطانية الضخمة.. وله اتصالات وعلاقات وثيقة بالمرابين الدوليين.
- ليون سيمون، الذي نال فيما بعد درجة فارس، وأصبح المدير المسؤول عن مكاتب البريد العامة في بريطانيا.. وقد سيطر علي جميع أجهزة الهاتف، وجميع أنواع الاتصالات اللاسلكية.
- أما بقية أعضاء اللجنة فكانوا: الدكتور إلدر، السيد جوزف كارين والسيد حاييم وايزمان، وكلهم اصدقاء مقربون إلي الصهاينة الأغنياء في أميركا.
يقول السير ستورز بأن هذه اللجنة أرسلت إلي فلسطين قبل أن يعقد مؤتمر السلام، وحتى قبل نهاية الحرب، وذلك لإعداد الجو الملائم فيها لإنشاء الوطن العربيّ القوميّ لليهود، وتحريك أعوانهم للمساعدة المالية.
معاهدة فرساي
معاهدة فرساي كانت إحدى أكثر الوثائق التي وقعها ممثلوا ما يسمى بالدول المتمدنة إجحافا وظلما.. وقد أدي هذا الظلم الذي وقع علي الشعب الألماني إلي قيام حرب عالمية أخرى، وجعل قيام هذه الحرب أمرا لا مفر منه.
يجب علينا أولا أن نعي حقيقة الظروف التي أحاطت بتوقيع الهدنة في 11 تشرين ثاني 1918.. فالقيادة الألمانية العليا لم تطلب هذه الهدنة لأن قواتها كانت في خطر من انهزامها، بل إن القوات الألمانية لم تكن قد لاقت أي هزيمة علي أراضي المعارك.. ولكن القيادة العليا الألمانية طلبت الهدنة حتى تستطيع الوقوف في وجه قيام ثورة شيوعية في البلاد.. ذلك أن روزا لوكسمبورغ وتنظيمها الذي يسيطر عليه اليهود، كانوا يخططون للقيام بنسخة ثانية مما قام به لينين في روسيا قبل عام.
أما الأحداث التي جعلت القيادة العليا الألمانية تتحقق من الخطر في الجبهة الداخلية فهي كما يلي:
تمكنت خلايا روزا لوكسمبورغ الثورية من التغلغل في الأسطول البحري الألمانيّ، واشتد نشاطهم عام 1918، فنشروا شائعات بأن القيادة الألمانية قرّرت التضحية بالسفن الحربية وبملاحيها، في معركة مشتركة ضد الأساطيل الأمريكية والبريطانية معا، وروجوا الإشاعات بأن هذه العملية تهدف إلي تعطيل وشل القوات الحليفة، بشكل يسمح لأسياد الحرب الألمان باحتلال الشواطئ البريطانية بدون مقاومة.. وعملت الخلايا الشيوعية هذه علي تغذية الشائعات والتحريض علي العصيان هامسة بأن هذا الهجوم سينتهي بالفشل حتما، لأن العلماء البريطانيون استطاعوا تحضير سلاح كيميائي سري جديد، يمّكن الحلفاء من حرق السفن المعادية وإحاطتها باللهب، فتؤدي النيران والحرارة والنقص في الأوكسجين إلي قتل كلّ كائن حيّ.. ثم بدأ المخربون يؤكدون بأن الوسيلة الوحيدة للخلاص من خطر داهم كهذا، هو بالثورة لإنهاء الحرب.. وفي 3 تشرين الثاني 1918، أعلن جنود البحرية الألمانية العصيان.. وتلي ذلك يوم 7 تشرين الثاني فرار وحدة كبيرة من الغواصات في طريقها إلي الجبهة الغربية، فلقد أخبروا أنهم سيعملون كرأس حربة في الهجوم المزعوم لاحتلال بريطانيا.
وفي هذا الوقت، كانت الاضطرابات قد سببت تعطيل عدد كبير من المراكز الصناعية الألمانية، كما أن المخربين كانوا ينشرون روح الانهزامية، فتدهورت الأحوال لدرجة تنازل القيصر عن العرش في 9 تشرين الثاني.
بعد تنازل القيصر شكل الحزب الديمقراطي الاجتماعي حكومة جمهورية، ووقعت الهدنة في 11 تشرين ثاني 1918.. ولكن الاضطرابات لم تتوقف، بل ازدادت عنفا ضد الاشتراكيين هذه المرة، وذلك عن طريق الخلايا الشيوعية المنظمة Spartacus Bund.. ثم لعبت روزا لوكسمبورغ ورقتها الكبرى، حين اشترطت علي الحكومة الجمهورية تسريح الجيش الألماني، مقابل إنهاء الاضطرابات.. وقد منع هذه العمل القيادة الألمانية العليا من استعمال جيشها المنظّم لمنع قيام الثورة التي أعلنت في كانون الثاني 1919.
بعد انهيار الثورة اليهودية التي قامت بها روزا لوكسمبورغ، أخذ الشعب الآري الألماني علي نفسه أن ينتقم من الشعب اليهوديّ، فقتل الآلاف من اليهود، وقبض علي الرجال والنساء والأطفال ليلا وأعدموا.. أما روزا ومساعدها كارل ليبكنيشت، فقد القي القبض عليهما ثم أطلق ضابط ألماني النار علي رأسيهما، وكأنه يقتل كلابا مسعورة.
ولكي يزيدوا الحقد ويضرموا نار العداوة ضد اليهود، عمد هؤلاء إلي تحميل اليهود المسؤولية عن الهزيمة العسكرية، كما أذاعوا أن اليهود هم المسئولون عن بنود معاهدة فرساي الظالمة.. ومن ناحية ثانية ضاعفت الدعاية الاتجاه الوطني الاشتراكي في ألمانيا، بتصوير بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة علي أنها دول رأسمالية أنانية، واقعة تحت تأثير الممولين العالميين.. وهكذا مهدوا الطريق لظهور هتلر.
بعد توقيع المعاهدة مباشرة، أعلن لينين أن واجبهم الأول يقضي بإنشاء العالم الشيوعي الذي يسيطر علي دول العالم بأجمعها، والذي تقع حدوده بين خطي العرض 35 و 36 من النصف الشمالي للكرة الأرضية.. وأعلن أنه سيسعى للعمل الثوري ضمن هذه الحدود وأن أهم الدول هي أسبانيا وإيطاليا واليونان، وبعض المناطق في آسيا الصغرى، وتشمل فلسطين كما تضم بعض مناطق الصين والمنطقة التي تضم حدود كل من كندا والولايات المتحدة.
تسمي خطة لينين هذه في الأوساط العسكرية "خطة الثيران الشمالية"، لأن هذه الحيوانات الشمالية استطاعت أن تبقي علي وجه الحياة، لأنها كانت تدافع عن نفسها بوقوفها بشكل دائرة، موجهة قرونها الحادة إلي الدببة والذئاب التي تهاجمها.. ويعلل بعد ذلك لينين تخليه عن روزا لوكسمبورغ، بأنه استطاع أن ينظم القوات السوفياتية ليقف في وجه الهجوم العدواني الذي قامت به الدول الرأسمالية بين عامي 1919 و 1921.. وأعلم لينين في المؤتمر الأممي الثالث عام 1912، أن أسبانيا ستكون البلد الثاني لنشر الحكم العمالي، ولام زورا لوكسمبورغ علي إضرامها نار العداوة ضد السامية في ألمانيا.. عندئذ أرسل المؤتمر كارل راديكس ليقود حملة شيوعية في ألمانيا، وصدرت إليه التعليمات بالبدء بتنظيم وتدريب الحزب المذكور، ولكنه حُذر من اتخاذ خطوات ثورية حتى تأتيه الأوامر من الكومنتيرن (الاتحاد العالمي للأحزاب الشيوعية).
***
وقد سيطر الممولون الدوليون علي مؤتمر السلام، الذي انتهي بمعاهدة فرساي.. والبرهان علي ذلك واضح، في أن رئيس الوفد الأمريكي كان بول واربورغ ذاته، الذي أشرنا إليه بصورة كافية في فصل سابق، فهو الممثل الرئيسي لمجموعة المرابين العالميين في أمريكا.. ولم يكن رئيس الوفد الألماني سوي شقيقة ماكس واربورغ.
ويقول الكونت دي سانت أولاير: "إن الذين يبحثون عن الحقيقة في غير الوثائق، يعرفون أن الرئيس نيلسون، الذي تم انتخابه كرئيس للجمهورية بعد أن موّله البنك الأكبر في نيويورك (كوهن ـ لوب) كان يسير تحت إرشادات وأوامر هذا البنك".
أما الدكتور ديلون فيوضح أنّ "اليهود هم الذين وجهوا مؤتمر السلام هذا التوجيه، واختاروا فرساي في باريس ليحققوا برنامجهم بدقة، والذي نفذ حرفيا".
وبالنسبة لمسودة الانتداب البريطاني علي فلسطين، فإن تخطيطها كان على يد البروفسور فيلكس فرانكفورتر، الصهيوني الأميركي البارز، الذي أصبح فيما بعد المستشار الأوّل في البيت الأبيض، في عهد الرئيس روزفلت.. وساعده في ذلك كل من السير هربرت صاموئيل والدكتور فيويل والمستر ساشار والمستر لاندمان والمستر بن كوهن والسيد لوسيان وولف ـ الذي كان تأثيره كبيرا جدا علي المستر دافيد لويد جورج، ويقال إنه كان يملك جميع أسرار شؤون بريطانيا الخارجية.
وعندما بدأت المحادثات التمهيدية للمؤتمر، كان المستشار الخاص للسيد كليمانصو ـ رئيس وزراء فرنسا ـ هو المسيو مانديل.. ولم يكن هذا في الحقيقة إلا اسما مستعارا لأحد أفراد آل روتشيلد.. وكان هناك أيضا المستر هنري مورغنزاو ـ أحد أفراد الوفد الأمريكي ـ وهو نفسه والد الرجل الذي أصبح فيما بعد السكرتير المالي للرئيس روزفلت.. وحضر أيضا تلك المحادثات المستر أوسكارلا ستراوس، الذي عرف بتنبيه الشديد لمخطط الممولين، والذي كان له دور بارز في تكوين عصبة الأمم.
وبشأن هذه المعاهدة أيضا، يقول السيد لوسيان وولف في الصفحة 408 من "دراسات عن تاريخ اليهود": "وهناك مجموعة صغيرة أخري من اليهود البارزين تظهر تواقيعهم علي معاهدة السلام، فقد وقع معاهدة فرساي عن فرنسا لويز كلوتز ـ الذي تورط فيما بعد بقضية مالية واختفي عن الأنظار ـ وعن إيطاليا البارون سومينو، ومستر أدوين مونتاغ عن الهند".
وننقل فيما يلي أقوال بعض كبار المفكرين في الغرب، التي تشكل بحد ذاتها بيانا لا يحتاج إلي تفسير:
يذكر المؤرخ والدبلوماسي الإنكليزي الشهير هارولد نيكلسون في مؤلفه الضخم "صنع السلام 1919 ـ 1944" صفحة 244 أن لوسيان وولف طلب منه شخصيا أن يتبني رأيه، وهو أن اليهود يجب أن يتمتعوا بحماية عالمية، وأن يتمتعوا في الوقت نفسه بكل حقوق المواطن في أية دولة.
ويقول الكاتب الفرنسي جورج باتو، في كتابه "المشكلة اليهودية" ص38: "إن المسؤولية تقع علي عاتق اليهود الذين أحاطوا بلويد جورج وويلسون وكليمانصو".
***
وننتقل الآن إلي هنغاريا، ونحن نتحدث عن نهاية الحرب العالمية الأولي، فنجد أن بيلاكون اغتصب السلطة في ربيع 1919، ثم حاول تطبيق آراء لوسيان وولف.. ولكن حكمه الديكتاتوري لم يدم أكثر من ثلاثة أشهر، قتل خلالها عشرات الآلاف من المسيحيين وأجلوا عن ممتلكاتهم.. وشملت الضحايا جميع الناس من عمال وجنود وتجار وملاك أراضي.. ولم يفرق بين الرجل والمرأة أو بين رجل الدين والرجل العادي.. وفي هذا الصدد تقول مجلة نيو انترناشيونال في كتابها السنوي عام 1919 "تألفت حكومة بيلاكون في أكثريتها من اليهود، الذين استلموا أيضا مراكز إدارية.. وقد اتحد الشيوعيون مع الاشتراكيين، الذين كانوا أكثر شبها بأحزاب العمال ومجموعات اتحادات العمال.. ومع هذا فإن بيلاكون لم يختر مساعديه من هؤلاء، ولكنه اختارهم من بين اليهود، مؤلفا بذلك حكما بيروقراطيا يهوديا".
ويسجل التاريخ أنه بعد ثلاثة أشهر من التخريب والاغتصاب والقتل الجماعيّ، عُزل بيلاكون.. ولكنه بدلا من أن يعاقب، فإنه أدخل إلي مستشفي للأمراض العقلية.. وبعد ذلك تم إخلاء سبيله على يد تلك المجموعة القوية التي كان يعمل لمصلحتها.. ثم عاد بيلاكون إلي روسيا، ليستلم رئاسة منظمة تشيكيا الإرهابية، والتي عملت علي إرهاب الأوكرانيين وإخضاعهم لستالين، عندما أمر ببدء البرنامج الزراعي الجماعي.. وكان من نتيجة هذا الإرهاب أن مات خمسة ملايين من العمال جوعا، لعدم تنفيذهم القانون الزراعيّ، كما دفع بأكثر من خمسة ملايين أيضا للعمل الإجباري في سيبيريا.. ولما أراد ستالين أن يحوّل أسبانيا إلي بلد تحكمه الديكتاتورية الشيوعية في عام 1936، وقع اختياره علي بيلاكون لينظم (حكم الإرهاب) في أسبانيا.
***
ونعود إلي مؤتمر فرساي، لنري مشاهد أخري من سيطرة الممولين، الدوليين وذلك بحادثة معروفة جرت خلال المحادثات التمهيدية للمؤتمر.. فالظاهر أن هذه المحادثات بدأت تميل إلي سياسة لا يرضي عنها الممولون، لأن برقية مكونة من ألفي كلمة أرسلها يعقوب شيف من نيويورك إلي الرئيس ويلسون، الذي كان يحضر المؤتمر في باريس، وقد تضمنت هذه البرقية تعليمات للرئيس بشأن ما سيفعله بكل من قضية فلسطين ومصير الانتداب فيها، وبشأن التعويضات الألمانية وقضية سيليسيا العليا ومنطقة السار وممر دانزينغ.. وأرخت البرقية بتاريخ 28 أيار 1919، وقد أرسلها شيف باسم اتحاد الأمم المتحررة.
بعد استلام البرقية، غيّر الرئيس ويلسون موقفه فجأة، وأخذت المفاوضات تجري مجرى آخر.. بهذا الصدد يقول الكونت دي سانت أولاير: "إن النصوص التي تضمنتها معاهدة فرساي فيما يتعلق بالقضايا الخمس الرئيسية، هي من وضع يعقوب شيف وأبناء جلدته".
بعد أن دُفعت الدول الحليفة لجعل فلسطين محمية بريطانيا، أعلم الممولون الدوليون عملاءهم أن بنود المعاهدة ستكون قاسية جدا، بشكل لا يمكن أن يتحمله الشعب الألماني طويلا.. وكان هذا جزءا من المخطط الذي يرمي إلي زيادة حقد الشعب الألماني ضد الإنكليز والفرنسين والأميركيين واليهود، ليكونوا علي استعداد للحرب من جديد لاستعادة حقوقهم المشروعة.
وبعد توقيع معاهدة فرساي مباشرة، بدأت الحرب الرأسمالية المزيفة ضد البلاشقة.. وقد مكّنت هذه الحرب لينين من تخليه عن مساعدة الثورة الشيوعية في ألمانيا، وفي الدعوة إلي الصمود والالتحام للحفاظ علي المكاسب التي حققها في روسيا.. ومن ناحية ثانية فان هذه الحرب لم تكن أبدا ذات خطر علي ديكتاتورية لينين.. ولما انتهت عام 1921، كان من نتائجها الواضحة، الشهرة الواسعة التي نالها البلاشقة، في مقابل خسارة مماثلة للدول الرأسمالية.. وقد مهدت هذه النتيجة الطريق لعملاء الممولين الدوليين، كي يدخلوا الدول الشيوعية في عضوية عصبة الأمم تحت ستار السلام العالمي الدائم.
وكانت بريطانيا هي أول الدول التي حققت رغبات الممولين الدوليين واعترفت بالدول الشيوعية.. ثم تلتها فرنسا في 1924، وبعدها جاء دور الولايات المتحدة، فاعترف روزفلت بالدول الشيوعية في 1933.. وهكذا اعترفت عصبة الأمم بالدول السوفيتية الشيوعية.. ومنذ ذلك اليوم أصبحت عصبة الأمم ألعوبة في يد ستالين، وتمكن عملاؤه من صياغة سياستها والسيطرة علي نشاطاتها.. وما أن دخلت الدول الشيوعية في عصبة الأمم حتى أخذ أعضاء محفل الأكبر الماسوني دورهم فيها.
ونشير هنا إلي محرر جريدة التايمز الإنكليزية، وهو يكهام ستيد الذي كان من أكثر الناس إطلاعا علي الشؤون العالمية، والذي أشار في أكثر من مناسبة إلي تدخّل رجال المصارف والممولين الدوليين في الشؤون الدولية.. وقد كتب هذه العبارة المحددة عقب توقيع معاهدة فرساي مباشرة: "إنني ألح وأصرّ علي أنّ المحركين الأول، هم يعقوب شيف وواربوغ وغيرهم من أصحاب المصارف الدوليين، الذين كانوا يرغبون بشكل قوي في الحصول علي مساعدة البلاشقة اليهود، لتأمين ميادين عمل لليهود الألمان في روسيا".
وننقل أيضا ما كتبه ليوماكس في عدد آب 1919 من الناشيونال ريفيو، حيث يقول: "ومهما تكن نوعية السلطة التي تحكم داوننغ ستريت [تحكم بريطانيا]، محافظة كانت أم متطرفة، تؤيد الائتلاف أو تقف في صف البلاشقة، إلا إنها في جميع الأحوال تقع في أيدي اليهود العالميين.. وهنا يمكن سر الأيادي الخفّية التي لم يكن قد ظهر لها أي تفسير واع".
عندما زار ونستون تشرشل فلسطين في آذار 1921، طلب مقابلة وفد القادة المسلمين.. ولما قابلهم عرضوا له خشيتهم من الهدف الذي تعمل له الصهيونية السياسية، وهو الاستيلاء علي فلسطين واستغلال أراضيها لمصلحة اليهود، وبينوا له أن العرب يعيشون في تلك الأرض منذ أكثر من ألف سنة ((هذا أشبه بأن نقول إنّ المصريين يعيشون في مصر منذ ألف سنة!!!.. هذه أرض الفلسطينيين يعيشون فيها منذ القدم، وبقدوم العرب دخلوا الإسلام وتكلموا العربية، مثلهم مثل باقي دولنا))، وطلبوا منه استخدام نفوذه لرفع هذا الظلم.. وقد نقل عنه قوله: "أنتم تطلبون مني أن أتخلي عن وعد بلفور، وأن أوقف الهجرة اليهودية.. وهذا ليس في طاقتي، كما إنني لا أرغب فيه.. نحن نعتقد أنه لخير العالم واليهود والإمبراطورية البريطانية والعرب أنفسهم أيضا.. ونحن ننوي أن نحقق هذا الوعد".
لا بد أن يكون تشرشل وهو ينطق بهذا الجواب، كان يفكر بذلك التهديد الذي أطلقه حاييم وايزمان ونشره رسميا في 1920، ويقول فيه: "سوف نستقر هنا في فلسطين شئتم ذلك أم أبيتم.. إن كل ما تستطيعون عمله هو تعجيل أو إبطاء هجرتنا، ولكنه مهما يكن فإنه من الأفضل لكم أن تساعدونا، لتتجنبوا تحويل قدراتنا البناءة إلي قدرات مدمرة، تدمر العالم".
يجب أن نتدبر أمر تهديد وايزمان هذا، ونفهم معه أيضا ذلك البيان الذي صدر عن أحد الممولين الدوليين، في اجتماع للصهاينة عقد في بودابست عام 1919.. فلقد نقل الكونت أولاير كلامه وهو يتحدث عن احتمالات قيام الحكومة العالمية، ويقول: "وفي سبيل الوصول إلي العالم الجديد [الذي ينتظره هؤلاء]، أعطت منظمتنا البرهان علي فعاليتها في عمليتي الثورة والبناء، وذلك بخلقها لعصبة الأمم، التي هي في الحقيقة من عملنا.. وستشكل الحركة البلشقية الدافع الأول، بينما تشكل عصبة الأمم الفرامل في الجهاز الذي سيحتوي معا علي القوة الدافعة والقوة الموجهة.. وماذا ستكون النهاية؟.. إنها محددة سلفا في مهمتنا".. قيام الحكومة العالمية الواحدة.
وهناك شيء مهم وقع تحت يدي بعد ثماني سنوات من إنهائي لهذا الفصل، وذلك عن طريق المخابرات السرية الكندية، التي نقلت تقريرا عن المؤتمر الاستثنائي "للجنة الطوارئ لحاخامي أوروبا"، الذي عقد في بودايست في 12 كانون الثاني 1952..
وإنني أنقل ذلك التقرير، وهو عبارة عن الخطاب الحرفي للحاخام أيمانويل رابينوفيتش في المؤتمر المذكور:
"تحية لكم يا أبنائي.. لقد استدعيتم إلي هذا الاجتماع الخاص لإطلاعكم علي الخطوط الرئيسية لمنهاجنا الجديد، وهو المنهاج المتعلق بالحرب المقبلة كما تعلمون، والتي كان مخططنا الأصلي يقضي بإرجائها عشرين عاما، حتى نتمكن خلال ذلك من تدعيم مكاسبنا التي حصلنا عليها نتيجة للحرب العالمية الثانية.. ولكن ازدياد أعددنا في بعض المناطق الحيوية يسبب معارضة شديدة، لذلك صار لزاما علينا أن نستعمل جميع الوسائل التي في حوزتنا، لإشعال حرب عالمية ثالثة في مدة لا تتجاوز خمس سنوات.
يجب أن أبلغكم أن الهدف الذي لا زلنا نعمل من أجله منذ ثلاثة آلاف عام قد أصبح في متناول يدنا الآن.. أستطيع أن أعدكم أنه لن تمر عشر سنوات، حتى يأخذ شعبنا مكانه الحقيقي في العالم، ويصبح كل يهودي ملكا، وكل جوييم عبدا.. [تصفيق من الحضور].. إنكم لا تزالون تذكرون نجاح حملاتنا الدعائية التي طبقناها خلال الثلاثينيات، والتي أوجدت شعورا معاديا للأمريكيين في ألمانيا، وشعورا بالكره الشديد للألمان عند الأمريكيين.. وتعلمون أن هذه الحملة أعطت ثمارها بقيام الحرب العالمية الثانية.. أما الآن فهناك حملة مماثلة نشنّها بقوة عبر العالم.. فنحن نثير الآن حمّى الحرب عند الشعب الروسي، بخلق ميل معاد لأميركا، التي يجتاحها في الوقت نفسه شعور معاد للشيوعية.. هذه الحملة ستجبر الدول الصغيرة علي الاختيار بين أن تصبح شريكة لروسيا أو متحالفة مع الولايات المتحدة.. أما أكثر المشاكل التي نواجهها في الوقت الحالي، فهي إتارة الروح العسكرية عند الأمريكيين، الذين أخذوا يبدون كرها شديدا للحرب.. ومع أننا فشلنا في تحقيق خطتنا في تعميم التدريب العسكري علي كل الشعب الأمريكي، إلا إننا سنأخذ كل الاحتياطات للحصول علي موافقة الكونغرس علي مشروع بهذا الصدد بعد انتخابات 1952 مباشرة.. إن الشعب الروسي والشعوب الآسيوية هم تحت سيطرتنا، ولا يقفون حائلا ضد قيام الحرب.. ولكننا يجب أن ننتظر حتى يصبح الشعب الأمريكي هو أيضا مستعدا لمثل هذه الحرب.. ونحن نأمل بتحقيق هدفنا هذا باستعمال قضية العداء للسامية، بنفس الطريقة التي جعلت الأمريكيين يتحدون ضد الألمان أعداء السامية في الحرب العالمية الثانية.. ونحن ننتظر قيام موجات عداء للسامية في روسيا، بشكل يسبب تلاحم الشعب الأمريكي ضد القوة السوفياتية.. كما أننا سنقوم بنفس الوقت عن طريق الإغراء المالي، باستخدام عناصر مؤيدة للروس في عدائهم للسامية، ونبث هذه العناصر في المدن الأمريكية الكبرى.. وستخدم هذه العناصر غرضين نسعى لهما، وهما فضح المعادين لنا حتى نتمكن من إسكاتهم، وتوحيد الشعب الأمريكي في بُوتقة واحدة ضد الشعب الروسي.. وفي خلال خمس سنوات سيحقق منهاجنا هذا أغراضه، وتقوم الحرب العالمية الثالثة التي ستفوق في دمارها جميع الحروب السابقة.. وستكون إسرائيل، بالطبع، بلدا محايدا.. حتى إذا تم تدمير وإهلاك الطرفين المتحاربين، سنقوم نحن بعملية التحكيم والرقابة علي بقايا أشلاء جميع الدول.. وستكون هذه الحرب معركتنا الأخيرة في صراعنا التاريخيّ ضد الجوييم.. بعد ذلك سنكشف عن هويتنا لشعوب آسيا وأفريقيا.. وأستطيع أن أعلن لكم جازما، بأن الجيل الأبيض الذي ولد في الأيام التي نعيشها الآن سيكون آخر الأجيال البيضاء.. ذلك لأن لجنة التحكيم والرقابة ستمنع التزاوج بين البيض، بحجة نشر السلام والقضاء علي الخلافات بين الأجناس البشرية.. وبهذا يتم القضاء علي العنصر الأبيض، عدونا اللدود، ويصبح مجرد خيال وذكرى.. وسنعيش بعد ذلك في عهد السلام والرخاء الذي لن يقل عن عشرة آلاف من السنين.. وسنحكم العالم بأسره، لأنه سيكون من السهل علي عقولنا المحركة، السيطرة الدائمة علي العالم من الملونين ذوي البشرية السوداء".
سؤال من أحد الحاخامين الحاضرين: "أرجو من الحاخام رابينوفتش أن يحدثنا عن مصير الأديان المختلفة بعد الحرب العالمية الثالثة؟"
رابينوفتش: "لن تكون هناك أديان بعد الحرب العالمية الثالثة، كما لن يكون هناك رجال دين.. فإن وجود الأديان ورجال الدين خطر دائم علينا، وهو كفيل بالقضاء علي سيادتنا المقبلة للعالم، لأن القوة الروحية التي تبعثها الأديان في نفوس المؤمنين بها ـ وخاصة الإيمان بحياة أخري بعد الموت ـ يجعلهم يقفون في وجهنا.. بيد أننا سنحتفظ من الأديان بالشعائر الخارجية فقط.. وسنحافظ على الدين اليهوديّ، وذلك لغاية واحدة، هي الحفاظ علي الرباط الذي يجمع أفراد شعبنا، دون أن يتزوجوا من غير سلالتهم أو أن يزوجوا بناتنا لأجنبي.. وقد نحتاج في سبيل هدفنا النهائي إلي تكرار نفس العملية المؤلمة التي قمنا بها أيام هتلر.. أي أننا قد ندبر وقوع بعض حوادث الاضطهاد ضد مجموعات أو أفراد من شعبنا.. أو بتعبير آخر سوف نضحي ببعض أبناء شعبنا، حتى نحصل بذلك علي الحجج الكافية التي تبرر محاكمة وقتل القادة في أميركا وروسيا كمجرمي حرب، وذلك بعد أن نكون قد فرضنا شروط السلام.. ونحن اليوم بحاجة إلي الإعداد لهذه المهمة وهذه التضحيات.. لقد تعود شعبنا على التضحية دائما.. ولن تكون خسارة بضعة آلاف من اليهود خسارة جسيمة، إذا قارناها بما سيحصل عليه شعبنا من السيطرة علي العالم وقيادته.
وحتى تستيقنوا من قدرتنا علي السيطرة علي العالم، انظروا إلي اختراعات الرجل الأبيض، كيف حولناها إلى سلاح خطير ضده.. فالراديو والمطبعة أصبحنا اليوم المعبر والمتحدث عن رغباتنا، كما أن معامل الصناعات الثقيلة ترسل الأسلحة إلي آسيا وأفريقيا لتحارب شعوبها الرجل الأبيض نفسه صانع هذه الأسلحة.. واعلموا أننا طورنا برنامج النقطة الرابعة في واشنطن، ليشمل التطوير الصناعي للمناطق المتخلفة من العالم، بحيث يصبح الرجل الأبيض تحت رحمة المجموعات الضخمة من الشعوب السوداء، التي ستفوقه تكنولوجيا بعد أن تدمر الحرب النووية وزراعته الصناعية.
وبهذه الرؤية للنصر النهائي يتوهج أمام أعينكم، عودوا إلي مناطقكم وباشروا العمل بجد ودون هوادة، حتى يحل أخيرا اليوم الذي ستكشف فيه إسرائيل عن مهمتها الحقيقية، وهي أن تكون النور الذي يضيء العالم" ـ [النوراني تعني حامل النور].
هذا الخطاب يؤكد أيضا استنتاجاتي ومعلوماتي السابقة التي أوردتها، وهي أن القوي الخفية هي التي أثارت العداء للسامية، وبنفس الوقت العداء للشيوعية، بشكل يخدم أهدافها.. كما أن الخطاب يبرهن علي أن النورانيين استعملوا الشيوعية والنازية والفاشية للوصول إلي طموحهم الخفيّ.. وهم، يستعملون الديمقراطية المسيحية ضد الشيوعية للوصول إلي المرحلة التالية من خطتهم البعيدة، وهي الحرب العالمية الثالثة.
***
ولقد استطاع الممولون الدوليون ـ باختفائهم وراء بنود معاهدة فرساي ـ التحكم بإعادة بناء الجيش الألماني، وإعادة تحسين اقتصاديات البلاد.. بعد ذلك دخلوا مع القيادة الألمانية العليا في اتفاقية Abmachungen، وبموجبهات تمّ الاتفاق علي أن يزود الروس الجنرالات الألمان سرا بجميع الأسلحة والذخائر اللازمة لبناء جيش حديث مؤلف من عدة ملايين.. واتفقوا علي أن يضع الديكتاتور السوفيتي تحت تصرفهم جميع التسهيلات، لتدريب جميع الضباط الألمان.
هذا وقد تم تحقيق بنود اتفاقية Abmachungen، بعد أن قام الممولون الدوليون بتمويل هذا المشروع الضخم.. هكذا استطاع هؤلاء أن يؤمّنوا بناء القوة العسكرية والاقتصادية في الدول الشيوعية والفاشية علي السواء.. واستطاعوا أن يهيئوا الظروف للقيادة الألمانية لكي تتخطي بنود معاهدة فرساي، وخصوصا القيود العسكرية المفروضة عليهم.
وعن طريق معامل السلاح والذخيرة الشيوعية وراء جبال الأورال، ثم تزويد المؤسسات الألمانية بكل ما تحتاجه.. وهذه المؤامرة لا يمكن إن تعني إلا النية المبيتة للممولين الدوليين بإضرام نار الحرب العالمية الثانية.. ولم تكن الدول المسماة بالحليفة بمعزل عما يجري وراء الستار، ولكنها كانت تعلمه أولا بأول.. وهذا لمسته بنفسي عندما حضرت مؤتمر نزع السلاح البحري في لندن عام 1930.. وهو برهان آخر علي صدق ديزرائيلي عندما قال: "الحكومات المنتخبة لا تحكم".
والحقيقة أن هذه الفترة من التاريخ معقدة جدا وليس من السهل علي المواطن العادي أن يفهما.
فالشيوعية والنازية تجمع بينمها صفات مشتركة عديدة: فكلامها مبدأ إلحادي ينكر وجود القوّة الإلهية.. وكلاهما ينادي ويشجع الحرب والكراهية والقوة.. ومبادئهما مناهضة للمبادئ المسيحية في السلام والحب والتربية.. وهذا يجعل من قادة كلا المعتقدين العميقين في الإلحاد والمادة عملاء للشيطان.. وهم جميعا ينفذون المؤامرة الشيطانية في إبعاد البشر عن طاعة العلي القدير.. وكلا المعتقدين يستعمل أيضا شكلا من أشكال محافل الماسونية في الشرق الأكبر، لرد الناس عن أديانهم.
وتبين لنا الدراسة التحليلية للتاريخ بين عام 1914 و 1943، أن جماعة المرابين العالميين وجهوا جهودهم في هذه المرحلة لتحقيق الأهداف التالية:
1. إثارة الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي يسمح بخلق جو مناسب للعمل الثوري، يسمح لهم بالسيطرة الكاملة علي الإمبراطورية الروسية.
2. تغيير الرؤوس الحاكمة في أوروبا، قبل أن تبدأ أي مجموعة مجموعاتهم بالسيطرة، وإقامة الحكم المطلق.
3. إجبار حكومتي بريطانيا وفرنسا علي الموافقة علي إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
لقد أجبرت الحكومة البريطانية علي مساعدة الممولين الدوليين لتنفيذ مخططهم في إنجاح الثورة البلشقية، وذلك كي تحصل بريطانيا علي مساعدة الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب.. ويمكننا أن نجزم بأن السفينة لويزيانا أغرقت لتبرر السياسة الأميركية تجاه الحرب، تماما كان حادث بيرل هاربر المبرر لدخولها في الحرب العالمية الثانية.. ((كشفت الوثائق التي أفرجت عنها بريطانيا في التسعينيات، أنّ البريطانيين هم الذين دفعوا اليابانيين للهجوم على أمريكا، وذلك باستخدام سفينة بحرية بريطانية ترفع علم أمريكا، استخدمت شفرة أمريكية يعلم البريطانيون أنّ اليابانيين قد حلّوا شفرتها، في تناقل رسائل كاذبة تؤكد عزم أمريكا على الهجوم على اليابان، ممّا دفع هؤلاء لأخذ زمام المبادرة.. ويقال إن الرئيس الأمريكيّ كان على علم مسبق بنية اليابان مهاجمة بيرل هاربور، ولكنّه تجاهل الأمر لرغبته في إيجاد مبرر لدخول الحرب!))
وجاء في النسخة الأصلية بشأن الانتداب البريطاني علي فلسطين ما يلي: "لتحويل فلسطين إلي وطن قومي لليهود".. ولكن هذه العبارة تغيرت في اللحظة الأخيرة، لتكون "لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين".. وقد تم هذا لإخفاء الطموح السرّيّ للصهيونية.
وكما أخفى الصهاينة طموحهم في الاستيلاء علي فلسطين كلها، أخفوا أيضا حقيقة الثروات المعدنية الطائلة الموجودة علي شواطئ البحر الميت، ولم يكشفوا عن ذلك إلا بعد إعلان الانتداب من قبل فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة.
وهكذا استعمل المرابون الدوليون الصهيونية، لكي يتحكموا بسيادة الدولة ذات المركز الجغرافي المتوسط، ليمدوا سيطرتهم علي بقية دول العالم، كما مدوا سيطرتهم علي الاتحاد السوفياتي.
ستالين
لم يقدر لزوج ستالين الثاني التوفيق، لأنه التقي بامرأة يهودية حسناء اسمها روزا كاغنوفيتش.. ويقال إنه كان يعاشرها عندما أقدمت زوجتة الثانية ناديا علي الانتحار.. ومن المعتقد أن انتحار ناديا لا يعود إلي قصص ستالين الغرامية فقط، بل إلي الأسى الشديد الذي أصابها، بسبب قسوة زوجها في القضاء وعلي عدد كبير من خصومه، الذين كانت تري فيهم إخوة لها في الدين بينما يراهم هو منحرفين.
وكان شقيق روزا ـ ويدعي لازار كاغونوفيتش ـ صديقا مقربا لستالين، الذي جعله عضوا في المكتب السياسي "البوليتبيرو"، وبقي كذلك حتى وفاة ستالين.. وقد برهن لازار عن مقدرته في الإشراف علي الصناعات الثقيلة، عندما قام بتطوير حقول دونيتز بازين البترولية وإنشاء اوتوستراد موسكو.. وقد تزوج ابنه ميخائيل ابنة ستالين (سفيتلانا) في 15 تموز 1951.. وكانت سفيتلانا متزوجة من شخص آخر عندما تقرر هذا الزواج.. ولم يعلم أي شيء عن مصير الزوج الأول، سوي أنه قد انزاح عن الطريق فجأة، تماما كما فعل ستالين عندما تزوج روزا بعد أن أزاح زوجته الثانية، أو بعد أن أزاحت هي نفسها!!
وبالإضافة إلي زواج ستالين من يهودية، فإن نائبه مولوتوف هو أيضا قد تزوج من يهودية، وهي شقيقة سام كارب ـ الرأسمالي الأمريكي الكبير، صاحب شركة الاستيراد الضخمة "كارب اكسبورتنغ" ـ ثم خطبت ابنه مولوتوف إلي ابن ستالين فاسيلي في عام 1951.. وهكذا نري أن المكتب السياسي "البوليتبورو" كان إلي حد ما بيد أسرة ستالين والمقربين إليها.
وقد توصل ستالين إلي أن يصبح في الطبقة العليا للحزب الثوري الروسي، لأن معظم القادة المرموقين في المراحل الأولي من الثورة الشيوعية كانوا داخل السجون.. ولم يترقّ ستالين إلي أي مركز خلال ديكتاتورية لينين، إلا إنه في الفترة الأخيرة من حكم لينين، بدأ يتقدم الصفوف الأولي.. وعندها بدأ الصراع بينه وبين تروتسكي وغيره من بعض اليهود الخصوم.. وانتهي هذا الصراع باستلامه الحكم، الذي لم يتخل عنه حتى وفاته.
في عام 1927 حاول تروتسكي القيام بانتفاضة ضد ستالين، متهما إياه بالانحراف عن الإيديولوجية الماركسية والنزوع إلي إقامة دكتاتورية استعمارية توتاليتارية كبديل للإتحاد الأصيل للجمهوريات السوفياتية الاشتراكية.. وهنا قام ستالين بحملة تطهير، قضى فيها علي عدة ملايين، كما أرسل عددا مماثلا إلي المنفي والأشغال الإجبارية.. وهكذا كانت نهاية العديد من قادة الحركة الثورية منذ الأممية الأولى، أن يلاحقوا حتى الموت أو السجن.. ومن بين القادة الذين تخلص منهم ستالين: تروتسكي، زينوفييف، كامينيف، ومارتينوف وزاسوليش، ودوش وبارفوس، واكسلرود، وراديك وبورتزكي وسفيردلوف، ودان، وليبر، ومارتوف.. ولم يبق من المقربين اليه عند وفاته، إلا لازار كاغانوفيتش صهره، وروزا زوجته الثالثة.
***
سار ستالين علي سياسة لينين في إنشاء عالم الشيوعية بين خطي عرض 35 و 45 من النصف الشمالي للكرة الأرضية.
كانت خطة ستالين تقضي بألا يورّط قواته المسلحة في حرب مع الدول الأخرى، وأن يسير علي سياسة إشعال الثورات جنوبي الاتحاد السوفياتي بين خطي عرض 35 و 45.. وقد أعطت هذه السياسة ثمارها بسرعة، لأنه عند وفاة ستالين كانت الشيوعية قد سيطرت علي نصف المنطقة المذكورة، كما أن نصف سكان الأرض كانوا قد وقعوا تحت التأثير الشيوعي.
((تذكر القمع والاضهاد والتهجير الذي أصاب المسلمين في الجمهوريات الإسلامية التي احتلتها روسيا، للقضاء على دينهم ولغاتهم وتراثهم.. هذا بخلاف الثورات الاشتراكية التي دمرت مجتمعاتنا في نصف القرن الماضي، وما زلنا ندفع ثمن كوارثها حتّى اليوم!!))
هذا وقد حافظ ستالين علي خطة لينين بالبدء بأسبانيا في عملية التحويل إلي الشيوعية، لأنه هذا سيجعل من السهل تعريض فرنسا وبريطانيا للسيطرة الشيوعية، وتصبح بعد ذلك ألمانيا بين فكي الكماشة.. وإذا حدث ما يمنع وقوع أسبانيا تحت السيطرة الشيوعية، فإن حادثا كهذا سيكون من الأسباب المساعدة علي نشوب حرب عالمية ثانية.
وعندما كان ستالين يعد للثورة الأسبانية، شارك مشاركة فعالة في الحرب الاقتصادية، التي كانت تدور رحاها بعد توقيع الهدنة عام 1918. فقد ظهرت طبقات ذات غني فاحش بعد الحرب العالمية لعدم مشاركتها في الحرب، كما أن شعوب الدول الحليفة عاشت برخاء زائد في السنتين اللتين تلنا الحرب.. ولكن قبل أن يتمكن المستثمرون من استثمار أموالهم بعد أوصلوا إلي القمة، سحبت أموال طائلة من الأسواق، وحددت الاعتمادات في البنوك، وبدأت عملية المطالبة بالديون تشتد.. وكانت هذه المأساة الصغرى التي كان يعيشها العالم بين 1923 و 1925، والتي كانت مقدمة للمأساة الكبرى التي خططت لها القوى لتكون عام 1930.
هذا وقد حدثت المأساة الكبرى هذه، بعد أن تغيرت السياسة المالية عام 1925، وعاد الرخاء يتقدم بخطي واسعة حتى الغني الفاحش في كل من أميركا وبريطانيا وكندا واستراليا.. وعاد الاستثمار عن طريق الأسهم والشركات أقوي مما كان عليه قبل 1925.. عندئذ وقبل انتهاء عام 1929، وقعت الضربة المفاجئة.. ونزلت أعظم مأساة اقتصادية عرفها العالم الحرّ في تاريخه كله.. وكان من نتيجتها أن الملايين من الناس أصبحوا بحاجة إلي لقمة العيش.. وانتحر الآلاف.. وقد وقع اللوم يومذاك علي سوء الإدارة والحكم، الذي جعل من عشرات الملايين من البشر مدقعين في الفقر، ورفع 300 فقط من أصحاب الملايين ليصبحوا من أصحاب "التريليونات".
أما ستالين فقد بدأ خطته الصناعية الخماسية عام 1925، وذلك للعمل علي ما أسماه تحسين الأوضاع الداخلية للدول الشيوعية.. وشملت الخطة استغلال لموارد الطبيعية وتصنيعها وتحسين الوسائل الزراعية وتحديث الصناعة.. وقد موّل هذه الخطة الخماسية المرابون الدوليون، وذلك عن طريق قروض ساهمت مساهمة قوية في تحسين الاقتصاد الروسي وبناء القوة العسكرية الروسية والألمانية معا.
ثم جاءت خطوة ستالين التالية، وهي إنشاء المزارع الجماعية.. وكان الشعب الروسي قد عاش لقرون عديدة أقل من العبيد في الأرض التي كان يستغلها الإقطاعيون، ثم وعدهم لينين بأن يعيشوا عيشة أفضل، حيث انفصل أكثر من مليونين من عائلات الفلاحين عن إقطاعهم، ووزعت الأراضي، وأصبحوا جميعا ملاكا مستقلين.. وفي أول كانون الثاني 1916 ارتفع عدد هذه العائلات إلي 6.200.000 عائلة.
ولكن الحظ السيء كان يلاحق هؤلاء، لأن الممولين الدوليين كانوا يريدون الحصول علي القروض التي دفعوها للخطة الزراعية ولتموين الجيش الألماني، فأصروا علي التحكم بصادرات وواردات الدول الشيوعية، كما طلبوا بتنفيذ المزارع الجماعية علي أنها الوسيلة الوحيدة لزيادة الإنتاج الزراعي.
وقد سجل التاريخ ما حدث عندما نفذ ستالين بالقوة مشروع المزارع الجماعية، فأكثر من خمسة ملايين من الفلاحين واجهوا الإعدام أو ماتوا من الجوع، لأنهم رفضوا تنفيذ المشروع أو حاولوا الوقوف في وجهة.. كما أن أكثر من خمسة ملايين غيرهم تم نقلهم إلي سيبيرا لكي يقوموا بالأعمال الإجبارية.. بل أكثر من هذا، هو أن القمح الذي صادره ستالين من الفلاحين تم بيعه للمرابين الدوليين، ليضاف إلي كميات القمح الأخرى التي اشتراها هؤلاء من بلدان أخري.. وكان الغرض من هذه العملية هو تعويم السواق العالمية بهذه المادة الأساسية وبشكل رخيص، وذلك للمضاربة علي القمح الأمريكي والكندي، كي يكسد ولا يجد الأسواق التي تشتريه.. كما أن المرابين قاموا بضربة أخري للّحوم والمواشي الكندية والأميركية، وذلك عن طريق شراء كميات ضخمة من اللحوم المبردة والمعلبة من الأرجنتين وغيرها من البلدان المنتجة للحوم.
وبين عامي 1920 و 1929 خفض الممولون الدوليون أسعار الشحن في سفن جميع الدول تقريبا، ما عدا بريطانيا وأميركا وكندا.. فكان من نتيجة هذه القرصنة التجارية، أن استحال علي السفن من هذه البلدان الثلاثة أن تنافس أسعار الشحن في السفن الأخرى، فرابطت آلاف السفن التجارية في موانئها، وتوقفت عملية التصدير بشكل لم يعرف من قبل.
في نفس الوقت الذي كان ميزان الصادرات في الدول الحليفة يهبط بشكل عجيب، كان هناك ارتفاع مقابل في عملية الاستيراد من كل من ألمانيا واليابان ودول أوروبا الوسطي.. وهكذا ساءت الحالة في البلدان الحليفة.. ففي كندا مثلا يعتمد خمسة من كل ثمانية من أصحاب الدخل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة علي عملية التصدير.. وإذا انخفض ميزان التصدير، تبعه مباشرة انخفاض وانتكاس تجاري.. ذلك أن القدرة الشرائية لخمسة من كلّ ثمانية من أصحاب الدخل تنخفض.. يؤثر هذا أيضا علي كل من يعتمد علي الخدمات بأنواعها كوسيلة لكسب عيشه.. وإذا بقي هذا الانخفاض في ميزان المدفوعات علي حاله أو توقفت الصادرات، فإن الانتكاس التجاري يتحول إلي أزمة ويتدهور إلي مأساة.
وحتى يتأكد أصحاب المؤامرة العالمية من انزلاق الهيكل الاقتصادي للدول الحليفة إلي الهاوية، راحوا يعوّمون الأسواق العالمية بالقمح واللحم بأسعار منخفضة جدا وأقل من كلفة الإنتاج في كل من كندا وأميركا واستراليا.. فكان من نتيجة هذا التعويم أن فاضت مستودعات القمح في الدول الحليفة ولم تتمكن من بيعه، بينما كانت شعوب بعض الدول تموت جوعا لحاجتها الماسة للخبز واللحم.. وكانت بريطانيا تعوض الفرق السنوي الشاسع بين ميزان الصادرات والواردات بخدماتها فيما وراء البحار، حيث تكسب ما يعادل 85 مليون جنيه إسترليني.. ولكنها أصيبت بضربة قاسية جدا عندما منعتها المنافسة غير العادلة من الحصول علي هذا المبلغ.. هذا وقد استغل المرابون العالميون هذه الأزمة الاقتصادية المصطنعة لخلق جو من التنافر والخلاف بين مختلف دول الكومنولث، وذلك بهدف إضعاف الإمبراطورية البريطانية وتفكيكها.
ماذا كانت هذه الحرب الاقتصادية؟.. ركود شديد في تجارة وصناعة وزراعة الدول الحليفة والدول الرأسمالية، وفي نفس الوقت ازدياد شديد وتوسع هائل في نشاط الدول الشيوعية ودول حلف المحور..
وهكذا أخذوا يهيئون الوضع الدولي لقيام حرب عالمية ثانية في الوقت الذي يريدونه.
الثورة الأسبانية
في القرن الثالث عشر الميلادي شكّل البابا أنيوسينس الثالث محاكم التفتيش، لاعتقال الزنادقة الذين يتظاهرون بالتدين والتحقيق معهم ((الصحيح: للتنكيل بالمسلمين واليهود بمنتهى الوحشية والخسّة!!).. وكانت أسبانيا قبل ذلك قد أكرمت اليهود وعاملتهم معاملة ودية جدا ((هذا عندما كان يحكمها المسلمون)).. ومن هنا نجد أن جميع جرائم المرابين الملحدين وعملائهم في أسبانيا وفي غيرها من الدول تلصق باليهود.. واستمر عمل محاكم التفتيش أيام إيزيلا وفردينايد، أي بين عامي 1475 و 1504.
ولما جاء حكم توركومادا، وجدت محاكم التفتيش أن خلايا المرتدين والمخربين تنتشر انتشارا واسعا في البلاد وتتبع تنظيما دقيقا.. عندئذ حذت أسبانيا حذو غيرها من الدول الأوروبية وطردت اليهود من أراضيها، مما شجّع المتطرفين علي تنظيم أعمال عنف جماهيرية ضد اليهود، فوقع عدد من المذابح المؤلمة، أدانتها سلطات الكنيسة في روما وهاجمتها بشكل علني.
وفي القرن السابع عشر، بعد إعادة تنظيم رجال المصارف العالميين، عاد عملاؤهم وتسربوا إلي إدارة الخزينة الأسبانية، وكان لهؤلاء نشاط واسع إبان الثورتين الفرنسية والإنكليزية.. وبذلك حاولوا جهدهم إضعاف الاقتصاد الإسباني وتهيئة البلاد للحركات الثورية.
وقد يكون من المهم جدا أن نتعرف علي خيوط المؤامرة السياسية التي حيكت بين عام 1839 وعام 1939، لنكوّن صورة واضحة عن أسلوب العمل الثوريّ، وهو يتألف من ثلاث مراحل لا بد منها:
1- تغلغل أفراد الحزب الثوري في المناصب الحكومية, وفي مراكز الخدمات العامة والقوات المسلحة والتنظيمات العمالية، بغية الاستعداد لتحطيم الحكومة من الداخل عندما يسمح الوقت بذلك وتصدر الأوامر.
2- ربط الحزب الثوري بالحزب الاشتراكي أو الحزب اليساري، بغية الإطاحة بالحكومة، سواء أكانت ملكية أو جمهورية.
3- القيام بنشاطات تخريبية بغية اختلاق الفوضى، لزعزعة الرأي العام في حكومة الجبهة الشعبية المؤتلفة كما يسمونها عادة، فيكون الفشل حليفها، مما يمهد الطريق لقيام ديكتاتورية البروليتاريا، التي ما إن تظهر للوجود حتى تبدأ عمليات التطهير، وتظهر بعدها الديكتاتورية التوتاليتارية.. وهذا ما حدث بالفعل في روسيا عام 1917.
وسنري الآن كيف نفذت هذه المراحل الثلاث في أسبانيا، البلد الذي كان هدف لينين، ثم ستالين من بعده.
***
جري أول إضراب عامّ نظمه عملاء كارل ماركس في أسبانيا عام 1865.. وفي عام 1868 أرسل زعماء الحركة الثورية العالمية السنيور فانيلي إلي أسبانيا، ليقوم بتوحيد نشاطات الفوضويين مع الثوريين الماركسيين.. وكان السنيور فانيلي صديقا حميما لباخونين، الذي كان بدوره علي علاقة وثيقة بماركس وانجلز.. ولكن باخونين لم يبق علي صلات وثيقة مع ماركس، لأنه عارض سياسته عام 1870، فطرد من الأممية الأولي (المؤتمر الأول) لقادة الحركة الثورية العالمية.
تابع كل من باخونين وفانيلي نشاطهما كل علي حِدَة، فتمكن باخونين من التأثير علي القادة الثوريين الأسبان وإنشاء التحالف الاشتراكي الديمقراطي عام 1872.. وقد أصدرت الحكومة قرارا بمنع هذا التنظيم، ولكنه بقي يعمل سرا.
وفي نفس الوقت كان "محفل الشرق الأكبر" قد أنشأ تنظيمات قوية في داخل أسبانيا.
وفي المؤتمر العام الذي عقد في زارغوزا، وافق الجناح الأسباني للماركسية الدولية، علي التحالف مع حركة الرفض الفوضوية.. وبعد هذا التحالف ركز الفريقان جهدها علي توحيد جميع الفئات العمالية، وإنشاء تحالف واسع سمي بالكامورا.. وفي عام 1873، توّج هذا التحالف الواسع نشاطه بقيام الثورة وإنشاء الجمهورية الأسبانية الأولي.
وكالمعتاد، رافق هذا النشاط الثوري قيام عهد من الإرهاب وانتشار الفوضى بشكل مريع.. وقد حملت هذه الأعمال الفوضوية الجنرال بافيا علي القيام بحركته الانقلابية.. وعندها عاد العمل الثوري إلي السرية مرة أخرى، ولكنها لم تدم طويلا، إذ سرعان ما ساند أعضاء الحركة الثورية قادة الحركة التحررية المعتدلة، وعادوا مرة أخري إلي الظهور علي مسرح السياسة.. عندها قاموا بتغذية النزاع القائم بين الموالين لأحفاد الملك دون كارولز، وبين الموالين لأحفاد ايزبيلا.. وقد انتهي هذا النزاع بانهزام الموالين لأحفاد كارولز عام 1876.
في هذا الوقت كانت الحركات العمالية في أوجها، وأغلبها يعمل بهدف نبيل غايته تحقيق العدالة للعمال.. وكان معظم العمال يرفضون السياسة المتطرفة لحركة الرفض اليسارية، ولذلك نظموا أنفسهم في "اتحاد العمال".. ولكنّ القادة المعتدلين لهذا الاتحاد سرعان ما وجدوا أنفسهم خارجه، بعد أن تسرّب الثوريّون المتطرفون إلي داخل الاتحاد، وبدأ وعمليات التصفية من الداخل.. وبقيت أعمال التصفية مستمرة حتى عام 1888، عندما أعلن بابلو اغليسياس إنشاء "الاتحاد العام للعمال"، ليضم أكبر عدد من المعتدلين.. وكان هذا الاتحاد العام يعرف في أسبانيا بــ U. G. T.. وقد بقي دون دعم الحكومة حتى أعلنت الحكومة الاتحاد الأيبري، الذي كان يضم جميع المتطرفين والمنضمين إلي حركات الرفض الفوضوية.
ثم في سنة 1910 شكلت الاتحادات العمالية المتطرفة اتحادا نقابيا عاما، عرف في أسبانيا بـ C. N. T.. وبقي هذا الاتحاد النقابي العام يعمل هو والعديد من النقابات الأخرى حتى عام 1913، عندما تمّ تعليق هذه النقابات بسبب الإضرابات المتكررة.. وكانت الحكومة توافق وتتعاون مع الحركات العمالية وتؤيد المطالب الجماعية، ولكن المتطرفين كانوا قد بدأوا يستغلون هذه النقابات لغاياتهم الخاصة وينفذون مآربهم.. فحلت الحكومة جميع النقابات، ووجد العمال أنفسهم من جديد بدون حماية.
وعاد الثوريون المتطرفون ليستغلوا هذا الوضع الجديد للعمال، ليوجهوا أعمالهم بشكل أعنف من السابق وأشد خطورة.. فبدأوا يزيدون نشاطاتهم ضد جميع الأحزاب السياسية وضد الدولة نفسها.. وفي عام 1916 أعيد تنظيم الاتحاد النقابيّ المتطرف المعروف باسم G. R. T، وظهر علي المسرح اسم زعيمين هما: بيستاتا وسيغوي، اللذين تمكنا من توحيد العمل النقابي في مدينة برشلونة.
ومما ساعد علي إنجاح التنظيمات النقابية المتطرفة، هو الإجحاف الذي لحق بالعمال إبان الحرب العالمية الأول وما بعدها.. فقد كانت أسبانيا قد كسبت أموالا طائلة أيام الحرب لأنها كانت دول حيادية، ولكن العمال بشكل عام لم يشاركوا في الازدهار الواسع الذي عم البلاد، فتدفقوا علي التنظيمات المتطرفة يسعون إلي تحقيق مكاسبهم ورفع الظلم عنهم.. وفي نفس الوقت ثابر بعض القادة المعتدلون علي نشاطهم، وتوصلوا إلي إنشاء الاتحاد النقابي الحر عام 1920.
وفي الفترة التي تلت ذلك العام واستمرت حتى عام 1923، اشتد النزاع بين الحركات النقابية اليسارية من جهة أخري.. وعمت البلاد إضرابات محلية وعامة وأعمال عنف واغتيالات واسعة للقادة العماليين، بهدف إضعاف الفرقاء لأعدائهم.. وقد ارتكبت كل هذه الجرائم باسم "الحرية"، حتى وصلت الحالة إلي فوضي تامة.. عندئذ طلب الملك الأسباني من الجنرال بريمودي ربفيرا ضبط الأمن في البلاد، ومنحه مطلق الصلاحيات العسكرية ليمنع الشيوعيين من القيام بثورة أخري.
كانت أول نتيجة للحكم الديكتاتوري الذي تزعمه دي ريفيرا أن أنهي الحرب مع المغرب نهاية ناجحة.. وكانت شخصية الجنرال فرانكو قد تبلورت من خلال هذه الحرب، وأخذت شعبيته تزداد وتنتشر.. وقد استطاع بعدله وحزمة أن يكسب ود الشعب المغربي وصداقته وإعجابه (!!!!!!!).. وبالرغم مما قيل عن دي ريفيرا، إلا إنه من المعدل أن نقول إنه تمكّن من إعادة النظام إلي البلاد، وقام بتحسين أحوال العمال بعد أن تعاون مع اباليرو، كما قام بإصلاحات اجتماعية عديدة.. ولكن هذا النشاط الواسع أضعف الجنرال دي ريفيرا وتدهورت صحته عام 1929.. وهذا علي الأرجح ما يفسر الأخطاء في تقدير الأشخاص التي ارتكبها عام 1930.. فقد اختار في ذلك العام اثنين من زعماء الحركة الاشتراكية وهما بستيرو وسابوري. وكأنه قد شعر بثقل المسؤولية علي كاهله فأراد أن يرفعها عنه، فطلب منهما أن يعيدا تنظيم الجهاز الانتخابي للأمة، لكي يستطيع الشعب تقرير مصيره والاختيار بين الملكية أو الجمهورية.. ولم يُعرف السبب الكامن وراء اختيار هذين الرجلين وسيبقي هذا الحدث بدون تفسير.. وقد قام بيسترو وسابوريت بما يجب علي قائدين ثوريين أن يقوما به، فطوقا الجهاز الانتخابي وأعدّاه ليكون انتخاب حكومة اشتراكية أمرا حتميا.. وانتشر التزوير في الانتخابات، ليقترع في مدريد وحدها 40.000 من المتوفين ومن الناخبين المزورين.
وكانت محافل الشرق الأكبر في أسبانيا قد نظمت اتحادا خاصا سمته "الاتحاد العسكري الأخوي"، ويهدف إلي الإطاحة بالنظام الملكي.. وقد استطاع أن يحصل علي وعد 21 من أصل 23 جنرالا أسبانيا، بأن يساعدوه علي إقامة الحكم الجمهوري.. وقد ذكر هذه المعلومات الجنرال مولا، قائد قوى الأمن الداخلي في أسبانيا، وذلك في كتابه: “Tempestad Calma Intriga Y Crisis"، حيث يخبرنا فيه أن المحافل وضعت تحت تصرف الجنرالات عند انتمائهم لها، مبلغ مليون ونصف بيزفيتا، وذلك لمساعدتهم علي الهرب في حال فشل الحركة الجمهورية.. وكان فرانكو أحد الجنرالين الذين لم ينضما إلي "الاتحاد العسكري الأخوي".. ويؤكد كلام الجنرال مولا، جنرال آخر كان من بين الذين انضموا إلى "الاتحاد العسكري الأخوي" وهو الجنرال كانوا لوبيز، حيث قال في حديث له في البرلمان الإسباني (الكورتس): "لقد جمعت الماسونية منذ عام 1925 غالبية كبار ضباط الجيش، وذلك تحت شعار الاتحاد العسكري الأخوي".
ومن بين الذين دخلوا كأعضاء في هذا الاتحاد، كابانيلاس وسانجورجو وغويد ومولا ولوبيز وأوشاو كويبو دي لانا وغيرهم.
ويضيف لوبيز قائلا: "وقد صدرت الأوامر مرتين لهؤلاء الجنرالات، مرة عام 1929 للإطاحة بالديكتاتورية التي تزعمها دي ريفيرا، ومرة للإطاحة بالملكية عام 1931.. وقد نفذ الجنرالات هذه الأوامر كما جاءت".
ويخبرنا الجنرال مولا كيف حنث هو وغالبية الجنرالات بوعدهم للمحافل، وذلك عندما شعروا أنهم قد استغلوا بكل بساطة لتنفيذ المخططات السرية، التي أعدها ستالين ليحول أسبانيا إلي ديكتاتورية شيوعية أخري.
وقد نشرت المجلة الفرنسية في تقرير لها عام 1932، أن ستالين وعد بمبلغ مئتي ألف دولار، كإسهام منه في تمويل مراكز التدريب الثوري في أسبانيا.. كما تبين الكشوفات المقدمة للمؤتمر الشيوعي الدولي عام 1931، أن القادة الثوريين تسلموا مبلغ مئتين وأربعين ألف جنيه ـ بالعملة الإنكليزية ـ كما كان تحت تصرفهم مبلغ مليونين ونصف بيزيتا لشراء الأسلحة والذخائر.. ويقول الجنرال مولا إنه وصل أسبانيا عام 1938 قادما من روسيا، مئتا قائد ثوري كانوا قد تدربوا في مؤسسة لينين في موسكو.
***
ومنذ عام 1930 وحتى تاريخ بدء العمليات الانتخابية، كانت قد بدأت حملة التشهير ضد ملك أسبانيا وعائلته الملكية.. ومن بين الأكاذيب السخيفة، الزعم أنه كان يسفك دم جندي أسباني كل يوم، وذلك لإبقاء أمير استوريا علي قيد الحياة، وهو المعروف بأنه يعاني من النزيف الدموي.. واتُهم الملك بالفجور ـ تماما كما اتهمت إمبراطورية روسيا زورا بأنها كانت عشيقة لراسبوتين.
وبعد أن انتهت عمليات التزوير وأفرغت من صناديق الاقتراع أصوات الريفيين المؤيدين للملكية.. وبعد أن أعلنت نتائج الانتخابات لصالح حكومة جمهورية، أصدر الملك ألفونسو الثالث عشر بيانه الأخير إلي الشعب، الذي قال فيه: "لقد برهنت الانتخابات التي جرت يوم الأحد أنني لم أعد أحظى بمحبة وتقدير شعبي.. ولكنني مازلت مقتنعا أن هذه الأحوال ستتغير، لأني كنت دائما أجاهد في سبيل أسبانيا وأضحي مخلصا من أجلها.. قد يرتكب الملك بعض الأخطاء، وبدون شك لقد ارتكبت بعضها، لكنّ شعبي كان دائما صفوحا عن أخطاء الآخرين بدون أي حقد أو ضغينة.. لقد كان بإمكاني، وأنا الأسباني والملك علي جميع الأسبان، أن أستعمل جميع صلاحياتي للحفاظ علي حقوقي الملكية بوجه من يظهر أية مقاومة.. لكنني آثرت أن اتنحّى، خوفا من أن تنقسم البلاد فيقاتل الأسباني أخاه في حرب أهلية.. وأنا إذ أغادر البلاد، أصر علي أنني ما أزال مؤمنا بالحق الذي جاءني عبر التاريخ، والذي سأسال عنه يوميا من الأيام.. كما وأني إذ أتخلى عن جميع صلاحياتي الحالية في ممارسة الحكم ـ وفي قناعتي بأن هذا سيكون لصالح البلاد وليكون الشعب كله مسئولا عن نفسه ـ أضرع إلي الله أن يقوم كل أسباني بواجبه الذي يميله عليه حبه لأسبانيا، بنفس القدر الذي كنت أقوم به".
***
حتى ذلك الحين، كان المتآمرون قد نفذوا الخطوة الأولى، وبدءوا يعدون للخطوة التالية.. ولم يكن جميع أفراد الحكومة الجديدة من عملاء المرابين، بل كان بينهم أعداد كبيرة من المخلصين، ولكنهم كانوا جميعا بدون سلطة وبدون صلاحيات.. أما السلطة الحقيقية فقد كانت بأيدي العملاء الشيوعيين والفوضويين، الذين بدءوا يُعدون للمرحلة الثانية، وهي إنشاء ديكتاتورية البروليتاريا.. وابتغوا لتحقيق هذا الغرض طريقة اللعب علي الحبلين، فأوحت بعض الخلايا الشيوعية إلي الحكومة بارتكاب بعض الأخطاء، بينما راحت خلايا أخرى خارج الحكومة تشنّ هجوما علي الحكومة لارتكابها هذه الأخطاء، وتنعتها بالسذاجة والفساد.. وهنا بدأ عملاء موسكو بتنفيذ جميع أنواع الجرائم، لدفع الناس إلي القبول ـ بل حتى المطالبة ـ بديكتاتورية البروليتريا للحفاظ علي البلاد وعلي أمنها الداخلي.
وكان الجنرال دي ريفيرا قد استخدم لارغو كابا ليرو ومجموعته، في تخفيف حده النزاع القائم بين العمال وأرباب العمل.. ولكن ما إن ظهرت الحكومة العمالية إلي الوجود، حتى كشف كابا ليرو عن حقيقته، وأعلن بصراحة عام 1935 أنه تمكن من إنشاء "عشرات الآلاف من الخلايا الشيوعية في جميع أنحاء أسبانيا".. وهذا يفسر الاستقبال والتصفيق الحار الذي قوبل به الوفد الأسباني في المؤتمر العام الحادي عشر للجنة التنفيذية للأممية الشيوعية، وامتداح الوفد لأن "الإعدادات للثورة تجري بشكل سريع ومناسب تماما للخطة الثورية في أسبانيا".. وفي المؤتمر الثاني عشر للأممية الشيوعية وجهت كلمات الثناء التالية للوفد الأسباني: "لقد لا حظنا في أسبانيا بالذات، قيام أعمال ثورية وإضرابات متكررة علي مدي شهور عديدة، بشكل لم يشهده هذا البلد من قبل.. وليس هذا الصراع العمالي إلا الخطوة الأساسية لقيام الثورة الأسبانية".
***
ما حدث بعد ذلك في أسبانيا يكشف الكثير من وجوه المؤامرة، وخصوصا ما حدث ضمن التنظيم الشيوعي نفسه.. وكما يقول المثل القديم "عندما يختلف اللصوص تظهر الحقيقة"، فإن هذا ما حدث بالفعل في أسبانيا.. فقد كان الزعماء الثلاثة للحركة الشيوعية مورين وسيرجس ونين، قد أتموا دراستهم الثورية في مؤسسة لينين في موسكو، وعادوا لقيادة الحركة الثورية.
وبعد سنوات من الحياة الصاخبة والمليئة بالنشاط الثوري، جلس مورين ليكتب عام 1926 كتابة Hacia la Segunda Revolution، الذي أظهر فيه معارضته لستالين لأنه قد انحرف عن العقائدية الماركسية.. واتهم مورين ستالين بأنه يستخدم القوي الشيوعية لتحقيق مآربه الخاصة في الحكم الديكتاتوري الاستعماري.
وهكذا بدأ الصراع بين ستالين وبين الشباب الثلاثة مورين وسيرجس ونين.. وأثبت هؤلاء عن مهارتهم في تجميع العمال والسيطرة عليهم، فقرر ستالين التخلص منهم يعد أن قاموا بما عليهم حتى بداية الحرب الأهلية.. وكان أمر ستالين بتصفيتهم قد حدد بأن "يظهر موتهم للشعب وكأنه استشهاد بطولي في سبيل الشيوعية"، فأرشد الشيوعيون فرانكو علي مكان مورين، فأعدم بعد أن حوكم.. أما سيرجس فتقول التقارير إنه مات بأيدي الشيوعيين أنفسهم.. وقتل نين في ظروف غامضة.. وبعدها أعلن للملأ أن موت هؤلاء لم يتم إلا علي يد أعداء الشيوعية.
ولكن هذا الصراع لم يمرّ هكذا بدون نتائج أو فضائح.. فلقد أخذ الشيوعيون يفضحون بعضهم البعض ويبينون الحقيقة الخفية لوجودهم.. ومن بين هذه الفضائح ما كتبه سيرجس، حيث يقول: "لقد تم تطور الشيوعية عام 1936 من الثورية الأممية إلي القومية، بشكل قوة عسكرية ضخمة يقوم علي خدمتها أحزاب عديدة في دول مختلفة، وتقوم هذه الدولة القوية بتمويل هذه الأحزاب.. فبعد عام 1936 شكل الستالينيون الحزب الإسباني الاشتراكي الموحد، الذي رعاه المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية.. وكان الهدف من ذلك إنشاء قوة جديدة ذات طبيعة فاشية، تتمكن من تطويق فرنسا، الحليف المحتمل لروسيا في الحرب التي يجري إعدادها".
ويقول مورين أيضا "جرت السياسة الإنكليزية منذ القديم علي تدمير أعدائها، حتى تفرض نفسها لحمايتهم، وحتى تجعل نهوضهم من جديدا أمرا مستحيلا.. ونحن نعرف أن أسبانيا هي ضحية إنكلترا في المقام الأول، وضحية فرنسا في المقام الثاني.. وإذا مالت أسبانيا نحو إنكلترا زادت فرنسا في اضطهادها.. وما دامت فرنسا وإنكلترا كلتاهما من الدول الرأسمالية، فلن يكونا الحليف الطبيعي لأسبانيا.. لذلك كان الخط المنطقي لأسبانيا هو أن تنحاز إلي البرتغال وألمانيا وإيطاليا وروسيا، لأن مثل هذا التكتل سيجعل من فرنسا وإنكلترا بلدين محايدين بالنسبة لها".
ويشرح لنا سيرجس، كيف أن التجمع اليساري في أسبانيا تمكن من نشر دعايته بشكل واسع في الصحافة العالمية، في حين أن فرانكو لم يكن ليحظى إلا بالنذر السير من اهتمام الصحف.. وقد كتب سيرجس يقول: "لم يعرف التاريخ من قبل، طرقا وأساليب دنيئة ومنحطة، كالتي استعملها ستالين من وراء المؤتمر الأممي الثالث للشيوعية.. فقد وجه ستالين وأعوانه الدعاية الكاذبة، بشكل متواصل وبدون أي مراعاة للحقيقة والصدق.. واستعملوا أسلوب التكرار والسخرية حتى أصبح هذا الأسلوب ميكانيكا بالنسبة لهم.. ولم يستعمل هذا الأسلوب علي النطاق المحليّ، بل تمكنت البيروقراطية السوفياتية من توسيعه إلي نطاق دولي.. فما إن تطلق "الازفستيا" أكذوبة في فلنتيا، حتى تتناقلها مباشرة الصحف في باريس وستوكهولهم ووارسلو وبروكسل ولندن ونيويورك ومالبورن وبيونس آيريس.. وهكذا يتم توزيع الملايين من النسخ التي تحمل الأكاذيب المضللة.. ولا يبقي أمام المثقفين ثقافة واسعة، الذين يعادون الفاشية، إلا تصديق الصحافة لأنها الوسيلة الأولي لاستقاء المعلومات.. ومن هنا يشعر المرء بأن العالم اليوم يعاني من عملية ضخمة للتضليل الأخلاقي.. وهذا ما يجعلني أقر ـ وأنا أشعر بالأسى ـ بصدق كلمات تروتسكي، عندما اعتبر دعاية الكومنترن الستاليني "زهري" الحركة العمالية".
وهكذا يصبح الكلام الذي جاء علي لسان سيرجس ومورين بعد أن انشقا عن موسكو، مطابقا تماما لما جاء في المنشور البابوي الذي أمر بتوزيعه البابا بيوس الحادي عشر في آذار عام 1937، وجاء في أحد أقسامه: "وهناك تفسير آخر لهذا الانتشار الواسع للأفكار الشيوعية.. إنها الدعاية الشيطانية بحق، التي لم يشهد لها العالم مثيلا.. فهي تدار من مركز رئيسي واحد، وتوزع علي مختلف مناطق العالم، بشكل يناسب جميع الناس.. كما تسيطر علي مصادر مالية ضخمة جدا تبقى دائما تحت تصرفها، وتُمكّنها من السيطرة علي العديد من المنظمات والمؤتمرات الدولية، وعلي أعداد ضخمة من العمال.. وتستغل هذه الدعاية الصحف والمجلات والسينما والمسرح والإذاعة والمدارس وحتى الجامعات.. وشيئا فشيئا تتمكن من الدخول إلي عقول الناس من مختلف الطبقات أو الفئات.. وهناك عنصر آخر يسهل انتشار الشيوعية، هو الإسكات أو التضييق علي قطاع كبير من الصحافة العالمية.. ونحن نقول تضييق، لأنه التفسير الوحيد لسكوت الصحافة أو بقائها بعيدة عن جو الإرهاب الذي عم روسيا والمكسيك وحتى جزءا كبيرا من أسبانيا.. وكيف تسكت الصحافة وهي التي تبحث دائما بنهم عن الأخبار لتملأ بها صفحاتها، ولا تتغاضى عن أي خبر صغير أو كبير، فما بالك بتنظيم عالمي كالشيوعية الروسية. إن هذا السكوت يعود من جهة إلي قصر النظر للأبعاد السياسية، ومن جهة أخري لوجود القوي الشريرة العديدة التي مازالت تعمل منذ وقت طويل علي تحطيم المجتمع.. وها نحن نري النتائج المؤسفة لهذه الدعاية أمام أعيننا.. انتشار واسع للشيوعية، وتفاخر أبطالها الصريح بتحطيم الثقافة المسيحية واقتلاع كل ذكري لها من قلوب الناس، وخصوصا من قلوب الشباب.. وفي أسبانيا دمروا كل ما استطاعوا تدميره من الكنائس والأديرة، وأزالوا كل ما استطاعوا إزالته من مظاهر الدين المسيحيّ.. ولم تكتفِ نظريتهم نفسها بذبح المطارنة وآلاف الرهبان ورجال الدين من الجنسين، بل تعدتهم إلي أولئك الذين نذروا أنفسهم لخدمة العمال والفقراء، فكانت الأكثرية الساحقة من ضحاياهم من بين عامة الشعب ومن جميع الطبقات.. وقد ماتوا جميعا بحقد وحشي بربري لا يمكن أن تصدق أنه يقع في هذا العصر.. ولا يستطيع أي رجل عاقل أو سياسي مسئول، أن ينكر أن ما يحدث في أسبانيا يمكن أن يحدث غدا في أي بلد متمدن آخر.. هذا ما يحدث إذا حذفنا فكرة الله من قلوب البشر، لأنه عندها لا يمكن أن يمنعهم أي شيء عن ارتكاب أبشع الجرائم البربرية".
الحرب الأهلية في أسبانيا:
يقول الجنرال مولا Mola: "بعد انتخاب الحكومة الاشتراكية في إسبانيا ورحيل الملك عن البلاد، حدث انجراف واسع النطاق نحو الانضمام إلي محافل الشرق الأكبر الماسونية.. وقد فكر المسئولون والرسميون أنهم بطلبهم الدخول إلي هذه المحافل، سيكونون بمأمن من الظلم الذي كانت تمارسه الأكثرية الماسونية في الحكومة، وأنهم بهذا يبرهنون عن إيمانهم بالحكم الجمهوري، وبذلك ينجون من خراب محتم".
***
كتب تشرشل: "لقد ساعد الشيوعيون في إقامة الحكم الجمهوري، ليتمكنوا مرة أخري من خلق الفوضى الاقتصادية والسياسية، حتى يتوصلوا إلي جعل القادة يعلنون بالمنطق إلي شعبهم الذي عمته الفوضى، أن الطريق الوحيد لاستعادة النظام والقانون ولإنقاذ الموقف، لا يكون إلا بديكتاتورية البروليناريا".
وهكذا كانت الخطوة المنطقية بعد الإطاحة بالملكية، هي مهاجمة الدين الذي يؤمن به الشعب، فادخلوا العلمانية إلي المدارس، وقاموا بحملة واسعة ضد السلطة الأبوية والسلطة الكنسية.. وبعد خلق الآلاف من اللادينيين ومن البلاشقة الشبان المعادين للقيم الاجتماعية، لم يعد عليهم إلا الانتظار حتى تسنح الفرصة المناسبة، لدفع هذه الجماهير كي تستعمل القوة ضد القانون والنظام.
وفي اجتماع عقد في نادي اتينيو في مدريد، لدراسة البرنامج السياسي المقبل، تم الاتفاق علي النقاط الثماني التالية:
1- خلق ديكتاتورية جمهورية.
2- معاقبة كل مسئول عن عمل غير شرعي في ظل هذه الديكتاتورية فورا.
3- تسريح الحرس الأهليّ والجيش والبوليس، واستبداله الجيش الجمهوريّ به، والذي تم اختياره من الطبقات العمالية ومن أعضاء النوادي الجمهورية.
4- مصادرة ممتلكات الهيئات الدينية.
5- تأميم الأراضي. (لاحظ أنّ مصادرة الممتلكات والأراضي، تضمن تدمير كل السلطات والقوى القديمة في المجتمع ـ خاصة مع تدمير سلطة الدين ـ لضمان سيطرة هؤلاء الطغاة على المجتمع.. وهذا هو نفس ما فعلته الثورات الشيوعية والاشتراكية في مصر والوطن العربي.. وطبعا وزعوا الأراضي على الفقراء وزجوا بالملايين في تعليم عقيم وقطاع عام خرب اقتصادنا، فقط لرشوة كلّ هؤلاء وشراء ولائهم!!.. والنتيجة هي الواقع المريض الذي نعيشه اليوم!!))
6- القضاء علي وكالات الصحافة المعادية للنظام الجمهوري الديكتاتوري.
7- استغلال المدارس التكنيكية للخدمة العامة مع بعض الأبنية الأخرى.
8- تأجيل انعقاد المجلس التشريعيّ لإسبانيا والبرتغال، حتى يتم تنفيذ هذا البرنامج.
وكان من أبرز القادة السياسيين في ذلك الوقت أزانا Azana ذو الفكر التحرري، وبريتو Prieto الاشتراكي، وكابا ليروCaballero الشيوعي.. وقد تظاهر أزانا بأنه لا يؤيد هذه الاقتراحات المتطرفة وسخر منها، مع أنه بالفعل كان يؤيدها سرا، لأنه ما إن تم انتخابه حتى قام بتنفيذها فورا.
وبعد الاتفاق هلي هذه النقاط الثماني، تم انتخاب المجلس التشريعي التأسيسي.. وتحت شعار "القانون هو الذي يعمل علي الدفاع عن الشعب"، تم إنشاء ديكتاتورية عديمة الشفقة لم يكن فيها من مظاهر الديمقراطية إلا اسمها، وهو "الجمهورية العمالية".. ثم قام ثوري مدرب يدعي جيمينزا أسوا Jiminez Asua بوضع مسودة الدستور.. أما أزانا فقد وجه اهتمامه الأكبر نحو القضاء علي الكنيسة والتخلص من رجال الدين.. وفي كانون الأول 1932 أسس "الرابطة الإلحادية"، وقام بتمويل مجلتها "سن ديوس" Sin Dios (المنكرون للألوهية) من أموال الشعب.. وقد تم الوصول إلي هذه الأهداف جميعا تحت اسم الديمقراطية!!.. وأعلن للشعب عن طريق القادة أنهم الآن قد حرروا من سيطرة الكنيسة ورجال الدين، الذين تحالفوا مع الإقطاعيين من الملوك المستبدين.. ثم جاء الدور التالي من المخطط، وهو خلق جو من الفوضى والشغب، فبدأ النشاط الثوري في كتالونيا Catatonia.. واستطاع الجنرال بريمو أن يحيطه أول الأمر، لكن النشاط الثوري عاد للظهور من جديد.. وفي كانون الثاني 1933 كتب مراسل "المورننغ بوست" اللندنية أن "مخازن ضخمة للقنابل والبنادق والذخيرة قد تم العثور عليها في جميع أنحاء أسبانيا.. كما أن البوليس تمكّن من التأكد من أن مبالغ ضخمة من المال قد صرفت لإشعال الثورة.. وقد تبين عند تفتيش الذين قبض عليهم أنهم يحملون مبالغ ضخمة من المال".
وبعد ثورة كاتاونيا، قامت الثورة في استروريا Astruria، عندما اتُهم بعض الضباط ببيع السلاح عام 1934.
عندئذ حاول فرانكو جاهدا أن يعيد تنظيم الجيش الأسباني، وأن يضع حدا للفوضى.. لكنه لم يَلقَ مساعدة كافية من السلطات الحكومية.. وهنا يمكننا أن نشير إلي التنظيم السري المحكم للحزب الشيوعي، إذا علمنا أن أكثر من ثلاثمئة كنيسة قد تم إحراقها في وقت واحد في مئة قرية ومدينة متباعدة.. كما انتشر الاغتيال بشكل واسع، حتى ظهر احتراف القتل بشكل واضح ورخيص، بحيث صار في الإمكان قتل أي عدو للثورة وتصفيته بدفع 50 بيزيتا (أكثر بقليل من نصف دولار أميركي).. وهكذا استعمل عملاء موسكو الظروف الفوضوية التي تعيشها أسبانيا، لينفذوا خطة لينين بشأن هذا البلد.. فالتعذيب وبتر الأعضاء والاغتصاب والإحراق وإراقة الدماء والقتل، كلها وسائل استعملتها الشيوعية للوصول إلي السلطة.
وهكذا تدهورت الأحوال في أسبانيا من سيئ إلي أسوأ، ولم تأتِ بداية عام 1936 حتى عمّ الاضطراب والهيجان البلاد بأسرها.. عندئذ حل الرئيس المجلس التشريعي التأسيسي "Cortes"، وعيّن السادس عشر من شباط موعدا لانتخابات عامة.. وحتى يحين موعد الانتخابات، قام جيل روبلز وكالفو سوتيلو بحملة معادية للشيوعية، بينما كانت الدعاية للبلاشقة تتم عن طريق نشرة تدعى "أصدقاء روسيا"..
في هذه الإثناء كان لارغو كاباليرو الشيوعي يقبع في السجن، إثر فشله في تنفيذ محاولة انقلابية.. وقد أجرى معه المستر إدوارد كنوبلر مقابلة نشرها بعنوان "مراسل في أسبانيا"، يقول فيها: "وسنحصل علي 265 مقعدا، فنغير النظام تغييرا شاملا.. ولن تمضي سنوات خمس إلا ونكون قد قمنا بالاستعدادات لتحقيق هدفنا النهائي، وهو اتحاد الجمهوريات الايبرية.. وهكذا ستعود شبة الجزيرة الايبرية لتكون بلدنا الأوحد.. ونحن نأمل أن تنضم البرتغال بالطرق السلمية، غير أننا قد تستعمل القوة إذا احتاج الأمر.. ويمكنك أن تري من خلال هذه القضبان حاكم أسبانيا القادم.. لقد أعلن لينين أن أسبانيا ستكون الدولة السوفياتية الثانية في أوروبا، وستتحقق نبوءته هذه، وسأكون أنا لينين الثاني الذي سيقوم بتحقيقها".
وبعد انتخابات متحيزة تماما، لم تشهد أسبانيا لها مثيلا في تاريخها، كتب الرئيس زامورا يقول: "وصلت الجبهة الشعبية إلي السلطة في 16 شباط، بفضل نظام انتخابي سيء جدا وغير عادل أبدا.. وبفضل هذا النظام توصلت الجبهة الشعبية لنيل أكثرية تقريبية، بينما هي في الحقيقة لا تشكل إلا أقلية بعيدة عن الفوز" (((لاحظ أنّ هذه دائما هي نتيجة أيّ انتخابات!! فهي لا يسيطر عليها إلا الأقوى سلطة ونفوذا ومالا وإعلاما!!!))).
علي أن النتائج لم تكن في صالح الجبهة في التصويت الأول، لأنها نالت 200 من أصل 465 صوتا.. وهذه النسبة لا تؤهلها لتشكيل حكومة، فكان لا بد لهم من أن يتحالفوا مع أقليات برلمانية، فتحالفوا مع الباسك وغيرهم، وشكلوا مجلسا يتولي إعادة الانتخابات في جميع المحافظات.. ولقد تأكدوا من نجاحهم هذه المرة، بعد أن تمكنوا من تشويه سمعة بعض المرشحين اليمينيين وتشكيك الناس بكفاءتهم.. وجاءت النتائج النهائية لينالوا 265 صوتا ـ تماما كما تنبأ كاباليرو!.. ومع هذا فقد جاء تقسيم الأصوات علي الشكل التالي:
أحزاب الوسط والأحزاب اليمينية 4.610.000 صوتا.
حزب الجبهة الشعبية 4.356.000 صوتا.
وبهذا تكون زيادة الوسط واليمين علي الجبهة 554.000 صوتا.
ويستطيع القارئ أن يري أن نجاح الجبهة الشعبية جاء بسبب توحيد القوي اليسارية بشكل واضح وعجيب، حتى إنها جمعت لواءها من الاشتراكي المعتدل حتى الشيوعي البلشفي.
وهكذا نري كيف أعد الشيوعيون الستالينيون الوضع العام في أسبانيا حتى وصلوا إلي هذه النتائج.. لقد جاء في السجلات الحكومية للفترة التي سبقت انتخابات شباط 1936 ما يلي: "منذ نهاية ديكتاتورية الرئيس دي رييرا عام 1931، قامت ثورة واحدة قتل فيها 2.500 شخص، و 7 انتفاضات و 9.000 إضراب، و 5 تأجيلات للميزانية، وزيادة بليوني بيزيتا علي المصارف الداخلية، وحُلت 1000 بلدية، وتوقفت 114 جريدة، وعاشت البلاد سنتين ونصف من الحكم العسكري".
أما في الأسابيع الستة التي تلت إنشاء حكومة الجبهة الشعبية برئاسة ازانا وكابا ليرو وبريتو، فقد حدثت الأمور التالية:
أولا: اغتيالات وسرقات: في مراكز القيادة السياسية 58 حادثا، في المؤسسات الخاصة 105 حوادث، في الكنائس 36 حادثا.
ثانيا: حرائق: في مراكز القيادة السياسية 12 حريقا، المؤسسات الخاصة 60، الكنائس 106.
ثالثا: أعمال شغب: إضرابات عامة 11، انتفاضات 169، قتلي 76، جرحي 364.
وجاء في حديث لكاباليرو في منطقة زاراغوزا: "يجب أن ندمر أسبانيا حتى تصبح لنا.. وفي يوم الانتقام لن نترك حجرا علي حجر".. وأعلن في مكان آخر: "قبيل الانتخابات كنا نسأل عما نريده، ولكن الآن وبعد الانتخابات سنأخذ ما نريد بأي وسيلة كانت.. ويجب علي اليمينيين أن لا يتوقعوا أي رحمة من العمال، لأننا لن نخلي سبيل أحد من أعدائنا".
وأعلن ازانا هو الآخر، وقد ظهرت السعادة عليه: "أن أسبانيا لم تعد بلدا كاثوليكيا أبدا".
وقد جاء في تقرير مراسل جريدة "التايمز" عن أوضاع برشلونة في شباط 1936 ما يلي: "أنذر أحد المجالس الحكومية عددا من الرسميين بضرورة التخلي عن مناصبهم في شباط، وقد نفذ الإنذار فورا".. وبعد شهر كتب يقول: "أصبح الآن هم جميع الشيوعيين أن يقيموا ديكتاتورية البروليتاريا".. ثم كتب بعد مدة أيضا: "بدأت الاشتراكية الأسبانية تسير بسرعة نحو الشيوعية.. ويلاقي ماركس ولينين تأييدا شديدا من قبل الشبان، الذين يعتبرون أنفسهم تلاميذ لهما.. ويعتقد هؤلاء الشباب أن الحصول علي السلطة هو المطلب الثوري للاشتراكية الأسبانية، وأن العنف والقسوة هما الوسيلة الناجحة للحصول علي هذه السلطات.. ويعتقدون أيضا أن الطريق الوحيد للمحافظة علي السلطة هو ديكتاتورية البروليتاريا.. وهكذا تنتشر تعاليم هذه المبادئ الهدامة بصورة واسعة".. وفي آذار 1936 كتب هذا المراسل أيضا يقول: "لقد أنشد النواب في البرلمان الإسباني نفسه، النشيد الوطني السوفيتي وهم يرفعون قبضات أيديهم مؤدين التحية الشيوعية".
والآن نسأل أنفسنا: لماذا تحوّل الشباب الإسباني بإعداد كبيرة إلي الشيوعية؟
تشير التحريات إلي أن أزانا ـ أحد قادة الثورة المذكورين سابقا ـ ظهر للشعب علي أنه صاحب أفكار تحررية، يؤمن بالاشتراكية ولا يعادي الدين.. وكان يحتج علي الإرهاب الذي يقوم به الهدامون والشيوعيون.. ولكن هذه الصورة تغيرت تماما عندما وصل إلي السلطة السياسية، حيث استعمل هذه السلطة للقضاء علي المجالس الدينية وعلي مدارسها، ثم عهد إلي فرانسيسكو فرار بتأسيس المدارس العلمانية.. وهكذا أصبح التلاميذ ينشدون الأناشيد العلمانية عند بدء دروسهم، بدل أن ينشدوا لله خالقهم وخالق الكون بأسره.. ومن هذه الأناشيد:
"نحن أبناء الثورة نحن أبناء الحرية.. بنا ظهر فجر جديـــد للإنسانية"
كما أنشدوا أيضا تراتيل أخرى في مدارس برشلونة منها:
"اقذف المتفجرة، ركز اللغم جيدا، تمسك بقوة المسدس، وأنشد كلمات الثورة.. قف مستعدا بسلاحك حتى الموت، ودمر بمسدسك وديناميتك الحكومة"!!
وهناك أناشيد أخري مماثلة، كانت تذاع بالإنكليزية من إذاعة موسكو، موجهة للشيوعيين الإنكليز بين عامي 1937 و 1938.. هذا وقد رفض ناشرو الصحف البريطانية والأمريكية أن ينشروا الحقيقة لأنها ظهرت غريبة لا تصدق.. ومع هذا فإن الحقيقة المرة جاءت في رسالة من فرانسيسكو فرار إلي أحد الرفاق، كتب فيها يقول: "وحتى لا نخيف الناس ونعطي مبررا لإغلاق مؤسساتنا، كنا نسميها المدارس الحديثة وليس مدارس لتعليم مبادئ الرفض والتغيير.. ومع أنني أرغب بإقامة الثورة، إلا أنني كنت أكتفي في ذلك الوقت بزرع الأفكار الثورية في عقول الشباب، بحيث يصبح عندهم الاعتقاد الجازم بضرورة استعمال العنف ضد البوليس ورجال الدين، وبحيث تصبح وسائلهم الوحيدة هي القنابل والسموم".
وقد استعملت هذه الرسالة كدليل ضد فرار، عندما ألقت عليه القبض قوات فرانكو خلال الحرب الأهلية.. ولما حكم علي فرار بالإعدام بتهمة الخيانة، ثارت ثائرة محفل الشرق الأكبر في باريس، واحتج لدي جميع المحافل في العالم، مدعيا أن فرار هذا قتل لنشاطاته المعادية للكاثوليكية.
ويكفينا أن ننقل قول لينين: "إن أفضل الثوريين هو شاب متحرر من المبادئ الأخلاقية".. ونحن نعلم أن كلمات لينين هي بمثابة قانون بالنسبة للشيوعيين، لذلك عمل جميع أفرادهم علي خلق جيل من الشباب من الجنسين، لا يؤمن بالقيم الاجتماعية والخلقية.
تشمل الخطوات الأولي لبرنامج تربية الشباب الثوري تفكيك روابط الأسرة، وإثارة الأولاد علي سلطة آبائهم حتى قبل بلوغهم سن الرشد.. ولقد أدخل هؤلاء المخربين في روع الأطفال أن آباءهم هم جيل رجعيّ متأخر، وأنهم يربون أولادهم علي الكذب والأساطير، كما هي الحال في قصة بابا نويل والمكان الذي يخرج منه المولود!
وعلّل المخربون هذا التأخر عند الآباء، بأنه نتيجة للاستغلال الرأسمالي، وأن الجيل القديم هو ضحية التعاليم الرجعية.. ومن هنا كان علي الولد أن يعلّم والدية الأفكار التقدمية الحديثة، وألا يسمح لهما أبدا بالسيطرة عليه وتوجيهه كما يشاءان.. وكان الهدف من هذه الحملة الهدامة هو تقويض قدسية ووحدة الحياة العائلية.
وتأتي الخطوة التالية وهي: إزالة احترام رجال الدين من نفوس الأطفال.. وحتى يتوصلوا إلي ذلك صوروا رجال الدين وكأنهم الفئة الأقل ذكاء والأضعف بنية في المجتمع، وأنهم في الحقيقة خدام للطبقات الحاكمة.. وتعلّم الأولاد قول ماركس المعروف: "الدين أفيون الشعوب، لأنه يعلم الخنوع والقبول بالفقر والمرض والعمل المرهق، بهدف إصلاح الروح".. وهكذا صار الرهبان بالنسبة للأطفال "ذئابا في ثياب حملان" و "غربانا" تأكل من جهل وسذاجة العامة من الشعب.. وإذا حدث أن تورط أحد الرهبان في فضيحة، استعملت جميع وسائل الدعاية للنيل من الدين ككل.
حتى إذا اتضحت هذه الصورة البشعة لرجال الدين عند الشباب، بدأ الهجوم الفعليّ علي الدين، وانطلقت عمليات السخرية من الدين بشكل مقرف للغاية.. فصوروا المسيح علي أنه ابن غير شرعي لمريم، تلك الشابة اليهودية التي خدعت يوسف وأوهمته أن ابنها هو هدية الروح القدس.. ووصفوا المسيح بأنّه مخادع يخفي الضعف في شخصيته بالسحر والشعوذة التي يسميها معجزات.. وقالوا إن التلاميذ الاثنى عشر للمسيح هم أعوانه الشريرون!!.. ولم يقفوا عند هذا الحد، بل اتخذوا من أحب الحكايات عن المسيح ـ وهي أنه كان صانع أحذية في سن مبكرة جدا ـ ليستعملوها بمعني آخر، وهو انه كان يستعمل السحر لبيع الخمور في حفلات الزفاف.. واتهموا المسيح أيضا وجميع أتباعه من الكاثوليك بأنهم من آكلي لحوم البشر، واعتمدوا في ذلك علي النص التوراتي الذي عاتب فيه المسيح أتباعه على أنهم إذا لم يأكلوا من لحمه ويشربوا من دمه فإنهم لن يحظوا بالخلود!!
وكان يجري تدريب المراهقين عن طريق المرافقة والمصاحبة، فيصاحب أحد المدربين مراهقا يعلمه التحرر، الذي يتحول فيما بعد إلي تحلل من جميع القيم، وانفلات كامل من جميع القوانين.. ويتعلم المراهقون أن الخطيئة الوحيدة هي في عدم طاعة قادتهم، وأن هناك جريمتين فقط يمكن أن يرتكبهما الفرد: إهمال الواجب، وخيانة أسرار الحزب.
بعد كل هذه الخطوات يأتي دور الاحتكاك الفعلي مع البوليس.. وحتى يعتاد الشباب المدربون حديثا علي هذه الأعمال، يدخلونهم في مجموعات أو عصابات يقودها قادة شيوعيون.. ويدرب هؤلاء القادة الشباب علي الأعمال المخلة بالنظام والقانون، ويرغمونهم علي الاقتتال حتى يتعرفوا علي مقدارتهم الجسدية.. ثم يدفعونهم إلي ارتكاب جرائم صغيرة تكون الخطوة الأولي إلي جرائم أخرى، وبعدها يسمحون لهم بالتعرف أكثر فأكثر علي التنظيم السري للشيوعية.
ويستعمل الشيوعيون قصص الإجرام والتمثيليات الجنسية المريضة كجزء من حربهم النفسية.. وتقوم هذه التمثيليات المعدة بشكل خاص، بإثارة الدوافع الشريرة الكامنة عند الأطفال، كالميول السادية.. كما أنّها تضعف من الدرع الأخلاقي الذي يصون بعض الأولاد.. فحتى اللعب صارت تمثل مسدسات وجنودا وبنادق، بالإضافة إلي الأفلام السينمائية التي صارت تكثر من تصوير الجرائم وإطلاق النار.. وكل هذا يعمل علي تحطيم الروح المسيحية العادية عند الناشئة، ويجعلهم يتأقلمون مع المناظر القاسية والموت المفاجئ واستعمال الأسلحة.. وهناك أيضا كتب ومجلات الدعارة التي وزعها ونشرها الشيوعيون بشكل واسع وبأسعار رخيصة.. وهذه المنشورات أعدت خصيصا لتحطيم ذلك الوجه الأخلاقي الذي أوجدته وطورته قيم الثقافة المسيحية.
أما تأثير السينما فقليلا ما يدركه الناس.. فلقد لعبت السينما الحديثة دورا كبيرا جدا في انقلاب الشباب علي بيوتهم وأوطانهم وأديانهم.. فدور السينما تعرض أفلاما تدور فيها لأكثر من ساعة جميع الأعمال الإجرامية التي يقوم بها الفاسقون من الرجال والنساء، والتي يعاقبها الضمير ويحرمها القانون.. وفي النهاية تخصص دقيقة واحدة فقط لعقاب هؤلاء، بأن يموتوا أو يقبض عليهم رجال القانون!!.. ولما عرض فيلم الثورة المكسيكية في مدينة غالفستون في تكساس، وهو يصور تصويرا حقيقيا تلك الثورة، حيث يقتل الرجال أو يجرون من منازلهم ويذبحون علي يد الثوار، كانت نتيجة هذه المشاهد أن أغمي علي المشاهدات.. أما المشاهدون فقد تقيا أكثرهم من هذه الصور.. ولقد أدي هذا إلي منع الفيلم.. ولكننا اليوم نجد أن أفلاما كهذا الفيلم تعرض في حفلات خاصة يطلبها الأطفال والناشئة!!.. وهذا مثال علي مدى ما حققته السينما تدريجيا من سيطرة علي شبابنا، بحيث أصبحوا قساة لا تهمهم المناظر الدموية المؤذية، وأصبحوا يشاهدون ـ بدون أي انزعاج ـ مناظر القتل والاغتصاب.. كل هذا التخطيط يؤكد المبدأ الثوري الذي يقول "لا يمكننا أن نحقق بسرعة إصلاحا ملحا جدا، إلا عن طريق عمل ثوري".
وفي البلاد التي لم تخضع بعد لقادة الحركة الثورية العالمية تقوم، وكالات أفلام خاصة بتوزيع آخر ما يتصوره خيال، من مشاهد الدعارة والرذيلة، لتعرض سرا علي مجموعات من الناس.. وتصور هذه الأفلام جميع الانحرافات الجنسية التي عرفتها البشرية ((الآن صارت هذه المواد الإباحية تبث في القنوات الفضائية بل والأرضية!!!)).. وتستعمل هذه الأفلام لإفساد الشباب، مما يشجعهم علي الانخراط في صفوف المنظمات الثورية.
وهكذا تتم عملية تربية الشباب الثوري.. حتى إذا برهن الشاب عن عدائه للدين وللقيم الاجتماعية، وبدت عليه ملامح القسوة والشدة، أرسل إلي موسكو، حيث يتم تعريفه "بالحرب الثورية وبحرب الشوارع".. وهذا بالطبع يختلف عن التدريبات التي تعطي لقادة المثقفين والعمال.
ولقد حققت الحرب النفسية الثورية دورها في العالم الغربي كما حققته في أسبانيا، فالانسان هناك أصبح يسمع آخر التطورات العالمية وأخبار الجرائم وحوادث الطائرات والسيارات والاغتيالات الوحشية، ثم يذهب لينام بهدوء دون أن يرفّ له جفن.. بينما كانت أخبار مثل هذه، لو حدثت قبل خمسين سنه تمحو النوم من الجفون.
لقد أصبحت هذه الأعمال الإرهابية أمورا عادية تحصل كل يوم، وأصبحت عندنا مناعة ضد الانفعال والاضطراب الذي كان يصيبنا عندما كنا نشاهد في الماضي عملا غير عادي.. أصبحنا لا نكثرث عندما نسمع خبر الإطاحة بحكومة ما عن طريق القوة، ولو كنا نكثرت، لفعلنا شيئا ما لوقف ما يحدث.
وعندما كانت الشيوعية تتوغل في أسبانيا، كان الناس يقولون "لن تستطيع الشيوعية أن تسبب أي ثورة هنا"، لأن معظم الناس يوجهون أسماعهم إلي من يحدثهم عن الأمن والاستقرار المزعومين.. إنهم كالنعامة يضعون رؤوسهم في التراب عندما يشاهدون اعداءهم ويظنون أنهم بمأمن منهم.. ولكن عليهم أن يتذكروا أنهم بوضع رؤوسهم تحت التراب لا ينقذون إنسانا من قاتل أو مغتصب، ولا يبعدونه عن قنبلة متفجرة.
***
عندما اقترب موعد الانتفاضة الثورية في أسبانيا، تشجع موزعو الأدب الخليع والصور العاهرة، حتى إنهم كانوا يقفون علي أبواب الكنائس يعرضونها علي المصلين عند دخولهم وخروجهم منها!!.. وتصور أغلفة هذه المناشير الرهبان والراهبات في أوضاع مخلّة.. ويذكر المراسل المستر أضرار كنوبلو الذي يعتبر بحق مرجعا عن الحرب الأهلية في أسبانيا، كتابه "مراسل في أسبانيا": "بين الفينة والفنية، كانت وقود رجال الدين البروتستانت تأتي لتحتج علي بعض الكتابات المعادية لرجال الدين.. فيتم استقبالهم علي أحسن وجه، ثم يأخذهم مرشد خاص إلي حيث تريد السلطات الشيوعية.. وبعد يوم أو يومين يعودون إلي بيوتهم وقد تم التأثير عليهم بالشكل المناسب.. ولكن حدث في أحد الأيام أن دخل وفد من رجال الدين إلي إحدى المكتبات للبحث عن بعض المؤلفات.. وقبل أن يستطيع موظف المكتبة منعهم، شاهدوا بعض نسخ مجلتي "La Traca" و"Bicharracos".. وظهر علي أغلفة هذه المجلات صور مخلة بين رهبان وراهبات شبه عاريات.. كما اشتملت المجلتين على العديد من الصور البذيئة.. وخرج الوفد وكأن بهم مسا".
ويمكننا أن نعقد مقارنة بين حالة أسبانيا خلال أعوام 1923 ـ 1936، وبين حالة كندا في الوقت الحاضر.. حيث الخلاف قائم فيها بين السكان الذين ينطقون الإنكليزية والسكان الذين ينطقون الفرنسية.. فهناك في أسبانيا يعيش شعب الباسك المتميز بلغته وثقافته وعاداته التي ترجع إلي عهود سحيقة جدا.. كما أن هذا الشعب يعرف بكبريائه وتدينه الشديد.. ويعتقد الباسك ـ كما يعتقد الكنديون الفرنسيون ـ أنهم يستحقون استقلالا قوميا.. وحتى يحققوا هذا الاستقلال نظموا حركة انفصالية لتحرير الباسك وفصله عن بقية أسبانيا.. وكان طبيعيا بالنسبة لمخططي الحركة العالمية في أسبانيا، ألا يهملوا هذا الوضع، فالباسك شعب كاثوليكي شديد الإيمان، وهو يؤمن أنه سيكون علي حق عندما يحارب من أجل الاستقلال.. ولكن الأكثرية من هذا الشعب عملت مع الشيوعيين لتحقق أهدافها، دون أن تعلم إنها متحالفة معهم.. وحدث هذا عندما تسرب الشيوعيون إلي المجتمع الباسكي وأخفوا حقيقتهم، حتى صاروا قادة "الانفصال".. وعندئذ قادوا شعب الباسك نحو المذبحة، تحت شعارات الوطنية والحماس الديني.. وكان هؤلاء القادة مثل الرئيس اغويير Aguirre، وغيرال Giral، ونيرجنNergin، يعملون علي الحبلين، رابطين بين شعار الصليب المسيحي وشعار المنجل والمطرقة الشيوعيين.. ولما اشتعلت الثورة تركت الجماهير لتلاقي مصيرها.. وبينما كان المئات يلاقون حتفهم، كان اغوييرAguirre رئيس دولة الباسك وقائد جيشها يجلس في مكتبه في بلباو Bilbao.
وقد جاء مقدمة كتاب "الظلم الأحمر في بلاد الباسك" The Red Persecution in The Basque Country، التي كتبها F. J. Olondriz ما يلي:
"وعندما جاء اليوم المحدد، شعر الانفصاليون الباسك وقد أثارتهم العاطفة العمياء، أنهم متحدون بقوة مع الشيوعيين.. مع الملحدين الهدامين.. ودخل الباسك الحرب وتحملوا مسؤولية الذبح والقتل، معتقدين بشرعية جميع الأساليب الوحشية.. لقد تجاهل هؤلاء كلمات رئيسهم الديني البابا بيوس الحادي عشر، التي جاءت في الأمر العام الذي وزع علي جميع أبرشيات الروم الكاثوليك، والتي تقول: الشيوعية هي ارتداد عن الدين لا جدال فيه.. ولا يسمح أبدا لمن يرغب في خدمة الثقافة المسيحية أن يتعاون مع الشيوعية بأي شكل من الأشكال".
***
بدأت الحرب الأهلية في أسبانيا 1936.. وقد أعلن كالفو سوتيلو في المجلس التشريعي Cortes أنه في الفترة بين شباط وحزيران من عام 1936، حدث 113 إضرابا عاما، 218 إضرابا جزئيا، بينما أحرق 284 بناية و 171 كنيسة، و69 ناديا و10 مكاتب صحيفة، كما ارتكبت 3300 عملية اغتيال.
وبسبب هذا الإعلان، قفز رئيس الوزراء كساريس كويروغا علي قدميه وأجابه بغضب: "ستكون أنت المسئول شخصيا عن الانفعالات التي سيسببها خطابك".. أما الشيوعية دولوريز إباروري فقد وقفت في المجلس وأشارت إلي سوتيلو صارخة: "لقد لفظ هذا الرجل خطابه الأخير".
وبالفعل كان هذا خطاب سوتيلو الأخير، لأنه سحب من منزله علي يد جنود يقودهم الكابت دون أنجل مورينو، وجره هؤلاء إلي باحة إحدى الكنائس القريبة وقتلوه.. ولقد كان هذا الحادث السبب وراء ترك بعض الجنرالات لمحفل الشرق الأكبر، وطلبهم من فرانكو أن يتسلم قيادة البلاد.. ويجب أن نعلم أن دولوريز إباروري كانت عملية لستالين، وكانت مهمتها إفساد ضباط الجيش، وتنظيم وتدبير غارات علي القوات الحكومية.. وقد أدت مهمتها المتعددة الجوانب علي الوجه الأكمل.
وبعد اغتيال سوتيلو أغار حرس الطوارئ علي منازل العديد من الشخصيات البارزة المعادية للشيوعية، ولكن أكثرهم تمكن من الفرار بعد أن تم إخطارهم بالأمر مسبقا.
وفي يوم الانتخابات (شباط 1936)، اتصل فرانكو تلفونيا بالجنرال بوزاس ـ قائد الحرس الشعبي ـ وأخطره بأن الشيوعيين المنتخبين للمجلس التشريعي يخططون لإثارة الشغب وأعمال العنف، بهدف الإطاحة بالحكومة الجمهورية.. ثم اتصل بالجنرال موليرو وزير الحربية، وأخبره بالأمر وبالخطر الداهم.. واقترح فرانكو أن يُسمح له بإعلان الأحكام العرفية في البلاد.. وقد استطاع فرانكو أن يحصل علي موافقة أكثر القيادات للعمل علي إيقاف موجة العنف والشغب، ولم يبق عليه إلا توقيع مجلس الوزراء، ليستعيد النظام وليمنع قيام الحركة الثورية ضد الحكومة الجمهورية.. ولم يتمكن فرانكو من الحصول علي هذا التوقيع، لأن رئيس الوزراء طلب إعفاءه من مهمة تصديق مثل هذا القرار.. وكانت إجابة فرانكو له صريحة، إذ قال: "أنت السبب فيما آلت إليه الحالة في أسبانيا.. وعليك الآن أن تحاول إنقاذها".
عندئذ صدرت الأوامر للجنرال فرانكو أن يذهب إلي جزر الكناري.. وكان هذا بمثابة نفي له من أسبانيا.
وقبل أن يغادر فرانكو البلاد، اجتمع بالجنرالين مولا وفاريلا، اللذين أكدا له أن بقية الجنرالات سيتركون المحافل الماسونية العسكرية عندما يعرفون الحقيقة.
وقبل أن ينتهي الاجتماع، تم الاتفاق علي طريقة اتصال سرية بين مولا وفرانكو.. وما أن غادر فرانكو أسبانيا إلي جزر الكناري، حتى جدد عملاء ستالين نشاطهم في البلاد.
وفي 23 حزيران 1936، بعث فرانكو وبرسالة مطولة إلي وزير الحربية، يعيد فيها تحذيره من أخطار محددة.. ولكن هذه التحذيرات لم تنل إلا الإهمال، لأن الوزراء الشيوعيين في الحكومة الجمهورية كانوا يسيطرون علي سياستها وتحركاتها.
حتى إذا جاء مقتل كالغو سوتيلو في 13 تموز، قرر فرانكو أن يبدأ العمل، فأرسل رسائل بالشفرة إلي بعض الجنرالات، الذين أقسموا أن يحاربوا من أجل إنقاذ أسبانيا من براثن الشيوعية ومن الانخراط في فلك الروس.. ومن بين الذين اتصل بهم فرانكو، مولا وغوديد وفانجول وسانجورجو وساليكويت، وبعض الضباط في البحرية الأسبانية.. كما اتصل بكويبو دي.. وبعد إرسال الرسائل، طار فرانكو من جزر الكناري إلي تطوان، حيث يمكنه الاعتماد علي القوات المغربية.
وفي 21 تموز، أصدرت فرانكو بيانه الذي حدّد القضية بأقل عدد من الكلمات: "من واجب الجميع أن يدخلوا هذا الصراع الواضح بين روسيا وأسبانيا".. وهكذا بدأت الحرب الأهلية، فانقسمت البلاد إلي فئتين: الموالون Loyalists وهم جميع الفئات اليسارية التي جمعتها الجبهة الشعبية تحت لوائها، و الوطنيون Nationalists وهم جميع الفئات التي انضمت تحت قيادة فرانكو، وضمّت كل الأحزاب اليمينية.. وكانت الدعاية التي سرت في ذلك الوقت قد أقنعت الرجل الإسباني العادي، أنّ مجموعة صغيرة من الجنرالات قد دبرت انقلابا عسكريا لتحويل، حكومة الجبهة الشعبية الجمهورية إلي ديكتاتورية عسكرية.
وانقسم الشيوعيون إلي مجموعتين.. الأولي تريد تحويل ديكتاتورية البروليتاريا إلي حكم مطلق علي الطريقة التي اتبعها ستالين، والثانية كانت ترغب في جعل أسبانيا جزءا لا يتجزأ من الجمهوريات السوفياتية التي تدعو لها الماركسية.
وأما القوميون الأسبان فقد ضموا فيمن ضموا، الحركة الملكية التي كانت تنادي بإعادة الملك إلي أحفاد دون كارولز منذ 1837.. وقد ساعد هؤلاء فرانكو، فقط لأنهم لا يتحملون أن يروا الشيوعية تنتشر في أسبانيا.. وإلي جانب الملكين ضم جيش فرانكو حزب الكتائب الأسبانية، وهو حزب يميني متطرف كان يضم مجموعة من النازيين الألمان، الذين يؤمنون بالحرب الشاملة لإبادة أعدائهم اليساريين.. وفي حالة من الانقسام كهذه، كان لابد من أن يتهم اليمينيون جميع اليساريين بالشيوعية، وأن يتهم اليساريون جميع اليمنيين بالفاشية.. ومن جراء هذا الانقسام أيضا، صارت البلاد عرضه لأعمال الإرهاب، وخصوصا التي ارتكبها الشيوعيون، الذين عذبوا واغتصبوا وأعدموا الآلاف، كجزء من خطة إرهابية للسيطرة علي الوضع.. ولكن بعض الفئات المتطرفة التي عملت مع فرانكو لم تسكت، وعاملت أعداءها بالمثل.. وهكذا نجد أن الحروب الأهلية تنخفض بالإنسان إلي درجة أحط من الوحوش.. وهنا يقع اللوم كله علي أولئك الذين يثيرون مثل هذه الحروب.
والعجيب أن خطة فرانكو ومحاولته هزيمة الشيوعيين لم تفشل، مع العلم بأن التحريات التي تلت الحرب الأهلية أثبتت أن مجموعات كبيرة من الخونة كانت قد تسربت إلي الجيش وتسلمت مراكز حساسة، وذلك بمساعدة عملاء موسكو من أعضاء حكومة الجبهة الشعبية في أسبانيا.
وقبل قيام الحرب الأهلية، كان جوليو الفيريز ديل فايو، وزيرا للخارجية في حكومة الجمهوريين ورئيسا عاما لشؤون الجيش الأسباني، وكانت الأغلبية العظمي من هؤلاء تنتمي إلي الحزب الشيوعي، فعملت علي إجبار الجنود علي الانضمام للحزب.. وقد نشر السفير السابق للجمهورية الأسبانية في باريس هذه الحقيقة، في مجلة "نيويورك تايمز" في 19 أيار 1939.
وهناك دليل آخر نورده علي لسان انداليكو بريتو، أحد النواب الاشتراكيين، الذي كان يشغل أيضا منصب وزير الدفاع أيام الحرب الأهلية، وهو نفسه الذي كان يوجه الحرب ضد فرانكو.. يقول في تقرير نشرة في باريس عام 1939 بعنوان: "كيف ولماذا تركت وزارة الدفاع الوطني؟": "لقد كان تحمل المسؤولية صعبا جدا، وذلك لأن الشيوعيين كانوا يشغلون مراكز حساسة، وقد أخفوا بسرية تامة حقيقة أمرهم وانتماءاتهم، وتمكنوا من دخول الأحزاب الأخرى.. وأذكر علي سبيل المثال واحدا منهم، وهو الدكتور جوان، الذي كان له سلطة قوية خلال الحرب الأهلية.. ولأنني رفضت إطاعة الأوامر الصادرة من موسكو، طردني جوان نرجن من الحكومة التي ترأّسها في الخامس من نيسان 1938.. واستطاع طردي من مركز وزير الدفاع الوطني، بعد أن وجه ضدي مؤامرتين في وقت واحد.. الأولي قامت بها قوات البوليس السري الروسي ورجاله العسكريون في بلادنا، والثانية ثم تنفيذها علي يد الشيوعية الأسبانية.. فالروس كانوا يأمرون والشيوعية الأسبانية كانت تنفذ".
ويدّعي الدكتور جوان هذا انه ليس شيوعيا وإنه لم يكن يوما من الأيام كذلك، ولكنه هو الذي أمر بتسليم سبعة آلاف صندوق من الذهب الأسباني إلي ستالين.. وقد حملت هذه الصناديق علي السفن: كين، ونيف وفولجيلز التي رفعت العلم الروسي.. ورافق هذه السفن جوزية فيلاسكو وأرتورو كانديلا كأمناء ورجال ثقة، حتى وصلت السفن الثلاث إلي أوديسا في روسيا.. وتم كل شيء في الخفاء.. حتى أعضاء حكومة الجبهة الشعبية لم يكونوا علي علم بذلك.. وفي عهد جوان أيضا تم تعيين ثلاثة من الشيوعيين في مناصب مساعدي "سكرتيريا" الدفاع، وكانوا هم المسيطرون الفعليون علي القوات الإسبانية، برا وبحرا وجوا.
ومع أن لارغو كاباليرو كان شيوعيا، إلا إنه لما رفض إطاعة الأوامر الصادرة إليه من الموفدين العسكريين، تجاهل الشيوعيون أوامره وهو في مركز الرئاسة.. وكان كاباليرو يحاول أن يكفر عن أخطائه التي ارتكبها، ولكنه وجد أن الوقت أصبح متأخرا جدا.
وهناك إشارة لثيو روجرز في كتابة "أسبانيا في الرحلة المأسوية"، إلي وقوع وثائق في يد فرانكو والجنرال مولا، عن قيام ثورة واسعة النطاق، أكيدة الوقوع.. يقول روجرز: "تم العثور علي وثائق وخطط من بعض الشيوعيين والفوضويين.. وهي تظهر أن هناك خطة مدروسة بدقة قد وضعت للانقلاب علي الحكومة المركزية في مدريد، وإنشاء ديكتاتورية سوفياتية"
وقد تأجل تنفيذ الخطة الشيوعية ثلاث مرات، حتى تستكمل القوات العميلة ترتيباتها النهائية الأخيرة.
وكان علي العالم بأسره أن يلم بالخطة التي أعدتها موسكو ضد أسبانيا، لأن الوثائق التي كانت تحمل الأمر النهائي بالثورة من الكومنترن إلي الحركة الثورية الأسبانية، تم كشفها ونشرت في "صدي باريس" في نيسان 1936.
وجاء في هذه الجريدة ما يلي:
"نص التعليمات الموجهة إلي الميليشيا الحمراء".
"هذه التعليمات الموجهة إلي الميليشيا الحمراء الأسبانية، ليست صادرة من تنظيم مركزي أسباني، ولكنها صادرة من فرع الخدمات التكنيكية التابع للحزب الشيوعي الفرنسي، الذي بتعاون مع الكومنترن وموفدية في فرنسا.. هذه الوثيقة التي ننشرها الآن قد وقعت في أيدي الحكومة، ونحن مقتنعون بان المسيو دالادير وزير الحربية والدفاع قد أعطي الأوامر لأخذ الاحتياطات الدفاعية والوقائية اللازمة".
وجاء في النص الذي اختصرناه ما يلي:
1. تقوية فرق الصدام والحرس في الثكنات وتزويدهم بالمسدسات الأوتوماتيكية.. هذه الفرق هي أفراد الحزب الشيوعي التي تخدم في القوات العسكرية الدائمة وفي القوات الاحتياطية.
2. سيتم الاتصال بين هذه الفرق وبين من سيهاجمون الثكنات.. وسيلبس المهاجمون اللباس الموحد، ويكونون تحت إمرة ضباطنا الذين نثق بهم كل الثقة.
3. عندما يبدأ القتال، سيتم إدخال ضباطنا وجنودنا إلي الثكنات سرا.. وعندما تستقبلهم لجنة خاصة ويعملون سوية معنا داخل الثكنات حسب الخطة المتفق عليها.
4. ستقوم اللجنة المؤمّنة داخل الثكنات، بإعداد لوائح كل يومين، تشمل العناصر المعادية والحيادية والمؤازرة والخبراء.. وعندما تقع الثكنات في أيدينا، سنتخلص بسرعة وبدون تردد من المصنفين كأعداء لنا، وخصوصا الضباط والقادة.
5. سيزود كل عنصر من عناصر اللجان بلائحة تشمل أسماء الأفراد الذين يجب عليه قتلهم شخصيا.
6. بعد التخلص من الأعداء، يتعرض الحياديون لامتحانات قاسية للتخلص من التردد الذي يصيب هؤلاء عادة.
7. تعمل اللجنة المسئولة عن الحياديين، الترتيبات اللازمة للسماح لمجموعات الحراسة الموجودة خارج الثكنات بالدخول إليها، بحجة المساندة لوضع حد للثورة.
8. تتألف المجموعات المكلفة بتصفية الجنرالات المعادين المسجلين علي اللوائح، من عشر رجال مسلحين بالمسدسات الحربية.. ولكل جنرال مساعدان وسكرتير يجب أولا قتلهم في بيوتهم.. وعلي هذه المجموعة المكلفة بتنفيذ هذه العملية المهمة ألا تتراجع أمام أيّ صعوبة كانت وإن اضطرت للتخلص ممن يقف في وجهها مهما كان عمره أو جنسه.
9. أما الجنرالات المسرحون من الخدمة والذين تشملهم اللوائح، فتجري تصفيتهم بمجموعات تتألف من ثلاثة عناصر، تقوم بمهمتها علي الشكل المذكور في المقطع السابق.
10. تفاصيل عن كيفية احتلال بعض البيوت والعقارات في المراكز الستراتيجية وتحصينها بالأسلحة، بحيث تتمكن الميليشيا الشيوعية من نصب كمائن للقوات الهاربة من الثكنات.. وجاء في التعليمات "بينما يقوم ضباط الميليشيا بحماية السيارات، تقوم مجموعات الميليشيا بالتقدم إلي المراكز الاستراتيجية كمفارق الطرق بسياراتهم ودباباتهم، وهم يحملون الأسلحة الرشاشة لمنع أي مساعدة من أن تصل إلي المدن.. ستحمل الشاحنات كميات من القنابل اليدوية".
11. عندما تبدأ الثورة، تقوم مجموعات الميليشيا وهي ترتدي لباس الحرس الأهلي والحرس الهجومي، باعتقال رؤوس الأحزاب السياسية، بحجة الاحتياطات الضرورية لحمايتهم.. وبعد الاعتقال تتم عملية تصفية الجنرالات المسرحين.. وتقوم هذه المجموعات ذات اللباس الموحد باعتقال الرأسماليين البارزين الواردة أسماؤهم في اللائحة "ب" من القرار المعمم رقم 32.
12. يجب ألا يستعمل العنف مع هؤلاء الرأسماليين، إلا عندما يبدون مقاومة.. ولكن يجب إجبارهم علي تسليم أموالهم الموجودة في البنوك وسنداتهم المالية.. بعدها يتم التخلص منهم ومن عائلاتهم ولا يترك منهم أحد.
13. يستعمل نفس الأسلوب الذي استعمل في روسيا، في معاملة أفراد القوات المسلحة الذين يظهرون ولاءهم وتعاطفهم معنا.. فنستغل خدماتهم أولا، ثم يتم التخلص منهم كالأعداء تماما.. لأنه حتى تتكلل مساعينا بالنجاح ويكون لها صفة الدوام، يجب أن ننظر إلي الجندي المحايد علي أنه أفضل من الذي يخون القوانين العسكرية عندما يواجه الخطر، فهذا لا يمكن أن نتوقع منه إلا الخيانة إذا تركنا له الفرصة المناسبة.
14. تتم عمليات الاتصال ونقل الأوامر بواسطة سيارات صغيرة أو دراجات نارية تكون مسلحة بمسدسات حربية.
15. يجب وضع تقارير دقيقة جدا عن حياة المحايدين والمؤازرين، تشمل كل شيء عنهم، حتى أمورهم العائلية، والأفراد الذين تربطهم بهم روابط الحب والتعلق.. هذه الأشياء تهمنا عند الضرورة.. وإذا حدث أن أظهر أحد عناصرنا أوحد الموالين أو الحياديين ضعفا أو مقاومة للأوامر أو رفضا لها، عندئذ يجب أن تنقل فورا الشكاوى بحقه إلي اللجنة العليا.
16. يجب تنظيم الميليشيا وتوزيع عناصرها، بشكل يبعد الفرد عن منطقة سكنه أو المحلة التي يوجد له فيها أقارب، لأن التجارب الماضية علمتنا أنه في اللحظة الأخيرة كان الأفراد يرفضون الأوامر الصادرة إليهم بسبب العاطفة التي تربطهم بأقاربهم وأهليهم.. كما أن الصداقات كانت السبب في كثير من التلكؤ في تنفيذ الأوامر حسب الخطط التي كنا نعدها. ((يذكرني هذا بقوات الأمن المركزي التي تطلق الرصاصات على شعبها في الانتخابات!!!))
17. يجب اعتبار أصحاب عنابر البضائع والمخازن التجارية من الفئة الرأسمالية المهمة.. ويتم تنظيم هذه العنابر والمخازن لخدمة الحكومة العمالية عن طريق لجان إدارية.
18. يتطرق هذا المقطع لقضية استعمال المجاعة كوسيلة للقضاء السريع علي المعارضة.. وفي النص ما يلي: "يمنع تزويد الطبقة البرجوازية بالطعام والشراب خلال الأسبوع الأول، وحتى تتشكل اللجنة التأسيسية بشكل طبيعي.. أما الأطعمة المخزنة في الثكنات والتي لا يمكن الاستيلاء عليها فيجب إفسادها بالبرافين وغيره من المواد المفسدة للأطعمة".
ومنذ أن صدرت هذه التعليمات، بدأت القيادات الثورية في جميع الدول بوضع الخطط اللازمة للتصرف مع رجال البوليس والطوارئ، لأن التجارب أظهرت أن أفراد هذين التنظيميين الرسميين "يبقون مخلصين لسادتهم البورجوازيين".. وشملت هذه الخطة الخطوات الثلاث التالية:
1. التسرب داخل هاتين القوتين.
2. إفساد التنظيم الداخلي في هذين التنظيميين.
3. يطلب من أفراد الحزب أن يشتروا أو يستأجروا الأماكن المشرفة علي مراكز البوليس وسرايا الطوارئ، حتى يتم القضاء علي الأفراد وهم يبدلون الدوريات.. وبهذا يأتي توقيت بدء الثورة، في الوقت الذي يتم فيه تبديل الدوريات.
وهكذا حددت هذه المعلومات التفاصيل اللازمة حتى تتمكن قيادة الحزب الشيوعي من الاستيلاء علي المرافق العامة والإدارات الرسمية في أسبانيا.. وكان الغرض من هذا هو السيطرة التامة بأقصر وقت علي جميع مخازن المواد الغذائية ووسائل المواصلات.