قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

إنه تاريخ طويل من الخيانة والعمالة والطعن في ظُهُورِ المسلمين السُّنَّة لمن يضن ان منقد الاقصى هي ايران الاقصى مسجد وليس حسينية رحم الله صلاح الدين السنيي قضى على شيعة مصر لنصرة المسلمين بفلسطين ايران الشيعية ساعدت امريكا لغزو افغانستان والعراق
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

إنه تاريخ طويل من الخيانة والعمالة والطعن في ظُهُورِ المسلمين السُّنَّة لمن يضن ان منقد الاقصى هي ايران الاقصى مسجد وليس حسينية رحم الله صلاح الدين السنيي قضى على شيعة مصر:close_tema[1]: لنصرة المسلمين بفلسطين ايران الشيعية ساعدت امريكا لغزو افغانستان والعراق

يا استاذى لما تسميهم بشيعه مصر
بل هم شيعه كانوا يحكمون مصر وحاولوا فرض هذا المذهب على المصريين
ولكن المصريين رفضوا واصروا على تمسكهم بدين الله وسنه رسوله عليه افضل الصلاه والسلام رغم ما نالوه من عذاب فى تلك الفتره ولكننا بحمد بالله لم ننكسر ولن ننكسر بأمر الله
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

يا استاذى لما تسميهم بشيعه مصر
بل هم شيعه كانوا يحكمون مصر وحاولوا فرض هذا المذهب على المصريين
ولكن المصريين رفضوا واصروا على تمسكهم بدين الله وسنه رسوله عليه افضل الصلاه والسلام رغم ما نالوه من عذاب فى تلك الفتره ولكننا بحمد بالله لم ننكسر ولن ننكسر بأمر الله

الحمد لله ياخي على ثبات عقيدة المصريين فالشيعة اهل فتنة ونحن اهل فتوحات اسلامية وخير دليل انضر الى اخر حروب السنة بالبوسنة والشيشان وغدر الشيعة بالعراق وافغانستان ولبنان رحم الله قادة السنة عبر التاريخ وخصوصا فاتح مصر العظيمة عمروبن العاص
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

- النجدة الصليبية

ماذا حدث بعد سقوط بيت المقدس والمدن الفلسطينية المختلفة ؟ , لقد وصل مندوب البابا - رئيس أساقفة بيزا دايمبرت - إلى الشام في صيف 1099م بعد سقوط بيت المقدس، ووصلته هذه الأنباء، وإجتمع مع بوهيموند أمير أنطاكية ليتباحثا معًا أحوال القوات الصليبية، وكان ذهن دايمبرت يعمل في اتجاه الحصول على أملاك تخص الكنيسة، واستغل بوهيموند هذه الرغبة، ووجَّه أطماع دايمبرت إلى ميناء اللاذقية .

ولماذا اللاذقية بالذات ؟ ,, لقد سيطرت الدولة البيزنطية على ميناء اللاذقية بمساعدة الأمير ريمون الرابع ، وحيث إن هذا الميناء يقع في جنوب أنطاكية فهو يمثل خطورة كبيرة على بوهيموند الذي صار معاديًا بصراحة للدولة البيزنطية، ومن ثَمَّ دفع بوهيموند الأسقف دايمبرت لاستغلال أسطول بيزا القوي لحصار اللاذقية وإسقاطها، ووافق الأسقف دايمبرت دون تفكير كثير على هذه الخطوة ؛ خشية ألا تبقى هناك مدن مناسبة للاحتلال مع مرور الوقت، وبالفعل تمَّ الحصار، وكادت المدينة أن تسقط لولا حدوث أمر غيَّر الأحداث !

لقد جاء ريمون الرابع بجيشه في هذه اللحظة حيث فشل كما رأينا في الحصول على إمارة في فلسطين ، فجاء يكرر سعيه للحصول على إمارة في الشام أو لبنان ، وفُوجئ ريمون بالحصار المشترك بين بوهيموند ودايمبرت لميناء اللاذقية، فتدخل مسرعًا، وقام بزجر بوهيموند، وقال لدايمبرت : إنه ليس من الحكمة مطلقًا أن نخطو الآن خطوة نستعدي بها الدولة البيزنطية ، وأن هذا سيقضي على آمال توحيد الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية تحت زعامة بابا روما ، وأن فرصة دايمبرت أكبر في فلسطين حيث توجد القدس.
ووجد دايمبرت أن الكلام مقنع ، ومن ثَمَّ - وعلى غير رغبة بوهيموند - رفع دايمبرت الحصار، ودخل ريمون البلدة ليرفع فيها علمه إلى جوار علم الإمبراطورية البيزنطية ، وليتجه دايمبرت ومعه بوهيموند أمير أنطاكية وأيضًا بلدوين أمير الرها إلى القدس. لقد ذهبوا جميعًا لدفع الأمور إلى تعيين دايمبرت في أسقفية القدس، ليكون بذلك لهم يدٌ عند دايمبرت ومِن ورائه البابا .

وسار الموكب المكون من جيوش دايمبرت وبوهيموند وبلدوين، ولاقى بعض المصاعب في الطريق، غير أنه وجد كل الترحيب من ابن عمار أمير طرابلس حيث قدَّم لهم التموين، ولكن دون فتح أبواب المدينة خشية أن يحتلوها .

ووصل الموكب الكبير إلى بيت المقدس، وسُرَّ جودفري برؤية هذه الأعداد الضخمة من الصليبيين لأنه أصبح في حاجة إلى الجنود ، ولكن هؤلاء جاءوا بهدف ، وهو عزل الأسقف الموجود وهو أرنولف مالكون، وتعيين دايمبرت مكانه ، ووجد جودفري نفسه مضطرًا إلى هذا الأمر حيث إنه محتاج إلى أسطول بيزا القوي ، كما يحتاج أيضًا إلى تأييد البابا، وهكذا دُبِّرت محاكمة سريعة للأسقف القديم أثبتوا فيها أن تعيينه كان باطلاً، ومن ثَمَّ عُزِل ، ووُلِّي دايمبرت على الأسقفية !

غير أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل بدأ دايمبرت يتدخل في شئون بيت المقدس السياسية، فهو لم يكن يريد هذا المنصب ليمارس شعائر دينية، إنما كان يريده ليفرض نفسه على الأوضاع ليصير هو السيد المتحكم في الأمور ، بل وصل الأمر في سنة (493هـ) فبراير 1100م إلى نزاعٍ معلن بين جودفري ودايمبرت حول ملكية البلاد المحتلة؛ فقد كان دايمبرت يريد لنفسه ملكًا خاصًّا في يافا، وأيضًا في بيت المقدس ، بل إن جودفري عرض صراحة أن ينتقل ملك المدينتين إلى دايمبرت بعد وفاة جودفري، ولكن هذا لم يعجب دايمبرت، فعرض عليه أن ينتظر حتى يستولي على مدينتين غيرهما من المسلمين، فيعطي حينئذٍ بيت المقدس ويافا لدايمبرت، ولكن هذا لم يعجب أيضًا دايمبرت، فهو لا يستطيع الانتظار ! وهكذا ظل الصراع بين زعيم بيت المقدس وزعيم الكنيسة هناك دون الوصول إلى نتيجة !!

إنها حرب الجشع والطمع والاستحواذ ، ولا مكان فيها لدين أو صليب ! وكذلك فعل بوهيموند النورماني !

لقد عاد بوهيموند بعد إختيار دايمبرت أسقفًا لكنيسة القدس ليواصل أحلامه التوسعية، ولم يقاتل في جبهة واحدة بل قاده جشعه أن يقاتل في أربع جبهات في آنٍ واحد !
لقد حاول في البداية أن يستولي على قلعة فامية في حوض نهر العاصي ، والمملوكة للأمير العربي سيف الدولة خلف بن ملاعب ، وهو أخو أمير حمص جناح الدولة حسين بن ملاعب ، غير أن بوهيموند فشل في الاستيلاء على القلعة الحصينة، ومن ثَمَّ اكتفى بحرق المزارع حول القلعة ، وإتجه إلى الجبهة الثانية وهي مدينة حلب، حيث التقى مع رضوان بن تتش أمير حلب في موقعة شديدة في (493هـ) يوم 5 من يوليو 1100م نجح فيها بوهيموند في إنزال هزيمة قاسية برضوان، وأخذ الكثير من الغنائم، وأسر أكثر من خمسمائة مسلم ، مما جعل رضوان يستنجد بأمير حمص جناح الدولة حسين بن ملاعب، وهذه كانت إهانة كبيرة لرضوان، وضربة لكرامة السلاجقة المتنازعين دومًا مع العرب ، ومنهم حسين بن ملاعب، إضافةً إلى صغر سن حسين بن ملاعب وصغر مقامه كأمير لحمص بالقياس إلى حلب، وهذه العوامل جعلت رضوان يسيء الأدب في استقبال جناح الدولة حسين بن ملاعب، مع أن رضوان هو الذي استنجد به، ولا شك أن هذا ترك أثرًا سلبيًّا سيئًا في نفس جناح الدولة حسين بن ملاعب .

وكان بوهيموند ينوي في ذلك الوقت أن يضرب حصارًا شديدًا على حلب ليسقط هذه المدينة العريقة، ويضمها إلى إمارته، فتصبح بذلك نقلة نوعية هائلة لإمارة أنطاكية والنورمان ، إلا أن بوهيموند الجشع قرر أن ينتقل فجأة إلى حصار مدينة مرعش في الشمال ، وهي مملوكة الآن للدولة البيزنطية بعد أن سيطر عليها الصليبيون قبل ذلك بعامين ، ويبدو أنه فعل ذلك لإحساسه أن حصار حلب الحصينة سيطول ، ولشعوره أن فرصة سقوط مرعش في يده كبيرة لصغر الحامية البيزنطية بها، ولهذا ترك جبهة حلب وانتقل إلى الجبهة الثالثة مرعش، وحاصرها عدة أيام لكنها استعصت عليه، وفي أثناء محاولاته لإسقاطها جاءته استغاثة من حاكم ملطية ، وهي مدينة أخرى إلى الشمال من مرعش غالب سكانها من الأرمن، وكانت محاصرة من الملك غازي كمشتكين بن الدانشمند ، فاستنجد حاكمها الأرمني جبريل ببوهيموند ، فوجدها بوهيموند فرصة، فترك مرعش وأخذ فرقة من خمسمائة فارس لقتال الملك غازي والاستيلاء على ملطية!
هكذا قاده غروره أن يفتح على نفسه أربع جبهات: في قلعة فامية، وفي حلب، وفي مرعش، وفي ملطية ؛ وهو يقاتل في هذه الجبهات العرب والسلاجقة والبيزنطيين والدانشمند , إنه الغرور الذي يُعمِي الأبصار؛ إذ وزَّع قواته هنا وهناك، وتوغَّل بخمسمائة فارس فقط في أراضي آسيا الصغرى !

وكأن لا بد للقائد المغرور أن يقع في أخطاء , راجعوا قصة نابليون بونابرت وسقوطه في روسيا .. وراجعوا قصة هتلر وسقوطه في فرنسا وروسيا ، بل راجعوا قصة فرعون الذي شاهد البحر ينفلق ، فإذا به في غرور عجيب ، يصل إلى حدِّ الغباء والعمى يأخذ جيشه ويقتحم البحر حتى يهلك !!

لقد سقط المغرور بوهيموند في كمين تركي صنعه الملك غازي بن الدانشمند، وسقط معه في نفس الكمين خمسمائة فارس هي كل القوة التي كانت معه ، وسرعان ما كُبِّل الأمير بوهيموند بالأغلال، وقُتل عدد كبير من فرسانه وأسر الباقي !

لقد كان صيدًا ثمينًا في وقت حرج جدًّا من أوقات الغزو الصليبي، وكان ذلك في سنة (493هـ) أوائل أغسطس سنة 1100م، وقبل أن يسقط بوهيموند في الأسر أرسل رسالة نجدة إلى بلدوين حاكم الرها، فتحرك بسرعة بسرية مكونة من مائة وأربعين فارسًا فقط لنجدته ! وكان من الممكن أن يلقى نفس المصير الذي لاقاه بوهيموند ، لولا أن الملك غازي انسحب مسرعًا بصيده الثمين حتى وصل إلى قلعة نكسار على ساحل البحر الأسود في أقصى شمال آسيا الصغرى ليؤمِّن أسر الأمير النورماني .

وجد بلدوين الطريق مفتوحًا إلى ملطية، فدخلها بسريته، ورحب به أهلها، وكذلك زعيمها جبريل، وسرعان ما ضمها بلدوين إلى إمارة الرها؛ ليوسِّع بذلك إمارته! إن النية لم تكن خالصة لإنقاذ بوهيموند، والتنافس بينهما قديم، ولكن هي يدٌ يقدمها الآن لعلها تنفع غدًا، وفي نفس الوقت هي فرصة ذهبية لضم مدينة تطلب النجدة !

ولم يفكر بلدوين بالطبع في مغامرة تتبع القوات التركية إلى قلعة نكسار، وإنما عاد إلى الرها بعد أن ترك خمسين فارسًا في ملطية كنوع من إثبات الوجود، وللدلالة على تبعية المدينة له .
وقد ترك أسر بوهيموند فراغًا سياسيًّا وعسكريًّا كبيرًا في المنطقة؛ فإمارة أنطاكية إمارة مهمة جدًّا، والأطماع فيها كثيرة، فهناك المسلمون السلاجقة وعلى رأسهم قلج أرسلان في آسيا الصغرى، وهناك كذلك الأمير رضوان الذي يعتبر أنطاكية من نصيبه في الميراث! وهناك الدولة البيزنطية الطامعة في أنطاكية منذ زمن بعيد، بل إن هناك ريمون الرابع الذي يبحث له عن إمارة، وأبدى قبل ذلك رغبته الشديدة في حكم أنطاكية، أو على الأقل اقتسام حكمها. ثم إن إمارة أنطاكية لم تعد مدينة واحدة، بل ضمت إليها عدة مدن وقرى وقلاع مجاورة، وهي أغنى الإمارات وأحصنها .

إن هذا الفراغ السياسي الكبير قد يقود إلى صراع مرتقب بين أطراف عدة. ماذا يفعل الجيش النورماني المسيطر على أنطاكية قبل أن تحدث الكارثة وتتكالب القوى المختلفة على أنطاكية ؟! وماذا يفعل بنو الدانشمند المسلمون وقد امتلكوا ورقة رابحة جدًّا من أوراق اللعبة؟ وماذا يفعل المسلمون بصفة عامة إزاء هذا التطور الإيجابي الأخير ؟

وقبل أن يفكر نورماني أو مسلم في الوضع الجديد إذا بحدث آخر مُجَلْجِل يحدث في بيت المقدس، يُغيِّر من كل الحسابات، ويزيد الموقف تعقيدًا !! لقد مات فجأة جودفري بوايون زعيم بيت المقدس ، لتتفجر بذلك مشكلة في حجم مشكلة أنطاكية ، أو لعلها أكبر !

إنه فراغ سياسي جديد في مدينة القدس قد يؤدي إلى كارثة صليبية جديدة ، وخاصةً أن مدينة القدس ذاتها محل صراع كبير بين الصليبيين أنفسهم قبل المسلمين .
لقد حدثت هذه الوفاة المفاجئة بينما تانكرد ودايمبرت في حصار عكا ثم حيفا ! ولعلنا نتساءل : ماذا يفعل الأسقف الديني في حصار عسكري ؟! إنه يبحث عن مدينة يقودها أو قرية يملكها ! وأثناء حصار حيفا وصلت أنباء موت جودفري ، وكاد تانكرد ينسحب بجيشه عندما علم بأن جودفري قد أوصى قبل موته بإعطاء حيفا لأمير صليبي إسمه جالدمار ، لولا أن دايمبرت أقنعه بالبقاء في نظير أن يعطيه مدينة حيفا بعد سقوطها، وفي هذا الوعد من دايمبرت إشارة واضحة إلى أنه كان يعتقد تمام الاعتقاد أن حكم بيت المقدس سيئُول له، وبالفعل سقطت حيفا بعد مقاومة ، وعاد الجميع إلى بيت المقدس لمناقشة القضية الكبرى : من سيحكم بيت المقدس ؟!

لقد حكم جودفري بوايون القدس سنة واحدة فقط ، ولم يترك وريثًا شرعيًّا له يحكم البلاد كما هو معتاد في النظام الأوربي الغربي آنذاك ، وكان جودفري يحكم حكمًا وسطًا بين العلمانية الملكية الموافقة لرغبات الزعماء العسكريين للحملة الصليبية، وبين الحكم الديني الموافق لرغبات الكنيسة ، فلما مات جودفري قامت قوتان كبيرتان تتنازعان الحكم في بيت المقدس .

أما القوة الأولى : فهي القوة الدينية متمثلة في دايمبرت أسقف القدس صاحب الأطماع الكبيرة، والمرشح الأول في داخل مدينة القدس، ومندوب البابا الذي حرَّك الجموع الأوربية لهذه الحملة، وأسقف المدينة المقدسة. وهذا الأسقف كان على دراية بالأوضاع السياسية والموازنات في الجيش الصليبي، فعقد على الفور اتفاقًا مع تانكرد لمساعدته في الوصول إلى كرسي الحكم في القدس ، وأرسل رسالة إلى صديقه بوهيموند أمير أنطاكية يستحثه فيها على القدوم إلى بيت المقدس لتزكية ولايته عليه ، ولم يكن خبر أسر بوهيموند قد وصل إلى القدس .

أما القوة الثانية : فهي العلمانية الملكية ؛ ففرسان جودفري بوايون يملئون القدس، وهم جميعًا يرفضون الحكم الثيوقراطي - أي الديني - ويرفضون أن تُعطى القدس للكنيسة بعد كل هذا المشوار الطويل من الجهد والعطاء ، ولقد وقف إلى جوار هذا الفريق أتباع الأسقف المعزول أرنولف مالكون، والذين رفضوا حكم دايمبرت مع أنه حكم ديني لا لشيء إلا نكاية في دايمبرت ! فليست القضية قضية مبدأ ، إنما الصراعات الشخصية والأطماع الخاصة .

ومن هو يا ترى مرشح الحكم والقيادة عند فرسان جودفري ؟!

إنهم - ولعقليتهم الأوربية الوراثية - ذهبوا بفكرهم إلى أقرب الناس إلى جودفري بوايون، وهذا هو بلدوين أخوه حاكم الرها! ولم يذهبوا مثلاً إلى تانكرد الذي ساهم بجهد وفير في تذليل الصعاب والسيطرة على الأوضاع في منطقة بيت المقدس ويافا وحيفا، وهو الذي كان يرأس إقليم الجليل في عهد جودفري ، ولم يذهبوا أيضًا بعقولهم إلى ريمون الرابع الأمير الذي يبحث عن إمارة ، إنما ذهبوا إلى الأخ الذي يحكم بالفعل إمارة أخرى هي الرها، وهو الأخ الذي لم يبذل جهدًا قَطُّ في إسقاط بيت المقدس !

وأرسل فرسان جودفري رسالة سرية سريعة إلى بلدوين في الرها تحثه على القدوم بسرعة لتسلُّم مقاليد الحكم في بيت المقدس ! ووجدها بلدوين فرصة لا تعوض، فشتَّان بين الرها وبيت المقدس ؛ ومن هنا أسرع بلدوين بترك إماراته لابن عمه بلدوين دي بورج، وترك معه حامية قوية، وأخذ حامية أخرى وإنطلق مسرعًا إلى بيت المقدس ، وقد حاول دقاق ملك دمشق الإمساك به في الطريق ، ولكن إبن عمار زعيم طرابلس الشيعي قدم المساعدات لبلدوين ليقاوم عدوهما المشترك دقاق السلجوقي السني ! ومن ثَمَّ استطاع بلدوين أن ينتصر على دقاق ، بل وغنم كمية كبيرة من المال والسلاح !!
إن الوضع كان مزريًا حقًّا !

ووصل بلدوين سالمًا إلى بيت المقدس في سنة (493هـ) 10 من نوفمبر سنة 1100م.
وكان فرسان جودفري وأتباع الأسقف القديم أرنولف مالكون قد هيَّئُوا الشعب في داخل بيت المقدس لهذا الموقف؛ فما أن دخل بلدوين المدينة إذا بجميع النصارى والفرسان يخرجون في استقبال بلدوين في مظاهرة كبرى يطالبون فيها بحكمه، ويعلنون رغبتهم الجماعية في سيادته عليهم !

وإزاء هذه المفاجأة لم يستطع دايمبرت أن يواجه الرأي العام المسيحي في بيت المقدس، خاصةً أن فرسان جودفري الراحل، وأيضًا فرسان بلدوين القادمين معه كانوا على أهبة الاستعداد لبذل سيوفهم في سبيل قيام ملكية علمانية بعيدة عن هيمنة الكنيسة، وآثر الأسقف دايمبرت السلامة، وقنع بكرسيه في الأسقفية ، ومن ثَمَّ تُوِّج بلدوين زعيمًا على بيت المقدس، ولكنه في هذه المرة لم يَتَسَمَّ بلقب (حامي بيت المقدس) ، كما فعل أخوه من قبل، ولم يتسمَّ بلقب أمير كما فعل بقية الزعماء ، إنما تلقَّب بلقب ملك ! وهذا يعني أنه لا يتبع أحدًا، بل الجميع يتبعونه، وهذا إن لم يكن واقعًا الآن فسيكون واقعًا في المستقبل، فهو أقوى الزعماء، وهو الذي يحكم أهم المدن ، ولهذا تلقَّب بملك بيت المقدس، وهكذا أسست مملكة بيت المقدس ليكون أول زعمائها هو بلدوين الذي عُرِف ببلدوين الأول، وكان ذلك بداية من 11 من نوفمبر 1100م ، وإن كان التتويج الرسمي تمَّ في يوم عيد الميلاد الغربي الكاثوليكي، وهو 25 من ديسمبر سنةَ 1100م .

وكان بلدوين الأول من الذكاء بحيث إنه لم يعزل دايمبرت فورًا عن مركزه، وإن كان يعلم أنه كان منافسًا له على كرسي الحكم، وذلك حتى لا يحدث فراغًا في الكنيسة قد لا يستطيع أن يملأه بسهولة، ولكي لا يستعدي دايمبرت ووراءه الأسطول البيزيّ الذي كان بلدوين الأول في أشد الحاجة إليه .

وهكذا إلتفت بلدوين الأول إلى إقرار الأوضاع في بيت المقدس ، وإلى تأمين الطرق حوله، وكذلك إلى توزيع الإمارات والمراكز على أعوانه ومقربيه ، ولا شك أن هذا الوضع الجديد كان على غير رغبة تانكرد تمامًا، فتانكرد لا ينسى أنه كان متنازعًا مع بلدوين هذا على مدينة قليقية منذ ثلاث سنوات عند بداية الغزو الصليبي، كما أن تانكرد راهن على الحصان الخاسر في المعركة وهو دايمبرت؛ لذلك علم تانكرد أن بلدوين لن يلبث أن يعزله من إمارة الجليل التابعة لبيت المقدس، وسيقع تانكرد صاحب الأحلام العريضة في مشكلة كبيرة .

غير أن الأيام حملت مفاجأة كبيرة سارَّة لتانكرد وهي مفاجأة أسر خاله بوهيموند !! ولا يحسبنَّ أحدٌ أن تانكرد كان حزينًا لهذا الخبر، فليذهب بوهيموند كما يقولون إلى الجحيم! فتانكرد يبحث عن مصالحه هو لا عن مصالح خاله، وقد رأينا ذلك في قصته قبل ذلك حين ترك خاله في أنطاكية وآثر أن ينزل إلى مكان آخر يبحث له فيه عن إمارة بعيدًا عن خاله القوي بوهيموند؛ ولهذا فعندما وصل خبر أسر بوهيموند وصلت معه رسالة من الجيش النورماني في أنطاكية باستدعاء تانكرد ليكون أميرًا مؤقتًا على أنطاكية لحين فك أسر بوهيموند، وكان هذا الاستدعاء نجدة لتانكرد وأحلامه، كما كان نجدة لبلدوين الأول الذي تخلص من أمير مكروه لديه دون مشكلة أو صراع .

وهكذا وفي سنة 494هـ\ أوائل 1101م صار بلدوين الأول ملكًا على مملكة بيت المقدس، وتانكرد أميرًا على أنطاكية، وبلدوين دي بروج أميرًا على الرها، وما زال ريمون الرابع يبحث عن إمارة في منطقة طرابلس، وما زال بوهيموند أسيرًا في يد الملك غازي بن الدانشمند .

وفي وسط كل هذه الأحداث الساخنة والمتلاحقة، يجب أن نتساءل وبقوة : أين كان المسلمون ؟!

لقد كانت هذه الأزمات القوية التي تعرض لها الصليبيون فرصة للمسلمين أن يستعيدوا توازنهم، وأن يجمعوا صفهم، وأن يوحدوا هدفهم، لكن - للأسف - تشعبت بهم الأهواء، ولم يكن لهم زعيم مخلص يُجمِّع ويعلِّم ويوجِّه، فضاعت الفرص تلو الفرص، وأَلِف المسلمون الهوان والذل، وقبلوا بالواقع المرير الذي يكرهونه جميعًا ، ولم تتحرك فيهم نوازع رفع الظلم ، وتغيير المنكر .. وهكذا مرت الأيام والشهور بل والسنوات ، والصليبيون كالمرض العضال يزداد توحشًا وتمكنًا من الجسد الإسلامي الضعيف .

إن الصليبيين في هذه الظروف، وهم يرون المسلمين لا يحركون ساكنًا، بل يسعون إلى عقد اتفاقيات سلام، ومباحثات جوار، وعقود تنازل، في هذه الظروف رأى الصليبيون أن يسرعوا بتوسيع أملاكهم، واستغلال أزمة المسلمين بأقصى درجة .

ففي بيت المقدس بدأ بلدوين الأول يقوم ببعض الحملات العسكرية الخاطفة حول المدينة ليختبر قواته العسكرية، وليكتشف الطرق، ويدرب جنوده على الأوضاع الجديدة، ثم ما لبث أن أخذ جيشه وحاصر أرسوف التي سقطت في يده بعد قليل بمساعدة أسطول بحري قدم من جنوة الإيطالية ، ثم أتبع ذلك بحصار قيسارية فسقطت هي الأخرى ، وتعرضت بعد سقوطها لمذبحة بشعة قُتل فيها عدد ضخم من السكان المدنيين ، بل إن السكان عندما احتموا بمسجد المدينة لحقهم الصليبيون بقيادة بلدوين الأول - الذي تصفه المصادر التاريخية بالحكمة!- وقاموا بذبح كل مَن في المسجد من الرجال والنساء والأطفال، حتى تحول المسجد إلى بركة هائلة من دماء المسلمين والمسلمات !

وفي أنطاكية خرج تانكرد ليمارس نشاطه التوسعي بسرعة قبل أن يفكر أحد في ضعف إمارته لفقدها زعيمها بوهيموند، ولقد كان تانكرد لا يقل شراسة ولا قوة ولا خبرة ولا مهارة عسكرية عن خاله بوهيموند ، ولقد استطاع في غضون شهور قليلة جدًّا أن يستولي على ثلاث مدن مهمة في إقليم قليقية شمال أنطاكية ، هي مدن طرسوس وأذنة والمصيصة، وكانت تحت السيطرة البيزنطية ، بل إنه حاصر مدينة اللاذقية المهمة جنوب أنطاكية، والتي اضطر بوهيموند قبل ذلك بأكثر من سنة أن يرفع عنها الحصار بسبب ريمون الرابع وموالاته للدولة البيزنطية ، أما الآن فتانكرد لا يحسب حسابًا أبدًا للإمبراطورية العجوز ، ولذلك نصب جيشه حول اللاذقية بغية إسقاطها ، وهو ما تمَّ له بالفعل، ولكن بعد قرابة السنتين !!

أما في إمارة الرها فقد بدأ بلدوين دي بروج نشاطه بمهاجمة مدينة سروج المسلمة، والتي حاول سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا - وهو من الأمراء المسلمين - أن يستردها عند رحيل بلدوين الأول إلى بيت المقدس ، غير أنه - للأسف - لم يتلقَّ أي مساعدة من الأمراء المسلمين في المنطقة؛ مما أدى إلي إنتصار بلدوين دي بورج عليه بعد قتال شديد، واستبيحت سروج، وأُخذ منها عدد كبير من الأسرى .

كان هذا هو الوضع في مملكة بيت المقدس وإمارتي أنطاكية والرها، فماذا فعل ريمون الرابع ؟! لقد فشل ريمون الرابع في رفع حصار تانكرد من حول اللاذقية، وكنا قد علمنا قبل ذلك أن ريمون يسيطر على اللاذقية لصالح الدولة البيزنطية ، ومن ثَمَّ فقد ترك ريمون المدينة وإنطلق إلى القسطنطينية ليتباحث مع ألكسيوس كومنين كيفية تخليص اللاذقية ، غير أنهم فوجئوا بحدث مهم ضخم غيَّر من حساباتهم ، وأوشك أن يغيِّر من خطط الجميع !!

لقد وصلت جموع هائلة من الغرب الأوربي تسعى للمشاركة في الحملة الصليبية ! لقد سمع الأوربيون بأخبار تأسيس ثلاث إمارات في داخل أراضي المسلمين ، وسمعوا بأخبار الغنائم والأموال والأسلاب، وسمعوا بأخبار الموانئ الإسلامية التي تتساقط في أيدي الصليبيين، وسمعوا عن العقود التجارية التي فازت بها أساطيل الجمهوريات الإيطالية ، وسمعوا عن إستكانة المسلمين غير المتوقعة وفرقتهم وتشرذمهم، لقد دفعتهم كل هذه المعلومات إلى تجميع الأعداد الكبيرة للاستفادة من هذا الموروث السهل !

ولقد وصلت هذه الجموع الهائلة إلى القسطنطينية في (494هـ \ مارس سنة 1101م (خريطة 19) ، وكان أول المجموعات وصولاً هي مجموعة اللمبارديين ، وهم أهل شمال إيطاليا، وكان على رأسهم (أنسلم) رئيس أساقفة ميلانو ، وكان بصحبتهم أيضًا مجموعة من الأمراء الإيطاليين مثل ألبرت وجيوبرت وهيومن وغيرهم ، غير أن عموم الحملة كانوا من الفلاحين والعوام ، وأيضًا من النساء والأطفال ، وكانت هذه الحملة أشبه ما تكون بحملة بطرس الناسك ووالتر المفلس ، ولعلنا نلاحظ أن الحملة العسكرية الأولى كانت بقيادة أدهمار المندوب البابوي (أسقف بوي) ، ثم كانت النجدة الثانية بقيادة دايمبرت رئيس أساقفة بيزا ، وها هو أنسلم رئيس أساقفة ميلانو يقود النجدة الحالية ، ليبرز لنا بوضوح دور الكنيسة في تحريك الجموع بغزو البلاد الإسلامية .

وعندما وصلت هذه الجموع إلى القسطنطينية قاموا بالإفساد الذي تعوَّد عليه شعب أوربا في ذلك الوقت ؛ مما دفع ألكسيوس كومنين أن يعجل بنقلهم عبر مضيق البسفور إلى أرض آسيا الصغرى، حيث توجهوا إلى مدينة نيقية، ليكونوا في انتظار بقية الجموع ، ثم اتفق ألكسيوس كومنين مع ريمون الرابع على أن يرأس ريمون الرابع هذه الجموع لخبرته في المنطقة ، ولدرايته بحروب المسلمين، وليضمن كذلك أن توجه الحملة إلى أطماع ألكسيوس كومنين، لا إلى أطماع تانكرد أو بلدوين الأول أو غيرهما !!

ثم مرَّ شهر أو يزيد ووصلت جموع أخرى من الصليبيين، وخاصة من فرنسا وألمانيا ، وانضمت إلى القوات الأولى في نيقية، ليصل مجموع الحملة الصليبية إلى مائتي ألف في أقل تقدير ! بينما يصل بهم ابن الأثير إلى ثلاثمائة ألف !!

لقد كان جيشًا هائلاً تولى قيادته ريمون الرابع ، وسار بهم في إتجاه دوريليوم ليلحق ببقية الصليبيين في الشام ، وكانت هذه هي رغبة ألكسيوس كومنين أيضًا، حيث كان يريد إعادة السيطرة على المدن التي ضاعت منه هناك ، وكان ريمون يريد لهذه الجموع أن تساعده في إسقاط طرابلس لينشأ له إمارة هناك، إلا أن جموع اللمبارديين رفضت هذا التوجُّه، وأرادت أن تنحرف بالحملة إلى الاتجاه الشمالي الشرقي لتغزو مناطق بني الدانشمند، وذلك بغية فك الزعيم النورماني الكبير بوهيموند من أسره ، ولا ننسى أن جموع اللمبارديين من إيطاليا بلد الزعيم المأسور، وعندما أشار ريمون الرابع إلى صعوبة تحرير بوهيموند المحبوس في قلعة نكسار الحصينة في مناطق جبلية وعرة على ساحل البحر الأسود رفض اللمبارديون إشارته ، وقالوا: إنهم إن فشلوا في تحريره فإنهم على الأقل سيدمرون أهم مدينتين في أقاليم بني الدانشمند ، وهما مديتنا أماسية وسيواس ، وأمام إصرار القوة الرئيسية في الجيش رضخ ريمون الرابع ، وإنحرف بالجيش في الاتجاه الشمالي الشرقي ، فوصلوا إلى أنقرة في (494هـ) أواخر يونية 1101م وإستولوا عليها في سهولة بالغة ، ثم أكملوا طريقهم في اتجاه قسطموني شمالاً !

إنهم يتجهون الآن إلى عمق بلاد الأتراك المسلمين ، فماذا كان ردُّ فعل الملك غازي كمشتكين ؟ وماذا فعل قلج أرسلان الذي كان يتخذ من قونية قاعدة له ؟ ,, لقد قام الملك غازي بالفعل الصائب إذ أرسل إلى قلج أرسلان السلجوقي ليستعين به في حروب الصليبيين، ولم يخيِّب قلج أرسلان ظنَّه ، وجمع جيشه وإنضم إليه ، بل وانضم إليهما بعد ذلك بعض جنود رضوان بن تتش زعيم حلب !

لقد كان خليطًا عجيبًا من زعماء تناحروا قبل ذلك كثيرًا، ولكنهم رأوا أن الدائرة ستدور عليهم قريبًا، وخاصةً أن هذه الجموع تجاوزت المائتي ألف ؛ ولذلك توحدوا !! ومع كون التاريخ غير مبشِّر ، ومع كون القلوب غير صافية إلا أن الوَحْدة - مهما كانت - تؤتي ثمارًا ونتائج ، نعم قد تكون ثمارًا مؤقتة إن لم تكن هذه الوحدة لله ، ولكنها تظل أفضل من الفرقة والتشتت , وهكذا على الرغم من عدم قناعتنا الكاملة بهذه الشخصيات فإنهم استطاعوا أن يفعلوا شيئًا، وشيئًا كبيرًا، لتبقى القاعدة الذهبية الأصيلة : " يد الله مع الجماعة!" .

ماذا فعلت الجيوش الإسلامية المتحدة ؟!

لقد تقدمت فرقة قلج أرسلان أمام الجيش الصليبي ، ثم بدأت تظهر الإنسحاب أمامه لتشجعه على الاستمرار في التقدم ، وفي أثناء هذا الإنسحاب كان السلاجقة يقومون بحرق المزروعات في الحقول ، وبردم الآبار ، وتدمير المؤن والأغذية حتى لا يتركوا فرصة للجيش الصليبي للتزود بأي تموين ، وطال الطريق على الجيش الصليبي ، وبدأ يشعر بالتعب والإنهاك ، وخاصةً أن هذه الأحداث كانت تدور في شهر يوليو من سنة 1101م، والحرارة عالية، وطبيعة الطريق الجبلية والصخرية مرهقة، وأكثر من ذلك أن السلاجقة كانوا يمارسون مع الجيش حروب استنزاف سريعة أثناء حركة الجيش جعلت الحالة النفسية للصليبيين مضطربة، وحاول ريمون أن يثني الجيش الصليبي عن عزمه باقتحام أرض الدانشمنديين ، إلا أن الجيش أصرَّ على تخليص بوهيموند ليكون قائدًا لهم في غزو بلاد الشام !

وإجتاز الصليبيون نهر هاليس ليدخلوا بذلك إلى أرض بني الدانشمند ، وواصلوا تقدمهم شرقًا حتى وصلوا إلى مدينة مرسيفان في منتصف الطريق تقريبًا بين نهر هاليس ومدينة أماسية ، وأدركت عيون الأتراك في ذلك الوقت أن الصليبيين قد بلغوا درجة كبيرة من الإعياء، فنصبوا كمينًا خطيرًا للجيش الصليبي ، وبدأ الصدام المروّع ..

ومع كثرة أعداد الصليبيين فإنَّ اللقاء لم يكن متكافئًا ، فالصليبيون في حالة مزرية من الجوع والعطش والإرهاق وإرتفاع درجة الحرارة، إضافةً إلى وجود أعداد كبيرة من الفلاحين غير المحترفين للقتال ، مع جهل الجميع بطبيعة الأراضي ومسالكها .

لقد كان قتالاً من جانب واحد ، إستطاع فيه المسلمون أن يحققوا نصرًا ساحقًا ، حيث هلك أربعة أخماس الجيش الصليبي، وأُسر معظم الباقين، ولم ينجُ من الجيش إلا مجموعة من الأمراء على رأسهم ريمون الرابع ، والذين نجوا بأنفسهم عندما رأوا الدائرة تدور على جيشهم، ووصلوا في فرارهم إلى القسطنطينية !

فَقَد الجيش الصليبي في هذه المعركة أكثر من مائة وستين ألف مقاتل، وفقدوا نساءهم وأطفالهم وأموالهم وسلاحهم ، وفقدوا سمعتهم وهيبتهم، وكانت هذه الأحداث في (494هـ) أوائل أغسطس سنة 1101 .

ولم تكن هذه هي الكارثة الأخيرة للصليبيين في هذه الظروف ، إذ إنه في هذه الأثناء وصلت مجموعة أخرى من الصليبيين للقسطنطينية ، وكانت هذه المجموعة مكونة من خمسة عشر ألفًا من الفرسان والمشاة الفرنسيين ، على رأسهم وليم الثاني كونت نيفرز Nevers ، وكان وصول هذه المجموعة في أثناء القتال الدائر في مرسيفان ، وانطلق وليم الثاني في أراضي آسيا الصغرى، ووصل إلى أنقرة ودخلها بسهولة ، غير أنه لم يدرك أي الطرق سلك الجيش الصليبي الأول ، وحيث إن الجيش الصليبي الأول قد هلك بكامله تقريبًا، ومن فرَّ منه فرَّ في اتجاه الشمال ؛ فإن الكونت وليم لم يعرف إلى أي الاتجاهات يسير ، ثم إنه في النهاية توجه بجيشه جنوبًا إلى هرقلة ، وهناك كانت الأنباء قد وصلت إلى القوات الإسلامية المتحالفة بوصول هذا الجيش الصليبي الجديد، فنزلوا مسرعين في اتجاه هرقلة ، وهم في حالة معنوية مرتفعة جدًّا لإنتصارهم الباهر في المعركة السابقة ، وكان اللقاء حاميًا في هرقلة في أواخر أغسطس سنة 1101م، وكان بالنسبة للمسلمين نزهة عسكرية بالقياس إلى اللقاء السابق ! وما هي إلا ساعات قليلة وفَنِي الجيش الصليبي بكامله، ولم ينجُ منه إلا زعيمه الكونت وليم الثاني كونت نيفرز، ومعه ستة من خاصَّته وأتباعه ! وتُعرف هذه المعركة في التاريخ بمعركة هرقلة الأولى؛ تمييزًا لها عن معركة هرقلة الثانية التي دارت بعدها بأقل من أسبوعين .

أما قصة معركة هرقلة الثانية فتبدأ بوصول المجموعة الثانية من هذه النجدة الصليبية التعيسة، حيث وصل إلى القسطنطينية ستون ألف مقاتل من فرنسا وألمانيا ، على رأسهم وليم التاسع دوق أكوتيين وولف الرابع دوق بافاريا ، وإتجهت هذه المجموعة مباشرة إلى هرقلة عبر قونية ، ومارس معها المسلمون نفس الأسلوب الذي مارسوه مع الحملة الأولى، حيث استدرجوهم إلى هرقلة بعد إتلاف المزروعات وطَمْر الآبار، فوصل الجيش الصليبي إلى هرقلة في أوائل سبتمبر من سنة 1101م في حالة مأساوية من الجوع والعطش والإنهاك ، وما لبثت المعركة أن بدأت لتصل في خلال ساعات إلى نفس النتيجة حيث أُبيد الجيش الصليبي بكامله ، ولم ينجُ إلا الأمراء الذي هربوا إلى أنطاكية !!

ولعله من الملاحظ في المعارك الثلاثة أن أمراء الجيش الصليبي كانوا يفتحون لأنفسهم طريقًا للهرب تاركين الجموع المسكينة لمصيرهم المشئوم !

وهكذا دائمًا طبيعة الجيوش التي تفتقر إلى قضية ، ولا يحرك القائد فيها إلا شهوته للتملُّك ورغبته في التوسع ! لقد كان ثلاث معارك هائلة في أقل من شهرين فَقَد فيها الصليبيون قرابة ربع مليون مقاتل ، إضافةً إلى الغنائم والسبي ، ولا شك أن حدثًا كبيرًا كهذا كان له من الآثار ما لا يحصى ، ولعله من المناسب أن نقف وقفة لنتدبر في نتائج هذه المعارك المهمة، وأثرها على سير الأحداث :

أولاً : إرتفعت معنويات المسلمين في كل مكان، ليس في آسيا الصغرى فقط ولكن في كل العالم الإسلامي، فالمسلمون كانوا يفتقرون إلى نصر يعيد لهم ثقتهم في أنفسهم، ويُهوِّن عندهم قوة الصليبيين، وهذه المعنويات المرتفعة - وإن لم يكن لها مردود سريع - رسَّختْ في الأذهان فشل الادِّعاء القائل بأن الصليبيين قوة لا تقهر ، وهذه خطوة مهمة في بداية التغيير .

ثانيًا : من المفترض أن المسلمين فهموا بعد هذه المعارك الثلاث بعض أسباب النصر ، ولعل من أبرز هذه الأسباب وضوحًا الجهاد والوحدة .

فالحقوق لا تعود إلى أصحابها عن طريق إقناع المعتدين بالعدول عن إعتدائهم ، ولا عن طريق طاولة مفاوضات، ولا عن طريق وساطة غربية ولا شرقية، إنما تعود الحقوق بالدفاع الجريء عنها، وبالصمود الطويل ، وبالصبر الجميل، وبالإعداد والتجهيز، وبذل الوسع والطاقة؛ وهو ما وَضَح لنا جميعًا في خطوات سير المعارك الثلاث .

كما أن الوَحْدة بين قلج أرسلان وكمشتكين ضاعفت القوة ، وسددت الرمية ، وأزعجت الأعداء، وأرهبت صدورهم؛ مما قاد إلى النصر بشكل طبيعي مفهوم .

ثالثًا : للأسف الشديد، وللمرة الثانية في حروب السلاجقة والدانشمنديين، لم نر التوجه الإسلامي واضحًا في الحرب التي خاضوها ، ولم تنقل المصادر إلينا إشتياقًا إلى الشهادة ، أو رغبة في دخول الجنة ، إنما أخذت المعارك الطابع القومي والوطني ، وطابع الحفاظ على الأراضي والديار والأملاك ، وهذا وإن كان من الممكن أن يحقق نصرًا كما رأينا ، إلا أن هذا النصر يكون مرحليًّا غير ممتد؛ لأن الله لا يتم نصره إلا لمن قاتل في سبيله ، ووحَّد وجهته كلها لله , ومما يؤكد قومية التوجه عند الأتراك في هذه المعارك أنهم لم يسعوا إلى إستغلال هذا النصر والتفوق في تحرير المدن الإسلامية المحتلة ، مع قربها الشديد من أرضهم ، وخاصةً أنطاكية والرها .

رابعًا : مع حلاوة هذا النصر وبريقه فإنَّ قادة المسلمين في الشام كانت على أعينهم غشاوة سميكة جدًّا، فلم يفهموا هذا النصر ، ولم يعلموا أسبابه ، بل لم يفكروا في إستغلال أزمة الصليبيين بفقدان هذا العدد الهائل من الجنود ، ومن ثَمَّ لم يسعوا إلى تحرير أوطانهم وديارهم .

خامسًا : تفرغ الأتراك في آسيا الصغرى بعد هذه المعارك إلى بسط سيطرتهم على المدن هناك، فسيطر قلج أرسلان على وسط آسيا الصغرى ، واتخذ قونية عاصمة له ، بينما ركَّز كمشتكين بن الدانشمند جهوده في الشرق، وأسقط ملطية تحت سيطرته .

سادسًا : أغلقت هذه المعارك الطريق البري من القسطنطينية إلى أرض الشام أمام القوات الصليبية ، وظل هذا الطريق مغلقًا قرابة قرن كامل من الزمان حتى زمان الإمبراطور الألماني فردريك باربروسا في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي ؛ مما يشير إلى مدى الرهبة التي تُلقى في قلوب أعداء الأمة إذا رُفعت راية الجهاد والمقاومة .

سابعًا : أدى انغلاق الطريق البري لأرض الشام أن نشطت جدًّا حركة السفن في البحر الأبيض المتوسط للوصول بالإمدادات والمؤن والجيوش إلى الموانئ الشامية والقسطنطينية، ولما كانت معظم هذه السفن مملوكة للجمهوريات الإيطالية فإنَّ دور هذه الجمهوريات أصبح مؤثرًا جدًّا في أحداث الحروب الصليبية، ولعشرات السنوات المقبلة .
ثامنًا: أدت هذه الانتصارات الإسلامية إلى قلق الصليبيين في الشام ، وهذا أدى بدوره إلى توقف حركاتهم التوسعية ، وقناعتهم بالاكتفاء بالحفاظ على ما بأيديهم ، خاصةً أن هزيمة الصليبيين كان لها وقع سيِّئ جدًّا على الغرب الأوربي مما عوَّق جهود الكنيسة في جمع المقاتلين .

تاسعًا : أدت هذه الانتصارات إلى اقتناع الدولة البيزنطية أن قوتها أضعف من أن تخوض قتالاً مباشرًا مع الأتراك في داخل آسيا الصغرى ، ومن ثَمَّ لم تحاول أن تدخل جيوشها إلى هذه المناطق إلا بعد وفاة قلج أرسلان بعد ذلك بست سنوات .

عاشرًا : نتيجة سلبية خطيرة لهذا النصر ، وهي أن البيتين التركيين الكبيرين : البيت السلجوقي ، والبيت الدانشمندي دخلا في صراع محتدم بعد هذا الإنتصار، فقد تفرَّغ كل منهما للآخر ، ولم يفهما قيمة الوحدة التي أنعم الله بها عليهما في وقت من الأوقات ، ومن ثَمَّ نظر كل طرف إلى مصالحه الخاصة، وإلى أطماعه التوسعية ؛ ولما كانت مساحة آسيا الصغرى محدودة ، فكان لا بد من التوسع على حساب الطرف الآخر ! كما أن وفرة الغنائم وكثرة الأموال كانت من العوامل التي أغرت الطائفتين بنسيان الأصول الإسلامية ، والتفرُّغ لجمع الدنيا !!

لكن على العموم فإن هذه المعارك التي حدثت أدت إلى خروج آسيا الصغرى تقريبًا من موازنات الحروب الصليبية ، حيث أخرجها الصليبيون من حساباتهم لفترة طويلة ، كما أخرج سكانها المسلمون بقيَّة القضايا الإسلامية - وعلى رأسها احتلال الشام وفلسطين - من حساباتهم ، وصارت قضية احتلال القدس وغيرها من المدن الإسلامية وكأنها من قضايا الشأن الداخلي التي تخص الفلسطينيين والشاميين ، ولا دخل لبقية المسلمين فيها، وهذا - لا شك - قصور كبير في الفَهْم، وبُعد هائل عن حقيقة الشرع وطبيعة الدين !

عودة إلى الإمارات الصليبية في الشام وفلسطين !

قبل أن تصل أخبار الهزيمة الصليبية الفادحة إلى بيت المقدس كان بلدوين الأول يرتب أمور مملكته الجديدة ، وبينما هو منهمك في هذا الترتيب إذ بالجيوش العبيدية (الفاطمية) تظهر في الصورة !

لقد رغبت الدولة العبيدية - كما شرحنا قبل ذلك - في التفاهم مع الصليبيين لتقسيم البلاد معهم، فتكون الشام للصليبيين وتكون فلسطين للدولة العبيدية، غير أن هذا لم يعجب الصليبيون، وإستمروا كما رأينا في احتلال الأراضي حتى أخذوا فلسطين بكاملها، وأسقطوا بيت المقدس في قبضتهم في (492هـ) يوليو 1099م، ولا شك أن هذا لم يأتِ موافقًا لأطماع ورغبات الدولة العبيدية ، ولم يكن هذا بالطبع لأي نخوة إسلامية، ولا لتقديس مدينة القدس ومسجدها الأقصى، إنما كان لرغبات التوسع والتملك والسيطرة، ولتأمين الحدود الشرقية المتاخمة مباشرة لفلسطين .. وبعد ما يقرب من سنتين، وتحديدًا في (494هـ) مارس 1101م فكر العبيديون في استرداد بيت المقدس وقتال بلدوين الأول، وجاءوا بجيش كبير يقوده سعد الدولة القواسي الذي كان حاكمًا لبيروت من قبلُ ، وعسكر هذا الجيش في عسقلان، وهي - كما نعلم - ما زالت تحت السيطرة العبيدية، وبدأ الجيش في الاستعداد لخوض معركة مهمة مع الصليبيين، ولكن من الواضح أن خطوات الجيش العبيدي كانت متثاقلة جدًّا، فقد أخذوا أكثر من ستة أشهر في الاستعداد، وأخيرًا خرجوا في (494هـ) أوائل سبتمبر سنة 1101م لقتال الصليبيين، مضيعين بذلك فرصة الصيف الحار الذي لا يألفه الأوربيون، إضافةً إلى إعطاء الصليبيين فرصة التجهز والاستعداد للمعركة المقبلة .

وفي منطقة الرملة ، وفي يوم 7 من سبتمبر سنة 1101م، حدث الصدام الذي يعرف في التاريخ بموقعة الرملة الأولى بين الجيش العبيدي في عدد كبير، والجيش الصليبي بقيادة بلدوين الأول في أعداد قليلة لكن حسنة التنظيم ، ومع أن أعداد العبيديين كانت تفوق كثيرًا أعداد الصليبيين فإنهم هُزموا سريعًا ، وسقط قائدهم سعد الدولة القواسي صريعًا في أرض المعركة ، وقُتل منهم عدد كبير، وفر الباقون إلى عسقلان الحصينة ، وغنم الصليبيون كل ما كان مع الجيش العبيدي من سلاح ومؤن وآلات .

لقد كانت ضربة موجعة للدولة العبيدية في مصر!

وإهتز الوزير الأفضل بن بدر الجمالي المسيطر على الأمور في مصر، وقرَّر أن يرسل حملة أخرى لرد الاعتبار ، لكن تجهيز هذه الحملة أخذ أكثر من ثمانية أشهر، جعلت الأمور تستقر إلى حد كبير في منطقة بيت المقدس ! وهكذا وصلت أنباء الهزيمة القاسية للجيوش الصليبية في آسيا الصغرى مع أنباء هزيمة الدولة العبيدية في الرملة ، مما أعاد الثقة نسبيًّا إلى الصليبيين .

ورأى ريمون الرابع كونت تولوز - الذي فشل حتى هذه اللحظة في تحقيق أي طموح - أنَّ عليه أن يسعى حثيثًا لتكوين إمارة له في منطقة لبنان ، وقد رأينا رغبته السابقة في منطقة طرابلس الحصينة، ورأينا فشله في تحقيق مطامع بالمنطقة؛ نتيجة تنافسه مع زعماء الحملة الصليبية جميعًا، ورأينا فشله في تحقيق طموح مع القوات الصليبية الجديدة التي إنتهى أمرها - كما رأينا - إلى السحق التام تحت أقدام المسلمين ، ووجد ريمون الرابع أن علاقته بالإمبراطور البيزنطي لم تساعده في شيء، بل أعطت انطباعًا عند زعماء الحملة الصليبية أن ريمون خائن لهم وللمشروع الصليبي، لدرجة أن ريمون الرابع عندما غادر القسطنطينية في (495هـ) يناير 1102م متجهًا إلى ميناء السويدية جنوب أنطاكية ليمارس نشاطه من جديد في محاولة إنشاء إمارة خاصة به، قبض عليه أحد رجال تانكرد أمير أنطاكية بتهمة الخيانة للصليبيين ، واعتقله تانكرد بالفعل في سجن أنطاكية ، وإتهمه بالتواطؤ مع الدولة البيزنطية ، بل وبتعمد إهلاك الجيوش الصليبية لصالح البيزنطيين، وكادت أن تحدث مشكلة ضخمة بين الصليبيين؛ لأن ريمون الرابع وراءه جيش كامل من البروفينساليين ؛ ولذا تدخل زعماء الصليبيين عند تانكرد لإطلاق ريمون، فلم يطلقه إلا عندما اشترط على ريمون أن يكفَّ عن المطالبة بأية حقوق في أنطاكية أو اللاذقية، ووافق ريمون وأطلق سراحه، وخرج من أنطاكية مسرعًا في اتجاه لبنان، وفي طريقه إلى هناك حاصر طرطوس (في سوريا الآن) ، وسانده في هذا الحصار أسطول جنويّ ، وبالفعل سقطت طرطوس في (495هـ) فبراير 1012م، واتخذها ريمون قاعدة لأعماله، ومركزًا للانطلاق نحو طرابلس بعد ذلك .

ومع أن جيش ريمون كان قليلاً جدًّا يقدر بالمئات فقط، فإنَّه لم يتردد في حصار طرابلس بهذا العدد القليل من الجند ! إنها معركة البقاء والوجود! إن خسائره أصبحت كثيرة، ولا بد من العمل الجاد قبل أن يفقد كل شيء .

وفي داخل طرابلس وجد ابن عمار - الذي كان شيعيًّا منفصلاً عن الدولة العبيدية - نفسَه وحيدًا في حصاره ، ولم يفكر في الاستنجاد بالدولة العبيدية لأنه يعلم مطامعها في إمارته، فأرسل رغمًا عن أنفه إلى اثنين من ألدِّ أعدائه وهما : دقاق ملك دمشق ، وجناح الدولة ملك حمص ؛ فهما أقرب المدن إليه، ولكنهما من السُّنَّة، والخلاف بينهما عميق، ولم يكن ابن عمار يتردد في إرشاد الجيوش الصليبية إلى الطرق التي تنجِّيهم من جيوش دقاق، أما الآن فالوضع مختلف، والقضية - لا شك - ليست قضية إسلامية، لا عند ابن عمار، ولا عند دقاق أو جناح الدولة، ولكنها المصالح الذاتية فقط !

ولم يتردد الزعيمان المسلمان في قبول المساعدة، فهي فرصة قد تعطيهم إمارة طرابلس، وجيوش ريمون قليلة يسيرة، وهزيمته كانت قريبة في آسيا الصغرى على يد قلج أرسلان وكمشتكين بن الدانشمند، وهكذا انطلق الزعيمان لنجدة ابن عمار !

ومع كون الجيوش الإسلامية الثلاثة لدقاق وجناح الدولة وابن عمار كانت أكثر بكثير من جيش ريمون، فإنَّ ريمون استطاع أن ينتصر عليهم، وأن يشتِّت شملهم، بل يروي ابن الأثير أن ريمون قتل من المسلمين سبعة آلاف، مع أن جيشه كان بضع مئات! وفر جيش ابن عمار إلى داخل طرابلس، وهربت جيوش دقاق وجناح الدولة إلى مدنهما، وعاد ريمون إلى حصار طرابلس. وإزاء هذا الوضع عرض ابن عمار دفع الجزية لريمون، فقَبِل ريمون نظرًا لعلمه أن إسقاط طرابلس بهذا العدد القليل يكاد يكون أمرًا مستحيلاً، وبهذا عاد ريمون إلى طرطوس في مارس أو إبريل من سنة 1102م .

لكن ريمون ما عاد إلى طرطوس ليستريح ، إنما عاد ليُعِدَّ العدة لهجوم جديد، ومن ثَمَّ فقد خرج بعد أيام من عودته في (495هـ) إبريل 1102م إلى بعض الحصون التابعة لمدينة حمص، مثل حصن طوبان وحصن الأكراد وغيرهما ، وأخذ في حصارها ومهاجمتها مستغلاًّ فرار جيوش جناح الدولة منه قبل ذلك، وبينما هو في حصاره هكذا حدثت كارثة في مدينة حمص توضح مدى الانحدار الذي وصلت إليه الأمة في ذلك الوقت؛ إذ كان هناك خلاف قديم بين رضوان ملك حلب وجناح الدولة حسين بن ملاعب ملك حمص، ومع أن حسين بن ملاعب ملك حمص كان متزوجًا من أم رضوان بن تتش، إلا أن رضوان أقدم على جريمة بشعة في توقيت خطير، وهي جريمة قتل جناح الدولة ملك حمص وزوج أمه، وقام بتنفيذ هذه المهمة عن طريقة ثلاثة من الباطنية الإسماعيلية الذين اشتهروا بمثل هذه الجرائم، حيث قُتل جناح الدولة في مسجد حمص الكبير أثناء تأديته للصلاة، وكان ذلك 495هـ\ في مايو سنة 1102م !

إنها لجريمة كبرى حقًّا !

ليست فقط لإزهاق روح مسلمة بغير وجه حق، وليست فقط لارتكابها غِيلَةً أثناء الصلاة وفي داخل المسجد، وليست فقط لأنها في حق زوج أمه، ولكن لأنها تمت في مثل هذه الظروف القاسية التي تتعرض لها الأمة !

لم ينظر رضوان مطلقًا إلى وجود حمص في مواجهة جيش ريمون الرابع، ولم ينظر إلى الأزمة التي تتعرض لها البلاد، ولم ينظر إلى حالة الاضطراب التي ستئُول إليها الأحداث بعد مقتل زعيم المدينة، وإنما نظر فقط إلى إشفاء غليله، وإرضاء نفسه، والانتقام لكبريائه !

وهكذا فقدت حمص زعيمها في وقت حرج، وعلم ريمون الرابع بهذه الأحداث، فأخذ بقية جيشه بسرعة وتوجه مباشرة إلى مدينة حمص ذاتها ليضرب عليها حصارًا بغية إسقاطها ، إلا أنهم استنجدوا بدقاق ملك دمشق ، فوجدها دقاق فرصة لتوسيع ملكه ، ومن ثَمَّ جاء بجيشه لضمها إلى دمشق ، ورأى ريمون أنه سينحصر هكذا بين جيشي حمص ودمشق؛ فرفع الحصار وعاد إلى طرطوس، ووضع دقاق يده على مدينة حمص ليضمها في (495هـ) مايو 1102م إلى مملكته، وأناب عنه في حكمها أحد قوَّاده وهو طغتكين .

واستقرت الأوضاع نسبيًّا في هذه المنطقة، حيث هدأ ريمون بعض الوقت لكي يزيد من قوته وإمكانياته استعدادًا لحصار طرابلس، ورضي منه دقاق بهذا الهدوء، فلم يسعَ مطلقًا إلى الهجوم عليه أو استفزازه، وكأنَّ البلاد التي وضع ريمون يده عليها أصبحت من حقِّه كأمر واقعي لا بد من الاعتراف به !

ونعود إلى بيت المقدس، وقد مرت الأيام والشهور ، وعاد العبيديون بجيش كبير للانتقام لهزيمتهم في معركة الرملة الأولى في سبتمبر 1101م، وكان عودتهم إلى عسقلان في شهر مايو 1102م، أي بعد مرور أكثر من ثمانية أشهر على الكارثة الأولى ، وكان جيشهم بقيادة شرف المعالي وهو ابن الوزير الأفضل بن بدر الجمالي، مما يعطينا فكرة عن أهمية هذه الحملة .

وحشد بلدوين بضعة آلاف من جنوده في منطقة يافا، وخرج في مهمة استطلاعية بين يافا والرملة، ولم يكن معه سوى مائتين من الفرسان، وباغته العبيديون هناك، حيث اضطربت صفوفه، واضطر إلى قتالٍ مفاجئ، وقُتل من رجاله عدد كبير وفر الباقون، فمنهم من فر إلى يافا، ومنهم من فر إلى الرملة، وكان بلدوين ممن فر إلى الرملة، وكان هذا في (495هـ) 17 من مايو 1102م .

حاصر العبيديون الرملة ليفتكوا ببلدوين الأول غير أنه هرب منها ليلاً متجهًا إلى يافا، وسقطت الرملة في أيدي العبيديين ، وأرسلوا فرقة سريعة لحصار يافا ، فغيَّر بلدوين الأول من مساره وذهب إلى أرسوف في شمال يافا ، وجمع من كان بها من الصليبيين، وأخذهم عن طريق البحر إلى يافا لنجدة الجيش الصليبي هناك، وإستعان بأسطول إنجليزي مكون من مائتي سفينة كان يحمل كثيرًا من الجنود والحجاج، ودخل بلدوين الأول فعلاً إلى يافا من الميناء البحري على الرغم من وجود السفن العبيدية ، وأخذ في تنظيم جيوشه في داخل المدينة ، ثم في (495هـ) يوم 27 من مايو 1102م خرج بلدوين الأول على رأس جيوشه لمقابلة الجيش العبيدي خارج أسوار يافا ، وللأسف فإنه في خلال بضع ساعات هُزم الجيش العبيدي هزيمة ساحقة ، ولم يفقد الجيش الصليبي عددًا يذكر من رجاله، وفرَّ العبيديون إلى عسقلان للمرة الثانية في خلال ثمانية أشهر لتتفاقم الأزمة العسكرية للدولة العبيدية، بينما يزداد الصليبيون ترسيخًا لأقدامهم في المنطقة!
وعاد بلدوين الأول إلى بيت المقدس ليرتب أوضاعه فيها، وكان من أهم الأعمال التي قام بها استقبال مندوب البابا باسكال الثاني الذي جاء للتحقيق في أمر دايمبرت أسقف بيت المقدس، وكان بلدوين الأول قد أرسل إلى البابا يشكو له سوء سلوك دايمبرت، وأن هناك الكثير من الشبهات في تصرفاته، وجاء مندوب البابا - وهو الأسقف إبرمار - وحقق في الأمر، وسرعان ما أثبت - بمعونة بلدوين الأول بالطبع - أن دايمبرت مُدان في تصرفاته، وتم عزله عن الأسقفية المهمة، وتولى إبرمار مكانه، وبذلك تخلص بلدوين الأول من أشد منافسيه على الكرسي ، ولم يعبأ بلدوين الأول بعد ذلك باعتراضات تانكرد النورماني أمير أنطاكية، فقد صار بلدوين أقوى زعماء الصليبيين بلا منازع .

ولا ينبغي أن يجعلنا هذا التصرف من بلدوين أن نفهم أن سلطان الكنيسة ذهب بالكلية عند قيام حكومة علمانية ملكية في بيت المقدس، بل ظل للكنيسة نفوذ كبير، وإن كان في معظمه نفوذ بعيد عن سلطة أخذ القرار السياسي، وإنما هو نفوذ اقتصادي واسع؛ فقد تميزت الأديرة والكنائس في الإمارات الصليبية بوفرة الثروة واتِّساع الأملاك، ويكفي أن نعرف أن دير جبل صهيون في بيت المقدس - على سبيل المثال - امتلك في سنة (583هـ) 1178م حيًّا بأكمله في مدينة القدس ذاتها، وكذلك كان لنفس الدير ممتلكات وأراضٍ وبساتين وأسواق في عسقلان ويافا ونابلس وقيسارية وعكا وصور وأنطاكية وقليقية، بل إن الدير نفسه كان يملك ضياعًا وأملاكًا في أوربا: في صقلية، وإيطاليا، وفرنسا! ولا شك أن هذه الأملاك الواسعة أثارت حقد النبلاء والأمراء، خاصةً أن أملاك الكنيسة كانت مُعفاة من الضرائب ، وكان رجال الكنيسة معفيين من الخدمة العسكرية كذلك، فهذا رفع تساؤلات ضخمة في أذهان الأمراء الذين ما شعروا أن للدين أثرًا في حياتهم يوازي هذه المكانة الضخمة التي تتمتع بها الكنيسة، ومع ذلك فهذا واقع كان لا بد من قبوله، ولم يثر عليه عامة الأوربيين إلا بعد عدة قرون !

وهكذا بينما نحن نتحدث عن استقرار الأوضاع الداخلية في الإمارات الصليبية كانت الأحوال تزداد سوءًا في الإمارات الإسلامية! ولم يقف الحد عند النزاع بين الإمارات بعضها وبعض، وإنما وصل إلى النزاع الداخلي في كل إمارة، وليس أدل على ذلك مما حدث في الموصل في (495هـ) أواخر سنة 1102م عندما مات كربوغا أمير الموصل، فتنازع الملك في الموصل بعده اثنان هم سنقرجة وموسى التركماني، فقُتل سنقرجة في النزاع وتولى موسى التركماني، ليُقتَل بعد قليل على يد جكرمش الذي تولى إمارة الموصل، ولن يدوم الأمر له طويلاً بل سيظهر من ينافسه وهكذا !!

إنه في ظل هذه الأوضاع المتردية ، من غياب الشرع في حياة الناس ، وحب السلطة والتملك، وذهاب الوحدة، وانفصام العروة، كان لا بد للكيان الصليبي أن يُزرع في داخل قلب الأمة الإسلامية! ولا عجب إن قلنا إنه في أثناء هذا الصراع في الموصل، وفي (495هـ) أواخر سنة 1102م سقطت مدينة اللاذقية - وهي ميناء شامي في غاية الأهمية - في يد تانكرد أمير أنطاكية بعد حصار سنة ونصف تقريبًا، دون أن يتحرك لها أحد من المدن القريبة: حلب أو حماة أو حمص، وهكذا صار لإمارة أنطاكية واجهة عريضة على البحر سهَّلت لها بعد ذلك - ولمدة عشرات السنين - وصول الإمدادات البحرية من أوربا؛ مما أسهم في طول بقائها وإستقرارها .

ولعل من الأحداث التي رأيناها في سنة (496هـ) 1103م ما يدلنا أيضًا على تردِّي الأخلاق بدرجة كبيرة عند زعماء المسلمين، فلم تكن القضية - كما كانت في الموصل - نزاعًا على كرسي الحكم فقط، بل وصل الأمر عند البعض إلى المخاطرة بكل مصالح المسلمين من أجل حفنة من دنانير، أو اتفاقية تعاون مشترك مع الصليبيين !

من هذا ما حدث في سنة (496هـ) أوائل 1103م من تفاوض بشأن الأمير الأسير بوهيموند النورماني ، والذي ظل كما نعرف في قبضة الملك غازي كمشتكين ثلاث سنوات كاملة حتى الآن ، وكان حبيسًا في قلعة نكسار الحصينة على ساحل البحر الأسود في شمال آسيا الصغرى .

لقد أراد بلدوين دي بورج أمير الرها بالاشتراك مع برنارد بطرك أنطاكية أن يسعى لتحرير بوهيموند من الأسر، وذلك لخشية بلدوين دي بورج من أحلام تانكرد التوسعية ؛ ولما كان بلدوين دي بورج يعلم أن الحل العسكري لن يجدي في هذه القضية، خاصةً أن أخبار الحملة الصليبية الفاشلة في سنة (494هـ) 1101م لا يمكن أن تُمحى من الذاكرة، أراد بلدوين دي بورج أن يحل الموقف سياسيًّا، فدعا إلى مباحثات مشتركة مع الملك غازي كمشتكين أمير الدانشمند لينظر فيما يطلب لإطلاق سراح بوهيموند النورماني، وتمَّ اللقاء فعلاً، ودُرس الموقف، لكن لم يتوصل الفريقان إلى نتيجة حاسمة . في ذلك الوقت علم الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين بهذه المفاوضات ، وكان الإمبراطور البيزنطي يكره بوهيموند كراهية شديدة، ويشعر أنه لعب به ، وأغراه بالصداقة والولاء والتبعية، ثم تنكَّر لكل ذلك وامتلك أنطاكية، بل تجرأ تابعه وإبن أخته تانكرد على أخذ مدن أذنة والمصيصة وطرسوس في أقليم قليقية شمال أنطاكية ، ثم أخيرًا أسقط تانكرد اللاذقية المتنازع عليها بين الصليبيين والبيزنطيين ، وبذلك ضربت كرامة الدولة البيزنطية في الأعماق، وخاصةً أن تاريخ بوهيموند في عدائه للبيزنطيين طويل، ويسبق الحروب الصليبية بسنوات عديدة؛ ولذلك لما علم الإمبراطور البيزنطي بهذه المفاوضات قرر أن يدخل في اللعبة السياسية ويتفاوض مع الملك غازي على بوهيموند، وبالفعل تقدم بعرضٍ في غاية السخاء قيمته مائتان وستون ألف دينار في مقابل تسلُّم بوهيموند النورماني ! وكان الإمبراطور البيزنطي لا يريد فقط الانتقام من بوهيموند، بل كان ينوي أن يفعل ما لم يفكر المسلمون أن يفعلوه طيلة السنوات الثلاثة التي امتلكوا فيها أمر بوهيموند، فقد كان يريد أن يساوم النورمان في أنطاكية على بوهيموند، ومن ثَمَّ يستطيع امتلاك مدينة أو عدة مدن نظير إطلاق بوهيموند، ولا شك أن الإمبراطور البيزنطي كان يعلم قيمة بوهيموند عند النورمان، وليس أدل على ذلك من توجه الحملة الصليبية التي أتت في سنة (494هـ) 1101م بكاملها لنجدة بوهيموند، لولا أنها هلكت كما تبيَّن لنا.
وجاء العرض مغريًا جدًّا للملك غازي كمشتكين بن الدانشمند ! إنه لا يقاتل إلا من أجل التملك والتوسع وتكثير الأموال والثروات، وها هو مبلغ هائل سيدخل جيبه دون جهد يذكر !

إن الأمر يستحق فعلاً أن يُعطى جانبًا كبيرًا من التفكير!!
ومن علم أيضًا بأمر هذه المفاوضات؟!!
لقد علم بها القائد السلجوقي الشهير قلج أرسلان، وهو الذي يقود البيت التركي الثاني في أرض آسيا الصغرى، وهو الذي ورث هو وإخوانه العداء مع بيت بني الدانشمند، فسال لعابه لهذه الثروة الطائلة التي ستدخل عما قريب لخزينة الدانشمنديين، فأرسل من فوره رسالة إلى الملك غازي يطالب فيها بنصف المبلغ عند تسلُّمه، وذلك نظير المساعدة التي قدمها قلج أرسلان في سنة (494هـ) 1101م للملك غازي في حربه ضد الحملة الصليبية .

إنها لم تكن حربًا لله إذن !

إن الحرب كانت دفاعًا عن الوجود والسلطة، وهي أيضًا طلبًا للمال والثروة، أما المعاني الإسلامية الرفيعة من إخلاص وتجرد ونصرة للدين وحب للجنة وجهاد في سبيل الله، فهذه ليست لها مكانة في قلوب زعماء ذلك الزمن !

وفكر الملك غازي في طلب قلج أرسلان، إنه بذلك لن يحصل إلا على مائة وثلاثين ألف دينار، وهذا وإن كان مبلغًا كبيرًا جدًّا، إلا أنه يطمع في الأكثر والأكثر، ثم إنه لا يقبل أن يرضخ لطلب من طلبات قلج أرسلان .

إنه في حيرة حقيقية من أمره !! وفي هذه الأثناء تدخل طرف آخر في المفاوضات؛ لقد تدخل بوهيموند نفسه! ولا شك أنه في ظل هذا الفساد سيكون هناك من يتطوع في نقل الأخبار إلى بوهيموند في سجنه نظير وعد بمال أو إقطاع أو غير ذلك، وإزاء هذه العروض من الإمبراطور البيزنطي والسلطان قلج أرسلان ومحاولات بلدوين دي بروج تقدَّم بوهيموند للملك غازي بعرضه !!

لقد قال له بوهيموند : إن الأمبراطور البيزنطي عدو مشترك لنا جميعًا ، فهو يتنازع مع الجميع من أجل الحصول على مدن آسيا الصغرى ، وكذلك قلج أرسلان هو عدو لنا جميعًا ! هكذا ! فأطماع قلج أرسلان في آسيا الصغرى تتعارض - ولا شك - مع أطماع بوهيموند ، وأيضًا مع أطماع الملك غازي ، وعليه فإن تسليم بوهيموند إلى الإمبراطور البيزنطي أو إعطاء المال لقلج أرسلان سوف يضر بمصالح غازي قبل أن يضر بالأمير بوهيموند، وعلى هذا فالعرض الذي يتقدم به بوهيموند هو جمع مبلغ مائة ألف دينار من إمارة أنطاكية وأصدقائها، وإعطاء هذا المبلغ للملك غازي كفدية ، إضافةً إلى تعاهدٍ بين الفريقين : الملك غازي والأمير بوهيموند على التعاون المشترك بعد ذلك في القضايا السياسية والاقتصادية والعسكرية، وتصبح إمارة أنطاكية الصليبية دولة صديقة لإمارة بني الدانشمند المسلمة !

إنه عرض في غاية الإغراء للملك الطموح غازي بن الدانشمند !! ,, إنه أولاً سيأخذ مبلغًا من المال في غاية الضخامة؛ نعم هو أقل من عرض الإمبراطور البيزنطي، لكنه في النهاية مبلغ كبير جدًّا ، ويكفي لنعرف حجمه أن ندرك أن إمارة أنطاكية بمفردها لم تستطع أن تجمع المبلغ ، بل إستعانت بإمارة الرها وبعائلة بوهيموند في صقلية ، ويكفي أن نعرف أيضًا أنه عندما يتم أسر بلدوين دي بورج لاحقًا ستكون الفدية خمسة ألف دينار فقط !

وثانيًا هو لن يساهم في تقوية شأن الإمبراطور البيزنطي الذي ينافسه على أرض آسيا الصغرى .

وثالثًا ستكون هذه طعنة مباشرة لقلج أرسلان عدوه اللدود .

ورابعًا سيفوز الملك غازي بصداقة الأمير الأسير بوهيموند، وستقوم علاقات دبلوماسية مهمة مع الإمارة الصليبية أنطاكية .

وإزاء هذا العرض المغري وجد الملك غازي نفسه لا يستطيع الرفض، ومن ثَمَّ قرر أن تتم الصفقة في ملطية، وكانت تحت سيطرة الملك غازي في ذلك الوقت .

ووصلت الأخبار إلى أنطاكية، وأسرع رجال بوهيموند بالاشتراك مع بلدوين دي بورج أمير الرها، وكذلك مع بعض الأثرياء من الصليبيين، إضافةً إلى عائلة بوهيموند في صقلية إلى جمع المبلغ المطلوب، وفي سنة (496هـ) أوائل مايو 1103م تمت الصفقة، وأطلق سراح بوهيموند، وتسلم الملك غازي المبلغ بعد أن تبادل مع بوهيموند الأيمان بحفظ الصداقة والمودة، والتعاون المشترك المخلص في المستقبل !

وجنَّ جنون قلج أرسلان ! لقد ضاعت منه ثروة طائلة! إنه لم يكن يمانع أن يطلق سراح بوهيموند إلى ألكسيوس كومنين، وكأن ألكسيوس كومنين هذا صديق للمسلمين، لا مانع من إعطائه أسباب قوة، ولكنه الآن يمانع من إطلاق بوهيموند دون أن يقبض هو جزءًا من الثمن !
وماذا فعل قلج أرسلان؟! لقد أعلن الحرب على غازي كمشتكين؛ لتشتعل بذلك النار بين المسلمين في آسيا الصغرى، بل إنه أرسل إلى الخليفة العباسي وإلى السلطان بركياروق يستعديهما على الملك غازي، مع أنه لم يكن يعتبر مطلقًا بوجودهما، ولكنه الآن يستخدم كل الأوراق السياسية !

لكن الأخطر من الصراع الذي دار بين قلج أرسلان والملك الغازي هو أن إطلاق سراح بوهيموند كان كارثة ضخمة حلَّت على المسلمين؛ لأنه عاد إلى أنطاكية فاستقبل استقبالاً حافلاً ، وقويت به - كما يقول ابن الأثير - نفوس أهلها به ، ومن ثَمَّ خرج بوهيموند بحماسة لينتقم من المسلمين بعد أن أُسر لديهم أكثر من ثلاث سنوات .

وبدأ بمهاجمة البلاد التابعة لحلب، وفرض الجزية على مدينة قنسرين ، وهاجم المسلمين الذين يعيشون على نهر قويق شمال حلب فمزقهم تمزيقًا، وفرض على من بقي منهم الأموال الباهظة، بل إنه فرض على حلب نفسها الجزية من المال والخيل، وأجبرها على إطلاق سراح أي أسير صليبي .

لقد كانت كارثة حقيقية حلت على المسلمين! لقد كانت كارثة اقتصادية وسياسية وعسكرية، وقبل كل ذلك كارثة أخلاقية شرعية، وكارثة فُرقة مقيتة عانت منها الأمة عدة سنوات مقبلة .
والثمن ؟!! مائة ألف دينار، وحلف مع إمارة أنطاكية الصليبية !! ولعل التدبُّر في مثل هذه القصص، ورؤية تفاصيل مثل هذه المواقف والأحداث يعطينا تفسيرًا واضحًا لسيطرة الصليبيين على بقاع إسلامية كثيرة ، على الرغم من كثرة أعداد المسلمين ووفرة أموالهم وقوة حصونهم ؛ فإننا أبدًا لا نُهزم لقوة أعدائنا ، ولكن لضعفنا وبُعدنا عن شرع الله، وسُنة الله لا خلف لها !
=====
يتبع .
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

اثابك الله على ما تفعله يا ابوالبراء
ولكن عجل بباقى القصه ارجوك
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

رائعة مواضيعك دائما اخي
اجد اللذة عندما اقراها
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

شكرا لك في انتضار بقية الاحدات
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

بارك الله فيك اخي ابو البراء

انتظر الباقي

دمت بعز وسلام
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

- نور من شمال العراق !!


لقد مرت بنا كما رأينا لحظات عصيبة سواء في الشام أو آسيا الصغرى، ورأينا الاحتلال البغيض يضرب جذوره هنا وهناك ، ورأينا تخاذلاً كبيرًا من المسلمين ، وتهاونًا شنيعًا في الحقوق والمقدسات ، وحتى عندما رأينا نصرًا على الصليبيين ، كذلك الذي حدث في سنة (494هـ) 1101م رأينا خلفه صراعًا على الأرض بل حربًا معلنة بين الزعيمين المسلمين قلج أرسلان وغازي بن الدانشمند !

ولقد كان الوضع في الشام أكثر ترديًا من الوضع في آسيا الصغرى، فلم نألف مقاومة ولا دفاعًا، بل رأينا التسليم والإذعان وطلب المودة والصداقة مع زعماء الصليبيين ، مع كل ما ارتكبوه من مجازر ومذابح راح ضحيتها عشرات الآلاف من المسلمين ، بل يزيد , لكن هل يأتي زمانٌ على الأمة الإسلامية ينقطع فيه الخير، فلا يبقى مصلح ، ولا يظهر تقي ؟! إنَّ هذا أبدًا لا يكون !!

والذين يدعون إلى هذا اليقين ليس مجرد استنباط من حقائق التاريخ ، أو مجرد أمل ينقصه الدليل ، إنما هو وعدُ حقٍّ بشرنا به رسولنا حين قال : " لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ" .

فالخير لا ينقطع من الأمة أبدًا ، ولا بد له من ظهور وسيادة ، وسيظل هناك دومًا من يحمل الراية ، ويحض على الفضيلة ، ويتمسك بالشرع ، ويحب الجهاد ، وسيظل هناك دومًا من يسعى إلى تحرير الأرض ، وحفظ العرض ، وردِّ الحق ، ولن يأتي زمان أبدًا تموت الهمة فيه أو تختفي , نعم وقد تضعف وتخبو ، ولكنها تظل دومًا باقية .

والذي ينظر إلى الأحداث أيام الحروب الصليبية يرى أمرًا لا يخفى على دارس ، وإن كان لم يأخذ نصيبه من التحليل والفقه .

وهذا الأمر هو كل حركة جهادية ، أو دعوة إصلاحية في هذه الفترة كانت تخرج من منطقة شمال العراق ! هذا في الوقت الذي خفتت فيه إلى حد كبير دعوات الجهاد في الشام ومصر وآسيا الصغرى، فهل هذه حقيقة ؟ وإن كانت كذلك فما السر وراءها ؟ إننا رأينا في ثنايا القصة خروج كربوغا أمير الموصل في جيش كبير لنجدة أنطاكية عند حصارها سنة (490هـ) 1097م ، ورأينا حصاره لإمارة الرها وهو في طريقه لأنطاكية ، ورأينا سعيه إلى جمع أمراء الشام في حرب مشتركة ضد الصليبيين ، ورأينا كيف خذلوه وتخلوا عنه، كلٌّ منهم بسبب أو عذر ، ولهذا لم يكتب لحملته النجاح كما رأينا ، لكنه على العموم كان الوحيد الذي قطع المسافات لحرب الصليبيين .

وسنرى بعد قليل غيره وغيره ممن سيحمل راية الجهاد ضد الصليبيين، بل سيخرج من نفس المكان عماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي، وهم جميعًا أغنياء عن التعريف أو الوصف .

لماذا حدث كل هذا في هذا المنطقة، ولم نره في بلاد الإسلام الأخرى ؟!إننا لكي نفقه هذه الملاحظة لا بد لنا من العودة إلى التاريخ القريب لهذه المناطق ، وندرس الفارق بينه وبين تاريخ المناطق الأخرى ، ومن ثَمَّ نستطيع أن نفهم جذور هذه الحركات الجهادية والإصلاحية .

إننا إذا عدنا إلى منتصف القرن الخامس الهجري - أي قبل الحروب الصليبية بخمسين سنة تقريبًا - سنجد طغرل بك زعيم السلاجقة السني يدخل بغداد مخلِّصًا إياها من الحكم الشيعي المستبد والمتمثل في بني بويه ، وذلك بالتحديد في سنة (447هـ) 1055م , وكان طغرل بك - كما يصفه ابن الأثير - حليمًا عاقلاً من أشد الناس احتمالاً ، وكان يقول عنه أيضًا : "وكان رحمه الله يحافظ على الصلوات ، ويصوم الاثنين والخميس" .

ثم ملك من بعده ابن أخيه البطل الإسلامي الفذ ألب أرسلان الذي ملأ الدنيا عدلاً ورحمة وجهادًا وعلمًا ، ويصفه ابن الأثير بكلام جليل فيقول : " وكان كريمًا عادلاً عاقلاً ، لا يسمع السعايات (أي الوشايات)، وإتسع ملكه جدًّا ، ودان له العالم ، وبحقٍّ قيل له سلطان العالم ، وكان رحيم القلب ، رفيقًا بالفقراء ، كثير الدعاء ، وكان شديد العناية بكفِّ الجند عن أموال الرعية " .

رجل كهذا كان يحكم بلاد المسلمين ، وكان مركز حكمه وسلطانه في منطقة فارس والعراق ، وشمل عدله كل هذه الديار ، وحقَّق نصرًا غاليًا على الدولة البيزنطية في موقعة ملاذكرد سنة (463هـ) 1070م ، ما زالت الدنيا تتحدث عنه إلى يومنا هذا ، ولا شك أن هذا ترك أثرًا لا ينسى في شعبه ، وعلَّمه قيمة الجهاد في سبيل الله وأثره .

ولم يكن ألب أرسلان وحده هو الذي يربِّي هذا الشعب ، بل أنعم الله عليه بوزير من أعظم الوزراء في تاريخ الإسلام ، وهو من بطانة الخير التي تحض دائمًا على الخير ؛ قال رسول الله : "مَا اسْتُخْلِفَ خَلِيفَةٌ إِلاَّ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ" .

هذا الوزير العظيم هو نظام الملك الطوسي الذي كان من العلماء الأجلاء ، ومن المدافعين عن الشريعة والسنة ، ومن المحفِّزين على الجهاد والبذل، ومن الأشداء في الحق ، الرحماء مع الرعية ، وكان مثالاً يُحتذى في كل مكارم الأخلاق ، وكان اهتمامه بالعلم جليلاً وعميقًا ، وظل وزيرًا لألب أرسلان حتى وفاة ألب أرسلان في (465هـ) 1072م، ثم صار وزيرًا لابنه ملكشاه الذي إتسع ملكه حتى وصل إلى الصين والهند شرقًا ، وإلى الدولة البيزنطية والشام غربًا ، وكان ملكشاه على نهج أبيه ألب أرسلان محبًّا للعلم ، موقِّرًا للعلماء ، مقدِّرًا لقيمة الوزير الجليل نظام الملك ، حتى إنه قال له عند بداية حكمه : " قد رددت الأمور كلها كبيرها وصغيرها إليك ، فأنت الوالد " .

ثم إن نظام الملك أسدى للأمة الإسلامية فائدة عظيمة هي من أجلِّ أعماله ، إذ قام بإنشاء عدد كبير من المدارس في كل أنحاء الدولة نسبت إليه ، فعرفت بالمدارس النظامية (نسبةٌ إلى نظام الملك) ، وهي نوع من المؤسسات العلمية التي هُيِّئ فيها للطلاب أسباب العيش والتعليم، حيث كان يجري فيها على طلبة العلم الرواتب الشهرية ، وكان يهتم بجلب أكابر العلماء للتدريس فيها، فدرَّس فيها مشاهير الفقه والحديث وسائر العلوم ، وكان من أهمِّ أدوارها مقاومة المد الشيعي ، والفكر الباطني الذي كان منتشرًا في كثير من البلاد آنذاك ، وعلى قمة البلاد التي كانت تحت الحكم الشيعي آنذاك مصر والشام .

وظل الوضع على هذه الصورة حتى قُتل نظام الملك سنة (485هـ) 1092م على يد الشيعة الإسماعيلية الباطنية، أي قبل الحروب الصليبية بست سنوات فقط .

ومن الجدير بالذكر أن السلطان العظيم ملكشاه تُوفِّي بعد وزيره نظام الملك بأكثر من شهر بقليل ! ولا أشك أنهما لو كانا في زمان الحروب الصليبية ما تركا بلاد المسلمين تنهب على هذه الصورة ، ولكن قدَّر الله وما شاء فعل ، ورحمهما الله رحمة واسعة .

ولكن إن ذهب هؤلاء العظماء فإن أثرهما لم يذهب، فإنهما أورثا البلاد التي كانت تحت حكمهم حب الشريعة والدين ، ولعل من أبرز المعاني التي ارتفعت في زمانهما معنيين : العلم والجهاد ، ولا ترفع أمة إلا بهما ، ولا تذل أمة إلا بتركهما ، وهي معاني لا تزول بسرعة ، بل تظل محفورة في الأذهان حتى بعد موت الداعي لها بزمان وزمان .

كان هذا هو الحال في منطقة فارس والعراق وما حولها ، وهو ما عرف في التاريخ بدولة السلاجقة العظام ، والتي ورثها بعد موت ملكشاه ابنه بركياروق الذي كان حليمًا كريمًا صبورًا عاقلاً إلا أنه لم يكن على مستوى أبيه وجَدِّه ، وكثرت في عهده الفتن والصراعات ، وفي عهده دخل الصليبيون أرض الإسلام ، ومع كثرة انشغاله في الصراعات الداخلية فإنه لم يتردد في إرسال كربوغا أمير الموصل لنجدة أنطاكية كما مر بنا .

وإذا كنا نذكر أن هذا هو حال البلاد التي كانت تحت حكم السلاجقة العظام بصفة عامة، فإننا نذكر أن معظم الحركات الجهادية والإصلاحية كانت تخرج من شمال العراق ؛ وذلك لأنها أقرب الإمارات للشام وآسيا الصغرى ، فإمارة الرها تقع في غرب إمارة الموصل وفي جنوبها ، وعلى هذا فقد تحمَّل شمال العراق عبء إخراج المجاهدين والعلماء إلى هذه البلاد المنكوبة، بينما كانت جهود بقية بلاد السلاجقة العظام التي تتمثل في فارس وما حولها ، موجهةً إلى شرق العالم الإسلامي لمواجهة الاضطرابات الناجمة عن الوثنيين من الأتراك أو الهنود .

ومما يلفت الأنظار أيضًا في هذه البلاد في شمال العراق أن الشعب نفسه كان مقدِّرًا لقيمة العلماء، وكان قادرًا على تقييم الحاكم في ضوء الشريعة ، فيقف إلى جوار من ينصر الشرع والدين ، ويقف في وجه من يظلم ويتجاوز حدود الشريعة .

ولنا أن نضرب مثلاً من حياة العلماء في منطقة شمال العراق لنرى قيمتهم وأثرهم ، وليكن هذا المثل هو العالم الجليل (عديّ بن مسافر) .

ولعل الكثير من المسلمين لم يسمع عنه أصلاً، ولكنه كان من العلماء الأفذاذ الذين عاصروا بدايات الحروب الصليبية ، وكان يعيش في منطقة شمال العراق عند جبال هكار بين قبائل الأكراد الهكارية ، وكان هذا العالم كما يقول ابن تيمية : " كان رجلاً صالحًا ، وله أتباع صالحون " , بل يقول عبد القادر الجيلاني في حقه كلمة عجيبة حيث قال: "لو كانت النبوة تنال بالمجاهدة ، لنالها الشيخ عدي بن مسافر !" .

وكان الشيخ عدي قد بنى له مدرسة يُعلِّم الناس فيها ، وكما يقول ابن كثير : "فأقبل عليه سكان تلك النواحي إقبالاً هائلاً ؛ لما رأوا من زهده وصلاحه وإخلاصه في إرشاد الناس". ويقول ابن خلكان: "وسار ذكره في الآفاق، وتبعه خلق كثير" , بل يذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء أن دعوة الشيخ عدي أدت إلى إنتشار الأمن في تلك المنطقة ، وإرتدع مفسدو الأكراد وتابوا .

وهذا مجرد مثال لتقدير الشعب لقيمة العلماء، ولفقههم لأهمية الشريعة ، وهذا انعكس بدوره على تفاعلهم مع القادة العسكريين والسياسيين ، فمن كان منهم معظِّمًا للشريعة مطبِّقًا لها، كان مطاعًا عندهم ، محبوبًا إلى قلوبهم ، ومن كان غير ذلك كان مكروهًا مذمومًا يتحين الجميع فرصة لعزله وإقصائه , إنها طبيعة شعب يُرجى من ورائه خيرٌ كثير .

وإذا كان بروز السلاجقة واضحًا جدًّا في هذه المنطقة ، وأثرهم لا يغفل أبدًا، فإن هناك من ظهر إلى جوار السلاجقة ، وأسهم معهم إسهامًا واضحًا في الحفاظ على روح الجهاد في سبيل الله ، ومن أهم هذه الطوائف الأراتقة والأكراد .

أما الأراتقة فهم من نسل أرتق التركماني ، وهو من قبائل الأتراك أيضًا ، وكان من القواد السياسيين البارزين لملكشاه السلطان السلجوقي العظيم ، وتقلد كثيرًا من المناصب كان آخرها ولاية بيت المقدس حيث تُوفِّي بها سنة (484هـ) 1091م ، تاركًا ولدين من بعده هما : سُقمان وإيلغازي، اللذان حكما بيت المقدس لفترة وجيزة حتى سقط تحت الاحتلال العبيدي (الفاطمي)، وذلك أثناء الغزو الصليبي ، وتحديدًا في سنة (491هـ)\ 1097م ، مما جعلهما يرحلان إلى الشمال ، حيث ذهب إيلغازي إلى بغداد ليكون في خدمة السلطان السلجوقي بركياروق ، بينما إتجه سقمان إلى منطقة ديار بكر في شمال العراق ليؤسس هناك إمارة إسلامية تابعة للسلاجقة ، وأهم مدنها ماردين وحصن كيفا (في جنوب تركيا الآن) .

وكان لهذين الزعيمين نخوة إسلامية واضحة، وكذلك لابن أخيهم بَلْك بن بهرام ، وكان لهم جميعًا أثرٌ في حروب الصليبيين ، سنراه مع تتابع الأحداث .

أما الأكراد فهم شعب عظيم من شعوب الإسلام ، ينتمي - غالبًا - في جذوره إلى مجموعة القبائل الهندوأوربية ، والتي هاجرت إلى مناطق شمال العراق وجنوب تركيا وشرق إيران قبل الميلاد بألفي سنة .

وقد دخلت هذه القبائل الكبيرة في الإسلام منذ أيامه الأولى ، بحيث إنه لم تأتِ سنة 21 من الهجرة حتى دخل غالب الأكراد في الإسلام ، ومنذ الدخول الأول لهم في الإسلام فإنهم ظلوا على عهدهم من الحميَّة والنصرة لدين الله مهما تقلبت الأحوال أو تغيرت الظروف، وكانوا في كل تاريخهم ملتزمين بالمنهج السُّني ، وغالبهم على المذهب الشافعي، وحتى عندما سيطر بنو بويه الشيعية على الخلافة العباسية في القرنين الرابع والخامس الهجريين ، ظل الأكراد على منهجهم السني الأصيل ، وعاطفتهم الإسلامية القوية ؛ لذلك لم يكن مستغربًا أبدًا أن تأتي النصرة من بلادهم، وأن يخرج نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه وصلاح الدين الأيوبي والملك الصالح نجم الدين وغيرهم من أصلاب هذه الأسرة الكريمة .

كان هذا الوضع في منطقة شمال العراق ، وهو ما يفسر ظهور الحركات الجهادية والإصلاحية من هذه البقاع ، ولا شك أننا نلاحظ أن كل ما ذكرناه من أسماء وقبائل كان من أصول غير عربية ، بل إن المغيِّرين في قصتنا بكاملها من العرب سيكونون قلة قليلة جدًّا ؛ وهذا ليس تقليلاً من شأن العرب، ولكنه ذكر لتاريخ وواقع ، وهو في نفس الوقت تعظيم للإسلام الذي صهر كل هذه الأنواع البشرية والأجناس المتباعدة في بوتقة واحدة، فجاء السلاجقة والأراتقة والأكراد ليرفعوا راية هذا الدين ، ويعزوا أمره متناسيين تمامًا أن نبي هذه الأمة عربي ، وأن الخلافة كانت في العرب !! بل إن غالب المسلمين في ذلك الوقت كانوا من غير العرب، بل إن غالبهم في زماننا نحن الآن من غير العرب أيضًا ، فالعرب لا يمثلون في المسلمين الآن إلا نسبة 25% فقط ، وكذلك كانوا في التاريخ بعد زمان أبي بكر الصديق ، وبدءًا من زمان عمر بن الخطاب حيث إنتشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، ولهذا لا عجب أن نجد أن معظم المغيِّرين والمجددين في تاريخ الإسلام ليسوا عربًا ، وليس على سبيل الحصر أن نذكر أسماء طارق بن زياد ، وألب أرسلان ، ويوسف بن تاشفين ، وعماد الدين زنكي ، ونور الدين محمود ، وصلاح الدين الأيوبي ، وقطز ، ومحمد الفاتح ، وكلهم كما هو معلوم ليسوا من العرب ، وكذلك في مجال العلوم ، بل في مجال العلوم الشرعية، وليس أدل على ذلك من ذكر أصحاب كتب الحديث المشهورين ، فأعظمهم ستة ، هم أصحاب ما يعرف بأمهات الحديث، وليس مستغربًا أن نجد أن خمسة من هؤلاء الستة ليسوا عربًا ، وهم البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه ، ويبقى أبو داود وحده ممثِّلاً للعرب !

إن هذا دليل واضح على عظمة هذا الدين وقدرته على التأثير في عقول الناس وقلوبهم، وطبيعته التجميعية لشتات الشعوب ، ويا لخسارة المسلمين لو جاء عليهم زمان يعلون شأن القومية فوق الإسلام ، ويتجمعون على أواصر النسب والدم لا على أواصر العقيدة والدين !

هذا هو حال شمال العراق أيام الحروب الصليبية !! فكيف كان حال الشام التي إبتليت بالاحتلال الصليبي ؟!

إن بلاد الشام ، وأيضًا مصر ، قد نكبت بالاحتلال العبيدي البشع بداية من سنة (359هـ) 969م ، ولم يرفع عنها إلا عندما جاء السلاجقة وأخرجوا العبيديين في (477هـ) 1084م ، أي بعد أكثر من مائة سنة كاملة , أما في مصر فقد استمر حكمهم لها مائة سنة أخرى، ولم ينتهِ إلا في سنة (567هـ) 1171م ؛ وفي هذه السنوات الطويلة فرَّغ العبيديون البلاد المحتلة من علماء السنة ، ونشروا البدع ، ومنعوا التعليم الإسلامي الصحيح ، ولم تكن لهم أبدًا قضايا جهادية ، بل كانوا يحاربون المجاهدين ويؤذونهم ، ويحالفون أعداء الأمة ويصادقونهم ، وقد رأينا طرفًا من أعمالهم ومفاوضاتهم مع الصليبيين ؛ وفي وسط هذا الجو الكئيب كان لا بد للشعب أن يخرج رخوًا مائعًا لا قضية له ! إنه حُرِم من العَالِم الذي يدله على الطريق ، وحُرِم من المجاهد الذي يكون له قدوة ، ولم يكن هذا لعام أو عامين ولكن لقرن كامل في الشام ، وقرنين كاملين في مصر ؛ ولذلك لم يكن متوقعًا من هذه البلاد أن تحمل على أكتافها قضايا المسلمين ، حتى لو كانت هذه القضايا هي قضاياهم شخصيًّا !! فالأموال المنهوبة أموالهم ، والديار المهدَّمة ديارهم ، والأرواح التي أزهقت هي أرواح أبنائهم وإخوانهم وعشيرتهم ! ثم إن الذي حرر الشام من العبيديين كان ظالمًا مثلهم ، وإن كان سنيًّا !

فالذي تولى أمر الشام من السلاجقة هو تُتش بن ألب أرسلان ، وكان على النقيض تمامًا من أبيه ألب أرسلان أو أخيه ملكشاه بن ألب أرسلان ، والله ضرب لنا ابن نوح مثلاً لنفهم هذا التضارب في الشخصيات والأخلاق .

لقد كان تتش ظالمًا مستبدًا ، لا يهتم إلا بكرسيه ، ولا ينظر إلا لمصالحه ، ولا يسمع لرأي إلى جوار رأيه ، ولا يعتبر بأرواح شعبه ولا أموالهم ، ولا يحترم روابط دين أو عقيدة ، ولا روابط دم أو نسب ، فقطَّع علاقاته مع الناس أجمعين ، وحارب هذا وذاك ، حتى وصل به الأمر أن حارب بركياروق ابن أخيه ملكشاه بعد وفاة ملكشاه ! وكل ذلك طمعًا في توسيع رقعة ملكه ؛ أملاً في زيادة ثروته .

وكان من الطبيعي لشعب رُبِّي في هذا الجو الملبد بالظلم والقهر أن يخرج خانعًا خاضعًا ذليلاً ، يُقاد بالسياط ، ويقبل بإنتهاك الحرمات ، ويألف ضياع الحقوق , ولذلك لم يكن الصليبيون يختلفون كثيرًا في حسابات الشعب عن تتش بن ألب أرسلان أو عن العبيديين ، بل إن بعض أفراد الشعب كانوا يتعاونون مع الصليبيين بغية طعام أو شراب أو مال أو إقطاع .

ولم يختلف الحال كثيرًا بعد وفاة تتش مقتولاً في سنة (488هـ) 1095م؛ إذ قسمت الشام إلى نصفين بين ولديه رضوان ودقاق ، فأخذ رضوان حلب ، وأخذ دقاق الشام ، وهما لم يختلفا في كثير أو قليل عن أبيهما ، فقد ورثا عنه الظلم وسوء الأخلاق ، فكانا وبالاً على شعوبهما ، بل وعلى عامة المسلمين ، بل إن رضوان بن تتش جمع إلى جوار ظلمه ظلمَ العبيديين ، فتشيَّع وقرَّب الباطنية الإسماعيلية المجرمة ، وحرضهم على جرائمهم المنكرة بغية إرهاب الناس وتثبيت ملكه , ولقد مرَّ بنا في هذه القصة - حتى الآن - جريمتان من ارتكابهما؛ الأولى كانت مقتل الوزير العظيم نظام الملك سنة (485هـ)، والثانية كانت مقتل جناح الدولة حسين بن ملاعب زوج أم رضوان بن تتش بتحريض من رضوان بن تتش نفسه ، وذلك في سنة (495هـ) .

وهكذا - بالتحليل السابق - فإنه ينبغي أن نتوقع في غضون الأيام والسنوات القادمة أن تهب حركة جهادية إصلاحية من شمال العراق ، وأن يكون تفاعل الشعب معها في الشام ضعيفًا في البداية إلى أن تتغير الأجيال التي تربَّت على الذل والقهر، والبُعد عن الدين والشرع ، وعندها سيكون لهم شأنٌ كبير في تغيير الواقع الأليم !

هذا ما ينبغي أن نتوقعه ، وهذا ما حدث بالفعل ! وكان من أوائل بذور الخير ما رأيناه في سنة (496هـ) 1104م من تباشير حركة جهادية تهدف إلى مقاومة الصليبيين !

كيف كان ذلك ؟ !

كان على رأس إمارة الموصل في ذلك الوقت جكرمش ، وقد صعد إلى كرسيِّ الحكم - كما ذكرنا - بعد فتنة حدثت بعد موت كربوغا أمير الموصل السابق ، وكان جكرمش شخصية ذات نزعة إسلامية واضحة، ورغبة في العدل والرحمة ، وقدرة على التعامل مع الناس ؛ ولذلك أحبَّه أهل الموصل وأطاعوه، غير أنه كانت له ميول استقلالية، خاصةً أن الصراع كان دائرًا بين السلطان بركياروق وأخيه السلطان محمد ؛ مما جعل أفكار الاستقلال بالموصل تراود خيال جكرمش ، وإن كان في الظاهر يدين بالولاء للسلطان بركياروق .

وفي نفس الوقت الذي رأينا فيه الاضطرابات في الموصل حدثت اضطرابات مماثلة في مدينة حرَّان، وهي مدينة تقع إلى الجنوب الشرقي من إمارة الرها الصليبية وعلى بُعد 200 كم تقريبًا شمال شرق حلب، وعلى نفس المسافة أو أكثر قليلاً شمال غرب الموصل ، فهي مدينة في موقع مهمٍّ جدًّا ؛ حيث إنها تسيطر على الطريق الذي يربط العراق بسوريا ، أو الذي يربط الموصل تحديدًا بحلب، وقد حدثت فيها فتنة مماثلة لفتنة الموصل، وقُتل فيها عدة ولاة في وقت قصير ، وتولى الأمر أخيرًا غلام تركي اسمه جاولي .

رأى الصليبيون هذه الأوضاع المتقلبة في حران والموصل ، فقرروا أن يستغلوا هذه الفرصة لتحقيق ضربة موجعة تحقق أغراضًا عدة للإمارات الصليبية الشمالية ، أعني الرها وأنطاكية .

لقد إتفق بلدوين دي بورج زعيم الرها بصحبة جوسلين دي كورتناي تابعه على مدينة تل باشر (وهي من أعمال إمارة الرها) مع بوهيموند أمير أنطاكية ، ومعه تانكرد ابن أخته ونائبه على أن يقوم الجميع بعمل عسكري مشترك في غاية الخطورة ، وهو الإستيلاء على مدينة حرَّان (في جنوب تركيا الآن) في خطوة مرحلية للاستيلاء بعد ذلك على مدينة الموصل ذاتها !

إنهم بذلك سيحققون أهدافًا في غاية الخطورة !

إنهم سيسقطون أولاً : مدينة حران الشهيرة بثرواتها الطبيعية ومزارعها الخصبة .

وثانيًا : سيقطعون الطريق بين العراق والشام، ومن ثَمَّ سيتعذر على المعونات العسكرية السلجوقية أن تأتي من العراق إلى مدينة الموصل التي تظهر فيها دعوات الجهاد، والتي تتميز بصحوة إسلامية واضحة ، فلو سقطت الموصل ضُرب المسلمون بذلك في عمقهم .

ثالثًا : ستفتح حران بعد ذلك الطريق إلى الموصل، والتي تظهر فيها دعوات الجهاد، والتي تتميز بصحوة إسلامية واضحة، فلو سقطت الموصل ضرب المسلمون في عمقهم .

ورابعًا : قد يفتح الطريق باحتلال الموصل إلى بغداد قلب العالم الإسلامي وعاصمة الخلافة ، ولا شكَّ أن سقوط بغداد سيزلزل العالم الإسلامي كله، وقد يقع الجميع حينئذٍ تحت سيطرة الصليبيين .

وخامسًا : بالنسبة لبوهيموند، فإنَّ السيطرة على حرَّان ستؤدي إلى حصر حلب بين أنطاكية من الشرق وحران من الغرب مما يسهِّل إسقاط حلب ، ومن ثَمَّ إنشاء دولة صليبية كبرى في شمال الشام بدلاً من إمارة أنطاكية الصغيرة .

إنها أهداف كبرى تجعل إسقاط حران حلمًا غاليًا عند الصليبيين ؛ ولذلك تكوَّن جيش صليبي كبير يضم كل قادة الصليبيين في المنطقة، حيث كان فيه بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي وبوهيموند وتانكرد ، إضافةً إلى عدد كبير من رجال الكنيسة في الرها وأنطاكية ، هذا إضافةً - طبعًا - إلى جيش كبير يقارب العشرين ألف مقاتل .

لقد كانت هجمة في غاية الخطورة ، خاصةً أن المدن الإسلامية المهمة في المنطقة - وهي الموصل وحران - خارجةٌ من فتنة كبيرة كما وصفنا، إضافةً إلى أن العلاقات كانت مضطربة جدًّا بين جكرمش أمير الموصل وسقمان بن أرتق أمير حصن كيفا (إلى الشرق من حران) ؛ حيث كان سقمان مؤيدًا للأمير موسى التركماني الذي كان يتولى أمر الموصل قبل ثورة جكرمش عليه .

لقد تخير الصليبيون وقتًا حرجًا جدًّا ، وإنتصارهم في هذه الظروف قريب ! غير أن هناك أمرًا - ما حسب له الصليبيون حسابًا في ظل هذه الاضطرابات - حدث ؛ وغيَّر هذا الأمر جدًّا من موازين القوى في المنطقة ؛ لقد تبادل الزعيمان المسلمان جكرمش وسقمان بن أرتق الرسائل في وقت متزامن تقريبًا ، يدعو فيه كل زعيم أخاه إلى نسيان الخلافات القديمة والتعاون المشترك ضد الصليبيين ، وهذا رائع جدًّا أن تتم الوحدة بين المسلمين في ظروف الأزمات والنكبات ، ولكن الأروع في قصتنا هذه أن كلا الزعيمين أعلن هذه الوحدة ليست لتحقيق نصرٍ ، أو لتوسيع ملك ، أو لتكثير ثروة ، إنما هي لله !!

لقد جاء في رسالة كل واحد منهما للآخر ما رواه ابن الأثير حيث قالا: "إنني ما بذلت نفسي في هذا الأمر إلا لله تعالى وثوابه " .

وهذه هي المرة الأولى في قصة الحروب الصليبية التي نرى فيها راية الجهاد مرفوعة في سبيل الله ، وبتجرد واضح ؛ نعم الزمن زمن فتنة ، والقلوب متقلبة ، والأهواء مضطربة ، والنفوس قلقة ، ونوزاع الملك والسيطرة كثيرة، والأحلام الشخصية موجودة ، ولكن - بحمد الله – ما زال في النفوس خير ، وما زال هناك من يعمل العمل ابتغاء مرضات الله .. وإنَّ من أروع ما في القصة أن تتزامن رسائل الزعيمين ، دلالةً على أن الله أراد بهما وبالمسلمين خيرًا .

إقترب الجيش الصليبي الكبير من حران، وفرض عليها الحصار المحكم، وهو لا يعلم باتحاد الجيشين المسلمين للموصل وحصن كيفا ؛ ولذلك كانت مفاجأة كبيرة جدًّا للصليبيين أن ظهر في الأفق الجيش الإسلامي المتحد، والمكوَّن من عشرة آلاف مقاتل ، منهم ثلاثة آلاف من العرب والسلاجقة والأكراد تحت قيادة جكرمش ، وسبعة آلاف تركماني تحت قيادة سقمان بن أرتق .

وفي سنة (497هـ) 7 من مايو 1104م دارت موقعة شرسة بين المسلمين والصليبيين ، وذلك على ضفاف نهر البليخ ..

وقاتل في هذه المعركة بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي بكل قوتهما؛ لأن المعركة تدور تقريبًا في حدود إمارتهما ، أما بوهيموند فقد استفاد من درس أسره قبل ذلك ؛ ولذلك وقف في مؤخرة الجيش مع ابن أخته تانكرد ليؤمِّن ظهر الجيش الصليبي، وفي نفس الوقت ليؤمِّن لنفسه طريقًا للهرب !

وما هي إلا ساعات وإنتصر الجيش المسلم انتصارًا مهيبًا قُتل فيه من الصليبيين أكثر من اثني عشر ألف مقاتل ! كما تمَّ أسر بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي !! هذا فوق عدد كبير آخر من الأسرى ، إضافةً إلى كميات ضخمة من الغنائم والأموال والسلاح ، وولَّى بوهيموند وتانكرد الأدبار مسرعين إلى أنطاكية !

لقد كان نصرًا مجيدًا حقًّا !

ولم يتعرض المسلمون أثناء القتال إلى أزمة حقيقية، فقد كانت السيطرة لهم من بادئ الأمر، إلا أنهم تعرضوا لأزمة كبيرة بعد الموقعة، لكن - بفضل الله - كتب الله لهم منها النجاة؛ ذلك أن معظم الغنائم والأموال - وكذلك الأسيرين الثمينين - وقعوا في يد سقمان بن أرتق وجيشه، وخرج جكرمش خالي الوفاض من المعركة ، وغضب جيش جكرمش وهم يشاهدون الثروات تقع في يد الجيش التركماني ، وأغروا جكرمش بأخذ نصيبه منها، وإقتنع جكرمش بذلك ، وذهبوا للمعسكر التركماني ، وقد وجدوا أن سقمان كان في مطاردة الصليبيين مع جزء من جيشه ، فدخلوا خيمة الأسرى، وإستطاعوا أن يأخذوا بلدوين دي بورج أمير الرها ، والأسير الأعظم وعادوا به إلى معسكرهم !

إنها فتنة الدنيا !! وليس مستغربًا على هذا الزمن الذي إختلطت فيه المفاهيم جدًّا أن توجد هذه النوازع في نفوس الأمراء والمقاتلين .

وعاد سقمان من مطاردته ، وعرف بما حدث ، وحضَّه جيشه على قتال جكرمش لأخذ الأسير الثمين ، إلا أن سقمان رحمه الله وقف موقفًا لله هو من أعظم المواقف في حياته ، ويدل دلالة واضحة على طيب معدنه ، وصدق نيته؛ لقد قال سقمان لجيشه : "لا يقوم فرح المسلمين في هذه الغزاة بغمِّهم بإختلافنا ، ولا أوثر شفاء غيظي بشماتة الأعداء بالمسلمين " .

الله أكبر !!

إنه لا يريد أن يضيع سعادة المسلمين بالنصر باختلافهم على الغنيمة ، ولا يريد أن يشفي صدره من جكرمش ويسبِّب شماتة الأعداء في المسلمين , هذا هو التجرد الذي يُرجى من ورائه النصر !

ثم إنه لم يكتفِ بذلك رحمه الله ، بل إستغل النصر الإسلامي المهيب ، وأخذ ملابس الصليبيين وأسلحتهم ، وألبسها لجنوده المسلمين كنوع من التمويه على الصليبيين ، ثم مرَّ على عدة قلاع كان الصليبيون قد إستولوا عليها ، فيحسبهم الصليبيون إخوانهم وجيشهم فيفتحون القلعة ، فيدخل المسلمون ويسيطرون على القلعة، وهكذا حتى تمَّ له السيطرة على عدة قلاع وحصون مهمة في المنطقة .

أما جكرمش فقد سار إلى حران ، فتسلمها وضمها إلى الموصل ، ولم يكتفِ بذلك بل قرر أن يأخذ جيشه - على قلته - ويحاصر إمارة الرها، وهو وإن كان يعلم أن هذه القوة القليلة ما تستطيع أن تفتح إمارة الرها الحصينة ، إلا أنها كانت نوعًا من الحرب النفسية سيكون لها أشد الأثر على الصليبيين ، خاصةً بعد هذه الهزيمة الثقيلة في حرَّان ، أو في موقعة البليخ (نسبة إلى النهر الذي دارت حوله الموقعة) .

لقد حققت هذه الموقعة آثارًا جلية، ولهذا كانت نقطة مضيئة جدًّا في الصراع الإسلامي - الصليبي ، على الرغم من كونها على النطاق العسكري والإقليمي لم تكن من المواقع الكبرى , ولعلنا في هذه العجالة نقف على عشر نتائج مهمة لهذه الموقعة المهمة :

أولاً : إرتفعت الروح المعنوية للمسلمين بشكل لافت للنظر ، وظلت هذه الموقعة محفورة في أذهانهم ولفترة طويلة، وليس ذلك لقتل عدد من الصليبيين أو أسر آخرين فحسب ، ولكن لوضوح الرؤية عند المسلمين في هذه المعركة ، ومعرفة المسلمين لأسباب النصر الحقيقية، ولرفع الكلمة الغالية: (الجهاد في سبيل الله) ، ولرؤية ثمرة التأييد الرباني لمن سار في طريق الله ، وتمسك به .

ثانيًا : لا شك أنه إن كان الأثر إيجابيًّا على المسلمين إلى هذه الدرجة، فإنه حتمًا سيكون سلبيًّا على الصليبيين وبدرجة أشد، ولقد شعر الصليبيون بالهزيمة النفسية، وبالإحباط الشديد الذي ظل متوارثًا فيهم ولأجيال متلاحقة، بل إننا لا نبالغ إن قلنا أن هذه المعركة كانت سببًا في تغيير طريقة التفكير للصليبيين في العراق وفارس ، فهذه هي المرة الأولى - وكذلك الأخيرة - التي يفكر فيها الصليبيون في غزو هذه المناطق ، وبذلك تكون هذه الموقعة - على بساطتها - قد وضعت حدًّا لأحلام الصليبيين وطموحاتهم .

ثالثًا : فَقَد الصليبيون في هذه الموقعة أكثر من اثني عشر ألف مقاتل ، لا شك أنهم أثروا تأثيرًا سلبيًا في قوة الصليبيين ، خاصةً أن الأوربيين فقدوا حماستهم في القدوم إلى أرض الإسلام بعد كارثة الحملة الصليبية التي جاءت سنة (494هـ) 1101م ، أي من ثلاث سنوات فقط ، ومن ثَمَّ تناقص عدد الجنود في إمارتي الرها وأنطاكية تناقصًا مزعجًا، كان له أكبر الأثر في خطط الإمارتين .

رابعًا : لم تفقد إمارة الرها جنودًا فقط ، بل فقدت أميرها ونائبه ! فقد وقع بلدوين دي بورج ونائبه جوسلين دي كورتناي في الأسر ، ولا يعلم أحد متى يكون إطلاقهما ، وخاصةً أن كل واحد منهما مأسور في إمارة مختلفة ؛ فبلدوين في يد جكرمش أمير الموصل ، وجوسلين في يد سقمان أمير حصن كيفا وماردين ، وعلى هذا فلم يجد جيش الرها الصليبي من يتولى زعامة الإمارة في غياب الأميرين الكبيرين ، فعرضوا على تانكرد النورماني أن يتولى الإمارة لحين إطلاق سراح أحد الأميرين ، وبالطبع وجدها تانكرد فرصة سانحة لتحقيق طموحه , وهكذا كان تانكرد يعمل في أرض الشام كالجوكر الذي يستعان به عند الأزمات ، فهو تارة أمير للجليل في إمارة بيت المقدس ، وتارة أخرى أمير على أنطاكية في غياب بوهيموند ، وتارة ثالثة أمير على الرها في غياب بلدوين دي بورج .

خامسًا : فقدت الإمارات الصليبية بعد هذه الهزيمة عدة قلاع وحصون ، بل وعدة قرى ومدن وأملاك ، وتغيرت جغرافية المنطقة تغيرًا ملموسًا، ولم يكن الأمر واقفًا فقط عند القلاع التي حررها سقمان في أعقاب المعركة مباشرة، وكانت كل هذه القلاع تابعة لإمارة الرها ، بل تجاوز الأمر كذلك إلى إمارة أنطاكية حيث فقدت هي الأخرى عددًا ضخمًا من القرى والحصون التابعة لها؛ وقصة ذلك أن رضوان بن تتش ملك حلب لم يفكر في الاشتراك في هذه الحرب الإسلامية، وإنما وقف بجيشه عند نهر الفرات يترقب الأحداث ، ويشاهد تطورات المعركة ، وعندما رأى هزيمة الجيش الصليبي، وقتل عدد كبير من جنوده، وفرار بوهيموند وتانكرد ، وأسر بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي، واتجاه تانكرد إلى الرها ليحكمها بدلاً من بلدوين دي بورج ، عندما رأى رضوان كل ذلك تجرأ على مهاجمة أملاك إمارة أنطاكية، والتي كانت تابعة قبل ذلك لإمارة حلب ، فاسترد في أيام معدودات عددًا من القلاع والمدن القريبة من حلب مثل معرَّة مصرين وسرمين، كما قام أحد الأمراء المسلمين في المنطقة - وهو شمس الخواص أمير رفينة - باسترداد مدينة صوران شرقي شيزر، كما لم تلبث الحاميات الصليبية في معرَّة النعمان والبارة وكفرطاب ولطمين أن تنسحب من جَرَّاء نفسها إلى أنطاكية، وبذلك تقلصت حدود أنطاكية الشرقية جدًّا حتى وصلت إلى بحيرة العمق بعد أن كانت قد وصلت إلى مشارف حلب .
سادسًا: حافظ المسلمون بهذه الموقعة على الطريق بين الشام والعراق مفتوحًا وآمنًا، ولمدة طويلة جدًّا من الزمان، مما سهل بعد ذلك خروج الحملات المتتالية من الموصل وما حولها إلى حرب الصليبيين في الرها وأنطاكية وغير ذلك .

سابعًا : أحدثت هذه الموقعة تغيرًا استراتيجيًّا خطيرًا في المنطقة ؛ إذ بدأ الأرمن يتجرءون - وهذه أول مرةٍ في تاريخهم مع الصليبيين - على الصليبيين بطريقة جِدِّية ؛ لقد عانى الأرمن كثيرًا من جور الصليبيين، لكن لم يكن لهم طاقة بهم ، أما الآن - ومع هزيمة الصليبيين - فقد قرر الأرمن في بعض القلاع والمدن التي يغلب الأرمن على سكانها أن يتراسلوا مع الأتراك ليسلموهم قلاعهم ومدنهم، ويخرجوا بذلك عن حكم الصليبيين، مفضلِّين بذلك حكم المسلمين على حكم النصارى الصليبيين ؛ ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك ما حدث في قلعة أرتاح - وهي من القلاع فائقة الأهمية - حيث تشرف على مدينة أنطاكية ، ولقد ثار أهلها من الأرمن ضد حكم الصليبيين النورمان، وسلموا قلعتهم دون جهد إلى رضوان ملك حلب ، ولم يكن هذا هو المثال الوحيد، بل تكرَّر ذلك مع أكثر من قلعة وحصن .

ثامنًا : ألقيت بذور الضعف في إمارة الرها، فسكانها الأرمن فكروا فيما فكر فيه الأرمن في الأماكن الأخرى، وبدءوا يثورون على حكم الصليبيين ، بل وتراسلوا في فترة من فتراتهم مع السلاجقة، وهذا أدى إلى صراع ضخم بينهم وبين حكامهم من الصليبيين ، وسوف يؤدي مستقبلاً إلى صدامات خطيرة ، ولا شك أن هذه التداعيات سيكون لها أكبر الأثر في مستقبل هذه الإمارة القريبة من شمال العراق الغني - آنذاك - بالمتحمسين من أبناء الأمة الإسلامية .

تاسعًا : لم يقف الحد عند نشاط المسلمين وسعيهم لتحرير بعض أراضيهم بل وصلت أنباء هذه الهزيمة للدولة البيزنطية، وسرعان ما تحرك الإمبراطور المحنك ألكسيوس كومنين لاستغلال الفرصة، وعمل في محورين خطيرين؛ فكان المحور الأول محورًا بريًّا حيث وجَّه جيشًا إلى منطقة قليقية، وإستطاع بسهولة ضم مدن قليقية الشهيرة، وعلى رأسها طرسوس وأذنة والمصيصة إلى الدولة البيزنطية , أما المحور الثاني فكان محورًا بحريًّا حيث إستطاع الأسطول البيزنطي أن يسترد ميناء اللاذقية المهم ، بل وتمركز في عدة مواقع أخرى على ساحل البحر الأبيض المتوسط فيما بين اللاذقية وطرطوس، فضلاً عن قلعة المرقب .

عاشرًا : تلقي بوهيموند أمير أنطاكية في هذه الموقعة وبعدها عدة طعنات نافذة أفقدته توازنه تمامًا؛ مما أدى إلى قرار خطير جدًّا أخذه عن اضطرار ! لقد فَقَد بوهيموند في المعركة جزءًا لا بأس به من جيشه، ثم فقد عددًا من القلاع والحصون والمدن والقرى في شرق أنطاكية، وتعرض لهجوم رضوان بن تتش - مع ضعفه الشديد - على أملاكه وضياعه ، وتلقى ضربات قاصمة من الدولة البيزنطية فَقَد فيها إقليم قليقية بكامله، إضافةً إلى فَقْد اللاذقية وغيرها من مراكز ساحلية ؛ كل هذه الخسائر العسكرية والسياسية أفقدته الكثير من هيبته وقيمته في المنطقة، وهذا دفعه إلى الوقوع في جريمة أخلاقية أفقدته الكثير من سمعته عند الصليبيين! وهذه الجريمة هي أنه كان محتفظًا بأسير مهمٍّ من أسرى جيش الموصل ، وهو من أمراء السلاجقة ، وقد عرض جكرمش أمير الموصل على بوهيموند أن يطلق هذا الأمير في مقابل أحد أمرين : إما أن يبادله ببلدوين دي بورج شخصيًّا ، وإما أن يدفع مبلغ 15 ألف دينار ! ولم يكن متوقعًا من بوهيموند أبدًا أن يقبل بالمال ويترك بلدوين دي بورج، خاصةً أنه تلقى رسالة من بلدوين الأول ملك بيت المقدس وإبن عم بلدوين دي بورج تحضه على إطلاق سراح بلدوين دي بورج ، وأيضًا لا ننسى أن بوهيموند كان أسيرًا عند الملك غازي بن الدانشمند ، وقد حاول بلدوين دي بورج بكل وسيلة أن يطلق سراحه، بل إن بلدوين دي بورج ساهم بمبلغ كبير في الفدية الضخمة التي دُفعت لفك أسر بوهيموند وهي مبلغ مائة ألف دينار، وهو يمثِّل أضعاف ما سيأخذه بوهيموند نظير إطلاق الأمير السلجوقي؛ كل هذه العوامل كانت تحتِّم على بوهيموند أن يرفض المال ، وأن يبادل الأمير السلجوقي ببلدوين دي بورج أمير الرها ، إلا أن بوهيموند فاجأ الجميع - وفي نذالة بالغة، وخسة متناهية - وضحَّى ببلدوين دي بورج ، وأخذ المال وأطلق الأمير السلجوقي !! وكان هذا سببًا في بقاء بلدوين دي بورج عدة سنوات في الأسر .

وأدى هذا الفعل المشين إلى ردة فعل واسعة النطاق في الإمارات الصليبية حيث صار بوهيموند منتقدًا من الجميع، وإزاء هذه الأزمات المتتالية ، وإزاء هذا الانعزال الصليبي عنه، ونتيجة تكاثر الأعداء عليه، ونتيجة رؤية إمارة أنطاكية تتقلص تقلصًا سريعًا قرَّر بوهيموند قرارًا خطيرًا، وهو أن يترك الساحة بكاملها وينطلق إلى أوربا !! وهو في هذا الانطلاق لا ينوي ترك أملاكه في الشرق، فليس بوهيموند الذي يستسلم بسهولة، ولكنه ينوي الذهاب إلى فرنسا وإيطاليا ليستعدي الجميع هناك على الدولة البيزنطية ، وقد كان بوهيموند يرى - وهو محق في ذلك - أن رضوان بن تتش ليس الزعيم الذي يُرهب ، وأنه من السهل أن يتخلص منه عند الحاجة ، ولكن الخطر الحقيقي على إمارته يكمن في الدولة البيزنطية ، وعلى هذا فقد رحل فعلاً بوهيموند إلى أوربا في أعقاب موقعة البليخ تاركًا تانكرد زعيمًا على إمارتي أنطاكية والرها .

وهكذا أُقصي بوهيموند الشرس من ساحة الصراع !

ولعله من المناسب هنا أن نعرض لقصته في أوربا حتى لا تضيع منا في خضم الأحداث الساخنة، فإن بوهيموند قد نجح فعلاً في تجميع الجيوش والأموال من فرنسا وإيطاليا لحرب الدولة البيزنطية ، وأقنع الجميع بضرورة الوقوف أمام أطماعها ، وصوَّر لهم أنها تتعاون مع السلاجقة المسلمين ضد الصليبيين ، وأنها كانت سببًا مباشرًا في هلاك حملة سنة (494هـ) 1101م ، وعلى هذا فقد تجهزت أوربا الغربية في جيش كبير من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وإنجلترا وألمانيا بقيادة بوهيموند لحرب الدولة البيزنطية ، وتمت فعلاً موقعة فاصلة في ميناء دورازو ، وهو يحوي أقوى قلعة بيزنطية عند مدخل الأدرياثيك ، وتمت هذه الموقعة سنة (500هـ) 1107م بعد ثلاث سنوات من رحيل بوهيموند من أنطاكية ، وفي هذه الموقعة إنتصر الإمبراطور ألكسيوس كومنين - وقد حضر الموقعة بنفسه - إنتصارًا ساحقًا على بوهيموند وجيوشه ، وأرغم بوهيموند على توقيع اتفاقية إستسلام مخزية في مدينة دفول Devol سنة (501هـ) 1108م ، وفيها أقر بتسليم إقليم قليقية بمدنه الثلاث ، وكذلك ميناء اللاذقية إلى الدولة البيزنطية ، والإعتراف أن هذه ليست من أملاك أنطاكية ، كما اشترط الإمبراطور البيزنطي أن يعزل البطرك الكاثوليكي عن كنيسة أنطاكية ذاتها ، ويعيِّن بطركًا أرثوذكسيًّا ، وأن يتعهد بوهيموند بحرب إبن أخته تانكرد إذا رفض بنود هذه الاتفاقية !!

وأمام هذا الخزي الذي وصل إليه بوهيموند لم يستطع أن يعود إلى أنطاكية ، ولا أن يلتقي برفقاء الحملة الصليبية، وعليه فقد عاد إلى صقلية بعد معاهدة دفول ليبقى هناك ثلاث سنوات في عزلة ومهانة حتى مات في سنة (504هـ) 1111م ، وقد خسر كل شيء !! وهكذا رأينا بوهيموند يفقد مستقبله السياسي تمامًا بعد هذه المعركة العجيبة : (معركة البليخ) ..

ولعل المحلل للأحداث قد يتعجب أن هذه النتائج الهائلة قد حدثت من جَرَّاء هذه المعركة البسيطة التي تمت في يوم واحد، ولم يكن لها إعداد طويل ، وقُتل فيها من الصليبيين اثنا عشر ألفًا من المقاتلين ، بينما لم تكن نتائج معارك سنة (494هـ) 1101م ، والتي قُتل فيها أكثر من مائتي ألف مقاتل صليبي على نفس المستوى .

إن الفارق بين الموقعتين أن موقعة حران أو البليخ موقعةٌ رفعت فيها راية لا إله إلا الله ، وخلصت فيها النوايا لله ، وكانت موقعة ممثِّلة للإسلام ، فبارك الله في نتائجها وعظَّم من آثارها، بينما كانت مواقع مرسفان وهرقلة الأولى والثانية - على عظمها وضخامتها - مواقع لم تتم إلا للدفاع عن الأملاك والأرض والثروة والملك فقط ، ولم تكن فيها النفوس موجهة إلى الله ، وكان المشاركون فيها حريصين على قبض الثمن الدنيوي ، ودار القتال الحقيقي من أجل الحرص على تقسيم ثمرة المعركة، وهو القتال الذي لم نره في معركة البليخ، بل رأينا ورعًا من سقمان بن أرتق، وبُعدًا عن النزاع والشقاق، وحتى جكرمش - الذي حرص على أخذ شيء من الغنائم، وهذا في حدِّ ذاته ليس خطأً فاحشًا؛ لأنه وجنوده شاركوا بقوة في القتال - وجدناه على استعداد لبذل الأسير الثمين في مقابل إطلاق سراح أمير سلجوقي مسلم ؛ مما يدل على قيمة الأسير المسلم ، وروح المودة في الجيشين ، ولم يفعل مثلما فعل بوهيموند الذي آثر المال على تحرير بلدوين دي بورج، مع أهمية مركزه ووضعه .

إن الذي علينا هو توجيه النية لله وبذل الجهد قدر المستطاع ، والتوحيد بين صفوفنا أما النتيجة فالله كفيلٌ أن يبارك فيها ، ويضاعف من ثمارها ، فهو سبحانه القوي العزيز .

وإن كانت موقعة البليخ من الأخبار المفرحة في سنة (496هـ) 1104م ، فإنَّ هناك خبرًا مفرحًا آخر تمَّ في نفس السنة ، وإن كانت آثاره غير ذلك؛ فقد شهدت هذه السنة صلحًا بين الأخوين المتخاصمين والمتنازعين سلطاني السلاجقة بركياروق ومحمد ! وكان النزاع بينهما مستحكمًا وصل إلى حد الحرب والنزال ، مع حسن أخلاق كليهما ! ولكن بفضل الله إجتمع الأخوان في هذه السنة ، وتم بينهما الصلح عن تراضٍ من الطرفين ، لكن - للأسف - كانت نتيجة هذا الصلح هو تقسيم البلاد بينهما !! وهذا - لا شك - فكر معوج، ومنهج منحرف، والله يقول: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) .

لقد قبل الأخوان بتقسيم المملكة التي تركها أبوهم ملكشاه بن ألب أرسلان إلى ثلاثة أقسام : الأول يحكمه بركياروق ويضم أصبهان وفارس ومعظم العراق دون شمالها ، ويتبعه في ذلك قسم بغداد ، بمعنى أن الخطبة في بغداد ستكون للخليفة المستظهر بالله والسلطان بركياروق , أما القسم الثاني فيحكمه محمد ، وهذا يضم أذربيجان وأرمينية وديار بكر والموصل، مع أن الموصل كانت تحت حكم بركياروق قبل الصلح، وهذا سيؤدي إلى بعض المشاكل التي سنتعرض لها , وأما القسم الثالث والأخير فلأخيهما الثالث سنجر، وهذا يحكم خراسان (شرق إيران) وبلاد ما وراء النهر .

لقد كان هذا هو الحل الذي لجأ إليه الأخوان، وهو خطأ شرعي سياسي لا ريب، ولا ندري كيف وصل بهما الحال إلى الوقوع في هذا الخطأ، مع ما يوصف به كل منهما من حسن الخلق، وجمال السيرة، والعدل في الملك، وما إلى ذلك من صفات جليلة !

لكن الشاهد من الأحداث أن النفوس سكنت لهذا الصلح، وعمَّ الأمن في البلاد، واختفت سحب الحرب التي كانت تظلل هذه المنطقة من العالم الإسلامي .

كانت هذه هي الأخبار في القسم الشرقي من العالم الإسلامي ، وهي مفرحة إلى حد كبير حيث تم انتصار البليخ كما ذكرنا ، وكذلك الصلح بين الأخوين .

لكن الحال في بلاد الشام لم يكن مفرحًا قَطُّ في هذه السنة، ولا في التي بعدها! وهذا حال متوقع لما ذكرناه قبل ذلك من أسباب كذهاب العلم، وضياع قيمة الجهاد، وسلبية الشعب، وتسلط الحكام، وما إلى ذلك من أمراض , ولعل أبرز الأحداث التي رأيناها في أرض الشام في هاتين السنتين تشمل الآتي :

أولاً : إستولى الصليبيون على ميناء جبيل في لبنان جنوب طرابلس ، وذلك بمعونة أسطول بحري جنوي ، وغدر الصليبيون بأهل جبيل بعد إعطائهم الأمان ، وكافأ ريمونُ الرابع الأسطولَ الجنويّ الذي أسقط جبيل بإعطائه ثلث مدينة جبيل، لتصبح جبيل فيما بعد مستوطنة جنوية ، وبسقوط جبيل يكون ريمون الرابع قد وضع الحدود المتوقعة لإمارة طرابلس، حيث يحدها من الشمال مدينة طرطوس ، ومن الجنوب مدينة جبيل ، ويبقى فقط أن يُسقِط المدينة الكبرى (طرابلس) .

ثانيًا : أتم ريمون الرابع بناء قلعة كبيرة في مواجهة طرابلس مباشرة سماها سانت جيل ، Saint Gilles، والمعروفة في المصادر العربية بقلعة الصنجيل ، وقد بناها ريمون الرابع ليستخدمها في إسقاط طرابلس ، ولقد نُقِلت الأخشاب اللازمة لبنائها من قبرص بواسطة الأسطول البيزنطي المساعد لريمون ، ولم يتحرك أحد من المسلمين في المنطقة لهدم القلعة أو منع بنائها ، مع أن طرابلس محاطة من شمالها الشرقي وشرقها وجنوبها الشرقي بإمارتي دمشق وحمص التابعتين لدقاق بن تتش ، وحيث توجد حمص على مسافة أقل من 90 كيلو مترًا ، ودمشق على مسافة أقل من 120 كيلو مترًا .

ثالثًا : حادث آخر مفجع هزَّ العالم هو سقوط مدينة عكا الحصينة في سنة (497هـ) مايو 1104م ، وكان سقوطها مفجعًا لأنها أحصن مدن الشام مطلقًا ، وسقوطها يعني سقوط بقية المدن تقريبًا ، كما أنه سيمنع وصول الإمدادات البحرية للمسلمين بعد ذلك ، هذا إضافةً إلى المجزرة التي تمت في المدينة بعد سقوطها ، على الرغم من الأمان الذي أعطاه الصليبيون للسكان ، وقد تم سقوط المدينة بمساعدة الأسطول الجنويّ الذي أسقط جبيل قبل ذلك ! ولهذا أعطى بلدوين الأول ثلث مدينة عكا للأسطول الجنويّ ، وصارت عكا مدينة تابعة لمملكة بيت المقدس .

رابعًا : بعد رحيل بوهيموند إلى إيطاليا بدأ تانكرد يرتب أوراقه وينظم جيشه ، ودخل في سنة (498هـ) ربيع 1105م في معركة كبيرة مع رضوان ملك حلب ، وإنتصر في هذه المعركة ليسترد بها حصن أرتاح، وليقتل من المسلمين ثلاثة آلاف رجل !

خامسًا : تلقى المسلمون هزيمة أخرى في منطقة الرملة في 498هـ\ 27 من أغسطس سنة 1105م ، وهو ما يعرف في التاريخ بموقعة الرملة الثالثة، حيث هُزم الجيش العبيدي وتشتت شمله في محاولة فاشلة لاسترداد بيت المقدس ، ولعلَّ هذه هي آخر المحاولات الجادة التي بذلها العبيديون لإسترداد القدس .

سادسًا : تُوفِّي دقاق بن تتش في رمضان (496هـ) 1103م ، وتولى من بعده أتابكه طغتكين ، وهو أحد مماليك تتش بن ألب أرسلان والد دقاق ، وكان قائدًا عسكريًّا قويًّا صاحب خبرة مما جعل تتش يوكل إليه مهمة تربية دقاق ، ومن ثَمَّ أعطاه لقب أتابك (أي مربي الأمير) ، ولكن عندما ضعف الأمراء السلاجقة صار للأتابكة العسكريين دور كبير في تسيير الأمور ، بل وأحيانًا صار لهم الحكم صراحة، كما هو في حالتنا هذه، فقد أصبح طغتكين هو حاكم دمشق وحمص ، وبذلك انتهى حكم السلاجقة تمامًا لهاتين المدينتين ، ولكن على العموم فإن طغتكين كان أفضل كثيرًا من دقاق حيث آثر العدل مع الرعية ، وحرص في فترات كثيرة من حياته على حرب الصليبيين، وإن كانت قوته وقوة جيشه لم تمكِّنه من تحقيق نصر حاسم في حياته ، وولاية طغتكين تُعَد بداية فترة حكم للتركمان استمرت مدة 52 سنة، حيث انتهت سنة (549هـ)\ 1154م .

سابعًا : تُوفِّي أيضًا في 2 من ربيع الآخر سنة (498هـ) ديسمبر 1104م السلطان بركياروق سلطان السلاجقة في منطقة فارس والعراق ، وهذا بعد إتمام الصلح مع أخيه محمد كما مرَّ بنا - وكان يبلغ من العمر عند وفاته خمسًا وعشرين سنة فقط ! - وبعد عدة فتن ، ونتيجة لموته استقام الأمر لأخيه السلطان محمد ، فصار يحكم أملاكه وأملاك أخيه بركياروق، وهذا وحَّد الأمة في هذه المنطقة لفترة 12 سنة متصلة .

ثامنًا : من الشخصيات المهمة التي تُوفِّيت أيضًا في سنة (498هـ) فبراير 1105م الأمير الفرنسي الشهير ريمون الرابع ! وقد تُوفِّي في القلعة التي بناها في مواجهة طرابلس لحصارها ، وكانت النار قد اشتعلت في القلعة نتيجة مقاومة أهل طرابلس للحصار ، فسقطت بعض الأخشاب المحترقة على ريمون ، فمات متأثرًا بجراحه , وهكذا فقد الصليبيون زعيمًا شرسًا من زعمائهم دون أن يرى لنفسه إمارة كأقرانه ، وقد ترك حكم جيشه بعد ذلك لابن خالته وليم جوردان الذي إستأنف سياسة ريمون بكاملها حيث صمم على إسقاط طرابلس، ومن ثَمَّ استمر في حصارها ، وكذلك تعاون مع الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين كما كان يفعل ريمون .

تاسعًا : حدثت أزمة في إمارة الموصل نتيجة محاولة السلطان محمد السيطرة على مدينة الموصل ورفض جكرمش لهذه السيطرة لولائه لبركياروق ، مع أن الموصل كانت في الصلح الذي تمَّ بين بركياروق ومحمد من حق السلطان محمد ، إلا أن جكرمش كانت له ميول استقلالية جعلته يرفض تسليم المدينة ، غير أن أخبار وفاة بركياروق ما لبثت أن أتت ، ومن ثَمَّ اضطر جكرمش إلى التسليم للسلطان محمد ، وإن كان هذا التسليم مؤقتًا كما سيتبين لنا .

عاشرًا : فَقَد المسلمون في سنة (498هـ)1105م شخصية مهمة كان لها دور بارز في جهاد الصليبيين ، وهو سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا ، والذي حقق الانتصار في موقعة البليخ بالاشتراك مع جكرمش كما فصلنا ، ولقد كان موته مؤثرًا جدًّا ، حيث كان في سرية عسكرية هبت لنجدة طرابلس عندما إستغاثه حاكمها ابن عمار لحصار ريمون ثم وليم جوردان لها ، وعلى الرغم من كون ابن عمار شيعيًّا وجيشه كذلك ، إلا أن سقمان بن أرتق رحمه الله لم ينظر إلى ذلك ، إنما نظر إلى العدو المشترك للسنة والشيعة وهو العدو الصليبي ، ومن ثَمَّ تقدم في بسالة ، قاطعًا المسافات من حصن كيفا إلى طرابلس (ما يقرب من ستمائة كيلو متر) ، وكان سقمان مريضًا بداء الخوانيق - وهو مرض يعني حدوث اختناق في التنفس - وكان يأتيه في نوبات ، فجاءته هذه النوبة وهو عند القريتين (على بعد 120 كم من طرابلس) ، وعرض عليه أصحابه أن يعودوا به إلى حصن كيفا ؛ حيث لن يقدر على القتال في هذه الحالة، فقال كلمته الخالدة : "بل أسير، فإن عوفيت تممت ما عزمت عليه ، ولا يراني الله تثاقلت عن قتال الكفار خوفًا من الموت ، وإن أدركني أجلي كنت شهيدًا سائرًا في جهاد" ، فساروا به صوب طرابلس ، ولكنه مات بعد يومين !!

إنه صورة مشرقة في وسط هذا الركام أبتْ إلا أن تلقى الله مقبلة غير مدبرة ، فرحمه الله رحمة واسعة ، وجعل مسيره هذا طريقًا له إلى الجنة .

واستكمالاً لبعض الأحداث المؤسفة نخوض قليلاً في تطورات الأحداث في الموصل، وما كنت أود أن أخوض في تفاصيل دقيقة لصراعات وأزمات ، لولا أن أثر هذه الصراعات سيكون كبيرًا ، فالموصل بالذات - كما ذكرنا - لها وضع خاص، ومنها خرجت وستخرج حركات جهاد كثيرة، وشعبها في ذلك الوقت على وعيٍ كبير ، وعلم واسع ، كما أن هذه التطورات ستؤدي إلى اختفاء شخصيات مهمة مرت معنا في قصتنا في أكثر من موضع .

كنا قد ذكرنا أن جكرمش أبدى الموالاة للسلطان محمد بعد وفاة السلطان بركياروق ، ولكن مع مرور الوقت تثاقل جكرمش في إرسال الخراج إلى السلطان محمد ؛ مما جعله يشكك في ولائه ، وراسله في ذلك، فتعلَّل جكرمش ، وهكذا تيقن السلطان محمد أن جكرمش يريد الانفراد بالموصل مستغِّلاً حب الناس له، فاضطر السلطان محمد أن يرسل أحد العسكريين الأشداء لإسترداد الموصل لصالح السلطان، ولكن - للأسف - هذا العسكري كان سيئ الخلق، وحشيًّا في تعاملاته، مكروهًا من العامة، وكان إسمه (جاولي سقاوو) وهو من الأتراك، فسار جاولي إلى الموصل، والتقى معه جكرمش في موقعة على ضفاف دجلة في سنة (500هـ) 1106م ، وهُزم جكرمش بل أسر أيضًا، ولكن شعب الموصل رفض فتح الأسوار لجاولي سقاوو ، وأقاموا عليهم زنكي بن جكرمش، وهو ابن زعيمهم المحبوب جكرمش ، وهذا يدل على إيجابية عالية عند هذا الشعب الواعي، وإن كان الأَوْلَى أن تدخل الموصل تحت حكم السلطان محمد ، لكن السيرة السيئة لجاولي سقاوو جعلت الشعب يأخذ هذا الموقف ، وراسل الشعب شخصية قوية تأتي لتسانده في هذه الأزمة ، وهذه الشخصية هي قلج أرسلان سلطان سلاجقة الروم !

رأى قلج أرسلان أن هذه فرصته لامتلاك الموصل، ولفتح الطريق لتوسيع مملكته ، وجاء بجيشه إلى الموصل ففتح له السكان الأبواب وسط ترحيب، فدخل المدينة وملكها ، ثم خرج لقتال جاولي سقاوو ، ودارت موقعة كبيرة بينهما هُزم فيها قلج أرسلان ، ثم اضطر إلى الهرب فسقط في نهر الخابور ، ولم يستطع النجاة فغرق ، ولم تظهر جثته إلا بعد عدة أيام !

وهكذا جاء قلج أرسلان من آسيا الصغرى يدفعه طموحه لتوسيع ملكه ، وتقوية سلطته ، فإذا به جاء ليلقى حتفه في بلاد غريبة عن بلاده، وفي أرض يطؤها لأول مرة في حياته !! قال تعالى : (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ). وشتَّان بين ميتة قلج أرسلان الذي ملك بلادًا واسعة ، وجاء ليزيدها اتساعًا ، وميتة سقمان بن أرتق الذي لم يملك إلا إمارة صغيرة ، ولكنه مات وهو في طريقه لجهاد الصليبيين !

وعلى العموم فقد دخل جاولي سقاوو مدينة الموصل بعد غياب المدافعين عنها ، وعامل أهلها في منتهى الغلظة ، وأسرف جنوده في اضطهاد السكان ثم لم يلبث جاولي سقاوو أن استقل بالمدينة سنة (502هـ) 1108م، وكان هذا متوقعًا من رجل شرس مثله، فإضطر السلطان محمد أن يرسل له أحد أتباعه لردِّ الموصل إلى سيطرة السلطان ، ولكن في هذه المرة كان مبعوث السلطان رجلاً فاضلاً عالمًا مجاهدًا هو القائد الفذُّ مودود بن التونتكين ، وهو من التركمان الأخيار ، وحاصر مودود مدينة الموصل ، وقاومه جاولي وجنوده ، وحذر جاولي العامة من الإقتراب من الأسوار لعلمه بتعاطف العامة مع الصالحين وكراهيتهم له ، وشدَّد عليهم في ذلك، لكن الشعب لم تمُتْ فيه النخوة، فاجتمعت طائفة من الشعب، وتعاهدوا على فتح الأبواب ، وإتفقوا على استغلال وقت صلاة الجمعة والجميع بالمساجد ، فخرجوا بالفعل في ذلك الوقت إلى أحد الأبراج ، وقاتلوا حرَّاسه وقتلوهم ، وفتحوا الأبواب وهم ينادون باسم السلطان محمد، فأسرع إليهم جند السلطان بقيادة مودود، ودخلوا المدينة وقاتلوا جنود جاولي، وما لبثوا أن سيطروا على المدينة ، غير أن جاولي هرب آخذًا معه صيدًا ثمينًا هو الأمير بلدوين دي بورج الذي كان أسيرًا في مدينة الموصل من أربع سنوات ، وقد أخذه - لا شك - لأنه يعلم أن قيمته كبيرة ، ويستطيع أن يفاوض عليه أو يبيعه !

في ذلك الوقت كان جوسلين دي كورتناي - وهو أمير تل باشر ، والقائد التالي مباشرة بعد بلدوين دي بورج - قد أطلق سراحه في مقابل عشرين ألف دينار ، ومن ثَمَّ سعى بجدية لإطلاق سراح بلدوين دي بورج الذي أصبح الآن في قبضة جاولي الهارب من الموصل .

لقد صار الموقف في غاية التعقيد !!

مودود الآن يحكم الموصل ، وجاولي يهرب ببلدوين دي بورج ، وجوسلين دي كورتناي يحاول فك أسر بلدوين دي بورج ، وإمارة الرها تحت حكم تانكرد منذ 4 سنوات ، وكان تانكرد متسلطًا على شعب الرها وغالبه من الأرمن ، وكان تانكرد مستقرًّا في أنطاكية بعد رحيل بوهيموند عنها، ولكنه كان ينيب عنه في الرها ابن عمه ريتشارد سالرنو .

في ظل هذه الأجواء وصل جوسلين دي كورتناي إلى جاولي ، وسرعان ما بدأ التفاوض المادي حول الأسير الأمير ، ووصل الطرفان إلى إطلاق سراح بلدوين دي بورج في مقابل سبعين ألف دينار، إضافةً إلى وقوف بلدوين دي بورج إلى جوار جاولي والعكس أيضًا عند الأزمات العسكرية ! أي أنها معاهدة دفاع مشترك .

وأطلق سراح بلدوين دي بورج بالفعل وأسرع إلى إمارته ، غير أنه فوجئ أن تانكرد يرفض تسليمه الإمارة بعد أن أعجبته لثرواتها وموقعها ! وهنا لم يجد بلدوين دي بورج حلاًّ بديلاً للحرب لاسترداد إمارته من الصليبي تانكرد !

في هذا الوقت كان جاولي يحاول أن يكون لنفسه إمارة في المنطقة مستخدمًا جيشه الإجرامي ، والمال الوفير الذي توفر في يده ، وكان يسعى لتكوين هذه الإمارة على حساب بعض الأملاك لمملكة حلب المملوكة لرضوان بن تتش .

وعلى هذا أدت هذه الظروف المعقدة إلى حرب عجيبة ، قامت فيها أحلاف أعجب ! فقد تحالف الصليبي بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي وجيشه مع المسلم جاولي وفرقته ، ليحاربوا تانكرد الصليبي الذي تحالف مع رضوان بن تتش عدوه القديم، والذي يعاني الآن من هجمات جاولي !!

أيُّ غيابٍ للفهم هذا ! وأي ضياع للعقل !

ودارت معركة بين الفريقين عند بلدة منبج غربي الفرات ، وذلك في (502هـ) أكتوبر سنة 1108م وهُزم فريق بلدوين وجاولي، وكان النصر حليفًا لتانكرد ورضوان ، غير أن بطرك أنطاكية تدخل في الأمر ، وأمر بأن يعود بلدوين دي بورج لحكم الرها ، ويبقى تانكرد في أنطاكية، وذلك حتى لا يستمر النزاع بين الصليبيين !

في هذا الوقت كان الأرمن من سكان الرها يعتقدون أن هزيمة بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي ستمنعهما من العودة إلى الرها ، فقاموا باجتماع كبير أظهروا فيه رغبتهم في الخروج كلية من سيطرة الصليبيين، وقد ضاقوا ذرعًا بحكم تانكرد لهم ، ولن يختلف حكم غيره من الصليبيين عن حكمه ، ولكن ما لبث بلدوين دي بورج أن ظهر في الصورة، ودخل المدينة حاكمًا، وعلم بهذا الاجتماع ، ومن ثَمَّ انقلب على أهل المدينة ، وعزل كل الكبار من الأرمن ، بل هدد أسقف الكنيسة الأرمينية بسَمْلِ عينيه ، ولم يفتدِ نفسه إلا بمبلغ كبير من المال ، وكل هذا أدى إلى حالة كبيرة من السخط داخل المدينة ، واضطراب عام في الأوضاع ، وهذا - لا شك - سيكون له أثر في عدم استقرار تلك الإمارة .

وهكذا عاد تانكرد لحكم إمارة أنطاكية، بل إنه أفلح في استرداد اللاذقية من الدولة البيزنطية في نفس السنة ، أي في سنة (502هـ) 1108م ، وأصبح بلدوين دي بورج أميرًا من جديد على الرها، ولعله من المناسب أن ننظر نظرة إلى منطقة طرابلس ؛ لأن الأحداث فيها في ذلك الوقت كانت في منتهى السخونة .

لقد كان الحصار مستحكمًا حول طرابلس بقيادة وليم جوردان خليفة ريمون الرابع وابن خالته، وهذا الحصار كان ريمون قد بدأه في سنة (495هـ) 1102م، أي منذ 6 سنوات كاملة، وفي غضون هذه السنوات الست لم تتلقَّ طرابلس أي مساعدة إسلامية خارجية، لا من الإمارات السنية المحيطة بها ، ولا من الدولة العبيدية الشيعية المتمركزة في مصر ، وكما هو معلوم فطرابلس كانت محكومة ببني عمار الشيعة ، وكان أميرها هو فخر الملك ابن عمار .

لم يجد ابن عمار بُدًّا من ترك طرابلس تحت الحصار ، وذلك في سنة (502هـ) 1108م ليذهب إلى بغداد لمقابلة الخليفة العباسي المستظهر بالله ، والسلطان السلجوقي محمد للاستنجاد بهما وبجيوشهما ، لكن للإختلاف المذهبي بين الفريقين لم يُقدِّم الخليفة والسلطان لابن عمار سوى بعض الكلمات التشجيعية والعبارات التأيدية ، تاركين بذلك طرابلس تسقط تحت أقدام الصليبيين ! ولا شك أن هذا نقص في الفهم ، وغياب في الرؤية ، فتقوية ابن عمار إضعاف للصليبيين ، وطرابلس في النهاية مدينة مسلمة ، ولم نطلب من الخليفة والسلطان هنا أن يغيرا من عقائدهما ، أو يبدلا من مبادئهما ، ولكننا نطلب النخوة للدماء التي تُسال ، والنجدة للأرواح التي تزهق ، والشجاعة في وجه الصليبيين ! ولكن كل ذلك لم يحدث ، وعاد ابن عمار ليجد أن طرابلس قد طارت من يده ، لا إلى الصليبيين ولكن إلى العبيديين ! فقد إستنجد أهلها بهم في غياب ابن عمار، فجاءوا بأساطيل من مصر ، وأخذوها لحسابهم ! كل هذا والجيش الصليبي يحاصر المدينة من خارجها !

وفي هذه الأثناء وصل إلى أرض الشام برترام بن ريمون الرابع يبحث عن ملك أبيه ! وبعد صراع وصدام مع وليم جوردان تدخل بلدوين الأول ليقسم بلاد المسلمين بين الأميرين الصليبيين، فأعطى وليم جوردان عرقة وطرطوس، في حين أخذ برترام بن ريمون قلعة صنجيل التي بناها أبوه ومدينة جبيل، على أن يأخذ برترام مدينة طرابلس حال سقوطها .

ثم سعى بلدوين الأول ملك بيت المقدس في تجميع الجهود الصليبية لإسقاط طرابلس، وبالفعل - وهذه أول مرةٍ منذ زمن - تجتمع جيوش برترام ووليم جوردان مع جيوش بلدوين الأول ملك بيت المقدس وجيوش تانكرد أمير أنطاكية ، إضافةً إلى أسطول جنويّ كبير؛ وذلك لإسقاط المدينة العنيدة طرابلس !

ووجدت المدينة المسلمة نفسها وحيدة أمام الطوفان ، وأحيط بالشعب المسكين، وسرعان ما دارت المفاوضات بين الحامية العبيدية (الفاطمية) وزعماء الجيش الصليبي على تأمين الحامية وإخراجها في سلام، وفتح أبواب المدينة للصليبيين ، مع الوعد بصيانة دماء وأعراض المسلمين ، ويتكرر بذلك سيناريو الأحداث في بيت المقدس، وكأنَّ الحامية العبيدية ليس لها دور إلا تسليم المدن الإسلامية إلى جيوش الصليبيين !

وخرجت بالفعل الحامية العبيدية في أمان، ودخل الصليبيون إلى مدينة طرابلس في أواخر سنة 503هـ، وتحديدًا في الحادي عشر من ذي الحجة ثاني أيام عيد الأضحى المبارك (1109م) !

غير أن الجيش الصليبي - كما هو متوقع - غدر بالمسلمين فقتل الكثير من أهل المدينة ، وأسر بقية الرجال، وتم سبي كل النساء والأطفال ، ونهبت الأموال الغزيرة؛ فقد كانت طرابلس من أغنى المدن الإسلامية ، وغنم الصليبيون ما لا يحصى من كتب العلم الموقوفة ، بل حرق الصليبيون في ميادين طرابلس أعدادًا لا يمكن إحصاؤها من الكتب والمخطوطات !

وبسقوط طرابلس تكون الإمارة الصليبية الرابعة قد تكوَّنت بعد حصار سبع سنوات متصلة ، ويكون حلم ريمون الرابع قد تحقق بعد موته ، وإمتلك المدينة ابنه برترام بن ريمون ، لتدخل المدينة فترة عصيبة من تاريخها لم تنتهِ إلا بعد مائة وثمانين سنة كاملة !!

ولم تلبث القلاع الإسلامية المتبقية في ساحل الشام أن تساقطت بعد حالة الإحباط المزرية التي أصابت المسلمين ، فسقطت مدينتا بانياس وجبلة في يد تانكرد وضمهما إلى إمارة أنطاكية ، ثم تبعتها بيروت حيث سقطت - بعد حصار 4 أشهر - في يد بلدوين الأول ملك بيت المقدس بمساعدة برترام بن ريمون في سنة (503هـ) مايو 1110م ، وذلك بعد حدوث مذبحة رهيبة في أهل بيروت المسلمين ، وأخيرًا سقطت مدينة صيدا اللبنانية ، وذلك لحساب بلدوين الأول ملك بيت المقدس ، وبمساعدة أسطول بحري بقيادة ملك النرويج شخصيًّا ، وأسطول آخر بندقي بقيادة دوق البندقية نفسه !

وعلى ذلك سقطت كل مدن الساحل الشامي من أنطاكية شمالاً إلى يافا جنوبًا ، ولم يبق من كل هذه المدن العديدة إلا صور وعسقلان اللتان تأخر سقوطهما نسبيًّا ، وظلتا فترة تحت الحكم العبيدي المصري !

أما المدن الداخلية فقد ذاقت هي الأخرى ألوان الذل ، وإن لم تقبع تحت الاحتلال المباشر ؛ فتانكرد على سبيل المثال حاصر حصن الأثارب غرب حلب - وهو حصن خطير في الطريق بين حلب وأنطاكية ، وهو تابع لإمارة حلب - وعرض تانكرد فك الحصار في مقابل دفع رضوان مبلغ ثلاثين ألف دينار ، ولكن رضوان لم يكن يريد دفع هذا المبلغ الكبير، ولم يكن يريد قتال تانكرد، فترك حصن الأثارب يسقط وكان ذلك في سنة (504هـ) ، وقتل الصليبيون ألفين من رجال المسلمين في داخل الحصن ، وأسروا الباقي ! لكن المشكلة الكُبْرَى أن السيطرة على هذا الحصن جعل حلب مهددة طوال الوقت، وتكرر حصارها إلى الدرجة التي آذت أهلها جدًّا، ولم يستطيعوا أن يخرجوا بسهولة إلى مزارعهم وتجارتهم ؛ مما دفع الكثير من سكانها إلى الهجرة إلى بغداد وغيرها ، وهذا بدوره دفع رضوان إلى عقد صلح مجحف مع تانكرد يتكفل فيه بدفع ثلاثين ألف دينار دون أن يتخلى تانكرد عن حصن الأثارب ، بل إن تانكرد احتل حصنًا آخر هو حصن زردنا، إضافةً إلى إطلاق كل أسرى الصليبيين والأرمن الموجودين في سجون حلب ، ومن هنا تدهور الحال جدًّا في حلب .

ومثلما حدث في حلب حدث في شيزر حيث دفع أميرها سلطان بن منقذ الجزية لتانكرد ، وكذلك تكرر الأمر في حماة حيث تكفل أميرها علي الكردي بدفع الجزية هو الآخر لتانكرد نظير مسالمته !

وهكذا أصبح تانكرد هو سيد المنطقة الشمالية من الشام، كما أصبح بلدوين الأول هو سيد المنطقة الجنوبية من الشام وكذلك فلسطين .

وعند هذا الحد تكون قد مرت ثلاث عشرة سنة على الاحتلال الصليبي للأراضي الإسلامية ، ونحتاج إلى وقفة لتدبر الوضع بعد أن تبلورت صورته إلى حد كبير، ولنأخذ بعض العِبَر من الموقف، ونستقرأ المستقبل الذي ستئول إليه الأحداث .

أولاً : أخذت الإمارات الصليبية بعد هذه السنوات الثلاث عشرة شكلها النهائي ولن يكون التغيير بعد ذلك ولمدة عشرات السنوات كبيرًا، ونستطيع أن نجعل الصورة النهائية للوضع كما يلي :

وهكذا استقرت هذه الكيانات الأربع في عمق العالم الإسلامي ، ودام هذا الاستقرار عشرات السنين كما سيتبين لنا من سياق القصة .

ثانيًا : الوضع الذي وصفناه الآن لا شك أنه أشد وطأة من الوضع الذي نعاني منه الآن في فلسطين ؛

1- تكونت في أرض فلسطين وأجزاء من لبنان مملكة بيت المقدس الصليبية ، وهي الوحيدة التي أطلق عليها لقب مملكة، وهذا يدل على أنها غير تابعة لغيرها بينما يتبعها الآخرون ؛ وهذا هو الواقع الفعلي الذي رأيناه بعد ذلك، فإنه وإن تمتعت كل إمارة صليبية باستقلال ذاتي إلا أن الكلمة الأولى في شئون الصليبيين كانت لمملكة بيت المقدس، وكانت هذه المملكة تحت حكم بلدوين الأول الفرنسي ، وأخذت طابعًا فرنسيًّا بحتًا ، مما جعل المسلمين يطلقون على كل الصليبيين لفظ الفرنجة أو الفرنج أو الإفرنج، وكلها تعني الفرنسيين ، وهذا لمكانة مملكة بيت المقدس بالنسبة لغيرها من الإمارات، وكانت حدود مملكة بيت المقدس في سنة (504هـ) 1110م تمتد من بيروت شمالاً إلى يافا جنوبًا ، وتصل في العمق إلى مدينة القدس في فلسطين، وهي بذلك تضم عدة مدن في غاية الأهمية مثل : بيروت وصيدا وعكا وحيفا ويافا واللد والرملة ، وأهم من كل ذلك القدس الشريف، وسوف تتوسع هذه المملكة مستقبلاً حتى تضم أيضًا صور وعسقلان ، إضافةً إلى صحراء النقب كما سنرى في الصفحات القادمة .

2- الإمارة الثانية للصليبيين هي إمارة طرابلس التي تكونت حديثًا سنة (503هـ) 1109م ، وكان على رأسها الأمير برترام بن ريمون، وكانت هذه الإمارة في بادئ الأمر منقسمة على نفسها كما بينا، حيث كانت طرابلس والجبيل في يد برترام بن ريمون، وعرقة وطرطوس في يد وليم جوردان، غير أن وليم جوردان قُتل - كما يقولون - في ظروف غامضة ! ولا يستبعد أن الذي أوعز بقتله هو برترام بن ريمون ليخلو له الجو في الإمارة، وبالفعل تكونت إمارة طرابلس الموحدة، وكانت حدودها الشمالية تصل إلى طرطوس (في سوريا الآن) ، بينما تصل حدودها الجنوبية إلى مدينة جبيل في لبنان ، أما قاعدة الإمارة فهي مدينة طرابلس بالطبع .

3- الإمارة الثالثة هي أنطاكية، وأميرها هو تانكرد النورماني، وقد توسعت جنوبًا حتى وصلت إلى بانياس، وشمالاً إلى إقليم قليقية، وتوسعت أيضًا شرقًا حتى وصلت إلى مشارف حلب، وكان غالب الجيش في هذه الإمارة من النورمان الإيطاليين . 4- الإمارة الرابعة هي إمارة الرها ، وهي أول الإمارات تأسيسًا، ويقودها بلدوين دي بورج، وتضم عدة مدن في جنوب تركيا وشمال سوريا حول نهر الفرات، وأهم هذه المدن إلى جوار الرها مدينة سميساط وسروج والبيرة، إضافةً إلى مدينة تل باشر التي يقودها جوسلين دي كورتناي الشخصية الثانية في إمارة الرها .

ومع كون الوضع مترديًا على هذه الصورة فإنَّ المسلمين - كما سيتبين لنا - استطاعوا الخروج من الأزمة ولو بعد حين، وعلى هذا فإذا كانت أزمتنا الآن أهون فخروجنا منها أسهل بإذن الله، وحتمًا - كما يثبت لنا التاريخ - يظهر بعد الليل الطويل فجرٌ سعيد .

1- فالوضع أيام الحروب الصليبية لم يكن مقتصرًا على دولة واحدة، بل تأسست أربع دول . 2- ولم يكن الاحتلال مقصورًا على فلسطين وحدها ، بل شمل فلسطين ولبنان وسوريا وتركيا . 3- ولم يقبع الاحتلال هناك فترة قصيرة من الزمن إنما دام مائتي سنة . 4- كما أن المذابح التي رأيناها في احتلال المدن الإسلامية أكثر بكثير من كل ما نشاهده الآن في المدن الفلسطينية . 5- كما أن حالة الفُرقة بين المسلمين أشد وأعتى مما نعانيه الآن؛ فلو نظرت إلى سوريا فقط فإننا سنجدها في زمان الحروب الصليبية مقسمة إلى عدة إمارات منفصلة، منها حلب وحمص ودمشق وحماة وشيزر وبانياس وغيرها . ثالثًا : رأينا الأخطاء المتتالية التي ارتكبها الجيل الذي عاصر الحروب الصليبية، وهذه الأخطاء المركبَّة لم يقوموا هم وحدهم بدفع ثمنها بعد ذلك، بل دفعتها أجيال متعاقبة، ولسنوات طويلة ؛ فقد شاهدوا على سبيل المثال تقاعسًا من المسلمين عن نصرة طرابلس المحاصرة ، وظل الحصار كما رأينا سبع سنوات متصلة ثم سقطت طرابلس ، واستمر هذا السقوط مائة وخمسًا وثمانين سنة !! أي دفع الثمن ستة أو سبعة أجيال متلاحقة ، مما يبين أن حجم الخطأ الذي يرتكبه المرء قد يكون له ذيول وعواقب تضاعف من أثره ونتائجه، وعليه فلا ينبغي أبدًا أن يستهين الإنسان بالذنب أو الخطأ ، ولعل المسلمين تخيلوا عند سقوط طرابلس أن هذا شيء عارض لن يستمر سوى عام أو عامين، ثم كانت العواقب كما رأينا .

وقد حذَّر رسولنا الكريم أن هذا قد يحدث مع الكلمة الواحدة ، فكيف بالفعل والأفعال ! يقول رسول الله : "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ" .

رابعًا : رأينا في المواقف السابقة تعاونًا مشينًا بين بعض القواد المسلمين كرضوان من ناحية أو جاولي من ناحية أخرى مع جيوش الصليبيين ، وفي لحظة من اللحظات ظنَّ هؤلاء أن عزتهم ستكون بالارتباط بالقوة العسكرية الأولى في المنطقة ، ثم رأينا سريعًا أن الصليبيين يتنكرون لهذا التعاون ، وينقلبون على الزعماء المسلمين عند أول فرصة ، ويبيعونهم بأبخس ثمن ، فقد أدَّوا دورهم في مرحلة، ثم لم يعد لهم قيمة ولا نفع ! لقد رأينا تانكرد لا يكتفي بالتنكر لعهده وحلفه مع رضوان ، بل رأيناه يقف بجيشه على أبواب حلب يقصفها ويحاصرها ويمنعها الطعام والشراب ، ويُمعِن في إذلال رضوان فيفرض عليه الجزية، ويسخر منه ويفضحه بين الناس !

إن هؤلاء الزعماء المساكين لم يمروا بقلوبهم أو حتى بعيونهم على قول الله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ) , وأقول لهم : إن لم يكن لكم اعتبارٌ بكتاب الله ولا سنة رسوله فليكن لكم اعتبارٌ بالتاريخ ، وليست هذه صورًا نادرة نحكيها ، إنما هي السنة المطردة، والواقع المتكرر !

خامسًا : إذا كنا رأينا هذه الصورة المتخاذلة من حكام الشام في هذه الفترة العصيبة، فلا بد أن نتساءل: أين علماء الشام ؟! لقد اختفى إلى حد كبير، وأحيانًا إلى حد مطلق مَن يأمر بالجهاد أو المقاومة أو التحرير، سواء في دمشق أو في حلب أو في غيرهم ا!
أين العلماء ؟!

واقع الأمر أنه كما ذكرنا قبل ذلك فقد فُرِّغت الشام من علمائها في أثناء الاحتلال العبيدي السابق لفترة حكم سلاجقة الشام، ولكن - للأسف الشديد - عند ولاية سلاجقة الشام بداية من تتش بن ألب أرسلان أو ولديه رضوان ودقاق كان التغيير في الوضع سياسيًّا فقط، لكن بقي للإسماعيلية الباطنية وجود كبير في داخل المدن الشامية، وعلى رأسها حلب ودمشق، ولكن مر بنا الظهور الإسماعيلي الشيعي الفج في حلب ودورهم في التأثير في رضوان حاكمها، ولكن هذا لم يكن في حلب وحدها ، إنما رأيناه في دمشق أيضً ا!! نعم لم نجد التعاطف الذي أبداه رضوان تجاه الإسماعيلية ، ولكن رأينا بدلاً من التعاطف خوفًا وجبنًا من الباطنية الإسماعيلية أفضى إلى نفس النتيجة، فقد اشتهر الباطنية بحوادث الاغتيال والمؤامرات؛ ولذلك آثر الحكام المسلمون السلامة ، ولم يتقدموا بأي جهد لتغيير الواقع الأليم، حتى رأينا تسلطًا من زعماء الإسماعيلية على مجريات الأمور في دمشق إلى الدرجة التي جعلت حاكمًا مثل طغتكين - على حُبِّه للجهاد ورغبته في نصرة السنة - لا يستطيع الوقوف في وجه الشيعة الإسماعيلية ، فأعطاهم قلعة بانياس بناءً على طلبهم ليتحصنوا بها !

ولكن المؤلم حقًّا أن من بقي من العلماء السنة في داخل دمشق لم تكن له القدرة على الكلام أو التعليم، ولم تكن عندهم الجرأة على النصح والإرشاد، ولما إستفحل أمر بهرام داعي الباطنية في دمشق، وانتشر فساده ماذا فعل العلماء؟! يقول ابن القلانسي في وصفه حال العلماء آنذاك : "وضاقت صدور العلماء وأرباب الدين وأهل السنة، ولم يتجاسروا على الكلام خوفًا من أسرهم وقتلهم" .

آهِ لو خاف العَالِم وسكت ! آه لو تعلل العالِم بعذر فاعتزل! آه لو تمسك العالِم بدنياه فأضاع دينه ودين الناس !

لعل هذه الملاحظة - أعني سكوت العلماء وخوفهم على حياتهم - من أهم أسباب الأزمة التي رأيناها أيام الحروب الصليبية، ومن أهم أسباب الضعف في أي فترة من فترات سقوط الأمة الإسلامية؛ فالعلماء ورثة الأنبياء، وهم قادة الأمة الحقيقيون، فلو ضلُّوا وضاعوا فكيف يُرجى للأمة هداية ؟!

سادسًا : وإذا كنا رصدنا في هذا التحليل القصور الشديد الذي كان عليه الحكام والعلماء، فإن هذا لا يعني أن نعفي الشعوب من المسئولية !
أين الشعب في الشام؟!
أين شعب حلب ودمشق وحماة وحمص؟!
أين شعب بيروت وصيدا وحيفا وعكا؟!
أين أولئك الذين لم يصابوا في دينهم ومقدساتهم فقط، بل أصيبوا في أموالهم وأملاكهم وأعراضهم؟!

إن الشعب الذي يسكت على مثل هذا الذل شعبٌ لا يستحق الحياة !
إن الحاكم لا شيء بغير شعبه ، وإلا فكيف كان يقاتل رضوان إلى جوار الصليبيين؟! هل كان يقاتل بمفرده، أم إنه يقاتل بجيش كبير، ومن وراء الجيش وزراء وأمراء، ومعهم علماء وقضاة وفقهاء ومدرسون، ومن ورائهم موظفون وتجار وفلاحون؟! ألم يكن في بيت كل واحد من هؤلاء زوجة وأم وأخت وبنت؟! ألم يسمع أيُّ واحد من هؤلاء كلمة نصح، أو على الأقل كلمة تعجب: لماذا تفعلون هذه الأفعال ؟!
إن المصيبة كانت عامة! والخطأ مركب، ولا تحدث مثل هذه الكوارث العامة، والنكبات الهائلة إلا بتقصير عام من شتى طوائف الشعب من أعلى سلطة فيه إلى أقل عامل من عمال المسلمين، إلا من رحمه الله، وقليل ما هم !!

سابعًا : رأينا في هذه المواقف أيضًا أن الدولة العبيدية قد باعت القضية تمامًا، فبعد المحاولات الثلاث التي قامت بها عند مدينة الرملة توقفت جهودهم تمامًا لاسترداد فلسطين، أو على الأقل لتأمين الحدود الشرقية للدولة المصرية ، وهذا كان أمرًا متوقعًا منهم بعد أن شاهدنا تخاذلهم في القدس ، وشاهدنا تخاذلهم في عكا ، وشاهدنا استغلالهم للموقف في طرابلس لحسابهم وليس للمصلحة العامة للمسلمين، وشاهدنا أيضًا تخاذل علمائهم في حلب ودمشق، بل وشاهدنا الفظائع التي ارتكبها الباطنيون الإسماعيلية هنا وهناك !

إن هذا كله يثبت أن هذا الدين لا ينصره مختل العقيدة أو مضطرب الفكر، إن هذا الدين عزيز ثمين، ولن يحمل رايته إلا المخلصون الفاهمون !

ثامنًا : مع كل هذا الظلام الذي رأيناه في قصة بداية الاحتلال إلا أن النور لا ينعدم! فقد شاهدنا أمثلة تدل على أن الخير في الأمة لا ينقطع، والهمة لا تموت، نعم قد تضعف، ولكنها أبدًا لا تموت ؛ ولعل رؤيتنا لسقمان بن أرتق وهو يذهب إلى الجهاد في حالته المرضية الشديدة دليلٌ على هذا الكلام، كما رأينا في موقعة البليخ وما ظهر فيها من جهاد وتجرد لله، إضافةً إلى حملات عسكرية متكررة من طغتكين أمير دمشق الذي كان - على سلبياته - محبًّا للجهاد، محببًا عند الرعية، راغبًا في الخير، نادمًا على أخطائه التي لعل من أبرزها سكوته على الإسماعيلية بل إعطاءهم قلعة بانياس، ومع ذلك فإنه عند موته أوصى ابنه بوري بن طغتكين الذي تولى الأمر من بعده بأن يُعلِي من شأن العلماء السُّنَّة، وأن يتمسك بالجهاد في سبيل الله .

إن الأمثلة التي رأيناها في هذه الفترة لم تكن هي الأمثلة الخالصة التي يتحقق التغيير على يدها، ولكنها كانت أمثلة طيبة حملت الراية لمن بعدها، تمهيدًا لظهور شخصية تامة التجرد لله؛ ليُنزِل الله عليها نصره .

تاسعًا : مع شدة الألم الذي إعتصر قلوبنا لسقوط المدن الإسلامية الواحدة تلو الأخرى، ولذبح الآلاف من المسلمين، فإنَّ هذه الغمة كانت سببًا في توضيح الرؤية للشعوب ولنا، فبعض الحكام يُدلِّس على شعبه ؛ مستغلاً إعلامه وجنوده ومقربيه ، وموهمًا الجميع أنه يتحلى بالحكمة ، ويتصف بالكياسة ، ويتميز بحسن الرأي والقرار ، بل لعله يتظاهر بحب الشريعة ، وبذل النفس من أجل الدين ! لكن تأتي مثل هذه الأحداث المحزنة فتكشف الأوراق، وتبدي الحقائق ، ويعرف الناس الغَثَّ من السمين ، والصالح من الطالح ، ولعل هذا من أبرز فوائد هذه الكوارث ، ومن أعظم نتائجها، وصدق الله إذ يقول : (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) .

عاشرًا : برز لنا بوضوح في هذه الأحداث أن الخير سيأتي - غالبًا - من جهة شمال العراق ، وتحديدًا من مدينة الموصل، وإذا كنا قد رأينا حملات كربوغا وجكرمش ، فإننا سنرى ما هو أعظم منها على يد مودود بن التونتكين ، ثم سيكون الظهور الأجلُّ لعماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي ، وكلهم سيأتي من هذه المناطق، وقد ذكرنا قبل ذلك مبررات هذه الخيرية في هذه المنطقة في هذا التوقيت ، ولكن الوقفة المهمة التي نريد أن نلفت الأنظار إليها هي أن التغيير قد يأتي من مكان بعيد جدًّا عن الأحداث ، فقد رأيناه هنا يأتي من شمال العراق بدلاً من الشام أو فلسطين أو آسيا الصغرى ، وهي الأماكن المنكوبة في القصة ، ورأيناه في قصة التتار يأتي من مصر، مع أن التتار لم يدخلوا مصر أصلاً، ورأينا إصلاح أوضاع الأندلس بعد أن كاد الإسلام ينتهي فيها، يأتي على يد عبد الرحمن الداخل صقر قريش القادم من دمشق ، وهكذا ؛ وعلى ذلك فعند وقوع مثل هذه النكبات لا ينبغي لنا عند التحليل والتقييم أن نقصر النظرة على البلد المنكوب ، بل نوسع النظر لنشمل العالم الإسلامي بكامله ، وحتمًا عندها سنرى النور هنا أو هناك، وهذه هي عظمة هذا الدين .

=====
يتبع .
 
التعديل الأخير:
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

جزالك الله خيرا على هذا السرد الرائع
وانا أقوم يوميا بتحديث الصفحة لأرى آخر إظافة لك في الموضوع

سؤال : بنهاية مشاركة اليوم هل يعني ان الحملة الصليبية الأولى إنتهت ؟
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

شكراً لتعقيبك الطيب أخي الفاضل ..

جزالك الله خيرا على هذا السرد الرائع
وانا أقوم يوميا بتحديث الصفحة لأرى آخر إظافة لك في الموضوع

سؤال : بنهاية مشاركة اليوم هل يعني ان الحملة الصليبية الأولى إنتهت ؟
إلي حد ما نستطيع قول ذلك ..
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

فلتسرع اخى بارك الله فيك
لانطيق الانتظار
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

- قصة مودود

مودود بن التونتكين هو أول شخصية متوازنة تظهر في قصتنا ، تجعل الجهاد في سبيل الله منهجًا واضحًا لحياتها ، وتجعل قتال الصليبيين هدفًا إستراتيجيًّا لا يغيب عن الذهن ، ولا يبعد عن الخاطر , وقد رأينا من سبقه من المجاهدين في القصة يجاهد مرة أو مرتين بسبب ظرف من الظروف ، أو لتكليف من السلطة الأعلى ، أو لردِّ عدوان صليبي على بلاده فقط ، أما أن تكون قضية قتال الصليبيين هي الشغل الشاغل بصرف النظر عن الظروف ، فهذا لم نره إلا في عهد مودود بن التونتكين رحمه الله ، هذا مع كونه يرأس الموصل البعيدة نسبيًّا عن إمارات الصليبيين ؛ مما يثبت أنه لم يكن يفعل ذلك لتأمين إمارته فقط ، ولكن إرضاءً لله ، وحبًّا للجهاد في سبيله .

بدأ مودود رحمه الله بترتيب بيته الداخلي في الموصل ، وإقرار الأوضاع بعد الفتن التي مرت بها الإمارة في السنوات السابقة ، وسار في إمارته بالعدل والرحمة ؛ فأحبه الناس حبًّا شديدًا ، ودانوا له جميعًا بالطاعة ، وأعلن مودود أن جهاده سيكون في سبيل الله ، وهذا جعل جنوده في حالة معنوية عالية ؛ إذ أصبح الجهاد قضية شخصية لكل واحد حيث إنهم جميعًا يعملون لله عزوجل ، أما عندما كان الجهاد في عهود سابقة من أجل أمير معين أو طاعة لأمر قادم من هنا أو هناك ، فإنَّ الجنود حينها كانوا يقاتلون بفتور ويدافعون بغير اكتراث ، ولا يسعدون بنصر ، ولا يحزنون لهزيمة ، وهذه طبيعة الجيوش العلمانية التي تقاتل دون قضية ، لكن مودود رحمه الله جعل القضية واضحة تمامًا في عين شعبه وجنده ؛ مما ترك أثرًا إيجابيًّا رائعًا على إمارته ، ظل ممتدًا لعهود طويلة .

ثم إن الخطوة التالية لمودود كانت رائعة ، وتعبر عن فقه عميق لطريق النصر، وهي خطوة توحيد الجهود، وتجميع الشتات ، والالتزام بالفكر الجماعي وقد فقه التوحيد القرآني الفريد : (وَإعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا ) ، ومن ثَمَّ بدأ مودود في مراسلة من حوله من الأمراء لتجميع جيوشهم تحت راية واحدة ، ولهدف واحد وهو طرد الصليبيين من بلاد الإسلام .

لقد كانت خطوة رائعة ، لكن لم ينقصها إلا شيء واحد ! وهو أن مودود بن التونتكين رحمه الله كان عملاقًا في زمان الأقزام !! فهذه الأهداف السامية وهذه الغايات النبيلة لم تكن تشغل أمراء ذلك الزمن ، ومن ثَمَّ لم تكن استجابتهم عالية ، ومن إستجاب منهم لم يكن سلوكه يدل على فهمه لقضية الجهاد في سبيل الله ، بل كانت المسألة عندهم واحدة من اثنتين : إما رغبًا في نفع أو غنيمة ، وإما رهبًا من سلطة مودود بن التونتكين أو سلطانه الأكبر السلطان محمد السلجوقي ؛ ومع ذلك فقد استطاع مودود رحمه الله أن يكوِّن حلفًا من الأمراء لَفَت أنظار المسلمين إلى ضرورة التوحُّد ، وأعاد إلى الجميع مبدأ تجميع الجهود .

تكوَّن حلف إسلامي منظم لأول مرة في حروب المسلمين ضد الصليبيين ، وكان على رأسه مودود رحمه الله ، ويساعده فيه إيلغازي بن أرتق أمير ماردين وحصن كيفا ، وهو أخو الزعيم السابق سقمان بن أرتق الذي مات وهو في طريقه لنجدة طرابلس كما بينا قبل ذلك ، وكان في حلف مودود أيضًا سقمان القطبي (وهو غير سقمان بن أرتق بالطبع) ، وهو أمير خلاط وتبريز ، كما تراسل معهم طغتكين أمير دمشق ، الذي كان له - كما ذكرنا - بعض الميول الجهادية ضد الصليبيين .

كانت وجهة هذه الحملة واضحة إذ قرروا التوجه صوب الرها ، والغرض تحرير هذه الإمارة الإسلامية من الاحتلال الصليبي ، وتحركت الجيوش الإسلامية من الموصل في شوال سنة (503هـ) إبريل 1110م ، وفي غضون أيام قليلة وصلت الحملة العسكرية إلى حصون مدينة الرها ، وهي تقع شرق نهر الفرات ، وهي من أحصن القلاع في ذلك الوقت ، وضرب مودود الحصار حول المدينة !

شعر بلدوين دي بورج أمير الرها بالخطر الشديد ، ومن ثَمَّ أرسل رسالة استغاثة عاجلة إلى بلدوين الأول ملك بيت المقدس ، وكان الذي يحمل الرسالة هو جوسلين دي كورتناي شخصيًّا أمير تل باشر ، دلالةً على اهتمام بلدوين دي بورج بالأمر، ووصلت الرسالة إلى الملك بلدوين الأول وهو في بيروت حيث كان محاصِرًا لها آنذاك .

ظل الأمير مودود محاصِرًا لمدينة الرها مدة شهرين كاملين، وقد حاول بكل طريقة أن ينفذ من خلال استحكاماتها العسكرية لكنه لم يفلح لشدة حصانة المدينة، وفي هذه الأثناء كان بلدوين الأول يجمع الجيوش الصليبية للدفاع عن إمارة الرها ، وبالفعل جاء بلدوين الأول بنفسه على رأس فرقة من جيشه ، وجاء معه برترام أمير طرابلس ، بينما رفض تانكرد أن يأتي للخصومة التي كانت بينه وبين بلدوين دي بورج أمير الرها .

رأى مودود رحمه الله أن جيوشه ستحصر بين جيوش الصليبيين، حيث ستخرج له جيوش بلدوين دي بورج ، ويغلق عليه بلدوين الأول وبرترام طريق العودة ، ومن هنا آثر مودود في ذكاء حربي واضح أن ينسحب بجيشه إلى حرَّان جنوب شرق الرها ؛ تمهيدًا للانسحاب أكثر وأكثر لإستدراج الجيش الصليبي ، كما حدث قبل ذلك بست سنوات في موقعة البليخ ، وهناك في حران وافته جيوش طغتكين أمير دمشق لتزداد بذلك القوة الإسلامية .

نظر بلدوين الأول الملك المحنك إلى هذه الترتيبات العسكرية ففهمها وأدرك صعوبة التوغل إلى حران بجيوشهم القليلة نسبيًّا ، فأرسل رسالة عاجلة إلى تانكرد يستحثه على القدوم بجيشه لمقابلة المسلمين في موقعة فاصلة ، وإزاء ضغط بلدوين الأول ، اضطر تانكرد إلى الموافقة ، فجاء على رأس ألف وخمسمائة فارس ، وعند وصوله عقد بلدوين الأول مجلس مصالحة صفَّى فيه الخلافات القديمة بين الزعيمين بلدوين دي بورج وتانكرد !
إضافةً إلى هذه التحركات الواعية من بلدوين الأول تفاوض هذا الملك الخبير مع كوغ باسيل الأمير الأرمني لمدينة كيسوم ، وبالفعل إنضم إليه كوغ باسيل بفرقة من جيشه .

زادت قدرات الجيش الصليبي ، ولكن ذلك لم يكن خافيًا على إستخبارات مودود رحمه الله ، فقرر أن يُمعِن في الانسحاب حتى يستدرج الصليبيين بعيدًا تمامًا عن حصون الرها أو تل باشر ليفتقروا إلى ملجأ في حال هزيمتهم ، غير أن بلدوين الأول كان يلعب هو الآخر مباراة ذكاء مع مودود ، فقرأ الخطة ولم يندفع وراء الجيش الإسلامي ، خاصةً أنه كان الحاكم السابق لإمارة الرها؛ ومن ثَمَّ فإنه يدرك جغرافية المكان ، وخطورة التوغل جنوبًا .

في هذا الوقت ترامت أخبار للملك بلدوين الأول باحتمال هجوم عبيدي على مملكة بيت المقدس، وكذلك وردت أخبار عن تحركات لرضوان ملك حلب صوب بعض القلاع المملوكة لتانكرد حول أنطاكية ، وقد جعلت هذه الأخبار المزعجة الصليبيين في قلق على إماراتهم ، ومن ثَمَّ قرروا الرجوع دون القتال ومع ذلك فقد رأى بلدوين الأول أن ترك هذه المساحات الكبيرة من القرى والضياع والمزارع - وكلها داخلة في حدود إمارة الرها - سيمثل خطورة كبيرة على سكانها الصليبيين والأرمن ، ومن ثَمَّ أصدر قراره بترحيل كل السكان من هذه المناطق الواقعة شرق الفرات إلى غربه؛ وذلك لتفادي هجوم المسلمين عليهم، وعليه فلن يبقى شرق الفرات إلا المدينتان الكبيرتان الرها وسروج .

وبالفعل بدأ الترحيل السريع للسكان تمهيدًا لعودة الجيوش الصليبية إلى أماكنها ، وأدرك ذلك مودود فتقدم بجيوشه شمالاً ، والصليبيون يتراجعون في سرعة ، ومع ذلك استطاع مودود أن يلحق بمؤخرة الجيش الصليبية ، وبكثير من السكان الذين فشلوا في عملية الترحيل المفاجئة ، وهذا أدي إلي إنتصار إسلامي سريع على مؤخرة الصليبيين ، مع إمتلاك عدد كبير من الأسرى والغنائم والسلاح .

لم تكن الموقعة فاصلة بالطبع ؛ لأن معظم الجيوش الصليبية كانت قد عبرت نهر الفرات إلى الغرب ، أو دخلت حصون الرها وسروج ، ومع ذلك فإنَّ الموقعة تركت عدة آثار إيجابية لا يمكن إغفالها :

أولاً : وضعت الموقعة المسلمين على الطريق الصحيح ، حيث كانت الراية المرفوعة هي راية الجهاد في سبيل الله .

ثانيًا : كانت هذه هي الموقعة الأولى التي تجمع فيها جيوش عدة إمارات في جيش واحد ، وخاصةً أن طغتكين شارك فيها بجيش دمشقي مع الجيوش العراقية والفارسية .

ثالثًا : أدرك النصارى في هذه الموقعة أن العزيمة الإسلامية لم تمت ، وأن الأمة الإسلامية لم تنس قضية الإمارات المحتلة ، ولا شك أن هذا ترك أثرًا نفسيًّا سلبيًّا على الصليبيين .

رابعًا : فَقَد الصليبيون عددًا من الأسرى والغنائم أضافت إلى قوة المسلمين .

خامسًا : إستطاع المسلمون السيطرة على بعض الحصون والقلاع والأراضي شرق الفرات ، ولم يبق في شرق الفرات سوى مدينتي الرها وسروج ، وهما - وإن كانتا في غاية الحصانة – إلا أنهما صارتا معزولتين فقيرتين بعد سيطرة المسلمين على المزارع حولهما ، ولا شك أن هذا سيضعف من إمارة الرها .

وهكذا تركت هذه الحملة إنطباعًا إيجابيًّا مع أنها لم تكن فاصلة ، وعاد مودود إلى الموصل ، بينما رجع كل أمير إلى إمارته .

بدأ المسلمون يشعرون هنا وهناك بأن الأمل ما زال موجودًا ، وأن الواقع الأليم من الممكن أن يُغير ، وشعروا في نفس الوقت أن مودود يقاتل بمفرده وأن الجيوش المتعاونة معه ليست على نفس مستواه ، فأراد المخلصون من أبناء الأمة للحركة أن تتسارع ، وللحميَّة أن تلتهب في صدور الرجال، فقام وفد من أهل حلب، من تجارها وفقهائها وعامتها ، وتوجهوا إلى بغداد ، فقد يئسوا من زعيمهم المتثاقل رضوان ، وهناك إلتقوا مع خليفة المسلمين المستظهر بالله ، ولكنه - كما نعلم - ليس خليفة بالمعنى الحقيقي ، إنما هو صورة خليفة ؛ ولذلك لم يكن لقدوم وفد حلب إليه أثر في قلبه أو عقله ، إنما اكتفى كعادته بسؤالهم عن أحوالهم وظروفهم ، وإبداء الألم والتأسي لما مر بهم ، ووعدهم بالتأييد الكامل لهم قلبيًّا لا فعليًّا !! ووعد أيضًا أن يرفع يده بالدعاء لله أن يرفع الكربة ويزيل الغمة !!

إن الصورة طبيعية ، وردَّ الفعل متوقعٌ من رجل مسكين لا حيلة له لكنَّ أهل حلب لم يقتنعوا بهذه السخافات ، إنما إنطلقوا إلى أهل بغداد؛ يشرحون لهذا ، ويفسرون لذاك ويعرضون الحالة المأساوية التي وصلت لها أمة الإسلام ، وينبهون الغافل أن الدور - وإن كانت الشام هي التي تعاني الآن - سيأتي مستقبلاً لا محالة على الجميع !

والحمد لله أن هذه الكلمات وجدت آذانًا مصغية من أهل بغداد ، ووجدت أيضًا عقولاً فاهمة ، وقلوبًا واعية ، وكان من الواضح أن أثر المدارس النظامية التي أسسها نظام الملك رحمه الله ، وأثر العلماء الذين ملئوا بغداد علمًا ونورًا ، كان من الواضح أن هذا الأثر ما زال باقيًا ، ومن ثَمَّ كانت ردة الفعل عند الشعب كبيرة ، بل غير مألوفة في هذا الزمن ! لقد نظَّم الشعب في بغداد - وهو شعب كبير - مظاهرةً ضخمة خرجت في أحد أيام الجمعة من النصف الثاني من عام (504هـ)1111م ، وكانت هذه المظاهرة تطالب صراحة بالجهاد في سبيل الله لإخراج الصليبيين من ديار الإسلام وتوجهت المظاهرة إلى مسجد السلطان قبيل الجمعة ، وإقتحمت الجموع المسجد ، بل وذهبوا إلى المنبر في غضب بالغ ، وقاموا بكسره ، والتجمهر في المنطقة ، وتكهرب الجو جدًّا حتى إن صلاة الجمعة لم تقم في هذا المسجد ووصلت الأنباء إلى السلطان محمد فوعد الجموع بالجهاد لتسكين ثائرتهم ، والسيطرة على الموقف ، لكن مرَّ أسبوع ولم يحدث شيء ، فتحركت الجموع من جديد في يوم الجمعة التالي ، وذهبوا هذه المرة إلى جامع القصر بدار الخلافة ، فمنعهم حراس الباب ، فاصطدموا معهم وغلبوهم ، ودخلوا الجامع ، وكسروا شباك المقصورة التي يجلس فيها الخليفة ، وكسروا أيضًا المنبر ، وهكذا لم تقم صلاة الجمعة في هذا المسجد كما حدث في مسجد السلطان في الجمعة الماضية، وصار واضحًا أن الأمر خطيرٌ ، وأن التهاون في ذلك الأمر قد يؤدي إلى كوارث ضخمة ، وهنا كان لا بد للخليفة والسلطان أن يتخذا قرارًا حاسمًا يُنهي المشكلة ؛ ولم يكن أمامهما إلا أحد أمرين : إما موافقة العامة ، وتجهيز جيوش حقيقية لمقابلة الصليبيين في موقعة فاصلة ، وإما إستخدام سلاح القمع مع الشعب ، والتهديد بالحبس والجلد والقتل، وما إلى ذلك من وسائل معروفة !

لكن من الواضح أن الثورة كانت كبيرة ، وأن الشعب كان متحدًا في هدف واحد ، وأن الخطوات كانت منظمة ومرتبة ؛ وكل هذا جعل الخليفة والسلطان يعيدان حساباتهما ، ومن ثَمَّ رضخا لقرار الشعب ، وبدأ بالفعل في تجهيز جيش كبير لقتال الصليبيين ، بل إن السلطان محمد جعل القيادة الاسمية لهذا الجيش لإبنه مسعود ، بينما أوكل القيادة الفعلية للمجاهد الحقيقي مودود بن التونتكين !

لقد كان موقف الشعب في بغداد من المواقف المؤثرة في التاريخ ، وإذا سألنا لماذا لم يقم الشعب في حلب أو دمشق أو حماة أو حمص بمثل هذه المظاهرات والثورات ، لقلنا أن الإجابة بوضوح هي أن الشعب في بغداد رُبِّي على مدار سنوات عديدة على المعاني الفاضلة من العلم والجهاد والنخوة ، وشارك في هذا علماء كُثُر ، لعل كثيرًا منهم قد قضى نحبه الآن، ولم يشاهد هذه الآثار ، ومما يثبت هذا السبب ما ذكره ابن الأثير في كتابه الرائع الكامل في التاريخ أن هذه الثورات في بغداد كانت بصحبة "خلق كثير" من الفقهاء !

إن المسألة واضحة بينة ! إنهم العلماء !! لو صلح علماء الأمة صلح أمرها ، ولو فسدوا فكيف نرجو صلاحًا ؟! ولهذا ليس من فراغٍ أن يقول رسول الله : "إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ" ، وليس من فراغٍ أن يقول : "إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها ، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير" .
وهكذا في أوائل سنة (505هـ)\1111م بدأت تجميع الجيوش الإسلامية على نطاق أوسع ، وكان مركز التجمع هو مدينة الموصل ، حيث الزعيم المجاهد مودود بن التونتكين ، وحيث الشعب الفاهم الذي يمثِّل عماد الجيوش ومركز ثقله ..

وجاءت الجيوش من هنا وهناك ، فخرج الأمير مسعود من بغداد ، وخرج أيضًا سقمان القطبي من خلاط وتبريز (جنوب تركيا وغرب إيران) ، وإياز بن إيلغازي بن أرتق من ماردين ، والأمير الكردي أحمديل أمير مراغة (في أذربيجان) ، والأمير برسق أمير همذان وأولاده الأميران إيلبكي وزنكي ، وأبو الهيجاء أمير إربل ..

لقد كان تجمعًا كبيرًا حقًّا ! ولكننا تعلمنا أن العبرة ليست بالأعداد ، ولكن بالنوعيَّة ، وفي كل هؤلاء لم نكن نرى فيهم من فهم القضية بعمق، وبذل فيها بصدق ، إلا مودود ومن معه من أهل الموصل ، أما غيرهم من الأمراء فإنهم جاءوا طائعين لأمر السلطان محمد لا طائعين لأمر الله، وشتَّان !

وخرج الجيش الكبير في شهر محرم (505) تموز 1111م , وبدأ فورًا في عدة عمليات شرق الفرات تستهدف إسقاط القلاع الصليبية في هذه المنطقة تمهيدًا لحصار مدينة الرها ذاتها ، وبالفعل سقط عدد من المواقع الصليبية ووصل الجيش في سهولة إلى مدينة الرها، وبدأ الحصار !

كانت مدينة الرها على حصانتها المعهودة ، بل إن الصليبيين عندما علموا بقدوم الجيش الإسلامي أمدوها بكثير من المؤن والغذاء لتصبر على الحصار الطويل ، ولم يعزم الصليبيون أبدًا على الخروج لحرب المسلمين ، وكانت النتيجة أن شعر مودود أن الوقت يضيع بلا فائدة ، فحصون المدينة أشد من أن تسقط !

ماذا يفعل مودود ؟!

لقد قرَّر أن يكون واقعيًّا، وأن يفك الحصار عن الرها المنيعة، ويتجه إلى غيرها من حصون الصليبيين، وعليه فقد غادر الجيش الرها إلى المدينة الثانية في إمارة الرها وهي مدينة تل باشر غرب الفرات، والتي كان على رأسها جوسلين دي كورتناي القائد الصليبي المشهور .

وحاصر الجيش الإسلامي مدينة تل باشر حصارًا محكمًا، وحاول بكل طاقته أن يفتح أبوابها ، أو أن يهدم أسوارها ، لكنها كانت منيعة كالرها !

ومرت الأيام صعبة على المسلمين دون بادرة تغيُّر في الموقف، وفي هذه الأثناء جاءت رسالتان من الشام تحملان إستغاثة إلى الأمير مودود .

أما الرسالة الأولى فكانت من أمير شيزر سلطان بن منقذ يخبر فيها أن جيوش تانكرد أمير أنطاكية تهاجم مدينته، وأما الرسالة الثانية فكانت من الخبيث رضوان الذي أبدى رغبته في التعاون مع الجيوش الإسلامية ضد تانكرد أمير أنطاكية الذي يهاجم حلب كما يهاجم شيزر ، ولا شك أن هذه كانت رسائل مفزعة للجيش الإسلامي لأنَّ سقوط مدن إسلامية جديدة ، وخاصةً إن كانت كبيرة مهمة كحلب ، سوف يؤدي إلى تعقيد الموقف أكثر ، وتقوية الصليبيين بدرجةٍ أكبر .

وتردَّد الأمير مودود في رفع الحصار عن تل باشر ، خاصةً أن رضوان غير مأمون ، غير أنَّ الشر والخبث لم يكن عند رضوان فقط ! فقد وصل جوسلين دي كورتناي أمير تل باشر إلى أحمديل أمير مراغة وأجرى معه مباحثات سرية وَعَده فيها بوعودٍ نظير إقناع الجيش المسلم بفك الحصار عن تل باشر ! إنها الخيانة في أرض الجهاد ، والطعن في الظهر للجيش الذي يُعلِّق المسلمون عليه آمالهم !

وإستطاع أحمديل أن يقنع القادة المزعومين بضرورة التوجُّه لنصرة رضوان ، واجتمع الأمراء على ذلك ، وإضطر مودود إلى الموافقة ، ورفع الحصار عن تل باشر بعد مرور خمسة وأربعين يومًا كاملة .

وتوجَّه مودود بالجيش المسلم إلى حلب ؛ أملاً في ضمِّ قوته إلى قوة جيش رضوان لمواجهة تانكرد الصليبي ، فليس المهم الآن هو إسقاط الرها ذاتها ، ولكن المهم هو تحرير أيّ أرض إسلامية ، ولو كانت بعيدة عن الموصل .

ولكن عند حلب حدث ما كان متوقعًا من رضوان ! لقد أغلق المدينة في وجه جيوش الموصل والعراق وفارس ، وأعلن أنه يخشى من هذه الجيوش أشد من خشيته من جيوش الصليبيين !

وحدثت أزمة كبيرة ؛ فالجيوش الإسلامية الآن توغلت جدًّا في البلاد ، وبَعُدت عن مددها الأصلي في شمال العراق ، ورضوان يُغلِق الحصون الحلبية في وجهها ، ولو جاءت الجيوش الصليبية الآن فسيصبح الموقف صعبًا ، خاصةً أن حصون الصليبيين قريبة في كل مكان ، والمصيبة أن يخرج بلدوين دي بورج من حصونه في الرها لغلق باب العودة على الجيش الإسلامي، ولمنع المدد من الوصول إليهم ! لقد وضع رضوان الخائن جيش المسلمين في مأزق حقيقي !

وإزاء هذا الوضع المتردي أفاق شعب حلب فجأةً، وقرَّر الخروج في مظاهرات عارمة لردع رضوان عن هذا التصرف المشين ، إلا أنَّ رضوان قام باعتقال عدد كبير من أعيان المدينة ورؤساء القوم، واتخذهم رهائن لتهديد الشعب إذا إستمر في رفضه !!

إنها صورة مكرورة في التاريخ والواقع للقائد الذي يُبدِي كل التخاذل أمام أعداء الأمة ، بينما يبرز سطوته وقهره على شعبه وأهله وأبناء دينه ووطنه !

ووجد مودود نفسه في خطر شديد ، خاصةً أنَّ الأخبار ترامت أن رضوان عقد تحالفًا مع تانكرد نفسه لضرب الجيش الإسلامي ! فقرَّر مودود أن يتجه جنوبًا ليبعد عن حلب ، وليقترب من دمشق حيث إن الأمير طغتكين - وإن لم يكن مجاهدًا من الطراز الأول - أفضلُ من رضوان! وفي حوض نهر العاصي ، وبالقرب من معرَّة النعمان حضر طغتكين أمير دمشق ، والتقى مع مودود الأمير المَكْلُوم من الأمراء المسلمين ، كما هو الحال من الأمراء الصليبيين !

ودارت مباحثات بين زعماء الجيش الإسلامي العراقي والفارسي وبين الأمير طغتكين ، وبدا واضحًا في المباحثات أن طغتكين - مع رغبته في قتال الصليبيين - كان يخشى هذا الجيش الإسلامي الكبير ، ومع هذا الشعور المتوجس فإنَّ طغتكين إستطاع أن يفرِّق بسهولة بين الأمير مودود وبقية أمراء الجيش ؛ فالأول رجل يريد حرب الصليبيين لله ولا يريد ملكًا ولا ثروة ، أمَّا الآخرون فهم كعامة الأمراء في هذا الزمن لا يريدون إلا الدنيا ، وليس لهم في الجهاد نصيب !! ومن هنا نشأت علاقة مودة بين طغتكين ومودود إلا أنه كان يخشى من تأثير بقية الزعماء عليه ، ومن ثَمَّ أصر طغتكين في المباحثات أن تجتمع الجيوش لمهاجمة مدينة طرابلس ليضمن بذلك أن يبعدهم عن دمشق ، وفي ذات الوقت يضربون أخطر الزعماء الصليبيين بالنسبة له وهو برترام بن ريمون أمير طرابلس لقربه من أملاك طغتكين .

لقد كانت تتنازع طغتكين عوامل الدنيا والدين ، ورغبات النفس وأوامر الشرع، فخرجت أعماله مضطربة، لا هي بالجهاد الصريح كمودود، ولا هي بالعمالة الصريحة كرضوان ! وأمثال هذا كثير، وهؤلاء - وإن كان فيهم صلاحٌ - لا يقدرون على التغيير !

وإذا كنا نرى هذه الأزمات الأخلاقية في الجيش الإسلامي ، فإننا رأينا على الناحية الأخرى تماسكًا ملحوظًا في الكيان الصليبي ؛ فقد أرسل تانكرد رسالة إستغاثة إلى بلدوين الأول ملك بيت المقدس فورًا، يدعو أمراء طرابلس والرُّها وتل باشر للالتقاء جميعًا للتوحُّد في مواجهة المسلمين !

إن الله له سُنَّة لا تتبدل ولا تتغير ؛ فالجيش الذي يسعى للوحدة بهذه الصورة لا بد أن تكون له رهبة وأثر ، والجيش الذي لا يَقْوَى على التجمع والاتحاد - حتى في أحلك الظروف - جيشٌ لا يُتوقع له نصر !

وتأزَّم الموقف جدًّا في المعسكر الإسلامي ، ودبَّ الرعب في أوصال معظم القادة ، ومات سقمان القطبي فجأةً - لعله من الخوف - فقرَّر جيشه الانسحاب ! وكانت علة مناسبة لهم لتجنُّب القتال ، ومرض برسق أمير همذان ، وقرر أن يعود هو الآخر لبلاده كي يُطبَّب هناك !! فإنسحب جيشه أيضًا أما أحمديل الزعيم الذي تفاوض سرًّا مع جوسلين فقد تعلَّل بوجود بعض المشاكل الداخلية في مراغة فقرر الانسحاب من المعركة ، وهو بذلك يضرب عصفورين بحجر ؛ فهو سيهرب من الصدام مع الصليبيين وكذلك سيسعى لتحصيل جزء من إرث سقمان القطبي الزعيم الذي مات منذ قليل ، كذلك عاد جيش إياز بن إيلغازي إلى بلاده لهدف عجيب وهو الهجوم على جيش سقمان القطبي بعد وفاة قائده ؛ ليغنم ما معهم !! غير أنَّ جيش سقمان إنتصر عليه وغنموا ما معه ، وساروا به إلى بلادهم !

هل يُصدِّق ذلك أحد ؟! هل يمكن للأمراء والزعماء أن يتفقوا جميعًا على الجبن والهروب والخيانة ؟!

إنَّ هذا هو ما حدث بالفعل ! وهو يفسر المصيبة الكبيرة التي ألمت بالمسلمين أيام الحروب الصليبية ، وهو يفسر أيضًا النكبات التي تمر بالأمة في أيِّ فترة من فترات ضعفها ، وليست أحداث 1948 أو 1967 منا ببعيد !!

وجد الأمير مودود رحمه الله نفسه وحيدًا في أرض القتال ، ولم يثبت معه إلا جيشه ، إضافةً إلى طغتكين أمير دمشق ؛ وأقبلت الجيوش الصليبية من كل مكان ، وبلغ عددها ستة عشر ألف مقاتل ، وهو أكبر بكثيرٍ من القوة الإسلامية المتبقية .

في هذا الوضع الخطير جاءت رسالة من أمير شيزر سلطان بن منقذ يدعو فيها الجيش الإسلامي للقدوم إلى شيزر للتحصن بها ، فتتحقق منفعة مزدوجة ؛ فهذا حماية لشيزر من ناحية، وحماية للجيش المسلم من ناحية أخرى ، وبالفعل توجه الجيش الإسلامي إلى شيزر ، وتحصن وراء أسوارها ، وجاء الجيش الصليبي وقد طمع في الجيش المسلم بعد هروب معظمه !

كان موقع الجيش الإسلامي خطيرًا وهو في هذه العزلة عن بلاده ؛ ولذلك لم يرغب الأمير مودود أن يبقى محصورًا في هذه المنطقة، ولم يكن أمامه إلا تخويف الجيش الصليبي لعلَّه يفتح له الطريق للعودة إلى بلاده ؛ ومن هنا قرر الأمير مودود أن يخرج من الحصون ليناوش الصليبيين ثم يعود ، وهكذا حتى يؤثِّر في الصليبيين فيتركوه يعود ، ويرضوا منه بعدم القتال .

وللصدق الذي يراه الله في قلب مودود ألقى سبحانه وتعالى الرهبة في قلوب الأعداد الكبيرة من الصليبيين ، وبدءوا بالفعل يخشون الهجمات الجريئة للجيش المسلم، بل إستطاع الأمير مودود أن يغنم بعض الغنائم من مؤخرة الجيش الصليبي !.

رأى الصليبيون أنه من الأسلم لهم أن يتركوا هذا المجاهد العنيد ليعود إلى بلاده ؛ ليتفرَّغوا هم للملوك الضعفاء في الشام ، أما مودود فكان واقعيًّا ، ورأى أن الإصرار على الحرب نوعٌ من التدمير غير المقبول لجيشه ، ومن ثَمَّ انطلق إلى الموصل ، بينما عاد طغتكين إلى دمشق !

لقد فشلت هذه الحملة في تحقيق مقاصدها ، ولكنها حققت نفعًا واحدًا وهو كشف أوراق هؤلاء الزعماء ، ليس أمام مودود فقط ، ولكن أمام شعوبهم أيضًا ، وعرف الناس على وجه اليقين مَن هو المخلص المجاهد ، ومَن هو المنافق المتثاقل ، ووضوح الرؤية هذا في غاية الأهمية لإكمال المسيرة ، وحتى لا يبني الناس قصورًا من الرمال ، ويُعلِّقون الأحلام الكبيرة على شخصية قد تُحسن الكلام ولكنها لا تعرف عن العمل شيئًا !!

ومع هذه الآلام المركَّبة التي عانى منها مودود رحمه الله فإنَّه لم ينسَ القضية ، مع أنَّ إمارته آمنة ، وبعيدة نسبيًّا عن الخطر، ومع أن ظروفه في بلده مستقرة ، ويتمتع بحبِّ شعبه له ، لكنه كان متجردًا لله ، فاهمًا للدَّور الذي عليه تجاه دينه وأمته ، وهذا الذي دفعه لإستمرار المسيرة مع كل الخيانات التي تعرَّض لها ؛ ولهذا نجده يُعِدُّ جيشه في ذي القعدة من نفس السنة ، أي في سنة (505هـ) أيار 1112م ، ويهاجم فجأة مدينة الرها مرة أخرى! إنه مع صلابة الاستحكامات، وقلة جيشه لا ييأس من تكرار المحاولة، ولكنَّ حصون المدينة كانت أشد من جيوش مودود ، ففكر مودود في مهاجمة مدينة سروج ، وهي مدينة كبيرة تقع في شرق الفرات بالقرب من الرها، وتعتبر المعقل الثاني للصليبيين شرق الفرات، ولكن مودود خشي أن يخرج بلدوين دي بورج من المدينة فيهاجم مؤخرة الجيش الإسلامي ؛ ولذلك ترك قسمًا من الجيش يحاصر المدينة، وذهب بالقسم الثاني لحصار سروج، ولكن - للأسف - وصلت حركة هذه الجيوش إلى جوسلين دي كورتناي أمير تل باشر، وعرف أن مودود تحرك بقسم صغير من جيشه إلى سروج، فانتهز الفرصة، وأخذ جيشه وانطلق صوب سروج، وهناك إستطاع أن يُلحِق هزيمة بجيش مودود ، وقتل عددًا كبيرًا من رجاله، ويبدو أن مودود كان قد أخطأ التقدير لعدد جيشه ، فتحرك بعدد قليل وسط جموع كبيرة من الصليبيين !

وعلى الرغم من ثقل وَقْع الهزيمة على نفس مودود فإنَّه عاد مسرعًا إلى الرها لينضم ببقية جيشه إلى المسلمين المحاصِرين هناك للحصون .

في هذه الأثناء ، وبينما تدور المعركة حول سروج كان الجيش الإسلامي في الرها قد نجح في عقد معاهدة سرية مع الأرمن في داخل حصون الرها ! ، يتم بموجب هذه المعاهدة تسليم المسلمين إحدى القلاع المهمة التي تسيطر على القطاع الشرقي من المدينة ، وبالفعل تسلَّم المسلمون القلعة ، وبدءوا يتسربون منها إلى داخل حصون الرها ، وجاء مودود في هذه اللحظات، وأسرع مع جنوده لإكمال إسقاط الرها، غير أنَّ جوسلين دي كورتناي كان قد قرأ هذه الأحداث، ومن ثَمَّ أتى قادمًا بجيشه من سروج إلى الرها، وإزاء هذا الوضع الجديد وجد مودود أن قوَّته المتبقية لن تفلح في هزيمة الجيوش الصليبية المجتمعة، ومن هنا قرَّر مودود رحمه الله الانسحاب مرة أخرى إلى الموصل !

إنها المحاولات المتكررة دون يأسٍ، ولكنَّ الله لم يُقدِّر بعدُ أن تُفتح الرها !

إنه الطريق الصعب للجهاد الذي ينتهي بالجنة دون إعتبار بالنتائج المتحققة ، ما دام الجهد كله قد بذل ، وما أروع أن يكون شهداء أُحُد في أعلى علِّيِّين ، وأن يكون حمزة بن عبد المطلب هو سيد الشهداء في الجنة ، مع أن الجميع قد استشهد في مصيبة كبيرة حلَّت بالمسلمين ، لكن أدَّوا ما عليهم ، ولم يتهاونوا أو يفرِّطوا !!

لكن قبل أن نستكمل قصة مودود لا بد من الوقوف مع ما حدث في إمارة الرها حين تراسل الأرمن - وهم مسيحيون - مع جيش المسلمين لتمكينهم من السيطرة على المدينة ! إن هذا يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الأرمن كانوا يرون الحكم الإسلامي للمدينة أرحم وأعدل ألف مرة من الحكم الصليبي الكاثوليكي ؛ مما جعلهم يضحون بأبناء دينهم ، ويتعاونون مع المسلمين ، ولم يكن هذا من رجلٍ دُفع له مال أو وُعِد بشيء ، إنما كان من الشعب في معظمه ، وهذا دليلٌ على صحة تقييم الحكم الإسلامي .

ولم يكن مستغربًا - طبعًا - بعد رحيل مودود أن تُقام المحاكم العسكرية الغاشمة من الصليبيين للأرمن في مدينة الرها ، وكان متوقعًا أن تصدر الأحكام التعسفية ضد الشعب ، وقتل عدد كبير منهم ، ورُحِّل آخرون إلى خارج المدينة ، وصار التعايش بين الأرمن والصليبيين صعبًا للغاية ، خاصةً أن علاقة الأرمن ببلدوين دي بورج كانت مضطربة بعد عودته من الأسر سنة (501هـ)\ 1108م ، أي منذ أربع سنوات سابقة .

وكان من الواضح أن الوضع أصبح خطرًا في داخل إمارة الرها؛ فقد أصبح بلدوين دي بورج يتشكك في كل من حوله مخافة الخيانة والتحالف مع المسلمين ، بل إن بلدوين فَقَد صوابه تمامًا وتشكَّك في جوسلين دي كورتناي، وهو يعتبر الرجل الثاني في الإمارة ، وذلك أنه رأى أن الأرمن يميلون له ويحبونه ؛ فقام بعزله وطرده من الإمارة ، مع أنه قدَّم له خدماتٍ جليلة من أيام أسر بلدوين دي بورج ومرورًا بالمعارك المختلفة مع المسلمين ، وحفظ الأمن في إمارة الرها ، وإنتهاءً بالانتصار على حملة مودود الأخيرة ، لكنَّ هذا هو الذي حدث بالفعل ، وتمَّ إقصاء جوسلين عن منصبه ، فتوجه إلى مملكة بيت المقدس حيث رحَّب به وإستقبله إستقبالاً حافلاً بلدوين الأول ، وقرَّر الإستفادة من قدراته العسكرية الهائلة فأقطعه إمارة طبرية والجليل .

إذن مع فشل حملة مودود العسكرية في سنة (505هـ)\ 1112م إلا أنها أحدثت اضطرابًا كبيرًا في داخل إمارة الرها ، أدَّى إلى قلاقل داخلية وعدم استقرار ، إضافةً إلى إبعاد الخطير جوسلين دي كورتناي عن ساحة الرها .

ومرة أخرى قبل أن نعود لقصة مودود نُعلِّق على حدث آخر محوريّ حدث في هذه السنة ، وهو وفاة تانكرد النورماني أمير أنطاكية في (506هـ)\ 12 من ديسمبر 1112م ، وكانت وفاته خسارة كبيرة للصليبيين حيث تميَّز بالدهاء والشراسة في حربه ضد المسلمين ، ويعتبر هو المؤسس الحقيقي لإمارة أنطاكية ، حيث أدار أمورها ثلاث سنوات حين أُسِر خاله بوهيموند ، ثم أدارها ثماني سنوات أخرى بعد رحيل خاله إلى إيطاليا ، وكان نشيطًا نشاطًا بالغًا ليس ضد المسلمين فقط ، ولكن كذلك ضد البيزنطيين ؛ مما أعطى إمارة أنطاكية شكلاً قويًّا مستقرًّا .

ولمَّا لم يكن لتانكرد وريث شرعي للحكم ، فإنه استخلف - وهو على فراش الموت - شيطانًا مريدًا من شياطين الصليبيين ، وهو روجر دي سالرنو وهو من القادة النورمان الأشدَّاء الذين لم يكونوا أقل دهاءً ، ولا أقل شراسةً من تانكرد نفسه ، وكان زوج أخت بلدوين دي بورج أمير الرها ، فكان في ولايته على أنطاكية توثيقٌ للروابط بين إمارتي الرها وأنطاكية .

ولقد شَرَط تانكرد على روجر دي سالرنو أن يُسلِّم الحكم لابن بوهيموند الطفل ، وهو الذي يُعرف ببوهيموند الثاني ، وكان يبلغ من العمر سنتين فقط ، ويعيش في إيطاليا ، وذلك بعد أن يبلغ هذا الطفل سنَّ الرشد ليتسلم بذلك تركة أبيه ، وقد عُرف روجر دي سالرنو أثناء فترة حكمه بروجر الأنطاكي نسبة إلى أنطاكية ، أو روجر الصقلي نسبة إلى موطنه الأصلي صقلية .

ومن الجدير بالذكر أيضًا أنه بعد وفاة تانكرد بقليل ، وفي سنة 506هـ\ أوائل 1113م تُوُفِّي أيضًا برترام بن ريمون الرابع أمير طرابلس ، تاركًا حكم إمارة طرابلس لابنه بونز Pons ؛ لينشأ بذلك الجيل الثاني من الأمراء والحكام للإمارات الصليبية في بلاد الشام .

ونعود من جديد لقصة مودود رحمه الله ؛ إستمر مودود رحمه الله في الإعداد لحملة جديدة يهاجم فيها الصليبيين منتهزًا أيَّ فرصة مناسبة للخروج ، ولم يكن مهتمًّا كثيرًا بالاتجاه إلى إمارة صليبية معينة ، بل كان غرضه هو تحرير البلاد الإسلامية كلها ، وليس مكانًا معينًا بذاته ، فكان أن أرسل إليه طغتكين أمير دمشق يستغيث به في أواخر سنة (506هـ)\ مايو 1113م ، حيث توقَّع صدامًا مرتقبًا مع بلدوين الأول ملك بيت المقدس .

والواقع أن طغتكين كان قد دخل عدة مناوشات مع ملك بيت المقدس ، وخاصةً حول مدينة صور اللبنانية ، وكانت مدينة صور هي المدينة الوحيدة في قطاع لبنان التي لم تسقط في يد الصليبيين ، ولم ينسها بلدوين الأول بل وجَّه إليها قوة عسكرية لإسقاطها ، فإستغاث أهلها بطغتكين، فتوجه إليها بقوة من جيشه ، وإستطاع الدفاع عنها ببسالة ، بل إنه قال لأهلها : "أنا ما فعلت هذا إلا لله تعالى ، لا لرغبة في حصنٍ أو مال ، ومتى دهمكم عدوٌّ جئتكم بنفسي ورجالي" .

والواقع أن مستقبل الأحداث صدَّق هذا الكلام ، حيث لم يطالب طغتكين أهل صور بدفع مال له نظير الحماية ، ولا شك أن هذا التطوع منه أغضب بلدوين جدًّا ، فكانت النتيجة أنه بدأ يهاجم الضِّياع والأملاك الواقعة جنوب دمشق ، مستخدمًا في ذلك الحامية القوية الموجودة في منطقة الجليل وطبرية بقيادة القائد المتحمِّس الجديد جوسلين دي كورتناي ، بل لم يكتفِ بلدوين الأول بذلك ، بل أخذ في مهاجمة القوافل الدمشقية المتجهة إلى القاهرة ، والتي كانت تسلك طريقًا بعيدًا في الداخل لتهرب من مملكة بيت المقدس ، إلا أنَّ بلدوين الأول كان يترصدها في وادي موسى جنوب البحر الميت ، فينهب ما بها من ثروات وبضائع ، ويعتدي على التجار فيها ؛ ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل شعر طغتكين أن هناك من التحركات الصليبية والإعدادات ما يشير إلى إحتمال هجوم كبير على جنوب دمشق أو دمشق ذاتها ؛ مما دفعه إلى الإستنجاد بالزعيم الحقيقي الموجود في المنطقة وهو مودود بن التونتكين رحمه الله .

وجد مودود رحمه الله أن هذه فرصة مناسبة مع خطورتها ، ووجهُ الخطورة أنه سيقاتل بهذه الصورة في عمق دمشق بعيدًا جدًّا عن إمارة الموصل ، حيث ستكون الموقعة غالبًا جنوب دمشق (أكثر من ألف كيلو من الموصل) ، ثم إنه سيقاتل أقوى جيوش الصليبيين ، وهو جيش مملكة بيت المقدس، إضافةً إلى احتمالية أن يُغلِق عليه الصليبيون في الرها وأنطاكية طريقَ العودة إلى الموصل مما قد يوقعه في خطر شديد ، ومع ذلك فقد قَبِل مودود أن يلبي نداء طغتكين دون تردد، وخرج بالفعل على رأس جيشه صوب دمشق في أواخر (506هـ) مايو 1113م ، أي في نفس الشهر الذي وصلت فيه الاستغاثة من طغتكين .

وكان من الأمور المهمة التي تشغل ذهن مودود ، وهو في طريقه إلى دمشق، أنه سيمرُّ جنوب إمارة الرها أو قد يخترق بعض أملاكها، وهذا - لا شك - قد يعرِّض جيشه لهجوم صليبي، خاصةً أن العلاقات بينه وبين إمارة الرها في غاية التوتر لتكرار هجومه عليها وحصاره لها ، إلا أنَّ الله مهَّد له الطريق ببعض الأحداث التي مهدت له الطريق، وشغلت الصليبيين في داخل إمارة الرها بأنفسهم ؛ ذلك أنه قد سَرَتْ إشاعة في داخل الإمارة في أواخر (506هـ) مايو 1113م ، أي في نفس الشهر الذي خرج فيه مودود من الموصل، أنَّ الأرمن يُراسِلون من جديدٍ المسلمين للخلاص من الصليبيين ، وسواء كانت هذه الإشاعة صحيحة أم باطلة فإنَّ ردَّ فعل بلدوين دي بورج كان عنيفًا للغاية ؛ إذ أمر جنوده أن يقوموا بحملة تطهير عرقي بشعة في داخل المدينة لكل الأرمن بلا إستثناء ، ومن ثَمَّ إنطلق الجنود الصليبيون على تجمعات الأرمن العُزَّل يقتلون ويذبحون ، ثم فتحوا أبواب المدينة ليهرب منهم من يريد إلى خارج المدينة التي عاشوا فيها عمرهم ، وفيها كل ممتلكاتهم وأموالهم ، فمنهم من خرج لا يلوي على شيء، ومنهم من بقي في داره ، فكان من يبقى يدخل عليه الجنود الصليبيون فينهبون داره ، ثم يحرقونها بسكانها من الأرمن! وكان من أبشع أيام هذه المجزرة - كما يروي المؤرخ الأرمني متَّى الرهاوي - يوم 13 من مايو 1113م، حيث انتشرت المذابح بالجملة، وكان أسود يوم في تاريخ الأرمن مطلقًا، حتى كان الأب - كما يصور متَّى الرهاوي - لا يعرف أبناءه، ولا الأبناء يعرفون آباءهم ، بل كان كل واحد ليس له من همٍّ إلا الهرب، وإنتهى الأمر بقتل أو طرد كل الأرمن من المدينة بلا استثناء ! ولا شك أن هذا الموقف جعل الأوضاع الأمنية والاقتصادية في إمارة الرها في غاية الاضطراب ، مما جعل بلدوين دي بورج لا يفكر مطلقًا في مهاجمة جيش مودود ، ولا التجرُّؤ على قطع طريق عودته ، فكان هذا تدبير ربِّ العالمين للمجاهد المؤمن مودود بن التونتكين !

ومع كل ما حدث من خيانات سابقة من الأمراء المسلمين الذين صحبوا مودود في معاركه مع الصليبيين ، فإنَّ مودود دعا إلى التجمُّع من جديد لحرب الصليبيين مرسِّخًا بذلك مبدأ الوحدة والتجمع حول راية واحدة، وقد إستجاب له في هذا النداء قميرك أمير إمارة سِنْجَار ، وهي من إمارات ديار بكر في شمال العراق ، وكذلك إياز بن إيلغازي أمير ماردين، إضافةً - طبعًا - إلى طغتكين أمير دمشق الذي وجَّه الدعوة إلى مودود .

تجمعت الجيوش السلجوقية عند مدينة سَلَمْيَة ، وهي إلى الجنوب الشرقي من حماة ، ثم اتجهت مباشرةً إلى مدينة طبرية الحصينة ، وهي تطل على بحيرة طبرية المعروفة في فلسطين ، وهناك إلتقى جيش مودود مع جيش طغتكين ، وبدآ حصارًا سريعًا لمدينة طبرية إلا أنها إستعصت عليهم ، فتركها الجيش الإسلامي وأخذ في غزو المناطق المحيطة مستوليًا على قدر كبير من الغنائم والممتلكات الصليبية حتى وصلوا إلى جبل الطور .

ووصلت الأخبار سريعًا إلى بلدوين الأول ملك بيت المقدس ، فأرسل رسالة استغاثة عاجلة لكل الإمارات الصليبية ، فردَّ عليه بالإيجاب أمير أنطاكية الجديد روجر الأنطاكي ، وكذلك أمير طرابلس الجديد بونز بن برترام ، وتحركا بجيوشهما فعلاً في اتجاه طبرية ، أما بلدوين دي بورج فقد إعتذر للظروف التي تمر بها إمارته كما وضحنا .

ومع كون بلدوين الأول قد أرسل طلبًا للمعونة إلا أنه لم يستطع أن ينتظر الجيوش الصليبية القادمة من الشمال ؛ لأنه خشي أن تتوغل الجيوش الإسلامية في مملكته ، مما قد يهدِّد مدينة القدس ذاتها ، خاصةً أن مدينة عسقلان لم تزل في يد العبيديين ، وقد تحصر القدس بين الجيوش السلجوقية والجيوش العبيدية ؛ ولذلك خرج بلدوين الأول بسرعة شمالاً في اتجاه طبرية .

عَلِم مودود بتحرك الجيش الصليبي من الجنوب فأسرع باختيار مكان مناسب للقتال ، وإختار شبه الجزيرة المعروفة بالأقحوانة ، والموجودة بين نهر الأردن ونهر اليرموك جنوب بحيرة طبرية، ولم يكتفِ بذلك ، بل نصب كمينًا خطيرًا لبلدوين الأول عند جسر الصنبرة على نهر الأردن جنوب غرب بحيرة طبرية .

وفي يوم 13 من محرم 507هـ\ 20 من يونيو 1113م , شاء الله أن يدخل بلدوين الأول في الكمين الذي نصبه مودود له عند جسر الصنبرة ، بل إنه في رعونة بالغة - لا تُفسَّر إلا بأن الله أعمى بصره - لم يترك حامية صليبية تحمي ظهره ، وكأنه نسي كل القواعد العسكرية التي تعلمها طوال حياته !

دارت موقعة شرسة عند جسر الصنبرة - وهي ما عرفت في التاريخ بموقعة الصنبرة وكان للمفاجأة عاملٌ كبير في تحويل دَفَّة المعركة لصالح المسلمين، وما هي إلا ساعات حتى سُحِق الجيش الصليبي ، وقتل ما يزيد على ألفي فارس ، وهرب بلدوين الأول بمشقة بالغة بعد أن دمرت فرقة من أهمِّ فرق جيشه ! وغنم المسلمون غنائم هائلة في هذه المعركة من الخيول والسلاح والممتلكات ، وكان يومًا ردَّ فيه مودود رحمه الله الاعتبارَ من هزيمة السنة الماضية عند حصون الرها ، ومما هو جدير بالذكر أن هذه المعركة شهدت بزوغًا رائعًا لنجم إسلامي جديد كان في جيش مودود ، وهو القائد العسكري الفذُّ عماد الدين زنكي ، الذي أبلى بلاءً حسنًا في هذه الموقعة حتى وصف ذلك ابن الأثير بقوله : "وقد وصل في المهارة العسكرية إلى الغاية !" .

ثم ما لبثت الأخبار أن أتت بقرب وصول جيش روجر وبونز ، مع إحتمال وصول إمدادات جديدة من بيت المقدس والمدن الساحلية ؛ مما جعل مودود يفكر في سحب جيوشه بسرعة قبل أن تُحصر في طبرية .

خرج مودود فعلاً من منطقة المعركة ليتجنب الوقوع في كمائن الصليبيين ، ثم ما لبثت الجيوش الصليبية أن تجمعت من جديد ، لكنها لاحظت قوة الجيش الإسلامي وارتفاع معنوياته فقرَّرت عدم الدخول في مواجهة فاصلة ؛ ولذلك إحتمت بأحد المرتفعات غربي بحيرة طبرية ، وتوجه إليهم المسلمون وحاصروهم ، لكنَّ الصليبيين رفضوا النزول من أماكنهم ، وإكتفوا برمي المسلمين بالسهام والرماح من بُعد .

في هذه الأثناء كانت الجيوش الإسلامية - إضافةً إلى حصار الصليبيين في أماكنهم - تجوب المنطقة لتدمير الحصون الصليبية فيما بين عكا والقدس ، كما حصلوا على كثيرٍ من الممتلكات الصليبية .

ثم إنه في هذه الأثناء أيضًا تحرك جيش عبيديّ من عسقلان صوب بيت المقدس ، وكان جيشًا صغيرًا لم يفكر إلا في إحداث بعض الهجمات الاستنزافية في المنطقة ، ولم تكن له القدرة على قتال الحامية الصليبية القوية في بيت المقدس ، ومع ذلك فقد أرعب هذا الجيش بلدوين الأول الذي خشي من تواصل هذا الجيش مع الجيش السلجوقي ، ومن ثَمَّ يتأزم الموقف أكثر، إلا أنه - للأسف - لم تكن نية التعاون مع المسلمين السُّنَّة واردة مطلقًا عند الجيش العبيديّ ؛ لذلك ما لبث أن عاد إلى عسقلان محمَّلاً ببعض الغنائم دون التواصل مطلقًا مع جيش مودود !
استمر حصار المسلمين لجيش الصليبيين مدة ستة وعشرين يومًا كاملة دون أن يجرُؤَ الصليبيون على الخروج لمواجهة شاملة ، إلا أنه في (507هـ) أغسطس 1113م وصل أسطول أوربِّي يحمل ستة عشر ألف حاج صليبي مسلح إلى ميناء عكا القريب ، ولا شك أن هذا العدد الضخم قَلَب الموازين لصالح الصليبيين .

شعر مودود رحمه الله بالخطر نتيجة تجمع هذه الأعداد الكبيرة من الصليبيين ؛ ولذلك فكَّر في الانسحاب من طريقه مكتفيًا بالنصر الذي حققه ، ومحافظًا على جيشه الذي لم يفقد في هذه المعارك إلا القليل جدًّا من رجاله، وبالفعل تحركت الجيوش الإسلامية صوب الشمال في إتجاه دمشق ، ولم تفكر الجيوش الصليبية في متابعتها لإرهاقها الشديد ، وهزيمتها النفسية نتيجة الخسائر الكبيرة ، فضلاً عن خوفهم من هجوم عبيديّ أكبر على مدينة القدس .

وهكذا رضي الطرفان بهذه النتيجة ، وإتجهت الجيوش الإسلامية إلى دمشق حيث دخلتها في ربيع الآخر (507هـ) سبتمبر 1113م .

ولا بد لنا من وقفة سريعة مع موقعة الصنبرة التي كان لها الكثير من الآثار الجليلة في قصتنا :

أولاً : أعادت هذه الموقعة الثقة للجيش الإسلامي وللمسلمين بصفة عامة ، خاصةً بعد النتائج السلبية للحملات السابقة، وهي بذلك تعتبر من معارك ردِّ الاعتبار ؛ ولذا فقد رَفَعت الروحَ المعنوية جدًّا للمسلمين ، بينما أحبطت الصليبيين ، وخاصةً أنهم لم يجرءوا على المواجهة برغم اجتماع جيوشهم .

ثانيًا : خسر الصليبيون في هذه المعركة أكثر من ألفي فارس ، إضافةً إلى الغنائم والأسلاب ، فضلاً عن خسارة عددٍ كبير من القلاع والحصون التي دُمِّرت في منطقة طبرية ، بل وجنوبًا حتى مدينة القدس .

ثالثًا : ترسَّخ لدى المسلمين بعد هذه الموقعة مبدأ الهجوم على القوات الصليبية بدلاً من الدفاع ، وهذا - لا شك - مبدأ عسكريّ إستراتيجي مهم ، ويحتاج إلى روح قتالية عالية ، وثقة بالنفس ، وهو ما تحقق في هذه الموقعة .

رابعًا : وضحت أهمية الوحدة في الجيش الإسلامي ، حيث تمت الموقعة باتحاد الموصل مع دمشق في الأساس ، إضافةً إلى المساعدات الرمزية التي قدمها قميرك أمير سنجار ، وإياز بن إيلغازي أمير ماردين .

خامسًا : ولعل من أهم ثمرات موقعة الصنبرة هو علو نجم البطل الإسلامي العظيم عماد الدين زنكي بن آق سنقر الحاجب ، وقد أظهر في هذه المعركة من فنون القتال وبسالة الهجوم ما لفت إليه أنظار الجميع ، وطارت أخباره في الآفاق ، مما سيؤثر مستقبلاً في مسيرة الجهاد بصفة عامة ، ولا شك أننا سيكون لنا وقفات مع هذا المجاهد الفذِّ ، نستعرض فيها قصته بشيء من التفصيل .

دخل مودود بن التونتكين رحمه الله مدينة دمشق في 507هـ\ سبتمبر 1113م ، عازمًا أن يبقى فيها فصل الشتاء ؛ ليستغل هذه الفترة في تجميع جيوش جديدة والاستعداد لمواجهة جديدة مع الصليبيين .

هذا ما كان يريده ، لكنَّ أعداء الأمة ما كانوا يريدون ذلك ، بل أضمروا صورة مقيتة من الغدر قلَّ أن نجدها في صفحات التاريخ !!

وما يحزن القلب حقًّا أن أعداء الأمة الذين نعنيهم في هذا الموقف ليسوا من الصليبيين، لكنهم كانوا من أبناء الإسلام!! أو من الذين يدعون ظاهريًّا أنهم من أبناء الإسلام!!
لقد دخل مودود رحمه الله إلى مسجد دمشق الكبير لأداء الجمعة الأخيرة في شهر ربيع الآخر سنة (507هـ) تشرين الأول 1113م، وفور انتهاء الصلاة ، وبينما هو يتجول في صحن المسجد واضعًا يده في يد طغتكين ، قفز عليه رجل من الباطنية ، وطعنه بخنجر ؛ فلقي مصرعه على الفور ، ليختم بذلك حياة حافلة بالجهاد والبذل والعطاء ، ونحسبه شهيدًا ، ولا نزكيه على الله ، والله حسيبه !

وبادر طغتكين فورًا بقتل الباطنيّ قصاصًا ، بل وأحرق جثته ، وأسدل الستار على أبشع جريمة ارتكبها الباطنية منذ حادث إغتيال نظام الملك الوزير السلجوقيّ العظيم .

ولكن لا بد من التساؤل : مَن وراء هذه الجريمة البشعة ؟ ومن المستفيد من قتل عَلَمٍ من أعلام المسلمين كانت الآمال معقودة عليه ليحرِّر البلاد المسلمة من دنس الصليبيين ؟

لقد روَّج رضوان زعيم حلب أن طغتكين أمير دمشق هو الذي حرَّض على قتل مودود رحمه الله ، وإلتقط هذا الترويج المؤرخون الأقدمون مثل ابن الأثير وابن القلانسيّ وأثبتوه في كتبهم ، ولكنهم ذكروه بصيغة الشك والتضعيف، حيث قالوا : "فقيل إن الباطنية بالشام خافوه فقتلوه، وقيل بل خافه طغتكين فوضع عليه من قتله " .

ثم تلقف المؤرخون المعاصرون من المسلمين والنصارى هذا الاتهام وأثبتوه ، وكان من الأسباب التي دعتهم إلى هذا الاعتقاد سرعة قتل الباطني وإحراق جثته ، وقالوا : إن هذا نوع من إخفاء الأدلة ، والتخلص من سرِّ الجريمة .

وأنا في اعتقادي أن المحرِّض على الجريمة لم يكن طغتكين؛ فالذين يعتقدون أنه طغتكين يرون أن أمير دمشق عندما رأى قوة مودود وجيشه خاف أن يكون كل غرضه من حرب الصليبيين هو امتلاك دمشق والشام ؛ ولذلك تخلص منه قبل أن يضيع ملكه !

وهذا الكلام مردود من أكثر من وجه :

أولاً : لم تظهر من مودود رحمه الله أيُّ نوايا غدر بطغتكين أو غيره ، بل كان في غاية التسامح حتى مع مَن خانوه في أرض المعركة ، وكان لا يريد أن يشغل نفسه بمعارك جانبيَّة مع المسلمين، وخَبُر ذلك طغتكين بنفسه - وهو سياسي محنك - وذلك على مدار ثلاث سنوات كاملة من جهاد مودود ضد الصليبيين .

ثانيًا : أعاد مودود رحمه الله جيشه إلى الموصل بعد انتهاء موقعة الصنبرة ، ولم يدخل دمشق إلا في وفد صغير من خاصَّته ، ولو كان ينوي الغدر لأبقى جيشه معه، وهذا - لا شك - طمأن طغتكين .

ثالثًا : أثبت ابن الأثير نفسه في كتاب الكامل قبل الحديث عن موقعة الصنبرة أن هناك علاقة "مودة وصداقة" نشأت بين طغتكين ومودود .

رابعًا : ليس من المعقول أن يتخلص طغتكين من مودود ، وهو يعلم أنه القوة الوحيدة التي يستطيع أن يحتمي بها إذا دهمه الصليبيون ، ولا شك أن طغتكين كان يتوقع انتقامًا من الصليبيين بعد موقعة الصنبرة ، فليس من المعقول أبدًا أن يختار هذا التوقيت فيشجع الصليبيين على سرعة الانتقام .

خامسًا : شاهدنا من طغتكين مواقف جهادية ضد الصليبيين أكثر من مرة ، واطَّلعنا منه على بعض المواقف الإيمانية، مما يوحي أنه ليس رجلاً غادرًا إلى الدرجة التي يُقدِم معها على قتل أمل المسلمين وإغتيال الرجل الصالح مودود ، وهذا لا يعني أن طغتكين ليست له أخطاء ، بل إرتكب وسيرتكب أخطاء قد تكون كبيرة إلا أنَّ جريمة بشعة مثل اغتيال مودود لا بد أن تستند إلى دليلٍ قوي ، إن كان المتهم فيها هو طغتكين .

سادسًا : ليس بالضرورة أن تكون سرعة التخلص من القاتل دليلاً على أن طغتكين هو الآمر بالقتل ؛ فإن طغتكين فعل ذلك لكي لا يُتهم بالتواطؤ مع القاتل ، والرضا بفعله ، ونحن نرى في مثل هذه الحوادث أنه يتم القبض على القاتل ثم يُسهَّل له الهرب بعد أن يقبض الثمن ، وليس من المقبول أيضًا أن طغتكين غدر بالقاتل لأنه من الباطنية ، وقد مرَّ بنا أن طغتكين كان يخاف من الباطنية، فليس متوقعًا أنه يغدر بهم مخافة أن يُقتل هو شخصيًّا.
سابعًا: إن لم يكن هناك دليل قوي على أن طغتكين هو الذي قتل مودود، ألا يجب أن نسأل مَن أكثر المستفيدين من قتل مودود ، ثم نُوزِّع الاتهامات على المشتبه فيهم بدلاً من إلقائها بالكلية على طغتكين ؟!

الواقع أن المستفيدين من قتل مودود كُثُر ؛ هناك في مقدمة هؤلاء المستفيدين رضوان ملك حلب، الذي قد يكون أسرع باتهام طغتكين لينفي التهمة عن نفسه، ورضوان يكره مودود كراهية كبيرة جدًّا، ويخافه أيضًا خوفًا شديدًا جدًّا، ولا ينسى رضوان أنه أغلق أبواب مدينته في وجه مودود وجيشه سنة 505هـ، أي قبل سنتين فقط ، ووضع بذلك مودود وجيشه في مأزق خطير، بل إن رضوان تحالف ساعتها مع تانكرد أمير أنطاكية ضد مودود ! وأكثر من ذلك فإنَّ رضوان رأى من شعبه مظاهراتٍ تطالب بفتح الأبواب لمودود، فلا يستبعد أن يطالب الشعب الآن بضم حلب تحت إمرة مودود، وخاصةً بعد الانتصار المهيب الذي تحقق في معركة الصنبرة، والذي - لا شك - رفع أسهم مودود عند أهل حلب والمسلمين بصفة عامة ، ثم إنَّ حلب هي الإمارة الملاصقة للموصل، وكثيرًا ما رأينا أن الذي يحكم الموصل يحكم حلب أيضًا؛ ولذا فتوسُّع مودود فيها يُعتبر توسعًا طبيعيًّا، إضافةً إلى أن علاقة رضوان بالباطنية قوية، بل إنه صار من دُعاتها والمؤيدين لها، وذلك على خلاف طبيعة شعبه ومعتقداته ؛ كل هذه الأدلة تشير إلى أن رضوان هو المستفيد الأكبر من قتل مودود ، فإذا زدنا على ذلك أن رضوان يبغض طغتكين جدًّا ، ويخشى من توسُّعه على حسابه في إمارة حلب، بل كان يبغض أخاه دقاق زعيم دمشق السابق، وكان يقاتله في أحيانٍ كثيرة طمعًا في زيادة ملكه ، وكذلك هناك في تاريخ رضوان جريمة اغتيال مشابهة عندما أوعزإلى الباطنية أن يقتلوا جناح الدولة حسين بن ملاعب أمير حمص بعد أن خاف على ملكه، مع أنَّ جناح الدولة كان متزوجًا من أمِّ رضوان شخصيًّا، لكنَّ هذه العلاقات لم يكن رضوان يضع لها أيَّ اعتبار ، ومن ثَمَّ فيتوقع منه أن يُقدِم على أيّ جريمة في سبيل تثبيت أقدامه في الحكم؛ إذا وضعنا هذه النقاط إلى جوار بعضها البعض فإنني أرجح أن يكون رضوان هو الذي دفع لهذه الجريمة الشَّنعاء .

ومع ذلك فليس رضوان هو المستفيد الوحيد من قتل مودود، فهناك أيضًا الباطنية أنفسهم، ودون تحريض من أحد، وقد كانوا قوةً لا يُستهان بها في الشام حتى كان يخافهم أكبر زعماء الشام : رضوان وطغتكين ، ولا شك أن ظهور شخصية مستقيمة مجاهدة سُنِّية كمودود ، قد يُغلِق على الباطنية أبواب الفساد، ويمنعهم من حياة المجون والجريمة، وقد اشتهروا بحوادث الاغتيال المأجورة، ولا يستبعد أنهم قاموا بالجريمة من جَرَّاء أنفسهم .

كما أن من المستفيدين أيضًا الصليبيين ، وليس من المستبعد أن يتعاون الصليبيون مع زعماء الباطنية ، ويغرونهم بالمال أو بالسلاح أو بالقلاع في نظير التخلص من هذا القائد الفذِّ الذي أوشك على قلب أوضاع الصليبيين تمامًا في أرض الشام ؛ وليس من المستبعد أيضًا أن تكون الجريمة قد تمت بالاتفاق بين الأطراف الثلاثة : رضوان والباطنية والصليبيين ، أو باتفاق طرفين منهم ، وكلهم عندي أقرب إلى هذه الجريمة من طغتكين أمير دمشق .

ولعلَّ سائلاً يسأل : كيف يُقدِم باطنيٌّ على هذه الجريمة وهو يعلم أنه سيُقتل لا محالة؟ وأيُّ معتقدٍ هذا الذي يدفع إلى هذه العمليات الانتحارية مع كون الباطنية منحرفي الفكر ، مذبذبي العقيدة ، بل هم خارجون بلا جدالٍ عن ملة الإسلام ؟

إن طائفة الباطنية الإسماعيلية كانت قد انقسمت إلى فرقتين - كما مرَّ بنا في مقدمات هذا الكتاب - هما المستعلية والنزارية، وهما أولاد الخليفة العبيديّ المستنصر بالله ، وذلك بعد موت المستنصر في سنة (487هـ) ، وتنازع الولدان الحكم، ولكن وزير مصر آنذاك وهو بدر الجماليّ وضع المستعلي - وهو الأصغر - في الحكم ، وكان هناك أحد الوزراء الكبار في مصر وهو الحسن بن الصباح، وكان مؤيِّدًا لإمامة نزار ؛ ولذلك فبعد تولية المستعلي انسحب الحسن بن الصباح من مصر إلى الشام آخذًا معه نزار، ومؤسِّسًا فرقة شنيعة من فرق الشيعة اسمها النزارية الإسماعيلية، وهي التي عُرفت في التاريخ باسم الباطنية؛ لأنهم كانوا يدَّعون أن كل آية في القرآن لها معنًى ظاهري يفهمه عوام الناس، ومعنى باطني لا يفهمه إلا هم، وعليه فقد فسروا القرآن على هواهم ، ومن ثَمَّ خرجوا بتفسيراتهم ومعتقداتهم من الإسلام تمامًا ؛ ثم إن الحسن بن الصباح - الذي تولى الزعامة الحقيقية في هذه الفرقة الضالة - كان يُسقِي أتباعه الحشيش (وهو النبات المخدِّر المعروف) فيخرج التابع عن الوعي، ومن هنا يبدأ في الطاعة المطلقة للشيخ، وهو الحسن بن الصباح .

ثم إنَّ الحسن فعل ما هو أشد من ذلك، إذ أنشأ لهم حدائق واسعة سمَّاها الجنةَ ، وأتى فيها بكل أنواع الثمار، وغرس فيها الأشجار، بل وأجرى فيها عدة أنهار صناعية صغيرة، وملأها كذلك بالفتيات رائعات الجمال ، ثم كان يُعطِي الحشيش لأصحابه حتى يغيَّبوا تمامًا عن الإدراك، فيأتي بهم إلى هذه الجنة ، وينتظر أن يصبحوا بين المنام واليقظة، فيأتي لهم بألوان الطعام والشراب ، ويرتكب الأتباع الفواحش مع النساء، ثم يُعطى الحشيش حتى يغيب عن الوعي ثانية، ويُخرج من هذه الجنة، وعند يقظته يُقال له : لكي تعود لا بد من طاعة الشيخ (الحسن بن الصباح) ؛ وهكذا يتكرر معه الأمر، حتى يصبح مدمنًا للحشيش، ويصبح أيضًا مدمنًا للجنة وملذاتها، ثم يطلب منه في يوم من الأيام أن يقوم بعملية اغتيال انتحارية على أن ينتقل بعدها للإقامة الدائمة في الجنة !!

ولا شك أن الباطنية كانوا يختارون أتباعهم من بسطاء الفكر والدين، ومن الفقراء المقهورين ، ومن الأعراب الجاهلين، فيصبحون بذلك طوع إرادة قادتهم يفعلون بهم ما يشاءون .
وكانت الباطنية بصفة عامة يحترفون القتل بكل فنونه، ويجيدون تدبير المؤامرات، وحوادث الاغتيال، وكانوا عصابات مسلحة يصعب السيطرة عليهم، ومن ثَمَّ كان اسمهم يوقع الرهبة في قلوب عموم الناس، حُكَّامًا كانوا أو محكومين !

ولكونهم كانوا يدمنون الحشيش فإنهم عُرفوا في التاريخ بالحشَّاشين، وجرائمهم في تاريخ الأمة لا تحصى، نجحوا في كثير منها، وأخفقوا في أخرى، لكنهم كانوا دومًا مصدر رعب وهلع، ووسيلة عرقلة مستمرة لمسيرة الصالحين!
لذا لم يكن يستغرب أبدًا بعد هذا العرض أن يُقدِم باطنيٌّ على عملية انتحارية لقتل رجل من الرجال بتحفيز زعيمهم؛ لكي يدخل الجنة المزعومة ، أو على الأقل ليحصل على الحشيش الذي تعوَّد إدمانه !!

وفي النهاية ، فإن الحقيقة الكاملة في هذه الجريمة الشنيعة لا يعلمها إلا الله ، والمهم في القضية أن الأمة فَقَدت زعيمًا عظيمًا من زعمائها، حمل راية الجهاد ضد الصليبيين في وقتٍ تقاعس الجميع عن حمل هذه الراية الشريفة، ولا شك أن الأيام التي أعقبت إستشهاده كانت صعبة على المسلمين ، غير أني - وقبل الدخول في تحليل الوضع بعد استشهاد مودود - أودُّ أن أقف على حدثين عجيبين ، ووجه العجب ليس في حدوثهما ، ولكن في (توقيت) هذا الحدوث !

أما الحدث الأول فهو ظهور نجم عماد الدين زنكي في موقعة الصنبرة ، وقبل استشهاد مودود بثلاثة أشهر فقط ! والتوقيت عجيب جدًّا ، فلماذا لم يظهر منذ فترة طويلة؟ ولماذا لم يظهر بعد وفاة مودود بفترة طويلة أخرى؟ نعم إن هذا بتدبير الله وقدره ، ولكننا نبحث عن الحكمة في ذلك، وعن الإشارات المهمة في هذا التدبير المحكم .

إن هذا الظهور في هذا التوقيت لهو إشارة واضحة من الله عزوجل أن هذه الأمة لن تموت، فإذا فقدنا زعيمًا ظهر آخر، وإن إستشهد مجاهد قام غيره ، وهكذا إلى أن يرث الله الأرض وما عليها ، وهذا - لا شك - يحفظ الأمل في قلوب المسلمين ، وراجعوا التاريخ ، فلن تجدوا استشهاد أمل من آمال الأمة إلا متبوعًا بظهور أمل جديد ، وهذا من أخصِّ خصائص هذه الأمة الفريدة !

أما الحدث العجيب الثاني فهو موت رضوان ملك حلب بعد إستشهاد مودود بثلاثة أشهر فقط ، في شهر جمادى الآخرة سنة (507هـ) ديسمبر 1113م !!

وعجيب جدًّا أن يموت في نفس الفترة التي مات فيها مودود، سواء كان رضوان مُدبِّرًا لحادث اغتيال مودود أو كان بريئًا منه؛ لأن سيرة رضوان القبيحة كانت معروفة ، وليست جريمة إغتيال مودود هي الجريمة الوحيدة من جرائمه ، أو الكبيرة الوحيدة من كبائره !! لقد كانت الإشارة واضحة جدًّا أن الإنسان لا يؤجِّل ميعاد موته ولا يقدِّمه، فالكل يموت ؛ الصالح يموت والطالح يموت ، المخلص يموت والمنافق يموت ، المجاهد المقبل الطالب للشهادة يموت ، والمتثاقل المدبر الهارب من الموت يموت (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) ، ولكن الإنسان هو الذي يختار طريقة موته ! إما أن تموت رافعًا رأسك طائعًا لربك مصحوبًا بدعوات الصالحين ، وإما أن تموت ذليلاً مهينًا عاصيًا لله عزوجل مصحوبًا بلعنات المؤمنين ، والعبد في النهاية هو الذي يختار !! وأسأل الله أن يفقهنا في سننه !

======
يتبع .
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

ايوه كده عايزين كل يوم جزء
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

- وقفة وتحليل بعد إستشهاد مودود

لا شك أن حادث مقتل مودود كان من اللحظات الفارقة التي أدت إلى كثير من التغييرات على الساحة السياسية والعسكرية ، كما أدى إلى تغيير في أيدلوجيات كثير من القادة والدول، وهكذا دومًا يكون موت الشخصيات المؤثرة ، وخاصةً إن كانت هذه الشخصية في عظمة وقيمة مودود رحمه الله ، ويا لَحسرة الأجيال التي لا تعاصر شخصية من هذا الطراز ، فإنه يمر عليها سنوات وسنوات دون أن تشعر بقيمة الزمن ، ولعلنا في هذه الوقفة نتحدث عن خمس أو ست سنوات كاملة ، بينما كنا أيام مودود نتحدث عن الشهور وليس السنوات لأهمية الأحداث التي نراها في زمان المجاهدين ، وسيأتي علينا زمانٌ نتحدث فيه عن الأيام والساعات عندما نتكلم عن نور الدين محمود أو صلاح الدين الأيوبيّ ، وهكذا تؤثر الشخصيات القوية على كل مجريات الأمور في زمانها .

وهذه بعض النقاط والوقفات التي تهمنا في السنوات التي تلت مقتل مودود رحمه الله :

الوقفة الأولى : مع حركة الجهاد في العالم الإسلامي بصفة عامة


للأسف الشديد فإن الأمة في هذه المرحلة لم تبلغ درجة من النضج تسمح بإستمرار الجهاد بنفس الدرجة عند غياب الشخصية القائدة المجاهدة ، والأصل أن الأمة الناضجة لا تعتمد على شخص أو شخصين ، ولكن تكون الطاقات البديلة فيها متوافرة ، ومن ثَمَّ فهي تسير قدمًا دومًا برغم العقبات والأزمات ، ولهذا فإن مقتل مودود عطَّل حركة الجهاد الحقيقية ست سنوات كاملة ، بل لعله أكثر من ذلك ، وليس معنى هذا أنه لم تحدث حروب في هذه الفترة بين المسلمين والصليبيين ، ولكنها لم تكن حروبًا كحروب مودود ، إنما كانت نوعًا من أداء الواجب دون روح ، أو نوعًا من طاعة الأوامر العليا بالجهاد ، أو نوعًا من ذَرِّ الرماد في العيون ، أو حتى نوعًا من العادة التي تحتم أن يقاوم الشعبُ المنكوب عدوَّه الذي إحتل بلاده ، وأحيانًا كانت بروح جهادية، ولكنها تفتقر إلى الكفاءة التي تنجحها، ولهذا فإننا سنرى بعض الحملات في هذه السنوات الست ، وإلى سنة (513هـ)\1119م ، ولكنها - للأسف - ستكون حملات بلا روح حقيقية، ولعل أفضل توصيف لها أنها كانت مجرد زوابع في فنجان !

الوقفة الثانية : مع إمارة الموصل

كان شعب الموصل - كما ذكرنا - محبًّا للجهاد مقدِّرًا للعلم والعلماء ؛ ولذلك كان من الطبيعي أن يولَّى أمره رجلٌ من أهل الصلاح ، حتى يكون هناك نوع من التناسق والتناغم بين الحاكم والمحكوم ، وهذا وإن كان اختيار السلطان محمد إلا أنه سُنَّة من السنن ، ذكرها رسول الله حين قال : "كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّى عَلَيْكُمْ" .

وقد وَلِي على الموصل بعد مقتل مودود أحد الأتراك الأخيار وهو آق سنقر البرسقي ، وكان هذا الرجل كما يصفه ابن الأثير : "كان خيِّرًا يحب أهل العلم ، والصالحين ، ويرى العدل ويفعله ، وكان من خير الولاة ، يحافظ على الصلوات في أوقاتها ، ويصلي من الليل متهجدًا" .

ومع القوة الإيمانية والأخلاقية العالية لآق سنقر البرسقي رحمه الله إلا أن كفاءته السياسية والعسكرية لم يكونا على نفس القدر والمستوى ؛ فضعف كفاءته السياسية أدخله في حروب جانبية مع الإمارات الإسلامية المجاورة ، وخاصةً إمارة ماردين مما أدخله في صراع ليس له معنى في هذا التوقيت مع إيلغازي بن أرتق حاكم الإمارة ، وبذلك خسر آق سنقر البرسقي الأراتقة جميعًا ، وهم منتشرون في شمال العراق وديار بكر ، وهذا - لا شك - أضعف موقفه ، وشتَّت جهده .

كما أن ضعفه العسكري أدى إلى فشله في تحقيق نصر يذكر على الصليبيين الذين واجههم في إمارة الرها في الحملة التي خرج على رأسها في ذي الحجة (508هـ) مايو 1115م ، إضافةً إلى أنه بعد فشل حملته مع الصليبيين ، وفي أثناء عودته دخل في صدام مع الأراتقة بسبب عدم تعاونهم معه في الحملة، وتعرض في هذا الصدام لهزيمة كبيرة تفتَّت فيها جيشه الكبير المكوَّن من خمسة عشر ألف فارس ، وهذا دفع السلطان محمد إلى عزله عن الموصل في سنة (509هـ)\ 1115م ، وإعطاء الولاية لجيوش بك .


وفي نفس السنة التي عُزل فيها آق سنقر البرسقي أَوْكَلَ السلطان محمد السلجوقي لبرسق بن برسق أمير همذان قيادة جيش كبير يهدف إلى حرب الصليبيين ، إضافةً إلى إخضاع الإمارات الإسلامية المنشقَّة عن السلطان محمد ، وكذلك الإمارات الشامية التي أصبحت تدار بأفراد خارج الدولة السلجوقية ، مثل دمشق التي تدار بطغتكين ، وحلب التي تدار ببدر الدين لؤلؤ ؛ وفي هذه الحملة خرج أمير الموصل الجديد جيوش بك تحت زعامة الأمير العام للحملة برسق بن برسق .

ودون الدخول في تفصيلات كثيرة مؤلمة فإنَّ هذه الحملة إنتهت بمواجهة سافرة عجيبة بين الجيش السلجوقي من ناحية ، وجيوش الصليبيين المتحدة مع جيوش الإمارات الإسلامية في ديار بكر ، وأيضًا حلب ودمشق من ناحية أخرى !!

لقد رأى هؤلاء الأمراء أن خطر السلاجقة عليهم أكبر من خطر الصليبيين ، فعرضوا التحالف مع روجر الأنطاكي والصليبيين ضد الجيش السلجوقي المسلم ! وهكذا وقف المسلمون وفوق رءوسهم الصُّلبان ، يقاتلون مع أعدائهم تحت راية واحدة !!

إنه ضعف الرؤية، أو قُلْ انعدامها ! فليس هناك من مبرر - مهما كانت الظروف - لنرى مثل هذا المفارقات التي يستعجب منها كل السامعين ، سواء كانوا من المسلمين أو غير المسلمين !

وللأسف الشديد انتهت الموقعة - التي عرفت في التاريخ باسم موقعة دانيث ، وهو المكان الذي وقعت فيه - بهزيمة برسق بن برسق وجيشه المسلم السلجوقي ، وغنم المعسكر الصليبي المسلم ما لا يُقدَّر من الغنائم والسلاح .

ومن الجدير بالذكر أن روجر الأنطاكي استأثر بالغنائم لنفسه وجيشه ، ولقد كانت المفاجأة لأهل أنطاكية أكثر من سارَّة ، حيث عاد روجر بثروات طائلة ، كما عاد بأخبار تفكُّك الصفّ الإسلامي وتشتُّته .. وإستمر جيوش بك في حكم الموصل ، ولم تكن له محاولات تذكر لإعادة الكَرَّة ضد الصليبيين .

وهكذا أُحْبِط أهل الموصل نتيجة وجود هذه الأمراض القاتلة التي دعت الأمة في وقت من الأوقات أن تقاتل أخاها، وتصافح ألدَّ أعدائها ! , كان هذا هو حال الموصل بعد مقتل مودود رحمه الله ..

الوقفة الثالثة : مع عماد الدين زنكي


بَهَر هذا الفتى القدير الأنظار في المعارك التي إشترك فيها ، وأدرك الجميع قدراته العسكرية الفذة ، كما أدركوا أيضًا عمق ولائه للسلاطين السلاجقة ، وعدم تردده في سماع الأوامر وتنفيذها ، فأوكلت إليه في الحروب المهامُّ الجسام ، وعلى الرغم من عدم تحقق النصر في المواقع الحربية في تلك الفترة ، إلا أنَّ الجميع كان منشغلاً بذكر هذا القادم الجديد: عماد الدين زنكي .

الوقفة الرابعة : مع طغتكين أمير دمشق


بعد مقتل مودود رحمه الله روَّج رضوان - كما ذكرنا - لإشاعة أن طغتكين هو الذي قتله ؛ وذلك ليدفع التهمة عن نفسه أولاً ، وليتخلص من طغتكين ثانيًا .. ولقد أحدثت كلمته أثرًا في كثيرٍ من الناس ، بل تأثر بذلك السلطان محمد الذي حمَّل طغتكين مسئولية مقتل مودود ، وخاصةً أن مسئولية الحماية الأمنية لمودود داخل دمشق تقع على عاتق أمير البلد طغتكين، ومن ثَمَّ شعر طغتكين أن الأرض تناقصت من حوله ، وأن الأنصار له يقلُّون ، ومن ثَمَّ إرتكب ذنبًا قبيحًا غير مقبول ، وهو التحالف مع الصليبيين لكي يأمن شر الجميع !!

لقد كان مفهومًا أن يعقد مع الصليبيين هدنة ليتجاوز فترة ضعفه ، لكن أن يتحالف معهم ، ويقف معهم في خندق واحد ضد إخوانه المسلمين من السلاجقة ، فهذا ما لا يقبل لا شرعًا ولا عقلاً .

ولكن من ناحية أخرى فإن هذا يثبت أن طغتكين لم يكن مدبِّرًا لحادث مقتل مودود ؛ لأنه قرَّر بعده مباشرة أن يتحالف مع الصليبيين ليحموه بعد فَقْد حماية مودود ، فهذا يؤكد أنه ما كان ليقدم على قَتْل حمايته بنفسه ، خاصةً أنه إستفزَّ الصليبيين قبل قدوم مودود ، وذلك بالهجوم على بعض المناطق التي يحكمونها وبنصرة مدينة صور ضدهم .

وهكذا فبموقف طغتكين الخاطئ خرجت مدينة دمشق العظيمة من معادلة الصراع ، وحُيِّد جانبها إلى حدٍّ كبير ، خاصةً أن أمورها الداخلية لم تكن مستقرة أبدًا لسيطرة الشيعة الباطنية الإسماعيلية على كثير من الأمور فيها .

الوقفة الخامسة : مع إمارة حلب


مات رضوان الخبيث في سنة (507هـ)\ 1113م ، وتولى من بعده إبنه الشاب ألب أرسلان - المسمَّى على اسم جَدِّه العظيم ألب أرسلان - لكنه لم يكن يُشبِه جَدَّه لا من قريب ولا من بعيد ، بل كان متهوِّرًا كأبيه ، قليل العقل والدين ، فبدأ حكمه بقتل أخويه ملكشاه ومباركشاه لكي يستقر له الأمر ! ثم إنه كان ضعيفًا جبانًا فبدأ عهده بالتأكيد على دفع الجزية لروجر الأنطاكي ليضمن حمايته ، ويأمن شرَّه .

لكن حدث في بداية عهده أمر يثبت أن الخير ما زال موجودًا في أهل حلب، حيث قام الحلبيون بثورة على الباطنيَّة الذين كانوا قد بلغوا شأوًا عظيمًا في عهد رضوان ، فقتل الشعبُ قائدَ الباطنية أبا طاهر الصائغ ، ثم انطلقوا على عموم الباطنية بالقتل والحبس ، ومن ثَمَّ أسرع بقية الباطنية بالفرار من حلب ، وعلى الرغم من تمرسهم على الجريمة إلا أنهم خشوا من هذا الشعب العجيب الذي لم تمُتْ فيه النخوة ، ولم يهجر السُّنَّة ، حتى بعد حكمه عشرين سنة حكمًا يغلب عليه تمامًا التوجُّه الشيعي الإسماعيلي ، ولعل هذا الحدث كان من الأمور التي مهَّدت إلى تحسين طبيعة الشعب في حلب في السنوات القادمة ، مما سيكون له أثر في حركة الجهاد .

ولكن من الجدير بالذكر أيضًا أن ألب أرسلان هذا لم يستمتع كثيرًا بحكمه؛ فقد قتله أتابكه بدر الدين لؤلؤ ، ووضع على كرسيِّ الحكم أخاه الصغير سلطان شاه ، وكان يبلغ من العمر ست سنوات فقط، ومن ثَمَّ أصبح بدر الدين لؤلؤ الحاكم الفعليّ لإمارة حلب ، وهذا - لا شك - أضعف موقفها أكثر وأكثر ، وكل هذا سيكون له أثرٌ في الأحداث القادمة .

الوقفة السادسة : مع إيلغازي


إيلغازي بن أرتق رجل عجيب ! وما أكثر الرجال العجيبين في هذا الزمن ! إنه إيلغازي أمير ماردين ، وأخو سقمان بن أرتق - رحمه الله - الذي مرَّ بنا موته وهو في سبيل الله , ووجهُ العجب في حياته أننا رأيناه في حالات متناقضة كثيرة ، جعلت تحليل شخصيته أمرًا صعبًا ، ولقد وقفت كثيرًا أمام شخصيته متحيِّرًا ، فلا أدري أهو من أهل الصلاح فيُمدح ، أم من أهل الفساد فيُذم !

إننا قد رأيناه يتعاون في فترة من حياته مع مودود رحمه الله في قتال الصليبيين ، ثم رأيناه يُغِير على إخوانه بغية أخذ ما معهم من غنائم ! ورأيناه في فترة من فترات حياته يتحالف مع الصليبيين ليقاتل برسق بن برسق أمير همذان كما مرَّ بنا ، ثم سنراه بعد ذلك يجاهد الصليبيين جهادًا عظيمًا ، بل وينتصر حتى يلفت الأنظار إليه .

إننا ذكرناه هنا لأنه سيكون من القلائل الذين يحملون راية الجهاد ضد الصليبيين بعد مودود رحمه الله ، إلى أن يتسلمها لاحقًا أحد عمالقة الجهاد في التاريخ الإسلامي، كما سنعرف لاحقًا .

الوقفة السابعة : مع مملكة بيت المقدس


لقد كان مقتل مودود بالنسبة لهذه الإمارة إشارة بدءٍ لتوسع كبير في الأراضي الإسلامية ، فكما رأينا أن موت مودود لم يُزِحْ عملاقًا من عمالقة الجهاد من أمام بلدوين الأول فقط ، إنما أخضع كذلك طغتكين أمير دمشق ، ومن ثَمَّ زال خطره إلى حدٍّ كبير ؛ مما دفع بلدوين إلى التفكير في تثبيت ملكه بصورة أكبر ، بل وتوسيعه كما سنرى .

ولننظر نظرة أكثر قربًا من بلدوين الأول لنعرف طبيعة شخصيته ، وصفة أخلاقه ؛ فبلدوين الأول كان متزوجًا من الأرمينية أردا ، وكان زواجه منها كما مر بنا أيام حكمه لإمارة الرها لغرض السيطرة على المدينة التي يسكنها كثير من الأرمن ، أما الآن فليس في بيت المقدس أرمن ؛ ولذا لم يَعُدْ هناك فائدة لأردا الأرمينية ! ومن ثَمَّ سعى بلدوين لطلاقها ليتزوج من زوجة أخرى تحقق له مصالح أخرى !

ولما كان الطلاق في المذهب الكاثوليكي محرمًا تمامًا إتَّهم الملك بلدوين الأول زوجته بالخيانة ، وتواطأ مع أسقف كنيسة بيت المقدس في ذلك الوقت ، وهو صديقه أرنولف مالكورن ليتم الطلاق ، وبالفعل تمَّ الطلاق ، وتم أيضًا ترحيل الزوجة المطلقة أردا إلى القسطنطينية ، وخلا الجو لبلدوين الأول ليعقد زيجة سياسية أخرى ، حيث تزوج في السنة التي مات فيها مودود من أرملة روجر الأول أمير صقلية ، وهذا سيحقق له فائدتين كبيرتين ؛ أما الأولى فهي تقوية علاقته بالنورمان الإيطاليين الأشدَّاء ، وثانيًا سيستفيد من الثروة الطائلة التي تملكها الأرملة الثرية أدلياد ، والتي ستنعش الخزانة الخاوية لبيت المقدس بعد المعارك المتتالية هنا وهناك .

وهكذا تزامن غياب مودود ثم طغتكين مع إزدياد قوة بلدوين العسكرية والمالية مما دفعه إلى توسيع الطموحات ؛ وقد ظهر ذلك في إحتلال منطقة وادي عربة جنوب البحر الميت ، وشيَّد هناك حصن الشوبك ليسيطر بذلك على القوافل المتجهة من الشام إلى مصر أو الحجاز ، وكان ذلك في سنة (509هـ) 1115م ، ثم في العام التالي (510هـ) 1116م إخترق بلدوين الأول صحراء النقب بكاملها ، وإحتل (أيلة) على مضيق العقبة ، حيث بَنَى هناك قلعة مهمة جدًّا للسيطرة على القوافل في هذه المنطقة ، وخاصةً المتجهة من الشام إلى الحجاز ، أو من مصر إلى الحجاز ، كما بنى قلعة أخرى في جزيرة فرعون في داخل خليج العقبة نفسه ، ولا شك أن هذه السيطرة أعطت له إشرافًا مباشرًا على الحدود بين فلسطين ومصر ، كما أعطت له منفذًا في غاية الأهمية على البحر الأحمر .

وهكذا إستطاع بلدوين الأول في غياب الجهاد الإسلامي أن يسيطر على كل فلسطين باستثناء مدينة عسقلان ، كما سيطر على النصف الجنوبي من لبنان بإستثناء مدينة صور ، وهذه هي حدود مملكة بيت المقدس بعد ذلك .

بل إن بلدوين الأول في وجود حالة الصمت الإسلامي تجرَّأ على ما هو أكثر من ذلك ؛ حيث قرر غزو مصر بفرقة صغيرة جدًّا من جيشه ! فاقتحم سيناء ، وأسقط العريش بسهولة بالغة ، بل واصل السير حتى إحتل الفرما (بالقرب من بورسعيد الآن) ، وأحرق ديارها ومساجدها ، ولولا أنه أصيب بمرض خطير في هذا التوقيت لكان قد أكمل طريقه ، غير أنه عاد بسبب مرضه ، وكانت هذه الأحداث في سنة (512هـ) 1118م .

الوقفة الثامنة : مع إمارة الرها


تنفَّست هذه الإمارة الصُّعداء بعد وفاة مودود ، خاصةً بعد تولِّي أمراء ليسوا على نفس الدرجة من الكفاءة العسكرية والسياسية ، وأدى هذا إلى توسع إمارة الرها في المدن المحيطة ، فأسقط بلدوين دي بورج في سنة (510هـ) 1116م مدينتي كيسوم ورعبان ، ثم مدينة البيرة في سنة (511هـ) 1117م ، ثم أخيرًا وفي نفس العام، أسقط قلعة قورس الخطيرة في شمال حلب ؛ ليكون بذلك مهدِّدًا لإمارة حلب ، ومترقِّبًا لأيِّ فرصة تسمح بإسقاطها ، وهكذا صارت حلب واقعة تحت تهديد إمارتي الرها وأنطاكية معًا .

الوقفة التاسعة : مع إمارتي أنطاكية وطرابلس


لم يطرأ عليهما تغيير يذكر في هذه الفترة إلا أنهما أخذا وقتًا كافيًا لتدعيم قوتهما، وتجديد قلاعهما وأسوارهما ، وكذلك تكثير جيوشهما استعدادًا لتوسُّع مرتقب ، وإستمر روجر الأنطاكي على زعامة أنطاكية ، بينما إستمر بونز بن برترام على حكم طرابلس .

الوقفة العاشرة : مع الأرمن في المنطقة الشمالية


بعد وفاة مودود شعر بلدوين دي بورج أمير الرها بكثير من الأمان ، ورأى أن أحوال الرها قد ساءت جدًّا نتيجة قتل وطرد الأرمن الذين كانوا يمثِّلون صُلْب المدينة وعمودها الفقري ، ومن ثَمَّ لم يخش بلدوين دي بورج من إعادة استقدام الأرمن ليعيشوا مرة أخرى في بلاد الرها بعد زوال خطر مودود ، ولم يتردد الأرمن في قبول الدعوة من بلدوين دي بورج حيث حانت لهم الفرصة للعودة إلى ديارهم ومزارعهم ، ولكن ليس هناك من شك أنهم عادوا وهم يضمرون كل الكراهية للصليبيين ، كما كانوا يتوجسون منهم خيفة أن يعيدوا الكَرَّة مرة أخرى ، فتتكرَّر المأساة الأليمة .

وإذا كان هذا هو وضع الأرمن الذين كانوا يعيشون في الرها ، فإن الأرمن خارج حدود الرها كانوا على خلاف ذلك يرفضون التعاون مع الصليبيين ، بل إن أرملة كوغ باسيل (الذي مات في سنة (506هـ) 1112م لم تتردد أن تطلب صراحة من آق سنقر حاكم الموصل في سنة (508هـ) 1114م أن تنضم إليه بشعبها في مقابل جزية تدفعها له كدلالةٍ على التبعية !!

وهذه أدلة متكررة تثبت أن الأرمن النصارى كانوا يطمئنون إلى المسلمين وإلى رحمتهم وعدلهم أكثر ألف مرة من إطمئنانهم لإخوانهم النصارى من الصليبيين !
إذن في الخمس أو ست سنوات التي أعقبت وفاة المجاهد العظيم مودود حدثت عدة تغيرات جذرية في المنطقة ، كانت في معظمها تصبُّ في خدمة وتدعيم موقف الصليبيين، وحدثت عدة تغييرات سياسية في الإمارات الإسلامية لم تكن في معظمها إيجابية ، اللهم إلا موت رضوان بن تتش زعيم حلب ، والذي خلَّص المسلمين من طاغيةٍ متكبر .

ثم حدثت في الساحتين الإسلامية والصليبية في أواخر سنة (511هـ) وخلال سنة 512هـ، وكذلك في أوائل سنة (513هـ) عدة وفَيَات أدت إلى تغييرات محورية في الصراع الإسلامي - الصليبي (خلال سنتي 1117- 1118م) :

أولاً : وفاة السلطان محمد السلجوقي عن عمر يناهز سبعة وثلاثين عامًا فقط ، وكان قد وحَّد السلاجقة في مملكة واحدة كبيرة صار لها هيبة عند الناس وعند الخلافة العباسية، وسيَّر عدة حملات إلى الصليبيين منها ما نجح على أيام مودود رحمه الله ، ومنها ما لم يحقِّق النجاح كما في عهد آق سنقر البرسقي أو برسق بن برسق ، وكان كما يقول ابن الأثير : "عادلاً ، حسنَ السيرة ، شجاعًا" ، ولكن من أعظم أخطائه هو توليته ابنه السلطان محمود الحكم من بعده ، مع أنه كان يبلغ من العمر أربعة عشر عامًا فقط !!
وكانت هذه - للأسف - عادة في ذلك الزمن، وهو ولاية الوريث ولو كان طفلاً صغيرًا جدًّا، ثم يتولى الحكم الوصيُّ عليه، فيأخذ الدولة يمينًا أو شمالاً حسب ما يتراءى له، وكان من نتائج وفاة السلطان محمد وولاية السلطان محمود أن حدثت فتن وصراعات في داخل الدولة التي فقدت هيبتها ، بل وصل الصراع إلى التقاتل بالسيوف بين السلطان محمود وأخيه الملك مسعود ، وكذلك بين السلطان محمود وأخيه الملك طغرل ، وأخيرًا بين السلطان محمود وعمِّه السلطان سنجر ، وكل هذه الصراعات كان لها أسوأ الأثر على الصراع الإسلامي - الصليبي ؛ إذ شغلت المسلمين بأنفسهم، وأنستهم قصة الصليبيين !

ثانيًا : وفاة بدر الدين لؤلؤ المتصرف الفعليّ في أحوال حلب مقتولاً ، إذ قتله بعض أعوانه، ولما كان أمر حلب قد اضطرب كثيرًا في السنوات الأخيرة بعد موت رضوان وقتل ابنه ألب أرسلان ، ثم قتل بدر الدين لؤلؤ سعى أعيان المدينة إلى تحسين الأوضاع ، فذهبوا إلى أفضل العناصر الموجودة حولهم، وهو إيلغازي بن أرتق فسلموه البلد ، وهكذا وجد إيلغازي نفسه فجأةً حاكمًا على ماردين وحلب معًا ، ولم يكن ذلك هدية خالصة ؛ لأنه وجد في حلب همومًا كثيرة ؛ إذ وجد خزانتها خاوية بعد أن أنفق بدر الدين لؤلؤ الثروة الحرام التي جمعها رضوان ، وهكذا وصلت حلب إلى وضعٍ يُرثى له مع كونها واحدة من أهم الإمارات الإسلامية في المنطقة .

ثالثًا : وفاة المستظهر بالله الخليفة العباسي ، وكان قد تولى الحكم من (487 إلى 512هـ\ 1094 إلى 1118م) ، وتولى من بعده ابنه المسترشد بالله ، ولم يكن الخليفة الجديد كغيره من الخلفاء السابقين ، إنما كان رجلاً طموحًا ذا همة عالية ، وكان شجاعًا مقدامًا ذا هيبة شديدة ، وكان عالمًا فقيهًا حتى ذكره ابن الصلاح في طبقات الشافعية ، وهذا في حدِّ ذاته من أهم فضائله ، فهي شهادة من عالم متمكن خبير ؛ وهذه الولاية للخليفة المسترشد ستترك آثارًا مهمة على الساحة الإسلامية ؛ إذ إنه لم يقبل بالوضع الذي اعتاد الخلفاء العباسيون عليه في القرنين السابقين من كونهم مجرد صورة للحكم ، بل سيسعى ليكون له كيان ورأي ، ولا شك أن هذا سيولد صراعات كثيرة في المنطقة ، وسيكون لهذه الصراعات آثار كثيرة على مجريات الأحداث .

رابعًا : وفاة بلدوين الأول ملك مملكة بيت المقدس ، والمؤسِّس الحقيقي لها ، وكان قد وصل بمملكة بيت المقدس إلى حدودها التي استقرت بعد ذلك عشرات السنين ، وأسقط كل المدن الفلسطينية باستثناء عسقلان ، وكذلك النصف الجنوبي من لبنان باستثناء صور، وكانت وفاته بمدينة العريش سنة (511هـ) 1118م أثناء عودته من الفرما المصرية بعد احتلالها ، وقد اجتمع الصليبيون على تولية ابن عمه بلدوين دي بورج أمير الرها مكانه في بيت المقدس ، وهذا - لا شك - ترقية لوضع بلدوين دي بورج حيث إن مَلِكَ بيت المقدس له القيادة على كل الممالك الصليبية ؛ لوضع القدس ، ولحجم المملكة ، ولكونها مملكة وليست إمارة ، وقد اختار بلدوين دي بورج - الذي لُقِّب بعد ذلك ببلدوين الثاني - ابنَ عمِّه جوسلين دي كورتناي - الذي كان قد عزله قبل ذلك عن تل باشر - أميرًا لإمارة الرها من بعده ، وذلك بعد أن زالت الخلافات التي كانت بينه وبين جوسلين ، خاصةً أن جوسلين خبير بهذه المناطق الشمالية .

خامسًا : وفاة أدلياد زوجة بلدوين الأول الثانية ومما هو جدير بالذكر أن خصوم بلدوين الأول من الصليبيين طعنوا في زواجه من أدلياد الصقلية، وذكروا أن أسباب طلاق الزوجة الأولى أردا ليست صحيحة، ومن ثَمَّ فأدلياد هي الزوجة الثانية في نفس الوقت، وهذا حرامٌ في النصرانية ، وقام البابا باسكال الثاني بإرسال من يحقِّق في الأمر، وثبت تلاعب الملك بلدوين الأول في الأمر ، ومن ثَمَّ اعتُبِر الزواج الثاني باطلاً ، واضطرت هنا أدلياد أن تعود إلى صقلية بعد أن عاشت مع بلدوين الأول أكثر من أربع سنوات ! وهكذا خسرت إمارة بيت المقدس قوة النورمان وثروة أدلياد، ثم ما لبثت أدلياد أن توفِّيت في صقلية ، وكذلك بلدوين الأول في العريش على نحو ما ذكرنا .

سادسًا : وفاة أرنولف مالكورن بطرك بيت المقدس ، الذي اشتهر بسوء خلقه ، وتواطئه مع بلدوين الأول على أمورٍ كثيرة مخالفة لدينهم ، ومن ذلك ما ذكرناه من أمور تسهيل طلاق بلدوين الأول من أردا الأرمينية ، وزواجه من أدلياد الصقلية ، وقد تولى من بعده البطرك جرموند Germond .

سابعًا : وفاة البابا باسكال الثاني في روما ، وتولى من بعده جيلاسيوس الثاني ، ولم يكن هذا تغيرًا محوريًّا ؛ لأن الإمارات الصليبية كانت شبه مستقلة ، ولم تكن هناك حاجة إلى إستنفار جنود جدد في أوربا في ذلك الوقت ، ومن ثَمَّ لم يظهر كثيرًا اسم البابا في مجريات الأحداث .

ثامنًا : وفاة الإمبراطور البيزنطي الداهية ألكسيوس كومنين ، الذي سهَّل دخول الصليبيين إلى أرض المسلمين بدايةً من دعوتهم ، ثم إمدادهم بالمؤن والسلاح والأخبار والأدِلَّة وبعض الفرق ، وإن كان الصليبيون بعد ذلك غدروا به ، ولم يعطوه ما اتفق معهم عليه من بلاد ، غير أنه إستطاع أن يسيطر على النواحي الغربية من آسيا الصغرى ، ويضمها إلى الإمبراطورية البيزنطية ، وقد تولى الإمبراطورية من بعده ابنه يوحنا كومنين .

تاسعًا : وفاة روجر الأنطاكي أمير أنطاكية ، أو الوصيّ على إمارة أنطاكية بعد وفاة تانكرد النورماني ، وانتظارًا لقدوم بوهيموند الثاني ابن بوهيموند الأول مؤسِّس إمارة أنطاكية .

وقد آثرتُ أن أختم بهذا الرجل لأن وفاته جاءت في معركة مهمَّة مع المسلمين ، لعلها أول معركة ذات قيمة بعد وفاة مودود رحمه الله
.
لقد ذكرنا أنه بمقتل بدر الدين لؤلؤ المتصرِّف في أمور حلب خلت الساحة السياسية في هذه الإمارة المهمة ، ومن ثَمَّ توجَّه أعيان البلد وفقهاؤها إلى إيلغازي بن أرتق أمير ماردين وسلموه المدينة ، ولاحظ أمير أنطاكية روجر أن المدينة تمر بفترة ضعف شديدة ، ومن ثَمَّ قرر أن يغزو المدينة ويضمها لحسابه ، ووصلت الأخبار بهذا التحرك الصليبي إلى إيلغازي ، فقرَّر أن يجمع المجاهدين من هنا وهناك ليدافع عن مدينة حلب ، ولقد استطاع إيلغازي أن يكوَّن حلفًا قويًّا مع أمير دمشق طغتكين الذي وافق على جهاد الصليبيين ، وهذا يثبت أنه لم يكن مواليًا لهم حبًّا فيهم، ولكن ضعفًا وقلة حيلة بعد مقتل مودود رحمه الله، وانضم كذلك إلى الحلف أمير شيزر سلطان بن منقذ الذي طالما شارك في الحملات الجهادية منذ أيام مودود رحمه الله .

كوَّن إيلغازي بن أرتق جيشًا قويًّا وسار به في اتجاه أنطاكية، وعند سهلٍ قريب من أرتاح باغت الجيش الإسلامي جيش أنطاكية وطوَّقه من كل جانب !

كان الجيش الإسلامي مكوَّنًا من عشرين ألف مقاتل، بينما كان جيش أنطاكية يقترب من خمسة آلاف جندي بين فرسان ومشاة ، وكان روجر قد أرسل رسالة استنجاد إلى بلدوين الثاني ملك بيت المقدس الجديد الذي وعد بالقدوم ومعه بونز أمير طرابلس ، إلا أنَّ المباغتة الإسلامية كانت بفضل الله قبل وصول الإمدادات الصليبية .
تمت في هذا المكان الموقعة الشهيرة في تاريخ الحروب الصليبية، وهي موقعة البلاط (خريطة 25)، وذلك في شهر ربيع الأول سنة 513هـ الموافق 28 من يونيو 1119م، وفي هذه الموقعة أُبيد الجيش الصليبي بكامله، وقُتل الأمير روجر الأنطاكي ، وأطلق الصليبيون على مكان المعركة اسم "ساحة الدم" لكثرة قتلاهم فيها !

لقد كان انتصارًا مجيدًا بكل المقاييس، أدى إلى كثير من النتائج المهمة في هذه الفترة؛ وكان من هذه النتائج الآتي :


1- أعادت هذه الموقعة الهيبة للمسلمين ، والثقة لنفوس المحبطين، وشعر المسلمون أن الأمل ما زال باقيًا في إعادة التوازن للأمة الإسلامية .
2- هُزم الصليبيون هزيمة نفسية كبيرة أثَّرت في حركتهم لعدة سنوات .
3- دخلت حلب دخولاً رسميًّا بعد هذه الموقعة في حكم الأراتقة، ولمدة ست سنوات كاملة .
4- فَقَدت أنطاكية أميرها روجر في وقتٍ ليس فيه بديل أو وريث؛ لأن بوهيموند الصغير ما زال في إيطاليا، ومن ثَمَّ وضع بلدوين الثاني يده على الوصاية على إمارة أنطاكية، وبدأ في تنظيم أمورها بمساعدة بطرك أنطاكية برنارد دي فالنس .

5- علا نجم إيلغازي بن أرتق في ساحة الجهاد ضد الصليبيين، وجاءته التشريفات من الخليفة العباسيّ الجديد المسترشد بالله، ونَظَم الشعراء قصائدهم في مدحه، وعلَّق كثيرٌ من المسلمين الآمال عليه؛ وهذا دفعه إلى تجديد الصدام مع الصليبيين في عدة مواقع بعد ذلك، كان له النصر في بعضها والهزيمة في أخرى، وإن لم تكن هذه المواقع على مستوى موقعة البلاط المشهورة .

إذن نستطيع أن نلخص الموقف في سنة 513هـ\ 1119م في النقاط السريعة الآتية :


1- مملكة بيت المقدس تحت زعامة بلدوين دي بورج الملقَّب ببلدوين الثاني .
2- إمارة الرها تحت زعامة جوسلين دي كورتناي .
3- إمارة أنطاكية تحت وصاية بلدوين الثاني انتظارًا لوصول بوهيموند الثاني إلى سنِّ الرشد، وقدومه من إيطاليا .
4- إمارة طرابلس تحت زعامة بونز بن برترام .
5- إمارة حلب تحت زعامة إيلغازي بن أرتق الذي تزعَّم حركة الجهاد ضد الصليبيين في هذه الفترة .
6- إمارة دمشق تحت زعامة طغتكين الذي عاد من جديد يحارب الصليبيين ، ولم يكتفِ بالصدام مع إمارة أنطاكية ، بل بدأ يصطدم جنوبًا مع مملكة بيت المقدس .

7- إمارة الموصل تحت زعامة جيوش بك التابع للسلطان محمود، وإن كان الملك مسعود أخو السلطان محمود يعيش في الموصل ، وقام بصدامٍ ضد أخيه بمساندة جيوش بك بغية الانفصال بالموصل .
8- السلطان محمود هو الزعيم الرسمي للسلاجقة الآن، ولكنه مشتَّت في الصراعات الداخلية .
9- الخلافة العباسية أصبحت بيد المسترشد بالله ، وهو خليفة له طموح ملموس في الخروج من سيطرة السلاجقة .
10- الإمبراطورية البيزنطية الآن تحت حكم يوحنا بن ألكسيوس كومنين، وقد التزم بنفس سياسة أبيه؛ ولذا لم يكن للإمبراطورية تدخُّل يُذكر في أمور الصراع الإسلامي الصليبي في هذه الفترة .

وهكذا فالصورة العامة في هذه الفترة كانت إيجابية نسبيًّا ، وإن لم يكن العزم على قتال الصليبيين وتحرير البلاد أمرًا عامًّا في كل التوجهات ، ولن يكون كذلك إلا بعد 8 سنوات عندما تظهر شخصية تتبنَّى القضية، وتجعلها محورَ حياتها !

ماذا حدث في خلال هذه السنوات الثمانية ، من سنة 513هـ إلى سنة 521هـ ؟

لقد حاول إيلغازي بن أرتق تكوين إمارة كبيرة للأراتقة ، وأفلح فعلاً في السيطرة على مساحة ضخمة تشمل ديار بكر بكاملها تقريبًا، وهي تحوي في داخلها عدة مدن مهمَّة مثل ميافارقين في الشمال ، وماردين وحصن كيفا في الجنوب ، كما ضمَّ إلى ديار بكر منطقة حران في الجنوب ، هذا إضافةً إلى مملكة حلب بكاملها .

ولا شك أن هذه الإمارة الكبيرة كانت ذات خطر كبير على الصليبيين؛ مما دفعهم إلى منازلة أخرى لإيلغازي وطغتكين ، وحقق الصليبيون نصرًا غير حاسم، وذلك في 14 من أغسطس 1119 ، أي بعد أقل من شهرين من هزيمتهم في موقعة البلاط ، إلا أنَّ إيلغازي جدَّد هجومه على الصليبيين، وخاصةً في منطقة الرها القريبة من إمارة الأراتقة، واستطاع إيلغازي أن يسيطر على مدينة عزاز، وذلك في مايو سنة 1120م ، غير أن إيلغازي اضطر إلى عقد هدنة مع بلدوين الثاني في نفس السنة؛ ليُعطِي نفسه فرصة لتنظيم الأمور في إمارته الواسعة .

وبينما كان إيلغازي يكوِّن إمارته هذه كانت الأحوال مضطربة جدًّا في العراق والموصل؛ مما أعطى له الفرصة لتكوين هذه الإمارة دون تدخُّل السلاجقة أو الخلافة العباسية، وواقع الأمر أنه في هذه السنة، أي سنة (514هـ) 1120م، وَقَع صدام مؤسف بين السلطان محمود سلطان السلاجقة، وأخيه الملك مسعود الذي كان يساعده أمير الموصل جيوش بك، وانتهى الأمر بانتصار محمود، واستقرار الأوضاع له .

ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل قام رجل اسمه دبيس بن صدقة، وهو شيعيّ عربي من قبيلة بني مزيد، قام بثورة في العراق، بل واتجه إلى بغداد وحاصر الخليفة، فاضطر الخليفة إلى الاستنجاد بالسلطان محمود الذي تحرك بجيشه ففرَّ دبيس بن صدقة بعد أن أحدث فسادًا كبيرًا في بغداد، وقد لجأ دبيس إلى شمال الجزيرة بالقرب من إمارة الرها حيث بدأ يعرض خدماته العسكرية على الصليبيين في مقابل تكوين إمارة خاصة له !!
هذا الوضع المضطرب عزل الموصل كثيرًا عن ساحة الصراع الإسلامي- الصليبي، وهذا - لا شك - أراح الصليبيين كثيرًا؛ لأنه لو كانت الموصل بقوتها المعهودة مشتركة مع إيلغازي في معاركه لكانت أزمة الصليبيين كبيرة .

وفي نفس الوقت فإن الصليبيين في بيت المقدس وجدوا أنفسهم في مشكلة حقيقية؛ إذ أصبح لزامًا عليهم أن يوزِّعوا طاقاتهم للدفاع عن إمارة أنطاكية، إضافةً إلى مملكة بيت المقدس، وصار أعداء الصليبيين كُثُرًا؛ فهناك الأراتقة، وهناك طغتكين، وهناك إمارة صور الواقعة تحت سيطرة طغتكين، وهناك أيضًا عسقلان بحاميتها العبيدية، إضافةً إلى الدولة المصرية العبيدية التي - وإن كانت قد هدأت كثيرًا - ما زالت تترقب فرصة لاستعادة أملاكها في فلسطين .

هذا كله دفع مملكة بيت المقدس إلى محاولة تكوين فرقة عسكرية شرسة ثابتة تضمن الحفاظ على الأمن وسط كل هذه الأزمات، ومن ثَمَّ كان تكوين فرق الإسبتارية والداوية! وهما من أخطر الفرق العسكرية الصليبية مطلقًا !

أما الإسبتارية فهي هيئة تأسست قبل الحروب الصليبية بعدة سنوات، حيث أسَّسها بعض التجار النصارى الأوربيين كجمعية خيرية تهدف إلى علاج الحُجَّاج الفقراء مجانًا، وكانت مقامة إلى جوار كنيسة القيامة ببيت المقدس، وذلك ابتداء من سنة 1070م (أي قبل قدوم الصليبيين إلى القدس بتسعة وعشرين عامًا)، وأطلق على العاملين بهذه الهيئة فرسان المستشفى Hospitallers، الذي حُرِّف بعد ذلك في العربية إلى "الإسبتارية" .
وكان هؤلاء الإسبتارية يتبعون بابا روما مباشرة، وكانت بذلك لهم استقلالية خاصة، وقد قدموا الكثير من المعونات للصليبيين عند احتلالهم للقدس بحكم خبرة الإستبارية بالبلاد، وقد بدأ الصليبيون يشعرون بقيمتها فأغدقوا عليها العطايا ، وكان لهم جامعون للتبرعات سواء من القدس وفلسطين أو من أوربا بكاملها ، وهكذا صار لهم أملاك وضيعات وثروات هائلة .

وفي عهد بلدوين الثاني، ونتيجة للظروف الصعبة التي بدأ بها بلدوين الثاني حكمه، عمل بلدوين الثاني على تشجيع الإسبتارية وتقويتهم، ومن ثَمَّ عَظُم شأنهم جدًّا، وصار لهم أدوار عسكرية مختلفة تمام الاختلاف عن الهدف الذي من أجله أسِّست الهيئة، وإن ظلوا يحتفظون باسمهم "فرسان المستشفى" .

وإضافةً إلى الإسبتارية، فقد أسِّست هيئة أخرى خطيرة هي هيئة "الداوية"، وقد تأسست هذه الهيئة على أساس عسكريّ من البداية، ومؤسِّسها هو أحد الفرسان الفرنسيين، واسمه هوجو دي باينز Hugue de payens، وقد اختار هذا الفارس جزءًا من المسجد الأقصى، والذي يُطلِق عليه اليهود هيكل سليمان؛ ليؤسِّس فيه جمعيته العسكرية، ومن هنا ففرسان هذه الجمعية يعرفون بفرسان المعبد Templars، نسبة إلى معبد داود، ولهذا عُرفوا بالداوية نسبة إلى داود، وقد ذهب مؤسس هذه الجمعية إلى فرنسا وإنجلترا، وبدأ بجمع الأنصار من الفرسان والنبلاء الراغبين في قضاء حياة عسكرية دينية في الأرض المقدسة، وكان عملها في البداية يقتصر على حماية الحجاج النصارى، ثم ما لبثت الجمعية أن أصبحت شريكًا في العمليات العسكرية الخطيرة في الشام.
وهكذا صار إنشاء هيئة الداوية، وتحول هيئة الإستبارية إلى النشاط العسكري سببًا في توفير قوة حربية دائمة لمملكة بيت المقدس، وصار لهم من السلطات ما يجعلهم في كثير من الأحيان مستقلين تمامًا عن سلطة ملك بيت المقدس شخصيًّا أو أسقفية بيت المقدس، ومن الجدير بالذكر أن هاتين الفرقتين كانتا من أشرس الفرق الصليبية في الحروب، ولم يكن هناك أيُّ نوعٍ من الأخلاق أو الالتزام بالعهود في قتالهم، على خلاف ما يوحي به اسمهما من ارتباط بالدين أو بالرحمة !

ونعود في قصتنا إلى إيلغازي الذي لم تستقر له الأوضاع بصورة ترضيه، فكان جنوده كثيرًا ما يثورون عليه ويخالفونه، بل إن ابنه شخصيًّا أعلن الانفصال عنه والاستقلال بحلب سنة 515هـ\ 1121م، بل وعقد معاهدة مع الصليبيين أعطاهم فيها بمقتضاها حصني زردنا والأثارب ، وهذا - لا شك - أفزع إيلغازي الذي أسرع إلى حلب، واستردَّ حكم حلب منه بعد تعنيفه، ثم توجه بجيشه لاسترداد زردنا، مما دفع بلدوين الثاني أن يأتي من بيت المقدس للدفاع عن الحصن التابع لإمارة أنطاكية، والتقى الجيش المسلم بالجيش الصليبي عند حصن زردنا، ولكن لم يحدث قتال، بل حدث تجديد للهدنة، وللأسف قَبِل إيلغازي بتسليم حصن زردنا !

والواقع أن الناظر لحروب إيلغازي وسيرته سيتعجب من عدم إمكانيته دومًا من استغلال انتصاراته على الصليبيين، فهو لم يكن يصبر كثيرًا على القتال والحصار والمطاولة، ولا أعتقد أن هذا راجع إليه هو، ولكن إلى جيشه! فقد كان جيش إيلغازي مختلفًا عن جيش مودود رحمه الله؛ لأن جيش إيلغازي كان عبارة عن مرتزقة جمعهم من هنا وهناك، مغريًا إياهم بالغنائم والأسلاب؛ ولذلك فإن هؤلاء المرتزقة لم يكن عندهم صبر المجاهدين الذين يضحون بأوقاتهم وأعمارهم في سبيل الله، فضلاً عن أن إيلغازي نفسه لم يكن بيده من المال ما يفرِّقه عليهم كما يذكر ابن الأثير ؛ ولهذا فإن إيلغازي مع كونه قد حقق انتصارات بعضها كبير على الصليبيين، إلا أنه وجيشه لم يكونوا بالذين يمكن أن يحملوا الراية الحقيقية للجهاد، ويصبروا على حملها .

وبينما كان الوضع كذلك في المنطقة الشمالية حدث أمران كان لهما إسهام بعد ذلك في بعض التغييرات في الأحداث، وهو أن السلطان محمود أقطع الأمير آق سنقر البرسقي إمارة الموصل للمرة الثانية، وكان قد تولى أمرها قبل ذلك من سنة (507) إلى (509هـ)، وها هو الآن يتولى أمرها من جديد بعد مرور ست سنوات على عزله، وكان سبب ولايته أنه أظهر طوال هذه السنوات الولاء الكامل للسلطان محمود، ووقف إلى جواره في صدامه مع الملك مسعود أخيه، بل كان له دور ملموس في تهدئة الأمور والتوفيق بين الأخوين؛ مما جعل له مكانًا كبيرًا في قلب السلطان محمود، وقد مرَّ بنا أن هذا الرجل كان من الصالحين الأتقياء، مما سيكون له انعكاسٌ على أحداث الفترة القادمة .

أما الأمر الثاني الذي حدث في سنة (515هـ)\1121م فهو مقتل الأفضل بن بدر الجماليّ وزير مصر العبيدية الأول، وذلك على يد أحد الباطنية الإسماعيلية ! وقد يتعجب القارئ من مقتل الأفضل وهو إسماعيلي على يد الإسماعيلية، ولكننا نذكر أن الإسماعيلية انقسمت إلى فرقتين متعاديتين هما الإسماعيلية المستعلية التي ينتمي إليها الوزير الأفضل، والإسماعيلية النزارية المعروفة بالباطنية (الحشاشين)، ولهذا تم هذا الاغتيال للانتقام من الأفضل الذي يعتبر الرأس الأولى للحكم في مصر، حيث إن الخليفة الآمر بأحكام الله كان مجرَّد صورة.
وبمقتل الأفضل بن بدر الجماليّ دخلت الدولة العبيدية في طور ضعف متدرج، وهذا - وإن كان سيؤمِّن ظهر مملكة بيت المقدس - سيكون له أثر إيجابي مستقبلاً عند العزم على توحيد الشام في زمان نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي .

وفي أواخر سنة (515هـ) وأوائل سنة (516هـ)\ 1122م كان هناك خليط من الأحداث المفرحة والمحزنة !

فقد حاصر بَلْك بن بهرام بن أرتق - وهو ابن أخي إيلغازي - إمارة الرها، وكان بلك أميرًا على مدينة تسمى خَرتَبرت بالقرب من إمارة الرها، ولم ينجح بلك في فتح الرها فانصرف بجنوده عن المدينة، فتبعهم جوسلين دي كورتناي بفرقة من فرسانه، ثم دار قتال بين الفريقين بعيدًا عن حصون الرها، فاستطاع بلك وأربعمائة فارس من فرسانه أن يبيدوا الجيش الصليبي، بل وأفلحوا في أسر جوسلين دي كورتناي أمير الرها! وكان هذا الحدث المهيب في (516هـ)\ 13 من سبتمبر 1122م .

لقد كانت مفاجأة رائعة لم يتوقعها أحدٌ، خاصةً أن الفرقة التي كانت بصحبة بلك كانت أضعف بكثير من فرقة الصليبيين .

ومع سعادة المسلمين بهذا الخبر إلا أن الأخبار أتت بسرعة بوفاة إيلغازي بن أرتق بعد أقل من شهرين من أسر جوسلين، وكما كان متوقعًا فقد انهارت الإمارة الكبيرة التي كوَّنها إيلغازي الأرتقي! ولم يكن هذا الانهيار لحداثة إنشائها فقط، ولكن لأنها تأسست على أكتاف جيوش تبحث عن المال والثروة لا عن الجهاد والجنة! فكان طبيعيًّا أن تتقاتل هذه الجيوش بعد وفاة إيلغازي القويِّ، وذلك لتقسيم التركة الثمينة !

وهكذا أخذ شمس الدولة سليمان بن إيلغازي إمارة ميافارقين؛ أي الجزء الشمالي من ديار بكر، وأخذ ابنه الثاني حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي إمارة ماردين مع الجزء الجنوبي من ديار بكر، أمّا بلك بن بهرام بن أرتق ابن أخي إيلغازي فقد ظل مسيطرًا على خَرْتبرت ومعه صيده الثمين جوسلين، وأخيرًا حلب فإنها آلت إلى بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق، وهو ابن أخٍ آخر لإيلغازي .

وعند حدوث هذه التطورات المؤسفة أسرع بلدوين الثاني ملك بيت المقدس - الذي أصبح وصيًّا على إمارة الرها، إضافةً إلى أنطاكية - لاستغلال الفرصة، وبدأ في مهاجمة إقليم حلب، واستولى فعلاً على البيرة شرق حلب، وسيطر على بعض المناطق في شمال وجنوب حلب، وبذلك صار مهدِّدًا لحلب ذاتها ، وكان بلدوين يعلم أن قوته في هذا الوقت لا تسمح بإسقاط حلب الحصينة، ولكنه كان يريد أن يضغط على أميرها الضعيف سليمان بن عبد الجبار ليعقد معه صلحًا يؤمِّن جانبه، ومن ثَمَّ ينطلق إلى الخطير بلك بن بهرام الذي أثبت كفاءته بهزيمة الصليبيين في الرها وأسر جوسلين نفسه! وبالفعل تحقق لبلدوين الخبيث ما أراد، وطلب سليمان الصلح مع بلدوين، بل وردَّ له حصن الأثارب !
وهكذا انطلق بلدوين الثاني آمنًا ليقابل بلك بن بهرام .

وفي صفر سنة 517هـ الموافق 18 من إبريل 1123م، وأثناء حصار بلك بن بهرام لقلعة صليبية جاء بلدوين الثاني بجيشه ليقابل جيش بلك عند موضع يسمى أورش، وكانت المفاجأة الكبرى أن استطاع بلك بن بهرام أن يهزم الصليبيين، بل ويأسر بلدوين الثاني ملك بيت المقدس !!
وهكذا، وفي غضون سبعة أشهر فقط، كان بلك بهرام بن أرتق يمسك في آنٍ واحد بملك بيت المقدس وأمير الرها ! ! لقد كانت صدمة هائلة للصليبيين !!

ولعل هذا الموقف من أشد المواقف صعوبة على الصليبيين منذ وطئوا الأراضي الإسلامية، ولا ننسى أن بلدوين الثاني كان وصيًّا على إمارتي أنطاكية والرها بعد مقتل روجر الأنطاكي وأسر جوسلين دي كورتناي، ومعنى هذا أن الثلاث إمارات أصبحوا الآن بلا زعامة !

وذاع صيت بلك بن بهرام فجأة، وملأت أخباره الآفاق، وكان من السهل عليه الآن أن يوسِّع إمارته، وأن يسعى من جديد إلى توحيد الأراتقة، وقد أفلح فعلاً في ضم حرَّان، ثم أتبع ذلك بضم حلب، بل وبدأ يهاجم إمارة أنطاكية من مكانه الجديد في حلب.
ووضعت مملكة بيت المقدس على قيادتها أمير صيدا وقيسارية إيستاش جارنيه Eustache Garnier، ولكنه تُوفِّي فجأة بعد ولايته بشهر أو نحو ذلك! وتولى بعده أحد قواد بيت المقدس واسمه وليم دي بور، أما إمارة أنطاكية فقد تولى قيادتها بطرك الكنيسة برنارد دي فالنس .

وكان بلك بن بهرام يحبس الأسيرين الثمينين في قلعة حصينة في معقله الأساسي خرتبرت، وانتهز فرصة الضعف الصليبي وانعدام التوازن المفاجئ وبدأ في مهاجمة المناطق المحيطة بحلب، واستطاع فعلاً السيطرة على البارة غربي معرَّة النعمان، ثم اتجه لحصار كفرطاب .

ثم جاءت المفاجأة المؤسفة أثناء حصار كفرطاب أن هناك مؤامرة نُفِّذت من قبل سكان منطقة خرتبرت النصارى، واستطاعوا بها أن يحرِّروا الأسيرين في لحظة واحدة ، وفي ظل غياب معظم الجيش المسلم للمعارك المتتالية في منطقة حلب، وعاد بلك بن بهرام بسرعة إلى خرتبرت، وفاجَأَ الفرقة التي تصاحب الأميرين الأسيرين، واستطاع أن يُعيد أسر الملك بلدوين الثاني، بينما أفلح جوسلين دي كورتناي في الفرار بعد عامٍ كامل من الأسر !
وخشي بلك بن بهرام أن يتكرر الأمر مع بلدوين الثاني فنقله إلى قلعة حصينة في مدينة حران ؛ ليكون بعيدًا عن المدن ذات الكثافة النصرانية ، وبعيدًا أيضًا عن جيوش الصليبيين ، ثم أعاد نقله بعد ذلك إلى قلعة أشد حصانة في حلب .

واستأنف بلك بن بهرام جهوده في قتال الصليبيين، وانتصر عليهم في مَنْبِج شمال شرق حلب ، إلا أنه أصابه فجأة سهمٌ غَرْبٌ لا يُعرَف مصدره ، فسقط شهيدًا رحمه الله !!
لقد حدث ذلك في ربيع الأول 518هـ الموافق 6 من مايو 1124م ليفقد المسلمون عَلَمًا مهمًّا من أعلام الجهاد في هذه المرحلة، ولتحدث نفس المشكلة التي عانى منها المسلمون بعد وفاة إيلغازي؛ إذ تقطعت إمارته بين الوارثين !

وكانت حلب من نصيب حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي، وقد ضمها إلى ماردين، إلا أنه آثر أن يبقى في ماردين لبُعدها عن أرض الشام حيث الصدامات المتكررة مع الصليبيين، بينما هو - كما يقول ابن الأثير - رجل يحب الدَّعة والرفاهية !

ولكن هناك مشكلة كبيرة جدًّا لا بد أن يُقحِم تمرتاش الوديع نفسه فيها! وهي مشكلة الأسير المهم الملك بلدوين الثاني حبيس قلعة حلب! إنه الآن المتصرِّف في أمر هذا الأسير، ولا بد أن يُبدِي رأيه في قضيته !

وتحركت الوساطة السياسية بين الفريقين، وقام أمير شيزر سلطان بن منقذ بهذا الدور، وبعد مفاوضات وصل الفريقان إلى عدة شروط يطلق على أثرها سراح بلدوين الثاني ملك بيت المقدس، وهذه الشروط هي :

1- يدفع الملك بلدوين الثاني مبلغ ثمانين ألف دينار فدية، على أن يدفع منها مبلغ عشرين ألف دينار مقدمًا، والباقي بعد ذلك .

2- يتعهد الملك بلدوين الثاني بوصفه وصيًّا على إمارة أنطاكية بإعادة حصون عزاز والأثارب وزردنا والجزر وكفرطاب إلى إمارة حلب.

3- يتعاون الملك بلدوين الثاني مع تمرتاش في إخضاع دُبَيْس بن صَدَقَة الزعيم العربي الشيعي الذي نزح إلى الجزيرة بعد فراره من الخليفة العباسي في العراق .

4- يُسلِّم بلدوين الثاني عددًا من الرهائن يحتفظ بهم عند المسلمين لحين تنفيذ بلدوين الثاني ما طلب منه من دفع المال وتسليم الحصون، وهؤلاء الرهائن هم مجموعة من الأمراء الصليبيين على رأسهم ابنة بلدوين الثاني شخصيًّا، وهي طفلة عمرها خمسة أعوام فقط، وجوسلين الثاني ابن جوسلين دي كورتناي أمير الرها، على أن تبقى هذه الرهائن في يد الوسيط، وهو أمير شيزر سلطان بن منقذ .

وتمَّ بالفعل إطلاق سراح بلدوين الثاني بعد أكثر من سنة من أسره، وتوجه بلدوين أولاً إلى أنطاكية، وهناك وبعد لقاء مع بطرك أنطاكية برنارد دي فالنس قرر الطرفان الرجوع في البند الخاص بإرجاع الحصون إلى حلب، ومن ثَمَّ أرسلا رسالة بهذا المعنى إلى تمرتاش !
وفي هذه الأثناء وفي خلال السنة الماضية بكاملها، منذ اتجاه بلدوين الثاني إلى الشمال لقتال بلك بن بهرام، وأثناء أسر بلدوين وما تعلق به من أحداث، كان الصليبيون يحاصرون مدينة صور اللبنانية، وذلك بمساعدة أسطول عسكريّ كبير من البندقية .
ومدينة صور - كما ذكرنا من قبل - هي إحدى مدينتين لم يُسقطا بعدُ في كل الساحل الإسلامي الشامي على البحر المتوسط، والمدينة الثانية هي عسقلان؛ ولذلك فهي مدينة في غاية الأهمية، ليس لحصانتها فقط ، ولكن لكونها أحد منفذين لا ثالث لهما للإمدادات البحرية الإسلامية .

وكانت صور في هذا الوقت تحت وصاية طغتكين أمير دمشق، وهذا منذ سنة 506هـ\ 1112م، ولكن الدولة العبيدية الخبيثة في مصر حاولت أن تستغل الظروف السيئة في بلاد الشام لتضم إلى حوزتها مدينة صور، فدبَّرت مؤامرة لإقصاء الأمير مسعود، وهو أميرها من طرف طغتكين، مع أنه كان يتمتع بالكفاءة العسكرية والروح الجهادية، واستطاع الحفاظ على المدينة مدة أحد عشر عامًا كاملة، مقاومًا ببسالة كل الهجمات الصليبية على المدينة، ولكن السلطة العبيديّة فشلت بعد السيطرة على صور في الحفاظ عليها، وكانت النتيجة حصارًا محكمًا حول صور من الصليبيين، وإشراف سكان صور على الهلاك لقلة الطعام والشراب، لولا تدخل طغتكين الذي مُنع من الوصول إلى صور لاعتراض جيش أمير طرابلس بونز له، ولكن طغتكين أفلح في إجراء مباحثات مع الصليبيين قضت بتسليم المدينة إلى الجيش الصليبي في مقابل تأمين أرواح السكان بكاملهم، وبالفعل تمت الاتفاقية، وقام الصليبيون بترحيل أهل المدينة إلى خارجها ، وبذلك سقطت المدينة الحصينة صور في 23 من جمادى الأولى سنة 518هـ\ أوائل يوليو 1124م، بعد أكثر من 25 سنة لدخول الصليبيين أرض الشام !

وكانت صدمة كبيرة جدًّا للمسلمين، خاصةً أن هذه الصدمة تزامنت مع مماطلة بلدوين الثاني في تنفيذ شروط إطلاق سراحه، مما ينذر بضياع الفرصة الثمينة التي كانت في أيدي المسلمين !

رَفَع سقوط صور معنويات بلدوين الثاني، ومن ثَمَّ فقد قرر أن ينكث عهده في مسألة ردِّ الحصون الإسلامية، بل قرر أن ينقض الاتفاق من أساسه، فتحالف مع خصم تمرتاش، وهو دبيس بن صدقة الشيعيّ، والذي كان من المفترض على بلدوين أن يساعد تمرتاش في السيطرة عليه وإخضاعه، ثم جمع بلدوين الثاني جيوشه وجيوش أنطاكية، إضافةً إلى جيش الرها بقيادة جوسلين دي كورتناي، وكذلك جيش دبيس بن صدقة، وتوجَّه بكل هذه الجيوش إلى حلب لحصارها، وكان تمرتاش في ذلك الوقت في ماردين بعيدًا عن المشاكل !
ومن المؤكد أن بلدوين الثاني كان مطمئنًا إلى أن الزعيم المسلم لن يقدم على قتل الرهائن لا لضعفه فقط، ولا لعلمه أن الشريعة الإسلامية تحرِّم قتل الأطفال؛ ولكن لأن الرهائن ورقة ضغط رابحة سيحبُّ تمرتاش أن يحتفظ بها إلى آخر مدى، فأراد بلدوين الثاني أن يمارس ضغطًا عنيفًا على تمرتاش، فيقبل في النهاية أن يُطلِق الرهائن نظير رفع الضغط العنيف من عليه .

وهكذا وجد أهل حلب أنفسهم محصورين بقوات بلدوين الثاني وجوسلين دي كورتناي ودبيس بن صدقة، وليس في وسطهم أميرهم ليدفع عنهم هذه الجيوش الضخمة!!
لقد كانت أزمة عنيفة !

وما أكثر الأزمات التي وقعت فيها حلب في خلال العقود الأخيرة، منذ أيام رضوان بن تتش ثم ابنه ألب أرسلان فالخادم بدر الدين لؤلؤ، وأخيرًا تحت حكم الأراتقة إيلغازي ثم بلك بن بهرام ثم حسام الدين تمرتاش.
وإن كنا نفهم الآلام التي مرت بها المدينة تحت حكم الطغاة رضوان وابنه ألب أرسلان ثم بدر الدين لؤلؤ، فلماذا تعاني المدينة تحت حكم الأراتقة، وهم كما رأينا قادتهم على قدرٍ لا بأس به من حبِّ الجهاد، وتوقير الشريعة ؟!

واقع الأمر أن الأراتقة المجاهدين الذين رأيناهم في قصة الحروب الصليبية بدءًا من سقمان بن أرتق، ومرورًا بإيلغازي بن أرتق، وانتهاءً ببلك بن بهرام كانوا جميعًا من القادة الناجحين الذين يقودون شعوبًا فاشلة !

والقائد الناجح العظيم يفشل إن كان جنوده أو شعبه من النوعية الفاشلة؛ فجيوش الأراتقة، بل وشعوبهم، كانت تتحرك في هذه المعارك بدافع الحصول على غنيمة أو مال، وبدافع تغيير مستوى المعيشة إلى أوضاع أفضل، وبهدف ترك المدن الصغيرة والقرى للسكنى في المدن العظيمة كحلب وحرَّان، وهذه الجيوش لو انتصرت مرة أو مرتين لا يكتب لها دوام النصر، ولو مُكِّنت في قطعة أرض أو مدينة، فإنه لا يكتب لها دوام التمكين والسيادة؛ إذ سرعان ما تنهار عند أول أزمة تنذر بضياع المال أو النفس.
ولذلك فلكي يحقق المسلمون نجاحًا دائمًا وتمكينًا مستمرًّا، واستقرارًا في دولتهم، وهيبة لا تهتز عند الأزمات لا بد أولاً من تربية شعبٍ على معاني الجهاد وحب الشريعة، وهذا الشعب هو الذي سيُخرِج الجيش الفاهم والقائد الواعي الذي يستطيع أن يواصل مسيرة الجهاد الصعبة .

ولو راجعت قصص انتصار وتمكين خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وطارق بن زياد وصلاح الدين الأيوبي وقطز ومحمد الفاتح، وغيرهم من الذين مُكِّنوا في الأرض ستجد أن شعوب هؤلاء كانت شعوبًا عظيمة، وتربيتهم كانت تربية راقية، ومستواهم الإيماني والأخلاقي كان متميزًا، وكفاءتهم العسكرية والسياسية والإدارية كانت عالية.
إنها منظومة متكاملة تحقق النصر في النهاية، ولا يمكن أن يتم نصر متكامل مستمر لمجرد ظهور بطل متحمِّس، أو رجل يحب الشهادة !

وواقع الأمر أننا لم نر حتى الآن في قصة الحروب الصليبية من يتناول القضية بهذه الطريقة، إنما كان يتعامل المخلصون الذين ظهروا لنا في هذه القصة مع الموضوع بطريقة إدارة الأزمات، وبطريقة حكومة الطوارئ، التي تحاول قدر استطاعتها بإخلاص الخروج من الأزمة، لكن دون تخطيط حقيقي لمستقبل البلاد، ودون وضع خطط واضحة لضمان سلامة البلاد لعشرات السنين المستقبلية .

وهذا ما يحزننا في زماننا الآن، عندما نرى المتحمِّسين لقضية فلسطين أو العراق أو غيرهما من الأقطار الإسلامية المحتلة يقصرون همَّهم ووسائل مساعدتهم على جمع المال والإمداد بالغذاء والدواء، بل والمطالبة بالذهاب إلى هناك للقتال والاستشهاد! وهذا - لا شك - أمر مطلوب، ولكنه لا يكفي بمفرده، بل لا بد إلى جواره أن ننظر إلى المدى البعيد الذي نفلح فيه في تكوين شعب، وفي تربية جيل يستطيع أن يحقق كل الآمال، فلا يكتفي بتحرير البلاد المحتلة فقط ، ولكن يسعى إلى الاستمرار في الحفاظ على المكاسب ويحرص على دوام التمكين، بل ويطمح في نشر دين رب العالمين في كل ربوع الدنيا.
وما أعمق الكلمات التي كان يحفز بها رسول الله شعبه أثناء فترة مكة، حين كان يُعلِي طموحاتهم، ويرفع من همتهم، فلا يكتفي بفتح باب الأمل "باحتمالية" النجاة من اضطهاد أهل مكة، بل يؤكد على ذلك ويتجاوز هذا إلى طموحات رائعة حيث يقول: "وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ" ، بل إنه يقول لهم في صراحة: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تُفْلِحُوا" . وقال لعمِّه أبي طالب: "إني أريد منهم كلمة واحدة تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم العجم الجزية!!". قال أبو طالب: كلمة واحدة؟! قال: "كلمة واحدة". قال: "يا عم، قولوا لا إله إلا الله" ؛ يقول هذا الكلام والمسلمون محاصَرون في مكة المكرمة، وهم بعيدون عن كل أسباب التمكين المادية !

لا بُدَّ إذن من وجود قوَّاد ومربِّين ومصلحين وعلماء يرفعون سقف أحلام المؤمنين، ويعيدون تربية الشعب على أساس متين، يستخلص بوضوح من سيرة الرسول r، وكذلك من سير المجاهدين المجددين في تاريخ هذه الأمة، والذين استطاعوا أن يمكنوا للإسلام في الأرض.
ومع ذلك فإن مرحلة الأراتقة هذه كانت ضرورية، ولا بد أن نشكر جهودهم مع كونها كانت مؤقتة؛ إنهم حملوا الراية في زمان تخاذل الكثيرون عن حمل الراية، وداموا على الجهاد مع صعوبته، وألحقوا بعض الهزائم بالصليبيين منعتهم من التوسع الأكثر في بلاد المسلمين، ومهدوا لمن يأتي من بعدهم ليكمل المسيرة، وأنقذوا أرواحًا كانت من الممكن أن تزهق، وديارًا كانت من الممكن أن تهدم، ولعلهم لو ظهروا في زمانٍ اجتهد فيه من سبقهم في تربية الشعوب، وتعليم الناس، لكان لهم شأن آخر، ولكن الأمور تجري بالمقادير !

ونعود إلى أهل حلب !

لقد وجد أهل حلب أنفسهم في حيرة شديدة، وشعروا أن البلد بلا قائد ولا رابط، وأن قائدهم المفترض حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي ضعيف، وحتى لو جاء بجيشه فلن يستطيع أن يدفع عنهم، فهو لا يرغب أصلاً في مواجهة الصليبيين، والجهاد صعب، ولن يَقْوَى عليه إلا من يطلبه، بل ويشتاق إليه.
ومن هنا قرَّر أهل حلب أن يستعينوا بقائد من خارج حلب يأتي ليتسلم زمام الأمور، ومن ثَمَّ يَرُدُّ هؤلاء الغزاة عن المدينة الآمنة: حلب! فبمَن يستعينون؟!
إن معظم الزعامات التي كانت حولهم كانت في غاية الضعف، ولم يكن أمامهم إلا أحد رجلين: إما طغتكين قائد دمشق، أو آق سنقر البرسقي زعيم الموصل .

أمّا طغتكين، فهو على الرغم من قوته وحفاظه على دمشق فترة طويلة فإنَّه لم يكن القائد المنشود، وذلك أنه كان دومًا في حاجة إلى المعونة من الخارج، بل كان أحيانًا يتحالف مع الصليبيين في فترات ضعفه، وها هم الصليبيون يأتون بجيوشهم لحصار حلب غير معتبرين بقوة طغتكين القريبة من حلب، ومن ثَمَّ فإن أهل حلب شعروا أن هيبة طغتكين لن تردع الصليبيين، ولن تردهم خاسرين .

لكن القائد الآخر آق سنقر البرسقي شأنه مختلف! فهذا القائد، مع كونه لا يمتلك تاريخًا جيدًا في المنطقة؛ حيث هُزم قبل ذلك من الصليبيين أثناء فترة ولايته الأُولى على الموصل، إلا أنه يتمتع ببعض الخصال التي تجعل كفَّته أرجح من كِفَّة طغتكين.
فهو أولاً : يتمتع بدرجة عالية من الصلاح والتقوى تجعله يسير فيهم بالعدل والرحمة، وهي صفات افتقر إليها شعب حلب عدة عقود .

وهو ثانيًا : يمتلك جيشًا قويًّا هو جيش الموصل، ويكفي أن أحد أبرز قادته هو عماد الدين زنكي الذي اشتهر أمره بين المسلمين .

وهو ثالثًا : يحكم شعبًا فاهمًا محبًّا للجهاد، وهو شعب الموصل؛ ولذا فجيشه يختلف عن بقيَّة جيوش هذا الزمان، وهو يعلم كيف يكون الجهاد في سبيل الله، وليس في سبيل الكرسيِّ أو المال .

وهو رابعًا : على عَلاقة جيِّدة جدًّا وشخصيَّة بالسلطان السلجوقيّ محمود؛ ومن ثَمَّ فهو بذلك يضمن تأييدَ أكبر سلطة في العالم الإسلامي في ذلك الوقت .

وهو خامسًا : سيضيف قوة جديدة إلى المنطقة بالإضافة إلى قوة طغتكين؛ لأن هناك سابق اتحاد بين قوة الموصل وقوة دمشق أيام مودود رحمه الله، فلو أُعيدت هذه الوَحدة بالإضافة إلى حلب فلعل ذلك يردع الصليبيين ويحقق النصر .

ومن هنا رجحت كفة آق سنقر البرسقي، وأرسل أهل حلب من فورهم رسالة استغاثة إليه، تطلب منه القدوم لتسلُّم مفاتيح المدينة العظيمة : حلب !

وجد آق سنقر البرسقيّ أمير الموصل أن هذه فرصة لا تُعَوَّض لمواصلة الجهاد ضد الصليبيين ، خاصة أنَّ السلطان محمود قد أظهر رغبة في الجهاد قبل ذلك، ومن هنا تحرك بسرعة ملبِّيًا نداء أهل حلب، ووصلها بالفعل في ذي الحجة سنة 518هـ\ يناير 1125م؛ ليُوَحِّد بذلك بين الإمارتين الكبيرتين : الموصل وحلب وإذا كنا قد رأينا شرًّا كبيرًا في غياب المجاهد بلك بن بهرام عن الساحة، وإطلاق سراح بلدوين الثاني دون فائدة تذكر ، وحصار بلدوين وأعوانه لمدينة حلب، وغير ذلك من الأحداث المؤسفة؛ فإنه كان من وراء هذا الشرِّ خيرٌ كثير، وهو توحيد قوة الإمارتين المهمَّتين: الموصل وحلب. وهذه الوحدة وإن كانت لم تحقق أهدافها في أول أيامها، إلا أنها لفتت الانتباه إلى قيمة اتحاد هاتين الإمارتين، وبذلك يُعتبر هذا الحدث نواةً لما سيحدث مستقبلاً من اتحاد إستراتيجي مؤثر بينهم .

أما لماذا تعتبر هذه الوَحدة مهمة جدًّا فذلك لأسباب عدة منها :


أولاً : تواصل إمارة الموصل مع إمارة حلب دون وجود فارق بينهما يعني اتصال الجسر العسكريّ من العراق، بل من شرق العالم الإسلامي كله بما في ذلك فارس (مركز السلاجقة الرئيسي)، مع أرض الشام حيث يوجد الصليبيون .

ثانيًا : الدعوات الجهادية الحقيقية كانت تظهر في الموصل، فإذا تَوَحَّدَت الموصل مع حلب فإنه يُتَوَقَّع أن تسري هذه الدعوة في حلب ومنها إلى الشام، بعد غياب حقيقي لهذه الدعوة في أرض الشام طوال السنوات السابقة .

ثالثًا : الإمكانيات البشرية والعسكرية للإمارتين كبيرة، فاتحادهما يعني تكوين قوة صلبة تستطيع مواجهة الصليبيين .

رابعًا : وجود حلب تحت حكم الموصل التابعة أصلاً للسلاجقة والخلافة العباسية سيضع المسئولية رسميًّا على السلطنة والخلافة، ولن يصبح الأمر مجرَّد تفضُّل بالمساعدة، أو تبرُّع بالجهاد .

خامسًا : الجيوش العسكرية العراقية كانت تعاني دائمًا من عدم وجود قاعدة انطلاق متقدمة في أرض الشام، ولعلنا نذكر الأزمة التي وُضع فيها مودود رحمه الله عندما أَغْلَق رضوان حاكم حلب أمامه أبواب المدينة عندما جاء بجيوشه للجهاد ضد الصليبيين.
سادسًا: هناك فرصة كبيرة لانتقال علماء المسلمين من العراق، وخاصة من الموصل وبغداد، لإعادة بناء أهل حلب والشام عقائديًّا وفكريًّا، وخاصةً أن سيطرة الباطنية على الأمور في أعظم مدينتين بالشام وهما: حلب ودمشق، أدى إلى كثير من الاضطراب في مفاهيم الناس .

فهذه كانت بعض الفوائد من اتحاد الموصل مع حلب؛ ولذلك ظهر الاحتفال بهذه الخطوة واضحًا عند كل المسلمين المخلصين المعاصرين للحدث، كما ظهر ذلك أيضًا في كتابات المؤرخين، وما زال يظهر في تحليلاتنا إلى زماننا هذا، ولا شكَّ أن الوَحدة بصفة عامة أمر يدعو إلى الاحتفال والاهتمام .

وهكذا جاء آق سنقر البرسقيّ إلى حلب، وبمجيئه رحلت القوات الصليبية حيث شعرت بقوة الجيش السلجوقي العراقي، وتعاطف الناس في حلب معه، ومن هنا لم يحدث صدام بين المسلمين والصليبيين .

رتَّب آق سنقر الأوضاع في حلب، ثم عاد إلى الموصل بعد أن ترك فيها أميرًا يتبعه ، ثم ما لبث أن عاد إلى المنطقة في أوائل سنة (519هـ)\ مارس 1125م، وزار إمارة شيزر، وتسلم الرهائن الصليبية من سلطان بن منقذ أمير شيزر، وذلك بناء على المعاهدة التي كانت تنصُّ بتسليم هؤلاء الرهائن لزعيم حلب في حال الإخلال بأي بند من بنود الاتفاق .

ثم بدأ آق سنقر الجهاد مباشرة ضد الصليبيين، فاستطاع السيطرة على حصن كفرطاب بالقوة، وهو من الحصون التي كانت في الاتفاق مع بلدوين الثاني، ثم حاصر بعده حصن زردنا ، ونتيجة هذه الحملات استنجدت أنطاكية ببلدوين الثاني الذي جاء مسرعًا إلى المنطقة، خاصة أن ابنته الآن رهينة في يد آق سنقر البرسقي، واشترك معه في النجدة جيش طرابلس بقيادة الأمير بونز، وكذلك جيش الرها بقيادة جوسلين دي كورتناي، وترك آق سنقر حصار زردنا، واتجه إلى منطقة عَزاز شمال حلب ، حيث دارت موقعة كبيرة بين الطرفين اقتتلوا فيها قتالاً شديدًا، ثم تمكَّن الصليبيون - للأسف الشديد - من إلحاق الهزيمة بالمسلمين ، لكنها لم تكن هزيمة ساحقة كما تُصَوِّرُها بعض الكتابات بدليل أن قتلى المسلمين كما ذكر ابن الأثير كانوا ألفًا فقط ، وبدليل قَبول الطرفين للجلوس للتفاوض بعد المعركة مما يُعطِي انطباعًا بالتكافؤ النسبي بين الفريقين .

وكانت نتيجة المفاوضات كالآتي :


أولاً : يُسَلِّم آق سنقر الرهائنَ الصليبيين إلى بلدوين الثاني .

ثانيًا : يحتفظ المسلمون بكفرطاب .

ثالثًا : تُعقد هدنة بين الطرفين لمدة معينة لم تحدِّدها المصادر ، ولكن من الواضح أنها كانت هدنة لمدة قصيرة ؛ لأن آق سنقر رجع مسرعًا إلى الموصل لإعادة ترتيب الأوضاع في جيشه، وجمع المجاهدين لصدام جديد، وقد ترك على حلب ابنه عز الدي مسعود بن آق سنقر .

كانت هذه هزة لآق سنقر لكنها هزة لم تُلْغِ زعامته، ولم تزعزع مركزه، ولم تُفقده ثقة السلطان محمود فيه، ولا ثقة الشعوب الإسلامية في قدراته وإخلاصه، ومن ثَمَّ فالآمال كانت لا تزال معقودة عليه في تحرير الأراضي الإسلامية من دنس الصليبيين .

وبينما يُعِدُّ آق سنقر عُدَّته للتجهز لصدام جديد بعد انقضاء الهدنة إذ الأخبار تأتي من الشام أن بونز أمير طرابلس استطاع انتزاع قلعة رَفِنِيَّة من أيدي المسلمين، وهذه القلعة تابعة لحمص التي تتبع بدورها طغتكين أمير دمشق ، وهي قلعة في غاية الأهمية لسببين رئيسيين؛ الأول لأنها تُشرف على طرابلس، ومن ثَمَّ فهي تهدد أمن الإمارة الصليبية بكاملها، والثاني أنها تشرف على الطريق بين بيت المقدس وأنطاكية، ومن ثَمَّ فالسيطرة عليها يؤمِّن الإمدادت الصليبية من بيت المقدس إلى أنطاكية، ومن الجدير بالذكر أن بلدوين الثاني شارك بونز في إسقاط قلعة رَفِنِيَّة، وبالتالي نقض الهدنة التي كانت بينه وبين آق سنقر البرسقي .

هنا استنجد طغتكين بآق سنقر الذي جاء من فوره بجيشه في منتصف عام 520هـ\ 1126م، وأرسل آق سنقر ابنه عز الدين مسعود لقتال الصليبيين عند رَفِنِيَّة بينما توجه هو إلى حصار حصن الأثارب المهمِّ، وهو من الحصون التابعة لأنطاكية.
أقبل بلدوين الثاني مسرعًا ومعه جوسلين دي كورتناي أمير الرها، وكان واضحًا أنه خشي من القوة المتنامية لآق سنقر، ومن إصراره وعزمه على مواصلة الجهاد، ومن تعاطف المسلمين معه، ومن اتفاق زعماء الشام عليه، فعرض عليه الصلح، وعقد الهدنة من جديد، وهذه المرة سيدفع بلدوين الثاني الثمن، وهو إعادة حصن رَفِنِيَّة الخطير للمسلمين !

كانت نتيجة مُرضية جدًّا لآق سنقر، وخاصة أنها جاءت دون قتال، وسيستعيد المسلمون حصنًا مهمًّا، وسيأخذون بالهدنة الفرصة لإعادة تنظيم جيوشهم وأمورهم، ومن ثَمَّ وافق آق سنقر البرسقي وتسلَّم حصن رَفِنِيَّة، وأبقى عز الدين مسعود ابنه في حلب، وعاد أدراجه إلى الموصل .

لقد بدأ المسلمون الآن ينظرون إلى آق سنقر على أنه القائد الذي سيصمد في الحرب ضد الصليبيين، وهذا - لا شك - أسعد المسلمين كثيرًا، إلا أن هذه السعادة لم تكن في قلوب كل من يرقب الأحداث .
لقد كانت هناك عيون يملؤها الشرُّ، وقلوب يغمرها الحقد ترقب هذا النمو لشعبية هذا المجاهد، وهذه الآمال المعقودة عليه !!

إنها عيون الباطنية وقلوبهم!

إن هذه العصابات الإسماعيلية الشيعية المسلحة ما كانت لتستقر أبدًا أو تسعد وهي ترى جهودًا سُنِّيَّة مخلصة تهدف إلى توحيد الأمَّة، وإعلاء راية الجهاد، وطرد الصليبيين؛ لذلك قررت هذه القلوب الحاقدة والنفسيات المعقدة أن تتخلص من هذا الرمز الجديد، كما تخلصت قبل ذلك من سلفه المجاهد مودود، ومن قبله من الوزير العالم نظام الملك!
وفي اليوم الذي عاد فيه آق سنقر إلى الموصل، وهو يوم الجمعة الثامن من ذي القعدة سنة 520هـ الموافق 26 من نوفمبر 1126م، دخل آق سنقر رحمه الله المسجد الجامع لصلاة الجمعة، وكان يصلي رحمه الله مع العامة وَسْط الناس، وفي الصف الأول، وإذا ببضعة عشر باطنيًّا يهجمون عليه في وقت واحد، وتناوشوه بسكاكينهم وخناجرهم فسقط شهيدًا رحمه الله، في يومٍ كان من المفترض أن يحتفل فيه المسلمون باستعادة حصن رَفِنِيَّة !

إن طريق الجهاد شاقٌّ وطويل، ومشاكله لا تنتهي، وآلامه كثيرة، لكن مع ذلك يبقى الجهاد ذروة سنام الإسلام وأعلى ما فيه، وعلى الأمة التي تبغي عزة، وتهفو إلى ريادة وسيادة أن تتعوَّد على مثل هذه الصدمات، ولا تيأس لفقدان رمز من رموز الجهاد؛ لأن الله إذا اطَّلع على الصدق في قلوب الناس، والرغبة الحقيقية في الجهاد، رزقها مَن يحمل الراية، وكثيرًا ما يكون هذا البديل أعظم ألف مرة ممن فُقد، وهذا تدبير مَن لا يغفل ولا ينام .

ومع ذلك فلا يمنع أن تحدث هزة وأزمة مؤقَّتة بعد فقدان رمز مهمٍّ من رموز الجهاد والصلاح، ولقد تزامن مع استشهاد آق سنقر البرسقي رحمه الله عدة حوادث جعلت أحوال العالم الإسلامي في اضطراب أكثر وأزمة أكبر .

فمن هذا مثلاً حدوث خلاف عظيم بعد مقتل البرسقي بأقل من شهرين بين الخليفة المسترشد بالله والسلطان محمود، وقد تطور هذا الخلاف حتى وصل إلى صدام بالجيوش، وكادت مقتلة عظيمة بين الطرفين تحدث لولا أن الله سلَّم، وقُمعت الفتنة، واعتذر الخليفة المسترشد للسلطان القويِّ محمود، واستقرت الأوضاع نسبيًّا .

ومن هذه الحوادث أيضًا وصول بوهيموند الثاني ابن بوهيموند الأول، بعد أن بلغ سنَّ الرشد، وكان وصوله في شوال (521هـ) أكتوبر 1127م ، ولم يكن يَقِلُّ شراسة عن أبيه، حتى وصفه المؤرخ أسامة بن منقذ بأنه كان بليَّة على المسلمين .

وبهذا استقرت أوضاع الصليبيين إلى حدٍّ كبير، فبلدوين الثاني على رأس مملكة بيت المقدس، وجوسلين دي كورتناي على رأس الرها، وبونز على رأس طرابلس، وبوهيموند الثاني على رأس أنطاكية .

وقد سعى بلدوين الثاني إلى تقوية الأواصر بينه وبين مملكة أنطاكية، فاستقبل بوهيموند الثاني استقبالاً حافلاً، بل وعرض عليه الزواج من ابنته الثانية أليس، فقَبِل بوهيموند الثاني، وبذلك صارت الرابطة بين مملكة بيت المقدس وأنطاكية قوية ومتصلة .
ومن الحوادث العجيبة أيضًا التي أدَّت إلى اضطراب في صفوف المسلمين، أن السلطان محمود استخلف على الموصل وحلب بعد استشهاد آق سنقر البرسقيّ ابنه عز الدين مسعود بن آق سنقر، وكان رجلاً شهمًا شجاعًا ورعًا كأبيه، وكان عازمًا على استكمال مسيرة الجهاد، وقد حاول أن يضم إحدى القلاع المجاورة لحلب إليها، غير أنه مات فجأة في أثناء الحصار دون أن يتعرض إليه أحدٌ بشيء، وكان ذلك في عنفوان شبابه، وأحدث موته اضطرابًا كبيرًا؛ إذ قام أحد المماليك واسمه جاولي بمحاولة تنصيب أخي عز الدين مسعود، وكان طفلاً صغيرًا؛ من أجل أن يتولى هو الوصاية عليه، وأرسل رسولين بذلك إلى السلطان محمود، وانخلعت قلوب العامة خوفًا من أن يقبل السلطان بهذا الوضع، مما سيضع البلد على حافة هاوية، فالأمر خطير، والصليبيون يطرقون الأبواب بشدة، ويحتلون بلادًا واسعة، ويحتاج المسلمون إلى شخصيَّة مجاهدة صابرة قوية لا إلى طفل صغير يتحكم فيه ملك صاحب مطامع !!

أرسل جاولي - كما ذكرنا - رسولين إلى السلطان محمود ، وكان الرسولان هما القاضي بهاء الدين الشَّهْرُزُوري قاضي حلب ، وصلاح الدين محمد حاجب عز الدين مسعود البرسقي، وكان جاولي قد وعدهما بالولاية والتقديم إذا أفلحا في إقناع السلطان محمود بما يريد .

ومع أن الرسولين قد وُعِدَا بمال ومنصب إلا أن الله لطيفٌ بعباده، فقد اختار جاولي رسولين صالحين في قلوبهما رأفة على الأمة ، ونُصْحٌ لله ولرسوله وللمؤمنين؛ ولهذا فقد قرر هذان الرسولان أن ينصحا السلطان بما يمليه عليهما الشرع والدين، لا بما يرغب فيه جاولي أو غيره، مضحِّين بذلك بدنيا قد وُعدا بها .

التقى الرسولان بشرف الدين أنوشروان بن خالد وزير السلطان محمود، وقالا له في أمانة بالغة: "قد علمت أنت والسلطان أن ديار الجزيرة والشام قد تمَكَّنَ الفرنج منها وقويت شوكتهم بها، فاستولوا على أكثرها، وقد أصبحت ولايتهم من حدود مارِدِين إلى عريش مصر، وقد كان البرسقي (آق سنقر) مع شجاعته وتجربته وانقياد العساكر إليه يكفُّ بعض عاديتهم وشرِّهم، ومنذ قُتِل ازداد طمعهم، وهذا ولده طفل صغير، ولا بد للبلاد من رجل شهم شجاع، ذي رأي وتجربة يذبُّ عنها ويحفظها، ويحمي حوزتها، وقد أنهينا الحال لئلا يجري خلل أو وهن على الإسلام والمسلمين، فيختص اللوم بنا، ويُقال: ألا أنهيتم إلينا جليَّة الحال؟" .

رفع الوزير شرف الدين هذا الكلام المهم إلى السلطان محمود فاستحسنه جدًّا، واستدعاهما وشكرهما، ثم سألهما عمن يُرَشِّحان لمثل هذا المنصب الخطير، فعرضا له بعض الأسماء، غير أنهما حسَّنا له اسمًا معينًا ورغَّباه فيه، فقَبِل السلطان محمود ترشيحهما إذ خبر بنفسه قوة الرجل المرشَّح وخبرته وإخلاصه وورعه، ومن ثَمَّ صار هذا الرجل الجديد أميرًا على الموصل وحلب، وهذا المرشح الجديد والزعيم المرتقب هو عماد الدين زنكي رحمه الله ، وهو الزعيم الذي يحتاج منا إلى وقفات ووقفات، فهو - كما هو معروف - من علامات الجهاد البارزة في تاريخ الأمة .

فما هي قصة هذا البطل العظيم عماد الدين زنكي؟ وكيف علا نجمه واشتهر أمره؟ وما خطواته في الإصلاح؟ وما طريقته في التجديد والتغيير؟ وكيف كان تفاعل الشعب معه وموقف الأمراء منه؟ وما ردُّ فعل الصليبيين لظهور هذا النجم الجديد ؟
=====
يتبع .
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

واصل إبداعاتك أخي الكريم

مالفت نظري هو الدور السيء للدولة الفاطمية ومساهماتها في تسهيل وتمكين الأمور للصليبيين في إحكام سيطرتهم على بلاد المسلمين

في الوقت الذي يكون فيه المسلمين مشغولين بأمر الصليبيين تنتهز الفرصة لتقوم بالسيطرة على بعض المدن ثم ماتلبت أن تسلم هذه المدن للصليبيين

فلاهي تركتهم يدافعون عن انفسهم في وجه الصليبيين
ولاهي دافعت عن المدينة بعد أن سيطرت عليها
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

واصل إبداعاتك أخي الكريم

مالفت نظري هو الدور السيء للدولة الفاطمية ومساهماتها في تسهيل وتمكين الأمور للصليبيين في إحكام سيطرتهم على بلاد المسلمين

في الوقت الذي يكون فيه المسلمين مشغولين بأمر الصليبيين تنتهز الفرصة لتقوم بالسيطرة على بعض المدن ثم ماتلبت أن تسلم هذه المدن للصليبيين

فلاهي تركتهم يدافعون عن انفسهم في وجه الصليبيين
ولاهي دافعت عن المدينة بعد أن سيطرت عليها

شيء اعتبره عاديا من الشيعة الفتوحات للسنة والفتنة والغدر للشيعة
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

- أصول عماد الدين زنكي

لا يمكن فهم شخصية عظيمة كشخصية عماد الدين زنكي دون العودة إلى جذوره وأصوله ، فبالنظر إلى حال أسرته وخاصة والديه ندرك الكثير من الأبعاد العميقة في حياته ، ونكشف السر وراء هذه الشخصية المتكاملة التي أجرى الله على يديها خيرًا كثيرًا للمسلمين .

والله علَّل الخير الذي أصاب الولدين في قصة موسى والخَضِرِ رحمه الله بأن الأب كان صالحًا، فقال تعالى ‎: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) .
ففي هذه القصة بُعد عجيب ، ومعنى دقيق لا بد من الإعتبار به ، وهو أن الأب ترك الولدين مبكرًا ، ولم يكن عنده من العمر ما يكفي لتربية أولاده وتنشئتهم ، ومع ذلك فإن الله حفظ الولدين وأجرى لهما خيرًا واسعًا بسبب أن أباهما كان صالحًا .

وفي نفس المعنى يقول الله : ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا ) .

وهذه هي حالة بطلنا العظيم عماد الدين زنكي تمامًا؛ فقد تركه أبوه وهو يبلغ من العمر عشر سنوات فقط ! أي أن عماد الدين زنكي نشأ يتيمًا، ولكنَّ أباه كان يتقي الله ، وكان يقول الكلمة السديدة ، وكان صالحًا، فحفظ الله الابن بصلاح الأب ، وهذا متكرر كثيرًا في التاريخ الإسلامي ، وكم من المغيِّرين والمجدِّدين للأمة نشئوا يتامى، فما حرمهم ذلك من أن يكونوا قادة ومصلحين ، وليس الشافعي والبخاري ، وأحمد بن حنبل ، والحسن البصري ، وعبد الرحمن الناصر ، وقطز ، وعمر المختار إلا مجرد أمثلة ، بل إن رسولنا نشأ يتيمًا ، فكان أعظم إنسان عرفته البشرية .

إذن من هو الأب العظيم الذي بصلاحه حفظ الله له ولنا هذا الابن الجليل عماد الدين زنكي ؟!

إنه آق سنقر الحاجب التركماني ! وكما هو واضح من اسمه فهو من قبائل الأتراك ، من قبيلة تُعرف باسم ساب يو ، وهي قبيلة تمتعت بمكانة رفيعة عند السلاجقة الأتراك .

وكان آق سنقر من أصحاب السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان ، وهو السلطان العظيم الذي إمتدت حدود دولته من الصين شرقًا إلى آسيا الصغرى غربًا ، وكان عادلاً حسن السيرة ولذلك لم يكن يُقرِّب منه إلا الصالحين ، ويكفي أن وزيره الأول كان نظام الملك ، وهو من أعظم الوزراء في الإسلام ، وحاجبه كان آق سنقر والد عماد الدين زنكي ، فهذا من أدلة صلاح السلطان ملكشاه الذي يسَّر له الله البطانةَ الصالحة .

وكان آق سنقر مقرَّبًا بدرجة كبيرة إلى قلب السلطان ملكشاه لدرجة أنه أنعم عليه بلقب عجيب ، وهو قسيم الدولة ، ومعنى اللقب أن يقتسم معه إدارة الدولة وشئونها ، وهي منزلة رفيعة جدًّا .

ثم كانت هناك أحداث صعبة تمرُّ بها بلاد الشام ، حيث كانت تمزِّقها صراعات سياسية خطيرة ، خاصة منطقة حلب حيث كان يتنازع السيطرة عليها ثلاث قوى رئيسية : أما القوة الأولى فهي قوة مسلم بن قريش العقيليّ صاحب الموصل وحلب .. وأما القوة الثانية فهي قوة تتش بن ألب أرسلان أمير دمشق ، وهو أخو السلطان ملكشاه ، ولكنه كما ذكرنا قبل ذلك كان خبيثًا فاسدًا ، وكذلك صار أولاده من بعده وهم رضوان ودقاق وأما القوة الثالثة فهي قوة سليمان بن قتلمش مؤسِّس إمارة سلاجقة الروم ووالد قلج أرسلان الأول الذي مرَّ ذكره في بدايات قصة الحروب الصليبية .

وكنتيجة مأساويَّة لهذا الصراع قُتل مسلم بن قريش على يد سليمان بن قتلمش ، وأصبح الطريق إلى حلب مفتوحًا لسليمان ، ولكن أهلها رفضوا تسليم المدينة له ، وأرسلوا إلى السلطان العادل ملكشاه ليتسلم مدينة حلب ، فوافق السلطان ملكشاه ، وجاء بجيشه ، لكن في هذه الأثناء قُتل سليمان بن قتلمش على يد تتش بن ألب أرسلان ، وإنطلق تتش ليستولي على حلب ، غير أنه وصلها مع وصول جيش أخيه ملكشاه ، ووجد تتش أنه لا طاقة له بهذا الجيش العملاق ، فإنسحب وترك المدينة لملكشاه .

وكان الوضع في حلب سيِّئًا للغاية نتيجة الصراعات الدموية التي دارت في المنطقة فلم يجد السلطان ملكشاه حلاًّ لإصلاح أوضاعها إلا بتسليم إدارتها إلى الرجل الذي يثق في قدراته وأخلاقه وورعه ، وهو قسيم الدولة آق سنقر الحاجب ، وكان ذلك في شهر شوال (479هـ) يناير 1087م ، وهكذا بدأ الحكم السلجوقي لمدينة حلب ، بل وأعطاه إلى جوار حلب عدة مدن في المنطقة منها حماة ومَنْبِج واللاذقية .

تسلَّم آق سنقر الحاجب رحمه الله المدينة وهي في حالة مزرية من الفوضى والاضطراب بفعل الصراعات الكثيرة التي كانت بين حكام وأمراء المنطقة؛ مما جعل الحكام الذين تولوا حكمها لا يلتفتون أبدًا إلى أمورها الداخلية ، أو إلى حياتها الاقتصادية، فتراجعت واردات البلاد ، وفُرضت ضرائب باهظة على السكان ، ونتيجة لغلاء الأسعار , إنتشر اللصوص في المدينة، وإنعدم الأمن ، ومن ثَمَّ تعطلت الحركة التِّجارية، كما تراجعت الزراعة ، وهذا كله - لا شك - أثَّر سلبًا في كل قطاعات المجتمع .

ومع هذا التدهور الرهيب في كل مناحي الحياة إلا أن آق سنقر بدأ يمارس عمله بنشاط ، ساعيًا بكل طاقته أن يصلح الأمور كلها ، وكانت نظرته شمولية ، فلم يهتم بجانب على حساب آخر ، بل تناول الأحوال جملة واحدة .

إهتم آق سنقر بداية بالحالة الأمنية الخطيرة التي كانت تعاني منها حلب ، فأقام الحدود الشرعية ، وطارد اللصوص وقُطَّاع الطريق ، وقضى عليهم ، وتخلص من المتطرفين في الفساد .

وإضافةً إلى هذه السياسة التي تعتمد على وجود شرطة قوية عادلة تدافع عن الحقوق ، وتستخدم سلطتها في حماية الناس بدلاً من التسلط عليهم ، إضافةً لهذه الشرطة فإن آق سنقر لجأ إلى سياسة أخرى عجيبة آتت ثمارًا رائعة وفي وقتٍ محدود ؛ ذلك أنه أقر مبدأ المسئولية الجماعية لكل قرية أو قِطَاع في المدينة ، مما يعني أنه في حالة إذا هوجمت قافلة أو إنسان ، فإن أهل القرية يتحملون مسئولية الدفاع عنه ، وإذا سُرقت أمواله ، فإنهم يجتمعون معًا لتعويضه عما سُرق، ومن ثَمَّ أصبحت مهمة الحفاظ على الأمن هو مهمة الجميع ، ولا يمكن أن يشك الناس في لص أو عصابة مجرمين دون الإخبار عنها ؛ لأن المسئولية أصبحت جماعية وليست فردية ، وهذا له مرجع في الشريعة ، حيث مبدأ "العاقلة" ، بمعنى أن أفراد العائلة الواحدة أو القبلية الواحدة ، أو القرية الواحدة يتعاقلون فيما بينهم ، أي يتعاونون فيما بينهم لجمع الدِّيَة المطلوبة من أحدهم ، أو سداد الدين عنه ، وبذلك تعود الحقوق لأصحابها مهما كانت كبيرة .

ونتيجة لهذه السياسة البارعة ، ونتيجة للتطبيق الدقيق لها ، ونتيجة للإستخدام الصحيح لجهاز الشرطة في الإمارة ، عمَّ الأمن والأمان في كل الربوع وفي غضون أشهر قليلة ، وانعكس ذلك - ولا شك - على حركة التجارة والزراعة ، وانعكس على حركة الأموال والبضائع ، ومن ثَمَّ تحسَّن الاقتصاد بشكل ملموس وإنخفضت الأسعار ، وتوفَّرت المنتجات ، وصار لحلب شأن عظيم بين الإمارات المجاورة .

ولا بد أن نؤكِّد هنا على أن آق سنقر رحمه الله كان حريصًا تمامًا على إقامة الحدود الشرعية ، مع أن الكثيرين قد يعتقدون أنها ستترك مجتمعًا مشوَّهًا نتيجة قطع أيدي السارقين ، وقتل القاتلين ، ورجم الزناة المحصنين ، وجلد الزناة غير المحصنين ، وجلد شاربي الخمر ؛ قد يعتقد البعض أن المجتمع في حلب أصبح مشوَّهًا نتيجة تطبيق الحدود في وجود الكثير من المفسدين والمجرمين ! لكن واقع الأمر أن هذا لم يحدث ؛ لقد كان تطبيق الشريعة مع مجرم أو اثنين رادعًا لبقية المجرمين ، ولم تَنْقِلْ لنا المصادر أن عددًا كبيرًا قد عوقب بهذه الحدود، إنما نقلت أن الأغلب الأعم من المجرمين إرتدع عن جرائمه ، وصدق الله إذ يقول : (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ، فأصبحت حياة حلب وأمنها وعزِّها وتحسُّن اقتصادها وعلوّ شأنها في تطبيق القصاص ، وفي الإلتزام بالحدود الشرعية ، وفي التطبيق الحرفيِّ لكتاب الله وسنة رسوله .

ونتيجة هذا الأمن المتناهي نادى آق سنقر في أهل حلب بأمر عجيب جدًّا ، وهو أن لا يرفع أحد متاعه من الطريق إذا أراد أن يذهب إلى مكان بعيد ثم يعود ، بل يتركه دون حراسة، وهو ضامن له ألا يُسرق !!

لقد كان أمنًا عجيبًا تحدَّث عنه الناس هنا وهناك .

ومما يُروى في هذا الصدد قصة عجيبة ، وهي أن آق سنقر كان قد مرَّ بقرية من قرى حلب، فوجد أحد الفلاحين - وكان لا يعرف آق سنقر - قد فرغ من عمله في حقله ، ويستعد لحمل أداة من أدوات الزراعة على دابته ليحملها إلى القرية ، وكانت هذه الآلة مغلَّفة بالجلد ، فقال له آق سنقر : ألم تسمع مناداة قسيم الدولة بأن لا يرفع أحدٌ متاعًا ولا شيئًا من موضعه ؟ بمعنى أنه يضمن لك حفظه من السرقة ، فقال الفلاح : حفظ الله قسيم الدولة ، وقد أُمِّنَّا في أيامه ، وما نرفع هذه الآلة خوفًا عليها من السرقة ، لكن هنا حيوان يقال له ابن آوَى (حيوان مثل الذئب) تأتي إلى هذه الآلة فتأكل الجلد الذي عليه ، فنحن نحفظه منها ونرفعه لذلك .. فعندما عاد قسيم الدولة إلى حلب أمر الصيَّادين فتتبعوا هذه الحيوانات في كل الإمارة ، فصادوها حتى أفنوها !

لقد كان أمنًا يخرج عن حدِّ الواقع إلى الخيال !

ولم يكن إسهام آق سنقر في هذا المجال فقط ، بل نجد إسهاماته العمرانية مثلاً ما يثبت أنه كان قائدًا متوازنًا مهتمًّا بكل التفاصيل في إمارته ، وقد جدَّد رحمه الله منارة مسجد حلب الجامع ، وما زال اسمه منقوشًا عليها إلى اليوم .

وأما في المجال العسكري ، فكان قسيم الدولة رحمه الله منظمًا إلى أبعد درجة ، وكان له جيش نظاميّ معظمه من التركمان ، وكان له أيضًا جيش احتياطي مكوَّن من العرب والتركمان ، وكانت القوات الاحتياطية تبلغ عشرين ألف مقاتل .

وصار قسيم الدولة آق سنقر رحمه الله حديث الناس كلهم أجمعين ! وأحبَّه أهل حلب حبًّا جمًّا ، بل شُغِف بأخباره عامة المسلمين .

يقول المؤرخ ابن القلانسي في ذيل تاريخ دمشق عن آق سنقر: "وأحسن فيهم السيرة ، وبسط العدل في أهليها ، وحمى السابلة (الطريق المسلوك) للمترددين فيها ، وأقام الهيبة ، وأنصف الرعية ، وتتبع المفسدين فأبادهم ، وقصد أهل الشر فأبعدهم ، وحصل له بذلك من الصيت ، وحسن الذكر ، وتضاعف الثناء والشكر ، فعمرت السابلة للمترددين من السفار ، وزاد إرتفاع البلد بالواردين بالبضائع من جميع الجهات والأقطار" .

وقال ابن الأثير في حقه : "وكان قسيم الدولة أحسن الأمراء سياسةً لرعيته ، وحفظًا لهم ، وكانت بلاده بين رخص عام وعدل شامل وأمن واسع" .

وقال إبن كثير: "كان قسيم الدولة من أحسن الملوك سيرةً ، وأجودهم سريرة ، وكانت الرعية في أمن وعدل ورخص" .

كانت هذه هي حياة قسيم الدولة آق سنقر رحمه الله .

ومع هذه الروعة فإنَّ هذه الحياة لم تكن تعجب الجميع ! بل كان هناك مَن ينكر عليه خيره ، ومن يكره فضله ، ومن يحقد عليه لأجل صلاحه وورعه !!

وعلى رأس هؤلاء كان تتش بن ألب أرسلان أخو السلطان ملكشاه ، وكان تتش يطمع في بسط سيطرته على الشام بكاملها ، وفي وجود مثل هذا الحاكم العادل في حلب فإنَّ ذلك سيصعب عليه ؛ فالناس يحبونه ، وكذلك السلطان ملكشاه ، فماذا يفعل تتش ؟!

لقد كان تتش ذكيًّا في شرِّه ! فبدأ في السعي في ضم كل الإمارات الشامية بإستثناء حلب ؛ لأنه يعلم أن ملكشاه يحب آق سنقر ، فلا داعي لإستثارة السلطان عليه ، ثم إنه أثار حملة السلطان لمساعدته بأن ذكر له أن بقية الإمارات الشامية واقعة تحت تهديد النفوذ العبيديّ ، فأمر السلطان ملكشاه أمراء الشام بما فيهم آق سنقر أن يساعدوا تتش في حروبه ضد العبيديين .

لكن قسيم الدولة كان يدرك أطماع تتش الإنفصالية ، وكان في نفس الوقت عظيم الوفاء للسلطان ملكشاه ، لكنه لم يستطع أن يطعن في تتش لكونه أخَا ملكشاه ، وهذا دفعه لمساعدة تتش بغير حماسة ، مما أوغر صدر تتش عليه أكثر وأكثر ، بل وراسل أخاه السلطان ملكشاه في أمر قسيم الدولة .

أراد السلطان ملكشاه أن يحل الأزمة برفق ؛ فهو لا يريد أن يغضب كلا الطرفين ، ومن ثَمَّ فقد إستدعى كل أمراء الشام بما فيهم آق سنقر وتتش إلى مقرِّه في فارس ليتباحثوا في أمر الشام ، وهناك قام تتش بصراحة بإتهام آق سنقر بعدم الإخلاص للسلاجقة ، وهذا دفع آق سنقر لأن يدافع عن نفسه ، بل وإتهم تتش بالكذب ، ومن العجب أن السلطان ملكشاه أقرَّ آق سنقر على رأيه ، ورفض عزله ، وأوصى أخاه تتش بعدم التعرُّض له !

وكان هذا اللقاء في رمضان 484هـ ، أي بعد خمس سنوات من ولاية آق سنقر على حلب، لكن في السنة التالية حدث أمر مفجع وهو وفاة السلطان ملكشاه في شوال 458هـ\ تشرين الثاني 1092م ، وتولى بركياروق إبنه الأكبر الولاية على السلطنة السلجوقية الكبرى ، وهذا أغضب تتش الذي كان يطمع في هذا المنصب الرفيع ؛ ولذلك قرر تتش أن يتحرك بالقوة العسكرية لحرب ابن أخيه بركياروق ، والسيطرة على السلطنة بالقوة !!

ولكن تتش كان يخشى من وجود قوة آق سنقر خلف ظهره ، وفي نفس الوقت كان يريد أن يستغل قوته العسكرية الكبيرة في تحقيق مطامعه ، فأمره أن يأتي على رأس جيشه ليعاونه في حرب بركياروق بن ملكشاه !!

وقع قسيم الدولة آق سنقر في أزمة كبيرة ؛ فهو يعلم أن قوة تتش أكبر بكثير من قوته ، وهو في النهاية أخو ملكشاه السلطان المتوفَّى ، وعم السلطان الحالي بركياروق ، لكن في نفس الوقت هو على وفائه للسلطان العظيم ملكشاه ، ويريد أن يحفظه في إبنه ، كما أنه يعلم أطماع تتش ، ويعلم أنه ليس بالشخصية الجديرة بحكم المسلمين ، فماذا يفعل ؟!
لقد فكَّر قسيم الدولة في خطة خطيرة ! قد يدفع ثمنها من حياته يومًا ما، لكن لم يجد أمامه حلاًّ آخر !

لقد قرر قسيم الدولة أن يخرج بجيشه مع تتش ، ويوهمه أنه سيقاتل معه ، فإذا إلتقى الجيشان ، ترك قسيم الدولة جيش تتش وإنضمَّ إلى جيش بركياروق !

إنها خطة خطيرة ستقضي تمامًا على قسيم الدولة لو إنتصر تتش ! لكنَّ قسيم الدولة كان يرى أن الحق مع بركياروق ، ليس لأنه الوريث الشرعيّ للحكم فقط ، ولكن لكونه أصلح وأتقى ألف مرة من تتش ؛ ولذلك ضحَّى بأمنه وحياته من أجل الدفاع عن هذا الحق .

إنه نوعية فريدة حقًّا من الرجال !

ونفَّذ قسيم الدولة خطته ، وفي سنة 486هـ إلتقى جيش تتش مع جيش بركياروق في مدينة الرَّيِّ بفارس ، وفعلاً إنسحب آق سنقر بجيشه وإنضم إلي بركياروق ، وفعل نفس الشيء أمير الرها بوزان ، وكان وفيًّا كذلك للسلطان الراحل ملكشاه ، فإختلَّ توازن جيش تتش ، ومن ثَمَّ إنسحب مهزومًا من الرَّيِّ ، وعاد إلى الشام بخُفَّي حُنَيْن ، لكنه عاد بقلبٍ أشد حقدًا على قسيم الدولة آق سنقر .

أعاد بركياروق قسيم الدولة آق سنقر إلى إمارة حلب تابعًا له ، وذلك في ذي القعدة 486هـ ، وأمده بقوات إضافية لأنه كان يتوقع ضربة انتقامية وشيكة من تتش .

وسرعان ما جاءت هذه الضربة ، فقد جمع تتش عدة جيوش ، وتقدم صوب حلب لإمتلاكها ، وخرج له قسيم الدولة بعد أن استغاث ببعض الأمراء التابعين لبركياروق ، لكنَّ الأمراء تأخروا في القدوم ، مما جعل قسيم الدولة يواجه تتش بجيشه وحده، وكانت الهزيمة المفجعة ، وأُسِرَ آق سنقر ، وقام تتش بقتله على الفور !

كانت هذه المأساة في يوم السبت 9 من جمادى الأولى 487هـ\ مايو 1094م ، وهكذا انتهت فترة حكم آق سنقر - وهي ثمانية أعوام - لمدينة حلب ، ويشهد الجميع أنها كانت من أزهى عصور حلب مطلقًا .

هذه هي قصة الرجل العظيم قسيم الدولة آق سنقر الحاجب !

هذه هي قصة الرجل الذي تربَّى في بيته عماد الدين زنكي !

لقد قُتل قسيم الدولة آق سنقر ، بينما لم يتجاوز ابنه عماد الدين زنكي عشر سنوات !! لقد كان عماد الدين زنكي طفلاً صغيرًا ، ولا بد أن كثيرًا من الناس أشفقوا عليه من الضياع ، وكم من الأيتام ضاعوا ويضيعون ! لكن عماد الدين زنكي لم يضِع ، بل أعزَّه الله ونصره ، ولم يمُتْ إلا وهو على رأس إمارة واسعة ، وكان من أحبِّ خلق الله إلى قلوب العباد .

إن قسيم الدولة وإن كان لم يترك لابنه مالاً كثيرًا ، ولا منصبًا رفيعًا ؛ فإنه ترك له أشياء أخرى كثيرة أعظم كثيرًا من المال والسلطان .

لقد ترك له أولاً رعاية الله وحفظه ، وكفى بهذه الرعاية ميراثًا ! لقد كان قسيم الدولة ورعًا تقيًّا قائلاً للحق دومًا ، حتى قال ابن العديم : " وكان قسيم الدولة شديد التقوى ، عميق الإيمان" .

وهذه التقوى حفظت الابن الصغير الضعيف كما وعد الله : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ) .

وترك قسيم الدولة لإبنه ثانيًا حبًّا عظيمًا للشريعة وآدابها ، وتوقيرًا كاملاً لقوانينها وحدودها ، ورأى عماد الدين زنكي بعينيه بركات تطبيق الشريعة ، فما تركها أبدًا .

وترك قسيم الدولة لإبنه ثالثًا إعلاءً لقيمة العدل ، حتى ترسخ ذلك في قلبه وكيانه ، فكَرِه الظلم بكل صوره ، وصار من أعدل حكام المسلمين كما كان أبوه .

وترك قسيم الدولة لإبنه رابعًا رحمة فطرية على الرعية ، حتى كان يقدِّم مصالحهم على مصالحه ، ويعفو ويصفح لو كان الخطأ في حقِّه ، ويرحم الضعفاء والفقراء ، ويأخذ الحق لأهله دون تجاوزٍ أو طغيان .

وترك قسيم الدولة لإبنه خامسًا تواضعًا عظيمًا ، جعله لا ينظر إلى بهرجة السلطان ، وعظمة الكرسيّ ، بل كان دائمًا متواضعًا لله يدرك فضل الله عليه ، ومن ثَمَّ لا يتكبر على خلق الله ، ولا يُعْجَبُ بما يحقِّق من نصر أو تمكين .

وترك قسيم الدولة لإبنه سادسًا مهارة إدارية وقيادية جعلته قادرًا على تحريك الجموع وسياستهم ، وجعلته محبًّا لفكرة الوحدة والتجمع تحت راية واحدة .

وترك قسيم الدولة لإبنه سابعًا حبًّا للجهاد وتعظيمًا له ، فحياته كلها كانت جهادًا ، وكذلك حياة إبنه ؛ لقد علَّم ابنه كيف يكون مجاهدًا في سبيل الله لا في سبيل الملك والمال ، كما علَّمه ركوب الخيل وفنون الفروسية ، فقد كان قسيم الدولة من أمهر الناس قتالاً ، ومن أعظمهم جهادًا .

وترك قسيم الدولة لابنه ثامنًا حبًّا في قلوب أهل حلب ، فقد تعلَّقت قلوبهم جميعًا بهذا الحاكم العادل الرحيم ، حتى قال ابن الأثير كلمة عجيبة تصف حب الناس له ، فقال: " توارث أهل حلب الرحمة عليه إلى آخر الدهر !!" أي أن كل أبٍ يُوصِي أبناءه أن يتراحموا على قسيم الدولة ، وهكذا إلى آخر الدهر! فأيُّ درجةٍ من الحبِّ كانت هذه الدرجة ! ولا شك أن هذا سيكون له مردود كبير على حياة عماد الدين زنكي .

وترك قسيم الدولة لابنه تاسعًا حبًّا واضحًا للسلاطين العادلين الأقوياء لسلطنة السلاجقة ، فقد كان ولاء قسيم الدولة لملكشاه ، ولابنه بركياروق من بعده ، وهذا أعطى وضوح رؤية كبير لعماد الدين زنكي ، فلم ينبهر في حياته بلقبٍ أو شخص ، إنما جعل ولاءه للسلطان العادل ، ولم يتشتَّت بين القوى المختلفة ، بل ظل ثابتًا في إتجاه واحد ، وهذا حقَّق له خيرًا كثيرًا في حياته .

وترك قسيم الدولة لإبنه عاشرًا وأخيرًا مجموعة من الأصدقاء الأوفياء الذين أحبوه في الله ، لشخصه لا لسلطانه ، فحفظوا إبنه اليتيم بعد موته ، تمامًا كما فعل قسيم الدولة عندما حفظ إبن السلطان ملكشاه بعد موته ؛ لأنه كان يحبُّ السلطان لله ، وهكذا دائمًا يحدث ؛ فالجزاء من جنس العمل ، والله يقول : (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ) .

فتلك عشرة كاملة تركها قسيم الدولة لإبنه الصغير عماد الدين زنكي ! فمَن مِن المسلمين ترك لابنه مثلما ترك قسيم الدولة لابنه ؟!

إن الناس تنشغل بترك المال والثروة ، وتأمين الشقة والسيارة ، وتوصية فلان وفلان ، ولكنَّ القليل الذي يترك مثل الذي تركه قسيم الدولة رحمه الله ، لكنَّ القليل أيضًا الذي يكون مثل عماد الدين زنكي ، فإعتبروا يا أولي الأبصار !

========
يتبع ..
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

مجهود وافرر و عظيم يا أخى أبو البراء و انى منتظر المزيد منك لرغبتى فى معرفة المزيد عن هذه الحقبة من الزمان
لك منى أفضل تقييم
 
عودة
أعلى