منقول عن : http://haras.naseej.com/Detail.asp?InNewsItemID=117091
من تراثنا العسكري
بوادر الصناعات الحربية عند العرب
إعداد: واصف باقي
منذ فجر التاريخ تعد الحروب من أكبر الظواهر الاجتماعية على مدار الزمن ومرور الأيام وتعاقب الأحداث في عمر البشرية. وإذا كان الاجتماع -كما ذهب دوركهايم- هو "التاريخ مفهوماً على صورة ما"، استطعنا أن نقول: إن الحرب هي التي وَلّدت فجر التاريخ، الذي بدأ في الواقع مسطّراً لوقائع المعارك المسلحة، ولعله سيبقى دوماً كذلك، حيث يؤكد غاستون بوتول، المؤرخ العسكري، أن الحرب تعتبر من أبرز الحوادث التي تدل على المنعطفات الكبرى للحوادث وتطوراتها، فبالحرب كادت كل الحضارات تزول، وبها نجد كل المدنيّات الحديثة تشق طريقها في ضروب التفوق لترتفع على هامة الإنسانية.
وإن أول شرارة انطلقت منذ وجود الحياة على هذه الأرض كانت من "البارود" الذي لقمت به المدافع المصبوبة بشكلها البدائي، فما هو البارود؟ ومن اخترعه؟ وما تركيب هذه المادة الحارقة المتفجرة؟ بل ما هو دور العرب في ذلك منذ الآلاف البعيدة من السنين؟
وقبل أن نجيب عن هذه التساؤلات ونحن نلج خضم هذا الموضوع الذي يعتبر ذا أهمية كبرى في تاريخ التكنولوجيا عند العرب القدامى، نريد أن نقف عند تعريف وتركيب وفعالية هذا المركب الخطير كما ورد في الموسوعات العلمية التي تشير إلى أنه مزيج يحدث فرقعة وهو مكون من نترات البوتاسيوم والكبريت والكربون، وثلاثة أرباع نسبة هذا المزج الثلاثي يتمثل في المادة الأولى التي تسبب سرعة الاشتعال.
وقد استعمل البارود في التفجير والنسف، كما استخدم في المدافع، ثم استبدل به البارود اللادخاني لكبر الكمية التي كانت تستعمل منه، وهناك نوع آخر من البارود يحتوي على كلورات البوتاسيوم بدلاً من النترات ويستخدم في صنع الكبريت وفي تشكيل الألعاب النارية.
اكتشاف البارود
ولكن متى اختراع البارود؟ هذا ما لا يمكن معرفته على وجه الدقة. بيد أنه، من خلال استقراء المصادر الهامة، ظهر استخدامه في الصين منذ القرن التاسع قبل الميلاد من أجل صنع الصواريخ، ثم انتقل بوساطة العرب إلى أوروبا، وينسب بعض العلماء الألمان اكتشافه إلى الراهب الكيماوي برثولد شوارتز، لكن المتفق عليه أنه أدخل إلى أوروبا ولم يخترع فيها وذلك خلال القرن الرابع عشر من العصور الوسطى، بدليل أن بعض التحسينات أدخلت عليه فيما بعد على يد العلماء من أمثال: لافوازييه وإيرينيه، وجاء في إحدى مخطوطات روجر باكون أن البارود بعد أن عرفه الغرب أحدث تطوراً، في الأساليب الحربية حتى سنة (1802م)، وتشير الاحتمالات ألى أن الصينيين عرفوا فقط نترات البوتاس التي انتقلت إليهم من المسلمين، ولكنهم لم يعرفوا شيئاً اسمه مسحوق البارود.
ومن خلال هذا السرد الخاطف ندرك لما لهذا البحث من أهمية قصوى في تاريخ العلوم عند العرب وسواهم، ذلك أن قصة البارود لم تسجل بدقة جميع أحداثها وتفاصيلها، مما حدا بنا إلى أن نسلط بعض الأضواء الكاشفة على هذا الموضوع العلمي التاريخي، الذي أمسكنا بأول خيوطه عند الدكتور أحمد الحسن الباحث في تراث العرب العلمي والحضاري الذي أكد أهمية هذا الموضوع سواء بين الشرق العربي أو أوروبا الغربية، ذلك أن المؤرخين يعتبرون أن اختراع البارود أولاً والطباعة ثانياً، هما بداية البداية للتاريخ الحديث، وإن كانت لهما وحدهما أكبر النتائج وأبعدها على تطور الحضارة الغربية.
على أن الباحث وهو يتصدى لدراسة المصادر وما حوته من نصوص ووثائق، لايسعه إلا أن يجزم بأن العرب هم الذين اكتشفوا مسحوق البارود بدليل أن من يظنون أن هذا المسحوق من اختراع الغرب ليس لديهم سوى مستمسك واحد هو أن مارك اليوناني MARCUS GRACUS قد وضع كتاباً أورد فيه وصفات المواد القابلة للاحتراق (البيروتكنيكية) من جميع الأنواع ولجميع الأزمان..
يقول سارتون(1) مؤسس تاريخ العلم الحديث أنه أضيفت في وقت لاحق وصفة لمسحوق البارود على إحدى هذه المخطوطات، أي أن هذا الرجل المعروف باعتداله وإنصافه يشك في أن مارك قد عرف تركيب هذه المادة عند كتابة رسالته (1320م) في حين أن الأوربيين- حسبما سجل لنا مؤرخون لفترة الحروب الصليبية- كانوا يجهلون تماما أسرار القذائف النارية التي كان المسلمون يقذفون بها عليهم. وقد وصفوا حالات الذعر والهلع التي كانت تسيطر على جيوشهم من جراء تلك القذائف. ونجد من الناحية الأخرى أن الفترة الممتدة من القرن الحادي عشر حتى الخامس عشر كانت غنية بوسائل الصناعات الحربية العربية التي يصف العديد منها تركيب المواد المشتعلة التي كانت تستخدم في الحرب عند العرب، ولا تزال وثائق التصنيع الحربي بحاجة إلى دراسة ونشر وتحقيق.
ومن بين هذه الرسائل، رسالة الحسن الرماح، أو نجم الدين حسن الأحدب (المتوفى عام 1294) كما جاء في المخطوطة رقم 2825 باريس، إذ إن الرسالة تشتمل (كتاب الفروسية في رسم الجهاد) وفيه إشارات إلى وصفات كاملة اشتملت تركيب وهيئة البارود الذي كان يدك في المدافع آنذاك. لقد عاش حسن الرماح في سوريا، وكتب رسالته حوالي (1285) ميلادية، وهو أحد أفراد أسرة عريقة بهذه الصناعة، وقد كتب رسائله الحربية مستوحياً مادتها من أبيه وأجداده المختصين بهذه الصناعة.
وإلى أن يعمد الباحثون إلى إيجاد رسائل أو منشورات نصية أو وثائقية أقدم من رسالة الحسن هذه التي وصف فيها مسحوق البارود الذي يدك في المدافع وقتذاك فإن أمامنا دليلا عليها قاطعا قدمه مرسييه(2) MAURICE MERCIER نتيجة أبحاث جادة تثبت معرفة العرب في وقت متقدم بكل مايتعلق بالبارود، فضلاً عن استخدامهم له في القنابل التي كانوا يطلقونها في حروبهم مع الصليبيين. لقد درس مرسييه عدداً كبيراً من القنابل المصرية فوجد فيها آثاراً لنترات البوتاس والفحم والكبريت، وهي المواد التي يتألف منها مسحوق البارود، وقد استخدمت تلك القنابل ضد الصليبيين في حصارهم للفسطاط في عام 1168م وكانت القنابل تحتوي على ما أسماه مرسييه بمعجونة البارود التي سبقت مسحوق البارود الجاف، وتتألف المعجونة من نترات البوتاس والفحم والكبريت، مضافاً اليها مادة بترولية تعطيها قوام المعجون، وقد كان للقنابل المصرية والسورية -(التي كانت تسمى الأكواز الشامية) شكل انسيابي (ايوديناميكي)، ولها تركيب خارجي مشابه لتركيب وشكل القنابل اليدوية العصرية المعروفة، ولم تكن القنابل هذه تطلق من المدافع بل كانت تقذف بواسطة منجنيقات خاصة.
وفي القرن الثالث عشر- كما يقول الدكتور أحمد الحسن- استخدمت المدافع من قبل العرب حيث كان مسحوق البارود يدك فيها دكا، وكانت تستخدم قوته الانفجارية لقذف الكرات الحجرية والمعدنية في الحروب.
وتدل المصادر التاريخية على استخدام العرب للمدافع المحشوة بالبارود في عدة معارك معروفة قبل استخدام الغربيين لها في معركة كريسيف، التي حدثت عام 1346م، وكان العرب قد طوروا صناعة المدافع والصواريخ النارية في الوقت الذي لم يكن الغرب قد تعرف إليها جيداً.
أما آخر من حدثنا عن البارود فهو الرحالة الفرنسي (برتران بروكييه) الذي زار الشرق في القرن الخامس عشر قال(3): "وشهدت احتفال المسلمين بأحد أعيادهم في بيروت، بدأ الاحتفال مساء فكانت الجماعات تسير في الشوارع، فرحة طروبة، والمدافع تطلق من القلعة احتفاء بالعيد، وأطلقت الصواريخ التي بلغت ارتفاعا كبيرا وقد استطعت أن أتعرف إلى سر هذه الصواريخ، وحملت معي إلى فرنسا طريقة ونماذج صنعها، لأنها صممت على مقياس كبير أمكن استعمالها لحرق السفن في البحر، وهذا ما بلغني أثناء إقامتي في الشرق".
متى بدأ استخدام المدافع؟
وبصدد الأسلحة النارية يقودنا الحديث عن استعمال المدافع أيضا فمن الذي بدأ باستعمالها؟ أهم العرب أم الأوروبيون؟
المراجع التاريخية تشير إلى استعمال العرب للمدافع (1274م) في حصار سجلماسة حسبما أورد ابن خلدون، إلا أن المؤرخين الغربيين مصرون على الإقلال من أهمية هذا النص من أنه واضح أن صناعة المدافع كانت شائعة في كافة بلدان العالم الإسلامي، من الهند شرقا إلى أسبانيا غربا، حيث كانت تسبك في بادئ الأمر من البرونز، وهذا ما يذهب إليه الباحث الدكتور الحسن إذ يقول: كانت الحكومات العربية والإسلامية تصنع مدافعها وتطورها بنفسها. ونسوق مقتطفات من تاريخ ابن إياس(4)، عن التجارب التي كان يجريها قانصوه الغوري في الفتره الواقعة بين 1505 و 1510م لتطوير المدافع العربية:
"في رجب سنة (911ه - 1504م) نزل السلطان إلى خلف القلعة عند قبة الهواء وجربوا قدامه مكاحل نحاسية كان قد أمر بسبكها.
"وفي جمادى الآخرة سنة (916ه 1511م) نزل السلطان إلى تربة العادل وجربوا قدامه تلك المكاحل نفسها، فلما أطلقوا فيها البارود، تفرقوا أجمعين وبقي نحاسهم يطير مع الهواء.. فتزايد نكد السلطان ورجع إلى القلعة سريعاً.. في ربيع الأول من العام الذي تلاه، رسم السلطان بنقل المكاحل المسبوكة من جوار الميدان إلى تربة العادل مرة أخرى حتى يجربها هناك، فوضعها على عجل وسحبتها الأبقار فاهتزت لها الأسواق، وصار الناس يتصلبون بين الدكاكين فما خلصوا إلا بعد جهد كبير، ووقعت مكحلة في سرادب بعد أن انخسف بها فأعيا الناس طلوعها، وبعد أن اقتنع السلطان بجدواها سبك نحواً من سبعين مكحلة ما بين نحاس وحديد، وزن كل واحدة منها ستمئة قنطار شامي، وطولها عشرة أذرع، ثم توجه إلى التربة واجتمع حوله الأمراء على المصطبة وحضر الجمع الغفير من العسكر، ثم جربوا المكاحل التي سبكها بالميدان وبين خمس وسبعين مكحلة، لم يخطئ منها سوى واحدة، فانشرح السلطان لذلك، وأقام هناك إلى بعد العصر ونصب له خيمة كبيرة وكان يوماً مشهوداً".
وقد أوردنا هذه الصورة الحية في البحث التاريخي عن الصناعة الحربية عند العرب في سكب المدافع لكي نوضح أن العرب في مصر سكبوا المدافع من الحديد الصلب بين (1504 - 1511م) بينما تشير المراجع الأوربية إلى أن تجارب سكب المدافع من الحديد بدأت في أوربا حوالي (1450م) بيد أنها لم تنل حظها من التطور إلا في وقت متأخر حيث انتشرت في بريطانية في منتصف القرن السادس عشر إلى أن صنعت من البرونز فيما بعد ذلك. ومن الملاحظ أن سكب هذا العدد الكبير والثقيل من المدافع الضخمة، النحاسية والحديدية، في مصر يؤكد ما أورده المؤرخون السابقون حول وجود مسابك كبيرة للحديد والنحاس، إذ كانت جزءاً من الصناعات الحربية وكانت لها إدارة عسكرية وأخرى مدنية.
التصنيع الحربي قديماً
وهذه الملامح التاريخية لنشوء التكنولوجيا الحربية عند العرب ما تزال بحاجة إلى مزيد من البحث.. فهنالك في صفحات تراثنا المجيد بعض المسائل الخاصة بتطوير التكنولوجيا العربية نريد تسليط الإضاءة عليها عند تفاصيلها الدقيقة. وهكذا فإن الصناعات الحربية أو أدوات القتال قد اهتدى إلى صنعها الإنسان الأول كضرورة للدفاع عن النفس فهي من لوازم الفرد والجماعة والأمة، فمنذ اهتدى الإنسان إلى صناعة الحديد لم يغفل عن تسلحه الفردى بالمدية أو الخنجر أو النبال، وفي تعاقب الأنبياء - عليهم السلام- نجد الإشارات التي تهدي الإنسان إلى أن يحمل سلاحه وأن يأخذ عدته للقتال في السلم والحرب. والقرآن الكريم في إشارته الاجمالية إلى تطويع معدن الحديد في يد البشر يلفت الانظار إلى استخدام الحديد لخدمة الإنسان. قال الله تعالى:
وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز
.
سورة الحديد- 25
.
وقد تضمنت هذه الآية إمكان تصنيع معدن الحديد في جانبي الخير والشر وترك العقل البشري ليفكر وينتج على اختلاف نزعاته وضروريات الحياة. وقد اختلف الإنتاج من مفكر إلى مفكر ومن جيل إلى جيل ولم يزل التصنيع ساري المفعول في عالم البشر؛ ففي جانب الخير نجد القاطرة والباخرة والهاتف وأدوات الطب وغير ذلك مما لا يمكن حصره. وفي جانب الشر أو القوة والدفاع نجد السيف والرمح والسهم والمدفع والصناعات التي تخترق الفضاء الجوي وتعود إلى نقطة البداية وهي من الحديد، ولم يزل التسابق في التسليح أو الابتكار غاية كل أمة في دنيا الناس.
الأنبياء وصناعة الأسلحة
وفي تاريخ الأديان السماوية يشير القرآن إلى نبي الله تعالى داود عليه السلام وهو من أنبياء بني إسرائيل كانت عنده فكرة التصنيع الحربي ومارسها مع قومه فمن معجزاته إذابة الحديد الصلب في يده بشكله كيف يشاء دون إحراق بالنار أو طرق بمطرقة، وقد صنع الدروع الواقيه من السهام بنفسه وكان يبيعها لمن أراد شراءها وبذلك استغنى عن أخذ طعامه من بيت المال، وكانت صناعته جيدة يتهافت على اقتنائها الناس. وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم في قوله تعالى:
ولقد آتينا داوود منا فضلا، يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد
(سورة سبأ-9،10) "أي أحكم الصنعة... ومن بعده نبي الله سليمان بن داود عليه السلام كان يصنع (عين القطر وهو النحاس) في صناعة القدور الثابتة والمتنقلة. ولم يزل معدن النحاس يدخل في التصنيع الحربي فقد ألقيت قنابل في الحروب المعاصرة وغلافها من معدن النحاس، ولم تزل مخلفات الحرب العالمية الثانية بها كثير من هذا المعدن.
وعلى ضوء هذا كانت عدة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أدوات الحرب من المصنوعات المحلية التي كان يشرف على صنعها أو تأتيه من غنائم الحرب، فمن المأثور عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان ُيحتفظ له بتسعة سيوف، ومن الدروع سبعة ومن القِسِيّ، خمسة، ومن الأتراس ثلاثة، ومن الرماح اثنتان، ومن الحراب خمسة، ومن الخوذ غير واحدة، وله سيف غنمه في غزوة بدر اسمه (ذو الفقار) وله بروز في قاطعه تشبه فقرات الظهر، مما اكسبه الصلابة فلا يقبل الانحناء. وقد بلغت عناية الرسول - صلى الله عليه وسلم- بسلاحه عناية فائقة، فلم يمض عليه الشهر والشهران حتى يذهب إلى الحداد الرومي في زقاق المدينة ويتحمل وهج النار ودخان المصنع لطرق جوانب سيفه ليكون أشد مضاءً في الحرب.
من تراثنا العسكري
بوادر الصناعات الحربية عند العرب
إعداد: واصف باقي
منذ فجر التاريخ تعد الحروب من أكبر الظواهر الاجتماعية على مدار الزمن ومرور الأيام وتعاقب الأحداث في عمر البشرية. وإذا كان الاجتماع -كما ذهب دوركهايم- هو "التاريخ مفهوماً على صورة ما"، استطعنا أن نقول: إن الحرب هي التي وَلّدت فجر التاريخ، الذي بدأ في الواقع مسطّراً لوقائع المعارك المسلحة، ولعله سيبقى دوماً كذلك، حيث يؤكد غاستون بوتول، المؤرخ العسكري، أن الحرب تعتبر من أبرز الحوادث التي تدل على المنعطفات الكبرى للحوادث وتطوراتها، فبالحرب كادت كل الحضارات تزول، وبها نجد كل المدنيّات الحديثة تشق طريقها في ضروب التفوق لترتفع على هامة الإنسانية.
وإن أول شرارة انطلقت منذ وجود الحياة على هذه الأرض كانت من "البارود" الذي لقمت به المدافع المصبوبة بشكلها البدائي، فما هو البارود؟ ومن اخترعه؟ وما تركيب هذه المادة الحارقة المتفجرة؟ بل ما هو دور العرب في ذلك منذ الآلاف البعيدة من السنين؟
وقبل أن نجيب عن هذه التساؤلات ونحن نلج خضم هذا الموضوع الذي يعتبر ذا أهمية كبرى في تاريخ التكنولوجيا عند العرب القدامى، نريد أن نقف عند تعريف وتركيب وفعالية هذا المركب الخطير كما ورد في الموسوعات العلمية التي تشير إلى أنه مزيج يحدث فرقعة وهو مكون من نترات البوتاسيوم والكبريت والكربون، وثلاثة أرباع نسبة هذا المزج الثلاثي يتمثل في المادة الأولى التي تسبب سرعة الاشتعال.
وقد استعمل البارود في التفجير والنسف، كما استخدم في المدافع، ثم استبدل به البارود اللادخاني لكبر الكمية التي كانت تستعمل منه، وهناك نوع آخر من البارود يحتوي على كلورات البوتاسيوم بدلاً من النترات ويستخدم في صنع الكبريت وفي تشكيل الألعاب النارية.
اكتشاف البارود
ولكن متى اختراع البارود؟ هذا ما لا يمكن معرفته على وجه الدقة. بيد أنه، من خلال استقراء المصادر الهامة، ظهر استخدامه في الصين منذ القرن التاسع قبل الميلاد من أجل صنع الصواريخ، ثم انتقل بوساطة العرب إلى أوروبا، وينسب بعض العلماء الألمان اكتشافه إلى الراهب الكيماوي برثولد شوارتز، لكن المتفق عليه أنه أدخل إلى أوروبا ولم يخترع فيها وذلك خلال القرن الرابع عشر من العصور الوسطى، بدليل أن بعض التحسينات أدخلت عليه فيما بعد على يد العلماء من أمثال: لافوازييه وإيرينيه، وجاء في إحدى مخطوطات روجر باكون أن البارود بعد أن عرفه الغرب أحدث تطوراً، في الأساليب الحربية حتى سنة (1802م)، وتشير الاحتمالات ألى أن الصينيين عرفوا فقط نترات البوتاس التي انتقلت إليهم من المسلمين، ولكنهم لم يعرفوا شيئاً اسمه مسحوق البارود.
ومن خلال هذا السرد الخاطف ندرك لما لهذا البحث من أهمية قصوى في تاريخ العلوم عند العرب وسواهم، ذلك أن قصة البارود لم تسجل بدقة جميع أحداثها وتفاصيلها، مما حدا بنا إلى أن نسلط بعض الأضواء الكاشفة على هذا الموضوع العلمي التاريخي، الذي أمسكنا بأول خيوطه عند الدكتور أحمد الحسن الباحث في تراث العرب العلمي والحضاري الذي أكد أهمية هذا الموضوع سواء بين الشرق العربي أو أوروبا الغربية، ذلك أن المؤرخين يعتبرون أن اختراع البارود أولاً والطباعة ثانياً، هما بداية البداية للتاريخ الحديث، وإن كانت لهما وحدهما أكبر النتائج وأبعدها على تطور الحضارة الغربية.
على أن الباحث وهو يتصدى لدراسة المصادر وما حوته من نصوص ووثائق، لايسعه إلا أن يجزم بأن العرب هم الذين اكتشفوا مسحوق البارود بدليل أن من يظنون أن هذا المسحوق من اختراع الغرب ليس لديهم سوى مستمسك واحد هو أن مارك اليوناني MARCUS GRACUS قد وضع كتاباً أورد فيه وصفات المواد القابلة للاحتراق (البيروتكنيكية) من جميع الأنواع ولجميع الأزمان..
يقول سارتون(1) مؤسس تاريخ العلم الحديث أنه أضيفت في وقت لاحق وصفة لمسحوق البارود على إحدى هذه المخطوطات، أي أن هذا الرجل المعروف باعتداله وإنصافه يشك في أن مارك قد عرف تركيب هذه المادة عند كتابة رسالته (1320م) في حين أن الأوربيين- حسبما سجل لنا مؤرخون لفترة الحروب الصليبية- كانوا يجهلون تماما أسرار القذائف النارية التي كان المسلمون يقذفون بها عليهم. وقد وصفوا حالات الذعر والهلع التي كانت تسيطر على جيوشهم من جراء تلك القذائف. ونجد من الناحية الأخرى أن الفترة الممتدة من القرن الحادي عشر حتى الخامس عشر كانت غنية بوسائل الصناعات الحربية العربية التي يصف العديد منها تركيب المواد المشتعلة التي كانت تستخدم في الحرب عند العرب، ولا تزال وثائق التصنيع الحربي بحاجة إلى دراسة ونشر وتحقيق.
ومن بين هذه الرسائل، رسالة الحسن الرماح، أو نجم الدين حسن الأحدب (المتوفى عام 1294) كما جاء في المخطوطة رقم 2825 باريس، إذ إن الرسالة تشتمل (كتاب الفروسية في رسم الجهاد) وفيه إشارات إلى وصفات كاملة اشتملت تركيب وهيئة البارود الذي كان يدك في المدافع آنذاك. لقد عاش حسن الرماح في سوريا، وكتب رسالته حوالي (1285) ميلادية، وهو أحد أفراد أسرة عريقة بهذه الصناعة، وقد كتب رسائله الحربية مستوحياً مادتها من أبيه وأجداده المختصين بهذه الصناعة.
وإلى أن يعمد الباحثون إلى إيجاد رسائل أو منشورات نصية أو وثائقية أقدم من رسالة الحسن هذه التي وصف فيها مسحوق البارود الذي يدك في المدافع وقتذاك فإن أمامنا دليلا عليها قاطعا قدمه مرسييه(2) MAURICE MERCIER نتيجة أبحاث جادة تثبت معرفة العرب في وقت متقدم بكل مايتعلق بالبارود، فضلاً عن استخدامهم له في القنابل التي كانوا يطلقونها في حروبهم مع الصليبيين. لقد درس مرسييه عدداً كبيراً من القنابل المصرية فوجد فيها آثاراً لنترات البوتاس والفحم والكبريت، وهي المواد التي يتألف منها مسحوق البارود، وقد استخدمت تلك القنابل ضد الصليبيين في حصارهم للفسطاط في عام 1168م وكانت القنابل تحتوي على ما أسماه مرسييه بمعجونة البارود التي سبقت مسحوق البارود الجاف، وتتألف المعجونة من نترات البوتاس والفحم والكبريت، مضافاً اليها مادة بترولية تعطيها قوام المعجون، وقد كان للقنابل المصرية والسورية -(التي كانت تسمى الأكواز الشامية) شكل انسيابي (ايوديناميكي)، ولها تركيب خارجي مشابه لتركيب وشكل القنابل اليدوية العصرية المعروفة، ولم تكن القنابل هذه تطلق من المدافع بل كانت تقذف بواسطة منجنيقات خاصة.
وفي القرن الثالث عشر- كما يقول الدكتور أحمد الحسن- استخدمت المدافع من قبل العرب حيث كان مسحوق البارود يدك فيها دكا، وكانت تستخدم قوته الانفجارية لقذف الكرات الحجرية والمعدنية في الحروب.
وتدل المصادر التاريخية على استخدام العرب للمدافع المحشوة بالبارود في عدة معارك معروفة قبل استخدام الغربيين لها في معركة كريسيف، التي حدثت عام 1346م، وكان العرب قد طوروا صناعة المدافع والصواريخ النارية في الوقت الذي لم يكن الغرب قد تعرف إليها جيداً.
أما آخر من حدثنا عن البارود فهو الرحالة الفرنسي (برتران بروكييه) الذي زار الشرق في القرن الخامس عشر قال(3): "وشهدت احتفال المسلمين بأحد أعيادهم في بيروت، بدأ الاحتفال مساء فكانت الجماعات تسير في الشوارع، فرحة طروبة، والمدافع تطلق من القلعة احتفاء بالعيد، وأطلقت الصواريخ التي بلغت ارتفاعا كبيرا وقد استطعت أن أتعرف إلى سر هذه الصواريخ، وحملت معي إلى فرنسا طريقة ونماذج صنعها، لأنها صممت على مقياس كبير أمكن استعمالها لحرق السفن في البحر، وهذا ما بلغني أثناء إقامتي في الشرق".
متى بدأ استخدام المدافع؟
وبصدد الأسلحة النارية يقودنا الحديث عن استعمال المدافع أيضا فمن الذي بدأ باستعمالها؟ أهم العرب أم الأوروبيون؟
المراجع التاريخية تشير إلى استعمال العرب للمدافع (1274م) في حصار سجلماسة حسبما أورد ابن خلدون، إلا أن المؤرخين الغربيين مصرون على الإقلال من أهمية هذا النص من أنه واضح أن صناعة المدافع كانت شائعة في كافة بلدان العالم الإسلامي، من الهند شرقا إلى أسبانيا غربا، حيث كانت تسبك في بادئ الأمر من البرونز، وهذا ما يذهب إليه الباحث الدكتور الحسن إذ يقول: كانت الحكومات العربية والإسلامية تصنع مدافعها وتطورها بنفسها. ونسوق مقتطفات من تاريخ ابن إياس(4)، عن التجارب التي كان يجريها قانصوه الغوري في الفتره الواقعة بين 1505 و 1510م لتطوير المدافع العربية:
"في رجب سنة (911ه - 1504م) نزل السلطان إلى خلف القلعة عند قبة الهواء وجربوا قدامه مكاحل نحاسية كان قد أمر بسبكها.
"وفي جمادى الآخرة سنة (916ه 1511م) نزل السلطان إلى تربة العادل وجربوا قدامه تلك المكاحل نفسها، فلما أطلقوا فيها البارود، تفرقوا أجمعين وبقي نحاسهم يطير مع الهواء.. فتزايد نكد السلطان ورجع إلى القلعة سريعاً.. في ربيع الأول من العام الذي تلاه، رسم السلطان بنقل المكاحل المسبوكة من جوار الميدان إلى تربة العادل مرة أخرى حتى يجربها هناك، فوضعها على عجل وسحبتها الأبقار فاهتزت لها الأسواق، وصار الناس يتصلبون بين الدكاكين فما خلصوا إلا بعد جهد كبير، ووقعت مكحلة في سرادب بعد أن انخسف بها فأعيا الناس طلوعها، وبعد أن اقتنع السلطان بجدواها سبك نحواً من سبعين مكحلة ما بين نحاس وحديد، وزن كل واحدة منها ستمئة قنطار شامي، وطولها عشرة أذرع، ثم توجه إلى التربة واجتمع حوله الأمراء على المصطبة وحضر الجمع الغفير من العسكر، ثم جربوا المكاحل التي سبكها بالميدان وبين خمس وسبعين مكحلة، لم يخطئ منها سوى واحدة، فانشرح السلطان لذلك، وأقام هناك إلى بعد العصر ونصب له خيمة كبيرة وكان يوماً مشهوداً".
وقد أوردنا هذه الصورة الحية في البحث التاريخي عن الصناعة الحربية عند العرب في سكب المدافع لكي نوضح أن العرب في مصر سكبوا المدافع من الحديد الصلب بين (1504 - 1511م) بينما تشير المراجع الأوربية إلى أن تجارب سكب المدافع من الحديد بدأت في أوربا حوالي (1450م) بيد أنها لم تنل حظها من التطور إلا في وقت متأخر حيث انتشرت في بريطانية في منتصف القرن السادس عشر إلى أن صنعت من البرونز فيما بعد ذلك. ومن الملاحظ أن سكب هذا العدد الكبير والثقيل من المدافع الضخمة، النحاسية والحديدية، في مصر يؤكد ما أورده المؤرخون السابقون حول وجود مسابك كبيرة للحديد والنحاس، إذ كانت جزءاً من الصناعات الحربية وكانت لها إدارة عسكرية وأخرى مدنية.
التصنيع الحربي قديماً
وهذه الملامح التاريخية لنشوء التكنولوجيا الحربية عند العرب ما تزال بحاجة إلى مزيد من البحث.. فهنالك في صفحات تراثنا المجيد بعض المسائل الخاصة بتطوير التكنولوجيا العربية نريد تسليط الإضاءة عليها عند تفاصيلها الدقيقة. وهكذا فإن الصناعات الحربية أو أدوات القتال قد اهتدى إلى صنعها الإنسان الأول كضرورة للدفاع عن النفس فهي من لوازم الفرد والجماعة والأمة، فمنذ اهتدى الإنسان إلى صناعة الحديد لم يغفل عن تسلحه الفردى بالمدية أو الخنجر أو النبال، وفي تعاقب الأنبياء - عليهم السلام- نجد الإشارات التي تهدي الإنسان إلى أن يحمل سلاحه وأن يأخذ عدته للقتال في السلم والحرب. والقرآن الكريم في إشارته الاجمالية إلى تطويع معدن الحديد في يد البشر يلفت الانظار إلى استخدام الحديد لخدمة الإنسان. قال الله تعالى:
وقد تضمنت هذه الآية إمكان تصنيع معدن الحديد في جانبي الخير والشر وترك العقل البشري ليفكر وينتج على اختلاف نزعاته وضروريات الحياة. وقد اختلف الإنتاج من مفكر إلى مفكر ومن جيل إلى جيل ولم يزل التصنيع ساري المفعول في عالم البشر؛ ففي جانب الخير نجد القاطرة والباخرة والهاتف وأدوات الطب وغير ذلك مما لا يمكن حصره. وفي جانب الشر أو القوة والدفاع نجد السيف والرمح والسهم والمدفع والصناعات التي تخترق الفضاء الجوي وتعود إلى نقطة البداية وهي من الحديد، ولم يزل التسابق في التسليح أو الابتكار غاية كل أمة في دنيا الناس.
الأنبياء وصناعة الأسلحة
وفي تاريخ الأديان السماوية يشير القرآن إلى نبي الله تعالى داود عليه السلام وهو من أنبياء بني إسرائيل كانت عنده فكرة التصنيع الحربي ومارسها مع قومه فمن معجزاته إذابة الحديد الصلب في يده بشكله كيف يشاء دون إحراق بالنار أو طرق بمطرقة، وقد صنع الدروع الواقيه من السهام بنفسه وكان يبيعها لمن أراد شراءها وبذلك استغنى عن أخذ طعامه من بيت المال، وكانت صناعته جيدة يتهافت على اقتنائها الناس. وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم في قوله تعالى:
وعلى ضوء هذا كانت عدة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أدوات الحرب من المصنوعات المحلية التي كان يشرف على صنعها أو تأتيه من غنائم الحرب، فمن المأثور عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان ُيحتفظ له بتسعة سيوف، ومن الدروع سبعة ومن القِسِيّ، خمسة، ومن الأتراس ثلاثة، ومن الرماح اثنتان، ومن الحراب خمسة، ومن الخوذ غير واحدة، وله سيف غنمه في غزوة بدر اسمه (ذو الفقار) وله بروز في قاطعه تشبه فقرات الظهر، مما اكسبه الصلابة فلا يقبل الانحناء. وقد بلغت عناية الرسول - صلى الله عليه وسلم- بسلاحه عناية فائقة، فلم يمض عليه الشهر والشهران حتى يذهب إلى الحداد الرومي في زقاق المدينة ويتحمل وهج النار ودخان المصنع لطرق جوانب سيفه ليكون أشد مضاءً في الحرب.