كشف الغطاء عن عيني من جعل بينه وبين الله واسطة في الدعاء
(بيان لبطلان اتخاذ العبد واسطة بينه وبين الله تعالى من عشرين وجها)
ماجد بن سليمان الرسي
القسم الأول
مقدمة
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد،
فإن الغاية التي من أجلها خلق الله الجن والإنس هي أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات ـ 56 ] والعبادة تشمل كل ما يحبه الله ويرضاه ، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة .
فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين ، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكـين وابن السبيل والمملوك ، والإحسان إلى البهائم ، والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة .
وكذلك حب الله ورسوله ، وخشية الله والإنابة إليه ، وإخلاص الدين له ، والصبر لحكمه ، والشكر لنعمته ، والرضا بقضائه ، والتوكل عليه ، والرجاء لرحمته ، والخوف من عذابه ، وأمثال ذلك ؛ هي من العبادة لله .
وضد العبادة الشرك في عبادة الله ، بأن يجعل الإنسان لله شريكا يعبده كما يعبد الله ، ويخافه كما يخاف الله ، ويتقـرب إليه بشيء من العبادات كما يتقرب لله ، من دعاء وصلاة أو ذبح أو نذر أو غير ذلك .
والكلام في هذا البحث المختصر منصب على مسألة صرف عبادة الدعاء لغير الله ، وقبل البدء في مناقشة هذه المسألة أقول إن الدعاء عبادة جليلة ، قد خصها الله بالذكر في كثير من الآيات ، وبـين النبـي صلى الله عليه وسلم شرفها في كثير من الأحاديث الصحيحة ، إلا أنه من أكثر العبادات التي شرّك الناس فيها بين الله وبين خلقه ، فإنك تجد - مع الأسف الشديد - كثيرا ممن ينتسب إلى الإسلام قد وقعوا في دعاء غير الله والاستغاثة بهم ، سواءً كانوا من الأنبـياء أو الصالحين ، كمن يقول يا نبـي الله ، أو يا عبد القادر الجيلاني ، أو يا بدوي ، أشكو إليك ذنوبـي ، أو نقص رزقي ، أو تسلط العدو علي ، أو أشكو إليك فلانا الذي ظلمني ، أو يقول أنا نـزيلك ، أنا ضيفك ، أنا جارك ، أو أنت تجير من يستجير ، أو أنت خير معاذ يستعاذ به ، أو ارزقني الولد ، أو قول القائل إذا عثر : يا جاه محمد ، يا ست نفيسة ، أو يا سيدي الشيخ فلان ، ونحو ذلك من الأقوال التي فيها تعلق وتوجه ودعاء لغير الله ، وبعضهم يكتب على أوراق ويعلقها عند القبور ، أو يكتب محضرا أنه استجار بفلان ، ثم يذهب إلى أحد المقبورين بذلك المحضر ليغيثه!
وفي هذه الوريقات ؛ نقلت ما يسر الله نقله من أدلة شرعية على عظم شأن الدعاء من بين سائر العبادات ، ثم ذكرت الأدلة الدالة على وجوب دعاء الله وحده وترك دعاء من سواه ، ثم عطفت بذكر الجواب عن الشبهة التي يتناقلها الناس قرنا بعد قرن ، ومفادها أن العبد ينبغي له أن لا يدعو الله مباشرة ، بل ينبغي له أن يدعو من يُنسبون إلى الصلاح من أصحاب القبور ونحوهم ، وهم بدورهم يرفعون الدعاء إلى الله!
وقد أجبت على هذه الشبهة وبينت بطلانها من عشرين وجها ، من الكتاب والسنة ، وبينت أيضا أن فاعل ذلك مشرك بالله العظيم ، وأن قد فَعل فِعل المشركين الذين بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم سواء بسواء ، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم . كما نقلت ما يسر الله نقله عن علماء المذاهب الفقهية المشهورة في تحريم دعاء غير الله ، تحت أي ذريعة كانت ، الوساطة أو غيرها . والله أسأل أن يوفق المسلمين جميعا لإخلاص العمل لله وحده ، وأن يجنبهم طرق الشرك والضلال ، والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
تأصيلات علمية بين يدي البحث
الدعاء عبادة
الدعاء عبادة جليلة ، قد خصها الله بالذكر في كثير من الآيات ، وبـين النبـي صلى الله عليه وسلم شرفها في كثير من الأحاديث الصحيحة .
وقد جاءت الأدلة في بيان عِظم شأن الدعاء فمنها :
حديث سلمان الفارسي عن النبـي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله حيـي كريم يستحيـي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين . [رواه الترمذي (3556) ، وصححه الألباني] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يرد القضاء إلا الدعاء .[ رواه الترمذي (2139) ، عن سلمان الفارسي ، وحسنه الألباني ، انظر «الصحيحة» (154)]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء .[ رواه الترمذي (3370) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وحسنه الألباني .]
وقد جاء تصريح النبـي صلى الله عليه وسلم في أن الدعاء عبادة في قوله : الدعاء هو العبادة ، وقرأ { وقال ربكم ادعوني استجب لكم} إلى قوله { داخرين}غافر ـ 60 .[ رواه أبو داود (1479) ، والترمذي (2969) ، وغيرهما عن النعمان بن بشير ، وصححه الشيخ الألباني .]
وحصْر العبادة في الدعاء - وإن كان حصْراً ادعائيا - فإنه يدل على عظـم الدعاء وشرف مكانته ، وأنه لب العبادة وخالصها ، وركنها الأعظم ، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم : الحج عرفة .[ رواه النسائي (3016) ، عن عبد الرحمن بن يعمر ، وصححه الألباني .]
كما سمى الله الدعاء عبادة في قوله: {قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البـينات من ربـي } غافر ـ 66 ، وقال تعالى: { وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} غافر ـ 60 ، فعبر الله عن الدعاء بالعبـادة في الآيتين ، فدل ذلك على عِظم شأنه . وقد سمى الله الدعاء ديناً كما في قوله تعالى { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون} . العنكبوت ـ 65
فجعل الله سبحانه الدين بدلا من الدعاء ، وعرفه بالألف واللام التي تفيد العهد ، فدل ذلك على أن الدعاء دينا ، وما كان دينا فهو عبادة .
وقد أمر الله بدعائه ، وكل ما أمر الله بفعله فهو عبادة واجبة أو مستحبة ، قال تعالى { وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} غافر ـ 60، وقال تعالى { ادعوا ربكم تضرعا وخفية} الأعراف ـ 55 .
وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالدعاء كما في قوله : فأما الركوع فعظموا فيه الرب تعالى ، وأما السجود فأكثروا من الدعاء ، فقمـِِنٌ[أي حريٌّ] أن يستجاب لكم .[ رواه مسلم (479) ] .
قال الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله[من فحول علماء نجد ، عاش في الفترة ما بين (1194 – 1282 هـ) ] : وكل ما أمر الله به أمر إيجاب أو استحباب فهو عبادة عند جميع العلماء ، فمن قال إن دعاء العبد ربه ليس بعبادة له فهو ضال ، بل كافر .[ « تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس » ، ص 127 ] .
فصل في الأمر بدعاء الله وحده والنهي عن دعاء غيره
القرآن والسنة يأمران بإفراد الله بالدعاء ، وينهيان عن دعاء غيره ، ومن ذلك قوله تعالى : { ادعوا ربكم تضرعا وخفية} [الأعراف ـ 55] ، وقوله تعالى : { أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض} [النمل ـ 62] ، وقوله تعالى :{ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} [البقرة ـ 186] ، وقوله تعالى : { واسألوا الله من فضله }[النساء ـ 32].
قال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله :
وأما إفراد الله بالدعاء فجاء ذكره في نحو ثلاثمائة موضع منوعاً ، تارة على صيغة الأمر به ، كقوله : { أدعوني استجب لكم} [غافر ـ 60] وقوله سبحانه : { وادعوه مخلصين له الدين} [الأعراف ـ 29].
وتارة يذكره الله بصيغة النهي كقوله { فلا تدعوا مع الله أحدا ً} [الجن ـ 18].
وتارة يقرنه بالوعيد كقوله تعالى { فلا تدع مع الله إلـٰهاً آخر فتكون من المعذبين }[الشعراء ـ 213].
وتارة بتقرير أنه هو المستحق للألوهية والتعبد كقوله: { ولا تدع مع الله إلـٰهاً آخر لا إلـٰه إلا هو } [القصص ـ 88 ].
وتارة في الخطاب بمعنى الإنكار على الداعي كقوله :{ ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } [ يونس ـ 106].
وتارة بمعنى الإخبار والاستخبار كقوله :{ قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات } [الأحقاف ـ 4].
وتارة بالأمر الذي هو بصيغة النهي والإنكار كقوله : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض }[سبأ ـ 22].
وتارة أن الدعاء هو العبادة ، وأن صرفَه لغير الله شرك كقوله : { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة } إلى قوله { وكانوا بعبادتهم كافرين } [الأحقاف 5 ـ 6] ، وكقوله : { وأعتزلكم وما تدعون من دون الله } إلى قوله { فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله } [مريم 48 ـ 49].
وفي الحديث : (الدعاء هو العبادة)[ [ رواه أبو داود (1479) ، والترمذي (2969) ، وغيرهما عن النعمان بن بشير ، وصححه الشيخ الألباني .]
، صححه الترمذي وغيره ، وقد أتى فيه بضمير الفصل ، والخبر المعرَّف باللام ليدل على الحصر ، وأن العبادة ليست غير الدعاء ، وأنه مُعظم كل عبادة[صدق رحمه الله ، فلا تكاد تخلو عبادة من دعاء ، فالصلاة والحج والأذكار الخاصة والعامة والجهاد كله يشرع فيه دعاء الله عز وجل ، فضلا عن كون الدعاء عبادة مستقلة] ، ونهى ألا يشرك معه أحد فيه ، حتى قال في حق نبيه صلى الله عليه وسلم { قل إنما أدعوا ربي ولا أشرك به أحدا ً} [الجن ـ 20] ،
وأخبر أنه لا يَغفر أن يشرك به .[ « السيف المسلول على عابد الرسول » ، ص 131 – 132 ، باختصار وتصرف يسير . ] انتهى .
ومن أدلة وجوب إفراد الله بالدعاء ؛ حديث ابن عباس رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله .[ رواه الترمذي (2516) ، وأحمد (1/303) ، وهو في « صحيح الترمذي » للألباني (2516) ] .
فلو جاز سؤال غير الله لقال : واسألني واستعن بـي ، بل أتى صلى الله عليه وسلم بمقام الإرشاد والإبلاغ والنصح لابن عمه بتجريد إخلاص السؤال والاستعانة على الله تعالى .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ينـزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ، يقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ .[ رواه البخاري (1145) ، ومسلم (1772) ، وغيرهما .]
وقال رسول الله : إذا تمنى أحدكم فليستكثر ، فإنما يسأل ربه عز وجل .[ رواه عبد بن حميد في « المنتخب » (1494) ، وابن أبي شيبة (29360) ، وصححه الألباني في « السلسلة الصحيحة» (1266) ] .
وقال تعالى { يسأله من في السماوات والأرض} [سورة الرحمن ] ، قال ابن سعدي رحمه الله: أي هو الغني بذاته عن جميع مخلوقاته وهو واسع الجود والكرم فكل الخلق مفتقرون إليه يسألونه جميع حوائجهم ومجالهم ومقالهم ولا يستغنون عنه طرفة عين ولا أقل من ذلك وهو تعالى {كل يوم هو في شأن} [سورة الرحمن ] يغني فقيرا ويجبر كسيرا ويعطي قوما ويمنع آخرين ويميت ويحيي ويخفض ويرفع لا يشغله شأن عن شأن ولا تغلطه المسائل ولا يبرمه إلحاح الملحين ولا طول مسألة السائلين فسبحان الكريم الوهاب الذي عمت مواهبه أهل الأرض والسماوات وعم لطفه جميع الخلق في كل الآنات واللحظات وتعالى الذي لا يمنعه من الإعطاء معصية العاصين ، ولا استغناء الفقراء الجاهلين به وبكرمه .
يتبع
رابط القسم الثاني
http://defense-arab.com/vb/showthread.php?t=23568
التعديل الأخير: