كشف الغطاء عن عيني من جعل بينه وبين الله واسطة في الدعاء
(بيان لبطلان اتخاذ العبد واسطة بينه وبين الله تعالى من عشرين وجها)
ماجد بن سليمان الرسي
القسم الثاني
{نص الشبهة ؛ شبهة الواسطة والشفاعة}
قال بعضهم : نحن مذنبون عصاة ، وبعيدون عن جناب الله ، فليس من اللائق بنا أن ندعوا الله مباشرة ، لأننا إن دعوناه مباشرة عدنا بخُفَّي حُنَين ، لكوننا مذنبون عصاة ، وإنما ندعوه بواسطة أناسا صالحين ، أقرب إلى الله منا ، يستجيب لهم إذا دعوه ، ويقبل شفاعتهم إذا شفعوا لنا لديه ، فنطلب حاجاتـنا من الله عن طريقهم ، ونقدم بـين دعائنا ذِكرهم ، ثم هم يرفعون الدعاء إلى الله ، عسى أن ينظر الله إلينا إكراما لهم ، ويجيب دعائنا مراعاة لخاطرهم ، فإذا احتجنا الولد أو سعة الرزق أو غير ذلك توجهنا لأولئك الصالحون بالدعاء ، ومن ثم هم يرفعون الدعاء إلى الله ، فلماذا تمنعون هذا النوع من الدعاء ، مع أن البشر يستعملونه فيما بـينهم ، كملوك الدنيا الذين يطلب الناس حاجاتهم منهم عن طريق الوسطاء من الحجاب والوزراء والمقربـين ، فلماذا لا نستعمله مع الله؟
والجواب عن هذه الشبهة من عشرين وجها :
الوجه الأول :
أن دعاء غير الله شرك أكبر مهما كانت ذريعته ، توسط أو غيره ، والشرك محرم في جميع الشرائع ، وناقض لدين الإسلام بالكلية ، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين } [سورة الزمر] .
وهذه المسألة مجمع عليها عند علماء الإسلام قاطبة ، بما فيهم علماء المذاهب الأربعة وغيرهم ، فقد أجمعوا على أن دعاء غير الله شرك أكبر مخرج من ملة الإسلام ، وإجماع المسلمين حجة شرعية كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى لا يجمع أمتي على ضلالة ، ويد الله على الجماعة .[ رواه الترمذي (2167) ، عن ابن عمر ، وصححه الألباني ، وكذا الحاكم في « مستدركه » (392 ، 397) ، وحكى بعد ذكره للحديث إجماع أهل السنة على هذه القاعدة ، وأنها من قواعد الإسلام ].
وفيما يلي ذكر طرف من أقوالهم رحمهم الله.
أما كلام الحنفية ؛ فقال الشيخ محمد عابد السندي الحنفي في كتابه « طوالع الأنوار شرح تـنوير الأبصار مع الدر المختار »:
ولا يقول : يا صاحب القبر ، يا فلان ، إقض حاجتي ، أو سلها من الله ، أو كن لي شفيعا عند الله ، بل يقول : يا من لا يشرك في حكمه أحدا ؛ اقض لي حاجتي هذه . وبهذا قال من أئمة الحنفية المتأخرين الإمام أحمد السرهندي ، والإمام أحمد الرومي ، والشيخ سجان بخش الهندي ، ومحمد بن علي التهانوي ، ومحمد إسماعيل الدهلوي ، والشيخ أبو الحسن الندوي ، وشدد في ذلك .[ انظر المراجع المذكور فيها إنكارهم على من دعا غير الله في «المجموع المفيد في نقض القبورية ونصرة التوحيد»جمع د. محمد الخميس ، ص 412 – 418 ] .
وللشيخ الدكتور شمس الدين الأفغاني رسالة عظيمة جمع فيها أقوال علماء الأحناف في إبطال عقائد القبورية ، وأسماها «جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية» ، تقع في ثلاث مجلدات ، نال فيها رسالة الدكتوراة العالمية .
وأما كلام المالكية ؛ فقال أبو بكر الطرطوشي في كـتاب « الحوادث والبدع » لما ذكر حديث الشجرة المسماة بذات أنواط : فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ، ويُعظمون من شأنها ، ويرجون البُـرء والشفاء لمرضاهم من قِـبَلِها ؛ وينوطون بها المسامير والخرق ؛ فهي ذات أنواط ، فاقطعوها . [ص 39 ، الناشر دار ابن الجوزي].
وأما كلام الشافعية ؛ فقال ابن حجر الشافعي في « شرح الأربعين النووية » : من دعا غير الله فهو كافر .[ نقله الشوكاني عنه في « الدر النضيد » ].
وقال الإمام العلامة أحمد بن علي المقريزي المصري الشافعي رحمه الله :
وشرك الأمم كله نوعان : شرك في الإلـٰهية وشرك في الربوبية ، فالشرك في الإلـٰهية والعبادة هو الغالب على أهل الإشراك ، وهو شرك عُباد الأصنام وعباد الملائكة وعباد الجن وعُباد المشايخ والصالحين الأحياء والأموات ، الذين قالوا { إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى } ، ويشفعوا لنا عنده ، وينالونا بسبب قربهم من الله وكرامته لهم قرب وكرامة ، كما هو المعهوم في الدنيا من حصول الكرامة والزلفى لمن يخدم أعوان الملك وأقاربه خاصته .
والكتب الإلـٰهية كلها من أولها إلى آخرها تبطل هذا المذهب وترده وتقبح أهله ، وتنص على أنهم أعداء الله تعالى .
وجميع الرسل صلوات الله عليهم متفقون على ذلك من أولهم إلى آخرهم ، وما أهلك الله تعالى من أهلك من الأمم إلا بسبب هذا الشرك ومن أجله .[ « تجريد التوحيد المفيد » ، ص 52 – 53 ، تحقيق علي بن محمد العمران ، الناشر دار عالم الفوائد ].
وأما كلام الحنابلة ؛ فقد قال الشيـخ تقي الدين رحمه الله لما ذكر حديث الخوارج : فإذا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ممن قد انتسب إلى الإسلام ؛ من مَرق[المروق الخروج من شيء من غير مدخله ، والمارقة الذين مرقوا من الدين لغلوهم فيه ، والمروق سرعة الخروج من الشيء . «لسان العرب » ] منه مع عبادته العظيمة ، فيُعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة قد يمرق أيضاً ، وذلك بأمور ، منها الغلو الذي ذمه الله تعالى ، كالغلو في بعض المشائخ ، كالشيخ عدي ، بل الغلو في علي بن أبي طالب ، بل الغلو في المسيح ، ونحوه .
فكل من غلا في نبي أو رجل صالح ، وجعل فيه نوعاً من الإلـٰهية ، مثل أن يدعوه من دون الله ، بأن يـقول : (يا سيدي فلان أغثني ، أو أجرني ، أو أنت حسبي ، أو أنا في حسْبك) ؛ فكل هذا شرك وضلال ، يستتاب صاحبه ، فإن تاب وإلا قتل ، فإن الله أرسل الرسل ليُعبد وحده ، لا يُـجعل معه إلـٰه آخر ، والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى ، مثل الملائكة أو المسيح أو العزير أو الصـالحين أو غيرهم ؛ لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق وترزق ، وإنما كانوا يدعونهم ، يقولون { هؤلاء شفعاؤنا عند الله} ، فبعث الله الرسل تنهى أن يُدعى أحد من دون الله ، لا دعاء عبادة ، ولا دعاء استغاثة .[ مختصرا من « الرسالة السنية » ، وتقع كاملة في « مجموع الفتاوى » (3/363-430) ، والمنقول مختصر من الصفحات 383- 400 ] انتهى .
وقال أيضا : سؤال الميت والغائب - نبياً كان أو غيره - من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين ، لم يأمر الله به ولا رسوله ، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ، ولا استحسنه أحد من أئمة المسلمين ، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين المسلمين .[ « الاستغاثة في الرد على البكري » ص 331 ، تحقيق عبد الله السهلي ، ط 1 ، الناشر مدار الوطن .]
وقال أيضا رحمه الله :
والمرتد من أشرك بالله تعالى ، أو كان مبغضا للرسول صلى الله عليه وسلم ولما جاء به ، أو ترك إنكار منكر بقلبه ، أو توهم أن أحدا من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم قاتل مع الكفار أو أجاز ذلك ، أو أنكر مجمعا عليه إجماعا قطعيا ، أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم ، ومن شك في صفة من صفات الله تعالى ومثله لا يجهلها فمرتد ، وإن كان مثله يجهلها فليس بمرتد ، ولهذا لم يُكفر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الشاك في قدرة الله وإعادته لأنه لا يكون إلا بعد الرسالة .[ « الفتاوى الكبرى » (4/506) ، (اختيارات شيخ الإسلام) ، باب حكم المرتد ].
وقال أيضا : فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط ، يدعوهم ، ويتوكل عليهم ، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار ، مثل أن يسألهم غفران الذنب ، وهداية القلوب ، وتفريج الكروب ، وسد الفاقات ؛ فهو كافر بإجماع المسلمين .[ « مجموع الفتاوى » (1/124 ]
ونقله عنه الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب[ من فحول علماء نجد ، ولد سنة 1200 هـ ، درس على عدة مشائخ ، وعنده إجازة في رواية الكتب الستة ، درّس وولي القضاء ، وتوفي شابا شهيدا بإذن الله سنة 1234 هـ ، له عدة مؤلفات من أشهرها كتابه «تيسير العزيز الحميد» ، والكتاب على مدى ثلاث قرون ينهل منه العلماء وطلبة العلم إلى وقتنا هذا ، وهو عمدة في علم توحيد العبادة ، ومن بعده عيال عليه ، رحمة الله رحمة واسعة ] من علماء الحنابلة في كتابه «تيسير العزيز الحميد» ثم قال :
نقله عنه غير واحد مقررين له ، منهم ابن مفلح في « الفروع »[(6/165) ] ، وصاحب «الإنصاف»[(10/327) ] ، وصاحب «الغاية» [ أي « غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى » لمرعي الكرمي (3/355) ] ، وصاحب «الإقناع »[(4/297) ] ، وشارحه [يعني الشيخ منصور بن يونس البهوتي في كتابه « كشاف القناع في شرح الإقناع » (6/168) ] ، وغيرهم ، ونقله صاحب « القواطع »[ أي ابن حجر رحمه الله ، واسم كتابه « الإعلام بقواطع الإسلام » .] في كتابه عن صاحب «الفروع» .
قلت[لا زال الكلام للشيخ سليمان ]: وهو إجماع صحيح معلوم بالضرورة من الدين ، وقد نص العلماء من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم في باب حكم المرتد على أن من أشرك بالله فهو كافر ، أي عبد مع الله غيره بنوع من أنواع العبادات ، وقد ثبت بالكتاب والسنة والاجماع أن دعاء الله عبادة له ، فيكون صرفه لغير الله شركا .
الوجه الثاني :
أن اتخاذ الصالحين واسطة بـين العبد وبـين ربه هو فعل مشركي مكة الذين بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم سواء بسواء ، قال الله تعالى عنهم :
{ والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } [ الزمر ـ 3 ]، أي : والذين اتخذوا من دون الله أولياء يدعونهم ما كانت حجتهم إلا دعوى أنها تقربهم إلى الله ، هكذا فسرها قتادة كما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عنه رحمهما الله في تفسير الآية الكريمة .
وقال تعالى : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [يونس ـ 18] ، قال ابن كثير رحمه الله: ينكر تعالى على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره ظانين أن تلك الآلهة تنفعهم شفاعتها عند الله ، فأخبر تعالى أنها لا تضر ولا تنفع ، ولا تملك شيئا ، ولا يقع شيء مما يزعمون فيها ولا يكون هذا أبدا ، ولهذا قال تعالى { قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض} (سورة يونس من الاية 18) . انتهى .
الوجه الثالث :
أن الله لو كان يرضى بأن يتخذ الناس وسائط بـينهم وبـينه لاستفاض الأمر بذلك في الكتاب والسنة ، لأن إجابة الدعاء شأنها مهم ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بين الوسائل الشرعية لإجابة الدعاء ، سواء المتعلقة بالأزمنة الفاضلة أو الأمكنة الفاضلة أو الأحوال الفاضلة ، ولم يرد عنه في شيء منها اتخاذ الصالحين واسطة ، ومن المعلوم أن كتاب الله فيه تبـيان لكل شيء ، والنبي صلى الله عليه وسلم علم أمته كل شيء ، حتى آداب قضاء الحاجة ، ثم تعلم الصحابة منه دين الله ، كما قال أبو ذر رضي الله عنه : ( لقد تركنا محمد صلى الله عليه وسلم وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا أذكَرنا منه علما) [ رواه أحمد (5/153) ] ، ثم حُفظ هديه وهدي صحابته في العبادة – الذي هو خير الهدي - في كتب الحديث والأثر ، ولم يرد في شيء منها الحث على اتخاذ الصالحين واسطة في الدعاء ، بل الذي نجده هو خلاف ذلك تماما ، فالكتاب والسنة ينهيان عن دعاء غير الله بتاتا تحت أي ذريعة كانت ، وجاء فيهما وصف من فعل ذلك بالكفر عياذا بالله .
يتبع
رابط القسم الثالث
http://defense-arab.com/vb/showthread.php?t=23595
التعديل الأخير: