خط بارليف بين الحقيقة والوهم
كانت إسرائيل، على المستويين، السياسي والعسكري، مطمئنة، نتيجة لأنها حققت أملها بالاستيلاء على مناطق شاسعة من الأراضي. وبناء على ذلك، رسمت إستراتيجيتها التالية لتحقيق ما يلي:
أولاً: التمسك بالأراضي، التي احتلتها، على أساس أنها أراضي "توراتية"، تحقق نبوءات أنبياء بنى إسرائيل، التي بشروا بها منذ عشرات القرون.
ثانياً: فرض الأمر الواقع على الأراضي الجديدة، وتغيير معالمها الديموجرافية تمهيداً لضمها لإسرائيل.
ثالثاً: إقناع المجتمع الدولي بأن العرب "جثه هامدة" وأن إسرائيل هي التي تحمي المصالح الغربية في المنطقة، وأن الوضع الحالي يمثل ميزة للغرب، وليس لإسرائيل فقط، إذ سيمكنها من التحرك بصورة أفضل لحماية مصالحه.
رابعاً: التأثير النفسي العنيف على العرب، وتذكيرهم بالهزيمة، وردع أي محاولات قتالية لمنعهم من تكرارها.
ومن هذه الإستراتيجية، ونتيجة لعوامل أخرى كثيرة، نبعت من مسرح العمليات عينه، بدأ التحول الكبير في أسلوب الحياة العسكرية الإسرائيلية على الضفة الشرقية للقناة من اللهو والعبث إلى الحياة العسكرية. وكانت البداية معركة رأس العش، في الأول من يوليه 1967. وكانت أول هزيمة تتكبدها القوات الإسرائيلية أثناء وبعد حرب يونيه 1967، ثم اشتباكات يومي 14، 15 يوليه 1967. وفي هذه الاشتباكات تكبدت إسرائيل خسائر كبيرة. أمرت، في أعقابها، القيـادة الإسرائيلية أن تقوم القوات بإنشاء مواقع ميدانية محصنة على طول المواجهة تسلسلت عبر المراحل الزمنية القصيرة كالآتي:
بدأت بإنشاء حُفر يوضع حولها شكاير رمل، بغرض الوقاية الفردية أثناء الاشتباكات.
ثم تم إنشاء ملاجئ ميدانيه لوقاية نقط الملاحظة، التي انتشرت على المواجهة.
ثم قامت القوات الإسرائيلية بتعلية السواتر الترابية على طول القناة لعدم كشف أعمال وتحركات قواتها على الضفة الأخرى.
ومع بداية الشتاء، نهاية عام 1967، قرر الجنرال حاييم بارليف رئيس الأركان الإسرائيلي، وقتئذ، إقامة تجهيزات حصينة لوقاية القوات الإسرائيلية على طـول القناة، وكلف الجنرال أبراهام آدان، الذي كان يعمل في رئاسة الأركان، بالتنسيق مع الجنرال يشعياهو جافيتش قائد المنطقة الجنوبية، بالاستعانة بالعديد من الخبراء الألمان والبلجيكيين والأمريكيين للتخطيط لإقامة الخط الذي أطلق عليه، بعد ذلك، خط بارليف، نسبة إلى رئيس الأركان الإسرائيلي. وحدد الجنرال بارليف إستراتيجية بناء الخط لتحقق عدداً من الأهداف، التي تتمشى مع إستراتيجية "البقاء المستديم" في سيناء. وكانت أهم هذه الأهداف هي:
إنشاء خط حصين للدفاع عن سيناء، ومنع القوات المصرية من العبور شرقاً، وتدميرها في المياه، قبل أن تصل إلى الشاطئ الشرقي.
تأمين القوات الإسرائيلية، على خط الجبهة في سيناء، وتقليل تأثير النيران المصرية عليهم.
عَدّ هذا الخط، هو الذي تستند عليه الضربات الرئيسية الإسرائيلية، بعد مرحلة التعبئة، لتدمير القوات المصرية التي تكون قد نجحت في العبور.
تجهيز الخط، بأسلوب علمي متقدم، ليكون خط ملاحظة أمامي لمراقبه أوضاع القوات المصرية.
وقد أثار التفكير في بناء الخط جدلاً شديداً بين القادة الإسرائيليين، وتزعّم جبهة المعارضة، وقتذاك، الجنرال إيريل شارون، رئيس التدريب، والجنرال يسرائيل تال، برئاسة الأركان، وكانت وجهة نظرهما تتحدد في الآتي:
إن عقيدة القتال الرئيسـية للقوات الإسرائيلية هي المرونة والحركة، بينما خط بارليف دفاع ثابت ومن ثم، يتعارض مع الفكر الإسرائيلي العسكري.
إن الدفاعات الثابتة ستكون أهدافا سهلة للنيران المصرية، وبالتالي تزيد خسائر إسرائيل.
إن الدفاعات الثابتة تحتاج لمن يحتلها ويدافع عنها، بينما عقيدة إسرائيل تعتمد على قوات قليلة في الأوقات العادية، والتعبئة الشاملة أثناء الحرب.
وتمت مناظرات ومباحثات، وكل يتمسك برأيه، إلى أن تغلب رأى رئيس الأركان "بارليف" معتمدا على قوة الحجة، والأقدمية والسلطة.
وبدأ إنشاء خط بارليف، بدءاً من 15 مارس 1968، ولمدة عام كامل ينتهي في 15 مارس 1969، بتكلفة 248 مليون دولار واستخدم كل الإمكانيات المحلية في إنشائه، إذ اقُتلعت قضبان خط السكة الحديد (القنطرة/ العريش) والفلنكات (العوارض) الخشبية الضخمة لتكون أسقفاً لحصون الخط، وقام بالإنشاء شركات مدنية إسرائيلية. ويتكون الخط من 22 موقعاً حصيناً يحوى 31 نقطه قوية. وكل نقطه تمثل قلعة منفصلة، تتعاون مع القلاع الأخرى بالنيران، وحُصِّنت بكتل حجريه ورمال تقيها من قنابل تزن حوالي 1000 رطل، إذ أسقطت عليها مباشرة. ولكن كان الخطأ الوحيد في هذه القلاع أن لها فتحات "مزاغل" نيران في المواجهة، وهي التي استغلتها القوات المصرية في تدميرها بالضرب المباشر لتدخل القذائف من هذه الفتحات، وتنفجر داخل الدشم لتقتل كل من فيها.
ولزيادة صلابة هذه النقط الحصينة، فقد أنشأت النقط الأمامية على حافة القناة مباشرة، وتم دفع الساتر الترابى على طول الضفة الشرقية للقناة إلى حافة القناة مباشرة، وتم تعليته إلى ارتفاعات تتراوح ما بين 16 ـ 22 مترا ليشكل في مجمله (قناة مائية + ساتر ترابي + قلاع حصينة) مانعاً يحبط أمل أي قوات مصرية في مجرد التفكير في عبورها إلى الضفة الشرقية.
كان هذا هو خط بارليف الأول، الذي تمكنت القوات المصرية من تدمير 60 % منه أثناء حرب الاستنزاف من خلال الأعمال القتالية التي سترد فيما بعد.
خط بارليف الثاني
بعد إيقاف النيران في 8 أغسطس 1970 استغلت إسرائيل خبرات القتال، وتلافت نقاط الضعف في خط بارليف الأول. وقررت البقاء على فكرته وتطويره، ليصبح نظاماً دفاعياً متكاملاً تكلف حوالي 500 مليون دولار (إضافة إلى 248 مليون الأولى). وأعيد بناء النقط الحصينة بأسلوب متقدم، وباستخدام كميات هائلة من الخرسانة المسـلحة، فضلاً عن قضبان السكك الحديدية و "شباك الحجر" التي تمتص الصدمات الانفجارية، وألغيت فتحات المراقبة والتسديد (المزاغل) وتحولت إلى خنادق نيران مخفاة تماماً، وجُهِّز الساتر الترابي بنظام دفاعي متكامل، بإنشاء حفر دبابات على طول الساتر (160 كيلومتراً)، وتبعد كل حفرة عن الأخرى حوالي 100متر.
أمّا الخطوط الدفاعية الأخرى، فقد تم إنشاء خط دفاعي ثاني على مسافة من 500 متراً إلى 3 كيلومترات، لانتشار الاحتياطيات المحلية والقريبة، ثم "خط المدفعية" على مسافة 5-8 كيلومترات. وتنتشر عليه القيادات بمستوياتها المختلفة، وبعض الاحتياطيات، ثم خط الاحتياطيات التكتيكية على مسافة 20 ـ 30 كيلومتراً، ثم معسكرات تخزين أسلحة قوات الاحتياطيات في عمق سيناء وداخل إسرائيل نفسها. وتم إنشاء مطارين جديدين، إضافة إلى إصلاح وتطوير المطارات المصرية في سيناء لاستخدامها. كذلك، جُهِّزت نقاط تمركز بحرية على طول الشواطئ.
واطـمأنت إسرائيل لهذه التجهيزات، إلى الدرجة التي جعلت الجنرالين "موشي ديان وديفيد أليعازر" وهما قمة السلطة العسكرية، في إسرائيل، في 5 أكتوبر 1973. بأن يردا على سؤال السيدة/ جولدا مائير عن إمكانية عبور قوات مصرية لقناة السويس بـ "أن محاولة عبور مصريين للقناة مستحيلة، ولو حاول المصريون النزول إلى قناة السويس، فربما يتغير لونها من اللون الأزرق إلى اللون الأحمر لكثرة خسائرهم".
أولاً: مرحلة الصمود وأعمال قتال القوات على الجبهة المصرية
التخطيط لمرحلة الصمود: (يونيه 67 ـ أغسطس 68)
استند التخطيط الإستراتيجي على تحقيق الهدف الذي حددته القيادة السياسية وهو (إزالة آثار العدوان). وتحدد إطار العمل العسكري بدقة، تجنباً لأي نكسات أخرى، مع تقييد سلطات الاشتباك ضد القوات الإسرائيلية في بادئ الأمر. وبتنامي وتماسك الدفاعات، تم البدء في عمليات تنشيط الدفاع على الجبهة المصرية. على أن تنشيط العمل العسكري على الجبهة في ذلك الوقت رغم بدايته المحدودة، إلاّ أنه كان بمثابة التطعيم بالنيران للقوات المصرية، لكسر حاجز الرهبة، والتذكير بأن المعركة لم تنتهي بعد، وفي الوقت نفسه، إعادة الصورة الحقيقية للمقاتل العربي بعد أن شوهتها الدعاية الإسرائيلية.
كما كان من الضروري، كذلك، إعادة بناء وتنظيم وتسليح القوات المسلحة وتجهيز المسرح لتنفيذ مهامها الجديدة، مع إجراء المزيد من التنسيق العسكري العربي بهدف إقامة الجبهة الشرقية.
وهكذا شهدت الأشهر الثلاثة التالية للنكسة العديد من الإجراءات للتمهيد والاستعداد للجولة المقبلة، سواء كانت هذه الإجراءات عسكرية لإحداث توازن على جبهة القتال، أو إجراءات أخرى سياسية، اقتصادية أو اجتماعية.
لقد أُنجز هذا التخطيط الإستراتيجي على التوازي مع مراحل البناء، التي استغرقت الفترة من يونيه 1967 إلى أغسطس 68 (4ا شهراً) من أجل تحقيق مهمتين أساسيتين:
المهمة الأولى: وتتعلق بعملية إعادة البناء وسبق الإشارة إليها.
المهمة الثانية: وتتعلق ببناء الدفاع.
لتحقيق القدرة الدفاعية على الضفة الغربية للقناة، والتي تمتد جنوباً من الساحل الغربي لخليج السويس، ثم الضفة الغربية للقناة وشمالاً حتى بورسعيد وبمواجهة وصلت لأكثر من 175 كيلومتر وبعمق المنطقة الخلفية بحوالي 70 كيلومتراً من الخط الأول لجبهة القناة.
كانت الخطة على الجبهة ترمي، بداية، إلى كبت الجماح وضبط الأعصاب، بمعنى أن يكون رد الفعل محسوب حتى لا يتسع نطاق العمليات ويؤثر على عملية البناء وإعادة تنظيم القوات. ثم يتحول الدفاع تدريجياً بعد ذلك إلى دفاع نشط وأعمال ردع منسقة بالنيران وفي مناطق مؤثرة.
وعلى الجانب الآخر من الضفة الشرقية للقناة، بدأت القوات الإسرائيلية تتخذ دفاعاتها مرتكزة على الساتر الترابي، المرتفع نسبياً في ذلك الوقت، مكونة خطاً دفاعياً مؤقتاً تحتله مجموعة من وحدات فرعية وعناصر استطلاع ومراقبة وعلى القمم المسيطرة على القناة (شرقها وغربها)، محتفظة باحتياطيات خفيفة الحركة على انساق متتالية متدرجة في القوة، إلى الشرق وعلى محاور الاقتراب الرئيسية.
أمّا بالنسبة للقوات المصرية، فحتى تتحقق السيطرة على أعمال قتال القوات خلال هذه المرحلة والمراحل القتالية التالية، قسمت الجبهة إلى التشكيلات التالية:
قيادة وقوات الجيش الثاني الميداني: وتحددت مسؤوليتها في النطاق غرب القناة، من منتصف البحيرات المرّة جنوباً إلى بور سعيد شمالاً، وتمتد حدودها الخلفية غرباً، لتشمل محافظات الشرقية والدقهلية والإسماعيلية وبورسعيد.
قيادة وقوات الجيش الثالث الميداني: وتحددت مسؤوليتها في النطاق من جبل الجلالة البحرية جنوباً وعلى الساحل الغربي لخليج السويس، ثم الضفة الغربية للقناة ومحافظة السويس وحتى منتصف البحيرات المرّة شمالاً، وتمتد الحدود الخلفية حتى منطقة الروبيكي والحدود الشرقية للمنطقة العسكرية المركزية.
قيادة وقوات منطقة البحر الأحمر العسكرية: وتحددت مسؤوليتها في النطاق من جنوب مجموعة جبل الجلالة البحرية وجنوباً حتى الساحل الغربي لخليج السويس والبحر الأحمر حتى جنوب القصير، وغرباً على محاور التقدم من حلوان والمعادي وبعض مدن الوجه القبلي.
يحى الشاعر