بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الأول: المدينة الحزينة.. وبيعة تحت ظلال السيوف
في الأيام الخمسة التي تلت مقتل عثمان (ذي الحجة 35 هـ)، كانت المدينة المنورة تعيش "كابوساً" لم يرَ العرب مثله قط. مدينة الرسول ﷺ، التي كانت تخرج منها الجيوش لفتح العالم، أصبحت اليوم أسيرة في يد "الغافقي بن حرب" (قائد المتمردين ) الذي تجرأ ونصب نفسه إماماً للصلاة في مسجد النبي ﷺ.كان "الغوغاء" يسيطرون على الشوارع، وسيوفهم تقطر دماً، بينما لزم كبار الصحابة (علي، طلحة، الزبير، سعد) بيوتهم، وأغلقوا عليهم أبوابهم، والذهول يعقد ألسنتهم.
أولاً: الفراغ القاتل (البحث عن "محلل" للجريمة)
أدرك قادة الفتنة (الأشتر، الغافقي، حرقوص) أنهم وقعوا في ورطة. لقد قتلوا الخليفة، لكنهم لا يملكون شرعية الحكم. وإذا انفض الناس عنهم دون تنصيب خليفة جديد، فإن جيوش الشام والعراق ستزحف عليهم وتبيدهم عن بكرة أبيهم.كانوا بحاجة ماسة إلى "غطاء شرعي" يحميهم.
ذهبوا في البداية إلى "سعد بن أبي وقاص" (فاتح العراق)، وقالوا له: "أنت من أهل الشورى، فمد يدك نبايعك".فنظر إليهم سعد باحتقار وقال: "لا، حتى يبايع الناس كلهم، وحتى يبايع طلحة والزبير".ثم ذهبوا إلى "عبد الله بن عمر"، فرفض بشدة.لم يبقَ أمامهم إلا "علي بن أبي طالب".
ثانياً: علي بن أبي طالب.. الخيار المر
تجمع المتمردون حول دار علي، ومعهم جمع من أهل المدينة الخائفين، وهتفوا باسمه.خرج إليهم علي، وكان الحزن والغضب يعصران قلبه. قالوا له: "إن هذا الرجل قد قُتل (يقصدون عثمان)، ولابد للناس من إمام، ولا نجد أحداً أحق بها منك".فرد علي زاجراً: "ليس ذلك إليكم! إنما ذلك لأهل الشورى وأهل بدر، فمن رضي به فهو الخليفة".
لكن "الأشتر النخعي" وأصحابه لم يكونوا في وارد التفاوض. ضيقوا الخناق، وقالوا لعلي بلهجة التهديد المبطن: "إن الناس قد صنعوا ما ترى (من قتل عثمان)، وإن افترقوا ولم يولوا أحداً، فسد الأمر.. فمد يدك".نظر علي إلى حال المدينة، ورأى أن "الدولة" تلفظ أنفاسها الأخيرة، وأن امتناعه يعني "الفوضى الشاملة" وسفك المزيد من الدماء، وربما ضياع الدين نفسه.فقبل البيعة.. لا طمعاً في السلطة، بل تضحيةً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
بيعة "اليد المغلولة"
في المسجد النبوي، جلس علي للبيعة. كان المشهد غريباً ومؤلماً؛ الخليفة الجديد يجلس والقتلة (قتلة سلفه) يحيطون به، بسيوفهم ودروعهم، وكأنهم هم "الحرس الجمهوري" الجديد!جيء بـ طلحة والزبير. تذكر بعض الروايات (وإن كان فيها مقال) أنهما بايعا وهما "كارهان" تحت وطأة تهديد السيوف التي كانت تحيط بالمكان، ويقال إن طلحة بايع بيده التي شُلت يوم أحد دفاعاً عن النبي ﷺ، فتطير الناس وقالوا: "بيعة بيده شلاء.. لا تتم".
ثالثاً: الاعتزال.. الصمت الذي يصرخ
وسط هذا الصخب، اختار نفر من كبار الصحابة "الاعتزال". كان على رأسهم سعد بن أبي وقاص و عبد الله بن عمر و أسامة بن زيد.قال سعد لعلي: "يا أمير المؤمنين، لا أبايع حتى يبايع الناس كلهم، والله لا ترى مني بأساً".أما ابن عمر، فقال: "لا أوقظ فتنة نائمة، ولا أنام عن فتنة يقظة".كان موقفهم رسالة صامتة بأن هذه البيعة، وإن كانت صحيحة شرعاً لضرورة الوقت، إلا أنها "ناقصة" ومعيبة بوجود القتلة.
رابعاً: الزلزال يصل دمشق (قميص عثمان)
بينما كانت المدينة تغرق في الحيرة، وصل الخبر إلى دمشق، ولكن ليس كخبر عادي، بل كمشهد تراجيدي متكامل.دخل "النعمان بن بشير" (الصحابي الأنصاري) دمشق، ومعه "قميص عثمان" الملطخ بالدماء، و"أصابع نائلة" المقطوعة معلقة فيه.لم يضيع معاوية وقتاً. صعد المنبر في المسجد الجامع، ونشر القميص الدامي أمام أعين الناس .
لم يحتج معاوية لخطبة عصماء. كان منظر الدماء والأصابع كافياً لإشعال النار في صدور أهل الشام. ضج المسجد بالبكاء والنحيب لمدة سنة كاملة (كما يروي المؤرخون مبالغة في وصف الحزن).أقسم أهل الشام قسماً جماعياً مرعباً: "والله لا يمسون النساء، ولا ينامون على الفرش، حتى يقتلوا قتلة عثمان أو تفنى أرواحهم".تحولت الشام من "ولاية تابعة" إلى "معسكر ثأر" مستقل، يرفض السمع والطاعة لمن يؤوي القتلة.
خامساً: قرارات علي.. الجراحة المستعجلة
بمجرد أن استقر الأمر لعلي، قرر إجراء "عملية جراحية" شاملة لتطهير جسد الدولة من ولاة عثمان الذين كان الثوار يشتكون منهم، ظناً منه أن هذا سيهدئ النفوس ويسحب الذريعة من المتمردين.
نصيحة "المغيرة" و"ابن عباس"
جاء "المغيرة بن شعبة" (داهية ثقيف) إلى علي، وقال له ناصحاً: "يا أمير المؤمنين، إن معاوية في الشام، وهو قوي وله نفوذ، فأقره على عمله حتى يستقر لك الأمر ويبايعك الناس، ثم اعزل من شئت بعد ذلك".رفض علي هذا المنطق "السياسي البحت"، وقال بمبدئية صارمة: "لا والله، لا أداهن في ديني، ولا أستعين بالذين أضلوا".فعاد المغيرة في اليوم التالي وقال: "إذن اعزلهم جميعاً". (وكان يقصد أن النصيحة الأولى كانت للدنيا، والثانية للآخرة، أو ربما يائساً من إقناعه).
أصدر علي قراراته الحاسمة بعزل جميع ولاة عثمان، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان (والي الشام)، وعبد الله بن عامر (والي البصرة)، وعبد الله بن سعد (والي مصر).أرسل ولاته الجدد:
- سهيل بن حنيف إلى الشام.
- قيس بن سعد بن عبادة إلى مصر.
- عثمان بن حنيف إلى البصرة.
سادساً: الرد الصادم.. "ارجع إلى صاحبك"
نجح ولاة مصر والبصرة في استلام مهامهم (بصعوبة)، لكن المفاجأة كانت في الشام.وصل سهيل بن حنيف (والي علي الجديد) إلى مشارف الشام (تبوك)، فلقيته خيول معاوية. سألوه: "من أنت؟". قال: "أمير بعثني أمير المؤمنين علي".فقالوا له ببرود واستعلاء: "إن كان بعثك عثمان فحي هلا، وإن كان بعثك غيره فارجع.. لا سمع ولا طاعة إلا لخليفة يقتص من القتلة".عاد سهيل إلى المدينة مكسور الخاطر، وأدرك علي أن الحرب قادمة لا محالة.
و لقد فشلت "الجراحة" التي أجراها علي بعزل الولاة في استئصال الداء، بل زادته اشتعالاً في الشام. والآن، بدأت الرسل تحمل رسائل الحرب بدلاً من رسائل البيعة.

