الفصل الأول: الجذور والسيادة (بنو أمية.. ملوك مكة غير المتوجين)
في قلب الصحراء العربية، حيث لا قانون يعلو فوق السيف والقبيلة، كانت مكة هي "سرة الأرض"، وكان البيت الحرام هو قلبها النابض. وفي هذا المسرح المهيب، كان هناك رجل واحد يمسك بخيوط المجد، هو "عبد مناف بن قصي". هذا الرجل الذي لم تكن قريش تقطع أمراً دونه، انحدرت من صلبه سلالتان تقاسمتا مجد العرب: بنو هاشم (أهل السقاية والرفادة والدين)، وبنو عبد شمس (أهل القيادة والحرب والسياسة)، وهم أجداد بني أمية.
1. قسمة المجد: السقاية لهاشم.. والقيادة لعبد شمس
حين كبر أبناء عبد مناف، جرت سنة الحياة بينهم، فتوزعت الأدوار بتناغم عجيب صنع مجد قريش. كان هاشم (جد النبي ﷺ) رجلاً موسراً كريماً، فأخذ على عاتقه "الرفادة والسقاية"، أي إطعام الحجيج وسقايتهم، وهي مهمة دينية اجتماعية رفيعة, أما أخوه عبد شمس (أبو أمية)، فكانت عيناه ترنوان إلى الأفق الأوسع. كان رجلاً "سفّاراً"، لا يكاد يستقر في مكة حتى يخرج منها ضارباً في الأرض. ورث أبناؤه من بعده هذه الروح العملية، فكانوا هم "وزراء الخارجية" و "وزراء الدفاع" لدولة قريش – إن جاز التعبير, لم يكن الأمر مجرد تجارة، بل كان نفوذاً سياسياً. فبنو أمية هم الذين أمسكوا بزمام "القوافل الكبرى"، وتلك القوافل كانت بمثابة "شرايين الحياة" لمكة. ومن يملك الاقتصاد في عرف العرب، يملك القرار.
و لقد ظلم التاريخُ المتأخر العلاقة بين هذين الفرعين، فصوّر لنا رواة الأخبار (خاصة في عصور الصراع اللاحقة) أن العداء بين بني أمية وبني هاشم كان قدراً محتوماً منذ الولادة. نسجوا الأساطير قائلين إن هاشماً وعبد شمس ولدا "توأماً ملتصقاً"، ففُصل بينهما بالسيف، ليكون الدم هو الرابط والمفرق بينهما إلى الأبد, لكن الحقيقة التي يقررها التحقيق التاريخي غير ذلك تماماً؛ فقد كانا أخوين يجمعهما الود والمصالح المشتركة، وتفرقت بينهما المسؤوليات بتناغم عجيب. فبينما انشغل "هاشم" بالسقاية والرفادة (إطعام الحجيج وسقايتهم) لكونه موسراً، مال أخوه "عبد شمس" وأبناؤه من بعده (أمية وبنوه) إلى القيادة العسكرية والتجارة والسفر زي ما قلنا.
2. "حرب بن أمية": سيد الحرب وقائد الأحلاف
لكي تدرك مكانة هذه العائلة، دعنا نتحدث عن "حرب بن أمية" (والد أبي سفيان). هذا الرجل لم يكن مجرد سيد في قومه، بل كان "قائد جيوش قريش" وكنانة كلها في "حرب الفِجار" الشهيرة ضد قبائل قيس عيلان.كان العرب إذا جد الجد، واحتاجوا لرجل يجمع كلمتهم ويقود جيوشهم، ولوا وجوههم شطر "بيت أمية". كانت راية قريش العظمى (العقاب) تُعقد في دارهم وتخرج بأمرهم.
وكان لحرب بن أمية هيبة تخر لها الجباه، حتى قيل في الأمثال العربية عن حماية الجار: "أمنع من جار حرب". وكان صديقه الصدوق في ذلك الزمان هو عبد المطلب بن هاشم (جد النبي ﷺ) ، وكانا يجلسان معاً في فناء الكعبة، يتسامران ويديران شؤون مكة، كملكين متوجين على عرش القبائل.
3. الدهاء السياسي: كيف أداروا علاقتهم بالعرب؟
لم تكن مكانة بني أمية محصورة داخل جبال مكة، بل امتدت أذرعهم إلى "الشام" و"اليمن". كان بنو أمية هم مهندسو العلاقات الدبلوماسية مع القبائل والروم.يقول المؤرخون إن بني أمية تميزوا بـ "الدهاء" و "الحلم" (ضبط النفس)، وهما صفتان ضروريتان للقيادة. كانوا يعرفون متى يسلون السيف، ومتى ينثرون المال.
في تلك الأجواء، برز بنو أمية كقوة لا يستهان بها. كانوا أهل "العدد والعدة"، وكما يقول ابن خلدون واصفاً حالهم: "بنو أمية كانوا أكثر عدداً من بني هاشم وأوفر رجالاً، والعزة إنما هي بالكثرة".
لم يكونوا مجرد سادة في قومهم، بل كانوا يمتلكون "عقلية الدولة" قبل أن تقوم الدولة. كانوا يديرون "رحلة الشتاء والصيف"، يقودون القوافل، ويفاوضون القبائل، ويعقدون الأحلاف. كان زعيمهم في تلك الحقبة، أبو سفيان بن حرب، يمثل قمة "الواقعية السياسية" في مكة. رجل يزن الأمور بميزان الربح والخسارة، والقوة والنفوذ.
ولعل أصدق وصف لحالهم هو ما قاله معاوية بن أبي سفيان لاحقاً وهو يحلل التاريخ بإنصاف:
"كنا أكثر أشرافاً، وكانوا هم أشرف، وكان فيهم عبد المطلب ولم يكن فينا مثله... فلما صرنا أكثر عدداً وأكثر أشرافاً، ولم يكن فيهم واحد كواحدنا، لم يكن إلا كقرار العين حتى قالوا: منا نبي. فجاء نبي لم يسمع الأولون والآخرون بمثله، محمد ﷺ، فمن يدرك هذه الفضيلة وهذا الشرف؟".
عشية ظهور الإسلام، كان عميد الأسرة هو أبو سفيان بن صخر بن حرب. رجل جمع الدهاء التجاري إلى الحنكة العسكرية. كان يقرأ الواقع بلغة الأرقام والمصالح. يقود "رحلة الشتاء والصيف"، وتدين له القبائل بالولاء لما يملكه من مال ونفوذ.كان أبو سفيان يرى في مكة "مملكة تجارية" يجب الحفاظ على استقرارها بأي ثمن، وهذا ما يفسر شراسة مقاومته للدعوة في بدايتها؛ ليس كرهاً في الدين بقدر ما هو خوف على "الاستقرار السياسي والاقتصادي" الذي بناه آباؤه.
5. نساء يصنعن الرجال: هند بنت عتبة
ولا تكتمل الصورة دون النظر إلى نساء بني أمية، اللواتي كن يرضعن أبناءهن "حب السيادة" مع الحليب.انظر إلى هند بنت عتبة، زوجة أبي سفيان. كانت تمشي في مكة وكأن الأرض لا تسع كبرياءها. يروى أن معاوية عثر يوماً وهو طفل صغير، فقالت له أمه: "قم لا رفعك الله". فقال لها أعرابي كان يراقب المشهد: "لِمَ تقولين له ذلك؟ فوالله إني لأظنه سيسود قومه".فانتفضت هند غاضبة وقالت جملتها الشهيرة التي تلخص طموح هذا البيت:
"قومه فقط؟! لا رفعه الله إن لم يسد إلا قومه!" (تقصد أنها تريده سيداً للعرب قاطبة) .
و حين كان معاوية طفلاً صغيراً يحبو، نظر إليه والده أبو سفيان وقال متفرساً: "إن ابني هذا لعظيم الرأس، وإنه لخليق أن يسود قومه".فردت هند فوراً، بلهجة الأم التي تعرف قدر وليدها وطموح أسرتها: "قومه فقط؟! ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة!".
كان هذا هو "البيت الأموي" عشية بزوغ فجر الإسلام: بيت يغلي بالطموح، يمتلك أدوات القيادة، المال، والرجال، والدهاء. كانوا يظنون أنهم قد حازوا الدنيا، ولم يدروا أن نوراً سيخرج من بيت عمومتهم "بني هاشم" سيقلب موازين العرب والعجم، وسيجعل سيادتهم تلك، مجرد قطرة في بحر ملك عظيم سيشيدونه لاحقاً تحت راية الإسلام.
الفصل الثاني: بين الوحي والقبيلة (الانقسام الكبير داخل البيت الأموي)
في الوقت الذي كان فيه "أبو سفيان بن حرب" يتربع على قمة هرم السلطة في مكة، ويخطط لقوافل التجارة ومستقبل الزعامة، حدث ما لم يكن في الحسبان. خرج رجل من "بني هاشم" -أبناء عمومتهم- لا يطلب ملكاً ولا مالاً، بل يقول: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا".
لقد نزل هذا النداء كزلزال هز أركان "البيت الأموي". لم يكن مجرد دعوة دينية في نظر زعمائهم، بل كان "انقلاباً" على النظام الاجتماعي والسياسي الذي بنوه عبر أجيال. ولأول مرة في تاريخ العائلة، حدث الشرخ العظيم: الأبناء ضد الآباء، والأخوة ضد الأخوة.
أولاً: السابقون.. النور يتسلل إلى حصون بني أمية
على عكس الشائع بأن بني أمية تأخر إسلامهم جميعاً للفتح، فإن الحقيقة التاريخية تذهلنا بأن عدداً من "صفوة شباب بني أمية" كانوا من أوائل من لبى نداء النبي ﷺ، ضاربين بعرض الحائط عصبية القبيلة وسطوة الآباء.
1. عثمان بن عفان: ذو النورين في مواجهة العائلة
كان عثمان بن عفان بن أبي العاص الأموي، زهرة شباب قريش، ثرياً، حيياً، ومحبوباً. لم يكن يتوقع أحد أن يترك هذا الشاب المترف دين آبائه. لكن الصديق أبا بكر همس في أذنه بكلمات الحق، فاستجاب قلبه النقي فوراً.لم يمر إسلامه بسلام؛ فقد ثار عليه عمه "الحكم بن أبي العاص"، وقام بتوثيقه بالحبال، وقال له مهدداً: "أترغب عن ملة آبائك إلى دين محدث؟ والله لا أحلك أبداً حتى تدع ما أنت عليه".فرد عثمان بصوت هادئ ولكنه صلب كالجبال: "والله لا أدعه أبداً ولا أفارقه".أمام هذا الإصرار العجيب، يأس العم من عودة ابن أخيه، فتركه، ليصبح عثمان أول مهاجر بأهله (رقية بنت رسول الله) إلى الحبشة، مسجلاً بذلك قصب السبق لبني أمية في نصرة الدين الجديد.
2. خالد بن سعيد: الرؤيا التي غيرت المصير
ومن أعجب القصص في البيت الأموي، قصة "خالد بن سعيد بن العاص". كان أبوه "أبو أحيحة" من طواغيت قريش الكبار. رأى خالد في منامه رؤيا مرعبة: كأنه واقف على شفير نار عظيمة، وأبوه يدفعه ليلقيه فيها، ورسول الله ﷺ ممسك بحجزته (وسطه) يمنعه من السقوط.استيقظ خالد فزعاً، وقال: "والله إن هذه لرؤيا حق". فذهب للنبي ﷺ وأسلم.لما علم أبوه الطاغية بإسلامه، استدعاه وضربه بعصا حتى كسرها على رأسه، ثم صرخ فيه: "والله لأمنعنك القوت". فقال خالد: "إن منعتني، فإن الله يرزقني".طُرد خالد من بيت العز الأموي، وعاش مشرداً، لكنه صار من السابقين الأولين، ومن كتاب الوحي، وهاجر إلى الحبشة فاراً بدينه.
ثانياً: جبهة المعارضة.. حرب الوجود والنفوذ
إذا كان هؤلاء الشباب قد اختاروا الآخرة، فإن "صقور بني أمية" رأوا أن الدنيا تفلت من بين أيديهم. لم تكن معارضتهم للدعوة مجرد عناد، بل كانت "حرب وجود". لقد أدركوا بحسهم السياسي أن انتصار محمد ﷺ يعني نهاية نظام "دار الندوة" الذي يسيطرون عليه.
1. أبو سفيان: العداء "البارد" والمدروس
لم يكن أبو سفيان، زعيم البيت الأموي، رجلاً انفعالياً كأبي جهل. كان عداؤه للإسلام "سياسياً وعسكرياً" من الطراز الأول. قاد المعارضة الاقتصادية (الحصار)، ثم قاد الجيوش (أحد والخندق). كان يرى في الإسلام تهديداً لتجارة قريش ومكانتها بين العرب.ومع ذلك، كان في أعماقه صوت خفي يخبره بأن هذا الأمر سيعلو. ولعل موقفه مع "هرقل" عظيم الروم، حين سأله هرقل عن النبي ﷺ، فأجابه أبو سفيان (وهو كافر يومها) بإجابات صادقة دلت على عظمة النبي، يكشف لنا عن شخصية عدو "يحترم خصمه" في قرارة نفسه.
2. عقبة بن أبي معيط: الشقاء الأبدي
على النقيض من دهاء أبي سفيان، كان هناك "عقبة بن أبي معيط"، الوجه القبيح للمعارضة الأموية. كان هذا الرجل جاراً للنبي ﷺ، لكنه كان أشد الناس أذية له. هو الذي وضع "سلا الجزور" (أمعاء الإبل) على ظهر النبي وهو ساجد، وهو الذي خنقه بثوبه حتى كاد يقتله لولا تدخل أبي بكر الصديق.كان عقبة يمثل "الحقد الأسود" الذي لا مبرر له، وقد نال جزاءه يوم بدر، حيث قُتل كافراً، ولم تنفعه قرابته ولا ماله.
ثالثاً: مأساة "بدر".. الجرح الذي لا يندمل
كانت غزوة بدر (2 هـ) هي "الزلزال" الحقيقي الذي ضرب بني أمية وبني عبد شمس. في تلك المعركة، قُتل سادة العائلة الكبار: عتبة بن ربيعة (والد هند)، وأخوه شيبة، وابنه الوليد.تحولت بيوت بني أمية إلى مناحات، وتحول العداء السياسي إلى "ثأر دموي" عميق.وقفت هند بنت عتبة (زوجة أبي سفيان) وسط مكة تصرخ وتتوعد، ورافضةً للدهن والتطيب حتى تأخذ بثأر أبيها وأخيها وعمها.هذا الجرح الغائر هو الذي يفسر شراسة القتال في "أحد"، وهو الذي جعل الطريق إلى الإيمان بالنسبة لهند وأبي سفيان طويلاً وشاقاً ومعبداً بالدماء والشكوك.
رابعاً: الوردة التي نبتت في الصخر (أم حبيبة)
وسط هذا البحر المتلاطم من الكفر والعداء والثأر، تبرز قصة "رملة بنت أبي سفيان" (أم حبيبة) كواحدة من أعجب قصص التاريخ.ابنة "زعيم المشركين" وقائد الجيوش ضد الإسلام، تسلم وتهاجر إلى الحبشة! وهناك تقع لها مأساة أخرى؛ يرتد زوجها ويتنصر ويموت على الكفر، وتبقى هي وحيدة غريبة في أرض المهجر.لكن الله يكرم هذه المرأة الصابرة بمكافأة لم تخطر لها على بال. يرسل النبي ﷺ إلى النجاشي يخطبها، فيزوجها النجاشي لرسول الله، ويدفع مهرها من عنده إكراماً لها.
تخيل وقع الخبر في مكة! أبو سفيان، الذي يجهز الجيوش لقتل محمد، تصبح ابنته "أم المؤمنين" وزوجة عدوه اللدود!وحين جاء أبو سفيان إلى المدينة مفاوضاً قبل الفتح، دخل على ابنته، وحاول الجلوس على فراش النبي ﷺ، فطوت الفراش عنه بسرعة. ذهل الأب وسأل: "يا بنية! أرغبتِ بهذا الفراش عني، أم بي عنه؟".فجاء ردها كالسيف، رداً يختصر الولاء للعقيدة فوق القبيلة: "بل هو فراش رسول الله ﷺ، وأنت امرؤ نجس مشرك".صُدم أبو سفيان وقال بمرارة: "يا بنية، لقد أصابك بعدي شر!".
خامسا : أحد والخندق , أبو سفيان يقود العرب
صعد أبو سفيان إلى سدة القيادة العسكرية. وفي "أحد" (3 هـ)، قاد جيشاً جراراً، ترافقه زوجته هند بنت عتبة التي كانت تضرب بالدفوف وتحرض الرجال قائلة: "إن تقبلوا نعانق... وإن تدبروا نفارق". وحين رأت هند جثمان حمزة بن عبد المطلب، شعرت أن نار قلبها قد بردت قليلاً، لكن المعركة لم تحسم الصراع العقائدي، بل زادته اشتعالاً.
وفي "الخندق" (5 هـ)، تجلى الدهاء السياسي لأبي سفيان في أقصى صوره. استطاع أن يؤلف "التحالف الدولي" الأول ضد المدينة (الأحزاب). حشد غطفان وأسد وفزارة واليهود، وحاصر المدينة بجيش لم ترَ العرب مثله.لكن الريح العاتية ودعاء النبي ﷺ وحنكة النعيم بن مسعود فتتت هذا التحالف. ووقف أبو سفيان في تلك الليلة الليلاء، والقدر تغلي والخيام تقتلع، ليقول كلمته الشهيرة لقريش: "يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام... فارتحلوا فإني مرتحل".هنا أدرك "الداهية" أن القوة العسكرية وحدها لن تهزم هذا الدين.
سادسا : يوم الفتح "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"
وجاءت اللحظة الفاصلة في العام الثامن للهجرة. زحف النبي ﷺ بجيش يملأ الأفق (عشرة آلاف مقاتل). رأت قريش النيران تشتعل في الجبال ليلاً، فأدرك أبو سفيان بذكائه أن "اللعبة انتهت"، وأن المقاومة انتحار.
هنا يظهر دور الصديق القديم، العباس بن عبد المطلب. أخذ العباسُ أبا سفيان على بغلة النبي ﷺ ليدخله على رسول الله ويطلب له الأمان.دار حوار مهيب بين النبي ﷺ والزعيم الأموي. قال له النبي ﷺ: "ويحك يا أبا سفيان! ألم يأتك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟"لان قلب الرجل وقال: "بأبي أنت وأمي، ما أوصلك وأحلمك وأكرمك! والله لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئاً".ثم أعلن إسلامه، وشهد شهادة الحق.
ولأن النبي ﷺ يعلم نفسية هذا الرجل المحب للفخر والسيادة، أراد أن يعوضه عن ملكه الضائع، ويؤلف قلبه، فأعطاه وساماً تاريخياً لم ينله أحد غيره يوم الفتح، فقال ﷺ:
تخيل وقع هذه الجملة على نفسية أبي سفيان وبني أمية! لقد حفظ لهم الإسلامُ ماء وجوههم، وأبقى لهم مكانتهم الاجتماعية، فلم يدخلوه أذلة صاغرين، بل دخلوه ولهم "ميزة" و"أمان" يمنحونه للناس.
سابعا : "الطلقاء" وصمة عار أم عفو كريم؟
في ذلك اليوم، وقف أهل مكة تحت ظلال السيوف ينتظرون حكم النبي ﷺ، فقال لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".لقد حاول خصوم بني أمية عبر التاريخ استخدام مصطلح "الطلقاء" كسبة ومعايرة، وكأن إسلامهم كان درجة ثانية أو مشكوكاً فيه. لكن الحقيقة التاريخية والشرعية تقول غير ذلك:
الإسلام يجبُّ ما قبله: بمجرد نطقهم الشهادتين، أصبح لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.
حسن الإسلام: كثير من هؤلاء الطلقاء (مثل سهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، ويزيد بن أبي سفيان، ومعاوية) حسن إسلامهم بشهادة التاريخ، وقدموا أرواحهم رخيصة في فتوحات الشام والعراق.
الثقة النبوية: لو كان النبي ﷺ يشك في إسلامهم، لما ولى بعضهم المناصب، ولما قبل جهادهم لاحقاً.
5. حنين والطائف: الأمويون في خندق الدفاع
لم يمضِ شهر على الفتح، حتى خرج النبي ﷺ لغزوة حنين ضد هوازن. وهنا نرى بني أمية في صفوف المسلمين لأول مرة.شارك أبو سفيان في المعركة، وحين اشتد القتال، ثبت مع النبي ﷺ. وفي حصار الطائف، فقد أبو سفيان إحدى عينيه، فجاء إلى النبي ﷺ وعينه في يده، فقال له النبي: "إن شئت دعوت الله فردها عليك، وإن شئت فالجنة". فاختار الجنة.
ولكي يثبت النبي ﷺ أقدامهم في الإسلام، خصهم يوم حنين بعطايا ضخمة (من المؤلفة قلوبهم)، فأعطى أبا سفيان وابنه معاوية مئة من الإبل وأربعين أوقية من الذهب ، ليطفئ بذلك آخر جمرات الجاهلية في نفوسهم، ويحولهم من "موتورين" إلى "أنصار".
هكذا، أسدل الستار على حقبة "الجاهلية الأموية". دخلت العائلة القوية إلى الإسلام من بابه الواسع، ليس كأفراد عاديين، بل كزعماء تم استيعابهم وتوظيف قدراتهم.تحول دهاء أبو سفيان، وحماسة هند، وعبقرية معاوية، من حرب الإسلام إلى حرب أعداء الإسلام.
الفصل الثالث: تحت راية النبي (بنو أمية أركان الدولة الوليدة)
بعد أن هدأت عاصفة "حنين" ووضعت الحرب أوزارها في "الطائف"، بدأ مشهد جديد يتشكل في الجزيرة العربية. لم يعد بنو أمية مجرد "طلقاء" منّ عليهم النبي ﷺ بالعفو، بل تحولوا بتوجيه نبوي حكيم إلى "رجال دولة" يحملون أختام النبي، ويكتبون وحي السماء، ويحكمون الولايات.
لقد كان النبي ﷺ يقرأ المعادن، ويعلم أن "بني عبد شمس" (بني أمية) هم أهل إدارة وحكم، فاستثمر هذه الطاقات فوراً لتدعيم أركان الدولة.
1. ولاة النبي ﷺ: الأمويون يحكمون باسم الإسلام
من المفارقات العجيبة أن النبي ﷺ، الذي حاربه بنو أمية لعقدين من الزمان، لم يجد حرجاً في أن يسلمهم "مفاتيح المدن" وقيادة الأقاليم الحساسة في حياته. بل إن التاريخ يسجل حقيقة مذهلة يذكرها المؤرخون:
"لا نعرف قبيلة من قبائل قريش كان فيها عمال (ولاة) لرسول الله ﷺ أكثر من بني عبد شمس (بني أمية)".
تخيل أن النبي ﷺ يغادر مكة بعد الفتح، مكة التي هي قبلة المسلمين وموطن قريش، فمن يولي عليها؟ لم يولِ أنصارياً ولا هاشمياً، بل ولى شاباً أموياً هو "عتاب بن أسيد بن أبي العاص".كان عتاب شاباً، لكنه كان حازماً ورعاً. وقف في أهل مكة يعلن مبادئ الدولة الجديدة قائلاً: "أيها الناس، أجاع الله كبد من جاع على درهم! فقد رزقني رسول الله ﷺ كل يوم درهماً، فليست بي حاجة إلى أحد".لقد نجح هذا الوالي الأموي في ضبط أمن مكة، وإقامة الصلاة بالناس، وتطبيق الشريعة في مجتمع حديث العهد بالإسلام.
أبو سفيان: من قائد الأحزاب إلى والي نجران
أما الداهية أبو سفيان، فقد استوعبه النبي ﷺ تماماً. لم يتركه في المدينة بلا عمل، بل ولاه "نجران" ، وهي منطقة ذات أهمية استراتيجية وكثافة مسيحية، تحتاج إلى رجل محنك يعرف كيف يساس الناس. وهكذا تحول زعيم المشركين السابق إلى موظف في دولة الإسلام، يجمع الصدقات ويحفظ الحدود.
شبكة الولاة الأمويين
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد انتشر ولاة بني أمية في أرجاء الجزيرة بأمر النبوة:
خالد بن سعيد بن العاص: ولاه النبي ﷺ على صنعاء في اليمن.
أبان بن سعيد بن العاص: ولاه على البحرين.
عمرو بن سعيد بن العاص: ولاه على وادي القرى وتبوك.هذا الانتشار الواسع يؤكد ثقة النبي ﷺ في كفاءتهم الإدارية وأمانتهم التي اكتسبوها بعد إسلامهم.
2. في محراب الوحي: معاوية "كاتب النبي"
إذا كانت الولاية "أمانة دنيوية"، فإن كتابة الوحي "أمانة دينية" عظمى لا تُمنح إلا لمن امتحن الله قلبه. وهنا يبرز دور معاوية بن أبي سفيان.بعد الفتح، لازم معاويةُ النبيَّ ﷺ ملازمة الظل، وطلب أبوه أبو سفيان من النبي أن يجعله كاتباً بين يديه، فقبل النبي ذلك.لم يكن معاوية يكتب الرسائل للقبائل والملوك فحسب ، بل نال شرف كتابة كلام الله عز وجل. هذه المنقبة وحدها كانت كافية لتدحض كل الشكوك حول إيمانه؛ فهل كان النبي ﷺ سيأتمن "منافقاً" -حاشاه- على تدوين القرآن الذي سيحفظ إلى يوم الدين؟يقول العلماء: "كتابة معاوية للوحي أتاحت له لوناً من القرب الطبيعي من رسول الله، والتأثر المباشر بشخصيته".وقد دعا له النبي ﷺ دعوة ظلت ترافقه طيلة حياته: "اللهم اجعله هادياً مهدياً واهدِ به" ، ودعا له بالعلم قائلاً: "اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب".
3. ميادين الجهاد: ضريبة الدم والولاء
لم يكتفِ الأمويون بالإدارة والكتابة، بل كان لا بد من "تعميد" هذا الإيمان في ساحات الوغى.
عين أبي سفيان: في حصار الطائف، وقف أبو سفيان يقاتل تحت راية النبي ﷺ، فأصيب سهم في عينه فقلعها. جاء إلى النبي ﷺ وعينه في يده، فبشره النبي بالجنة. لقد فقد عينه التي كان ينظر بها إلى الدنيا، ليعوضه الله بصيرة في الدين، وسيفقد عينه الأخرى لاحقاً في اليرموك، ليعيش في ظلام البصر ونور البصيرة.
تحطيم الأصنام: ولعل المشهد الأكثر رمزية، هو حين أرسل النبي ﷺ أبا سفيان مع المغيرة بن شعبة لهدم صنم "اللات" في الطائف. تخيل! الرجل الذي كان يقاتل لحماية هذه الأصنام، يحمل الآن الفأس ليهشمها بيده، معلناً نهاية عهد الشرك وبداية التوحيد الخالص
عندما توفي رسول الله ﷺ في العام الحادي عشر للهجرة، كان بنو أمية قد تغلغلوا في مفاصل الدولة الإسلامية، لا كمغتصبين، بل بتعيين وتكليف نبوي.
كانت مكة (العاصمة الروحية) تحت حكم عتاب بن أسيد الأموي.
وكانت نجران تحت حكم أبي سفيان الأموي.
والبحرين تحت حكم أبان بن سعيد الأموي.
والوحي محفوظ بخط يد عثمان ومعاوية الأمويين.
لقد رحل النبي ﷺ وقد "دجن" (روض) أسود بني أمية، وحول طموحهم الجاهلي إلى طاقة بناءة تخدم الإسلام. تركهم وهم جزء لا يتجزأ من النسيج القيادي للأمة، جاهزين لاستلام الراية في الفتوحات الكبرى التي ستنطلق في عهد الخلفاء الراشدين.
الفصل الرابع: سيوف الفتوح (الملحمة الأموية في عهد الصديق والفاروق)
لم يكن يوم وفاة النبي ﷺ يوماً عادياً في تاريخ العرب؛ فقد زُلزلت الأرض تحت أقدام الجميع، واشرأبت أعناق الفتنة. في تلك اللحظة الفاصلة، كانت العيون ترقب "بني أمية" بحذر: هل سيستغلون الفراغ ليستعيدوا ملكهم الجاهلي؟ أم سيرتدون مع من ارتد؟لكن الرد الأموي جاء حاسماً وصادماً لكل المتربصين. لقد قرر "بيت أبي سفيان" أن يكون درع الإسلام لا خنجره، وأن يسخّر كل دهاء الجاهلية لخدمة دولة الخلافة.
1. في وجه الطوفان: مكة الصخرة التي تحطمت عليها الردة
بينما كانت نيران الردة تشتعل في كل ركن من الجزيرة العربية، وقفت مكة شامخة كالجبل. والسر في ذلك يعود -بعد الله- إلى حنكة واليها الشاب الأموي "عتاب بن أسيد".هذا الشاب، الذي ولاه النبي ﷺ وهو في مقتبل العمر، وقف في أهل مكة وقفة رجل بألف رجل. حين همَّ بعض ضعاف النفوس بالارتداد، صعد المنبر وهز سيفه وقال كلمته التي قطعت الشك باليقين:
"يا معشر قريش! والله لا يبلغني عن أحد منكم أنه ارتد عن دينه إلا ضربت عنقه. كنتم آخر الناس إسلاماً فلا تكونوا أولهم ارتداداً".
لم يكن تهديداً أجوف، فقد صدقته الأفعال. انطلق أخوه "خالد بن أسيد بن أبي العاص" على رأس كتيبة مكية ليلتحق بجيوش المسلمين ويضرب المرتدين في تهامة واليمن، معلناً أن ولاء بني أمية للإسلام قد تجاوز كل ولاء قبلي.
أبو حذيفة: شهادة "أهل القرآن"
وفي قلب نجد، في "حديقة الموت" باليمامة، حيث دارت أشرس معارك الردة ضد مسيلمة الكذاب، كان هناك بطل أموي يكتب بدمه فصلاً جديداً من المجد. إنه "أبو حذيفة بن عتبة"، ابن سيد قريش الذي قُتل في بدر كافراً.حين رأى أبو حذيفة تراجع المسلمين في بداية المعركة، لم يهرب، بل وقف كالطود يصرخ في المهاجرين، مستنهضاً هممهم بعبارة خلدها التاريخ:
"يا أهل القرآن! زينوا القرآن بالفعال". ثم انغمس في صفوف العدو، ومعه مولاه سالم، يقاتلان قتال من يطلب الموت، حتى سقطا شهيدين متعانقين، ليثبت أبو حذيفة أن "القرآن" الذي في صدره أغلى عنده من حياته ومن ميراث أبيه.
حين استقرت الجزيرة، وجه الخليفة أبو بكر الصديق بصره شطر الشمال، حيث إمبراطورية الروم. كان يعلم أن فتح الشام يحتاج إلى رجال من طراز خاص؛ رجال يجمعون بين "الشجاعة" و"الدهاء السياسي"، ووجد ضالته في بني أمية.
مشهد الوداع: درس في القيادة والتواضع
عقد الصديق الألوية الأربعة لفتح الشام، وكان أول لواء يعقده لرجل أموي هو "يزيد بن أبي سفيان" (المعروف بـ "يزيد الخير"). المشهد هنا يفيض بالدروس: يخرج خليفة المسلمين (أبو بكر) ماشياً على قدميه ليودع الجيش، بينما القائد الأموي (يزيد) يركب جواده. يشعر يزيد بالحرج الشديد من هذا الموقف، فيقول بخجل: "يا خليفة رسول الله، إما أن تركب وإما أن أنزل".فيرد الصديق برد الواثق المحتسب: "ما أنت بنازل، وما أنا براكب، إني أحتسب خُطاي هذه في سبيل الله".
ثم يلقي عليه "دستور الحرب الإسلامي"، تلك الوصايا العشر التي سبقت قوانين العالم الحديث بقرون:
"يا يزيد.. لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة... وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع (الرهبان) فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له".
سار يزيد بجيشه، وفي قلبه عظمة المهمة، ومعه أخوه الشاب معاوية يحمل الراية، ليخطوا أولى خطواتهم في الأرض التي ستصبح عرينهم لقرن كامل.
3. ملحمة اليرموك: "الشيوخ والشباب في خندق واحد"
وصلنا إلى يوم "اليرموك"، اليوم الذي غير مجرى التاريخ. جيش الروم الجرار (240 ألفاً) يقف أمام 30 ألف مسلم. في هذا اليوم، لم يغب بنو أمية، بل كانوا في القلب.
الشيخ المحرض (أبو سفيان):تخيل هذا المشهد: أبو سفيان بن حرب، الشيخ السبعيني الذي قاد الجيوش ضد الإسلام بالأمس، يقف اليوم تحت راية ابنه يزيد، يطوف بين الكراديس (الكتائب) ويصرخ بصوته الجهوري الذي تهابه العرب:
"الله الله! إنكم ذادة العرب وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك.. اللهم هذا يوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك". كان وجوده بينهم، وهو شيخ قريش المطاع، يبعث في النفوس طمأنينة وثباتاً لا يوصف.
شهداء بني سعيد بن العاص:ومن القصص المنسية التي تدمي القلب فخراً، قصة "بني سعيد بن العاص" (فرع آخر من بني أمية). هؤلاء الإخوة الثلاثة (خالد، أبان، عمرو) كانوا ولاة للنبي ﷺ. وحين توفي، جاؤوا لأبي بكر وقالوا بلسان واحد: "لا نلي عملاً لأحد بعد رسول الله". تركوا المناصب والجاه، وخرجوا للجهاد في الشام طلباً للشهادة.يقول المؤرخون بعبارة تقشعر لها الأبدان: "ما فُتحت بالشام كورة (مدينة) ولا رفعت راية، إلا ووجدت عندها رجلاً من بني سعيد بن العاص صريعاً شهيداً". لقد سقوا أرض الشام بدمائهم الزكية.
4. في عهد الفاروق: صناعة "رجل الدولة" (معاوية بن أبي سفيان)
توفي الصديق، وجاء عمر بن الخطاب، الرجل الذي لا يخشى في الله لومة لائم، والمعروف بصرامته مع الولاة. لكن العجيب أن عمر، رغم شدته، هو الذي مكّن لبني أمية في الشام أكثر من غيره!
طاعون عمواس: الوراثة الاضطرارية
في سنة 18 هـ، اجتاح "طاعون عمواس" الشام، وكان سيفاً مسلطاً حصد أرواح القادة العظام: أمين الأمة أبو عبيدة، ومعاذ بن جبل، ثم والي الشام يزيد بن أبي سفيان.وصل النعي إلى عمر في المدينة، وكان يزيد حبيباً إلى قلبه. فمن يسد هذه الثغرة الخطيرة في وجه الروم؟ لم يجد عمر خيراً من أخيه "معاوية".أقره عمر على عمل أخيه، وجمع له ولايات الشام (دمشق والأردن)، لتبدأ حقبة جديدة. وحين عزى عمر أبا سفيان في ابنه يزيد، قال له مواسياً: "يا أمير المؤمنين، من وليت مكانه؟" قال عمر: "أخوه معاوية". فقال الأب المكلوم بفخر: "وصلت رحماً يا أمير المؤمنين".
"قيسارية": امتحان الكفاءة
أراد عمر أن يختبر معدن معاوية العسكري قبل أن يطلق يده، فأمره بفتح "قيسارية"، وهي قلعة ساحلية حصينة استعصت على الجيوش.حاصرها معاوية بجلد وصبر لا ينفد، وشن عليها الهجمات تلو الهجمات، حتى فتحها الله على يديه عنوة، وقتل من حاميتها الرومية مقتلة عظيمة (قيل مائة ألف)، وبعث بغنائمها إلى عمر. كان هذا الفتح بمثابة "شهادة الاعتماد" النهائية لمعاوية كقائد عسكري من الطراز الأول.
"كسرى العرب": الدهاء السياسي في مواجهة الزهد العمري
كانت العلاقة بين عمر (الزاهد المتقشف) و معاوية (الوالي ذو الأبهة) علاقة فريدة تقوم على "التكامل" وفهم طبيعة المرحلة.زار عمر الشام يوماً، فاستقبله معاوية في موكب مهيب: خيول مطهمة، وثياب فاخرة، وجند مدججون. نظر إليه عمر شزراً وقال مستنكراً: "أكسرى العرب يا معاوية؟!" (أي أتشبه ملوك الفرس؟).فأجابه معاوية بجواب السلاطين والدهاة:
"يا أمير المؤمنين، إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما يرهبهم ويكون عزاً للإسلام... فإن أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت".
5. استراتيجية "الصوائف والشواتي": هندسة الحرب الدائمة
لم يكن معاوية مجرد والٍ يجبي الضرائب، بل كان "مهندس حرب" استراتيجياً. في عهد عمر، ابتكر معاوية نظاماً عسكرياً صارماً عُرف بـ "الصوائف والشواتي".
الفلسفة: بدلاً من انتظار هجمات الروم، نقوم نحن بغزوهم بانتظام مرتين في السنة: حملة في الصيف (الصائفة) وأخرى في الشتاء (الشاتية).
الهدف: إبقاء العدو في حالة استنزاف ودفاع دائم داخل أراضيه، ومنعه من التفكير في استعادة الشام.قاد معاوية بنفسه حملات توغل فيها في عمق الأناضول حتى وصل "عمورية"، ومعه كبار الصحابة كعبادة بن الصامت وأبي أيوب الأنصاري، مما جعل الجبهة الشامية أصلب جبهات الدولة الإسلامية وأكثرها انضباطاً.
6. الحلم بـ "ركوب البحر": الطموح المؤجل
كان معاوية يمتلك رؤية استراتيجية بعيدة المدى. أدرك أن الروم لن يُهزموا تماماً إلا إذا كُسرت شوكتهم في البحر. ألح على عمر بن الخطاب مراراً أن يأذن له بغزو البحر، ويصف له قرب الروم من سواحل الشام قائلاً: "إن قرية من قرى حمص يسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم".لكن عمر، الذي كان يخشى على المسلمين من مخاطر البحر المجهولة، رفض بشدة وقال: "لا والذي بعث محمداً بالحق، لا أحمل فيه مسلماً أبداً". كتم معاوية طموحه، لكنه لم يتنازل عنه، وظل يجهّز لهذه اللحظة التي ستأتي لاحقاً في عهد عثمان.
و بعد ما انتهى عهد الفاروق عمر بن الخطاب، وقد أصبح بنو أمية، وعلى رأسهم معاوية، حكاماً فعليين لأهم وأخطر ولاية في الدولة الإسلامية (الشام).لم يكن هذا التمكين "محاباة" أو "صدفة"، بل كان استحقاقاً انتزعوه:
بدماء شهدائهم في اليمامة واليرموك (أبو حذيفة، وبني سعيد بن العاص).
بدهائهم السياسي وقدرتهم على إدارة الدولة وضبط الثغور (معاوية ويزيد).
بثقة الخلفاء الراشدين المطلقة في كفاءتهم وولائهم.
لقد تحولت "الشام" بفضل إدارتهم من مجرد "أرض مفتوحة" إلى "ترسانة عسكرية" وكتلة بشرية موحدة تدين بالولاء لهم، وهو ما سيلعب الدور الحاسم في الأحداث الجسام القادمة.
الفصل الخامس: ذروة التمكين وبذور العاصفة (الأمويون في خلافة ذي النورين)
في العام الثالث والعشرين للهجرة، بويع عثمان بن عفان بالخلافة، فدشن بذلك حقبة جديدة في تاريخ الإسلام، وحقبة ذهبية لنفوذ "بني أمية". لم يكن عثمان غريباً عن البيت الأموي، فهو واسطة العقد فيهم، لكنه كان في الوقت ذاته "ذا النورين"، الرجل الذي تستحي منه الملائكة.تحت عباءة خلافته، وصل الأمويون إلى أقصى درجات التمكين الإداري والعسكري، وتحولت الدولة الإسلامية إلى إمبراطورية عالمية تضرب في مشارق الأرض ومغاربها، لكن في زوايا هذا "الرخاء العظيم"، كانت الأفاعي تبدأ في الخروج من جحورها.
أولاً: "معاوية".. الملك غير المتوج في الشام
إذا كان عمر بن الخطاب قد منح معاوية الثقة، فإن عثمان بن عفان قد أطلق يده بالكامل. رأى عثمان أن جبهة الشام المتاخمة للروم تحتاج إلى "مركزية قوية"، فلا يصح أن تتشتت بين ولاة حمص ودمشق والأردن وفلسطين.فأصدر قراره التاريخي بجمع الشام كلها تحت ولاية رجل واحد: معاوية بن أبي سفيان .
تحول معاوية في هذه الحقبة من مجرد "والٍ" إلى "حاكم إقليمي" يمتلك صلاحيات واسعة. استطاع بحلمه ودهائه وكرمه أن يجعل أهل الشام كتلة واحدة، قلبها معلق به، وسيفها بيده. لم تكن الشام مجرد ولاية، بل أصبحت "القلعة الأموية" الحصينة التي ستلعب دور البطولة في الفصول القادمة.
ثانياً: تحقيق الحلم المستحيل.. "الأسطول الإسلامي"
ظل حلم "غزو البحر" يراود معاوية، وكان عمر بن الخطاب يرفضه خوفاً على المسلمين. فلما ولي عثمان، أعاد معاوية الإلحاح، وكتب له يصف قرب الروم وتهديدهم للسواحل.وافق عثمان أخيراً، ولكنه وضع شرطاً يكشف عن حرصه الشديد على أرواح جنوده: "لا تنتخب الناس ولا تقرع بينهم (لا تجبرهم)، بل خيّرهم، فمن اختار الغزو طائعاً فاحمله وأعنه" .
معركة "قبرص".. والوفاء بالنبوة
في سنة 28 هـ، شهد ميناء "عكا" مشهداً غير مسبوق. آلاف الصحابة والتابعين يركبون السفن لأول مرة، تقودهم همة معاوية.وفي هذه الحملة، تحققت نبوءة المصطفى ﷺ التي سمعتها "أم حرام بنت ملحان" (زوجة عبادة بن الصامت) حين بشرها بأنها ستكون مع أول جيش يركب البحر "ملوكاً على الأسرة". ركبت البحر، ونزلت قبرص، وهناك سقطت عن دابتها فماتت شهيدة، ودفنت هناك ليُعرف قبرها بـ "قبر المرأة الصالحة" .
فُتحت قبرص، وأذعن أهلها للجزية، وكسر الأمويون (بقيادة معاوية) حاجز الخوف من البحر، ليصبح "المتوسط" بحيرة إسلامية بعد أن كان بحيرة رومية.
ثالثاً: ولاة بني أمية.. بين الكفاءة وتهمة "المحاباة"
شهدت خلافة عثمان توسعاً هائلاً في الفتوحات، وكان قادة هذه الفتوحات وولاة الأمصار الكبرى غالباً من "بني أمية". وهنا بدأ اللغط: هل ولاهم عثمان لكفاءتهم أم لقرابتهم؟التاريخ المنصف يجيب بالأرقام والنتائج:
عبد الله بن سعد بن أبي السرح (والي مصر): هو أخو عثمان من الرضاعة. اتهمه الثوار لاحقاً، لكن هذا الرجل هو الذي فتح "إفريقية" (تونس)، وهو الذي قاد المسلمين في معركة "ذات الصواري" البحرية الخالدة التي دمرت أسطول الروم. لم يكن مجرد قريب، بل كان "داهية حرب".
عبد الله بن عامر (والي البصرة): ابن خال عثمان، وشاب في مقتبل العمر. ولاه عثمان البصرة، فانطلق منها كالسهم، وفتح "خراسان" و"كرمان" و"سجستان" حتى وصل إلى مشارف كابول. أضاف للإسلام مساحات تفوق مساحة الجزيرة العربية.
يقول المؤرخون منصفين: "لم يولِ عثمان أحداً إلا من استعمله النبي ﷺ قبله، أو كان كفؤاً، وقد أثبت هؤلاء الولاة جدارتهم بفتوحات لم يسبق لها مثيل" .
رابعاً: المجتمع يتغير.. ضريبة الرخاء
لكي نفهم كيف تجرأ الناس على قتل خليفتهم، يجب أن نلقي نظرة فاحصة على "خريطة المجتمع الإسلامي" في النصف الثاني من خلافة عثمان. لم تعد الدولة هي تلك الدولة البسيطة التي تركها عمر، بل تحولت إلى إمبراطورية مترامية الأطراف تغرق في الذهب، وتغلي بالتناقضات.
1. طوفان الرخاء: "المدينة" تتغير
بعد الفتوحات العظيمة في فارس والروم وإفريقية، تدفقت الأموال على المدينة المنورة كالأنهار. لم يعد المسلمون يتقاسمون التمرات، بل فاضت الأموال حتى بيعت الجارية بوزنها ذهباً، وامتلك الناس الضياع والقصور.أدرك عثمان بن عفان بحسه الإيماني خطورة هذا التحول، فكان يخطب في الناس محذراً: "إن الله إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها.. ولا تبطرنكم الفانية".لكن بريق الذهب كان خاطفاً. هذا الرخاء المفاجئ خلق طبقة جديدة من "المترفين"، وخلق في المقابل طبقة من "الحاقدين" الذين ينظرون إلى أيدي الأغنياء، مما هيأ الأرضية الخصبة لبذور الفتنة.
2. تحول "الصحابة": من الحصار إلى الأمصار
كانت سياسة عمر بن الخطاب تقتضي "حَبس" كبار الصحابة (المهاجرين والأنصار) في المدينة، لا يخرجون إلا بإذن، خوفاً عليهم من الدنيا وخوفاً من أن يفتتن الناس بهم.فلما جاء عثمان، كان ألين جانباً، فرأى التوسعة عليهم، وأذن لهم بالخروج إلى الأمصار (العراق، الشام، مصر) للإقامة والتجارة.
النتيجة كانت مزدوجة:
إيجابياً: انتشر علم الصحابة في الآفاق وعلموا الناس الدين.
سلبياً (وهذا الأخطر): امتلك بعض الصحابة ضياعاً وأموالاً ضخمة في العراق والشام، مما جعل "العامة" و"صغار الناس" يقارنون بينهم وبين عامة الشعب، وبدأت ألسنة السوء تهمس: "انظروا كيف يعيش أصحاب محمد"، مما كسر الهيبة الروحية في نفوس الغوغاء.
3. "الجيل الجديد": وقود النار
أخطر ما في هذه المرحلة هو ظهور "جيل جديد" لم يرَ النبي ﷺ، ولم يتربَ في مدرسة النبوة.
في الكوفة والبصرة، امتلأت المدن بـ "أخلاط الناس": فرس أسلموا حديثاً، وأعراب من البادية جاؤوا طمعاً في الغنائم، وموالي (عبيد محررين). هذا الخليط غير المتجانس لم يكن يربطه "رابط العقيدة العميق" بقدر ما تربطه المصالح والعصبية القبلية التي عادت للظهور بقوة.
يقول المؤرخون: "كان المجتمع مهيئاً للهزات، مستعداً للاضطراب، قابلاً لتلقي الإذاعات والأقاويل والشائعات".هؤلاء هم من سيُطلق عليهم لاحقاً لقب "القُرَّاء" (ليس لحفظهم القرآن، بل لتنسكهم الظاهري المتشدد)، وهم الذين سيصبحون خوارج فيما بعد.
خامسا : تشريح "أسباب الفتنة"
أ- توقف الفتوحات (الفراغ القاتل)
وصلت الفتوحات إلى حدود طبيعية صعبة (جبال طبرستان، وشمال إفريقيا)، فتوقفت الآلة العسكرية قليلاً.الجيوش التي اعتادت الغزو والغنيمة، جلست الآن في المعسكرات بلا عمل. الجنود (خاصة الأعراب) بدأوا يشعرون بالملل، وبدلاً من محاربة العدو، بدأوا يتحدثون في السياسة وينتقدون الولاة.أدرك عبد الله بن عامر (والي البصرة الأموي) هذه الكارثة، وقال لعثمان ناصحاً: "جَمِّرهم في المغازي (أي أشغلهم بالجهاد) حتى لا يكون هم أحدهم إلا دبر دابته"، لكن الوقت كان قد فات.
ب- استغلال ورع أبي ذر
ظهر نوع من "التدين المغلوط" الذي يحرم الحلال. استغل المحرضون زهد الصحابي أبي ذر الغفاري، الذي كان يرى أن كنز المال حرام، لضرب الأغنياء بالفقراء.في الشام، اختلف أبو ذر مع معاوية. معاوية يرى أن المال مال الله يؤتيه من يشاء، وأبو ذر يرى وجوب التصدق بكل ما زاد عن الحاجة.استدعى عثمان أبا ذر للمدينة، وحاول احتواءه، لكن أبا ذر اختار اعتزال الناس في "الربذة". ومع ذلك، استغلت المعارضة اسم "أبي ذر" كرمز للمظلومية ضد "الأمويين المترفين" .
ج- اليهودي الغامض "ابن سبأ"
وسط هذا الجو المشحون، ظهر عبد الله بن سبأ (ابن السوداء). يهودي من اليمن، أظهر الإسلام، وبدأ يطوف البلاد بخطة شيطانية محكمة:
العقيدة الفاسدة: بدأ يروج لفكرة "الوصية"، قائلاً: "لكل نبي وصي، وعلي هو وصي محمد، وعثمان غاصب لحقه".
التنظيم السري: أسس خلايا سرية في البصرة والكوفة ومصر، وجعلهم يكاتبون بعضهم البعض بالعيوب المختلقة للولاة، حتى ظن أهل كل مصر أنهم في بلاء عظيم.
شعار "الأمر بالمعروف": رفع شعاراً براقاً يخدع العوام، وهو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، ليبرر به الخروج على الخليفة.
سادسا : ولايات تغلي.. والخليفة الحليم
بدأت النار تشتعل في الأطراف:
في الكوفة: قام الغوغاء بطرد الوالي الأموي "سعيد بن العاص" ومنعوه من دخول المدينة، ونصبوا "أبا موسى الأشعري" مكانه رغماً عن أنف الخلافة. قبل عثمان ذلك حقناً للدماء .
في مصر: تجمع الناقمون حول "محمد بن أبي بكر" و "محمد بن أبي حذيفة" (ربيب عثمان الذي انقلب عليه)، وبدؤوا يجهزون للزحف إلى المدينة.
سابعا : المؤتمر الأخير عثمان يستشير ولاته
لما تفاقم الأمر، استدعى عثمان دهاة العرب وولاته الكبار: معاوية (والي الشام)، عمرو بن العاص (الداهية)، عبد الله بن سعد (والي مصر)، وسعيد بن العاص.
في هذا الاجتماع المغلق، ظهر الفرق بين "حلم عثمان" و"دهاء معاوية":
نصحه معاوية نصيحة الخبير: "يا أمير المؤمنين، انطلق معي إلى الشام، فإن أهلها على الطاعة، أو أبعث إليك جيشاً منهم يحميك".لكن عثمان، الخليفة الرقيق، رفض أن يترك جوار رسول الله، ورفض أن يضيق على أهل المدينة بجيش غريب، وقال كلمته التي ختمت مصيره: "حسبي الله ونعم الوكيل
عاد معاوية إلى الشام وهو يضرب كفاً بكف، عالماً أن الخليفة يسير إلى قدره المحتوم، وأن "عصر الكلمة" قد انتهى، وبدأ "عصر السيف".
الفصل السادس: الفتنة الكبرى ومصرع ذي النورين (الزلزال الذي شق صف الأمة)
في شوال من العام الخامس والثلاثين للهجرة، لم تكن القوافل التي تتجه صوب المدينة المنورة قوافل حجاج أو معتمرين كما زعموا، بل كانت "جيوش فتنة" تزحف لتغتال براءة الدولة الإسلامية الأولى.لم تكن هذه الجموع تمثل أهل الأمصار الحقيقيين؛ فأهل مصر والكوفة والبصرة كانوا في بيوتهم أو ثغورهم، براءً مما يحدث. إنما كان هؤلاء القادمون هم "غثاء الناس" و"نُزّاع القبائل"، تقودهم رؤوس شيطانية وتوجههم عقلية تآمرية فذة.
أولاً: وجوه الشر (قادة الانقلاب)
قبل أن نخطو نحو "يوم الدار" والدماء التي سالت، يجب أن نتوقف، كما طلبت، لنفكك "آلة الشر" التي صنعت هذا الحدث. نحن لسنا أمام "ثورة شعبية" عفوية كما يصورها البعض، بل أمام "نظيم سري" دقيق، استغل تغيرات ديموغرافية واجتماعية هائلة في العالم الإسلامي.
أولاً: مسرح الأحداث (ماذا حدث في الكوفة والبصرة ومصر؟)
لكي نفهم من هم هؤلاء، يجب أن نعرف "من أين جاءوا؟".في عهد عثمان، كانت الأمصار (الكوفة، البصرة، الفسطاط في مصر) قد تغيرت تماماً.
التركيبة السكانية: لم تعد هذه المدن معسكرات للجيش الفاتح فقط. يذكر المصدر أنها امتلأت بـ "أخلاط من الناس": فرس، وترك، وروم، وأقباط، وبربر، إلى جانب العرب.
لكن من هم وقود الفتنة؟ هل هم السكان الأصليون (المصريون أو الفرس)؟
الإجابة القاطعة هي: لا.السكان الأصليون لهذه البلاد كانوا غالباً منشغلين بحياتهم أو دخلوا الإسلام حديثاً وهم "موالي" يتبعون سادتهم.أما رؤوس الفتنة وجنودها فكانوا صنفاً محدداً من العرب يُطلق عليهم "نُزّاع القبائل" و "أهل المياه" و "غوغاء العرب". وهم مجموعات من الأعراب البدو الذين نزحوا من الصحراء إلى المدن الجديدة طمعاً في الغنائم والرواتب، ولم يتلقوا تربية إسلامية صحيحة، ولم يصحبوا النبي ﷺ، فبقيت فيهم "العصبية الجاهلية" والحدة البدوية، وهؤلاء هم الذين وجد فيهم "ابن سبأ" ضالته.
ثانياً: العقل المدبر (عبد الله بن سبأ "ابن السوداء")
هو "المهندس" الذي ربط خيوط اللعبة. يهودي من أهل صنعاء (اليمن)، تظاهر بالإسلام في زمن عثمان.
خطة العنكبوت: لم يستقر في مكان. بدأ رحلته في الحجاز، ثم انتقل إلى البصرة، ثم الكوفة، ثم الشام (حيث طرده معاوية فوراً)، فانتهى به المطاف في مصر، التي جعلها "غرفة عمليات" المؤامرة.
الأيدولوجيا السامة: لم يدعُ الناس للكفر، بل دخل عليهم من باب "حب آل البيت" و"العدالة". اخترع فكرتين زلزل بهما عقائد العوام:
الرجعة: قال: "عجباً لمن يصدق أن عيسى يرجع، ولا يصدق أن محمداً يرجع! فمحمد أحق بالرجوع".
الوصية (الضربة السياسية): قال: "لكل نبي وصي، وعلي هو وصي محمد، وعثمان غاصب لحقه.. فانهضوا في هذا الأمر وحركوه".
التكتيك: أسس شبكة مراسلات سرية. جعل أهل الكوفة يكتبون لأهل مصر بمساوئ واليهم، والعكس، حتى خُيل لكل مدينة أن الفساد قد عم الأرض، وأن الجهاد الحقيقي هو ضد "الخليفة".
ثالثاً: رؤوس الفتنة (أدوات الشيطان)
هؤلاء القادة لم يكونوا "علماء" ولا "صحابة"، بل كانوا زعماء قبليين طموحين، أو "قراء" (متنطعين في الدين) جهلة بمقاصد الشريعة.
1. الأشتر النخعي (مالك بن الحارث) - رأس فتنة الكوفة
هو الشخصية الأبرز والأخطر. زعيم قبلي يمني الأصل، سكن الكوفة. كان فارساً شجاعاً لكنه "موتور" (صاحب هوى سياسي).
قصته مع معاوية (الترويض الفاشل):عندما بدأ الأشتر ومجموعته (مثل كميل بن زياد وصعصعة بن صوحان) يثيرون الشغب في الكوفة، نفاهم الوالي "سعيد بن العاص" إلى الشام بأمر عثمان، لعل "معاوية" يستطيع تأديبهم.استقبلهم معاوية، وأكرمهم، وحاول مناظرتهم. قال لهم معاوية: "يا قوم، إن قريشاً عرفت لكم فضلكم.. وإن أئمتكم لكم جنة (حماية)".فرد عليه أحد خطبائهم (صعصعة) بوقاحة: "أما قريش فلم تكن أكثر العرب.. وأما الجنة فإذا اخترقت خلص إلينا".حاول معاوية نصحهم، وحذرهم من الشيطان، لكنهم وثبوا عليه في مجلسه وأخذوا بلحيته ورأسه! ،.
التأديب القاسي:أدرك معاوية أن هؤلاء لا ينفع معهم الحلم، فكتب لعثمان: "إنك بعثت إلي أقواماً يتكلمون بألسنة الشياطين". فأمر عثمان بإرسالهم إلى "عبد الرحمن بن خالد بن الوليد" في حمص.كان عبد الرحمن شديداً (ابن أبيه)، فكان يجمعهم ويقول: "يا آلة الشيطان! لا مرحباً بكم.. أنا ابن من عجمته العاجمات.. أنا ابن فاقئ الردة". أجبرهم على المشي ركاباً معه، وأذل كبرياءهم حتى أظهروا التوبة (نفاقاً) .لكن بمجرد أن عادوا للكوفة، عادوا لقيادة التمرد، وكان الأشتر هو الذي قاد الحشود لمنع والي الكوفة من دخولها، وهو الذي قاد وفد الكوفة لحصار عثمان.
2. الغافقي بن حرب (رأس فتنة مصر)
كان قائد الوفد المصري، الذي كان "الكتلة الأكبر" والأخطر، لأن "مصر" كانت مقر ابن سبأ.
من هو؟ رجل من قبائل العرب في مصر، تأثر بدعاية ابن سبأ بأن "الخلافة مغتصبة من علي".
دوره: هو الذي قاد الحصار الفعلي للمدينة. وعندما حوصر عثمان، كان الغافقي هو من يصلي بالناس في المسجد النبوي (تخيل الجرأة!)، فارضاً سلطة الأمر الواقع.
3. حرقوص بن زهير السعدي (رأس فتنة البصرة)
رجل من بني تميم، يمثل نموذج "الخوارج" قبل ظهورهم رسمياً.
خلفيته: هو من نوعية "القراء" الذين يظهرون التنسك الشديد، لكنهم يكفرون بالكبيرة ويستحلون الدماء. كان يقود وفد البصرة، وكانوا أقل الوفود عدداً لكنهم كانوا الأكثر تشدداً دينياً (بفهم مغلوط).
النهاية: هذا الرجل سيكون لاحقاً أحد قادة الخوارج الذين قاتلهم علي بن أبي طالب في "النهروان".
ثانياً: الحصار.. الخناق يضيق على "ذي النورين"
نزلت هذه الوفود حول المدينة، ثم دخلت شوارعها وفرضت طوقاً خانقاً حول "دار الخلافة".في البداية، كان الحصار "ناعماً"؛ يسمحون للخليفة بالخروج للصلاة. لكن سرعان ما كشرت الفتنة عن أنيابها.صعد عثمان المنبر يوماً ليعظهم، فقام إليه غوغاء الكوفة ومصر ورجموه بالحصباء حتى سقط مغشياً عليه من فوق المنبر، وحُمل إلى داره وهو لا يكاد يفيق.
عندها، أصدر قادة الفتنة الأمر الخطير: "امنعوا عنه الماء".يا له من مشهد يدمي القلب! عثمان، الذي اشترى "بئر رومة" بماله الخاص ليسقي المسلمين، يموت عطشاً في مدينته!أطل عثمان من فوق سطح داره ونادى بصوت واهن: "أفيكم علي؟ أفيكم طلحة؟ أفيكم الزبير؟ أليس فيكم من يسقينا ماء؟".تسلل علي بن أبي طالب وأم حبيبة (ابنة أبي سفيان وزوجة النبي ﷺ) بقراب الماء ليلاً، لكن المتمردين ضربوا وجه دابة أم حبيبة وكادوا يقتلونها، ومنعوا الماء عن بيت الخلافة ، ، .
ثالثاً: "لا أريق دماً بسببي".. عظمة الخليفة
رأى أبناء الصحابة أن الأمر قد جاوز كل الحدود. لبس شباب قريش دروعهم: الحسن بن علي، الحسين، عبد الله بن الزبير، محمد بن طلحة، ووقفوا بباب عثمان شاهرين سيوفهم، قائلين: "يا أمير المؤمنين، ائذن لنا في القتال، فإنهم قد استحلوا دمك" .
لكن عثمان، بروحانية عجيبة، رفض أن تتحول المدينة إلى ساحة حرب. أطل عليهم وقال كلمته الخالدة:
"أعزم على كل من لي عليه سمع وطاعة أن يغمد سيفه ويعود إلى بيته.. لا أكون أول من خلف رسول الله في أمته بسفك الدماء.. الله الله في دماء المسلمين".كان يرى الجنة تقترب، واختار أن يفدي وحدة الأمة بنفسه.
رابعاً: يوم الدار.. الفاجعة الكبرى (18 ذي الحجة 35 هـ)
في تلك الصبيحة المباركة، رأى عثمان في منامه رسول الله ﷺ ومعه أبو بكر وعمر، يقول له: "يا عثمان، أفطر عندنا الليلة".استيقظ فرحاً مستبشراً، أيقن أن موعد اللقاء قد حان. أعتق عشرين عبداً، ولبس سراويل لم يلبسها قط (استعداداً لستر عورته عند السقوط شهيداً)، وجلس يقرأ القرآن.
اقتحام الدار
شعر المتمردون أن جيوش الأمصار (من الشام ومصر) قد اقتربت لإنقاذ الخليفة، فقرروا الحسم. أحرقوا باب الدار، وتسوروا الجدران.دخل "محمد بن أبي بكر" (أخو عائشة، وكان شاباً غرر به السبئيون) على عثمان، وأخذ بلحيته البيضاء وهزه بعنف وقال: "ما أغنى عنك معاوية، وما أغنى عنك ابن عامر، وما أغنى عنك كتابك!".فنظر إليه عثمان نظرة الأب المشفق وقال بصوت هادئ:
"يا ابن أخي.. أرسل لحيتي، فوالله لو رآك أبوك (أبو بكر الصديق) لساءه مكانك مني".تزلزل الشاب، وارتعدت فرائصه، وترك اللحية وخرج نادماً باكياً. لكن "شياطين الفتنة" لم يتراجعوا ،.
دخل "سودان بن حمران" (الموت الأسود) ومعه آخرون. ضرب أحدهم عثمان على رأسه، ثم طعنه آخر بالسيف.انكبت زوجته الوفية "نائلة بنت الفرافصة" تحميه، فتلقّت السيف بيدها، فقطع المجرمون أصابعها.ثم توالت الطعنات على جسد الشيخ الثمانيني وهو صائم يتلو القرآن. وسالت الدماء الزكية لتسقط أول قطرة منها على قول الله تعالى في المصحف المفتوح:
فاضت روحه الطاهرة، ولم يكتفِ المجرمون بذلك، بل نهبوا بيت الخلافة، وحاولوا قطع رأس الخليفة لولا صراخ النساء، ثم منعوا دفنه لثلاثة أيام حتى دُفن سراً بليل في "حش كوكب" ، .
خامساً: صرخة الثأر من دمشق
انتشر الخبر كالصاروخ في العالم الإسلامي. زلزال نفسي ضرب الأمة؛ الخليفة يُذبح في حرم الرسول!في المدينة، ساد الرعب، وبايع الناس علي بن أبي طالب تحت أسنة سيوف المتمردين الذين كانوا يسيطرون على الشوارع.
لكن المشهد الأخطر كان في الشام.وصل "النعمان بن بشير" (الصحابي الأنصاري) إلى دمشق، ودخل على معاوية بن أبي سفيان وهو يحمل "الأمانة الدامية":
قميص عثمان: المضمخ بدمائه الزكية.
أصابع نائلة: مقطوعة ومعلقة في القميص.
صعد معاوية المنبر، وعلق القميص والأصابع أمام جموع أهل الشام. لم يتكلم بكلمة، بل ترك المشهد يتحدث.انفجر المسجد بالبكاء والعويل. ضج الناس بالصراخ. تحول الحزن إلى غضب عارم، والغضب إلى "عقيدة قتالية".قام أهل الشام وقفة رجل واحد، وأقسموا أغلظ الأيمان:
"لا نمس النساء، ولا ننام على الفرش، ولا نغتسل من جنابة، حتى نقتل قتلة عثمان أو تفنى أرواحنا".
أرسل الخليفة الجديد علي بن أبي طالب يطلب البيعة من معاوية والولاة. استجاب الجميع إلا معاوية.لم يرفض معاوية البيعة طمعاً في الخلافة (في هذه اللحظة)، ولا إنكاراً لفضل علي، ولكنه رفع شعاراً واحداً لا حياد عنه: "القصاص أولاً".كان منطقه: "يا علي، أنت الخليفة، والقتلة موجودون في جيشك وتحت حمايتك (يقصد المتمردين الذين بايعوا علياً)، سَلِّمنا القتلة لنقيم عليهم الحد، ثم نبايعك. أما أن نبايع والسيوف التي قطرت من دم عثمان ما زالت مشهرة، فهذا لا يكون".
رأى علي أن الدولة في حالة فوضى، وأن المصلحة تقتضي استقرار الأمر أولاً ثم القصاص، ورأى معاوية أن دم الخليفة ليس رخيصاً ليؤجل.وهكذا.. اصطدم "اجتهاد العدالة الفورية" (معاوية) بـ "اجتهاد المصلحة السياسية" (علي) ،
بهذا المشهد الدامي والمحتقن، يُسدل الستار على الجزء الأول من حكاية بني أمية.لقد بدأوا سادة في الجاهلية، ثم أصبحوا قادة وولاة في الإسلام، وها هم اليوم يتحولون إلى "حزب الثأر"، يملكون أقوى جيش في الإسلام (جيش الشام)، ويقودهم أدهى دهاة العرب (معاوية)، في مواجهة شرعية الخليفة الرابع (علي بن أبي طالب).
لم يكن أبو سفيان، زعيم البيت الأموي، رجلاً انفعالياً كأبي جهل. كان عداؤه للإسلام "سياسياً وعسكرياً" من الطراز الأول. قاد المعارضة الاقتصادية (الحصار)، ثم قاد الجيوش (أحد والخندق). كان يرى في الإسلام تهديداً لتجارة قريش ومكانتها بين العرب.ومع ذلك، كان في أعماقه صوت خفي يخبره بأن هذا الأمر سيعلو. ولعل موقفه مع "هرقل" عظيم الروم، حين سأله هرقل عن النبي ﷺ، فأجابه أبو سفيان (وهو كافر يومها) بإجابات صادقة دلت على عظمة النبي، يكشف لنا عن شخصية عدو "يحترم خصمه" في قرارة نفسه.