عندما انقلب التاريخ: حكاية تحوّل إيران من العمق السُني للخلافة إلى بؤرة التشيع الكونية.

إنضم
7 مارس 2022
المشاركات
16,028
التفاعل
23,712 481 13
الدولة
Egypt
بسم الله الرحمن الرحيم


تصوّر خريطة الشرق الأوسط اليوم، ستجد في قلبها قوة جيوسياسية لا يمكن تجاهلها: الجمهورية الإسلامية الإيرانية. هي القاطرة التي تقود ما يُعرف إعلاميًا بـ"محور المقاومة"، والرأس المدبِّر لأيديولوجيا التشيع السياسي العابر للحدود. إنها القلعة الكونية للتشيع، التي يمتد نفوذها الروحي والمادي من بيروت إلى صنعاء، ويتشابك مع عواصم المنطقة.
لكن ماذا لو قيل لك إن هذه القوة، هذه القلعة الشيعية الحصينة، لم تكن سوى عمقًا سُنّيًا أصيلًا للخلافة الإسلامية على مدى تسعة قرون متواصلة؟ ماذا لو علمت أن موطن أهم علماء الحديث السُنّي، ومربط خيل الإمبراطوريات التي حكمت بغداد ودمشق، قد استيقظ ذات صباح ليجد هويته المذهبية قد انقلبت رأسًا على عقب؟
هنا، في بلاد فارس العظيمة، وقع التحوّل الأيديولوجي الأضخم في تاريخ الإسلام الحديث. لم يكن مجرد تغيير في الحكم، بل زلزال ثقافي غير وجه أمة بأكملها، وحوّل خريطة العالم الإسلامي إلى الأبد. إنها قصة تخلّي أمة عن هويتها الدينية القديمة، وتبنيها لمذهب جديد بحد السيف تارة وبالإقناع تارة أخرى.
سنغوص في هذه الرحلة المذهلة لكشف سر "نقطة اللاعودة" الإيرانية. سنعود إلى ما قبل الإسلام لنرى الجذور، ثم نشهد لحظة دخول الفاتحين، ونتتبع خطى السلاطين والأئمة، حتى نصل إلى اللحظة التاريخية التي وقف فيها الشاه إسماعيل الصفوي في تبريز، وأعلن أن إيران أمة شيعية، ليس طواعية في البداية، بل بقوة جبروت الإمبراطورية.
هذه ليست مجرد قصة تاريخية، بل هي مفتاح لفهم الصراعات والتحالفات التي تحكم شرقنا اليوم. فلنبدأ من حيث بدأ كل شيء... من نار المجوس قبل دخول الفاتحين.


1761315706613.png




 

الجزء الأول: أرض السحر والنار.. فارس قبل الإسلام​



1. الإرث العميق: أرض الملوك والآلهة​


قبل أن تدق طبول الفتح الإسلامي أبوابها في القرن السابع الميلادي، كانت المنطقة التي نعرفها اليوم باسم "إيران" – والتي كانت تُعرف آنذاك باسم "فارس" أو "إيرانشهر" – تُشكّل مركز ثقل حضاري لا يضاهى في العالم القديم. لم تكن مجرد أرض، بل إمبراطورية عمرها قرون، تنافس روما وبيزنطة على زعامة العالم، وتمتد سيطرتها من حدود الصين شرقاً إلى بلاد الشام غرباً.
أما عن الخلفية الدينية، فلم تكن فارس تعرف الإسلام ولا المسيحية كدينين سائدين. كانت هويتها متجذرة في ديانة قديمة ذات نظام ديني معقَّد ومركزية دنيوية: الزرادشتية.

1761316069261.png

الإمبراطورية الساسانية في اقسي اتساع لها




الزرادشتية: مذهب الخير والشر والعقائد الشيعية البدائية؟​


تصوّر أرضًا يحكمها مفهوم مطلق للثنائية الكونية: صراع أبدي بين الإله الأوحد "أهورامزدا" (الخير والنور) وخصمه "أهريمان" (الشر والظلام). هذه هي الزرادشتية، ديانة الفرس الرسمية. كانت عبارة عن مذهب أخلاقي وفلسفي، يركز على الطهارة، الحق، العمل الصالح، ومحاربة قوى الظلام، وكان النار هو رمز التطهير والوجود الإلهي، لا إلهًا يُعبَد بذاته.

لقد كانت هذه الديانة جزءًا لا يتجزأ من الدولة الساسانية القوية (224 – 651 م)، حيث كان المُوبذان (رجال الدين الزرادشتيون) يتمتعون بنفوذ واسع، ويشكلون طبقة قوية تضمن تماسك الإمبراطورية. لم تكن الزرادشتية مجرد مجموعة من الطقوس، بل نظام حياة متكامل، يمتد تأثيره إلى السياسة والاقتصاد وحتى العادات اليومية.

يصف المؤرخ آرثر كريستنسن، في عمله "إيران تحت حكم الساسانيين"، كيف كانت الكنيسة الزرادشتية منظمة بشكل هرمي صارم، حيث "كانت الدولة والدين توأمين لا ينفصلان، وقد سعت كل منهما إلى تعزيز الأخرى"، مما يعكس مركزية الدين في الهوية القومية الفارسية وارتباطه الوثيق بالسلطة. هذا الارتباط بين الدين والدولة سيصبح لاحقاً سمة مميزة لإيران الشيعية الصفوية.

من المثير للاهتمام أن بعض الباحثين يرون في الزرادشتية بذورًا لعقائد ستظهر لاحقًا في التشيع. فالزرادشتية تؤمن بفكرة "المنقذ" الذي سيظهر في آخر الزمان ليحارب الشر ويقيم العدل (ساوشيانت)، وهي فكرة تجد صداها في عقيدة الإمام المهدي المنتظر عند الشيعة. كما أن تقديس الأنساب والطبقية الدينية في الزرادشتية قد يكون قد مهد لتقبل فكرة الأئمة من آل البيت وذريتهم.

1761316279897.png

2. العرق والثقافة: الهوية الفارسية الصارمة والطبقية المتجذرة​


على الصعيد العرقي والثقافي، كان الإحساس بالهوية الفارسية متمحورًا حول فكرة "إيرانشهر" (أرض الإيرانيين)، وهي مفهوم عرقي ولغوي قبل أن يكون سياسيًا. كانت اللغة البهلوية (الفارسية الوسطى) هي لغة الدولة والثقافة، وكانت هناك طبقية صارمة في المجتمع، متأثرة بالمفاهيم الزرادشتية نفسها. كان المجتمع مقسمًا إلى طبقات وراثية:
  • الكاهنة (الموبذان): رجال الدين.
  • المقاتلون (أرتشتاران): الفرسان والجيش.
  • الكتّاب (دبيران): المسؤولون والإداريون.
  • عامة الشعب (واستريوشان وهوتوخشان): الفلاحون والحرفيون.
لم تكن فارس مجرد إمبراطورية عسكرية، بل مركز ثقافي عالمي حافظ على تقاليده وعاداته بدقة متناهية، ولم يستمد الكثير من الثقافات المجاورة. هذه العزلة النسبية، مقرونة بالاعتزاز الشديد بتاريخها ولغتها (التي تميزت بوجود أبجدية خاصة)، ساهمت في صقل هوية فارسية شديدة الاعتداد بنفسها. هذا الاعتداد، وهذا الشعور بالتفوق الحضاري، سيجعل عملية دمج الفرس في الخلافة العربية الإسلامية لاحقاً عملية معقدة وطويلة، حيث رفضوا الذوبان الكامل في بوتقة الثقافة العربية.
: يذكر اليعقوبي في تاريخه، أن الفرس كانوا "أهل تيجان وعظائم"، وأنهم "مُلكُ الدنيا ومُحكَمُها"، مما يعكس النظرة الفارسية الذاتية لمكانتهم الحضارية قبل الإسلام.

1761316587920.png

3. الجيران والأقليات: بذرة التنافر والاضطهاد​


على الرغم من هيمنة الزرادشتية واللغة الفارسية، كانت الإمبراطورية تضم أقليات دينية وعرقية هامة، لاسيما في الأطراف الغربية والشمالية، مثل:

  • اليهود والنصارى: الذين كانوا يعيشون تحت حكم الساسانيين، وغالباً ما تعرضوا لضغوط واضطهاد، خاصة في أوقات التوتر مع الإمبراطورية البيزنطية المسيحية. كان وجودهم، وإن كان مهمشاً، يمثل شروخاً في الوحدة الدينية الزرادشتية.
  • المذاهب المتمردة: مثل المانوية والمزدكية. المانوية، التي جمعت بين عناصر من الزرادشتية والمسيحية والبوذية، والمزدكية، التي دعت إلى المساواة الاجتماعية وتقاسم الثروات، ظهرتا كحركات اجتماعية ودينية مناهضة للنظام الطبقي الزرادشتي الصارم. ورغم قمعها بوحشية، إلا أنها كانت دليلًا على وجود بذور للانشقاق الديني والاجتماعي وعدم الرضا عن الهيمنة الزرادشتية الرسمية والنظام الطبقي القائم. هذه الحركات يمكن أن تُفسر كـ "أرض خصبة" لتقبل أفكار دينية جديدة تعد بالعدالة والمساواة، وهو ما ستقدمه بعض أشكال التشيع لاحقاً.
عندما وصل الفتح الإسلامي، لم يكن يصل إلى أرض فارغة روحيًا أو خالية من التعقيدات الاجتماعية. بل وصل إلى إمبراطورية منهكة من صراعاتها الطويلة مع بيزنطة، لكنها متشبعة بهوية دينية وقومية صارمة وراسخة، ومحملة بتناقضات داخلية كامنة. هذا التباين بين الإرث الفارسي الضخم والدين الجديد الآتي من الصحراء هو ما سيشكل المرحلة التالية من حكايتنا، وكيف أن هذه الأرض "المحروقة" دينياً واجتماعياً قد تكون أكثر استعداداً للتحولات الجذرية مما تبدو عليه.

في الجزء القادم، سنرى كيف أطاحت الخيول العربية بهذه القلعة الزرادشتية، وكيف تعاملت الثقافة الفارسية مع الإسلام: هل ذابت أم قامت بصبغه بصبغتها الخاصة؟ وهل كان للتحولات العرقية والثقافية دور في تهيئة التربة لظهور مذهب مختلف؟
 

الجزء الثاني: الإسلام يغزو بلاد فارس.. وبذور التحدي تُزرع​



1. صدمة السقوط: انهيار "إيرانشهر" والفتح العظيم​


تخيل فارس، الإمبراطورية العريقة التي لطالما رأت نفسها محور العالم، تُحطم أركانها على يد جيوش أتت من صحراء العرب. لم يكن الأمر مجرد سقوط مملكة، بل كان صدمة وجودية أذهلت الفرس. بعد قرون من الصراع المرير مع الرومان والبيزنطيين الذي استنزف خزائن وطاقات الساسانيين، جاءت الجيوش الإسلامية تحمل لواء دين جديد وعقيدة متوقدة.

في عام 636م، وقعت معركة القادسية، حيث اصطدم جيش الفرس الضخم بقيادة رستم فرخزاد بالمسلمين. كانت الموقعة ملحمة دموية حسمت مصير العراق. لم يمضِ وقت طويل حتى جاءت نهاوند في عام 642م، والتي وصفها المسلمون بـ"فتح الفتوح". هناك، سُحقت آخر مقاومة منظمة للجيش الساساني، وتُركت بلاد فارس مكشوفة أمام الفاتحين.

يروي ابن الأثير في "الكامل في التاريخ" عن القادسية ونهاوند أن "فتح الفتوح كانت نهاوند، فإنه لم يقم للفرس بعدها قائمة"، مما يبرز الدمار العسكري والسياسي الذي لحق بهم. وحتى من المنظور الفارسي، فإن سقوط يزدجرد الثالث (آخر الأكاسرة الساسانيين) وقتله المتخفي، كان نهاية مأساوية لعصر ذهبي.

هذا الانهيار العسكري السريع لم يكن يعني قبولًا فوريًا. لقد قاوم الفرس بشراسة في مناطق مثل طبرستان وخراسان وسيستان لقرون تالية، لكن المد الإسلامي كان لا يُقهر. كانت النهاية الحتمية لإمبراطورية عمرها ألف عام، تاركة فراغًا سياسيًا ودينيًا عظيمًا.
1761317148597.png

2. إسلام الفرس: الجزية، الجاذبية، وبقايا المقاومة​


بعد الفتح، لم تُصبح فارس مسلمة بين عشية وضحاها. لقد كانت عملية طويلة ومعقدة استغرقت قرونًا، وتمت عبر عوامل متعددة تداخلت فيها الجاذبية الروحية مع الضغوط المادية:.
  • جاذبية الإسلام الأخلاقية والاجتماعية: قدم الإسلام مفهومًا للتوحيد أبسط وأكثر وضوحًا من تعقيدات الزرادشتية المتأخرة، خاصة بعد اضمحلال سلطة الموبذان. والأهم من ذلك، أن الإسلام طرح مبدأ المساواة بين الناس - على الأقل نظريًا - بغض النظر عن العرق أو الطبقة. بالنسبة للطبقات الدنيا التي كانت ترزح تحت نظام طبقي زرادشتي صارم (كهنة، محاربون، كتاب، عامة)، كانت هذه الدعوة إلى المساواة جذابة للغاية.
اقتباس تاريخي: يرى المستشرق إدوارد براون في "تاريخ الأدب الفارسي" أن "انتشار الإسلام بين الفرس لم يكن سببه قوة السيف وحدها، بل جاذبيته العقلانية وبساطته، ومقدرته على تقديم حلول اجتماعية لمشكلات الطبقات الدنيا."
  • فشل الزرادشتية في التكيف: بعد انهيار الدولة الساسانية، فقدت الزرادشتية دعمها الرسمي، وتراجع نفوذ الموبذان. أصبحت مجرد ديانة لأقلية صغيرة. لم تستطع الزرادشتية أن تصمد أمام الدين الجديد الذي جاء بقوة عسكرية وسياسية واجتماعية جديدة.
  • ثقل الجزية والخراج: كان لغير المسلمين في الدولة الإسلامية دفع الجزية (ضريبة شخصية) والخراج (ضريبة على الأرض الزراعية). بالنسبة لكثير من الفرس، خاصة الفلاحين والطبقات الدنيا المنهكة من الضرائب الساسانية الباهظة، كان اعتناق الإسلام يعني التحرر من هذه الأعباء أو تخفيفها بشكل كبير. هذا الحافز المادي كان عاملًا لا يمكن إنكاره في التحول الجماعي
لكن يجب ألا نُهمل أن عملية اعتناق الإسلام كانت بطيئة. ظلت هناك جيوب زرادشتية قوية، وظلت ثورات محلية تندلع باسم الزرادشتية في بعض المناطق حتى القرون اللاحقة، مثل ثورة المقنع الخراساني في القرن الثامن الميلادي. هذا يدل على أن التحول لم يكن سلسًا أو خاليًا من المقاومة.

3. الصراع على الهوية: "الشعوبية" والروح الفارسية التي لا تموت​


هنا تكمن النقطة المحورية في القصة. لم تكن فارس أرضًا خاوية ثقافيًا، بل كانت لها حضارة عريقة متجذرة. لم يأتِ الإسلام ليمحو هذه الهوية، بل حدث تفاعل معقد أوجد ما يمكن تسميته بـ "الإسلام الفارسي":
  • العربية لغة الدين والإدارة: فرض الفاتحون لغتهم كلغة للدين والإدارة والقضاء. أصبحت اللغة العربية مفتاحًا للعلم والوظائف الرفيعة. تعلم الفرس العربية، وبرعوا فيها، وأنتجوا بها مؤلفات عظيمة.
  • اللغة الفارسية لا تموت: على الرغم من هيمنة العربية، رفض الفرس التخلي عن لغتهم الأم. لقد تطورت الفارسية، واستعارت آلاف الكلمات من العربية، ولكنها حافظت على تركيبتها النحوية وروحها. لم تكن مجرد لهجة، بل لغة حضارة.
  • "الشعوبية": صوت المقاومة الثقافية: في القرون الأولى للإسلام، ظهرت حركة فكرية وسياسية قوية عرفت باسم "الشعوبية". هذه الحركة لم تكن معادية للإسلام نفسه، بل كانت ترفض فكرة التفوق العرقي للعرب على غيرهم. لقد كان الشعوبيون – وغالبيتهم من الفرس – يدافعون عن كرامة العرق الفارسي وتاريخه العظيم وثقافته الغنية، ويُبرزون إنجازات الفرس في مقابل بعض العادات البدوية للعرب. كان الشعوبيون يُقدّمون الفرس على أنهم "أهل الكتابة والصناعة والمروءة"، بينما يُشيرون إلى عيوب من يرونهم مُنحطين.
يُنسب إلى ابن المقفع (الذي كان فارسي الأصل) أحد أبرز رموز هذه الفترة، قوله: "إذا قيل لك من أزكى الناس؟ فقل: الفرس، فإنهم لم يجدوا طعامًا إلا أطابوه، ولا عيشًا إلا أترفوه، ولا دينًا إلا أكملوه، ولا ملكًا إلا حسنوه". هذه العبارة، سواء كانت له أم لا، تُجسّد الروح الشعوبية التي كانت تهدف إلى تأكيد سمو الثقافة الفارسية. كما أن مؤلفين مثل الجاحظ كتبوا عن الشعوبية في عصره، مُبرزين مدى تأثيرها.
  • الاندماج أم الانصهار؟: لم تكن هناك عملية "انصهار" كاملة. بدلاً من ذلك، حدث "اندماج" خلّاق. الفرس اعتنقوا الإسلام، لكنهم أدخلوه في وعائهم الثقافي الخاص. المدن الفارسية مثل نيسابور، مرو، بخارى، وسمرقند أصبحت مراكز للعلم والفن الإسلامي، لكن بروح فارسية مميزة في الهندسة المعمارية والخط والأدب.

1761317692784.png

هذا التفاعل، هذا المزج المعقد بين الدين الجديد والثقافة القديمة العريقة، أوجد بيئة فريدة من نوعها. بيئة لم تكن راضية تمامًا عن الواقع السياسي الذي فرضته الخلافة العربية، وقد تكون هذه "الروح الشعوبية" ورفض الذوبان الكامل، هي ما جعل فارس أرضًا خصبة لتقبل أفكار دينية وسياسية بديلة عن الخط الرسمي للخلافة السُنية، فإذا لم تستطع الثقافة الفارسية مقاومة الدين الجديد، فربما تستطيع أن تُعيد صياغته بما يتناسب مع هويتها المتفردة.
 

الجزء الثالث: دوامات الخلافة.. فارس تحت مطارق التغيير.. وبذور التشيع تُروى​


رحلتنا في تاريخ فارس تقودنا الآن إلى مرحلة شديدة التعقيد والحساسية، حيث تتشابك السياسة بالدين، والصراع العرقي بالمذهبي، لتُمهّد كلها لتحوّل تاريخي لم يكن ليُصدق حينها.

1. فارس في فجر الإسلام: الفتح والفتنة (عصر الراشدين: 632 - 661 م)


مع سقوط الساسانيين، فتحت فارس ذراعيها (ولو كرهًا في البداية) أمام الفاتحين الجدد. في عصر الخلفاء الراشدين، كانت السياسة تجاه الفرس تتميز بـ:
  • الفتح والتعمير: انصبّ اهتمام المسلمين الأوائل على إخضاع الأقاليم وتثبيت الحكم، وإنشاء مدن عسكرية (أمصار) كالبصرة والكوفة على أطراف فارس، لتكون قواعد للجيوش ولجذب السكان.
  • الإسلام لا التعريب القسري: لم يكن هناك ضغط منهجي لتعريب الفرس، بل تركز على نشر الإسلام. بقي الفرس يتحدثون لغتهم، وتمتعوا بحرية نسبية في إدارة شؤونهم الداخلية، بشرط دفع الجزية والخراج.
  • ظهور التشيع في قلب الفتنة: كانت فارس لا تزال تستوعب الإسلام عندما عصفت الفتنة الكبرى بالعالم الإسلامي، وانقسم المسلمون بين أنصار علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) ومعارضيه. هنا، بدأت بذرة التشيع بالتشكل في العراق، مع فئة آمنت بأحقية علي وأهل بيته بالخلافة. ومع نهاية عهد الراشدين، وتحديداً بعد مقتل علي، ومعارضة معاوية لبيعة الحسن (رضي الله عنه)، بدأت الأفكار الشيعية تتسرب إلى أطراف فارس، خاصة في المناطق القريبة من الكوفة، حيث كان التشيع المبكر يجد موطئ قدم.
يذكر المؤرخ حسين مروة في "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" أن التشيع في بداياته لم يكن مجرد عقيدة دينية، بل "كان أيضًا تعبيرًا عن معارضة سياسية للنظام القائم، وجاذبية للطبقات المحرومة أو المهمشة في المجتمع الإسلامي". هذه الجاذبية كانت ستجد صدى في بعض الأوساط الفارسية.

2. حكم الأمويين: الاستعلاء العربي وتغلغل التشيع (661 - 750 م)


بعد تسلّم معاوية بن أبي سفيان الخلافة، تحول نظام الحكم إلى ملك عضوض، وقامت الدولة الأموية في دمشق. هنا، تغيرت سياسة الحكم في فارس بشكل جذري:
  • التميز العربي الصارخ: اتبع الأمويون سياسة "العرب أولًا" بشكل صريح. الفرس، أو "الموالي" كما سُموا، كانوا يُعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية. حُرموا من التوظيف في المناصب العليا، ودفعوا ضرائب أثقل، بل وحتى فُرض عليهم أن يرافقوا الجيوش في الحملات دون أن يُعطوا نصيبًا كافيًا من الغنائم أحيانًا. كان هذا بمثابة إهانة لكرامة شعب له تاريخ عظيم.
  • التغلغل العرقي العربي: مع استيطان القبائل العربية في الأمصار الجديدة (الكوفة، البصرة، مرو، نيسابور)، حدث تغلغل عرقي عربي في فارس. لكن هذا التغلغل لم يكن يعني ذوبانًا للفرس، بل أضاف طبقة جديدة من الحكام، مما زاد من الشعور بالغبن لدى النخب الفارسية.
  • الفرس والتشيع: تحالف المظلومين: كانت سياسة الأمويين هذه بمثابة "الهدية الثمينة" للدعوة الشيعية. شعر الفرس بالظلم والاستياء من الحكم الأموي الذي اعتبروه غير شرعي وغير عادل. في المقابل، قدم التشيع في صورته المبكرة (الزيدية والكيسانية) دعوة إلى العدل، ومقاومة الظلم، وتفضيل آل البيت. وجدت هذه الدعوة صدى عميقًا لدى الفرس الذين كانوا يبحثون عن مخرج لظلمهم.
يقول برنارد لويس في "العرب في التاريخ": "في خراسان، على وجه الخصوص، وجدت الحركات الشيعية والمُعارضة للأمويين أرضًا خصبة للغاية، ليس فقط لأسباب دينية، بل أيضًا لأنها جسدت رفضًا قويًا للهيمنة العربية الأموية."
أصبحت خراسان – لِبعدها عن دمشق وتعدد أعراقها وتأثرها بالدعوة العلوية – المعقل الرئيسي للثورات المناهضة للأمويين، حيث التقى السخط الفارسي العرقي (الشعوبية) مع السخط الديني الشيعي.

1761318780188.png

3. العصر العباسي: المجد الفارسي.. ثم التراجع (750 - 1258 م)


صناعة الخلافة بدم فارسي: كان سقوط الأمويين على يد الثورة العباسية في عام 750 م مدينًا بشكل كبير للفرس. قادت هذه الثورة من خراسان شخصيات فارسية مثل أبو مسلم الخراساني، وشكل "الموالي" الفرس جيوشها الرئيسية. لقد رفع العباسيون شعار "الرضا من آل محمد" لجذب الفرس والشيعة، الذين رأوا فيهم أملًا في العدل والإنصاف.

  • فارس تسحب البساط: بعد قيام الدولة العباسية، انتقلت عاصمة الخلافة إلى بغداد (مدينة علي ارض ساسانية قديمة)، وأصبح العنصر الفارسي هو المهيمن على الإدارة والوزارات والبلاط. عائلة البرامكة الفارسية (من أصل زرادشتي متحول للإسلام) هيمنت على مفاصل الدولة في عهد هارون الرشيد. الفرس هم من نظموا الدواوين، وقادوا الجيوش، وشكلوا النخبة الثقافية. كان هذا بمثابة "انتقام ثقافي" للفرس، حيث أظهروا تفوقهم الإداري والعلمي على العرب.
ايقول جورج سارتون في "مقدمة لتاريخ العلم": "لم يكن العصر العباسي عصرًا عربيًا صرفًا، بل كان مزيجًا فريدًا من العبقرية العربية في الدين واللغة، والعبقرية الفارسية في الإدارة والعلوم والآداب، والتي مكنت من قيام حضارة إسلامية عالمية."
  • ازدهار الثقافة الفارسية الإسلامية ونضوج السُنية: في هذه الفترة، تبلورت اللغة الفارسية الحديثة، وظهرت أعمال أدبية وفكرية عظيمة. وفي الوقت نفسه، شهد العصر العباسي نضوج المذاهب الفقهية السُنية الأربعة، وأصبح معظم الفرس على المذهب السُني، وخاصة الحنفي والشافعي. فارس أنتجت كبار أئمة السُنة مثل البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم، الذين وضعوا أسس علم الحديث. كانت هذه الفترة هي ذروة النفوذ السُني في فارس.
  • فقدان النفوذ الفارسي وتزايد الشيعة: لم يدم النفوذ الفارسي المطلق طويلًا. بدأ الخلفاء العباسيون في الاعتماد على العنصر التركي (الغلمان المماليك) لحفظ توازن القوى، مما أدى إلى تراجع نفوذ الفرس تدريجيًا. وفي ظل هذا التراجع، ومع استمرار الاضطهاد السياسي للشيعة (وإن كان أقل حدة مما كان في العصر الأموي)، ظل التشيع يتمدد سرًا في المدن الفارسية، متخفيًا أحيانًا، وظهر في صورة دعوات سرية.
1761318888813.png

4. دول الاستقلال الفارسية: تمهيد الطريق للتحول



مع ضعف الخلافة العباسية تدريجيًا، بدأ سلاطين وولاة محليون، بعضهم فارسي الأصل، بتأسيس دول مستقلة أو شبه مستقلة في بلاد فارس. هذه الدول، التي حافظت على الولاء الاسمي للخلافة، لكنها حكمت فعليًا بشكل مستقل، كانت حاسمة في تشكيل مستقبل فارس الديني والثقافي، فكل منها تركت بصمة لا تُمحى:

الطاهريون (821-873 م): حراس خراسان السُنية:
تأسست على يد طاهر بن الحسين، وهو قائد عسكري فارسي من خراسان، كافأه الخليفة المأمون بحكم خراسان بعد دوره في الثورة العباسية. استقلت فعليًا عن بغداد مع بقاء الولاء الشكلي. سقطت على يد الصفاريين, و كانوا من أوائل من أحيوا الحكم الفارسي الذاتي بعد قرون من السيطرة العربية المباشرة. رغم أنهم لم يكونوا دعاة للغة الفارسية بنفس قوة من أتى بعدهم، إلا أنهم كانوا يمثلون استعادة لبعض النفوذ الفارسي, و لقد كانوا سُنة المذهب، وقد ساعدوا في تثبيت المذهب السُني في شرق فارس، ولم تكن لهم علاقة بالتشيع.

1761321248988.png

السامانيون (819-999 م): رواد النهضة الفارسية السُنية
من سلالة نبيلة فارسية قديمة، حكموا في خراسان وما وراء النهر (آسيا الوسطى). نشأوا كولاة للعباسيين ثم استقلوا تدريجياً. سقطوا أمام الغزنويين والقراخانيين, وكانت هذه الدولة الفارسية العظيمة كانت المحرك الرئيسي للنهضة الفارسية الحديثة. في عهدهم، عادت اللغة الفارسية لغة للأدب والعلم بعد هيمنة العربية، وظهرت أعمال عظيمة مثل "الشاهنامة" للفردوسي. كانوا يعتبرون أنفسهم ورثة للإمبراطورية الساسانية في الجانب الثقافي.و لقد كانوا سُنة المذهب متعصبين، وقد ساهموا بقوة في نشر المذهب الحنفي في مناطق نفوذهم، وقمعوا أي نشاط شيعي علني. كان التشيع لديهم ظاهرة هامشية إن وجدت.

1761321296736.png

العلويون في طبرستان (864-928 م): أول دولة شيعية فارسية
تأسست هذه الإمارة الشيعية الزيدية على يد الحسن بن زيد في منطقة طبرستان (على الساحل الجنوبي لبحر قزوين). كانت هذه المنطقة الجبلية الوعرة بعيدة عن نفوذ الخلافة، وتقليديًا كانت معقلًا للمقاومة. سقطت على يد السامانيين، لكنها عادت للظهور والتراجع عدة مرات, و رغم صغرها ومحدودية نفوذها، إلا أنها كانت دليلاً على قابلية بعض المناطق الفارسية للتشيع، وقدمت نموذجًا لحكم شيعي، وإن كان من نوع الزيدية التي تختلف عن الإمامية الاثني عشرية, فكانت هذه هي أول دولة شيعية علنية في فارس، ومثلت سابقة مهمة لإمكانية قيام حكم شيعي.

1761321365110.png

الصفاريون (861-1003 م): من الصفر إلى السلطة
تأسست على يد يعقوب بن الليث الصفار، وهو نحاس بدأ كقائد عصابات في سيستان، ثم بنى إمبراطورية امتدت من شرق إيران إلى أجزاء من العراق. سقطوا أمام السامانيين, لم يكونوا رعاة للثقافة بنفس قدر السامانيين، لكنهم أظهروا كيف يمكن لقوة محلية فارسية أن تنهض وتتحدى سلطة الخلافة, و كانوا سُنة المذهب عمومًا، لكن فكرة القوة المحلية المستقلة عن بغداد كانت تُغذي الروح الفارسية المتمردة.

1761321524926.png

البويهيون (934-1062 م): نقطة تحول كبرى.. التشيع يخرج للعلن!
هذه الدولة الفارسية العظيمة نشأت من الديلم (من شمال إيران). بدأوا كقادة عسكريين محليين واستغلوا ضعف الخلافة للسيطرة على أجزاء واسعة من إيران والعراق. في عام 945م، دخلوا بغداد وسيطروا على الخليفة العباسي السُني، الذي أصبح مجرد دمية في أيديهم. سقطوا أمام السلاجقة الأتراك, كانوا بمثابة إحياء حقيقي للمجد الفارسي السياسي. حكموا باسم التشيع وروجوا للثقافة الفارسية, و كانت هذه الدولة شيعية المذهب (ربما زيدية أو إمامية مبكرة). في عهدهم، أُعلنت الشعائر الشيعية لأول مرة علنًا في بغداد وفي فارس. احتفالات عاشوراء (المآتم) والغدير التي كانت تُقام سرًا أصبحت علنية ومدعومة من الدولة، بل كانت هناك مواكب شيعية تنافس مواكب أهل السُنة. شكل البويهيون سابقة خطيرة ومهمة: دولة فارسية قوية تحكم باسم التشيع وتُعلن شعائره في عقر دار الخلافة السُنية.

1761321465196.png

يذكر ابن الأثير أن "البويهيين كانوا أول من أظهر البدع الشيعية في بغداد، وأمروا بإغلاق الأسواق في عاشوراء وإقامة المآتم، وأظهروا سب الصحابة علناً في بعض الأحيان"، وهذا يوضح كيف أن التشيع خرج من السرية إلى العلن بقوة بفضل دعمهم. مسكويه في "تجارب الأمم" يصف كيف كان البويهيون يُمكّنون الشيعة ويقربونهم، مما أحدث تحولاً في المشهد الديني.
الدعوات الشيعية والإسماعيلية (الفاطميون): بؤر سرية تتصل بالقاهرة
الفاطميون، الذين أسسوا خلافة شيعية إسماعيلية قوية في شمال أفريقيا ثم مصر (909-1171 م)، لم يحكموا فارس مباشرة. لكنهم كانوا قوة هائلة في العالم الإسلامي، وكان لديهم شبكة دعوية واسعة النطاق, فلقد كان لديهم "دعاة" سريون ينشطون بفعالية في بلاد فارس، خاصة في المناطق الجبلية (مثل قلعة ألموت التي ستصبح معقلًا للحشاشين). هؤلاء الدعاة كانوا يمثلون حلقة وصل حيوية بين الخليفة الفاطمي في القاهرة وبين البؤر الشيعية (الإسماعيلية بشكل خاص) في فارس. كانوا يحملون الرسائل، الأموال، والتعليمات، وينظمون الأتباع سراً، ويزرعون بذور الممذهب الإسماعيلي كبديل للنظام السُني القائم. ورغم أن الإسماعيلية تختلف عن الإثني عشرية، إلا أنها كانت تساهم في كسر هيمنة المذهب السُني الوحيد، وتهيئ الأجواء لتقبل أفكار شيعية بشكل عام.

يذكر المؤرخ فرحات دفتري في "الإسماعيليون: تاريخهم ومذاهبهم" أن "الخلافة الفاطمية كانت تتمتع بشبكة دعوية عالمية، وكانت فارس أحد أهم مناطق نشاطهم السري، مما يدل على وجود قاعدة شيعية كامنة يمكن استغلالها."


5. الدول التركية والمغول: تحولات عرقية ومذهبية عميقة (القرن 10-14 م)



الدول التركية: الغزنويون والسلجوقيون (القرن 10-12 م): حراس السُنة الجدد
النشأة والسقوط: بعد البويهيين، عادت فارس إلى الحكم السُني القوي على يد الدول التركية المهاجرة. الغزنويون (977-1186 م)، الذين نشأوا من خراسان، كانوا سُنة متعصبين، واعتبروا أنفسهم حماة للسُنة، وقاموا بحملات عسكرية ضخمة (خاصة إلى الهند) ونشروا الإسلام السُني. ثم جاء السلجوقيون (1037-1194 م)، وهم أيضًا أتراك سُنة، وأعادوا للخلافة العباسية هيبتها الاسمية (وإن كانت شكلية), لكن رغم كونهم أتراكًا، فلقد تبنوا الثقافة الفارسية وأصبحوا رعاة لها، لكنهم شددوا على الهوية السُنية. أدى دخول هذه الموجات التركية إلى تغيير ديموغرافي كبير في فارس، حيث أصبح العنصر التركي جزءًا مهمًا من النسيج السكاني، خاصة في أذربيجان والمناطق الغربية, ولقد كانوا حماةً أقوياء للمذهب السُني، وقاموا ببناء المدارس النظامية (مثل النظاميات) التي كرست المذهب السُني الأشعري والفقه الشافعي والحنفي، كقوة مضادة للتشيع البويهي والإسماعيلي. لقد قمعوا أي ظهور علني للتشيع، لكنه ظل موجودًا في الخلفية، خاصة في الأوساط الشعبية والريفية البعيدة عن قبضة السلطة المركزية.

1761321580286.png


1761321652295.png

العنصر التركي ودخول التشيع: بدأ العنصر التركي (الرحل من الأوغوز وغيرهم) يتغلغل في فارس خلال هذه الفترة، ومع مرور الوقت، بدأ بعض هؤلاء الأتراك في اعتناق الإسلام، ثم التشيع، خاصة في الأناضول والمناطق الحدودية. كانت الفرق الصوفية الشيعية الغالية (مثل الحروفية والبكتاشية) نشطة وتجد في هؤلاء القوم الجدد بيئة خصبة لانتشار دعوتها بعيدًا عن رقابة المؤسسات السنية الرسمية. هذا التغلغل التركي المتشيّع سيكون له دور بالغ الأهمية لاحقًا في قيام الدولة الصفوية.


6. الكارثة المغولية: فوضى تُعيد تشكيل الخريطة الدينية



عندما اكتسحت جحافل المغول بقيادة هولاكو العالم الإسلامي، دمرت بغداد في عام 1258 م، وأسقطت الخلافة العباسية، وغزت كامل المنطقة. هذه الكارثة شكلت نقطة تحول أخرى في تاريخ التشيع في فارس:

  • نهاية الخلافة السُنية وهيبتها: لم تعد هناك خلافة سُنية مركزية قوية تُمارس السلطة السياسية أو المذهبية على فارس. هذا الفراغ ترك مساحة هائلة لنمو المذاهب الأخرى بعيدًا عن سلطة موحدة.
  • حياد المغول الأولي وموقف الشيعة: كان المغول في البداية وثنيين، ولم يكن لهم ولاء مذهبي محدد. هذا سمح للعلماء الشيعة (الذين كانوا يكرهون العباسيين لاضطهادهم أهل البيت) بالتقرب منهم. بل يقال إن بعض الشيعة، مثل نصير الدين الطوسي (الذي كان مستشارًا لهولاكو)، رحبوا بالمغول كـ "منتقمين" من الخلافة التي اضطهدت أهل البيت، أو على الأقل استغلوا الفوضى لحماية مجتمعاتهم ومراكزهم العلمية (مثل مرصد مراغة).
يروي ابن الفوطي في "الحوادث الجامعة" أن "هولاكو كان يفضل بعض الشيعة في بلاطه، وأن بعض علماء الشيعة كانوا مقربين منه، وهذا أعطاهم حرية لم تكن لهم من قبل في العصر العباسي." ويذكر الجوزجاني (معاصر للمغول) في "طبقات الناصري" كيف أن الشيعة كانوا في منأى عن اضطهاد المغول في بعض الأحيان بسبب موقفهم من العباسيين.

لقد كانت هذه الفترة من الفوضى السياسية والتشتت المذهبي، بعد قرون من حكم الدول السُنية، بمثابة "التربة الخصبة" التي سُقيت بدم المظلومين من آل البيت، وارتوت باستياء الفرس من الحكم الأجنبي، وتغذت على الفراغ الذي خلفه سقوط بغداد وتعدد السلطات المذهبية. كانت الظروف تتهيأ تمامًا لظهور قوة جديدة، قادرة على استغلال هذا المزيج المعقد من المشاعر الدينية والوطنية.
 

الجزء الرابع: الشرارات الأولى.. التشيع يتوغل في قلب فارس.. وتتأجج نيران التحول​


بعد قرون من الوجود كتيار ديني وسياسي معارض، غالبًا ما كان يتخفى تحت السطح، بدأت بذور التشيع تجد طريقها لتنبت في تربة فارس المعقدة. كانت فترة ما بعد سقوط الخلافة العباسية، وتحديدًا عصر الدولة الإلخانية وما تلاه من فوضى، بمثابة نقطة تحول حاسمة حيث تكسرت الحواجز القديمة، وسمح الفراغ المذهبي والسياسي بانتعاش التشيع وظهوره بشكل أكثر جرأة وقوة.

1. الإلخانيون: فوضى المغول تمنح التشيع فرصة ذهبية (1256 - 1335 م)


مع دمار بغداد وسقوط الخلافة العباسية عام 1258م على يد المغول بقيادة هولاكو، لم تكن مجرد عاصمة تسقط، بل كانت هيبة المذهب السُني الرسمي الذي يمثل السلطة الدينية والسياسية المركزية تنهار معها بشكل مدوٍ. هذا الفراغ الهائل كان بمثابة فرصة تاريخية للتيارات المهمشة، وعلى رأسها التشيع
.
فبعد أن كانت فارس تحت حكم السلاجقة الأتراك السُنة، أصبحت الآن جزءًا لا يتجزأ من إمبراطورية المغول الإلخانية التي امتدت عبر إيران والعراق وتركيا. في البداية، كان المغول وثنيين (على دين الشامانية)، ولم يكن لديهم ولاء مذهبي محدد. هذا "الحياد المذهبي" المؤقت كان نعمة للشيعة، الذين لم يجدوا قمعًا مباشرًا ومنظمًا كما في العهود السابقة.

السبب في ذلك هو ان الشيعة لم يكونوا يحملون أي ولاء للخلافة العباسية التي لطالما اضطهدتهم وعاملتهم بصرامة (خاصة في عهود القمع الشديد). بل على العكس، رأى بعضهم في هدم الخلافة نهاية لعدو قديم وظالم. تقرب بعض كبار علماء الشيعة، مثل الفيلسوف والعالم نصير الدين الطوسي (الذي اشتهر بمهاراته الفلكية والفكرية)، من بلاط هولاكو وأصبح مستشارًا مقربًا منه، بل يُروى أنه كان له دور في حث هولاكو على الزحف نحو بغداد. هذا القرب مكن الشيعة من الحصول على حماية لمراكزهم العلمية (مثل مرصد مراغة الشهير الذي أسسه الطوسي في أذربيجان)، ومنحهم حرية نسبية لم تكن لهم من قبل في نشر دعوتهم وتأليف كتبهم بعد قرون من التخفي.

يذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" أن "نصير الدين الطوسي كان وزيرًا لهولاكو، وهو الذي أشار عليه بقتل الخليفة، وكان من أشد الناس حنقًا على المسلمين"، وإن كان هذا الرأي فيه بعض المبالغة أو نابعًا من عداوة مذهبية، إلا أنه يعكس الدور المحوري الذي لعبه الطوسي، كرمز للتعاون بين النخبة الشيعية والسلطة المغولية، وكيف أثر ذلك في حماية الشيعة بل وتقدمهم في تلك الفترة.
  • تقلبات المغول المذهبية:
لم يكن المسار المذهبي للإلخانيين مستقرًا، بل كان يتأرجح بين السُنة والتشيع، مما خلق بيئة من الترقب والتنافس الديني:
  • غازان خان (1295-1304 م): أول حاكم إلخاني يعتنق الإسلام. أسلم على يد شيخ صوفي سُني، وأعلن الإسلام السُني دينًا للدولة. كان متسامحًا نسبيًا مع الشيعة، مما سمح ببعض الانفتاح بعد فترة من القمع.
  • أولجايتو (محمد خدا بنده) (1304-1316 م): التحول الكبير والمثير للجدل: ابنه أولجايتو (الذي يعني "العبد الإلهي") كان هو صاحب التحول الأبرز والأكثر درامية. وُلِد مسيحيًا، ثم تحول إلى البوذية (دين المغول قبل الإسلام)، ثم إلى الإسلام السُني. نقطة تحوله للتشيع كانت محور حديث المؤرخين: يقال إن زوجته كانت شيعية، وأنه كان متأثرًا بـ "العلامة الحلي" (أحد كبار علماء الشيعة الاثني عشرية) الذي استقدمه إلى بلاطه، بالإضافة إلى مناظرات بين علماء السُنة والشيعة. وفي النهاية، أعلن التشيع الاثني عشري مذهبًا رسميًا لدولته عام 1309 م. أمر بضرب السكة باسم الأئمة الاثني عشر، وأمر بالخطبة لهم في المساجد، وحاول فرض المذهب بالقوة على سكان فارس. لكن هذا القرار واجه مقاومة قوية من علماء السُنة والجيش والأمراء، مما دفعه للتراجع جزئيًا عنه قبل وفاته.
يروي المؤرخ حمد الله المستوفي (معاصر لتلك الفترة) أن أولجايتو "بعد أن تشيع، أمر بالخطبة للاثني عشر إمامًا في المساجد، وأمر بذكر أسمائهم على النقود، ولكن بسبب بعض الفتن التي وقعت، اضطر إلى التراجع عن ذلك لاحقًا قبل وفاته"، مما يدل على مدى الجرأة التي وصل إليها التشيع بفضل هذا الحاكم، ومحدودية قدرته على فرض المذهب بقوة في مجتمع سُني بغالبيته.

  • أبو سعيد بهادر خان (1316-1335 م): العودة للسُنة والقمع: خلف أولجايتو ابنه أبو سعيد الذي عاد إلى المذهب السُني، وقام بقمع الشيعة الذين ازدهروا في عهد أبيه، حتى أنه أمر بمنع الشعائر الشيعية. لكن هذا القمع لم يكن قادرًا على محو ما ترسخ من نفوذ فكري وجماعات شيعية نشأت في الفترة السابقة.
حال الفرس في العهد الإلخاني: رغم فظاعة الغزو المغولي الذي دمر الكثير من المدن والمكتبات، إلا أن الفرس تكيّفوا تدريجيًا. استعادوا دورهم الإداري والثقافي تحت حكم المغول بعد فترة من الدمار، وعملوا كوزراء وموظفين ومؤرخين (مثل رشيد الدين فضل الله الهمذاني). هذا التفاعل (الشيعة والفرس يستفيدون من فوضى المغول) كان مفصليًا. لقد سمحت هذه الفترات المتذبذبة للشيعة ببناء مؤسساتهم، وتأليف كتبهم، ونشر دعوتهم في المدن الفارسية التي كانت معاقل شيعية مبكرة تاريخيًا، مثل قم، كاشان، وسبزوار، والتي حافظت على الطابع الشيعي حتى خلال فترات القمع السُني.

1761322683602.png


2. عصر التفكك والإمارات المحلية: التشيع يضرب جذوره بعيدًا عن المركز (القرن 14 - 15 م)


بعد وفاة أبي سعيد بهادر خان عام 1335 م، تفككت الدولة الإلخانية إلى إمارات صغيرة متناحرة. كانت هذه الفترة فوضوية سياسيًا، اتسمت بالضعف المركزي والحروب الأهلية، لكنها كانت فرصة ذهبية للتشيع لترسيخ نفسه بعيدًا عن سلطة مركزية قوية تستطيع قمعه بفعالية:
دول السربداريين (1337-1386 م): الشرارة الشيعية الأولى كدولة مستقلة:
قامت هذه الدولة الصغيرة في منطقة خراسان (شمال شرق إيران) على خلفية ثورة شعبية ضد ظلم حكام المغول المستبدين. كان مؤسسوها من العامة (السربدار يعني "مُعلقين على المشانق"، أي مستعدون للموت دفاعًا عن العدل). بدأت كحركة مسلحة ثم تحولت لدولة. سقطت على يد تيمورلنك.و لقد كانوا شيعة اثني عشرية صرحاء، ويُعتبرون أول دولة إيرانية تؤسس حكمًا إثني عشريًا بشكل كامل (وإن كان محدود جغرافيًا). لقد تبنوا التشيع كجزء من أيديولوجيتهم الثورية ضد الظلم، ورفعوا راية العدل باسم آل البيت, فأثبتوا إمكانية قيام دولة شيعية قوية ومستقلة على الأرض الفارسية، وقدموا نموذجًا ملموسًا لتطبيق التشيع كدين للدولة، حتى وإن كان في نطاق إقليمي ضيق.
المرعشيون في مازندران (منتصف القرن 14 - أواخر القرن 16 م): الدولة العلوية المستمرة:
أسسوا دولتهم في طبرستان (مازندران حاليًا) على بحر قزوين، وهي منطقة جبلية وعرة ذات تقاليد شيعية (زيدية) قديمة. كانوا من السادة العلويين. استمر حكمهم لأكثر من قرنين حتى ظهور الصفويين، الذين أخضعوهم, ولقد كانوا شيعة زيدية (الذين يختلفون عن الاثني عشرية)، وأقاموا حكمًا عادلاً نسبيًا جذب إليهم السكان. استمروا في تمثيل تيار شيعي قوي ومستقل في شمال إيران، مما يدل على وجود جذور شيعية عميقة في بعض المناطق.
حركة المشعشعين في الأهواز (منتصف القرن 15 - أوائل القرن 20 م): تجليات التشيع الغالي:
أسسها محمد بن فلاح، الذي ادعى النيابة عن الإمام المهدي، بل واعتبر نفسه تجليًا إلهيًا (وهو ما يُعرف بالغلّو). كانت حركة شيعية غالية صوفية، قامت في جنوب غرب إيران (الأهواز). كانت لها دولة قوية استمرت لقرون، وتُظهر تنوع التيارات الشيعية وتطرف بعضها في فارس، وكيف أن بعض الأفكار الصوفية المتطرفة كانت تندمج مع التشيع,و تُبين أن التشيع لم يكن تيارًا واحدًا، وأن بعض أشكاله الغالية كانت تجد صدى في بعض المناطق، مما يعكس استعدادًا لتقبل أشكال مختلفة من التدين الشيعي.

3. تيمورلنك والتيموريون: مسار التشيع يتضح (1370 - 1507 م)


مع نهاية القرن الرابع عشر، ظهرت قوة جديدة عاتية: تيمورلنك (تيمور الأعرج)، الغازي التتري الذي أعاد توحيد فارس وأجزاء واسعة من آسيا الوسطى تحت إمبراطورية التيموريين.
كان تيمورلنك نفسه سُنيًا (على المذهب الحنفي)، لكنه كان يميل إلى التصوف. لقد قمع الكثير من الحركات الدينية (سُنية وشيعية) التي كانت تعارضه، ودمر مدنًا وقضى على دول مستقلة (مثل السربداريين). كان حكمه قاسيا جدًا لكنه أعاد شيئًا من الوحدة الإقليمية لفارس, لكن على الرغم من قمع تيمورلنك للحركات المتمردة، إلا أن التشيع لم يختفِ. بل على العكس، وجد بعض الشيعة في بلاطه حماية. في عهد خلفائه التيموريين، ازدهرت المدن مثل سمرقند وهراة كراكز للثقافة الفارسية والفن. وظلت هناك مساحة -وإن كانت محدودة- للوجود الشيعي، خاصة في المدن التي كانت معاقل شيعية قديمة. الأهم من ذلك، أن هذه الفترة شهدت امتزاجًا كبيرًا بين التشيع والتصوف، حيث أصبحت الطرق الصوفية (التي كان بعضها يميل للتشيع) وسيلة لنشر الأفكار الشيعية بشكل غير مباشر.
حال بلاد فارس في عهد التيموريين: استمرت فارس في كونها مركزًا ثقافيًا وحضاريًا، لكنها كانت تحت حكم أجنبي جديد. كانت المدن الكبرى (كيزد وأصفهان وشيراز) لا تزال ذات أغلبية سُنية قوية، لكن التشيع كان يزداد قوة في قم، كاشان، سبزوار، وعدد من المناطق الجبلية والنائية، مستفيدًا من ضعف السلطة المركزية في أوقات معينة.


يذكر المؤرخ ابن عربشاه في "عجائب المقدور في نوائب تيمور" أن تيمور كان "يقتل الشيعي والسني بلا تمييز إن عارضه، ولكنه كان يحترم علماء الدين عامة"، مما يشير إلى أن سياسته كانت سياسية بحتة أكثر منها مذهبية، وأنه لم يكن لديه أجندة مذهبية محددة كحاكم.

1761323020333.png


4. بزوغ نجم الصفوية: من التصوف السُني إلى الدولة الشيعية (القرن 15 - أوائل القرن 16 م)


في خضم هذا التفكك السياسي والتنوع المذهبي الذي ساد فارس بعد سقوط التيموريين وظهور إمارات ضعيفة مثل آق قويونلو وقره قويونلو (دول تركمانية سُنية)، كانت هناك حركة صوفية تنمو في أذربيجان (شمال غرب إيران)، تتبع طريقة تدعى "الصفوية". هذه الحركة ستكون هي الشرارة النهائية التي ستُشعل تغيير وجه فارس للأبد.

  • من التصوف السُني إلى دعوة شيعية: تأسست الطريقة الصفوية في القرن الثالث عشر على يد الشيخ صفي الدين الإسحاق الأردبيلي. كانت في بدايتها طريقة صوفية سُنية المذهب (شافعية)، تحظى باحترام كبير في المنطقة، وتدعو إلى الزهد والورع, لكن مع مرور الوقت، بدأ زعماء الطريقة الصفوية (أحفاد الشيخ صفي الدين) يتحولون تدريجيًا نحو التشيع، وتحديدًا نحو أشكال التشيع الغالي المتطرفة، التي كانت تقدس أئمتها وشيوخها بشكل يصل إلى مرتبة العصمة، أو حتى الألوهية في بعض الأحيان. أصبحوا يدَّعون نسبًا مباشرًا إلى الإمام موسى الكاظم (سابع أئمة الشيعة الاثني عشرية) لتعزيز شرعيتهم الدينية وجذب الأتباع. هذا التحول لم يكن فوريًا بل مر عبر عدة أجيال.
  • "قزلباش": جيش العقيدة المتعصب: بدأ شيوخ الصفوية بتجنيد أعداد كبيرة من القبائل التركمانية الرحل في الأناضول وشمال إيران، والذين عرفوا باسم "قزلباش" (ذوو القبعات الحمراء، نسبة إلى قبعاتهم ذات الاثني عشر شقًا رمزًا للأئمة). هؤلاء القزلباش كانوا يقدسون شيوخ الصفوية لدرجة العبادة، ويؤمنون بأنهم معصومون، بل ويُعتبرون تجليات إلهية. كانوا جيشًا عقائديًا شرسًا مستعدًا للموت في سبيل زعيمهم الروحي، ويحملون حماسة دينية شديدة، ممزوجة بولاء قبلي وشجاعة عسكرية.
  • الدور الثقافي والمذهبي للصفوية قبل الدولة: قبل أن تتحول إلى قوة سياسية، كانت الطريقة الصفوية مركزًا لجذب الناس من مختلف الطبقات، خاصة القبائل التركمانية. لقد وفرت لهم هوية دينية وسياسية، ومصدرًا للقوة في فترة من الفوضى. كانت بمثابة "مدرسة متنقلة" لنشر التشيع بأشكاله الغالية، على حساب المذهب السُني التقليدي.
يصف المؤرخ حسن الروملو في "أحسن التواريخ" كيف أن القزلباش كانوا "يُضحون بأرواحهم في سبيل مرشدهم (شيخ الصفوية)، ويعتقدون أنه ظل الله في الأرض، وأنه لا يوجد على وجه الأرض من هو أقدر منهم على التلبية لأمره".
كانت فارس على أعتاب مرحلة جديدة تمامًا، مرحلة لن يكون فيها التشيع مجرد مذهب هامشي أو دولة صغيرة، بل سيصبح هوية وطنية مفروضة بقوة السيف، ليُعيد تشكيل وجه المنطقة إلى الأبد، من خلال شاب صغير سيكون له شأن عظيم.

1761323201669.png
 

الجزء الخامس: نقطة اللاعودة.. السيف الصفوي يُعلن ميلاد إيران الشيعية​


إذا كانت القرون العشرة الماضية قد زرعت بذور التمرد والصراع المذهبي والثقافي في تربة فارس، فإن القرن السادس عشر كان هو اللحظة التي اجتمعت فيها تلك البذور لتثمر دولة، لا بل هوية جديدة فُرضت بقوة السيف. إنها قصة الشاه إسماعيل الصفوي (1501-1524م)، الذي حوّل مذهبًا هامشيًا إلى دين دولة ملزم، ليصنع إيران كما نعرفها اليوم.

1. الشاه إسماعيل: القائد الملهم والإعلان المزلزل (1501 م)


في خضم الفوضى السياسية التي سادت بعد انهيار التيموريين وصراع الدول التركمانية (آق قويونلو وقره قويونلو)، ظهرت الطريقة الصفوية كقوة دينية عسكرية منظمة. الشاه إسماعيل، سليل شيوخ الطريقة، لم يكن مجرد قائد قبلي، بل كان يُقدم نفسه على أنه "المهدي المنتظر" و**"تجسيد إلهي"** (خاصة في نظر أتباعه القزلباش الأتراك).
في عام 1501 م، وبعد أن انتصر على آق قويونلو، دخل إسماعيل تبريز (عاصمة أذربيجان) وأعلن نفسه شاهًا (ملكًا) على فارس. هنا، اتخذ قراره المزلزل: إعلان المذهب الشيعي الاثني عشري دينًا رسميًا وحيدًا للدولة الجديدة.
دوافع القرار المذهبي: لم يكن الدافع دينيًا خالصًا، بل كان مزيجًا من:

  • التميز السياسي: إنشاء هوية مذهبية متفردة تميز الدولة الصفوية عن جيرانها الأقوياء (العثمانيين في الغرب والأوزبك في الشرق)، وكلاهما سُني المذهب. كان هذا الإعلان بمثابة تأمين حدود سياسية عبر حدود دينية.
  • الولاء العقائدي: استغلال الولاء المتطرف لجيشه من "القزلباش"، الذين كانوا يؤمنون بألوهية زعيمهم. التشيع الإثني عشري وفر الإطار الشرعي لهذا الولاء المطلق.
  • العمق الفارسي: استغلال الوجود الشيعي التاريخي في مدن معينة (قم، كاشان) والتعاطف العام مع آل البيت المتأصل في الوجدان الفارسي.
ايروي المؤرخ حسن بك روملو في كتابه "أحسن التواريخ" لحظة إعلان التشيع في تبريز، فيذكر أن الشاه إسماعيل أمر بـ "لعن أعداء أهل البيت" علنًا، وبضرب السكة باسم الأئمة الاثني عشر، قائلاً: "إذا كانت الخلافة والسلطنة لا تقوم إلا بلعنهم، فليلعنوا علنًا! إنني لا أخاف أحداً... الله سيدي، والإمام علي مرشدي." هذا الموقف يعكس التعصب، والإصرار على خلق هوية دينية جديدة بعيداً عن مذهب الأغلبية.

1761323882344.png

2. مراحل فرض التشيع: الإبادة الثقافية والإحلال الفقهي


كانت مهمة تحويل أمة بأكملها من أغلبية سُنية (80-90% تقريباً) إلى أقلية شيعية مهمة شاقة ودموية، تمت على مراحل منظمة:

المرحلة الأولى: التطهير القسري وعسكرة المذهب (1501 - 1510 م)


حيث استخدم الشاه إسماعيل وقبائل القزلباش المتعصبة قوة مفرطة وإرهابًا منظمًا ضد المؤسسة الدينية السُنية. أعدم العلماء السُنّة الذين رفضوا التحول علنًا أو الذين رفضوا "التبراء" (لعن الخلفاء الراشدين الثلاثة), وايضا قام بتدمير المساجد والمدارس والمقامات السُنية، وتحويل بعضها إلى حسينيات أو مساجد شيعية. وكانت أهم المدن السُنية التي تعرضت للتطهير هي تبريز وأصفهان, و لقد تم فرض شعيرة "التبراء" علنًا في الأسواق والمساجد. كان هناك ما يُعرف بـ "التبرائيون"، وهم مجموعة من الجنود كانت مهمتهم السير في الشوارع وإجبار الناس على التبراء. رفض المشاركة في هذه الشعائر أو إبداء أي اعتراض كان كافيًا لجلب القتل. كان الهدف هو اقتلاع الجذور السُنية وإلغاء الهوية السُنية بشكل كامل وسريع.

المرحلة الثانية: الاستعانة بعلماء الخارج وبناء المؤسسة الفقهية (القرن 16 م)


بعد عمليات القمع، أدرك الصفويون أنهم يمتلكون القوة العسكرية، لكنهم يفتقرون إلى العمق الفقهي والعلمي للمذهب الشيعي الإثني عشري المنظم (خاصة أن التشيع الإثني عشري كان قد مر بمرحلة "الغيبة الكبرى" مما أضعف هيكله المؤسسي).
فقام الشاه إسماعيل وخلفاؤه (خاصة الشاه طهماسب) باستدعاء وإغراء العلماء الشيعة الإثني عشرية البارزين من المراكز التقليدية في جبل عامل (جنوب لبنان)، والبحرين، والأحساء. هذه المناطق كانت شيعية تقليدية وتمتلك مدرسة فقهية عريقة, فقام هؤلاء العلماء (أمثال المحقق الكركي الذي أصبح شيخ الإسلام وأهم شخصية دينية في الدولة) قدموا الدعم الفقهي، ونظموا القضاء، ووضعوا المناهج، وأسسوا الهيكلية الإدارية والدينية للدولة. هم من حولوا التشيع من حركة صوفية عسكرية متطرفة إلى مذهب فقهي منظم (أصولي) يمكن أن يحكم دولة , ايضا تم تحويل الأوقاف السُنية الضخمة إلى أوقاف شيعية، مما أمن التمويل اللازم لبناء المدارس الشيعية (الحوزات) وتكوين طبقة دينية جديدة موالية للدولة. كان العلماء يُمنحون نفوذًا هائلاً في الدولة، بل ويُعينون كـ "شيخ الإسلام" (كبير علماء الدولة) في كل مدينة.

المرحلة الثالثة: التشيُّع العميق والاندماج القومي (القرون 16 - 18 م)


نجح الصفويون في ربط التشيع بالهوية الفارسية الجديدة، وصوروه على أنه الدين الحقيقي للأمة الإيرانية، الذي يمثل استقلالها عن "الأجنبي" السُني (العثماني والأوزبكي). هذا خلق مفهومًا جديدًا للهوية الإيرانية-الشيعية, فتم إدخال الشعائر الشيعية الحسينية (المآتم، والمواكب، والتعزية) بقوة في الحياة اليومية، مما أدى إلى تغيير تدريجي في نمط التدين الشعبي. أصبحت المدن السُنية العريقة (مثل أصفهان وشيراز وقزوين) تتحول إلى مراكز شيعية جديدة ببطء من خلال التعليم والإلزام, ايضا كان التشيع بالنسبة للكثيرين من الطبقات الأدنى والفلاحين يمثل العدالة الاجتماعية والتحدي للسلطة القديمة (الممثلة في الخلافة السُنية). مع مرور الأجيال، ومع رسوخ الشعائر، أصبح التشيع هو الهوية الدينية الطبيعية للمجتمع.

يرى حميد عنايت في "الفكر السياسي في الإسلام الحديث" أن "الصفويين قاموا بدمج التشيع في الوعي القومي الإيراني، فصار الدفاع عن المذهب مرادفًا للدفاع عن الأمة، وهذا هو سر نجاحهم الأيديولوجي الأخير".

3. الصراع العثماني-الصفوي: رسم الحدود بالدم المذهبي


لم يكن هذا التحول ليتم دون رد فعل خارجي، فقد كانت الدولة العثمانية السُنية ترى في قيام دولة شيعية متطرفة على حدودها تهديدًا وجوديًا وأيديولوجيًا، خاصة وأن الشاه إسماعيل كان يحرض القبائل التركمانية الشيعية (القزلباش) داخل أراضي العثمانيين.
فحدثت معركة جالديران (1514 م) و كانت هذه المعركة هي ذروة الصراع. سحق السلطان العثماني سليم الأول جيش الشاه إسماعيل، وأظهر التفوق العسكري العثماني (خاصة في استخدام المدفعية). ورغم الهزيمة المذلة، فإن هذه المعركة لم تنهِ الدولة الصفوية, أدت هذه المعارك إلى ترسيخ الحدود بين الإمبراطوريتين، وجعلت الخط الفاصل بينهما حدًا مذهبيًا. أصبح الوجود السُني في إيران يتعرض للقمع أكثر فأكثر كونه مرتبطًا بـ "العدو" العثماني، مما عجل بعملية التحول المذهبي الداخلي.

بحلول نهاية العصر الصفوي في القرن الثامن عشر، كانت إيران قد تحولت بشكل لا رجعة فيه. التشيع لم يعد مذهب الأقلية المقموعة، بل أصبح المكوّن الأساسي للهوية الإيرانية. على الرغم من أن بعض المناطق ظلت سُنية (مثل كردستان وبلوشستان)، إلا أن قلب فارس ومركزها الحضاري أصبحا شيعيين بالكامل, لقد نجح الصفويون، باستخدام مزيج فريد من القوة العسكرية (القزلباش)، التخطيط الديني (جلب العلماء)، والمزج بين الدين والهوية القومية، في تحقيق "نقطة اللاعودة" التاريخية. تم "كسر الضلع السُني" لإيران، وولدت "القلعة الشيعية الكونية" التي أصبحت محورًا دينيًا وجيوسياسيًا في العالم الإسلامي.

1761324224167.png
 

الجزء السادس: ما بعد السيف.. تثبيت الهوية وإرث الصفويين حتى العصر الحديث​


بعد أن نجح الصفويون، بقوة السيف وقوة العقيدة، في "كسر الضلع السُني" لإيران وتحويلها إلى قلعة شيعية، لم يكن هذا التحول مجرد حدث عابر في صفحات التاريخ، بل أصبح هيكلاً عظميًا لـ "الهوية الإيرانية" يستمر صامداً، لا بل يتقوى، حتى بعد سقوط الدولة الصفوية نفسها. لقد شكّل هذا الإرث الجيني للدولة، الوعي الجمعي، ومهد الطريق للدور المحوري الذي تلعبه إيران في المشهد الإقليمي والعالمي اليوم.

رياح التغيير العاصفة: الغزو الأفغاني ومحاولات نادر شاه الفاشلة


في أوائل القرن الثامن عشر، بعد قرنين من الحكم الصفوي، وصلت الدولة إلى حالة من الضعف والترهل. في عام 1722 م، اجتاحت القوات الأفغانية السُنية، بقيادة محمود هوتاكي، أصفهان، العاصمة الصفوية المزدهرة، وأسقطت الدولة التي حولت إيران إلى التشيع. كان هذا الغزو بمثابة صدمة كبرى، لكنه لم يغير الخارطة المذهبية للمجتمع الإيراني، بل أظهر مدى رسوخ التشيع.
بعد فترة من الفوضى، لمع نجم قائد عسكري فذ هو نادر شاه الأفشاري (ت. 1747 م). لقد تمكن نادر شاه من طرد الأفغان وتوحيد إيران مجدداً تحت حكمه، ليعلن نفسه شاهًا. كان نادر شاه سُني المذهب (أو على الأقل كان يرى في السُنة أساسًا سياسياً لتوحيد العالم الإسلامي ضد أوروبا) ولديه طموحات إمبراطورية كبيرة، تشمل إعادة غزو الأراضي العثمانية. أدرك نادر شاه أن التباين المذهبي الحاد مع جيرانه العثمانيين يشكل عقبة أمام مشروعه التوسعي. ولذلك، اتخذ قرارًا تاريخيًا بمحاولة "إعادة السُنية" إلى إيران وتقريب المذاهب الإسلامية.

  • مؤتمر النجف (1743 م): في خطوة غير مسبوقة، جمع نادر شاه علماء السُنة والشيعة في مؤتمر تاريخي بالنجف (العراق)، وحاول فرض تسوية مذهبية: الاعتراف بالمذهب الجعفري (الإثني عشري) كـ "مذهب خامس" ضمن المذاهب السُنية الأربعة، مقابل إلغاء لعن الصحابة، وتخفيف الشعائر الشيعية التي يراها السُنة تطرفًا. كان هدف نادر شاه هو تجريد التشيع من طابعه الأيديولوجي المتفرد، وجعله جزءًا من نسيج إسلامي أوسع لتوحيد الجبهة الداخلية والخارجية.
  • فشل ذريع ودرس تاريخي: فشلت محاولات نادر شاه فشلاً ذريعاً. رفض علماء الشيعة التنازل عن مبادئهم الأساسية، كما أن المؤسسة الدينية الشيعية التي بناها الصفويون كانت قد تعمقت وتجذرت في المجتمع بشكل لا يمكن إزالته دون إراقة دماء غزيرة، تفوق قدرة أي حاكم. لقد أصبح الشعب الإيراني يرى في التشيع جزءاً لا يتجزأ من هويته القومية المتمايزة عن العثمانيين. أثبتت هذه التجربة أن التحول الذي أحدثه الصفويون كان نهائياً؛ لقد توحد التشيع الإثني عشري بشكل لا يقبل الانفصال مع مفهوم الهوية الإيرانية.

1761324616613.png

صعود الفقهاء: المرجعية الدينية كسلطة موازية


بعد اغتيال نادر شاه، وتأسيس الدولة القاجارية (1785 - 1925 م)، دخلت إيران فترة من الحكم الضعيف نسبياً. في هذه الفترة، تراجعت قوة الشاه لصالح قوة جديدة صاعدة: علماء الدين الشيعة (المجتهدين/المراجع).

  • قوة المرجعية الدينية: أصبح العلماء يمتلكون سلطة روحية ومالية ضخمة (عن طريق أموال الخمس والزكاة التي تُدفع لهم مباشرة). وتطورت مؤسسة "المرجعية الدينية"، حيث أصبح للفقهاء الكبار سلطة الإفتاء والاجتهاد نيابة عن الإمام الغائب. هذه المرجعية أصبحت بمثابة سلطة موازية للعرش، لا بل تفوقه في النفوذ الشعبي، خاصة أن الشاه كان يُعتبر مجرد حاكم "زمني" مؤقت حتى ظهور الإمام المهدي.
  • العلماء حماة الهوية: هذا التطور كان حاسماً، حيث نقل سلطة تثبيت التشيع وحمايته من سيف الشاه المتقلب إلى مؤسسة العلماء الدائمة والراسخة، التي كانت تمثل ضمير الأمة ومرجعيتها. لقد أصبحت الهوية الشيعية محمية من داخل المجتمع، لا من خلال فرضها من أعلى فقط.

1761324673685.png

إيران الحديثة: التشيع كأيديولوجية مقاومة وثورة


في القرنين الأخيرين، استمر التشيع في التبلور كنظام فكري وسياسي مضاد، يواجه التحديات الداخلية والخارجية:

  • الدستور ومقاومة الاستعمار: في عهد القاجار، لعب العلماء الشيعة دوراً رائداً في الحركة الدستورية (1905-1911 م) التي هدفت إلى الحد من استبداد الشاه والنفوذ الأجنبي. ونتيجة لذلك، تم النص على أن "دين إيران الرسمي هو الإسلام والمذهب الجعفري الإثنا عشري"، وأن التشريعات يجب أن توافق عليه. هذا التكريس الدستوري رسّخ التحول الصفوي بشكل لا يمكن التراجع عنه قانونياً، وربط المذهب بهوية الدولة الحديثة.
  • عصر البهلوي (1925 - 1979 م): التحدي العلماني وتعزيز الهوية المضادة: حاول الشاه رضا بهلوي وابنه محمد رضا بهلوي فرض التغريب والعلمانية الشديدة على المجتمع الإيراني، وحاولا تهميش دور المؤسسة الدينية وقمع الشعائر الشيعية. هذا التحدي لم يضعف المذهب، بل بالعكس:
    • رأت المؤسسة الشيعية في حكم البهلويين تهديداً لوجودها وللتقاليد الدينية والأصالة الإيرانية، وارتبط الشاه بـ "الاستكبار العالمي" و"التبعية للغرب".
    • أدى هذا إلى تعميق الشعور بـ "المظلومية الشيعية" كـ "هوية معارضة" ضد الاستبداد الداخلي والتأثير الغربي الخارجي. تطورت مفاهيم مثل "الانتظار الإيجابي" للثورة بدلاً من "الانتظار السلبي" لظهور المهدي، تحت قيادة علماء مثل آية الله الخميني.

الثورة الإسلامية (1979 م): ذروة التمكين المذهبي وقيادة المحور الشيعي


كانت الثورة الإسلامية بقيادة الخميني (الذي أصبح فيما بعد الإمام الخميني) هي النتيجة النهائية والمنطقية لتاريخ طويل من التحولات وتراكم النفوذ الديني. لقد نجح الخميني في استخدام كل الإرث الشيعي العميق (مفهوم المظلومية، انتظار المُنقذ، السلطة المطلقة لـ "الولي الفقيه") للإطاحة بنظام الشاه المدعوم غربياً.

  • "ولاية الفقيه" والأيديولوجيا الكونية: بعد الثورة، لم تكتفِ إيران بإعلان التشيع مذهبها الرسمي، بل أعلنت "جمهورية إسلامية" قائمة على مبدأ "ولاية الفقيه". هذا المبدأ حوّل التشيع من مجرد مذهب ديني إلى أيديولوجيا حكم شاملة وذات طموحات عابرة للحدود، حيث يرى الفقيه الحاكم أنه يمثل الإمام المهدي الغائب ويحكم نيابة عنه.
  • إعادة تعريف الدور الشيعي عالمياً: أعلنت إيران الجديدة نفسها "حامية الشيعة" في العالم، وربطت عقيدة انتظار الإمام المهدي بمهمة نشر "الثورة الإسلامية" ومقاومة "الاستكبار العالمي" (الولايات المتحدة وإسرائيل). هذا التحول أعطى لإيران دوراً جديداً كلياً، فهي لم تعد مجرد دولة ذات أغلبية شيعية، بل قائدة وموجهة لـ "محور شيعي" في المنطقة.
    • امتداد النفوذ: منذ عام 1979، بدأت إيران ببناء نفوذها الخارجي عبر دعم الجماعات الشيعية الموالية لها (والتي يرى فيها البعض "محور المقاومة") في العراق، لبنان (حزب الله)، سوريا، واليمن (الحوثيين)، وغيرها.
يُعتبر شعار "تصدير الثورة" الذي رفعه قادة الثورة الإيرانية، تجسيداً للطموح الكوني للجمهورية الإسلامية، حيث لم يعد التشيع مقتصراً على إيران، بل أصبح أيديولوجية تُقدم كنموذج للحكم والمقاومة في المنطقة، مؤثراً بعمق في المشهد السياسي والأمني.

1761324784768.png
 

خاتمة نهائية: إيران.. حكاية ألف عام من التحولات التي شكلت هوية​


لقد كانت رحلتنا عبر صفحات تاريخ فارس رحلة شاقة، متقلبة، ومثيرة للجدل، لكنها كشفت عن جوهر أمة لم تتوقف يوماً عن إعادة تعريف ذاتها. من مملكة فارس الساسانية المجوسية العريقة، التي كانت تحد الإمبراطوريات، إلى صمودها أمام الفتح الإسلامي. ومن كونها منارة للمذهب السُني في العصور العباسية الذهبية، التي أنجبت كبار أئمة الحديث والفقه، إلى أن شهدت تحولها المزلزل على يد الدولة الصفوية.

إن هذا التحول الصفوي، الذي فرض التشيع الإثني عشري بقوة السيف والقمع، لم يكن مجرد تغيير في دين الدولة، بل كان نقطة اللاعودة التي شكلت هوية إيران الحديثة. لقد فُرض التشيع على أغلبية سُنية، ليصبح مع مرور القرون جزءاً لا يتجزأ من الوعي القومي الإيراني، وسياجاً مذهبياً فصلها عن جيرانها.

بعد أن ثبت التشيع كـ "هوية وطنية" فشلت محاولات نادر شاه لإعادته إلى السُنة. وشهدت إيران صعود المرجعية الدينية لتصبح سلطة موازية، وموجهة، للشاه. هذا التطور كان حاسماً، إذ نقل مسؤولية حفظ المذهب من يد الحاكم إلى مؤسسة العلماء الدائمة، التي قادت بعد ذلك مقاومة التغريب والاستبداد في العصر الحديث.

لقد توّج هذا المسار الطويل بـ الثورة الإسلامية عام 1979، حيث لم تعد إيران مجرد دولة شيعية، بل أعلنت نفسها جمهورية إسلامية قائمة على أيديولوجية "ولاية الفقيه". هذا المفهوم حوّل التشيع من مذهب ديني إلى عقيدة سياسية شاملة، ذات طموحات تتجاوز الحدود الإيرانية، معلنة نفسها حامية للشيعة ومصدر إلهام لـ "المستضعفين" في العالم.

وهكذا، نرى اليوم إيران تقف كقوة إقليمية محورية، تقود ما يُعرف بـ "محور المقاومة"، ممتدة الأذرع في العراق، لبنان، سوريا، واليمن. هذا الدور، الذي أصبح بالنسبة للكثيرين مجرمًا وخطيرًا للمنطقة، هو النتيجة النهائية لهذا المسار التاريخي. فمن خلال دعمها المباشر للجماعات المسلحة، أصبحت إيران مرتبطة بتأجيج الصراعات الطائفية والسياسية، ومسؤولة عن جرائم جسيمة في مناطق النزاع مثل سوريا (عبر دعم النظام والمليشيات المقاتلة) واليمن (عبر دعم جماعة الحوثي المسلحة)، ولبنان والعراق. لقد استغلت إيران الإرث المذهبي الذي شكله الصفويون لتوظيفه في سياسات خارجية عدوانية، مؤثرة بعمق في استقرار وأمن المنطقة.

إن قصة إيران هي شهادة على قوة العقيدة في تشكيل الأمم، وعلى أن التحولات التاريخية الكبرى لا تتوقف عند سقوط الدول، بل تستمر في نحت الهوية وتوجيه المصائر، لتبقى إيران اليوم هي القلعة الشيعية الكبرى التي شكلها السيف، وثبتها الفقهاء، وأطلقتها الثورة نحو آفاق عالمية.


1761325289978.png
 
انتهي بفضل الله

في انتظار تقييمكم و معرفه ارائكم و توجيهي في حل حدوث خطاء مني لا قدر الله
 
التعديل الأخير:
انتهي بفضل الله

في انتظار تقييمكم و معرفه ارائكم و توجيهي في حل حدوث خطاء مني لا قدر الله
اشكرك على البحث والمعلومات المفيدة

ومع ذلك ما زال البحث يحتاج الى تحقيق أكثر ودراسة أوسع
واجعل مقدمة بحثك هذا مقدمة لبحث أوسع وأكثر تفصيلاً
تشمل التحقيق في الشخصيات والتحول وأمور أخرى

وفقك الله تعالى
 
اشكرك على البحث والمعلومات المفيدة

ومع ذلك ما زال البحث يحتاج الى تحقيق أكثر ودراسة أوسع
واجعل مقدمة بحثك هذا مقدمة لبحث أوسع وأكثر تفصيلاً
تشمل التحقيق في الشخصيات والتحول وأمور أخرى

وفقك الله تعالى
انا عامل الموضوع مختصر على قد ما اقدر علشان اعطيه من كل جوانبه

بس كلام حضرتك معناه اني اعمل كتاب و للأسف انا مش مؤهل لده بصراحه انا مجرد هاوي يعني و محب للتاريخ و خلاص

و شكرا جدا على ذوقك اخي الكريم ❤️
 
من أجمل ما قرأت من مواضيع
كعادتك تبهرنا و تأخذنا للماضي

تحياتي إلى شخصك الجميل
 
هناك شيء كان لابد من التأكيد عليه كثيرا وهو مهم تاريخيا ودينيا وهو الصفويون أعداء شعب إيران تاريخيا ودينيا

التشيع مذهب فرض على سكان إيران بالقوة وليس بالرضى بل من طرف المليشيات الصفويون

حتى علماء الشيعة لم يكنوا موجودين في إيران وتم استقدام علماء شيعة من جبل عامل في لبنان لنشر المذهب وتعليم الناس العقيدة الشيعية في ايران بالقوة من طرف الصفويون

استمر هذا التحول خلال نحو قرنين كاملين حتى أصبحت الغالبية العظمى من السكان في ايران شيعة


لو كان عنوان الموضوع تاريخ فرض التشيّع بالقوة على الشعب الإيراني بالقوة كان اجمل

أحييك على الموضوع الرائع والجميل:love:(y)
 

الجزء الخامس: نقطة اللاعودة.. السيف الصفوي يُعلن ميلاد إيران الشيعية​


إذا كانت القرون العشرة الماضية قد زرعت بذور التمرد والصراع المذهبي والثقافي في تربة فارس، فإن القرن السادس عشر كان هو اللحظة التي اجتمعت فيها تلك البذور لتثمر دولة، لا بل هوية جديدة فُرضت بقوة السيف. إنها قصة الشاه إسماعيل الصفوي (1501-1524م)، الذي حوّل مذهبًا هامشيًا إلى دين دولة ملزم، ليصنع إيران كما نعرفها اليوم.

1. الشاه إسماعيل: القائد الملهم والإعلان المزلزل (1501 م)


في خضم الفوضى السياسية التي سادت بعد انهيار التيموريين وصراع الدول التركمانية (آق قويونلو وقره قويونلو)، ظهرت الطريقة الصفوية كقوة دينية عسكرية منظمة. الشاه إسماعيل، سليل شيوخ الطريقة، لم يكن مجرد قائد قبلي، بل كان يُقدم نفسه على أنه "المهدي المنتظر" و**"تجسيد إلهي"** (خاصة في نظر أتباعه القزلباش الأتراك).
في عام 1501 م، وبعد أن انتصر على آق قويونلو، دخل إسماعيل تبريز (عاصمة أذربيجان) وأعلن نفسه شاهًا (ملكًا) على فارس. هنا، اتخذ قراره المزلزل: إعلان المذهب الشيعي الاثني عشري دينًا رسميًا وحيدًا للدولة الجديدة.
دوافع القرار المذهبي: لم يكن الدافع دينيًا خالصًا، بل كان مزيجًا من:

  • التميز السياسي: إنشاء هوية مذهبية متفردة تميز الدولة الصفوية عن جيرانها الأقوياء (العثمانيين في الغرب والأوزبك في الشرق)، وكلاهما سُني المذهب. كان هذا الإعلان بمثابة تأمين حدود سياسية عبر حدود دينية.
  • الولاء العقائدي: استغلال الولاء المتطرف لجيشه من "القزلباش"، الذين كانوا يؤمنون بألوهية زعيمهم. التشيع الإثني عشري وفر الإطار الشرعي لهذا الولاء المطلق.
  • العمق الفارسي: استغلال الوجود الشيعي التاريخي في مدن معينة (قم، كاشان) والتعاطف العام مع آل البيت المتأصل في الوجدان الفارسي.



2. مراحل فرض التشيع: الإبادة الثقافية والإحلال الفقهي


كانت مهمة تحويل أمة بأكملها من أغلبية سُنية (80-90% تقريباً) إلى أقلية شيعية مهمة شاقة ودموية، تمت على مراحل منظمة:

المرحلة الأولى: التطهير القسري وعسكرة المذهب (1501 - 1510 م)


حيث استخدم الشاه إسماعيل وقبائل القزلباش المتعصبة قوة مفرطة وإرهابًا منظمًا ضد المؤسسة الدينية السُنية. أعدم العلماء السُنّة الذين رفضوا التحول علنًا أو الذين رفضوا "التبراء" (لعن الخلفاء الراشدين الثلاثة), وايضا قام بتدمير المساجد والمدارس والمقامات السُنية، وتحويل بعضها إلى حسينيات أو مساجد شيعية. وكانت أهم المدن السُنية التي تعرضت للتطهير هي تبريز وأصفهان, و لقد تم فرض شعيرة "التبراء" علنًا في الأسواق والمساجد. كان هناك ما يُعرف بـ "التبرائيون"، وهم مجموعة من الجنود كانت مهمتهم السير في الشوارع وإجبار الناس على التبراء. رفض المشاركة في هذه الشعائر أو إبداء أي اعتراض كان كافيًا لجلب القتل. كان الهدف هو اقتلاع الجذور السُنية وإلغاء الهوية السُنية بشكل كامل وسريع.

المرحلة الثانية: الاستعانة بعلماء الخارج وبناء المؤسسة الفقهية (القرن 16 م)


بعد عمليات القمع، أدرك الصفويون أنهم يمتلكون القوة العسكرية، لكنهم يفتقرون إلى العمق الفقهي والعلمي للمذهب الشيعي الإثني عشري المنظم (خاصة أن التشيع الإثني عشري كان قد مر بمرحلة "الغيبة الكبرى" مما أضعف هيكله المؤسسي).
فقام الشاه إسماعيل وخلفاؤه (خاصة الشاه طهماسب) باستدعاء وإغراء العلماء الشيعة الإثني عشرية البارزين من المراكز التقليدية في جبل عامل (جنوب لبنان)، والبحرين، والأحساء. هذه المناطق كانت شيعية تقليدية وتمتلك مدرسة فقهية عريقة, فقام هؤلاء العلماء (أمثال المحقق الكركي الذي أصبح شيخ الإسلام وأهم شخصية دينية في الدولة) قدموا الدعم الفقهي، ونظموا القضاء، ووضعوا المناهج، وأسسوا الهيكلية الإدارية والدينية للدولة. هم من حولوا التشيع من حركة صوفية عسكرية متطرفة إلى مذهب فقهي منظم (أصولي) يمكن أن يحكم دولة , ايضا تم تحويل الأوقاف السُنية الضخمة إلى أوقاف شيعية، مما أمن التمويل اللازم لبناء المدارس الشيعية (الحوزات) وتكوين طبقة دينية جديدة موالية للدولة. كان العلماء يُمنحون نفوذًا هائلاً في الدولة، بل ويُعينون كـ "شيخ الإسلام" (كبير علماء الدولة) في كل مدينة.


المرحلة الثالثة: التشيُّع العميق والاندماج القومي (القرون 16 - 18 م)


نجح الصفويون في ربط التشيع بالهوية الفارسية الجديدة، وصوروه على أنه الدين الحقيقي للأمة الإيرانية، الذي يمثل استقلالها عن "الأجنبي" السُني (العثماني والأوزبكي). هذا خلق مفهومًا جديدًا للهوية الإيرانية-الشيعية, فتم إدخال الشعائر الشيعية الحسينية (المآتم، والمواكب، والتعزية) بقوة في الحياة اليومية، مما أدى إلى تغيير تدريجي في نمط التدين الشعبي. أصبحت المدن السُنية العريقة (مثل أصفهان وشيراز وقزوين) تتحول إلى مراكز شيعية جديدة ببطء من خلال التعليم والإلزام, ايضا كان التشيع بالنسبة للكثيرين من الطبقات الأدنى والفلاحين يمثل العدالة الاجتماعية والتحدي للسلطة القديمة (الممثلة في الخلافة السُنية). مع مرور الأجيال، ومع رسوخ الشعائر، أصبح التشيع هو الهوية الدينية الطبيعية للمجتمع.


3. الصراع العثماني-الصفوي: رسم الحدود بالدم المذهبي


لم يكن هذا التحول ليتم دون رد فعل خارجي، فقد كانت الدولة العثمانية السُنية ترى في قيام دولة شيعية متطرفة على حدودها تهديدًا وجوديًا وأيديولوجيًا، خاصة وأن الشاه إسماعيل كان يحرض القبائل التركمانية الشيعية (القزلباش) داخل أراضي العثمانيين.
فحدثت معركة جالديران (1514 م) و كانت هذه المعركة هي ذروة الصراع. سحق السلطان العثماني سليم الأول جيش الشاه إسماعيل، وأظهر التفوق العسكري العثماني (خاصة في استخدام المدفعية). ورغم الهزيمة المذلة، فإن هذه المعركة لم تنهِ الدولة الصفوية, أدت هذه المعارك إلى ترسيخ الحدود بين الإمبراطوريتين، وجعلت الخط الفاصل بينهما حدًا مذهبيًا. أصبح الوجود السُني في إيران يتعرض للقمع أكثر فأكثر كونه مرتبطًا بـ "العدو" العثماني، مما عجل بعملية التحول المذهبي الداخلي.

بحلول نهاية العصر الصفوي في القرن الثامن عشر، كانت إيران قد تحولت بشكل لا رجعة فيه. التشيع لم يعد مذهب الأقلية المقموعة، بل أصبح المكوّن الأساسي للهوية الإيرانية. على الرغم من أن بعض المناطق ظلت سُنية (مثل كردستان وبلوشستان)، إلا أن قلب فارس ومركزها الحضاري أصبحا شيعيين بالكامل, لقد نجح الصفويون، باستخدام مزيج فريد من القوة العسكرية (القزلباش)، التخطيط الديني (جلب العلماء)، والمزج بين الدين والهوية القومية، في تحقيق "نقطة اللاعودة" التاريخية. تم "كسر الضلع السُني" لإيران، وولدت "القلعة الشيعية الكونية" التي أصبحت محورًا دينيًا وجيوسياسيًا في العالم الإسلامي.

هناك شيء كان لابد من التأكيد عليه كثيرا وهو مهم تاريخيا ودينيا وهو الصفويون أعداء شعب إيران تاريخيا ودينيا

التشيع مذهب فرض على سكان إيران بالقوة وليس بالرضى بل من طرف المليشيات الصفويون

حتى علماء الشيعة لم يكنوا موجودين في إيران وتم استقدام علماء شيعة من جبل عامل في لبنان لنشر المذهب وتعليم الناس العقيدة الشيعية في ايران بالقوة من طرف الصفويون

استمر هذا التحول خلال نحو قرنين كاملين حتى أصبحت الغالبية العظمى من السكان في ايران شيعة


لو كان عنوان الموضوع تاريخ فرض التشيّع بالقوة على الشعب الإيراني بالقوة كان اجمل

أحييك على الموضوع الرائع والجميل:love:(y)
انا ذاكر ده هنا اخي الكريم

انا حبيت يكون مركز اكتر على عرض الخلفيه الدينيه للمنطقه قبل ظهور التشيع لان للأسف الكثير مكنش عندهم معلومه ان ايران لفتره معينه كان 90% من أهلها سنه فحبيت ادي لمحه عن تاريخها الاسلامي و المراحل الي مرت بيه

و عموما شكرا على ذوقك ❤️
 
برايي احد اكبر الكوارث التي عانى منها المسلمون هي خسارة ايران و المجازر بحق المسلمين فيها نشكر الاخ @ باحث في التاريخ على تسليط الضوء على هذا الفصل المغيب من تاريخ الامة الذي مع الاسف لا نجد له ذكرا لا في مناهج الدراسة او كتب التاريخ حاليا
 
برايي احد اكبر الكوارث التي عانى منها المسلمون هي خسارة ايران و المجازر بحق المسلمين فيها نشكر الاخ @ باحث في التاريخ على تسليط الضوء على هذا الفصل المغيب من تاريخ الامة الذي مع الاسف لا نجد له ذكرا لا في مناهج الدراسة او كتب التاريخ حاليا
العفو اخي الكريم اتمنى يكون الموضوع نال رضاك ❤️
 
عودة
أعلى