الصورة لعودة أبوتايه، فارس عرب البادية الذي مهد الطريق لسقوط القدس وقيام "إســر١\*ئيل":
قال عنه الجاسوس البريطاني لورنس العرب: «حينما يموت عودة أبوتايه الحويطي، تكون العصور الوسطى في هذه الصحراء قد انتهت».
وُلِد عودة أبوتايه حوالي سنة 1870م في مضارب قبيلة الحويطات، إحدى أكبر قبائل جنوب الأردن وشمال الحجاز وسيناء. نشأ في بيئة بدوية قوامها التنقل وتربية الإبل والغزو، حيث عاد الأعراب في عصر الضعف الإسلامي إلى حياة الغزو وقطع الطريق، في صورة شبيهة بما كانوا عليه في الجاهلية قبل الإسلام، رغم أن الإسلام جاء فألغى هذا النوع من الغزو الداخلي، وجعل الجهاد في سبيل الله ضد أعداء الأمة لا ضد الإخوة من المسلمين. لكن عودة، مثل كثير من البدو في عصره، ظل متمسكًا بتقليد الغزو القبلي، مما جعل شجاعته موجهة في الغالب ضد أبناء جلدته، لا ضد الغزاة الأجانب.
برع عودة منذ صغره في القتال، فخاض عشرات الغزوات ضد القبائل الأخرى للنهب والسلب والثأر. حتى قال عنه المؤرخ سليمان موسى إنه أصبح مع بداية الحرب العالمية الأولى زعيمًا من أكبر زعماء العرب في بادية الشام ومحاربًا صنديدًا حتى لا يكاد يخلو جزء من جسده من أثر رصاصة أو ضربة سيف. ومع ذلك، لم يُعرف عنه أنه واجه القوى الأجنبية، إذ كانت معاركه كلها ضد العرب والمسلمين من أبناء قومه.
ولم يكن عودة على وفاق مع الدولة العثمانية التي حاولت فرض سيطرتها على البدو. سعت الدولة إلى استمالته بالهدايا، حتى أنها صنعت له طقم أسنان خاصًا. غير أن رفضه للعثمانيين كان قائمًا على طبيعة البدو الذين كرهوا أن يُدمجوا ضمن دولة مركزية، مفضلين حياة الاستقلال والترحال والغزو على الخضوع لنظام إداري أو عسكري.
مع اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914م)، أعلن الشريف حسين تمرده على الدولة العثمانية بدعم بريطاني. وفي مطلع 1917م، التحق عودة بمعسكر الأمير فيصل في منطقة الوجه شمال الحجاز. وعند تقديم الطعام، قام بتكسير طقم الأسنان الذي صنعه له الأتراك أمام دهشة الحضور، قائلاً: «لن آكل طعام الأمير قائد جيش الثورة بأسنان تركية» . ومنذ ذلك اليوم امتنع عن أكل المنسف، طعامه المفضل، حتى فُتحت العقبة حيث صنع له طبيب مصري طقمًا جديدًا.
منذ تلك اللحظة، صار "القائد الميداني" لقوات البدو، بينما لورنس هو العقل المدبر السياسي والعسكري، وفيصل هو الواجهة الرسمية باسم الثورة ، و منذ أن التقى لورنس العرب بعودة أُعجب بجرأته وولائه، ورأى فيه أداة مثالية لقيادة البدو؛ إذ كان مقاتلًا لا يُشق له غبار، لكنه كان أعرابيًّا جلفًا، أميًّا، تدفعه غرائزه ويفتقر للرؤية السياسية، مما يسهل توجيهه. وهكذا أصبح عودة رأس حربة في حرب صُبّت نتائجها في مصلحة بريطانيا.
لم يكن عودة مؤمنًا بأفكار "القومية العربية" أو "التحرر" و لا يفهمها ، بل انجرف إلى ثورة الشريف بدافع العصبية و عدائه للعثمانيين ورغبته في الغنائم والهيبة والمجد، إضافة إلى الإغراءات البريطانية.
أما بالنسبة لبريطانيا، كان عوده الورقة الذهبية: زعيم قبيلة قوية، بفضل قصص بطولاته في الغزو كان قادر على حشد المقاتلين من البدو خاصة الشباب منهم .
كان أعظم أدواره في الهجوم على العقبة (1917م):
قاد قوات البدو عبر صحراء قاسية لمدة ثمانية أسابيع، وهاجم العقبة من جهة البر غير المحصنة بينما كان البحر تحت سيطرة البريطانيين. فسقطت الحامية العثمانية، وأُسر جنودها على يد عودة وقواته.
فور سقوط العقبة، توجه لورنس مسرعًا إلى مصر والتقى بالجنرال اللنبي. وكان الإنجليز قد فشلوا في اقتحام غزة مرتين أمام العثمانيين، فوجد في نجاح عودة فرصة ذهبية. خصص اللنبي 20 ألف جنيه إسترليني شهريًا لدعم قوات البدو، إضافة إلى المؤن والسلاح والعتاد، كما أرسل الطائرات البريطانية لتثبيت السيطرة على العقبة.
بعد احتلال العقبة، حاولت القوات العثمانية استعادتها بشتى الطرق لصد زحف الجيش البريطاني نحو فلسطين والقدس. فدفعت بتعزيزاتها نحو العقبة، ووقعت مواجهات عنيفة انتهت بسحق القوات العثمانية وانتصار الأعراب بقيادة عودة بن تايه، خصوصًا بعد أن نجح لورنس في استجلاب دعم الطيران الإنجليزي من الجنرال اللنبي ووصول الطائرات البريطانية إلى العقبة.
كان سقوط العقبة نقطة التحول: إذ انسحب العثمانيون من سيناء، فتقدم البريطانيون نحو فلسطين دون خوف من تطويقهم من الجنوب. وبعد أشهر، سقطت غزة، ثم دخل اللنبي القدس في ديسمبر 1917م. لقد كان التفاف البدو بقيادة عودة على الجيش العثماني من الخلف السبب المباشر في انهيار دفاعاته، وهو ما عجز الإنجليز عن تحقيقه وحدهم.
بعد نجاح العقبة، واصل عودة هجماته تحت إشراف لورنس: هاجم الكرك ووجّه رسالة متحديًا المتصرف العثماني بأن يخرج من "بلاد العرب"، كما شارك في معركة الطفيلة (1918م)، وساهم في عمليات قطع السكك الحديدية وزرع الألغام التي شلت إمدادات الجيش العثماني.
وبهذا الدور، كان عودة أداة رئيسية في تشتيت الجيش العثماني وتمزيق خطوطه الخلفية، مما سهّل على البريطانيين التقدم والاستيلاء على فلسطين والشام.
وانتهت الحرب بسقوط العثمانيين وتقاسم بريطانيا وفرنسا لبلاد الشام وفق اتفاقية سايكس–بيكو. لم ينل العرب استقلالهم، بل خسروا فلسطين لصالح المشروع الص.هي.وني. أما عودة، فعاد إلى حياة البادية في وادي رم بالأردن.
ظل بعيدًا عن السياسة حتى وفاته عام 1949م، أي بعد عام واحد من قيام دولة "إســر١*ئيل" عام 1948م، تلك الدولة التي مهّد لسقوط فلسطين بقيادته الهجوم على العقبة وما تلاه من عمليات. لقد مات وهو يرى النتيجة المريرة: الثورة التي شارك فيها لم تُوحّد العرب، بل سلّمتهم للاستعمار ومكّنت للصه.يو.نية.
ورغم هذه النهاية، ظل عودة أبوتايه عند القوميين العرب رمزًا للفروسية والبطولة، ويُذكر بفخر كأحد أبطال الثورة العربية الكبرى. لكن الحقيقة أن شجاعته وجرأته لم تُوجَّها يومًا ضد الغزاة البريطانيين، بل استُخدمتا في حرب خدمت الاستعمار وأسهمت في ضياع فلسطين.
---
المراجع :
1- سليمان موسى، الحركة العربية: سيرة الثورة العربية الكبرى، دار النشر الأردنية، عمّان.
2- T.E. Lawrence, Seven Pillars of Wisdom.
قال عنه الجاسوس البريطاني لورنس العرب: «حينما يموت عودة أبوتايه الحويطي، تكون العصور الوسطى في هذه الصحراء قد انتهت».
وُلِد عودة أبوتايه حوالي سنة 1870م في مضارب قبيلة الحويطات، إحدى أكبر قبائل جنوب الأردن وشمال الحجاز وسيناء. نشأ في بيئة بدوية قوامها التنقل وتربية الإبل والغزو، حيث عاد الأعراب في عصر الضعف الإسلامي إلى حياة الغزو وقطع الطريق، في صورة شبيهة بما كانوا عليه في الجاهلية قبل الإسلام، رغم أن الإسلام جاء فألغى هذا النوع من الغزو الداخلي، وجعل الجهاد في سبيل الله ضد أعداء الأمة لا ضد الإخوة من المسلمين. لكن عودة، مثل كثير من البدو في عصره، ظل متمسكًا بتقليد الغزو القبلي، مما جعل شجاعته موجهة في الغالب ضد أبناء جلدته، لا ضد الغزاة الأجانب.
برع عودة منذ صغره في القتال، فخاض عشرات الغزوات ضد القبائل الأخرى للنهب والسلب والثأر. حتى قال عنه المؤرخ سليمان موسى إنه أصبح مع بداية الحرب العالمية الأولى زعيمًا من أكبر زعماء العرب في بادية الشام ومحاربًا صنديدًا حتى لا يكاد يخلو جزء من جسده من أثر رصاصة أو ضربة سيف. ومع ذلك، لم يُعرف عنه أنه واجه القوى الأجنبية، إذ كانت معاركه كلها ضد العرب والمسلمين من أبناء قومه.
ولم يكن عودة على وفاق مع الدولة العثمانية التي حاولت فرض سيطرتها على البدو. سعت الدولة إلى استمالته بالهدايا، حتى أنها صنعت له طقم أسنان خاصًا. غير أن رفضه للعثمانيين كان قائمًا على طبيعة البدو الذين كرهوا أن يُدمجوا ضمن دولة مركزية، مفضلين حياة الاستقلال والترحال والغزو على الخضوع لنظام إداري أو عسكري.
مع اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914م)، أعلن الشريف حسين تمرده على الدولة العثمانية بدعم بريطاني. وفي مطلع 1917م، التحق عودة بمعسكر الأمير فيصل في منطقة الوجه شمال الحجاز. وعند تقديم الطعام، قام بتكسير طقم الأسنان الذي صنعه له الأتراك أمام دهشة الحضور، قائلاً: «لن آكل طعام الأمير قائد جيش الثورة بأسنان تركية» . ومنذ ذلك اليوم امتنع عن أكل المنسف، طعامه المفضل، حتى فُتحت العقبة حيث صنع له طبيب مصري طقمًا جديدًا.
منذ تلك اللحظة، صار "القائد الميداني" لقوات البدو، بينما لورنس هو العقل المدبر السياسي والعسكري، وفيصل هو الواجهة الرسمية باسم الثورة ، و منذ أن التقى لورنس العرب بعودة أُعجب بجرأته وولائه، ورأى فيه أداة مثالية لقيادة البدو؛ إذ كان مقاتلًا لا يُشق له غبار، لكنه كان أعرابيًّا جلفًا، أميًّا، تدفعه غرائزه ويفتقر للرؤية السياسية، مما يسهل توجيهه. وهكذا أصبح عودة رأس حربة في حرب صُبّت نتائجها في مصلحة بريطانيا.
لم يكن عودة مؤمنًا بأفكار "القومية العربية" أو "التحرر" و لا يفهمها ، بل انجرف إلى ثورة الشريف بدافع العصبية و عدائه للعثمانيين ورغبته في الغنائم والهيبة والمجد، إضافة إلى الإغراءات البريطانية.
أما بالنسبة لبريطانيا، كان عوده الورقة الذهبية: زعيم قبيلة قوية، بفضل قصص بطولاته في الغزو كان قادر على حشد المقاتلين من البدو خاصة الشباب منهم .
كان أعظم أدواره في الهجوم على العقبة (1917م):
قاد قوات البدو عبر صحراء قاسية لمدة ثمانية أسابيع، وهاجم العقبة من جهة البر غير المحصنة بينما كان البحر تحت سيطرة البريطانيين. فسقطت الحامية العثمانية، وأُسر جنودها على يد عودة وقواته.
فور سقوط العقبة، توجه لورنس مسرعًا إلى مصر والتقى بالجنرال اللنبي. وكان الإنجليز قد فشلوا في اقتحام غزة مرتين أمام العثمانيين، فوجد في نجاح عودة فرصة ذهبية. خصص اللنبي 20 ألف جنيه إسترليني شهريًا لدعم قوات البدو، إضافة إلى المؤن والسلاح والعتاد، كما أرسل الطائرات البريطانية لتثبيت السيطرة على العقبة.
بعد احتلال العقبة، حاولت القوات العثمانية استعادتها بشتى الطرق لصد زحف الجيش البريطاني نحو فلسطين والقدس. فدفعت بتعزيزاتها نحو العقبة، ووقعت مواجهات عنيفة انتهت بسحق القوات العثمانية وانتصار الأعراب بقيادة عودة بن تايه، خصوصًا بعد أن نجح لورنس في استجلاب دعم الطيران الإنجليزي من الجنرال اللنبي ووصول الطائرات البريطانية إلى العقبة.
كان سقوط العقبة نقطة التحول: إذ انسحب العثمانيون من سيناء، فتقدم البريطانيون نحو فلسطين دون خوف من تطويقهم من الجنوب. وبعد أشهر، سقطت غزة، ثم دخل اللنبي القدس في ديسمبر 1917م. لقد كان التفاف البدو بقيادة عودة على الجيش العثماني من الخلف السبب المباشر في انهيار دفاعاته، وهو ما عجز الإنجليز عن تحقيقه وحدهم.
بعد نجاح العقبة، واصل عودة هجماته تحت إشراف لورنس: هاجم الكرك ووجّه رسالة متحديًا المتصرف العثماني بأن يخرج من "بلاد العرب"، كما شارك في معركة الطفيلة (1918م)، وساهم في عمليات قطع السكك الحديدية وزرع الألغام التي شلت إمدادات الجيش العثماني.
وبهذا الدور، كان عودة أداة رئيسية في تشتيت الجيش العثماني وتمزيق خطوطه الخلفية، مما سهّل على البريطانيين التقدم والاستيلاء على فلسطين والشام.
وانتهت الحرب بسقوط العثمانيين وتقاسم بريطانيا وفرنسا لبلاد الشام وفق اتفاقية سايكس–بيكو. لم ينل العرب استقلالهم، بل خسروا فلسطين لصالح المشروع الص.هي.وني. أما عودة، فعاد إلى حياة البادية في وادي رم بالأردن.
ظل بعيدًا عن السياسة حتى وفاته عام 1949م، أي بعد عام واحد من قيام دولة "إســر١*ئيل" عام 1948م، تلك الدولة التي مهّد لسقوط فلسطين بقيادته الهجوم على العقبة وما تلاه من عمليات. لقد مات وهو يرى النتيجة المريرة: الثورة التي شارك فيها لم تُوحّد العرب، بل سلّمتهم للاستعمار ومكّنت للصه.يو.نية.
ورغم هذه النهاية، ظل عودة أبوتايه عند القوميين العرب رمزًا للفروسية والبطولة، ويُذكر بفخر كأحد أبطال الثورة العربية الكبرى. لكن الحقيقة أن شجاعته وجرأته لم تُوجَّها يومًا ضد الغزاة البريطانيين، بل استُخدمتا في حرب خدمت الاستعمار وأسهمت في ضياع فلسطين.
---

1- سليمان موسى، الحركة العربية: سيرة الثورة العربية الكبرى، دار النشر الأردنية، عمّان.
2- T.E. Lawrence, Seven Pillars of Wisdom.