أديب الشيشكلي: القائد الذي أراد بناء سوريا… فأسقطه تمرد الدروز

إنضم
7 مارس 2022
المشاركات
13,255
التفاعل
19,983 366 12
الدولة
Egypt
بسم الله الرحمن الرحيم

في كل مرة تبدو فيها سوريا على وشك أن تستعيد ملامح الدولة المركزية، تنهض من بين طيات الجغرافيا والتاريخ قوى محلية تسحب البلاد إلى الوراء. ويبدو أن لعنة التمرد الطائفي لم تغادر سوريا قط، بل تتجدد في كل جيل بثوب مختلف، وإن بقيت الروح واحدة.


في مشهد لا يخلو من التكرار المأساوي، تتصدر محافظة السويداء من جديد واجهة الأحداث، ويعود أبناء الطائفة الدرزية لرفع السلاح لا في وجه محتل أجنبي، بل ضد الدولة السورية. ومع ما يُنقل عن تعاون بعض الزعامات المحلية الدرزية مع الكيان الصهيوني، وتلقيهم الدعم اللوجستي والتقني، يعود شبح التاريخ ليفتح أبوابه على مصراعيه، ويستدعي اسمًا لطالما ارتبط بمحاولة كسر هذا النمط الانفصالي: الجنرال أديب الشيشكلي.


قبل سبعين عامًا، واجه الشيشكلي المعضلة ذاتها: دولة هشّة، طوائف متناحرة، تدخلات أجنبية، وطائفة درزية تتمركز في الجبل، تحتفظ بسلاحها، وترفض الانصهار في جسد الوطن. حاول أن يُحكِم قبضة الدولة، أن يجعل من الجيش العمود الفقري لوحدة سوريا، وأن يكسر فكرة الزعامة الدينية والإقطاع الطائفي، لكن محاولته تلك قوبلت بتمرّد دموي، تغذّى بدعم خارجي وامتد حتى إسقاطه ونفيه.


قال الشيشكلي ذات مرة:


"لا يمكن أن تُبنى دولة على رمال الطوائف والمصالح الضيقة… الوطن لا يُقسم حسب عدد المآذن والكنائس!"

واليوم، وبعد عقود من الفوضى، وتفكك البلاد في أتون الحرب الأهلية، يظهر أن كلمات الشيشكلي لم تكن مجرد شعارات جنرال طموح، بل نبوءة مبكرة لما ستؤول إليه سوريا حين يُترك القرار السياسي رهينة للهويات المتصارعة.


فمن هو أديب الشيشكلي؟ وكيف حاول أن يبني جمهورية سورية حديثة؟ ولماذا كان جبل العرب هو الساحة التي بدأت منها نهايته؟ وهل كان مجرمًا ديكتاتورًا كما تصفه خصومه، أم رجل دولة حاول المستحيل في وطن ممزق؟ ثم… ماذا لو بقي في الحكم؟ هل كانت سوريا ستنجو من حربها الأهلية القادمة؟


هذا ما سنحاول سرده وتحليله في هذا الموضوع ان شاء الله.



1753004197758.png



سوريا قبل الشيشكلي – من الإرث العثماني إلى العثرات الوطنية​


بين إرث الاستعمار وتمرد الداخل… كان الطريق إلى الشيشكلي مفروشًا بالأشواك


قبل أن يبرز اسم أديب الشيشكلي في المشهد السوري، كانت البلاد تمر بمرحلة عصيبة من التكوّن السياسي والاجتماعي، تجتاحها الرياح المتضاربة بين طموح الاستقلال وهشاشة الدولة الناشئة. فـ"سوريا الكبرى" التي حملت يومًا الحلم العربي القومي، أُجهضت مبكرًا على أعتاب الاستعمار، ودُفنت معها آمال الوحدة والكرامة.


سوريا ما قبل الاستقلال: شعب بلا سيادة

خلال العهد العثماني، عاشت بلاد الشام ضمن منظومة لا تعرف مركزية قوية في الداخل، لكنها حافظت على توازن هشّ بين المكونات الطائفية والاجتماعية، بفضل الإدارات المحلية ونظام الملل الذي أعطى بعض الامتيازات للطوائف الكبرى. ومع نهاية الحرب العالمية الأولى وسقوط السلطنة، بدأت خريطة المشرق تعاد تشكيلها، وسط طموحات استقلالية عربية اصطدمت بحقائق الهيمنة الغربية الجديدة.


فرض الانتداب الفرنسي على سوريا عام 1920، بعد سحق حلم فيصل بن الحسين بقيادة مملكة عربية موحدة، كان إيذانًا بمرحلة جديدة من الصراع. عمد الفرنسيون إلى تقسيم البلاد إلى دويلات طائفية: دولة دمشق، دولة حلب، دولة العلويين، دولة الدروز، ولبنان الكبير. لم يكن هذا التقسيم اعتباطيًا، بل جزءًا من سياسة "فرّق تسد"، التي زرعت بذور الانقسام المزمنة في الجسد السوري.

"فرّق تسد… كانت تلك سياسة الفرنسيين، فصنعوا طوائفهم كما يشاؤون، ومزّقوا الجغرافيا والنفوس معًا"
— الصحفي السوري فارس الخوري، في إحدى جلسات الجمعية التأسيسية عام 1946

1753007707899.png


اقتصاديًا، كانت سوريا بلدًا زراعيًا يعتمد على محاصيل محدودة، يعاني من فقر البنية التحتية وسيطرة كبار الملاّك والعائلات التقليدية على مقدرات الاقتصاد. أما اجتماعيًا، فقد سادت العلاقات العشائرية والطائفية، وكانت الهوية الوطنية ما تزال في طور التشكل، تقاوم عوامل التفتت وتبحث عن نخبة تقودها إلى دولة مركزية حديثة.

"كنا نحيا في وطن مقسم اقتصاديًا كما هو مقسم سياسيًا، لا عدالة في الثروة ولا في الفرص، والريف يُترك لجوعه وغضبه"
— من مذكرات جمال الأتاسي


سياسيًا، كانت البلاد تعاني من تقلبات حادة؛ من مقاومة مسلحة (كما في الثورة السورية الكبرى 1925–1927 بقيادة سلطان الأطرش) إلى مساومات سياسية مع الفرنسيين قادتها طبقة من البرجوازية المدينية. لم تكن الحياة الحزبية مستقرة، بل شهدت انقسامات متواصلة وصراعات بين التيارات القومية، والشيوعية، والإسلامية، وحتى داخل التيار القومي نفسه.


"سوريا كانت تُحكم من الشوارع أكثر مما تُحكم من القصور… السياسة فيها كانت ضوضاء أكثر منها حُكمًا"
— الباحث الفرنسي جان بيير فيليو


أوضاع سوريا بعد الاستقلال (1946): الدولة الوليدة في مهب الرياح​


حين خرجت القوات الفرنسية من سوريا عام 1946، بدا أن الحلم الذي راود السوريين طويلًا قد تحقّق أخيرًا. أصبح لسوريا علمها الخاص، وجيشها الوطني، وحكومتها المستقلة. لكن الاستقلال كان أشبه بقطرة ماء في صحراء ممتدة، إذ وجدت البلاد نفسها فجأة في مواجهة تركة ثقيلة من التخلّف، والتمزّق، والتبعية.


سياسيًا، دخلت سوريا حقبة من الصراعات الحزبية والانقلابات العسكرية، حيث تنازعت النخب المدنية والعسكرية على السلطة، وغاب الإجماع الوطني حول شكل الدولة ومسارها. برزت الأحزاب الكبرى مثل "الكتلة الوطنية"، و"الحزب القومي السوري الاجتماعي"، و"حزب البعث"، و"الإخوان المسلمين"، ولكنها كانت غارقة في الانقسامات الأيديولوجية والتناحر الشخصي. وبسبب هذا التناحر، أصبحت الديمقراطية السورية قصيرة النفس، وسرعان ما تحولت صناديق الاقتراع إلى فوهات بنادق.


اجتماعيًا، كانت سوريا موزّعة بين مدنٍ تتجه إلى الحداثة مثل دمشق وحلب، وأريافٍ ومناطق جبلية تعاني من الفقر، والعزلة، والجهل، وأحيانًا القبلية والطائفية. كان المجتمع السوري هشًا، متعددًا في طوائفه وأعراقه، ومفتقدًا لأي مشروع وطني يدمج هذه الفسيفساء في وحدة متماسكة. ورغم أن فكرة “الوطن السوري” بدأت تترسخ، إلا أن الولاءات الضيقة – الطائفية والقبلية والمناطقية – ظلت هي الأقوى.


اقتصاديًا، خرجت سوريا من الانتداب وهي تفتقر إلى البنية التحتية الحديثة، وتسيطر فيها الإقطاعيات على الزراعة، وتتحكم أقلية برجوازية في التجارة والصناعة. لم تكن هناك خطة واضحة للتنمية، ولا توزيع عادل للثروة، ولا تدخل حقيقي للدولة لإصلاح التفاوتات الطبقية. وفي بلد يعتمد أغلب سكانه على الزراعة، كانت غالبية الفلاحين يرزحون تحت ديون الإقطاعيين، بينما تغيب شبكات الري الحديثة والأسواق العادلة.


عسكريًا، وُلد الجيش السوري من رحم مدرسة عسكرية فرنسية النمط، لكنه كان صغيرًا في عدده، محدودًا في تسليحه، ويفتقر إلى عقيدة واضحة. ومع ذلك، سرعان ما أصبح لاعبًا سياسيًا حاسمًا. فقد رأى بعض الضباط – خصوصًا من الجيل الذي انتمى إلى "جيش الشرق" زمن الفرنسيين – أن لهم الحق في “تصحيح” المسار السياسي حين تضعف الحكومات المنتخبة، وهو ما مهد الطريق لزمن الانقلابات.


كان هذا هو المشهد الذي ظهر فيه أديب الشيشكلي... دولة فتية تتأرجح فوق حبل رفيع بين الأمل والانهيار، تبحث عن قائد قوي يُنقذها من الفوضى، ويمنحها مشروعًا وطنيًا متماسكًا. لكن، كما ستُظهر السنوات التالية، فإن الحلم سرعان ما يصطدم بالواقع، والتناقضات العميقة في جسد الوطن.


1753007771100.png

إرهاصات الصراع الذي ما زال مستمرًا…


ما بين التنازع على الهوية، والتشابك الإقليمي، لعبت الطوائف دورًا مركزيًا في تشكيل الواقع السوري. وبينما اعتبر البعض أن صعود العسكر كان محاولة لبناء دولة قوية تقف في وجه التفكك، رأى آخرون أنه أدى لمزيد من الانقسامات. والمفارقة أن جذور الكثير من هذه الإشكالات – بما فيها دور الطائفة الدرزية – ستعود لتطفو على السطح في العقود التالية، وتجد صداها مجددًا في تمرد جبل الدروز اليوم ضد الرئيس "أحمد الشرع"، ورفع أعلام إسرائيل في السويداء، في مشهد يكاد يعيد سرد تاريخ الخيانة بلونٍ معاصر.


"من لم يتعلّم من تاريخ جبل الدروز، سيظل يدفع ثمن ثقته كل مرة… حتى تُفهم الخيانة بوصفها جزءًا من مشروعٍ وليس نزوة"
باحث سوري معاصر تعقيبًا على أحداث السويداء

كان هذا هو المسرح الذي سيظهر فيه أديب الشيشكلي، شابًا طموحًا، ابن الجنوب، ابن الجندية، حاملًا همّ الوحدة في قلبٍ تمزقه الطوائف.
 
نشأة أديب الشيشكلي وخلفيته: الجندي ابن الأزمة


وُلد أديب الشيشكلي في مدينة حماة عام 1909، لأسرة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة، وكان والده محمد الشيشكلي من وجهاء المدينة المحليين، عُرف بنزعته القومية وعدائه للوجود العثماني والفرنسي على السواء. تربّى أديب في بيت متشبع بالأفكار الوطنية، حيث كان محاطًا ببيئة محافظة دينية لكنها غير متزمتة، ووسط شعور دائم بالانتماء لسوريا الكبرى.


درس أديب تعليمه الابتدائي والثانوي في حماة ودمشق، ثم التحق بـالكلية الحربية في دمشق عام 1930، وكان من أوائل الضباط السوريين الذين تلقوا تدريبهم ضمن نظام فرنسي صارم، لكنّه لم يخفِ مشاعر الكراهية للوجود الفرنسي في بلاده، بل أظهر مواقف عدائية مبكرة جعلته موضع مراقبة من سلطات الانتداب.


برغم تلقيه تعليماً عسكرياً حديثاً على يد ضباط فرنسيين، ظل أديب الشيشكلي متشبثًا بقوميته ورفضه المطلق لأي وصاية أجنبية، وكان يرى في الكفاح الوطني لا مجرد واجب بل قدر جيل بأكمله.


خدم الشيشكلي لاحقًا في جيش الشرق (الذي أنشأته فرنسا لإدارة شؤون الأمن في سوريا ولبنان)، وهناك، تعمقت رؤيته لفساد النظام الاستعماري واحتقاره للسوريين والعرب. يقول أحد زملائه في مذكراته:



"كان الشيشكلي يحدّق في الضباط الفرنسيين بعين فيها تمرّد صامت… لم يكن يتكلم كثيرًا، لكنه كان دائم التذمر من حالة الذل التي نعيشها كعسكريين سوريين في جيش لا يحترمنا."

1753008162272.png

الشيشكلي اثناء خدمته جيش الشرق

لاحقًا، انضم إلى "جيش الإنقاذ" الذي أسّسه القائد فوزي القاوقجي خلال حرب فلسطين عام 1948، وقاتل هناك ببسالة، ما عزّز سمعته كضابط جريء وقادر. تميز بأسلوبه العملي والمباشر في القيادة، ولم يكن يخشى المجازفة. في إحدى شهادات القادة العرب عنه قيل:


"كان الشيشكلي رجل أفعال لا أقوال، لا ينتظر الأوامر بل يصنعها."

كما وصفه الصحفي اللبناني سامي الكيالي بقوله:


"الشيشكلي لم يكن نرجسيًا كغيره من ضباط تلك المرحلة، بل بدا دوماً وكأنه يحمل على كتفيه وطنًا يبحث عن هوية."

أدى إخفاق الجيوش العربية في حرب 48 إلى صدمة شخصية لأديب الشيشكلي، الذي رأى أن الخلل في الداخل العربي، لا فقط في توازن القوى مع إسرائيل. بدأ منذ ذلك الحين يميل إلى فكرة حكم مركزي قوي، وتطهير الدولة من الفساد الحزبي والطائفي، وهي أفكار ستتشكل لاحقًا كجزء من أيديولوجيته في الحكم.

1753008276608.png

الشيشكلي في حرب فلسطين


وقد عبّر بنفسه عن هذه الرؤية لاحقًا بقوله:


"الهزيمة لا تصنعها البنادق بل تصنعها النفوس المنقسمة."

من هنا، تبلورت شخصية أديب الشيشكلي: ضابط عسكري، قومي النزعة، ساخط على الأحزاب والطوائف، مؤمن بالوحدة والصرامة، يرى أن الديمقراطية في سياق سوري مليء بالفوضى ليست إلا طريقًا آخر نحو الانهيار.


كانت تلك هي الخلفية التي دخل بها الشيشكلي إلى دهاليز السياسة السورية بعد الاستقلال، في مرحلة كانت البلاد فيها تبحث عن بطل… حتى لو كان ببدلة عسكرية.

صعود أديب الشيشكلي إلى السلطة: انقلاب الضرورة أم طموح الفرد؟


بعد سنوات من التخبط السياسي والانقلابات المتتالية التي عصفت بسوريا منذ الاستقلال، كانت البلاد بحاجة إلى شخصية قوية تستطيع أن تفرض الاستقرار وتعيد هيبة الدولة وسط حالة من التمزق الحزبي والطائفي، وصراع العسكر والمدنيين. وسط هذا المشهد، برز أديب الشيشكلي كرقم صعب، ليس فقط بسبب كفاءته العسكرية، بل بسبب حسه السياسي وقدرته على قراءة اللحظة بدقة.



تمهيد الصعود: من الظل إلى المسرح


رغم أن الشيشكلي لم يكن في الصف الأول من الضباط المهيمنين عقب الاستقلال، فإنه لعب أدوارًا مهمة خلف الكواليس، خاصة أثناء انقلاب حسني الزعيم عام 1949، الذي أطاح بالحكومة المدنية. لكن الشيشكلي لم يكن راضيًا عن الطريقة التي أدير بها الحكم بعد الانقلاب، ولم يلبث أن دعم انقلاب سامي الحناوي في أغسطس من نفس العام، الذي أعاد الحكم البرلماني لفترة وجيزة.


وفي نوفمبر 1949، عندما بدأ الحناوي يميل إلى فكرة الوحدة مع العراق الهاشمي، رأى الشيشكلي في ذلك تهديدًا لاستقلال القرار السوري، فقاد انقلابًا ثالثًا أطاح بالحناوي ووضع حداً لمحاولات الربط بين العاصمتين دمشق وبغداد.



1753008576156.png

الشيشكلي و سامي الحناوي

من وراء الستار إلى الواجهة


بعد الانقلاب، اختار الشيشكلي أن يُبقي على واجهة مدنية للحكم، فعين هاشم الأتاسي رئيسًا للجمهورية، واحتفظ لنفسه بمنصب قائد الجيش. لكنه ظل الحاكم الفعلي للبلاد، يوجه القرارات من وراء الستار. كان يدرك أن توليه المباشر للرئاسة مبكرًا قد يفقده شرعيته الشعبية، لذا لعب بذكاء على التوازنات الحزبية، وتحرك للقضاء على خصومه السياسيين، وعلى رأسهم الحزب السوري القومي الاجتماعي والشيوعيين.


لكن مع تعقد المشهد، وازدياد الضغوط، لم يجد الشيشكلي مفرًا من تولي زمام الحكم بشكل مباشر. وفي 1953، أعلن نفسه رئيسًا للجمهورية بعد أن نظم استفتاء شعبي حصل فيه – حسب الأرقام الرسمية – على نسبة تفوق 99%، وهو ما قوبل بانتقادات واسعة من القوى المعارضة، واعتبره البعض تتويجًا لديكتاتور جديد.



يقول المؤرخ باتريك سيل في كتابه الصراع على سوريا:
"لم يكن انقلاب الشيشكلي مجرد انتقال للسلطة، بل إعلان بروز نمط جديد من الحُكم العسكري الذي يلبس عباءة الحداثة، لكنه لا يحتمل المعارضة."

1753008705457.png

الشيشكلي اثناء يلقي القسم الرئاسي

صعوده في ظل مشهد مضطرب… يشبه الحاضر


اللافت أن الظروف التي صعد فيها الشيشكلي إلى الحكم – انقسامات داخلية، تدخلات خارجية، وطموحات وحدوية متشابكة – لا تختلف كثيرًا عن تلك التي تمر بها سوريا في زمن الرئيس أحمد الشرع، حيث أعاد الدروز تمردهم القديم في الجنوب، وظهرت مجددًا نفس الشعارات المناهضة للحكم المركزي، بدعم إسرائيلي مباشر هذه المرة، تمامًا كما حدث في تمرد جبل العرب ضد الشيشكلي في الخمسينيات.


كتب أحد الصحفيين اللبنانيين في عام 1952:
"أديب الشيشكلي يريد أن يصنع من سوريا دولة قوية… لكن رياح الطوائف، وتمزق النخبة، والسكاكين التي لا تُرفع إلا من الخلف، لن تتركه يُكمل مشروعه."


وبرغم أن صعوده اعتمد على القوة العسكرية، إلا أنه كان يتمتع بشعبية نسبية، خاصة في الأوساط المدنية التي سئمت من الصراع السياسي وتفكك الدولة. كان أديب يرى في نفسه رجل المرحلة، واعتبر أن سوريا تحتاج إلى حكم مركزي قوي يُقصي الفوضى، ويمهد لبناء دولة حديثة خالية من الانقسامات.


قال أحد معاصريه، الصحفي فؤاد الشمعة:


"لم يكن الشيشكلي مغامرًا عسكريًا كسابقيه، بل كان يؤمن أن السيف يمكن أن يُرسي دعائم الدولة، ثم يُحفظ في غمده حين تستقر السفينة".

ويصفه المؤرخ باتريك سيل في كتابه الصراع على سوريا:


"أديب الشيشكلي كان يمثل نوعًا جديدًا من القادة في المشرق العربي، يجمع بين الطموح العسكري والعقلية الإصلاحية – لكنه اصطدم بجدار الطائفية والمصالح القديمة".

كما قال الشيشكلي في أحد خطاباته بعد توليه الحكم:


"ليست هذه حكومة انقلاب، بل بداية لإعادة بناء الوطن… ولن أسمح لحفنة من الساسة أن يبعثروا آمال هذا الشعب من جديد".

صعوده لم يكن مجرد انقلاب عسكري تقليدي، بل كان مشروعًا لإعادة صياغة السلطة في سوريا، وربما لو وُفّق في التعامل مع القوى الطائفية والمعارضة السياسية، لكانت البلاد دخلت مسارًا مختلفًا تمامًا.
 

إصلاح اقتصادي واجتماعي في قلب العاصفة


حين استقر كرسي السلطة تحت أقدام أديب الشيشكلي، لم يكن يراه مجرد عرش… بل مسؤولية تاريخية لإنقاذ وطن تتهدده الفوضى والانقسامات والشلل الاقتصادي. بدا له أن سورية، إن لم تُبنَ من جديد على أسس راسخة، فلن تصمد طويلًا في وجه تحديات الداخل وطموحات الخارج. كان يؤمن أن الإصلاح الحقيقي لا يُصنع فقط بالدبابات… بل بالمصانع، بالمدارس، بالأرض التي تُزرع، وبالكرامة التي تُصان.


منذ عامه الأول في الحكم، أطلق الشيشكلي سلسلة من المشروعات الزراعية والتنموية شملت دعم الفلاحين بتوزيع الأراضي البور عليهم ضمن خطة لتقليص الإقطاع، كما سعى لتوفير قروض زراعية بفوائد رمزية، وشجع زراعة المحاصيل الاستراتيجية كالقطن والقمح والشمندر السكري. كما استقدم خبراء زراعيين من أوروبا الشرقية لدراسة طبيعة التربة وتوجيه الإنتاج الزراعي، ما أدى إلى زيادة إنتاج القمح بنسبة قاربت 40% خلال ثلاث سنوات فقط، في وقت كانت سورية تستورد فيه القمح من الخارج.
بدأ الشيشكلي أولى خطواته بإصلاح الزراعة، العمود الفقري للاقتصاد السوري آنذاك. أدخل زراعات جديدة لم تكن شائعة في سوريا من قبل، كالقطن طويل التيلة وعباد الشمس والذرة الصفراء، وشجع الفلاحين على تبني هذه المحاصيل من خلال توفير البذور والإرشاد الزراعي والدعم الحكومي. ولأول مرة، أنشئت تعاونيات زراعية بهدف تقوية موقع الفلاح في السوق وتقليل اعتمادهم على المرابين والتجار الكبار.

وتحت حكمه، زاد الاهتمام بالسدود وشبكات الري، وأُقيم عدد من المشاريع الصغيرة في سهل الغاب وسهل حوران لضبط المياه وتنظيم توزيعها، مما أدى إلى زيادة ملحوظة في الإنتاجية الزراعية. كما ضاعف عدد الجرارات الزراعية العاملة في البلاد، وهو أمر لم يكن متاحًا للفلاح البسيط قبل سنوات معدودة.



في الجانب الصناعي، شجّع الشيشكلي إقامة معامل جديدة وطنية في حلب ودمشق، أبرزها معامل النسيج والزيوت النباتية، وعمل على حماية الصناعات المحلية من الإغراق الأجنبي. ، تبنّى سياسة التصنيع الوطني، وبدأت الدولة في إقامة مصانع جديدة، خصوصًا في القطاعات الغذائية والنسيجية. أنشأ معامل لتعليب الفواكه والخضراوات، ومعملًا لإنتاج السكر من الشمندر في حمص، كما شجّع على إقامة صناعات خفيفة في دمشق وحلب مثل معامل النسيج والصابون والأحذية. ورغم الإمكانيات المحدودة، فقد كانت هذه بداية فعلية لمشروع تصنيعي سوري مستقل, في مذكراته، يكتب أحد رجال الاقتصاد في حكومته:



"كان الرئيس الشيشكلي لا ينام الليل إلا بعد أن تُعرض عليه أرقام الإنتاج والتصدير. كان يعتبر الاقتصاد خط الدفاع الأول بعد الجيش."

أما على صعيد الحياة الاجتماعية، فقد تبنّى سياسات إصلاحية واضحة. عزز من مكانة المرأة، وفتح أمامها أبواب التعليم والعمل أكثر من أي وقت مضى، بل أشار في بعض خطاباته إلى أهمية مشاركة المرأة في بناء الوطن، وهو أمر كان يعتبر سابقًا لعصره في بيئة محافظة كالبيئة السورية. كما شهد عهده تحسينات ملموسة في قطاع الصحة والتعليم.


أما التعليم، فقد شهد نهضة غير مسبوقة؛ حيث ارتفعت نسب الالتحاق بالمدارس الابتدائية إلى ما يزيد عن 70%، وأُنشئت عشرات المدارس الجديدة في القرى النائية، وجرى تعريب المناهج وتنقيحها من الخطاب الطائفي أو الاستعماري.


وفي المجال الصحي، أُسست عدة مستشفيات في المحافظات لأول مرة، وتم فرض تطعيمات إجبارية ضد الأمراض المعدية، ما أدى إلى انخفاض معدل الوفيات بين الأطفال بنسبة 30% خلال أقل من خمس سنوات.

وربما كان أعظم ما ميّز مشروع الشيشكلي الاقتصادي هو رؤيته الاستقلالية: فقد كان يرفض بشدة أي إملاءات اقتصادية من الخارج، وكان يقول: "الحرية السياسية بلا حرية اقتصادية هي عبودية مقنّعة." لذا رفض عروض المعونة المشروطة، وتمسك ببناء اقتصاد يقوم على موارد سوريا نفسها، مستندًا إلى الطبقات المنتجة لا إلى طبقة الإقطاع أو البيروقراطية الطفيلية.

1753015417315.png

وقد عبّر الباحث الفرنسي "جان بيير لاروش" عن تلك الفترة بقوله:


"في عهد الشيشكلي، بدا وكأن سوريا تنفض غبار قرون من التبعية لتشق طريقها صوب الدولة الحديثة… لقد سعى الرجل، بكل سلطويته، أن يبني وطنًا لا يتسوّل غذاءه ولا دواءه."



ومع كل ذلك، كانت شريحة واسعة من الشعب ترى فيه رمزًا للنهضة الممكنة, حيث انه في ذلك الوقت، بدأت تظهر طبقة وسطى منتجة تتكوّن من فلاحين صغار وصناعيين ناشئين، وهو تطور اجتماعي مهم كاد أن يغيّر وجه البلاد… لولا أن المصالح المضادة، داخل سوريا وخارجها، لم تكن لتسمح لهذا المشروع أن يكتمل. يقول أحد شيوخ العشائر من دير الزور في حوار صحفي سنة 1952:



"كان أديب رجل دولة… لم يزر منطقتنا إلا مرة، لكنها كانت كافية لنرى بعدها الماء في مجاريه والخبز في الأفران والمدرسة في الحارة."


لكن، ورغم هذا البناء، ظل الحقل السياسي يعاني التصحّر… فكل هذه الإنجازات لم تكن لتخفي حقيقة أن الديمقراطية كانت غائبة، وأن الأحزاب مقموعة، وأن الخصوم السياسيين يُنفون أو يُسجنون.فا في منتصف الخمسينيات، حين بدأ أديب الشيشكلي يرسّخ أركان حكمه، لم يكن ينظر إلى السلطة كمنصب إداري أو مكافأة عسكرية، بل كأداة لبناء دولة قوية متماسكة، قادرة على فرض هيبتها داخليًا وخارجيًا. كان يحلم بسوريا قومية، موحدة، تتجاوز انقساماتها الطائفية والحزبية، وتلعب دورًا محوريًا في الشرق الأوسط الناشئ بعد انسحاب الاستعمار.


كان طموحه السياسي واضحًا: إقامة نظام جمهوري قوي، مركزي، يحدّ من تدخلات الزعامات التقليدية والقيادات الحزبية والطائفية في شؤون الدولة، ويعيد توجيه المجتمع نحو الانتماء الوطني الواحد. ولذلك خاض الشيشكلي معركة مفتوحة ضد الأحزاب، وعلى رأسها حزب البعث والحزب الشيوعي، ورفض منحها حرية العمل السياسي، معتبرًا إياها مصدرًا للفرقة والضعف. قال في أحد خطاباته:


"إن أخطر ما يُواجه الأمة هو تعدد الولاءات… فكل حزب يرى الوطن على صورته، لا على صورته الحقيقية."

ولم تكن الطوائف بمنأى عن رؤيته الإصلاحية، فقد سعى للحد من نفوذ الطائفيات، لا بمحاربتها علنًا، بل بتعزيز دور الدولة على حساب الزعامات التقليدية، خاصة في مناطق مثل جبل العرب، حيث كانت الزعامة الدرزية لا تزال تحتفظ بنفوذ اجتماعي وعسكري كبير. اعتقد أن بناء دولة قوية يتطلب تفكيك هذه الولاءات البديلة، فواجه تمردات خفية وعلنية، ومحاولات شق الصف الوطني.


1753015795106.png

أما خارجيًا، فقد حاول الشيشكلي أن يوازن بين التزامات سوريا القومية وعلاقاتها الإقليمية. لم يكن معاديًا للغرب على طول الخط، لكنه رفض الخضوع للضغوط الغربية، خصوصًا فيما يتعلق بمشروع "حلف بغداد"، الذي رآه محاولة لربط الدول العربية بالسياسات البريطانية. وقد علّق على الأمر قائلاً:


"سوريا لن تكون أداة في يد أحد… نحن نرسم سياستنا بما يخدم مصالحنا لا مصالح الآخرين."

في المقابل، كانت علاقته مع الدول العربية تتأرجح بين التحالف والحذر، خصوصًا مع مصر في عهد محمد نجيب ثم عبد الناصر، حيث توترت العلاقة بسبب اختلاف الرؤى حول الوحدة العربية والدور القيادي.


الشيشكلي لم يكن خصمًا للأحزاب والطوائف فقط، بل خصمًا لكل ما يراه تهديدًا لهوية الدولة المركزية الحديثة التي كان يحاول أن يبنيها. وكان هذا الطموح هو ما سيقوده في النهاية إلى صدام مباشر مع القوى التقليدية، وعلى رأسها زعامة الدروز… وهو الصدام الذي بدأ يتحول من خلاف سياسي إلى شرارة سقوط
.

1753015731518.png
 
التعديل الأخير:

الصراع مع الدروز: من التوتر إلى الانفجار


كان أديب الشيشكلي يرى في مشروعه القومي السوري نواة لدولة مركزية قوية، تتجاوز الانقسامات الطائفية والأيديولوجية. لكن هذا التصور الطموح، اصطدم مبكرًا بواقع اجتماعي متشابك، لا سيما في جبل العرب (جبل الدروز)، حيث كانت الطائفة الدرزية تحافظ على خصوصيتها التاريخية، ونفوذها السياسي والعسكري في الجنوب السوري.


في بداية حكمه، سعى الشيشكلي إلى فرض مركزية صارمة تُنهي ما اعتبره "امتيازات طائفية وإقطاعية"، خصوصًا في المناطق الخارجة عن قبضة الدولة المركزية. إلا أن هذه السياسة، بدل أن تُوحّد البلاد، أشعلت التوترات. فقد اعتبرها الدروز استهدافًا مباشرًا لهم، ومحاولة لتهميش دورهم التاريخي في الحياة الوطنية السورية.


وقد كتب المؤرخ باتريك سيل عن هذه الفترة قائلاً:



"كان أديب الشيشكلي يحمل في ذهنه صورة لدولة لا صوت فيها إلا صوت السلطة، لكن سوريا لم تكن مستعدة بعد لهذا النوع من النظام، خصوصًا في الجبل."

تصاعدت التوترات مع تصاعد الإجراءات الحكومية: نُقلت قوات عسكرية إلى محيط السويداء، واعتُقل عدد من الزعماء المحليين، وفرضت الحكومة رقابة صارمة على النشاط السياسي والإعلامي في الجبل. قابل الدروز هذه الخطوات بحالة من التململ الشعبي، تطورت سريعًا إلى تمرد مسلح في أواخر عام 1953.


رغم أن الشيشكلي حاول احتواء الموقف في بدايته، فإن التطورات خرجت عن السيطرة، خاصة بعد أنباء تسربت عن اتصالات سرية بين زعماء دروز وجهات أجنبية، وعلى رأسها إسرائيل. ولم يكن ذلك مجرد دعاية سياسية؛ فقد كشفت لاحقًا وثائق إسرائيلية عن قنوات اتصال تم فتحها بالفعل بين بعض الزعامات الدرزية والموساد، في محاولة لضرب استقرار سوريا من الداخل.


وقد علّق أحد الصحفيين السوريين المعاصرين لتلك الأحداث قائلًا:



"كان الشيشكلي يحارب معركتين في وقت واحد: معركة بناء الدولة، ومعركة تفكيك التمرد… لكنه خسر الاثنتين في النهاية."


تهديدات داخلية وخارجية أخرى: بين أنياب الأحزاب ونوايا الجيران​


لم يكن تمرد الدروز سوى رأس جبل الجليد في شبكة واسعة من التحديات التي أحاطت بأديب الشيشكلي من كل جانب، وكأن سوريا الوليدة كانت ترفض أن تستقر على يد رجل واحد، مهما حسنت نواياه أو عظمت مشاريعه. فبينما كان يبني في الداخل، كانت عوامل الهدم تحيط به من الخارج والداخل معًا، في دوامة سياسية وأمنية لم تهدأ.


الأحزاب السياسية: خصوم الداخل المتأهبة


من أبرز القوى التي وقفت في وجه الشيشكلي كانت الأحزاب السياسية، وعلى رأسها حزب البعث العربي الاشتراكي وحزب الشعب، واللذان اتهماه بالديكتاتورية، ومصادرة الحياة السياسية لصالح الحكم الفردي.


رغم أن الشيشكلي سمح ببعض مظاهر الحياة الحزبية في البداية، إلا أن الخلافات سرعان ما تصاعدت، خصوصًا عندما اتُّهمت تلك الأحزاب بالعمل ضد الدولة، والتواطؤ مع أطراف خارجية، وهو ما دفعه إلى حل بعضها، وفرض الرقابة على أنشطتها. فكتب أحد مؤيدي الشيشكلي في تلك المرحلة:



"لقد كان أديب يريد بناء دولة قوية، لكن الأحزاب أرادت اقتسام الدولة قبل أن تُبنى."
— من أرشيف جريدة "الوثبة" السورية، عدد 1952

إلا أن خصومه رأوا في قراراته ضربًا من الطغيان الناعم، فقال أحد زعماء حزب الشعب حينها:


"لقد تحوّلت سوريا في عهد الشيشكلي من ديمقراطية مشوهة إلى ديكتاتورية متأنقة."
— رشدي الكيخيا، خطاب في البرلمان، 1953

الطائفية: الألغام الموروثة


لم يكن الانقسام الطائفي في سوريا حديث النشأة، لكنه عاد للظهور بقوة خلال حكم الشيشكلي، خصوصًا من قبل بعض الطوائف العلوية والشيعية والمسيحية، التي شعرت بالتهميش السياسي والثقافي رغم محاولاته لخلق خطاب قومي جامع.


لقد حاول الشيشكلي بناء هوية وطنية سورية فوق الهويات الطائفية، إلا أن بعض الطوائف اعتبرت مشروعه تعبيرًا عن نزعة سنّية مهيمنة، فبدأت تنسق مع خصومه السياسيين، مما أضعف لحمة الجبهة الداخلية. وكما كتب أحد الصحفيين اللبنانيين حينها:



"الشيشكلي يريد دولة بلا طوائف، لكن الطوائف تريد حقوقًا قبل الدولة."
— جريدة "النهار"، بيروت، 1954

تهديدات من الجوار: الأردن والعراق


خارجيًا، وجد الشيشكلي نفسه محاصرًا بين أنظمة ملكية تشعر بالقلق من خطابه القومي، خصوصًا نظام الملك حسين في الأردن والوصي عبد الإله في العراق. كلا النظامين اعتبرا أن خطاب الشيشكلي يعزز من التيارات الجمهورية المعادية للملكية، ويهدد استقرار عروشهم.


بدأت الاستخبارات الأردنية والعراقية تدعم تحركات المعارضة السورية، بل تشير بعض الوثائق البريطانية إلى تورط مباشر في محاولة زعزعة حكمه:



"نعتقد أن دعم المعارضة السورية بالمال والمعلومات سيساعد على إنهاء النظام الحالي في دمشق، الذي بات مقلقًا للمنطقة."
— تقرير سري للمندوب البريطاني في عمان، أرشيف وزارة الخارجية البريطانية، 1953

1753016436498.png

كما تم تسجيل محاولات لاغتياله أو قلب نظامه بدعم خارجي، ما زاد من شعوره بالعزلة، ودفعه إلى اتخاذ قرارات أكثر تشددًا في الداخل، مما زاد الاحتقان الشعبي والسياسي.

ايضا رغم أن الشيشكلي لم يكن في حالة حرب مباشرة مع إسرائيل، إلا أن التوترات الحدودية كانت مستمرة، خاصة في منطقة الجولان. وكان الجيش السوري يتعرض باستمرار لمحاولات تسلل واعتداءات إسرائيلية محدودة. كما كان يُعتقد أن لإسرائيل دورًا غير مباشر في دعم الحركات الانفصالية والطائفية داخل سوريا – وهو ما يعود إليه بعض المراقبين حين ينظرون اليوم إلى تكرار نفس النمط من التحالفات الطائفية في سوريا الحديثة.


كتب أحد المراقبين الفرنسيين في تقرير سري عام 1953:



"الشيشكلي يحارب على جبهات متعددة… ضد إسرائيل جنوبًا، وضد العراق شرقًا، وضد الأحزاب في الداخل، وضد الطائفية المتربصة، وهو مع ذلك لا يكف عن بناء سوريا حديثة."

كل هذه التهديدات، مجتمعة، جعلت من حكم أديب الشيشكلي مهمة صعبة ومحفوفة بالألغام، وساهمت في خلق مناخ من العزلة السياسية والإرهاق الأمني، مهّدت في النهاية للسقوط.و بالفعل فا في فبراير 1954، وبعد أن أصبح تمرد الدروز أكثر حدة، ومع تصاعد الضغط السياسي الداخلي والخارجي، اختار الشيشكلي التنحي عن الحكم لتجنيب البلاد الدخول في حرب أهلية. كتب في خطاب استقالته:


"إني أتنحى عن الحكم حفاظًا على وحدة الوطن وسلامة الأمة، وأرفض أن أكون سببًا في سفك دماء السوريين."

وهكذا، انتهت تجربة أديب الشيشكلي، ليس بفعل انقلاب عسكري مباشر، وإنما تحت ضغط تمرد داخلي شاركت فيه إحدى الطوائف الرئيسية، وبدعم من أطراف إقليمية ودولية.
 

نهاية حكمه والمنفى: من قصر الرئاسة إلى عزلة المنفى


رغم ما بدا من قوة في ظاهر حكمه، كانت الأرض تهتز تحت أقدام أديب الشيشكلي بهدوء قاتل. السنوات التي أمضاها في الحكم صنعت له أعداء من كل الاتجاهات: المدنيون والضباط، الإسلاميون والبعثيون، السنّة والعلويون، وحتى بعض حلفائه من أبناء الطائفة السنّية بدأوا يرون فيه خطرًا على التوازن الوطني.


كان الشيشكلي قد ضيّق الخناق على الأحزاب السياسية، فحلّ حزب البعث عام 1952، وضيّق على الحزب الشيوعي، وصادر الصحف، ونفى المعارضين، واعتقل عدداً من القادة التاريخيين في الحياة الوطنية السورية، مثل أكرم الحوراني، وصلاح البيطار، وميشيل عفلق، الذين اتهمهم بأنهم يؤججون الطائفية ويحرضون ضد الدولة.


لكن الانفجار الحقيقي لم يأتِ من النخب، بل من الشارع. مع تصاعد التوترات، ومع القمع المستمر، بدأت المظاهرات في حلب وحمص ودمشق تطالب برحيل الحكم العسكري. الجامعات كانت ساحة مقاومة صامتة، والجوامع والكنائس، على اختلاف طوائفها، بدأت تشهد خطابًا معاديًا للسلطة.


وفي 25 فبراير 1954، انقض الجيش مجددًا، ولكن هذه المرة ضد قائده الأعلى. تمردت وحدات عسكرية في حمص بقيادة العقيد فيصل الأتاسي، وانضمت إليها قوى من الجيش في حلب. كانت تلك لحظة الحقيقة.


وفي محاولة أخيرة لتفادي سفك الدماء، أعلن أديب الشيشكلي استقالته، مغادرًا دمشق ليلًا إلى بيروت. وقد قال في خطاب استقالته:


"إني لا أريد لهذا البلد أن ينزلق إلى حرب أهلية... لقد جئت إلى السلطة لا طامعًا، وإنما لأمنع تفكك سوريا، واليوم أتنحى حتى لا أكون سببًا في تمزيقها."

لكن المنفى لم يكن خاتمة الظهور. فبعد سنوات من العزلة في بيروت ثم البرازيل، حاول الشيشكلي العودة إلى الساحة السياسية عبر دعم انقلاب جديد عام 1957. إلا أن خططه كُشفت، وظلت السلطات السورية تطارده.


1753016657531.png

وفي عام 1964، كانت النهاية. في ساو باولو، البرازيل، أقدم شاب درزي يُدعى نواف غزالي على اغتياله بثلاث رصاصات، انتقامًا لما فعله بالسويداء وبأهله عام 1954. الغريب أن الشاب لم يهرب، بل سلّم نفسه للشرطة، قائلاً:


"عدالة التاريخ لا تُؤجَّل إلى الأبد. أنا مجرد يد نفذت ما ظلّ في قلوبنا نارًا لم تنطفئ."

هكذا انتهت قصة أديب الشيشكلي، الرئيس العسكري الذي حلم بتوحيد سوريا وقمعها في آنٍ، والذي لم تمنحه أحلامه الكبيرة ولا مشاريعه الاقتصادية صك غفرانٍ على أخطائه السياسية.

ماذا لو استمر الشيشكلي في الحكم؟


من أكثر الأسئلة المثيرة في تاريخ سوريا الحديث، ذلك السؤال الذي يطرحه المؤرخون والمهتمون بالشأن السياسي: ماذا لو لم يُسقط تمرد الدروز ونخب المعارضة أديب الشيشكلي؟ وماذا لو استمر الرجل في حكمه لسنوات أخرى؟ هل كانت سوريا ستدخل عصر الاستقرار والتحديث؟ أم أن قمعه السياسي وصدامه مع مراكز القوى الداخلية كانا سيقودانها إلى انفجار لاحق أكثر عنفًا؟


الشيشكلي كان رجلًا ذا مشروع، امتلك رؤية لتطوير الدولة السورية على أسس قومية حديثة، أراد بناء دولة مركزية قوية، بجيش عصري، واقتصاد منتج، وشعب موحّد تحت مظلة "الهوية السورية الجامعة"، لا الطوائف أو الأحزاب الأيديولوجية. كان يعتقد أن الأحزاب — وعلى رأسها البعث والشيوعيون والإخوان — تفتت ولاء المواطن للدولة، وأن الولاء الطائفي أو الحزبي أخطر على سوريا من أي عدو خارجي.


لو استمر في الحكم، من المرجّح أن رؤيته في التصنيع الزراعي والتحديث العمراني كانت ستكتمل. كان من المتوقع أن تستمر سياساته التنموية في الريف والمشاريع الكبرى، وربما كانت سوريا لتشهد نقلة اقتصادية مبكرة قبل عقود من تجربة الأسد الأب.


لكن السؤال الأكبر: هل كان سيقدر على النجاة من الصراعات الداخلية؟ الإجابة معقدة. فالرجل، رغم طموحاته، كان يواجه سوريا مليئة بالتناقضات: طوائف قلقة، وأحزاب أيديولوجية متأججة، وجيش غير متجانس، وجيران يتربصون. وربما لم تكن سياسته القمعية لتحتوي هذه الصراعات على المدى البعيد.


يرى المؤرخ الفرنسي "باتريك سيل" أن الشيشكلي "أراد أن يصنع سوريا جديدة بيديه العاريتين، لكنه اصطدم بسوريا القديمة بكل أمراضها"، وأضاف:


"كان رجلًا سابقًا لعصره… لكنه كان وحيدًا أكثر من اللازم."

وقد عبّر أحد ضباطه لاحقًا عن مرارة تلك اللحظة التي سقط فيها الحكم، قائلًا:


"كنا نبني جسرًا نحو المستقبل، فقطعوه في منتصف الطريق."

ومن زاوية أخرى، يرى خصومه أن استمراره في الحكم كان سيحوّل سوريا إلى دولة بوليسية خانقة، وأن قمعه للأحزاب والصحافة، ومطاردته للمعارضين، كانت مؤشرات على انزلاق نحو استبداد شمولي، لا يختلف كثيرًا عما حصل لاحقًا مع الانقلابات المتتالية.


في النهاية، تبقى فرضية بقاء الشيشكلي في الحكم ساحة خصبة للتأملات، لكنها تُظهر بوضوح كم كانت سوريا تعاني من أزمة بنيوية: أزمة هوية، وشرعية، وتوازن بين الطوائف والنخب. وربما كانت سوريا في حاجة إلى رجل مثل الشيشكلي… لكن في زمن غير الزمن، وظروف غير الظروف.


 

الخاتمة: حين يكرر التاريخ نفسه على أنقاض الأمل


انتهت تجربة أديب الشيشكلي كما بدأت: باندفاعة وطنية، ورغبة جريئة في البناء، ثم بانفجار داخلي أطاح بكل شيء. ورغم كل ما له وما عليه، فإن الشيشكلي مثّل لحظة مفصلية في تاريخ سوريا، حاول فيها رجلٌ من قلب المؤسسة العسكرية أن ينتزع الوطن من فوضى الأحزاب والطوائف، وأن يصوغ هوية وطنية واحدة لسوريا كانت – ولا تزال – مشرذمة بين انتماءات دينية، طائفية، وقومية.


لقد أراد الشيشكلي أن يصنع «دولة» قوية في إقليم مضطرب، فحارب الطائفية، وقلّص من نفوذ الإقطاع، وسعى إلى تنمية الاقتصاد والتعليم، ولكن أخطأ حين ظن أن الاستقرار يُفرض بالقوة لا بالتوافق، وبالعزل لا بالشراكة، فسقط حين انفجر الداخل ضده، تمامًا كما سقط بعده كثيرون، ممن ظنوا أن القبضة الحديدية قادرة على احتواء الغليان الشعبي والانقسامات البنيوية في المجتمع السوري.


واليوم، وبعد أكثر من سبعين عامًا على سقوطه، لا تزال سوريا تدفع ثمن تلك الانقسامات ذاتها. فالدروز الذين تمردوا على الشيشكلي في الخمسينيات، هم أنفسهم الذين يرفعون اليوم رايات التمرد ضد حكومة دمشق، ويقيمون تحالفات إقليمية مثيرة للقلق، بعضها – كما تشير التقارير – يمتد إلى التعاون الضمني مع إسرائيل. وما أشبه الليلة بالبارحة!


قال المؤرخ السوري يوسف الحكيم يومًا:


«سوريا لن تستقر حتى تتصالح مكوناتها، وتتخلى الطوائف عن وهم الهيمنة، وتنتصر فكرة الوطن الجامع على الأنا الضيقة».
كلمات لم تفقد معناها رغم تقادم السنين، بل صارت أشد وضوحًا في ظل ما تعيشه سوريا اليوم من تفكك وتهديدات داخلية وخارجية.

ربما لو استمر الشيشكلي في الحكم لأعاد رسم خريطة الجمهورية بطريقة مختلفة. وربما لو أدرك مبكرًا أن الطائفية لا تُهزم بالمدفع بل بالعدالة والتمثيل، لأمكن إنقاذ حلم الدولة الوطنية الحديثة. لكن ما فات لا يُعاد، وما بقي لنا هو أن نقرأ الماضي بعينٍ ناقدة، وأن نحذر من إعادة إنتاج الكوارث التي عرفناها، مرارًا، منذ أن رُفع أول علمٍ فوق قاسيون.
 
اسم على مسمى
باحث في التاريخ
اعتقد ان الاقليات قديما كان دعمها اكبر من العصر الحالي
فلننتظر ونرى كيف تؤول الامور
 

الصراع بين أديب الشيشكلي والدروز: من التوتر إلى الانفجار


خلفية تاريخية: لماذا الدروز؟ ولماذا الصراع أصلًا؟


عند النظر في خلفية الصراع بين أديب الشيشكلي والدروز، لا بد من استحضار التاريخ العميق للدروز كطائفة دينية لها خصوصيتها، واستقلالها الثقافي والسياسي النسبي، خصوصًا في منطقة جبل العرب جنوب سوريا. فالدروز، منذ العهد العثماني، كانوا يحتفظون بدرجة من الحكم الذاتي، وبرز منهم زعماء كبار مثل سلطان باشا الأطرش، أحد أبطال الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي في عشرينيات القرن العشرين.


حين صعد أديب الشيشكلي إلى السلطة، كان يرى في الطائفية عقبة أساسية في طريق بناء دولة حديثة، موحدة، قومية، قوية. وقد عبّر عن هذا في إحدى خطاباته بقوله:


"لا يمكن لسوريا أن تنهض إذا بقيت موزّعة الولاءات بين المذاهب والطوائف. الدولة لا تقوم إلا على شعب واحد."

لكن ما اعتبره الشيشكلي سعيًا للوحدة، اعتبرته الطوائف – خصوصًا الدروز – تهديدًا لهويتهم ونفوذهم ومكانتهم.


المرحلة الأولى: التوتر الصامت والاتهامات


في البداية، لم يكن الصراع داميًا، بل اتخذ شكل صراع سياسي وخطابي. الشيشكلي بدأ في تحجيم نفوذ الزعامات الدرزية، واتهامها علنًا بالتآمر، قائلًا في أحد خطاباته:


"هناك من يخطط لتقسيم سوريا من الداخل، ولا بد أن نقطع رؤوس الفتنة قبل أن تتحول إلى حريق شامل."

في المقابل، شعر الدروز أن الشيشكلي يستهدفهم مباشرة، خصوصًا بعد أن أقال عددًا من المسؤولين العسكريين والإداريين المنتمين إليهم، وبدأ يشكك بولاءهم.


المرحلة الثانية: التصعيد الأمني والعسكري


بحلول عام 1953، اتخذ الصراع طابعًا عسكريًا صريحًا. اتُّهِم قادة دروز – دون محاكمات شفافة – بمحاولات انقلابية، وبدأت قوات الجيش بشن عمليات أمنية في جبل العرب.


بلغ التصعيد ذروته حين أمر الشيشكلي الجيش بمحاصرة قرى درزية واعتقال العديد من الشبان، وقيل إن قصفًا مدفعيًا استُخدم ضد بعض المناطق، رغم نفي الحكومة ذلك رسميًا.


وقد كتب الصحفي اللبناني كامل مروة حينها في جريدة الحياة:


"ما يحدث في جبل العرب ليس مجرد إجراءات أمنية، بل حرب على طائفة بأكملها باسم الوحدة الوطنية."

المرحلة الثالثة: الثورة الدرزية ومحاولة الانقلاب


في أواخر 1953، بدأ التمرد الدرزي يأخذ طابعًا مسلحًا واضحًا. زعماء دروز كبار، أبرزهم كمال جنبلاط من لبنان وسلطان الأطرش داخل سوريا، دعموا علنًا رفض سياسات الشيشكلي.


في يناير 1954، اندلعت اشتباكات فعلية بين وحدات الجيش وبين متمردين دروز في مناطق متفرقة من جبل العرب. وتم استهداف بعض المواقع العسكرية، بينما ردت الحكومة بقصف مدفعي مكثف.


وكان سلطان الأطرش قد وجه رسالة شديدة اللهجة حينها قال فيها:


"نحن لا نثور على الوطن، بل على من يريد سحق كرامتنا وتحويل سوريا إلى ملكية خاصة."

المرحلة الأخيرة: السقوط السياسي للشيشكلي


تحت ضغط هذا الصراع الدموي، إضافة إلى تململ الجيش وأجهزة الدولة من أساليب الحكم، بدأ النظام يتفكك. لم يكن الدروز وحدهم في المواجهة، بل انضمت إليهم شخصيات من المعارضة المدنية والعسكرية من طوائف أخرى.


في فبراير 1954، اضطر الشيشكلي إلى التنحي عن الحكم، وغادر إلى بيروت، ومن هناك إلى البرازيل. وقد كتب في مذكراته:


"لم أسقط أمام الدروز، بل أمام تحالف الخونة والطائفيين والانتهازيين الذين لا يريدون لسوريا أن تنهض."

لكن في المقابل، يرى معارضوه أن سقوطه كان حتميًا نتيجة لطغيان السلطة، ورفضه الاعتراف بالتعدد داخل النسيج السوري.


التحليل: ماذا حدث فعليًا؟


صراع الشيشكلي مع الدروز لم يكن مجرد خلاف سياسي، بل تجلٍ أوسع لصراع الهوية في سوريا: هل تُبنى الدولة على أساس قومي صرف، أم تعترف بالتعدد الطائفي والثقافي؟ وهل كان الشيشكلي مصلحًا يريد اجتثاث الطائفية، أم ديكتاتورًا حاول سحق الخصوم تحت شعار الوحدة؟


كما أن هذا الصراع يُظهر خطورة تجاهل الواقع الاجتماعي والديني لسوريا، فالمحاولات الفوقية لتوحيد الهوية دون مشاركة حقيقية، أدت دومًا إلى التمزق بدلًا من الوحدة.

سقوط الشيشكلي ونهايته… حين تحالفت الطوائف والأحزاب لإسقاط الحاكم القوي


رغم أن أديب الشيشكلي كان رجل دولة صارمًا، وذا كفاءة لا تُنكر في ضبط الأمن وتسيير الإدارة، إلا أن طريقه إلى السلطة كان محفوفًا بالخصومات، وعداؤه مع الأحزاب، والطوائف، والوجوه التقليدية لم يكن مجرد خلاف سياسي عابر، بل عداوة متجذرة، ظلت تتفاقم حتى أفضت إلى النهاية.


تصاعد الغضب الشعبي والطائفي


بعد سحق تمرد الدروز في جبل العرب عام 1954، بدا أن قبضة الشيشكلي الأمنية قد اشتدت أكثر من أي وقت مضى، لكنه في الحقيقة كان قد خسر قلوب قطاعات واسعة من الشعب السوري، خاصة الطوائف والأحزاب السياسية التي رأته دكتاتورًا متنكرًا في زي جمهوريات العسكر.


يقول المفكر السوري فايز سارة:
"لم يكن الشيشكلي طاغية بالمفهوم التقليدي، بل كان وطنياً حد التسلّط، لكنه لم يدرك أن النوايا الحسنة لا تُغني عن الشرعية."

النخبة المثقفة، زعماء الطوائف، رجال الدين في الجبل، قادة الجيش الذين أزاحهم… كلهم باتوا يرونه عائقًا أمام حرية سوريا وتطور نظامها السياسي. وكانت عودته القوية لمهاجمة الأحزاب، وإقصاء المعارضين، وتجفيف منابع الحياة الحزبية قد عجّلت بنهاية تحالفه مع الشعب.


المؤامرة الكبرى والانقلاب الهادئ


في فبراير 1954، وبينما كان الشيشكلي لا يزال متمسكًا بالحكم، نشبت سلسلة اضطرابات في البلاد، قادها تحالف نادر بين البعثيين، والشيوعيين، والوطنيين القدامى، والدروز، بل وحتى بعض الضباط الذين ساعدوه في الماضي.


في هذه الأثناء، بدأت إشارات التمرد في الجيش. ولم يثق الشيشكلي حتى في حراسه، فأمر بنقل وحدات واستبدال أخرى، مما زاد من التوتر. وصلت التهديدات إلى ذروتها حين قيل له بوضوح إن "البلاد على حافة حرب أهلية إن لم يتنحّ."


يروي المؤرخ باتريك سيل في كتابه عن سوريا:
"وقف الشيشكلي على الحافة. لم يُطِح به انقلابٌ دامٍ، بل ضغطٌ داخليٌّ مدروس، سحب منه آخر أوراقه."

المرحلة الأخيرة: السقوط السياسي للشيشكلي


تحت ضغط هذا الصراع الدموي، إضافة إلى تململ الجيش وأجهزة الدولة من أساليب الحكم، بدأ النظام يتفكك. لم يكن الدروز وحدهم في المواجهة، بل انضمت إليهم شخصيات من المعارضة المدنية والعسكرية من طوائف أخرى.


في فبراير 1954، اضطر الشيشكلي إلى التنحي عن الحكم، وغادر إلى بيروت، ومن هناك إلى البرازيل. وقد كتب في مذكراته:


"لم أسقط أمام الدروز، بل أمام تحالف الخونة والطائفيين والانتهازيين الذين لا يريدون لسوريا أن تنهض."

لكن في المقابل، يرى معارضوه أن سقوطه كان حتميًا نتيجة لطغيان السلطة، ورفضه الاعتراف بالتعدد داخل النسيج السوري.

الخطاب الأخير… والتنحي


في 25 فبراير 1954، ألقى الشيشكلي خطاب التنحي المشهور، الذي قال فيه:


"حرصاً مني على وحدة البلاد وسلامتها، قررتُ التنازل عن الحكم حقناً للدماء، وتفادياً لفتنة لا تُبقي ولا تذر."

كان الخطاب مفاجئًا في لهجته المتصالحة، لكن صدى قراراته السابقة ظل أقوى من كلماته الأخيرة.


المنفى في السعودية ثم البرازيل


غادر الشيشكلي سوريا متجهًا إلى بيروت، ثم إلى السعودية، حيث عاش لبعض الوقت ضيفًا على الملك سعود، قبل أن ينتقل إلى البرازيل ويستقر فيها، في حياة عزلة شبه تامة. ورغم محاولات بعض أنصاره لإقناعه بالعودة، ظل بعيدًا عن الحياة السياسية، يعيش كمنفيٍّ يراقب وطنه من بعيد.


كتب في مذكراته:
"قد أخطأت، لكن لم أخن. كنت أريد لسوريا أن تنهض… لكن النار أحرقت حتى اليد التي أشعلت شمعة في الظلام."

اغتياله في البرازيل


في عام 1964، بعد نحو عقد من سقوطه، اغتيل أديب الشيشكلي على يد شاب درزي يُقال إنه أراد الانتقام لما جرى لجبل العرب وأهله. أطلق عليه الرصاص أمام منزله في مدينة برازيليا، وسقط مضرجًا بدمائه. لم تُفتح تحقيقات جدية في القضية، لكنها تركت أثرًا رمزيًا عنيفًا في الذاكرة السورية.


وقال السياسي السوري جميل مردم بك:
"الشيشكلي كان قويًا، لكنه وحده… وسوريا بلد لا تُحكم بالعزلة."
 
اسم على مسمى
باحث في التاريخ
اعتقد ان الاقليات قديما كان دعمها اكبر من العصر الحالي
فلننتظر ونرى كيف تؤول الامور
الاقليات دائما بيكونوا هم فتحه الجدار الي بيخش منها المستعمر و هو الي بيعتمد عليهم في الحكم بعد ذلك

الخوف مش من الدروز فقط الخوف ان سوريا الحاليه تواجه مشاكل داخليه زي الي تواجهها الشيشكلي فهو مكنش يهمه اراقه الدماء في الجبل لكن لما حس ان الدم هيوصل دمشق قرار التنازل فلازم يتم تجنب الموضوع ده في سوريا الحاليه
 
عودة
أعلى