اليمن.. اثنا عشر ألف عام من الحروب - ثلاث حروب لتحقيق الوحدة اليمنية في أقل من ثلاثة عقود - حدود ملغومة ورسائل مفخخة.. واتفاقات سلمية تشعل الحرائق ولا تحقق السلام - الملك سليمان وبسمارك وماركس اعطوا اليمن اشارة المرور للعنف - عبد المنعم الاعسم
مقدمة:
في القرآن الكريم، كما في السير الشعبية أو انتباهات المؤرخين، لم تنعم اليمن باستقرار الا ونزلت عليها نازلة الفتن، ولم تنصرف الي البناء الا وأغارت عليها الفيضانات والاعاصير والدوامات، وكانت الخليقة قد منت عليهم بجنتين فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم ودفعت بهم بعد ذلك الي قلب اتصالات الكوت بين أدني الأرض وأقصاها ليشقوا البحار والبراري في رحلات اسطورية قالوا ربنا باعد بين اسفارنا فظلموا انفسهم وجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق .
وفي كتابه رحلة اثرية الي اليمن للدكتور أحمد فخري ثارة حية الي ان اليمن اذ فرضت سيطرتها علي خط القوافل التجاري من الجوف الي الشام فانها فرضت ثقافتها أيضا ما عبرت عنه آثار مدن قرنو وقتبانو وائل حتي القرن العاشر قبل الميلاد، حيث شيدت ملكة سبأ مملكتها العريقة وشيدت معها مجالس شوري ونقاش وتمثل نقوشها الي الآن مصادر للدخول في بهاء تاريخ الشرق وفصوله الأكثر مثاراً للجدل حيث انهارت المملكة تحت سنابك خيول الممالك المجاورة.
وليس مبالغة اجماع المؤرخين علي ان الظاهرة السبئية من حيث الصعود الي المجد والهبوط الي الخراب استمرت في حقب التاريخ اليمني باشكال مختلفة حتي تحولت هذه البلاد العريقة الي حكمة بالغة الدلالة، فثمة لديها جواب لأي سؤال.. ولديها دواء لكل داء، ولديها حرب لكل سبب.
هذا في الماضي.. أما في فجر الحركة العربية غداة القرن العشرين، فقد أخذت اليمن سلاحها الي اعالي الجبال، ومن هناك بدأت اطلاق النار كلما وجدت له مبررا، وفي عهد انشطارها الي الشمال والجنوب خاضت ثلاث حروباً أهلية تحت شعار توحيد الأرض وانهاء التشطير.. وحرب رابعة بلا شعارات محددة، عناوينها الارهاب واختطاف السياح وحرية التعبير وانهاء الامبراطوريات القبائلية وتطمين الجسد الجنوبي ضمن نسيج الدولة الموحدة.
الحرب الأولي.. سلاح وايديولوجيا
في أيلول (سبتمبر) من عام 1972 اندلعت الحرب اليمنية الاولي بين الشمال والجنوب.. الشمال الذي انضم الي نادي الانقلابات الجمهورية منذ أقل من عقد من السنين، والجنوب الذي احرز استقلاله من الانتداب البريطاني قبل خمس سنين وأقام جمهورية كان قد لملم اجزاءها مما يزيد علي عشرين من السلطنات والمشايخ.
في الشمال لم يكن علي عبد الله صالح، خلال تلك الحرب، غير مقدم فخور بقبيلته الجمهورية وهو يتهجي خطوات العقيد القذافي ويستدل بها الي السلطة، وفي الجنوب لم يكن علي سالم البيض، آنذاك، غير سياسي غض مندفع اختار الراديكالية الحضرمية هوية وطموحا الي قيادة الجبهة القومية التي خرجت تواً من مؤتمرها الخامس بخطاب زاخر بـ الجمل الثورية وبتطلعات مشوشة الي الوحدة اليمنية عبر احداث تغييرات اجتماعية في الشمال مماثلة لما تم في الجنوب.
غير ان البيض، خلافا لصالح، كان آنذاك أكثر رصيدا في ممارسة المسؤولية، فقد كان نفسه عضوا في وفد الجبهة القومية الي مفاوضات الاسكندرية مع جبهة التحرير عشية الاستقلال بمبادرة وحضور عبد الناصر، وكان وزيرا في أول وزارة عقب الاستقلال، فضلا عن انه كان مكلفا بتوريد الاسلحة للثوار من افريقيا خلال الشهور التي سبقت الانتصار الناجز علي القوات البريطانية في صيف عام 1967.
في الشمال كان القاضي عبد الرحمن الارياني (رئيس المجلس الجمهوري) يدير، مع الشيخ أحمد النعمان، لعبة الحكم والوحدة، بمهارة سياسية في التعامل مع منتديات الرأي والسياسة والمقايل وطبقة كبار الضباط، وبأقل حذر مع المؤسسة القبلية وجماعة الضباط الصغار الذين اعيتهم الصراعات السياسية مع الاشباح. وفي هذا المحذور زلت قدم القاضي الايرياني في الثالث عشر من حزيران (يونيو) عام 1974 لكي يرحل الي خارج اللعبة و(البلاد) كلها، ولكن بعد ان حضر حفل افتتاح عهد الحروب مع الجنوب لاقامة الوحدة وانهاء عهد التشطير .
وليس من قبيل الصدف ان تندلع الحرب اليمنية الاولي من (قعطبة).. المنطقة التي ستكون مسرحا للحربين القادمتين، حيث يجد انصار كل طرف قواعد ومسالك ونقاط عبور وخطوط تراجع وموالين دائما، وحيث تجد الحكومتان الشمالية والجنوبية لهما فيها جيوبا مستمرة خلال ظروف التوتر والحرب، وتغيبان عنها في ظروف السلم والتعايش الأمر الذي جعل من هذه المحطة شرارة صالحة للاندلاع في أي وقت.
ومن زاوية ما، بدت لمراقبين حياديين صورة شديدة الغرابة للاحداث اليمنية فهي تنطلق من نقطة غامضة ثم لا تلبث ان تشغل العالم بوصفها قدرا أو كابوسا، لكأن الهدهد لا يزال يخاطب سليمان حتي اليوم بالآية الكريمة أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بخبر يقين .
بل ان فريد ريك انجلز سجل ــ عن اليمن ــ منذ أكثر من مائة عام في رسالة الي كارل ماركس انه كان يكفي ان تنشب حرب مدمرة واحدة حتي يتم اخلاء البلد من سكانه ، ووصف ما يحدث من اضطرابات غامضة هناك بالقول ان تدميرا مباشرا وعنيفا يجري الي درجة لا يمكن تفسيره الا بالغزو الحبشي.
لم تندلع الحرب اليمنية الاولي بالنيابة عن أحد، فقد كان الاستقطاب السياسي في كل من صنعاء وعدن، وتناحر الخيارات والطموحات ومصالح الشرائح، والتداخل القبائلي، وارث الماضي السياسي، كلها وراء غواية الحرب، غير ان العالم العربي كان منصرفا عما يحدث هنا الي جروحه والتباساته عشية حرب تشرين الاول (اكتوبر) ولم يبادر الي تطييب الخواطر حتي حلت الحرب بعد حادث اغتيال مشايخ ملكيين في ظروف غامضة.
وليس بدون مغزي، في هذا الوقت بالذات، ان تكون المجموعة الحاكمة بالشمال قد توزعت بين محبذ لفكرة الحرب كحل لاطفاء التوتر والتشطير جذريا وبين نابذ لها متردد في خوضها. وسرعان ما تصدرت المجموعة المتشددة في مجلس الشوري المسرح، ايضا، واخذت قرار الحل العسكري الي ساحة المواجهة متجاوزة تردد الايرياني ونعمان في الانخراط بالمواكب العسكرية، ويجدر ذكره ان الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر كان نفسه علي رأس مجلس الشوري ومن اكثر المتحمسين للحرب التي لم تشأ ان تتوقف في نقطة اخفاق التيارين المتشددين في الشمال والجنوب في تحقيق الوحدة اليمنية طبقا لتوصيفه الايديولوجي.
ومن الحرب الي الحوار.. تلك هي العلامة اليمنية الفارقة في سفر الأحداث العربية.. تقول الاعلامية اليمنية د. رؤوفة حسن بهذا الصدد تتميز الثقافة الشعبية والسياسية المترسخة في اليمن بأنها ثقافة المفاوضات والصلح، اذ نجد ان التفاوض وجلسات المصالحة والحلول الوسط وهي صلب الاعراف القبلية التي سادت السياسة اليمنية القديمة ما زالت تمارس حاليا ولها اثارها علي سلوكيتنا حتي الآن .
والي القاهرة توجه رئيسا حكومتي الشمال (محسن العيني) والجنوب (علي ناصر محمد) للتوقيع علي (اتفاق الوحدة) وهو أول وثيقة وحدوية تمثل القاسم المشترك لمشروعين باسم القيادتين السياسيتين في صنعاء وعدن، وقضت بـ(قيام دولة يمنية واحدة يكون لها علم واحد وشعار واحد وعاصمة واحدة ورئاسة وسلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية واحدة ، غير ان مجلس الشوري في الشمال لم يصادق علي الاتفاقية واضعا شروطاً جديدة ومقترحات بديلة لاحراج المتفاوضين في حين تخندقت الجماعة الثورية في قيادة الجنوب بخيارها العسكري وراحت تشكك بجدوي الوثيقة داعية الي اقامة وحدة بين القوي المناهضة للامبريالية العالمية والراغبة في تصفية الاقطاع .
العنف.. غواية وضار
وفي غضون ذلك اخذت غواية العنف مجري آخر.. فقد شدد متنفذو (مجلس الشوري) في الشمال من قبضتهم علي دفة القرار السياسي ونقلوا تزمتهم وبرنامجهم (الوحدوي ــ الالحاقي) الي الصف الثاني من ضباط الجيش الذين كانوا قد فقدوا الثقة بالقيادات السياسية التقليدية وبادارتها للصراع العسكري مع الجنوب وبالمفاوضات التي ترتبت عليها، فتحركوا لاطاحة الايرياني وتشكيل حكومة عسكرية.
وفي عدن وقع عبد الفتاح اسماعيل تحت ضغط المجموعة المتشددة في قيادة الجبهة القومية من جهة وضغط الاطروحة الايديولوجية الساحرة حول استحالة توحيد نظامين اجتماعيين مختلفين بالاسلوب السلمي ولكنه تمهل قرار الحرب بانتظار نتائج الهزة السياسية في الشمال وبقي في نقطة التوازن بين مختلف النزعات السياسية في القيادة، غير آمن لجهة سالمين تحديدا.
ولم ينزع بيان طرابلس الذي استكمل بعد شهر لقاءات القاهرة لصياغة مشروع الوحدة فتيل الضغائن، ولم يمنع من اتحاد اهواء زعماء مجلس الشوري باهواء طبقة الضباط للعمل بهدف تأجيج مصادر العنف والانتقام كما لم ينزع البيان الجملة الثورية من تفكير قيادة الجنوب التي بدأت تتحدث مجددا عن دولة الوحدة ــ الديمقراطية كناية عن ضرورة التماثل السياسي في الشطرين.
في الشمال غادرت القوات المسلحة في حزيران (يونيو) عام 1974 ثكناتها صوب قصر البشائر في صنعاء لتعلن سيطرتها علي السلطة السياسية ووضع الرئاسة بيد المقدم ابراهيم الحمدي ومجموعة من قادة الألوية والاسلحة، وقد قطعت هذه الحركة الطريق علي محاولة انقلابية اخري كان ضباط صغار يعدون لها لصالح العراق وليبيا.
مصير قاتل الغشمي
بعد يومين من مقتل الغشيمي، وفي السادس والعشرين من حزيران (يونيو) عام 1978 هرع الرئيس سالمين الي حتفه حين عاجل الرفاق ــ الخصوم فتح النار عليهم من النواهي فيما هم مجتمعين قرب جزيرة صيره وهدفه التخلص منهم مرة واحدة وتشييع السؤال عمن وضع قنبلة صنعاء في حقيبة المبعوث العدني الي مثواه الأخير، ولما فشلت خطة اطاحة عبد الفتاح اسماعيل لم يحتفظ سالمين برأسه اكثر من ساعتين في مساء ذلك اليوم، يقول عبد الفتاح اسماعيل في تأويل ذلك الاستقطاب علي اثر اغتيال الغشمي علي يد مبعوث يمني جنوبي من قبل الرئيس سالم ربيع علي ما يلي:
بعد ان شعرنا اننا أمام مؤامرة وحالة حرب بين الشمال والجنوب، لم يكن بمقدرونا في المكتب السياسي ان نتحمل المسؤولية لوحدنا، فدعونا اللجنة المركزية الي اجتماع استثنائي طارئ في اليوم التالي.. وقلنا بصراحة انه امام هذا العمل المشين (اغتيال الغشمي) من الافضل ان يتنحي (سالمين) عن المسؤولية .
كان يلزم ان تشتعل الحرب الثانية بين الشطرين غداة اغتيال الغشمي لولا التداعيات الغريبة في رحيل سالمين (أولاً) ودواعي ترتيب شؤون الرئاستين الجديدتين في عدن وصنعاء (ثانياً) والضغط الاقليمي الذي اتخذ شكلا رادعا للجنوب ودعوة لضبط النفس للشمال (ثالثا) وتراجع المزاج المتطرف (الانتقامي) في كل من المؤسستين العسكريتين في شطري اليمن تحت وطأة المرارة الناجمة عن الاحداث الاخيرة، وربما بسبب حالة الترقب للقرارات المتوقعة بشأن مصير القيادات العسكرية (رابعاً).
وعلي مشارف الحرب الثانية التي اندلعت في شباط (فبراير) عام 1979 كانت نزعة تحقيق الوحدة عن طريق القوة العسكرية قد خرجت من الحذر الي فصاحة لا سابق لها، سواء في عدن التي احتوت ــ بالدعم السوفياتي وبعض العرب ــ الحساسيات العربية، أو في صنعاء التي تهيأ لها ان تخترق حصون الجنوب وتستميل شرائح من القبائل والفئات الجنوبية المتذمرة التي تسوّغ ــ في العادة ــ مفهوم الحرب وزج الجيش والقبائل بها لانهاء حكم الشيوعية في نهاية الأمر.
غير انه بعد أيام من المصادمات الحدودية المتفرقة وجد الجيشان الحكوميان نفسيهما في وحل حرب طاحنة، بدا ان الجنوبيين كانوا قد أعدوا لها جيدا بحيث وصلت طلائع قواتهم الي تعز، ويذهب البعض الي انها أشرفت علي الوصول الي العاصمة صنعاء لو لم يتخذ عبد الفتاح اسماعيل قرار تجميد الموقف عند نقطة تعز، بل ودفع الاحداث الي طاولة المفاوضات حول سبل تحقيق وحدة الشطرين بالطرق السلمية ، الأمر الذي خلق تصدعاً داخل قيادة الحزب الاشتراكي عبر عن نفسه، أول الأمر، بمعارضة المؤسسة العسكرية المزهوة بانتصارات واضحة علي الأرض (علي عنتر صالح مصلح ــ وزير الدفاع)، وببروز استقطاب جديد مناهض لادارة اسماعيل لشؤون الحرب والحزب والدولة في ما بعد.
وفي الكويت التقي بين الرابع الي السادس من اذار (مارس) عام 1979 الرئيسان علي عبد الله صالح وعبد الفتاح اسماعيل ليوقعا البيان المشترك الذي سمي الوحدة بين الشطرين الهدف الغالي والعزيز علي شعبنا وسجل الالتزام بافشال محاولات تكريس التمزق والتجزئة والانفصال ورد الاعتبار الي اتفاقية القاهرة لعام 1972 التي طويت ولم توقع وذلك في سبيل اقامة وتجسيد نظام جمهوري وطني ديمقراطي في اليمن علي أساس الاقتراع الحر المباشر لكل أفراد الشعب اليمني، وايجاد دستور يضمن الحريات الشخصية والسياسية العامة، والشروع باعداد مشروع الدستور .
وليس بدون مغزي ان لا يتضمن بيان الكويت وقبله اتفاقية القاهرة و بيان طرابلس أية اشارة صريحة لتحريم استخدام القوة في تحقيق الوحدة، ولا أية رؤيا نحو تحقيق وحدة نظامين سياسيين مختلفين بالطرق السلمية.
في حاجز الانتقال الي عقد الثمانينات كان علي عبد الله صالح بعد عامين من وصوله الي الرئاسة يعزز طريقة الي ارتقاء السلطة بلا منافس وفي يده أوراق تستمد رصيدها من امتدادين، الي القبيلة من جهة والي عمق المؤسسة العسكرية من جهة ثانية فوق موهبته السياسية البراغماتية، فيما عبد الفتاح اسماعيل في طريقه الي خارج اللعبة بعد ان فقد آخر أوراقه.. الاول اختار الكلام لسد فجوات الحكم، والثاني اختار الصمت بعيدا عن دوامة الحكم.
العملية القيصرية التي اجراها الحزب الاشتراكي الحاكم في تشرين الاول (اكتوبر) عام 1980 بابعاد اسماعيل سلمياً للاقامة في موسكو، وكان أسلوب تحقيق الوحدة اليمنية بمثابة اللغم الموقوت داخل القيادة السياسية التي اصبح علي ناصر محمد علي رأسها مندفعا الي وقف التداعي في العلاقات مع الجيران، كان كما بدا يتمتع بحرية حركة، وانعكس ذلك في التخفيف من العداء للدول الخليجية، وتوالي لقاءات القمة مع قيادة الشطر الشمالي والرئيس علي عبد الله صالح .
مخاوف داخل النخب الجنوبية
غير ان هذه السياسة التي رفعت من رصيد ناصر في المحافل العربية والدولية اثارت دائرة من الاعتراضات داخل القيادة، بعضها انطلقت من حسد ازاء فرصة التماع زعيم الحزب والدولة لجنوب اليمن وبعضها الآخر من خشية ان يجري في البرنامج الثوري لجهة تحقيق الوحدة أو لجهة البناء الشمولي وبعضها الثالث من ريبة سياسية ازاء احتمالات اقامة حكم الفرد، وقد تجمعت هذه الاعتراضات علي تناقض مصادرها في خطة وقف علي ناصر محمد عند حده واثارة العراقيل امام نهج تسوية بؤر التوتر مع الشمال والجيران، وانخرط في جبهة المعارضة هذه عبد الفتاح اسماعيل من منفاه في موسكوجنبا الي جنب مع علي عنتر وصالح مصلح وعلي سالم البيض وسالم صالح وجار الله عمر في حين وقف الي جانب علي ناصر كل من احمد مساعد حسين وعبد العزيز الدالي وأبو بكر باذيب وانيس حسن يحيي وعبد الله غانم وعبد القادر باجمال.
وبموازاة ذلك كانت الايديولوجيا في طور ابتذالها عشية عاصفة البيروسترويكا، وكان حالها حال كتب الحكمة التي تقدم النصائح المجانية لكل من ينشدها، فقد غذت وهم استحالة تحقيق الوحدة بين نظامين اجتماعيين متعارضين بالطرق السلمية ووهم الواقعية الساذجة التي تقلل من شأن الألغام والاختلالات البنوية العميقة في الواقع.
وكانت موسكو كمركز للتأثير علي عدن، وللاشعاع الايديولوجي تضاعف من اثارة التشويش علي الصورة وتزيد ــ عن غفلة أو عن غيرها ــ من اندفاع الاحداث الي نقطة الصدام بين مجموعتي علي ناصر وعبد الفتاح اسماعيل، هذا اضافة الي تأثيرات الحرائق السياسية التي شبت في المنطقة مثل الحرب العراقية ــ الايرانية وانهيار حركة ظفار واحداث اثيوبيا والصومال والسوادن مما ألزم كلا من صنعاء وعدن بالتشاور اتقاء شظايا تلك الحرائق، بما اضاف عناصر جديدة للمواجهة في داخل الصف القيادي للحزب الاشتراكي اليمني الحاكم.
وفيما كان علي ناصر، أواسط عام 1984، في رحلة الي خارج اليمن الديمقراطي اصدر وزير الدفاع صالح مصلح المناهض له أوامره باقامة مناورة جوية غير معلن عنها علي حدود الشمال الامر الذي شكل سابقة استفزازية وفسرت علي انها توطئة للتوسع، وكادت ان تنفجر الحرب فعلا لولا اتصالات عاجلة جرت بين الرئيسين ناصر وصالح لضبط ردود الفعل واحتواء نزعة التوتر في صفوف بعض قادة الجنوب.
وتسارعت خطي ازاحة علي ناصر محمد من المسرح السياسي، خاصة بعد انعقاد المؤتمر الثالث للحزب الاشتراكي في تشرين الاول (اكتوبر) عام 1985 حيث كانت سياسة التنسيق مع الشطر الشمالي واحدة من ابرز النقاط موضع الاعتراض والهجوم.
لقد شاركت وحدات الجبهة الديمقراطية العسكرية التي كانت تعد في الجنوب لتحرير شمال اليمن بحماس في الحرب الأهلية في الثالث عشر من كانون الثاني (يناير) عام 1986 ضد حكم علي ناصر، وكان بيان القيادة الجديدة فصيحا بالتعبير عن آمال الكادحين اليمنيين بالتحرر والتقدم والاشتراكية والوحدة والحاجة الي تنوع اشكال المجابهة بين الثورة اليمنية واعدائها الطبقيين في الداخل والخارج .
غير ان العهد الجديد بقيادة علي سالم البيض طوي مرة واحدة التحفظات بشأن التنسيق واسقط في اكثر من مناسبة فكرة تحقيق الوحدة اليمنية بالطريقة البسماركية عن طريق القوة، وذهب بعد أشهر الي اعتبار ما تحقق فعلا لا يزال أقل كثيرا، مما يمكن انجازه . لقد اندفع الحزب الاشتراكي وقيادته في النصف الثاني من عقد الثمانينات وتحت ضغط عوامل كثيرة الي التنسيق الشامل، وعلي كافة المستويات، مع حكومة الشمال وحين عقدت قمة عدن بين علي عبد الله صالح وعلي سالم البيض كان الطريق سالكا نحو خطوات وحدوية متلاحقة، ولم يكن مصير علي ناصر محمد اللاجئي الي صنعاء عقبة في ذلك الطريق فقد قرر نفسه في كانون الاول (ديسمبر) عام 1989 وبتحبيذ من حليفه صالح، اعتزال النشاط السياسي بعد ان أدي دوره كما قال في سبيل الوحدة اليمنية وان الظروف الدقيقة والمصلحة الوطنية العليا تقتضي مني التنحي عن موقعي السياسي داعيا الجميع الي السمو فوق آلام وجراح الماضي .. فقد بدأ المشوار الي الوحدة.. ولا بد من صنعا وان طال السفر. لقد ألقت احداث كانون الثاني (يناير) عام 1986 بظلالها علي مسيرة التنسيق بين الشطرين، وتعاملت القيادتان، أول الأمر، بحذر ازاء بعضهما، وقد اتضح بعد شهور قليلة انه لا قيادة علي عبد الله صالح استثمرت لجوء نصف قيادة الجنوب، ونصف جيشه، الي اراضيها للوثوب بتلك القيادة وقواتها الي عدن (كما حدث بعد ثمانية أعوام، وباقل الشروط) ولا قيادة علي سالم البيض استطاعت ان تترجم شعارات تصدير الثورة الي الشمال أو طي صفحة التنسيق بين الشطرين. وعلينا ان نضيف الي قوام العوامل الملموسة لاندفاع القيادتين الشمالية والجنوبية نحو توحيد الاكتشافات النفطية، ومنها يتعذر الشروع في عمليات التنقيب والاستخراج والاستثمار والتصدير بدون أعلي مستويات التنسيق والادارة المشتركة التي تعتبر الوحدة من أكبر ضماناتها، في حين لا يمكن تأجيل الافادة من هذه الثروة الي ما بعد ترسيم الحدود التي يصعب الخوض فيها بسبب تناقضها مع البرامج السياسية المعلنة في كل من عدن وصنعاء وتعارضها مع المشاعر الشعبية.. ويقول عبد الكريم الايرياني بهذا الصدد (1): لا حدود في الوطن الواحد.. فالحدود لم تخطط بيننا.. فاما ان نرسم حدودا دولية بيننا أو ان يكون البديل انشاء شركة وطنية تعمل لمصلحة الشطرين .
اضطراب قيادة الاشتراكي الجديدة
كان علي سالم البيض، نفسه يعكس ويجسد الاضطراب في مواقف القيادة الجنوبية ازاء الأسلوب والشوط الذي ينبغي قطعه باتجاه الوحدة، ففي الطور الاول من اللقاءات بالقيادة الشمالية كان يميل الي التأني محذرا من التعامل مع قضية الوحدة بطريقة عاطفية (2) غير انه اسقط الحذر والتروي وهو يتحدث في اذار (مارس) عام 1990 خلال اجتماع لقيادتي الحزبين الحاكمين في الشمال والجنوب عقب التوقيع علي بيان عدن الذي وضع جدولا لاعلان الوحدة قائلا: اتمني لو انجزت الوحدة قبل مواعيدها المحددة . والحق ان المسيرة من بيان عدن في تشرين الثاني (نوفمبر ) عام 1989 حتي قيام دولة الوحدة في 22 ايار (مايو) عام 1990 جرت داخل ظروف انفعالية واحاطتها الكثير من المحبطات، كان يمكن ان تقطع عليها الطريق.. لقد كانت تتناقض ظاهريا مع جميع عناصر البيئة العربية والدولية (3) انذاك، غير انها استقوت علي المعوقات بغريزة الرضي عن النفس.
ويعتبر بيان عدن في 30 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1989 الانعطافية الرئيسية في مجري التحضيرات لاعلان الوحدة، وقد صدر في جو مشحون بالعواطف والمشاعر الوحدوية الطاغية خلال زيارة علي عبد الله صالح الي عدن، وتتمثل اهميته الاستثنائية في نقطتين:
ــ الاولي انه وضع موضع التطبيق دستور الوحدة واتفاقية القاهرة، بمعني انه انجز بيوم واحد ما كان تقرر قبل حوالي عقدين من السنين.
ــ والثانية، انه صاغ آليات ومحطات ملزمة للانتقال الي دولة الوحدة ولا تتجاوز زمنيا اكثر من عام ونصف (قلصت الي ستة اشهر). وقيل ان يتم الاستفتاء علي الدستور (علي ضوء اتفاق عدن) جري في ايار (مايو) عام 1990 اعلان دولة الوحدة (الجمهورية اليمنية ثم راحت ايديولوجيا الحتميات والترويج للمستقبل تتولي الاجابة علي الاسئلة الجديدة حول دواعي العجالة واكل الكستناء من علي الجمر. وعندما كبرت الاسئلة لبست تلك الايديولوجيا قفاز التحدي وتحولت الي تعويذة تماسكت فيها، أول الأمر، مشارب عجيبة من النزاعات الاشتراكية السلفية الحضرية البدوية، الناصرية الافغانية، القذافية الصدامية، ثم سرعان ما بدأت تتفتت لتعود كل نزعة الي قواعدها مثقلة بالخذلان.
وقد بدأ العد التنازلي لمزاج الوحدة مع اعلان نتائج الانتخابات النيابية في أواخر نيسان (ابريل) عام 1993 حيث تقاسمت ثلاثة احزاب رئيسية حاكمة (الاصلاح يحكم المؤسسة القبلية) الغالبية الساحقة للمقاعد، ليجري ادخال هذه التجربة في قوام المفارقات السياسية اليمنية: ففيما عنت الانتخابات التحول الفعلي الي شكل من أشكال الشرعية الدستورية بكفالة الشعب (الموحد) وشهادات النزاهة، فقد عنت ــ من جانب آخر ــ تكريسا فصيحا للتشطير في واقع الانحياز القطاعي الواضح والشديد في كل من الشمال والجنوب الي المؤسسة السياسية القديمة التي بقيت ــ رغم تعديلات طفيفة ــ شطرية. ولم يكن هذا الانحياز الموثق ــ وبخاصة في الجنوب ـــ غير تعبير عن نفاذ شحنة الوحدة، أو تعبير عن الحنين الي الماضي الشطري.
فما هي حقائق النتائج؟
نتائج الانتخابات.. مقاربة مهمة
اذا ما قللنا من شأن الاصطدامات واعمال الانتقام وتصفيات الحساب التي رافقت الحملة الانتخابية والتي لم تكن بلا دلالات شطرية فان الارقام الرسمية للنتائج تكفي للتأمل ــ منذ ذلك الحين ــ في مصير دولة الوحدة، وسنأخذ عاصمتي الشطرين وثلاثة من أكبر مدنهما مثالا لا يخطئ:
في عدن حصل الحزب الاشتراكي علي 11 مقعدا هي جميع المقاعد المحددة للعاصمة الاقتصادية (3 مستقلين فازوا وانضموا الي كتلة الحزب، اثنان منهم حزبيين فعلا) فيما لم يكسب لا مؤتمر الشعب العام ولا تجمع الاصلاح أي مقعد. اما صنعاء فلم يحصل الاشتراكي الا علي مقعد واحد من بين 54 مقعدا تقاسمها المؤتمر والاصلاح.
وفي حضرموت، باقصي الجنوب الشرقي، كسب الحزب 17 مقعدا في المقاعد الـ18 وترك الاخير للمؤتمر، وفي ابين ذهبت 7 مقاعد للاشتراكي من بين 8 وفي لحج كسب الاشتراكي جميع مقاعد المحافظة الـ12.
ولم يحصل الحزب الاشتراكي علي أي مقعد في الكثير من المحافظات الشمالية باستثناء الحديدة حيث كسب مقعدا واحدا من 33 مقعدا للمؤتمر والاصلاح، وفي ذمار مقعدا واحدا من 21 للآخرين وفي تعز كسب 5 مقاعد من 43.
واذا اعدنا قراءة النتائج علي ضوء ما آلت اليه تجربة الوحدة فاننا سنقف علي بقع، الانكفاء عن دولة الوحدة الي الانفصال: في الجنوب، احساسا بالطابع الالحاقي للتوحيد، وفي الشمال احساسا بالخوف علي الهياكل الشطرية، ولا يمكن تحميل مسؤولية ضياع هذه التجربة لغير العجالة والخطوات العشوائية الانفعالية والارادوية والروح اختزال المراحل التي غرقت فيها القيادتان السياسيتان.
واذ لا يمكن شطب النتائج التي ترتبت علي الانتخابات فان احدا لم يمكنه ان يقف أمام السيل الجارف من الاعتبارات الفئوية والمناطقية والقبائلية والشطرية التي انتقلت آليا الي مؤسسات الدولة والسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتحولت اخيرا الي مؤسسة الرئاسة لتتشكل الازمة، في نهاية الامر، علي هيئة دائرة أو ما يوصف بالدوامة.
مؤسسات وحدوية علي قواعد غير وحدوية
والجدير بالاشارة الي ان جميع السلطات الشرعية التي ولدت تحت ضجة البرلمان بدأت تعاني من تحديات وشروخ تساعد في افراغها من مضامينها كسلطات.. فسلطة الرئاسة امام تحديات قرار التعديلات الدستورية، ما اذا يختار علي عبد الله صالح نائبه بنفسه أم يترك الاختيار للبرلمان ولحزب نائب الرئيس.. والسلطة التنفيذية يقف علي رأسها العطاس الذي لا يحظي الا بتأييد 9 وزراء اشتراكيين من بين 30 وزيرا (10 للمؤتمر و6 للاصلاح)، فليس ثمة في العالم رئيس حكومة لا سلطة له فعلية علي أكثر من ثلث اعضائها.. وهذا الأمر ينطبق علي السلطة التشريعية التي لا يستطيع رئيسها (الاحمر) ان يتمثل الغالبية الساحقة لممثلي الشعب وهو نفسه ينتمي الي كتلة قوامها 62 نائبا من اصل 301 نائب، وشاءت التطورات ان تعم الفوضي الادارية جميع مفاصل الحكومة ومؤسسات القضاء والتشريع مثلما حدث للبرمان حيث اصدر رئيسه في مدي اسبوعين قرارين متناقضين، الاول بفتح الترشيخ الي مجلس الرئاسة والثاني باجراء التعديلات علي الدستور، فيما الترشيح لا يجوز ان يسبق التعديلات التي ستطال أسس ووجهة هذا الترشيح، الأمر الذي فاقم الصراع بمديات جديدة، ولم يخفف منها ما أعلن في العاشر من ايار (مايو) عام 1993 عن اتفاق بين مؤتمر الشعب العام والحزب الاشتراكي لادارة العمل المشترك علي اساس وثيقة التنسيق التحالفي بين الحزبين علي طريق التوحيد بينهما.
وتضمن هذا الاتفاق القبول بفكرة التعديلات الدستورية وانشاء مجلس شوري (الفقرة ب) وعلي ان تكون رئاسة الدولة من رئيس ونائب الرئيس تم انتخابهما من جانب الشعب وتقديم الترشيحات لرئاسة الدولة في قائمة واحدة للرئيس ونائبه الي مجلس النواب (الفقرة 5).
وسرعان ما وضعت الوثيقة التحالفية جانبا مع اعتكاف علي سالم البيض، الاول، في عدن بعد أسابيع قليلة لتعم الشكوك في جدارة أية وثيقة أو صيغة أو بيان أو خطة أو آلية تستهدف معافاة الوضع، وانتقلت الريبة ازاء المستقبل الي تصريحات كبار القادة والمسؤولين مع صهيل الرصاص في الشوارع وهو يطارد السياسيين ويدك المقرات ويقطع الطرق دون أي رقيب، ومن غير ان يعرف المراقب من أية حلقة يمكن سحب السفينة المضطربة الي شاطئ الامال سيما وقد تزايدت (الملفات) المضطربة: ملف الامن، ملف الاقتصاد، ملف الادارة، ملف عدن، ملف الاراضي، ملف النفط، ملف الاختطافات، ملف الحدود.. عدا عن ملفات الدستور والرئاسة والمعارضة والحريات... الخ.
وحين تأخرت مبادرات المراجعة الجادة، النقدية، لما حصل، راحت الحياة العامة في اليمن، شمالا وجنوبا، تغرق في خصومات متناسلة، فسرت في الخارج علي انها من بعض تجليات الخلافات السياسية العابرة أو من تداعيات ازمة الخليج فيما هي أبعد واعمق من ذلك بكثير اتصالات بخيارات مرحلة جديدة لا بد ان تقوم علي هدم الكثير من المنظومات المتوارثة التي تقاوم بضراوة كل ما هو جديد، وتتوزع هذه المنظومات بين الجميع، ولو بنسب متفاوتة وفي هذا تكمن واحدة من العقد.
مشروع غير ناضج.. مشروع حرب
في غضون ذلك وفي تشرين الاول (اكتوبر) عام 1993 اصدر الحزب الاشتراكي اليمني مشروعه ذا النقاط الثماني عشرة لمعالجة الازمة، حيث سارع مؤتمر الشعب العام ــ في سبيل الملاسنة ــ الي القبول به كمدخل لمعالجة الازمة السياسية، غير انه بعد يومين فقط اطلق الرصاص علي أولاد البيض فقتل ابن شقيقته ونجا ولده باعجوبة لتثار مجددا المطالبة بالكشف عمن اطلق الرصاص علي قيادات الاشتراكي أو منازلهم: عبد الواسع قاسم، العطاس، سالم صالح، ياسين سعيد نعمان، انيس حسن يحيي، مرشد واكثر من 150 آخرين.
وفي مطلع العام 1994 كانت أزمة اليمن مرشحة للتفاعل بما يؤدي الي اختلال الوضع الاقليمي، وكان هذا الاستنتاج قد وجد له رضي خفي لدي القادة السياسيين المتصارعين، فقد صاروا منذ هذا الحين يتلقون دعوات العواصم للتشاور، كما يتلقون المناشدات والرسائل من الهيئات الدولية والاقليمية المختلفة، وتؤخذ تصريحاتهم وبياناتهم علي واجهات الصحف وصدارة نشرات الاخبار المرئية والمسموعة.. والغريب ان اكثر من كان يحذر من خطر الحرب الاهلية هم اولئك الذين جروا كل شيء الي محذور الحرب: الرئيس ونائبه.
وفي السابع من شباط (فبراير) عام 1994 نجحت ارادات التسوية في عقد لقاء بالعاصمة الاردنية عمان لتوقيع وثيقة العهد والاتفاق ! التي شغلت 17 صفحة من الافكار والآليات والالتزامات والاجراءات والاولويات الكفيلة باحتواء الموقف من جوانبه المختلفة، غير ان الساعات القليلة التي اعقبت التوقيع كشفت ان الزعماء السياسين وقعوا علي الشيء ونقيضه فقد ساءهم ضبط التفجير علي أديم الوثيقة الطرية، وذهب كل فريق الي برنامجه وطريقه: علي عبد الله صالح الي تفجير الموقف في معسكر عمران لانهاء الجيب العسكري الجنوبي في خاصرة صنعاء، والبيض الي اعتكاف جديد في عدن والاحمر الي فتح النار علي وثيقة العهد والاتفاق واعلان التحلل منها.
لقد كانت وثيقة العهد والاتفاق حالها حال الدستور اليمني محاولة لاحتواء خطر الانفجار الذي يدق الابواب، ان بصياغاتها المتناقضة مع نفسها ومع الدستور، وان بميلها الي استرضاء جميع الاطراف في اشارات عمومية، حتي بالتشبت المقدس بامال الوحدة.. وفي ذلك مفارقة أخري حين يتحول الحل نفسه الي عود ثقاب.. وقد اشتعل فعلا.
كان سقف اتفاقية العهد والاتفاق عاليا بحيث يتسع لمختلف التأويلات.. فتطوير الادارات المحلية اعتبر انه يعني الفيدرالية، واحترام الشرعية الدستورية فسر علي انه حق الرئاسة بالاستفراد بقرارات واجراء مصيرية، في حين دخلت التحديات من كثير من الثقوب التي حفلت بها الوثيقة، وبخاصة الصياغة الهشة بشأن أولوية الاجراءات الأمنية وانهاء الاعتكاف.. فقد شدد الرئيس علي أولوية انهاء اعتكاف نائبه في عدن، وتمسك النائب علي أولوية ضبط الامن.
ولم يمض علي اعلان حالة الطوارئ الا ايام قليلة حين انسحبت جميع السلطات المدنية الائتلافية، من الساحة امام السلطة الوحيدة القادرة علي حسم الجدل حول مستقبل الازمة السياسية: السلطة العسكرية.. فعاد علي عبد الله صالح الي قاعدته العسكرية في تعز ليضع خطة الحملة المسلحة المقبلة، وغادر الشيخ الاحمر قاعة البرلمان الي مرابع قبلية حاشد ليشكل فيالق الثأر المسلحة، وانتقل البيض من مكتبه في المعاشيق متوجها الي معسكر العند للاشراف علي الضربة الاولي.
كانت الغريزة الالحاقية في صنعاء تعبر عن نفسها في الكثير من الصور الجنوبية، اكثرها وضوحا المساس بمشاعر المواطنة المتكافئة لمواطن المحافظات الجنوبية والشرقية، وقد هدد تنامي الاستياء لدي هذا المواطن بالانقلاب علي مؤسسته السياسية وزعمائها الذين ظهروا، في مجري اعلان الوحدة، وهم ينعمون بالامتيازات والسلطة الاضافية فيما هو يتضور جوعا ويتحسر علي عاصمته، ذات الميناء والمطار الدولي والمصفاة، وقد اضحت مدينة هامدة يغير عليها التجار الصنعانيون من كل جانب.. وربما هذا من بين الاسباب الرئيسية التي دعت البيض الي الاعتكاف النهائي في عدن: مواجهة النزعة الالحاقية بتغذية نزعة الانفصال.
الحرب حين تكون حلا
لم تكن الحرب قد فاجأت المتابعين للاحداث اليمنية، ولكن المفاجأة تمثلت في عمق الغرائز الشطرية التي انطلقت بكثافة من مكامنها في تحديد شديد لأية حدود، حتي بدا للكثيرين خطف اطروحة الوحدة من حيث هي خيار سلمي طوعي لليمنيين، امام الاستحقاقات القطرية، وحتي الفئوية الضيقة.. وقد وجدت التشطيرات السياسية المبكرة نفسها في الوقائع التالية:
ــ في الشمال، روح القسوة الواضحة ضد المدن الجنوبية، وشعارات الانتقام التي لم تميز بين قيادة الاشتراكي والمواطنين المتحدرين من الجنوب (ابعاد الدبلوماسيين والسفراء من ابناء الجنوب في الاسبوع الاول للحرب) فضلا عن انحياز قياديين من اصل جنوبي لجانب عدن (محمد علي احمد سليمان ناصر (مسعود)، محمد سليمان ناصر).
ــ في الجنوب، تردد (أو معارضة) قيادات ومسؤولين في الحزب الاشتراكي متحدرين من الشمال ازاء الاندفاع في الانفصال (جار الله عمر، عبد الواحد المرادي، يحيي الشامي) وانضمام البعض الي جانب قيادة علي عبد الله صالح، وتزايد توصيف الوجود الشمالي بـ الاحتلال .
ولعل اكثر الذرائع التي اعلنت باسمها الحرب في صنعاء مدعاة للمناقشة، هي ان القوات الشطرية الشمالية تشن هجومها في اطار الشرعية الدستورية، ولاستعادة هذه الشرعية، وان ما يجري شأن داخلي يمني، ومن غير المقبول التدخل فيه حتي من الزوايا ذات العلاقة بالجوانب الانسانية، في وقت ان الشرعية نفسها الممثلة بالسلطات الثلاث انقسمت، في الواقع، الي شطرين: الرئيس بجانب ونائبه بجانب آخر. البرلمان بجانب (ممثلا برئيسه) والحكومة (ممثلة برئيسها) في جانب آخر، وهي بمقاسات كثيرة لا تدع شرعية (رئيس الدولة) بوصفه رمزا وراعيا للسيادة كاملة.
كما ان الشرعية الدستورية في سياقات ما حدث في مناطق كثيرة، مثل الصومال ورواندا وهايتي، هي مصطلحات نسبية مقابل ما يطلق عليه شرعية الأمر الواقع .. وان نسبة كبيرة من امتيازات الشرعية تتمثل في ملامحها علي أرض الواقع وموقعها من توازن القوي.. فثمة الكثير من رموز شرعيات دستورية في العالم (ملكيات وجمهوريات) تعيش خارج الجغرافيا السياسية ولا تعامل الا بوصفها مشاريع أو احلام سياسية قد تنتهي الي غير رجعة وقد تعود في ظل اختلال توازن القوي القائمة في بلدانها. وليس ثمة داع للتذكير بـ شرعية قيادة علي ناصر محمد لدولة الجنوب والحزب الاشتراكي اليمني، حيث شطبتها صنعاء وهي تتعامل عام 1986 مع شرعية الامر الواقع التي وضعت علي سالم البيض علي رأس السلطة في عدن.
وليس أدل علي التبسيط في استخدام سلاح الشرعية الدستورية من توظيفه باتجاه واحد هو اخضاع دولة الجنوب لمشيئة التأويل القانوني للدولة الواحدة في حين يقف هذا السلاح عاجزا عن اخضاع الدولة الاخري الممثلة بالمؤسسة القبلية، وتحديدا قبائل حاشد التي تحتفظ بشخصية دولة داخل دولة، بسجونها المستقلة وادارتها وتشكيلاتها المسلحة وكيانها الاقتصادي وحدودها الجغرافية.
حرب لا مبرر لها
أما تفسير علي سالم البيض خروجه الي الحرب ثم الي الانفصال، من انه جري في اطار الدستور واستند الي وثيقة العهد والاتفاق فقد اصطدم، اذا شئنا المناقشة علي هذا المستوي، بحقيقة انه لا الدستور ولا وثيقة العهد والاتفاق يتيحان ذلك، علما انه لا الدستور (أو تعديلاته المقترحة) جري الاستفتاء عليه ولا الوثيقة تحولت الي برنامج أو آليات تتولي ضبط الالتزامات وحدود الحقوق والواجبات.
لقد حملت تصريحات وبيانات الطرفين منشطات كافية لحرب اهمية اخري، بسماركية من جهة الشمال بهدف تحقيق الوحدة بين الشطرين، وانفصالية من جهة الجنوب بهدف الحيلولة دون الالحاق.
وعلي مشارف المشهد كانت مملكة سبأ تذكر الجميع بالنقوش الماثلة علي جدران قتبان.. فالحرب هي الحرب قبة في من يخرج باقل الخسائر.