الحضارة القرطاجية
تاريخ قرطاجة:
تقع مدينة قرطاج في بلاد تونس بالقرب من مدينة تونس الحاضرة، أسسها الفينيقيون وأصبحت مركز إمبراطورية كبيرة حكمت شواطئ المغرب الكبير وصقلية وأسبانيا حتى سقوطها في حروب مع الرومان.
بداية يمكن القول بأن دخول المغرب في التاريخ المكتوب بدأ مع وصول البحارة والمستوطنين الفينيقيين إلى سواحله. لكن محاولة معرفة تاريخ هذه الحضارة تكتنفها الكثير من الصعوبات التي يمكن إرجاعها إلى كون المصادر المتوفرة عن تلك المرحلة التاريخية كلها تقريباً يونانية ولاتينية، وأن الفينيقيون في الغرب بالنسبة للإغريق والرومان – وبخاصة تحت قيادة قرطاجة – أعداء ألداء، ومن هنا فإن صورتهم في هذه المصادر سوف تكون مشوهة ومشوبة بالتجني والتحامل عليهم، مما يقلل من القيمة المعرفية لهذه المصادر حول الحضارة القرطاجية.
والصعوبة الأخرى، تتمثل في أن الزمن لم يبقي لنا مؤلفات قرطاجية، وأن علم الآثار لن يفيدنا كثيراً لأنه في معظم الحالات قد أقيمت فوق المستوطنات الفينيقية مدن رومانية ضخمة، ومع ذلك هناك عدد كبير من النقوش المدونة بمختلف صور اللغة الفينيقية غير أنها في الغالب نقوش مقبرية ولا تحكي لنا عن تلك الحقبة إلا القليل.
المستوطنات الفينيقية:
تشير المصادر التاريخية المتوفرة عن العالم القديم إلى أن "صور" هي المدينة الفينيقية التي انطلقت منها حملات الفينيقيين إلى العرب، والتي أدت إلى إقامة العديد من المستوطنات. وتنص التوراة والمصادر الأخرى صراحة على تفوق "صور" على المدن الفينيقية في الشرق الأدنى في القرن الثالث عشر، وكانت "صور" والمدن الأخرى مثل صيدا، وبيبلوس منذ حوالي سنة 1000 ق.م، من أنشط المدن التجارية في شرق البحر الإيجي والشرق الأدنى، وإن تأثرت قليلاً بنمو الإمبراطورية الآشورية.
ولقد كان البحث عن موارد معدنية - وبصفة خاصة – الذهب والفضة والنحاس والقصدير هو الذي حمل التجار الفينيقيين إلى غرب البحر المتوسط، وقد انطلقت أعداد من المهاجرين الفينيقيين إلى صقلية والجزر المجاورة وإفريقيا وسردينيا وأسبانيا ذاتها. ومن المتعارف عليه أن أول مستعمرة فينيقية في الغرب كانت في موقع قادس (كاديز) الحالية وقد أخذ الاسم من الكلمة الفينيقية "جادير Gadir" وتعني القلعة وربما يوضح هذا أصلها كمركز تجاري.
وكان الطريق البحري الطويل إلى الأسواق الجديدة في إسبانيا بحاجة إلى الحماية نظراً لظروف الملاحة في العصور القديمة إذ كان المتبع – بصفة عامة – أن تحاذي السفن الساحل وتلقي مراسيها أو تسحب في الليل إلى الشاطئ. وقد استخدم الفينيقيون طريقين: طريقاً شمالياً، بمحاذاة الشواطئ الجنوبية لصقلية وسردينيا وجزر البليار. وطريقاً جنوبياً، بمحاذاة ساحل شمال إفريقيا.
ويمكن أن نستنتج بطول الساحل الأخير، احتمال وجود مراسٍ استخدمها الفينيقيون كل 30 ميلاً أو نحو ذلك، على الرغم من أن تطور هذه المراسي إلى مستوطنات دائمة كان يعتمد على عوامل مختلفة، وكانت المواقع القديمة جزر قريبة من الساحل، أو ألسنة صخرية يمكن الرسو عليها على كلا الجانبين، ولم يكن انتفاع الفينيقيين بهذه المواقع أمراً صعباً نظراً لأن المستوى الثقافي ومن ثم السياسي والعسكري لسكان المغرب، ومثله في هذا الخصوص مستوى معظم سكان غربي البحر المتوسط كان منخفضاً مقارنة بمستوى الفينيقيين.
ولعب العامل الاستراتيجي دوراً مهماً في تقدم بعض هذه المواقع بالمقارنة بمواقع أخرى، وما يلفت الانتباه، أن ثلاثة مواقع من أهمها: قرطاجة، وأوتيكا Utica في شمال إفريقيا وموتيا Motya في صقلية كانت كلها تتمتع بمواقع ممتازة على الممرات الضيقة من شرق إلى غرب البحر المتوسط، وتسيطر على كل من الطرق الشمالية والجنوبية.
تأسيس قرطاجة:
تشير المراجع التاريخية إلى أن اسم قرطاجة (Carthage) وباللاتينية (Corthago) هي صورة (محرفة) من الاسم الفينيقي "قرت حدتش" الذي يعني "المدينة الجديدة" ويدل هذا ضمناً على أن المكان قدر له منذ البداية أن يكون المستوطنة الرئيسية للفينيقيين في الغرب، وإن كنا لا نعرف عن آثارها في أقدم فترات تاريخها سوى قدر ضئيل لا يسمح بالتأكد من هذا الأمر. والتاريخ المتعارف عليه لتأسيسها هو 814 ق.م.
ويشير الترابط العام للشواهد الأثرية أنه بينما كانت الرحلات الفردية تتم في فترة مبكرة فإن المستوطنات الدائمة على ساحل المغرب لم تتم قبل سنة 800 ق.م. وأنه لم المؤكد إنه على عكس المستوطنات التي أقامها الإغريق في صقلية وإيطاليا وغيرها في القرنين الثامن والسابع.
إمبراطورية قرطاجة:
أ_ نمط الحكم والسياسة:
تشير المصادر التاريخية إلى أن قرطاجة قد تعرضت للنقد من قبل أعدائها بسبب المعاملة القاسية واستغلال رعاياها الذين كانوا بالتأكيد عدة طبقات، وكان أصحاب أكثر الامتيازات هم سكان المستوطنات الفينيقية القديمة والمستوطنات اللاحقة التي أقامتها قرطاجة بنفسها وهؤلاء السكان هم من أطلق الإغريق عليهم اسم "الفينيقيين الليبيين" "الفينيقيين الإغريقيين" ويبدو أنه كان لهذه المستوطنات إدارة محلية ونظم حكم مشابهة لما كان لدى قرطاجة، وكان سكان هذه المستوطنات يدفعون الرسوم على الواردات والصادرات، وأحياناً كان يتم تجنيد القوات من بينهم ومن المرجح كذلك أنهم وردوا البحارة لسفن الأسطول القرطاجي وبعد سنة 348 ق.م، يبدو أنه حرّمت عليهم التجارة مع أي أحد عدا قرطاجة.
وفي صقلية تأثر وضع الرعايا القرطاجيين هناك بسبب مجاورتهم للمدن الإغريقية، فسمح لهم بأن تكون لهم مؤسساتهم الخاصة بهم، وأن يصدروا عملتهم الخاصة خلال القرن الخامس، في وقت لم تكن قرطاجة نفسها تصدر عملة، ويبدو أن تجارتهم لم تفرض عليهم قيود، وعلى غرار ما قام به الرومان عندما سقطت صقلية في يد روما، فقد فرضت ضريبة مقدارها عشر الإنتاج. وكان أسوأ الجميع حالاً هم الليبيون في الداخل وإن كانوا على ما يبدو قد سمح لهم بإقامة تنظيمات قبلية ويبدو أن الموظفين القرطاجيين قد أشرفوا بطريقة مباشرة على جباية الضريبة وتعبئة الجنود وإن الضريبة العادية المفروضة كانت ربع المحصول وزيدت إلى خمسين في المائة منه عندما تأزم الموقف في الحرب البونية الأولى مع روما.
وطبقاً لما ذكره المؤلف الإغريقي بوليبوس (القرن الثاني ق.م) فإن عدداً من الليبيين شاركوا في ثورة المرتزقة الليبية التي أعلنت هزيمة قرطاجة في الحرب بسبب كراهيتهم لهذا الوضع ولغيره من الأوضاع "ولم يكن القرطاجيون ينظرون بعين الإعجاب أو الاحترام إلى هؤلاء الحكام الذين يعاملون رعاياهم بالاعتدال والإنسانية، وإنما كانوا يعجبون بأولئك الذين ينتزعون أكبر قدر من المؤن ويعاملون السكان بلا رحمة".
ويبدو أنه كان لهذا الانتقاد ما يبرره، إذ نشب عدد من الثورات الليبية غير الثورة المذكورة وعجز القرطاجيون – على ما يبدو – عن انتهاج سياسة من شأنها دفع الشعوب المغلوبة إلى قبول حكمهم.
وبعد الإشارة إلى نمط النشاط التجاري لقرطاجة، قد يكون من المفيد الإشارة سريعاً إلى المظم السياسية القرطاجية، إذ كان المظهر الوحيد في قرطاجة والذي حظي بإطراء الإغريق والرومان هو الدستور السياسي لقرطاجة الذي يبدو أنه يكفل لها الاستقرار، وهو مطلب عزيز كانت تنشده المدن في العصور القديمة.
وإذا كان من الصعب التعرف على نمط الحكم في قرطاجة فإن الخطوط الرئيسية لنظامها السياسي تبدو على النحو التالي: سادة المدن الفينيقية الملكية الوراثية حتى العصر الهيلنستي، وكل مصادرنا تشير كذلك إلى الملكية في قرطاجة، وخلال القرن الخامس حدث تطور كبير، تناقصت خلاله قوة الملوك، ويبدو أن هذا التطور صاحب نشأة سلطة "الشفطان" “Sufetes” والكلمة تتضمن معنى القاضي والحاكم، ومنذ القرن الثالث كان ينتخب منهم اثنان وربما أكبر سنوياً. ومن السهل مقارنتهم بالقناصل الرومان، وقد ظل مصطلح "الشفيط" مستخدماً في شمال إفريقيا في مناطق الثقافة القرطاجية لمدة قرن على الأقل بعد الغزو الروماني، ليشار به إلى الحكام الرئيسيين للمدينة، وفي الوقت نفسه ازدادت قوة الأرستقراطية الثرية.
وفي القرن الرابع أو الثالث فصلت قيادة القوات المسلحة فصلاً تاماًُ عن الوظائف الأخرى، وكان القوات يعينون فقط في حالة الحاجة ولحملات محددة الجهة، حيث لم يكن للدولة جيش ثابت يتطلب قائداً دائماً، وانتهجت العديد من الأسر نهجاً عسكرياً مثل آل ماقون في أوائل التاريخ القرطاجي، وآل برقا فيما بعد. ومن الملاحظ أن قرطاجة لم تخضع لانقلاب عسكري يقوده قائد طموح مثلما تكرر هذا المصير في المدن الإغريقية وبخاصة في صقلية.
ولعل إعفاء المواطنين القرطاجيين من الخدمة العسكرية، منذ بداية القرن الخامس – عدا فترات قليلة – قد حال دون تعميق الشعور بمدى قوتهم الذاتية التي كانت عاملاً فعالاً في تطور الاتجاهات الديموقراطية في بلاد الإغريق وروما.
ب – التجارة القرطاجية والاستكشاف:
لقد كان نشاط القرطاجيين التجاري امتداداً للنشاط التجاري الفينيقي، فقد كانت لقرطاجة تجارتها في غرب إفريقيا والمحيط الأطلسي والبحر المتوسط، كما كان لها تجارتها الصحراوية.
العقيدة القرطاجية:
لقد تعرضت الحياة الدينية القرطاجية لنقد شديد بسبب تقديمهم للقرابين (الضحايا البشرية)، وكان الإله الأعلى في العالم الفينيقي يعرف في إفريقيا باسم بعل حمون ومعنى اللقب حمون على ما يبدو وهو الناري، ويعبر عنه بشكل الشمس، وفي القرن الخامس برزت عليه كمعبودة شعبية آلهة تدعي ثانيت ويبدو أن اسمها ليبي وقد توافق انتشار عبادتها مع التوافق الروماني في إفريقيا لأنها تبرز مظاهر الإخصاب فهي تدين بالكثير للإلهتين الإغريقيتين هيرا وديميتر وقد مثلت في أشكال أنثوية.
وكان القرطاجيون حتى تاريخ متأخر أقل تأثراً بالحضارة الإغريقية من الاتروبيين والرومان، رغم أنهم لم يكونوا على الإطلاق بمنأى عن تأثرها، فقد أقرت عبادة ديميتر وكوري رسمياً في المدينة ولكن العبادات المحلية لم تتأثر بالديانة الإغريقية على نطاق واسع.
ومن الناحية الفنية لا يظهر في الحرف القرطاجية الصغيرة سوى أثر يوناني طفيف ولكن القليل المتبقي من القرن الثاني يتبين منه أنه عند هذا التاريخ لم يعد التأثير المعماري القادم من العالم الإغريقي ملموساً في موقع قرطاجي (دار الصافي في رأس آذار)، بل كذلك في الأراضي الليبية (دجة = دقة) وقد استخدمت الفينيقية كلغة أدب ولكن لم يبق شيء من إنتاجها.
حروب قرطاجة:
بداية لا بد من الإشارة إلى أن الصراعات في الغرب قد انحصرت في حصار ضيق بالمقارنة بالتغييرات الثورية في الشرق خلال الفترة نفسها، ولكن قرطاجة لم تلبث أن تورطت في صراع له أهميته البالغة بالنسبة للتاريخ العالمي وهو الصراع مع روما وقد عقدت معاهدات بين الجانبين منذ وقت مبكر في سنة 508 ق.م. عندما عندما كانت روما مجرد مدينة من مدن إيطاليا المتوسطة الحجم، ويمكن الإشارة إلى عدد من الحروب التي خاضتها قرطاجة، والتي يمكن إيجازها فيما يلي:
- الحرب الصقلية الأولى
- الحرب الصقلية الثانية
- الحرب الصقلية الثالثة
- حروب بيبروس الأبيري
- الحرب البونيقية الأولى
- حرب الأجراء
- احتلال أسبانيا
- الحرب البونيقية الثانية
- حرب ماسينيسا
- الحرب البونيقية الثالث
تدمير قرطاجة:
لقد أشرنا فيما تقدم إلى حرب ماسينيسا، ورغم كل ما أبداه ماسينيسا من تواطؤ مع روما، وخضوع وعون لها. رغبة منه في إعطائه حكم قرطاجة من قبل الرومان، إلا أن ذلك لم يحل دون حرب الرومان لقرطاجة ورغم التفوق الساحق لروما فإن قرطاجة صمدت حتى سنة 146 ق.م، واستاء ماسينيسا عندما حرم من أمله في حكمها، لكنه أذعن وانضمت معظم المستوطنات الفينيقية والقرطاجية القديمة إلى روما وتجنبت بذلك التدمير المحتم وسويت قرطاجة بالأرض ولعن مكانها في احتفالاً طبقاً لتقليد روماني، وهو عمل رمزي يدل على مدى الخوف والحقد الذين اختزلتها روما زهاء قرن للدولة التي قاومت بضرواة سياستها على عالم البحر المتوسط