نظرات في الاستراتيجية الإيرانية
فى قراءة السلوك الرسمى الايرانى خلال التعامل مع قضايا وملفات السياسة الخارجية، يلفت النظر ان ايران تتبع استراتيجية "الهجوم الدائم" حتى لو كانت بصدد "التراجع" او الالتفاف والمناورة، وانها فى ذلك تمزج بين المواقف "السياسية والاعلامية" والاستعدادات العسكرية من خلال الاستعراضات المكثفة لعناصر قوتها الردعية او الهجومية او من خلال الاعلان عن تطوير اسلحة هجومية جديدة ..الخ.
كما يلفت النظر ان الاستراتيجية الايرانية هى حالة مركبة فى التوجهات وادارة المعارك على الجبهات المتعددة. وفى ذلك نراها تأخذ فى لبنان موقفا واضحا وقاطعا فى اتجاه محدد (حالة حزب الله)، بينما تأخذ بمواقف أخرى واتجاهات تتسم بالغموض على نحو ما فى استراتيجيتها فى العراق وافغانستان، او على الاقل هى تحرص فى تلك الحالتين على عدم كشف نمط استراتيجيتها وطبيعة القوى الداخلية التى تتعامل معها (على خلاف حالة حزب الله) وكذا يلفت النظر، ان السياسة الايرانية تقوم فى الاساس على الاقتراب من الخصم والالتصاق به من خلال حالة صراعية ووفق حالة تفاعلية، اذ ايران فى واقع الحال منخرطة فى صراعات فى العراق وافغانستان بالقرب والتماس مع الاستراتيجية والوجود العسكرى الامريكى والاطلسى، وكذا الحال من ناحية الفهم العام فى تعاملها مع اسرائيل ،اذ هى منغمسة فى حالة صراعية من نمط اخر ولكن عن قرب - لا عن بعد - من خلال علاقاتها ودورها مع حزب الله وحماس والجهاد وغيرها ..الخ.
وتأتى أهمية طرح تلك التأملات فى قضايا الاستراتيجية الايرانية الان من دخول ايران منعطفات جديدة فى سياستها الخارجية فى المرحلة الراهنة، سواء بحكم حالة الحوار المتدحرجة بينها والولايات المتحدة، أو بحكم انها صارت فى وضع الاستعداد لمواجهة التطورات التى جرت فى اسرائيل منذ وصول اليمين الاشد تطرفا الى سدة الحكم، واعلاناته واستعداداته لقصف ايران .. وهو ما يطرح طبيعة التغييرات التى ستدخل على السلوك الاستراتيجى الايرانى، وما اذا كانت تغييرات "خارج السياق" الذى رأينا ايران عليه من قبل، أم انها تغييرات فى اللهجة والسلوك الاعلامى اكثر منها تغييرات فى الرؤى والسلك الاستراتيجى؟
إيران والعراق
إن أول ما يلفت النظر فى تأمل السلوك الاستراتيجى الايرانى فى الاقليم، هو هذه القدرة على التخطيط لاسراتيجيات متعددة وانفاذها جميعا بالتوازى والتزامن وفق نمط من التفاعل والارتباط بينها، من اجل تعزيز قدرات ايران كدولة اقليمية مسيطرة. فى النموذج العراقى، فان لايران مصلحة وهدفا ثابتا فى منع هذا البلد من التحول مرة اخرى الى دولة قوية تناطح ايران وتحد من قدرتها على مد نفوذها وتحقيق اهدافها فى الاقليم العربى، وذلك هو ابرز ما تعلمته ايران واستنبطته من الحرب العراقية الايرانية. ايران تحرص على ان لا يصل الى حكم العراق، اية قوى (الان او مستقبلا) ذات موقف معاد لها ،او ذات رؤى واستراتيجيات طموحة تعمل من اجل قوة العراق ،اى ان ايران تأخذ بالفكرة القائلة ان ضعف دولة الجوار انما يعنى قوتها هى، وان قوة دولة الجوار يحوله الى دولة تهدد ايران.
ورغم وضوح الفكرة لدى المتابعين ،الا ان الاستراتيجية الايرانية اتسمت بالغموض فيما يتعلق بطبيعة الموقف الايرانى من قوة الاحتلال الامريكية فى العراق ومن القوى العراقية التى تتعاون معها ايران فى داخل العراق،اذ لا نجد اية تصريحات سياسية واعلامية ايرانية على نفس درجة الوضوح كنظيرتها التى تتعلق بالقضية الفلسطينية. واذا كان مفهوما سبب إحجام إيران عن الاعلان عن القوى الداخلية العراقية التى تتعاون معها، باعتباره نمطا من التحوط يراعى ضرورة عدم الظهور بمظهر المتدخل فى الشأن العراقى بسبب الحساسيات التاريخية بين البلدين (حرب الخليج الاولى)، فان عدم وضوح الموقف الايرانى من الاحتلال الامريكى للعراق - على نحو رسمى فعال- هو امر تتعدد بشأنه الاحتمالات لدى المحللين والخبراء الاستراتيجيين. هناك رؤية بان ايران قد حافظت على مسافة من اعلان موقفها من الاحتلال مركزة على انتقاد النظام السابق والتشهير به فى وسائل اعلامها ودعاياتها، لايجاد مساحة تماس مع الاحتلال الامريكى (دون اعلان) من خلال التركيز على نفس العدو، وفى ذلك حققت ايران فتحا لمساحة سياسية واعلامية (دون اعلان ايضا) للقوى المتعاونة معها فى داخل العراق، على اعتبار ان أخطر ما يواجههما معا هى تلك القوى التى كانت تحكم العراق، ولذلك كان الخوف هو من انبعاث النظام السابق او من وصول قوى اخرى معادية لايران الى سدة الحكم، هو ما يواجه ويضعف القوى المتعاونة مع ايران.
وهناك رؤية، بان هذا الغموض انما يأتى نتيجة لتقديرات ايران لطبيعة القوى التى تتعاون معها داخل العراق، إذ هى قوى متعددة تختلف مع بعضها البعض ايضا، من حيث الرؤية للاحتلال وللحكم فى العراق ولطريقة التعاون او الصراع مع القوى والاطياف الاخرى فى العراق، ومن ثم فان اى وضوح "جماهيرى" للموقف الايرانى قد يتسبب فى مشكلات حقيقية بين هذه القوى وبعضها البعض، كما هو يضعف امكانيات استفادة ايران من "كل القوى" فى ذات الوقت، لتحقيق اهدافها الاستراتيجية.
إيران وأفغانستان
فى محاولة فك ألغاز الموقف الايرانى مما يجرى فى افغانستان، يمكن القول فى النظرة العامة، ان ايران عملت بنفس المنطق الذى جرى تطبيقه فى العراق، من زاوية ان اضعاف الاحتلال الامريكى فى افغانستان ،لا يضعف فقط احتمالات التحول الامريكى نحو ايران ضغطا وهجوما واستنزافا عبر الحدود ،بل هو كذلك يجبر الولايات المتحدة على طلب "النجدة" من ايران لمواجهة خسائرها او كوارثها، وذلك ما حدث بالفعل، اذ الاستنزاف الذى تعرضت له القوات الامريكية والاطلسية هو ما دفع الغرب الى التفاوض مع ايران على مجمل اوضاع افغانستان. لقد تحول الاحتلال الامريكى لمناطق على حدود ايران (العراق وافغانستان) من حالة ضارة بالامن القومى الاستراتيجى لايران ،الى حالة ضعف للمحتل ضمنت من خلالها ايران اضعاف خصمها الاستراتيجى على حدودها، ولتصبح ايران المحاصرة بالوجود العسكرى الامريكى والاطلسى من كل اتجاه ، هى من يدير الخصم الاستراتيجى بأزمته.
فى الرؤية الايرانية للاوضاع فى افغانستان ،كان الامر واضحا فى بعده التاريخى ،اذ كانت ايران منخرطة فى درجة من الصراع مع حركة طالبان، حتى وصل الامر حد حشد القوات الايرانية استعدادا لصراع عسكرى. وجاءت القوات الامريكية ثم الاطلسية لتحقق اطاحة طالبان من حكم افغانستان، بما اخلى موقعا "عدائيا" لايران على حدودها.
لكن الاشكالية التى واجهت المخطط الاستراتيجى الايرانى، فى التعامل مع كيفية انفاذ الاهداف والمصالح الايرانية فى افغانستان –وفقا لاستراتيجية الدولة الاقليمية الصاعدة- هى ان "عوامل ومقومات الوضع الداخلى فى افغانستان"، لم تتح وجودا او نفوذا ودورا ايرانيا على النحو الذى جرى فى العراق بعد الاحتلال، وهو ما تطلب من ايران حالة من الاقتراب الحذر والتدرجى ببطء من الوضع فى ايران، حتى يتحقق لها امران يمكناها من تطوير استراتيجيتها ،الاول هو ان تصل القوات الغربية الى حالة انهاك "مستعصى" على الحل - بأكثر مما حدث فى العراق –بما يجعلها تتحول لطلب العون الايرانى ،اذ ان ظهور اى موقف او دور ايرانى "مضاد" لعمل القوة الغربية فى افغانستان ،كان يهدد ايران بخسارة علاقاتها السياسية والديبلوماسية والاقتصادية مع دول الاطلسى الموجودة قواتها فى افغانستان، لا مع الولايات المتحدة فقط. وثانيها ان تحصل ايران على الوقت الكافى الذى يمكنها من تطوير علاقاتها مع قوى متعددة فى داخل افغانستان ، اذ كانت حركة طالبان، كحركة عقائدية معادى لايران، ذات نفوذ وسطوة مانعة بقوة للتيارات المرتبطة بايران.
والان، لقد تحقق الامران كلاهما - على ما يبدو من متابعة التطورات الحاصلة فى السياسات الغربية وفى الاوضاع داخل افغانستان ،الا ان تطورات اخرى خطرة جرت على الاوضاع من جانب اخر، بما جعل ايران تخرج عن استراتيجية الغموض الذى اعتمدتها منذ بداية الاحتلال ، حيث ان استدعاء الدور الايرانى لم يعد امرا ضاغطا على قوات الاطلسى بل هو اصبح مصلحة ايرانية مباشرة ايضا. لقد تحركت الحرب من افغانستان الى باكستان التى تعيش حالة تبلور وتنامى نفوذ حركة طالبانية اخرى، بما جعل ايران ترى ان الامور تتحول باتجاه التفكيك لافغانستان وباكستان معها، بما يحقق ما كان مشكوكا فى احتمالات حدوثه وهو ظهور دولة الباشتون فى تلك المساحة الممتدة بين الدولتين، والذى هو امر خطر على الاستقرار الداخلى ومصالح ايران فى الاقليم ،اذ ان دخول حالة التفكيك الى المنطقة لاشك يمكن ان يطول ايران فى نهاية المطاف. والامر الثانى الذى دفع ايران لانهاء غموض موقفها مما يجرى فى افغانستان وابراز رفضها لعودة طالبان للسلطة والدخول فى مفاوضات مع الغرب بهذا الشأن، هو دعوة اطراف غربية الى التفاوض مع حركة طالبان، بما اعتبرته ايران مقدمة لتقوية وتعزيز القوى المضادة لايران فى افغانستان، لذلك رفضته ايران علنا، والاهم ان ذلك كان دافعا لايران لاعلان مواقفا ذات طابع استراتيجى، اذ رفضت ايران الحوار الغربى مع طالبان من جهة، واندفعت الى حوار مع الولايات المتحدة، بل وحضرت مؤتمرا حول افغانستان تحت رعاية حلف الاطلسى!
إيران وإسرائيل
فى الصراع او المواجهة مع اسرائيل - عبر لبنان وفلسطين- يبدو الموقف الايرانى مختلفا ، اذ تعلن ايران صراحة عن دعمه لحزب الله فى لبنان ولفصائل المقاومة فى فلسطين على نحو لا يقبل الغموض ولا اللبس والى درجة الدعم العسكرى والمالى لا السياسى فقط. وفى محاولة فهم الاستراتيجية الايرانية تلك واسباب اختلافها عن مثيلتها بشأن العراق وافغانستان، فهناك رؤيتى ،باننا امام قضية تحقق قدرا واسعا من الشعبية فى العالم العربى، خاصة فى ظل تراجع النظم والحكومات العربية عن الاهتمام والدعم لقضية المقاومة، وهو وضع يمثل اساسا لافشال محاولات تعبئة الرأى العام نحو موقف مضاد لايران فى المنطقة، كما هو يضعف الانتقادات الموجهة لايران بسبب دورها فى العراق وافغانستان. وهناك رؤية بان ايران ترى ان هذا الدعم لفصائل المقاومة يحقق لها دورا ووجودا ووضعا هجوميا سواء فى العالم العربى وفى داخله او فى المواجهة الجارية مع الغرب، وهى رؤية تصل حد القول باننا امام استراتيجية ايرانية هجومية فى اتجاهين احدهما فى اتجاه اختراق الامن القومى العربى ارتباطا مع استمرار احتلال الجزر الاماراتية والتهديدات المتقطعة باحتلال البحرين ، والتحول الى دولة قائدة فى القضية المركزية للعالم العربى - اى فلسطين- وفق رؤية التحول الى دولة قائدة فى اهم مفاصل الصراعات الجارية فى المنطقة ، والاتجاه الثانى هو اتجاه هجومى نحو الغرب، عن طريق الضغط المكثف على اهم قاعدة غربية فى المنطقة وحصارها ودفع الغرب الى التفاوض حول الدور الايرانى فى الاقليم.
غير ان هناك رؤية ثالثة ،تقول ان هذا الموقف الايرانى يرابط بحالة الصراع مع اسرائيل فى حد ذاتها، كقوة اقليمية منافسة، وباعتبارها القاعدة الغربية التى طالما اجهضت كل محاولات التنمية فى محيطها، وانه لولا هذا الدور الايرانى الضاغط فى تلك المواقع المتقدمة من الصراع مع هذه الدولة، لكانت اسرائيل قد حولت كل جهدها وطاقتها للحرب على ايران، على اعتبار ان مهمة اسرائيل هى منع اية دولة عربية او اسلامية فى المنطقة من بناء نهضة علمية او تقنية او اقتصادية.
الأمر المهم
والمهم فى كل ما سبق ، هو اننا أمام "استراتيجية ايرانية عامة" تنتظم فيها استراتيجيات متعددة فى مناطق ذات ظروف وصراعات متنوعة، ووفق اهداف محددة تصب فى المصلحة الاستراتيجية لايران، وهو ما يشير الى وجود "عقول مخططة على مستوى من الكفاءة" غير مسبوق انتظامها فى هيكل قيادى للتخطيط والادارة الاستراتيجية للازمات، اذ ذلك هو ما مكن من ادارة كل هذه الملفات –وغيرها- من اجل تحقيق اهداف ايران العليا. ولذلك يبدو مهما الاشارة الى تصريح ناعم وخطير فى الان ذاته اطلقه الرئيس الايرانى مؤخرا اذ قال ان ايران مستعدة للمساهمة فى حل مشكلات العالم!.
........ بقلم ..طلعت رميح......................... جريدة الشرق القطريه ..............
فى قراءة السلوك الرسمى الايرانى خلال التعامل مع قضايا وملفات السياسة الخارجية، يلفت النظر ان ايران تتبع استراتيجية "الهجوم الدائم" حتى لو كانت بصدد "التراجع" او الالتفاف والمناورة، وانها فى ذلك تمزج بين المواقف "السياسية والاعلامية" والاستعدادات العسكرية من خلال الاستعراضات المكثفة لعناصر قوتها الردعية او الهجومية او من خلال الاعلان عن تطوير اسلحة هجومية جديدة ..الخ.
كما يلفت النظر ان الاستراتيجية الايرانية هى حالة مركبة فى التوجهات وادارة المعارك على الجبهات المتعددة. وفى ذلك نراها تأخذ فى لبنان موقفا واضحا وقاطعا فى اتجاه محدد (حالة حزب الله)، بينما تأخذ بمواقف أخرى واتجاهات تتسم بالغموض على نحو ما فى استراتيجيتها فى العراق وافغانستان، او على الاقل هى تحرص فى تلك الحالتين على عدم كشف نمط استراتيجيتها وطبيعة القوى الداخلية التى تتعامل معها (على خلاف حالة حزب الله) وكذا يلفت النظر، ان السياسة الايرانية تقوم فى الاساس على الاقتراب من الخصم والالتصاق به من خلال حالة صراعية ووفق حالة تفاعلية، اذ ايران فى واقع الحال منخرطة فى صراعات فى العراق وافغانستان بالقرب والتماس مع الاستراتيجية والوجود العسكرى الامريكى والاطلسى، وكذا الحال من ناحية الفهم العام فى تعاملها مع اسرائيل ،اذ هى منغمسة فى حالة صراعية من نمط اخر ولكن عن قرب - لا عن بعد - من خلال علاقاتها ودورها مع حزب الله وحماس والجهاد وغيرها ..الخ.
وتأتى أهمية طرح تلك التأملات فى قضايا الاستراتيجية الايرانية الان من دخول ايران منعطفات جديدة فى سياستها الخارجية فى المرحلة الراهنة، سواء بحكم حالة الحوار المتدحرجة بينها والولايات المتحدة، أو بحكم انها صارت فى وضع الاستعداد لمواجهة التطورات التى جرت فى اسرائيل منذ وصول اليمين الاشد تطرفا الى سدة الحكم، واعلاناته واستعداداته لقصف ايران .. وهو ما يطرح طبيعة التغييرات التى ستدخل على السلوك الاستراتيجى الايرانى، وما اذا كانت تغييرات "خارج السياق" الذى رأينا ايران عليه من قبل، أم انها تغييرات فى اللهجة والسلوك الاعلامى اكثر منها تغييرات فى الرؤى والسلك الاستراتيجى؟
إيران والعراق
إن أول ما يلفت النظر فى تأمل السلوك الاستراتيجى الايرانى فى الاقليم، هو هذه القدرة على التخطيط لاسراتيجيات متعددة وانفاذها جميعا بالتوازى والتزامن وفق نمط من التفاعل والارتباط بينها، من اجل تعزيز قدرات ايران كدولة اقليمية مسيطرة. فى النموذج العراقى، فان لايران مصلحة وهدفا ثابتا فى منع هذا البلد من التحول مرة اخرى الى دولة قوية تناطح ايران وتحد من قدرتها على مد نفوذها وتحقيق اهدافها فى الاقليم العربى، وذلك هو ابرز ما تعلمته ايران واستنبطته من الحرب العراقية الايرانية. ايران تحرص على ان لا يصل الى حكم العراق، اية قوى (الان او مستقبلا) ذات موقف معاد لها ،او ذات رؤى واستراتيجيات طموحة تعمل من اجل قوة العراق ،اى ان ايران تأخذ بالفكرة القائلة ان ضعف دولة الجوار انما يعنى قوتها هى، وان قوة دولة الجوار يحوله الى دولة تهدد ايران.
ورغم وضوح الفكرة لدى المتابعين ،الا ان الاستراتيجية الايرانية اتسمت بالغموض فيما يتعلق بطبيعة الموقف الايرانى من قوة الاحتلال الامريكية فى العراق ومن القوى العراقية التى تتعاون معها ايران فى داخل العراق،اذ لا نجد اية تصريحات سياسية واعلامية ايرانية على نفس درجة الوضوح كنظيرتها التى تتعلق بالقضية الفلسطينية. واذا كان مفهوما سبب إحجام إيران عن الاعلان عن القوى الداخلية العراقية التى تتعاون معها، باعتباره نمطا من التحوط يراعى ضرورة عدم الظهور بمظهر المتدخل فى الشأن العراقى بسبب الحساسيات التاريخية بين البلدين (حرب الخليج الاولى)، فان عدم وضوح الموقف الايرانى من الاحتلال الامريكى للعراق - على نحو رسمى فعال- هو امر تتعدد بشأنه الاحتمالات لدى المحللين والخبراء الاستراتيجيين. هناك رؤية بان ايران قد حافظت على مسافة من اعلان موقفها من الاحتلال مركزة على انتقاد النظام السابق والتشهير به فى وسائل اعلامها ودعاياتها، لايجاد مساحة تماس مع الاحتلال الامريكى (دون اعلان) من خلال التركيز على نفس العدو، وفى ذلك حققت ايران فتحا لمساحة سياسية واعلامية (دون اعلان ايضا) للقوى المتعاونة معها فى داخل العراق، على اعتبار ان أخطر ما يواجههما معا هى تلك القوى التى كانت تحكم العراق، ولذلك كان الخوف هو من انبعاث النظام السابق او من وصول قوى اخرى معادية لايران الى سدة الحكم، هو ما يواجه ويضعف القوى المتعاونة مع ايران.
وهناك رؤية، بان هذا الغموض انما يأتى نتيجة لتقديرات ايران لطبيعة القوى التى تتعاون معها داخل العراق، إذ هى قوى متعددة تختلف مع بعضها البعض ايضا، من حيث الرؤية للاحتلال وللحكم فى العراق ولطريقة التعاون او الصراع مع القوى والاطياف الاخرى فى العراق، ومن ثم فان اى وضوح "جماهيرى" للموقف الايرانى قد يتسبب فى مشكلات حقيقية بين هذه القوى وبعضها البعض، كما هو يضعف امكانيات استفادة ايران من "كل القوى" فى ذات الوقت، لتحقيق اهدافها الاستراتيجية.
إيران وأفغانستان
فى محاولة فك ألغاز الموقف الايرانى مما يجرى فى افغانستان، يمكن القول فى النظرة العامة، ان ايران عملت بنفس المنطق الذى جرى تطبيقه فى العراق، من زاوية ان اضعاف الاحتلال الامريكى فى افغانستان ،لا يضعف فقط احتمالات التحول الامريكى نحو ايران ضغطا وهجوما واستنزافا عبر الحدود ،بل هو كذلك يجبر الولايات المتحدة على طلب "النجدة" من ايران لمواجهة خسائرها او كوارثها، وذلك ما حدث بالفعل، اذ الاستنزاف الذى تعرضت له القوات الامريكية والاطلسية هو ما دفع الغرب الى التفاوض مع ايران على مجمل اوضاع افغانستان. لقد تحول الاحتلال الامريكى لمناطق على حدود ايران (العراق وافغانستان) من حالة ضارة بالامن القومى الاستراتيجى لايران ،الى حالة ضعف للمحتل ضمنت من خلالها ايران اضعاف خصمها الاستراتيجى على حدودها، ولتصبح ايران المحاصرة بالوجود العسكرى الامريكى والاطلسى من كل اتجاه ، هى من يدير الخصم الاستراتيجى بأزمته.
فى الرؤية الايرانية للاوضاع فى افغانستان ،كان الامر واضحا فى بعده التاريخى ،اذ كانت ايران منخرطة فى درجة من الصراع مع حركة طالبان، حتى وصل الامر حد حشد القوات الايرانية استعدادا لصراع عسكرى. وجاءت القوات الامريكية ثم الاطلسية لتحقق اطاحة طالبان من حكم افغانستان، بما اخلى موقعا "عدائيا" لايران على حدودها.
لكن الاشكالية التى واجهت المخطط الاستراتيجى الايرانى، فى التعامل مع كيفية انفاذ الاهداف والمصالح الايرانية فى افغانستان –وفقا لاستراتيجية الدولة الاقليمية الصاعدة- هى ان "عوامل ومقومات الوضع الداخلى فى افغانستان"، لم تتح وجودا او نفوذا ودورا ايرانيا على النحو الذى جرى فى العراق بعد الاحتلال، وهو ما تطلب من ايران حالة من الاقتراب الحذر والتدرجى ببطء من الوضع فى ايران، حتى يتحقق لها امران يمكناها من تطوير استراتيجيتها ،الاول هو ان تصل القوات الغربية الى حالة انهاك "مستعصى" على الحل - بأكثر مما حدث فى العراق –بما يجعلها تتحول لطلب العون الايرانى ،اذ ان ظهور اى موقف او دور ايرانى "مضاد" لعمل القوة الغربية فى افغانستان ،كان يهدد ايران بخسارة علاقاتها السياسية والديبلوماسية والاقتصادية مع دول الاطلسى الموجودة قواتها فى افغانستان، لا مع الولايات المتحدة فقط. وثانيها ان تحصل ايران على الوقت الكافى الذى يمكنها من تطوير علاقاتها مع قوى متعددة فى داخل افغانستان ، اذ كانت حركة طالبان، كحركة عقائدية معادى لايران، ذات نفوذ وسطوة مانعة بقوة للتيارات المرتبطة بايران.
والان، لقد تحقق الامران كلاهما - على ما يبدو من متابعة التطورات الحاصلة فى السياسات الغربية وفى الاوضاع داخل افغانستان ،الا ان تطورات اخرى خطرة جرت على الاوضاع من جانب اخر، بما جعل ايران تخرج عن استراتيجية الغموض الذى اعتمدتها منذ بداية الاحتلال ، حيث ان استدعاء الدور الايرانى لم يعد امرا ضاغطا على قوات الاطلسى بل هو اصبح مصلحة ايرانية مباشرة ايضا. لقد تحركت الحرب من افغانستان الى باكستان التى تعيش حالة تبلور وتنامى نفوذ حركة طالبانية اخرى، بما جعل ايران ترى ان الامور تتحول باتجاه التفكيك لافغانستان وباكستان معها، بما يحقق ما كان مشكوكا فى احتمالات حدوثه وهو ظهور دولة الباشتون فى تلك المساحة الممتدة بين الدولتين، والذى هو امر خطر على الاستقرار الداخلى ومصالح ايران فى الاقليم ،اذ ان دخول حالة التفكيك الى المنطقة لاشك يمكن ان يطول ايران فى نهاية المطاف. والامر الثانى الذى دفع ايران لانهاء غموض موقفها مما يجرى فى افغانستان وابراز رفضها لعودة طالبان للسلطة والدخول فى مفاوضات مع الغرب بهذا الشأن، هو دعوة اطراف غربية الى التفاوض مع حركة طالبان، بما اعتبرته ايران مقدمة لتقوية وتعزيز القوى المضادة لايران فى افغانستان، لذلك رفضته ايران علنا، والاهم ان ذلك كان دافعا لايران لاعلان مواقفا ذات طابع استراتيجى، اذ رفضت ايران الحوار الغربى مع طالبان من جهة، واندفعت الى حوار مع الولايات المتحدة، بل وحضرت مؤتمرا حول افغانستان تحت رعاية حلف الاطلسى!
إيران وإسرائيل
فى الصراع او المواجهة مع اسرائيل - عبر لبنان وفلسطين- يبدو الموقف الايرانى مختلفا ، اذ تعلن ايران صراحة عن دعمه لحزب الله فى لبنان ولفصائل المقاومة فى فلسطين على نحو لا يقبل الغموض ولا اللبس والى درجة الدعم العسكرى والمالى لا السياسى فقط. وفى محاولة فهم الاستراتيجية الايرانية تلك واسباب اختلافها عن مثيلتها بشأن العراق وافغانستان، فهناك رؤيتى ،باننا امام قضية تحقق قدرا واسعا من الشعبية فى العالم العربى، خاصة فى ظل تراجع النظم والحكومات العربية عن الاهتمام والدعم لقضية المقاومة، وهو وضع يمثل اساسا لافشال محاولات تعبئة الرأى العام نحو موقف مضاد لايران فى المنطقة، كما هو يضعف الانتقادات الموجهة لايران بسبب دورها فى العراق وافغانستان. وهناك رؤية بان ايران ترى ان هذا الدعم لفصائل المقاومة يحقق لها دورا ووجودا ووضعا هجوميا سواء فى العالم العربى وفى داخله او فى المواجهة الجارية مع الغرب، وهى رؤية تصل حد القول باننا امام استراتيجية ايرانية هجومية فى اتجاهين احدهما فى اتجاه اختراق الامن القومى العربى ارتباطا مع استمرار احتلال الجزر الاماراتية والتهديدات المتقطعة باحتلال البحرين ، والتحول الى دولة قائدة فى القضية المركزية للعالم العربى - اى فلسطين- وفق رؤية التحول الى دولة قائدة فى اهم مفاصل الصراعات الجارية فى المنطقة ، والاتجاه الثانى هو اتجاه هجومى نحو الغرب، عن طريق الضغط المكثف على اهم قاعدة غربية فى المنطقة وحصارها ودفع الغرب الى التفاوض حول الدور الايرانى فى الاقليم.
غير ان هناك رؤية ثالثة ،تقول ان هذا الموقف الايرانى يرابط بحالة الصراع مع اسرائيل فى حد ذاتها، كقوة اقليمية منافسة، وباعتبارها القاعدة الغربية التى طالما اجهضت كل محاولات التنمية فى محيطها، وانه لولا هذا الدور الايرانى الضاغط فى تلك المواقع المتقدمة من الصراع مع هذه الدولة، لكانت اسرائيل قد حولت كل جهدها وطاقتها للحرب على ايران، على اعتبار ان مهمة اسرائيل هى منع اية دولة عربية او اسلامية فى المنطقة من بناء نهضة علمية او تقنية او اقتصادية.
الأمر المهم
والمهم فى كل ما سبق ، هو اننا أمام "استراتيجية ايرانية عامة" تنتظم فيها استراتيجيات متعددة فى مناطق ذات ظروف وصراعات متنوعة، ووفق اهداف محددة تصب فى المصلحة الاستراتيجية لايران، وهو ما يشير الى وجود "عقول مخططة على مستوى من الكفاءة" غير مسبوق انتظامها فى هيكل قيادى للتخطيط والادارة الاستراتيجية للازمات، اذ ذلك هو ما مكن من ادارة كل هذه الملفات –وغيرها- من اجل تحقيق اهداف ايران العليا. ولذلك يبدو مهما الاشارة الى تصريح ناعم وخطير فى الان ذاته اطلقه الرئيس الايرانى مؤخرا اذ قال ان ايران مستعدة للمساهمة فى حل مشكلات العالم!.
........ بقلم ..طلعت رميح......................... جريدة الشرق القطريه ..............