مع طول أمد الحرب السودانية المندلعة بين رئيس مجلس السيادة الانتقالي وقائد قوات الجيش السوداني الفريق الأول عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، اتسعت دائرة القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في الحرب، لتتحول الساحة السودانية إلى ساحة استقطاب وتجاذب وتصفية حسابات دولية على وقع عدة أزمات وحروب، أبرزها الحرب الأوكرانية. فكان من اللافت في الآونة الأخيرة، تداول عدة معلومات حول مشاركة قوات أوكرانية في الحرب السودانية إلى جانب قوات الجيش السوداني، وهو ما يدفع للتساؤل: ما حدود ودوافع الانخراط الأوكراني في الحرب السودانية؟. انطلاقًا مما سبق، تهدف المقالة إلى تناول المؤشرات الدالة على الانخراط الأوكراني في الحرب السودانية، بالإضافة إلى مناقشة عدة دوافع قد تقف وراء اتخاذ كييف قرارًا بالانخراط في الحرب السودانية، إلى جانب قوات الجيش السوداني، وذلك على النحو التالي:
أولًا: مؤشرات حول الانخراط الأوكراني في الحرب السودانية
تتعدد المؤشرات والشواهد الدالة على التعاون العسكري الأوكراني السوداني المتنامي خلال الفترة الأخيرة على وقع الحربين السودانية والأوكرانية، وهو ما يُمكن تناوله على النحو التالي:1– صحيفة “وول ستريت جورنال” تكشف عن الدور الأوكراني في الحرب السودانية: حيث نشرت الصحيفة تقريرًا لها أكد أن قوات أوكرانية خاصة تقوم بتدريب عناصر في الجيش السوداني على بعض التكتيكات القتالية التي مكنتهم من صد تقدم القوات الروسية في ساحة الحرب الأوكرانية، لا سيما استخدام الطائرات غير المأهولة؛ حيث طلبت القوات السودانية من كييف بعض الطائرات غير المأهولة المتفجرة التي تنفجر عند إصابة الهدف، مدتها إياها أوكرانيا، إلى جانب تزويدهم بطائرات غير مأهولة تركية متطورة من طراز “بيرقدار تي بي 2” قادرة على شن ضربات جوية دقيقة.
كما أوضحت الصحيفة أن عدم تمكن طرفي الحرب من تنفيذ أية هجمات ليلية واسعة، منح القوات الأوكرانية المجهزة بنظارات رؤية ليلية وطائرات مسيرة، نقطة تفوق في ساحة المعركة السودانية؛ حيث كانت القوات الأوكرانية تتحرك في حوالي الساعة الثامنة مساء، عبر مجموعات قتالية مكونة من 6 أشخاص، لتنفذ هجومها على قوات الدعم السريع التي اعتادت على النوم في العراء على طول خط الجبهة، ثم بدأوا في إخفاء مواقعهم مع تعدد الهجمات الليلية، ثم تنسحب القوات الأوكرانية وتعود إلى قاعدتها بحلول الصباح، في محاولة إخفاء وجودها وانخراطها في الحرب.
كما تضمنت مهام القوات الأوكرانية في السودان قطع إمدادات قوات الدعم السريع عن العاصمة الخرطوم، عبر مهاجمة الطرق الرابطة بينها وبين المناطق الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع في غرب السودان، بواسطة طائرات غير مأهولة، إلى جانب زرع الألغام على طول طرق الإمداد.
وبخلاف ذلك، كشفت الصحيفة أن أولى مهام القوات الأوكرانية في الحرب السودانية تمثلت في مساعدة قائد قوات الجيش السوداني الفريق الأول البرهان في الخروج من الخرطوم عقب محاصرته من قوات الدعم السريع، ونقله إلى مدينة بورتسودان عاصمة ولاية البحر الأحمر التي تحولت كمصدر بديل للإدارة والحكم للبرهان. وعقب أسابيع من تنفيذ هذه المهمة وتحديدًا في سبتمبر 2023، التقى البرهان بالرئيس زيلينسكي في مطار «شانون» الآيرلندي، مناقشًا خلاله التحديات الأمنية المشتركة، لا سيما أنشطة الجماعات المسلحة غير المشروعة التي تمولها روسيا، كما يبدو أن اللقاء جاء لاستكمال المباحثات وتعزيز التنسيق الثنائي بين الجانبين لمواجهة الأنشطة الروسية في السودان.
2- دعم عسكري أوكراني فني لسلاح الجو السوداني: فلقد زار وفد عسكري أوكراني في 19 أغسطس 2023، قاعدة وادي سيدنا العسكرية في مدينة أم درمان لإجراء أعمال صيانة ضرورية لمقاتلات سلاح الجو السوداني، وهو ما يكشف عن دعم أوكراني عسكري لسلاح الجو السوداني، والعمل على رفع قدراته في ظل الحرب الدائرة مع قوات الدعم السريع، باعتباره السلاح الأبرز لقوات الجيش في الحرب، ناهيك عن أن قوات الدعم السريع لا تمتلك أي طائرات وإنما أسلحة ودبابات.
3- انخراط مسيرات غير مأهولة أوكرانية في الحرب السودانية: حيث أشارت تقارير أمريكية في 20 سبتمبر 2023، إلى احتمالية وقوف طائرات غير مأهولة أوكرانية وراء سلسلة من الهجمات التي استهدفت قوات الدعم السريع، في حين نقلت شبكة “سي إن إن” الأمريكية تصريحات لقادة عسكريين أوكرانيين تُفيد بأن عملية الاستهداف تمثل “عملًا غير سوداني”، فضلًا عن تداول القناة للقطات فيديو لهجمات مفاجئة لطائرات غير مأهولة على مواقع لقوات الدعم السريع في أم درمان وما حولها، اعتمدت على تكتيك قتالي غير معهود في السودان وأفريقيا، ومماثل لتكتيك الأوكراني المتعارف عليه مع موسكو، بما يكشف عن الدعم العسكري الأوكراني للجيش السوداني.
ثانيًا: دوافع الانخراط الأوكراني في الحرب السودانية
على الرغم من أن لجوء الفريق الأول البرهان إلى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، كان لجوءًا غير متوقع لطلب الدعم العسكري في الحرب السودانية في خضم الاحتياج الأوكراني للدعم العسكري، لكن يبدو أن لدى الأخير العديد من الأسباب للاستجابة إلى طلب البرهان، أولها: رد الجميل السوداني، حيث أشارت صحيفة “وول ستريت جورنال” في تقريرها أنه عقب اندلاع الحرب الأوكرانية في فبراير 2022، قدم البرهان دعمًا عسكريًا لكييف، وهو ما دفع الرئيس زيلينسكي إلى الاستجابة لنداء البرهان عقب أسابيع قليلة من مكالمة هاتفية بينه وبين الأخير، وذلك عبر إرسال قوات الكوماندوز الأوكرانية إلى السودان في منتصف أغسطس 2023، لدعم قوات الجيش السوداني في وقف تقدم قوات الدعم السريع في الخرطوم، والتي ضمت نحو 100 جندي، معظمهم من وحدة “تيمور” التابعة للاستخبارات العسكرية الأوكرانية، كما زودت القوات الأوكرانية قوات الجيش السوداني ببنادق «إيه كيه إم» المزودة بكواتم الصوت الجديدة.أما بالنسبة لثاني الأسباب التي تقف وراء مشاركة القوات الأوكرانية في الحرب السودانية بجانب قوات الجيش السوداني، فتتمثل في غناء الساحة السودانية بمصدرين جاذبين للانخراط الأوكراني هما الأسلحة والذهب. فلقد تحولت الساحة السودانية على مدار عقود خلال عهد الرئيس المعزول عمر البشير إلى سوق متنامٍ من الأسلحة مع النشاط الواسع للحركات المسلحة، وتعدد مناطق الصراع الداخلي، خاصة المنطقة الحدودية بين السودان وإثيوبيا وإريتريا التي تُعد مركزًا تاريخيًا رئيسيًا لتجارة السلاح، لا سيما منطقة “سهل البطانة”، الممتدة من شرق السودان حتى العاصمة الخرطوم، وتمر بولايات كسلا والقضارف والجزيرة ونهر النيل، وتُعد ممرًا حيويًا لتهريب الأسلحة.
ففي ديسمبر 2022 -أي قبل اندلاع الحرب السودانية- أصدرت لجنة جمع السلاح -وهي جهة حكومية أُنشئت عام 2017- تقريرًا أكد أن هناك “خمسة ملايين قطعة سلاح في أيدي المواطنين، غير الأسلحة لدى الحركات المتمردة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق”. ومع اندلاع الحرب السودانية في أبريل 2023، إلى جانب ما أطلق من دعوات من قبل طرفي الحرب لحمل السلاح وانخراط المقاومة الشعبية في الحرب، ومن المتوقع رواج سوق السلاح السوداني الذي ارتفع سقف الطلب على أنماط منه لم تكن محل استخدام مسبق؛ فبعدما كان التسليح مقتصرًا على المسدس، زاد الطلب على بنادق القنص، سواء الأمريكية أو الإسرائيلية أو الإيرانية، وكذلك الرشاشات.
ومن ثَمّ بات سوق السلاح السوداني محل اهتمام أوكراني، في ظل افتقار كييف إلى دعم عسكري غربي واحتياجها الشديد إلى كافة أنماط الأسلحة، مما دفع كييف للبحث عن مناطق الصراع التي تتنامى فيها تجارة السلاح وبكافة أنماطه، فما كان هناك خيار أمثل من السوق السوداني ومن حليفه البرهان، وهو ما عبر عنه قائد الاستخبارات العسكرية الأوكرانية كيريل بودانوف، قائلًا: “أخرجنا كثيرًا من الأسلحة من السودان في وقت واحد، وقامت دول مختلفة بتسديد ثمنها.. وكانت لديهم مجموعة كبيرة من الأسلحة، وكان يمكنك العثور على كل شيء هناك، من الأسلحة الصينية إلى الأسلحة الأمريكية”.
أما بالنسبة للعلاقة الرابطة بين الذهب السوداني والانخراط الأوكراني في الحرب السودانية، فإن السيطرة على الذهب السوداني، يعني الحصول على مصدر تمويل مهم ورئيسي لأنشطة القوى الدولية المسيطرة عليه أو الحليفة للقوى الوطنية المسيطرة عليه، كما أن طرف الحرب الذي يملك السيطرة على المعدن الأصفر قد يكون الأقدر على قلب ميزان المعركة لصالحه، ولصالح القوى الداعمة له إقليميًا ودوليًا؛ حيث تنتج السودان نحو أكثر من 100 طن سنويًا من الذهب، كما تُعد الخرطوم من أهم منتجي الذهب في أفريقيا، وتحتل المرتبة الـ13 عالميًا في إنتاج الذهب، بالإضافة إلى أن لديها احتياطيات من الذهب تصل إلى 1550 طنًا.
وعلى الرغم من أن عائلة (حميدتي)، تُدير جزءًا كبيرًا من مناجم الذهب في السودان، حيث تُسيطر على جبل عامر الذي يُعد ثالث أكبر منتج للمعدن الأصفر في أفريقيًا، إلى جانب سيطرتها على ثلاثة مناجم أخر على الأقل في جنوب كردفان وغيرها، إلا أن الفريق الأول البرهان كرئيس لمجلس السيادة الانتقالي يتقاسم مع حميدتي السيطرة على مناجم الذهب في البلاد؛ حيث تُوزع مناجم الذهب في صحاري وجبال شرق نهر النيل وفي محاذاة البحر الأحمر وأعلى سلسلة جبال البحر الأحمر وأيضًا في مناطق جبال النوبة ومنطقة كردفان ودارفور.
فمن الجدير بالذكر، أن أكثر من 89% من الذهب يُصدر عبر القنوات غير الرسمية، كما سبق وأن سجل البنك المركزي قبل اندلاع الحرب السودانية نحو 30% فقط من الذهب المستخرج في البلاد رسميًا، بينما ظل حوالي 4 مليارات دولار من عائدات الذهب غير مدرج في السجلات سنويًا، يتم تقاسمهم بين الحكومة السودانية بقيادة البرهان وحميدتي عبر نحو خمس شركات أو أكثر تعمل في مجال التنقيب عن الذهب، تتبع الصين وإيطاليا وروسيا وغيرهم من الدول. ومن اللافت في الشريك الروسي أنه يعمل بالتوازي مع طرفي الحرب؛ حيث أن هناك شركات روسية تابعة للحكومة السودانية وأخرى تابعة لمجموعة فاغنر، حيث تُعد الشراكة الروسية عبر مجموعة فاغنر من أكثر الشراكات المُثيرة للجدل في السودان؛ نظرًا لتعاملات شركات التعدين المملوكة لقوات الدعم السريع، مع شركة فاغنر الروسية، وما تقدمه الأخيرة من دعم وتدريب لقوات الدعم السريع قبل اندلاع الحرب السودانية، وعقب نشوبها، نظير مد فاغنر بأطنان من الذهب تمول حرب موسكو في أوكرانيا.
فلقد قامت مجموعة فاغنر عقب اندلاع الحرب السودانية بنقل ترسانة من الأسلحة، شملت الصواريخ المضادة للطائرات المحمولة على الكتف، من أفريقيا الوسطى التي تحتضن قاعدة لمجموعة فاغنر، إلى السودان، إلى جانب قيامها بتجنيد عدة عناصر من أفريقيا الوسطى للقتال في السودان، وهو ما لعب دورًا مهمًا فيما حققته قوات الدعم السريع من تقدم ميداني. ومن ثَمّ، فإن الشراكة الاستثمارية في الثروات المعدنية وعلى رأسها الذهب بين مجموعة فاغنر وقوات الدعم السريع، قد تكون دافعًا للانخراط الأوكراني في الحرب السودانية كسبيل للبحث عن مدر للتمويل والاستثمارات لدعم اقتصاد الحرب الأوكراني، إلى جانب كونها سوق سلاح متنامي.
ومن ثَمّ باتت الساحة السودانية إحدى مناطق الاستقطاب والتنافس الأوكراني الروسي، التي تعكس بشكل ضمني عن بُعد جديد للاستراتيجية الأوكرانية للرد على العملية العسكرية الروسية الخاصة في كييف، بخلاف ساحة المعركة، تتمثل في منافسة كييف لموسكو في مناطق نفوذها التي تُعد بيئة مثالية للتمويل ولتوفير السلاح، وهو ما ينعكس كذلك -إلى جانب الدعم العسكري الأوكراني- في إرسال كييف لشحنة قمح إلى بورتسودان في فبراير 2024، ضمن مبادرة “الحبوب من أوكرانيا” الإنسانية التي أطلقها الرئيس زيلينسكي، والتي تأتي في خضم وضع إنساني كارثي على وقع الحرب السودانية وموجة الجفاف التي تضرب البلاد، والتي يهدف الرئيس زيلنيسكي من خلالها نحو تضييق الخناق على موسكو والبحث عن ورقة مساومة يُمكن مقايضة موسكو عليها، إلى جانب رفع تكلفة الحرب على موسكو، وهو ما يُستدل عليه بأسر القوات الأوكرانية في السودان لعنصر من قوات فاغنر خلال المعارك.
علاوة على تصريح قائد الاستخبارات الأوكرانية بودانوف، تعليقًا على إرسال قوات أوكرانية إلى السودان، قائلًا:” إن إرسال القوات الأوكرانية إلى الخارج كان من باب المصلحة”، مُضيفًا: “لدى روسيا، وحدات في أجزاء مختلفة من العالم ونُحاول أحيانًا ضربهم هناك”. كما صرح أحد قادة الألوية الأوكرانية في السودان، قائلًا: “من المستحيل هزيمة روسيا بمجرّد القتال على قطعةٍ صغيرة من الأرض، مثل خط المواجهة في أوكرانيا”، وهو ما يكشف في مجمله عن سبب ثالث لقبول الرئيس زيلنيسكي بالانخراط في الحرب السودانية إلى جانب قوات الجيش السوداني، والذي يأتي بالتوزاي مع المساعي والدعوات الأوكرانية الحثيثة للدول الغربية لتحويل أصول روسية مجمدة تبلغ قيمتها 300 مليار يورو، إلى كييف للمساعدة في إعمار البلاد، كإحدى أدوات الضغط الأوكراني والغربي على موسكو.
نهاية القول، يبدو أن ثمة تفاهمات مشتركة بين الرئيس الأوكراني ورئيس مجلس السيادة الانتقالي، تدور حول سُبل الحد من النفوذ الروسي المتنامي في السودان عبر مجموعة فاغنر الروسية، كمصلحة مشتركة بين الجانبين، ناهيك عن بحث كييف عن مصادر تسليح وتمويل لحربها، فلم تجد خيارًا أمثل من الساحة السودانية للانخراط ومنافسة النفوذ الروسي بها؛ وذلك انطلاقًا من دعم الأخيرة لقوات الدعم السريع في حربها مع الجيش السوداني، إلى جانب كون فاغنر إحدى الأذرع الرئيسية لموسكو في حربها على كييف، ناهيك عن كونها مصدر تمويل رئيسي لموسكو في حربها على أوكرانيا، وهو ما يكشف عن اتجاه كييف لنقل ساحة الحرب إلى خارج الحدود الأوكرانية لتضم الساحة السودانية، بما يُشير إلى احتمالية تنامي الدعم العسكري الأوكراني في السودان خلال الفترة القادمة، خاصة أن بعضهم يرجع تقدم قوات الجيش السوداني في ساحة الحرب -في جانب منه- إلى ما قدمته القوات الأوكرانية من دعم، والتي قد تُشكل حافزًا لكييف لمد نشاطها إلى ساحات جديدة تمثل مناطق نفوذ أخرى لموسكو في الفترة القادمة.