ملاحظات على حفل افتتاح المتحف المصري الكبير
حين تحب مصر حباحقيقيا، لا تمر على الأشياء مرور الكرام، بل تراها بعين العاشق الذى يخاف على معشوقته من كل تفصيلة ناقصة، ومن كل لمسة لا تليق بها.. لهذا حين جلست أمام الشاشة أتابع هذا الحدث العظيم الذى انتظرناه لسنوات، كنت أرى بعين المحب الذى يتنفس تاريخ بلده، وبقلب الفنان الذى يريد أن يرى مصر في أبهى صورة ممكنة.
كنا أمام حفل يُفترض أن يكتب صفحة جديدة في الذاكرة البصرية لمصر، حفل يليق بعظمة المتحف المصري الكبير، بوصفه بوابة الحضارة المصرية إلى العالم. لكن للأسف، ما رأيته كان مزيجا من الجمال والإخفاق، من الإبهار والارتباك، من الفكرة الطموحة والتنفيذ المرتبك.
الإخراج والمونتاج:
الإخراج كان نقطة الضعف الكبرى.. المخرج بدا وكأنه فقد السيطرة على إيقاع الحدث، الكادرات بلا روح، والمونتاج مفكك يفتقر إلى أبسط معايير التتابع البصري. كادرات متقطعة، انتقالات عبثية، ولقطات غير مبررة. المتحدث يظهر دون لقطة قريبة تُعرّف الجمهور به، والمشاهد تتبدل بلا منطق وكأن المخرج لا يسمع ما يُقال ولا يرى ما يُعرض.
كأن الإخراج كان يقف في الجهة المعاكسة من الفكرة، يهرب من اللحظة بدل أن يحتضنها، ويشتت المشاهد بدل أن يقوده. أخطاء لا يقع فيها طالب في أول دروس الإخراج، فما بالك بحدث يشاهده الملايين.
التصوير:
وهنا النقطة المضيئة وسط العتمة. الكاميرات كانت في قمة التوهج، والإضاءة ساحرة خلقت حالة فنية مذهلة خاصة في مشاهد البرونز والـvisual effects. الصورة نفسها كانت تحفة تشكيلية متقنة، ألوانها غنية وعمقها مبهر، وهذا هو الجانب الذى أنقذ الحفل من الانهيار البصري الكامل.
الرقصات والاستعراضات:
لم ترق أبداً لمستوى الحدث. الفكرة في حد ذاتها طيبة، لكن التنفيذ باهت، وزوايا التصوير خذلت الراقصين بالكامل. الرقصات بدت كأنها تنتمي لمهرجان شعبي أكثر منها لحفل يُبث للعالم من قلب المتحف المصري الكبير. غابت الدراما الحركية، وغابت الفلسفة التي تربط الجسد بالموسيقى وبروح المكان.
هندسة الصوت:
كارثة بكل المقاييس. صوت باهت، جاف، ضعيف، وكأنك تشاهد بروفا غير مكتملة. أوركسترا ضخمة من ١٢٠ عازف تضيع نغمتهم في الهواء بلا أي توازن أو هارموني. لم يكن هناك توزيع صوتي يُشعر المشاهد بعظمة الموسيقى، ولا مزيج يُبرز الآلات في تآلفها. عيب فادح أن يكون الصوت بهذا الضعف في حدث كهذا. الصوت كان الغائب الأكبر عن ليلة كان يجب أن تكون مسموعة قبل أن تكون مرئية.
الفكرة العامة:
بدأ الحفل من فكرة نبيلة عن "السلام العالمي"، وتهيأ لنا أننا أمام عمل يحمل رسالة إنسانية سامية، لكن فجأة ضاع الاتجاه، وتفككت المشاهد، وتعددت الرسائل حتى فقد الحدث بوصلته. لا تسلسل، لا بناء درامي، ولا رابط موضوعي يجمع ما نراه. كانت هناك نوايا طيبة لكنها لم تجد من يصوغها في إطار متماسك.
الموسيقى:
وهنا أصل الوجع. هشام نزيه اسم كبير نحترمه ونفتخر به، وصاحب فكر موسيقي عالمي لا يختلف عليه اثنان، لكن ما سمعناه الليلة لم يكن على قدر التوقع. الموسيقى افتقدت الروح والهوية، لم تحمل التيمة القوية أو البصمة العاطفية التى تجعلها خالدة. افتقدت ذلك الزخم الذى جعلنا نحلق مع ملحمته في موكب المومياوات الملكية، حيث كانت الموسيقى وقتها تسكن الروح وتبقى في الذاكرة.
أما اليوم، فالمقطوعات جاءت متقطعة، بلا نسيج واحد يجمعها، والأصوات السوبرانو المتكررة غطت على أي دفء أو تناغم موسيقي. لم تكن هناك جملة تبقى، ولا لحظة ترتعش لها الروح. كل شيء بدا وكأنه أُنجز على عَجَل، بلا ذلك الصبر الذى يصنع الخلود.
كنت أتمنى أن يكون هذا الحفل "علامة في التاريخ"، عملاً نتحدث عنه لعقود، لكنه خرج مشتتاً، تائهاً بين الفكرة والتنفيذ. لا أقول ذلك قسوةً، بل حباً في مصر التي تستحق أن تُقدَّم للعالم كما هي: عظيمة، دقيقة، أنيقة في كل تفصيلة.
هشام نزيه سيظل مبدعاً، لكن عليه أن يعيد ترتيب أوراقه، وأن يتأمل تجربته هذه بصدق الفنان، لأن التاريخ لا يرحم، والجمهور لا ينسى، ومصر لا ترضى بغير الكمال.