ماذا وراء إنشاء قاعدة فرنسية عسكرية فى أبو ظبى؟
مقدمة
فى الخامس والعشرين من مايو 2009 افتتح الرئيس الفرنسى نيكولا ساركوزى قاعدة عسكرية لفرنسا فى أبو ظبى وتم رفع العَلمين الفرنسى والاماراتى خلال المراسم التى حضرها نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية الشيخ سيف بن زايد آل نهيان. فى الوقت نفسه حرص الرئيس ساركوزى على التأكيد بأن إشاء القاعدة لا يستهدف اى طرف ثالث، فى إشارة غير مباشرة إلى إيران، فى الوقت الذى ركزت فيه تحليلات عديدة على ان وجود القاعدة الفرنسية يؤثر على منظومة التوازن العسكرى فى منطقة الخليج، ويضفى قدرا من الحماية لدولة الامارات العربية تجاه اى تهديدات مباشرة او غير مباشرة قد تتعرض لها.
تستوعب القاعدة 500 من العسكريين الفرنسيين فى 3 مواقع: قاعدة بحرية فى ميناء أبو ظبى وقاعدة جوية ستكون مقرا لعدد محدود من الطائرات إضافة الى معسكر للتدريب على القتال فى المدن وفى المناطق الصحراوية. ويعتبر إنشاء هذه القاعدة الفرنسية فى مياه الخليج تحولا نوعيا فى منظومة الفكر الاستراتيجى الفرنسى بجوانبه الدفاعية والسياسية والاقتصادية والتجارية. إذ أن هذه القاعدة هى الأولى من نوعها التى تنشئها فرنسا خارج مناطق المستعمرات فى إفريقيا جنوب الصحراء والجُزُر الفرنسية فى منطقتى المحيط الهندى والمحيط الاطلنطى.
ومن ثم يمكن اعتبار القرار الفرنسى بإنشاء هذه القاعدة فى مياه الخليج على مقربة من مضيق هرمز الذى تجتازه 40% من الملاحة البترولية العالمية خطوة جوهرية نحو إعادة هيكلة الدور الدولى لفرنسا فى حقبة العولمة، وهى حقبة مغايرة تماما لحقبة الستينيات والحرب الباردة، وهى الحقبة التى شهدت انتشار القواعد الفرنسية فى إفريقيا جنوب الصحراء. إذ كان دوما رؤساء فرنسا ودوائرها الإستراتيجية العليا يعتبرون إفريقيا بمثابة العمق الاستراتيجى لبلدهم والذى يضمن لها نفوذا دوليا فى مواجهة محور واشنطن ـ لندن0 ولذلك حرصت فرنسا إبان حقبة الحرب الباردة على الانتشار العسكرى فى إفريقيا كركيزة لبناء النفوذ الدولى فى مواجهة الولايات المتحدة وبريطانيا.
تراجع افريقيا وعلو مكانة الخليج
بافتتاح القاعدة العسكرية الفرنسية فى أبو ظبى يمكن القول أن اولوية أفريقيا فى السياسة الدفاعية والخارجية الفرنسية قد بدأت تتراجع وذلك لصالح منطقة الخليج. وهو تطور يعكس بلا شك إعادة تعريف وإعادة هيكلة للدور الدولى لفرنسا بين عصرين، فأولويات الدور الدولى لفرنسا فى حقبة العولمة تختلف بالضرورة عن أولويات الدور الدولى لفرنسا فى حقبة الحرب الباردة.
وهو ما أشار إليه صراحة "الكتاب الأبيض" الصادر عن وزارة الدفاع الفرنسية فى عام 2008 والذى يرسم السياسة الدفاعية لفرنسا للخمسة عشرة سنة القادمة إذ يشير الكتاب الأبيض إلى أن فرنسا "سوف تركز قدراتها الدفاعية على محور البحر المتوسط /الخليج العربى – الفارسى/ المحيط الهندى". أى ان الأولوية الأولى للإستراتيجية الفرنسية ستكون: البحر المتوسط /الخليج/ المحيط الهندى ، وليس إفريقيا جنوب الصحراء والتى كانت دوما معقل النفوذ العسكرى الفرنسى طيلة حقبة الحرب الباردة.
وإذا نظرنا الى الخريطة فيمكن أن نلحظ أن محور الإستراتيجية الفرنسية وفق المنصوص عليه فى الكتاب الأبيض قد تحرك من إفريقيا باتجاه الشرق، وتحديدا باتجاه الشرق الأوسط. إذ ان حصول فرنسا على تمركز جوى فى أبو ظبى يجعل الطيران الفرنسى قريبا جدا من مسرح العمليات فى أفغانستان وباكستان. ومن المعروف ان فرنسا لها حامية فى أفغانستان تتكون من 1500 من العسكريين. إذن تحرُكُ محور الإستراتيجية الفرنسية جغرافيا باتجاه الشرق هو نقلة إستراتيجية مؤداها ان الشرق الأوسط بالمعنى الجيو / سياسى والذى يتضمن الجزيرة العربية وقوس الأزمة والمتمثل فى إيران وأفغانستان وباكستان، قد أصبح رِهانُ السياسة الفرنسية على مدى الخمسة عشرة سنة القادمة.
تراجع قيمة القاعدة الفرنسية فى جيبوتى
وهناك جانب آخر يتمثل فى وجود علاقة ارتباط وثيق للغاية بين قرار إنشاء قاعدة فرنسية فى أبو ظبى والوضع الحالى للقاعدة العسكرية الفرنسية فى جيبوتي. وبادئ ذى بدء لابد من الاشارة إلى أن فرنسا لديها خَمس قواعد عسكرية فى إفريقيا منتشرة جغرافيا كالتالى: 3 قواعد فى غرب إفريقيا : قاعدة فى داكار عاصمة السنغال، وقاعدة فى أبيدجان العاصمة الاقتصادية لساحل العاج، وقاعدة فى ليبرفيل عاصمة الجابون.
وهذه المدن الثلاثة تقع فى غرب إفريقيا ولها سواحل على المحيط الاطلنطى وخليج غينيا الذى هو جزء من المحيط الاطلنطى. وبالتالى فالتمركز الفرنسى فى غرب إفريقيا فى السنغال وساحل العاج والجابون يمنح فرنسا نقاط ارتكاز على المحيط الاطلنطى وخليج غينيا.
بجانب التمركز فى غرب إفريقيا المطل على المحيط الاطلنطى، تم التمركز فى العمق البرى للقارة الذى يقع فى أوسط القارة ولا يطل على سواحل وذلك بإنشاء قاعدة فى انجامينا عاصمة التشاد، وبذلك فانتشار القواعد الفرنسية يمتد من الساحل الغربى لإفريقيا والمطل على المحيط الاطلنطى الى العمق البرى فى التشاد وصولا الى أهم قاعدة عسكرية لفرنسا فى إفريقيا، وهى القاعدة الفرنسية فى جيبوتي، التى تمثل الحلقة الثالثة فى التواصل الجغرافى للقواعد العسكرية الفرنسية فى إفريقيا، إذ تقع فى أقصى جنوب البحر الأحمر وتحديدا عند مضيق باب المندب المؤدى الى المحيط الهندى، وهى تمثل أهم نقطة ارتكاز لفرنسا فى شرق إفريقيا، وتعد بمثابة المفتاح الى مدخل المحيط الهندى.
وبالتالى فالانتشار الفرنسى فى إفريقيا يحقق ارتكازا على المحيط الاطلنطى وعند مدخل المحيط الهندى. ويلفت النظر أن أنشاء القاعدة الفرنسية فى جيبوتى يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، وفيها يتمركز اكثر العناصر الفرنسية خبرة عسكرية ويبلغ عددهم حاليا حوالى ثلاثة آلاف. وهى بذلك اكبر قاعدة لفرنسا خارج حدودها عددا وعتادا. وكان هدف الفكر الاستراتيجى الفرنسى من تدعيم هذه القاعدة فى أقصى جنوب البحر الأحمر هو موازنة النفوذ البريطانى الذى كان قائما فى السويس والخليج. ويطلق العسكريون الفرنسيون على قاعدة جيبوتي "مدرسة الصحراء" فهى القاعدة المنوط بها تدريب الضباط والجنود الفرنسيين على المهام الشاقة جدا فى الظروف المناخية والبيئية للصحراء.
ومنذ حقبة الرئيس "جاك شيراك" ومستقبل القاعدة الفرنسية فى جيبوتي يثير الكثير من التساؤلات فى الأوساط البرلمانية فى فرنسا، فرواتب العسكريين الفرنسيين فى هذه القاعدة هى أعلى رواتب نتيجة صعوبة الظروف التى يعيشون فيها إذ تبلغ درجة الحرارة خمسين درجة مئوية معظم شهور العام . كما ان عمليات الإمداد والتموين لهذه القاعدة قد صارت باهظة للغاية لأنه لا يوجد خط ملاحى مباشر وبالتالى يتم نقل المؤن والعتاد جوا وليس بحرا.
ثم جاء التطور الدراماتيكي فى عام 2002، إذ انشأ الجيش الامريكى قاعدة عسكرية فى جيبوتي فى إطار الحرب ضد الإرهاب. ولم تكُن العلاقات بين العسكريين الأمريكيين فى جيبوتي والعسكريين الفرنسيين فى جيبوتي على النحو المرجو، بل كانت هناك نزعة لدى الأمريكيين الى الانفراد بالتصرف والقرار دون تشاور مع الفرنسيين. وقد انعكس التمركز الامريكى فى جيبوتي سلباً على الفرنسيين إذ فى عام 2003 أصرت الحكومة الجيبوتية على ان " الإيجار السنوى للقاعدة الفرنسية فى جيبوتي" هو" ثلاثون مليون يورو". وبذلك تتحمل الميزانية الفرنسية300 مليون يورو حتى نهاية عام 2012، على أن يبدأ التفاوض على سعر جديد بعد ذلك.
وثمة مؤشرات على ان فرنسا قد تتجه إلى إغلاق كُلى أو شبه كُلى للقاعدة الفرنسية فى جيبوتي بحلول نهاية عام 2012. وانه كما تمركز الأمريكيون فى جيبوتي فقد تمركز الفرنسيون كذلك فى الخليج. بل ويدخلون الخليج على مستوى تصدير السلاح المتطور وعلى مستوى تكنولوجيا الطاقة النووية السلمية، وهو الأمر الملحوظ الآن عبر تحرك فرنسى غير مسبوق فى كثافته فى دولة الإمارات العربية وعلى كافة الأصعدة السياسية والدفاعية والاقتصادية والتجارية وايضا الثقافية ممثلة فى انشاء فرع لمتحف اللوفر فى ابوظبى.
وضع مثالى لقاعدة فرنسية فى ابوظبى
تدرك فرنسا أن بناء النفوذ الدولى فى الخليج بكافة أبعاده يبدأ ببناء النفوذ الدفاعى، لذلك كان إنشاء هذه القاعدة فى مياه أبو ظبى التى ترسو بها سنويا ما يزيد عن ثلاثين سفينة عسكرية فرنسية، وهو وضع ملاحى ممتاز لا يتوافر للقاعدة الفرنسية فى جيبوتي والتى أصبحت تكلفة ادارتها وإبقائها وامدادها، تكلفة باهظة للغاية فى ظل ظروف مالية عالمية بالغة الصعوبة. أما على المستوى السياسى والاستراتيجي فلا شك ان قاعدة جيبوتي فقدت قيمتها الرمزية بالنسبة لفرنسا بعد تمركز الأمريكيين بها منذ عام 2002.
بناء على كل هذه الاعتبارات يمكن الزعم أن القاعدة الفرنسية فى ابوظبى تُمثلُ فى الفكر الاستراتيجى الفرنسى الراهن البديل الأنسب عن القاعدة الفرنسية فى جيبوتى والتى قد تراجعت قيمتها نتيجة تحول النظام الدولى من حقبة الحرب الباردة الى حقبة العولمة.
أى أن الجانب الدفاعى فى حقبة العولمة وعلى خلاف حقبة الحرب الباردة لا يستمد فقط قيمته من ذاته وانما من قدرته على فتح أسواق خارجية للدولة خارج حدودها وهو ما يُعرََف ببناء "المجال الحيوى".
وهذا هو ما يقوم به الفرنسيون فى الامارات العربية التى تستضيف حاليا250 شركة فرنسية، وجالية فرنسية ملحوظة تبلغ عشرة آلاف فرنسى من المتخصصين فى مختلف المجالات.
وعلى المستوى الدفاعى البحت يعد انشاء قاعدة أبو ظبى قرارا محسوبا لأن الهدف الاستراتيجى منها هو أن تضمن لفرنسا منفذاً مستقراً ومستديماً الى المحيط الهندى وهو الدورالذى ظلت تؤديه قاعدة جيبوتى لسنوات طويلة، الا أن الفرنسيين يأخذون فى اعتبارهم تقلبات المستقبل السياسى لقاعدة جيبوتى فالعلاقات متدهورة للغاية بين باريس والرئيس الجيبوتى "عمر جيله" وذلك لأسباب كثيرة.
وبالتالى فحينما قرر الفرنسيون انشاء قاعدة فى أبو ظبى كان دافعهم الاكبر هو المحافظة على استمرار واستقرار منظومتهم الاستراتيجية والتى كانت دوما ومنذ القرن التاسع عشر تضمن لهم تواصلا جغرافيا بين نقاط ارتكازهم فى الأطلنطى ونقاط ارتكازهم فى المحيط الهندى. بعبارة اخرى فإن الهدف الرئيسى للقاعدة الفرنسية فى أبو ظبى هو الابقاء على انتشار استراتيجى فرنسى متصل الحلقات جغرافيا وجيو ـ سياسيا، ومُستندا الى نقاط ارتكاز فى الأطلنطى وعند مدخل المحيط الهندى الذى أصبح المعبر الرئيسى للتجارة العالمية للمواد الخام و لناقلات البترول العملاقة التى لا تستطيع اجتياز مضيق باب المندب.
مقدمة
فى الخامس والعشرين من مايو 2009 افتتح الرئيس الفرنسى نيكولا ساركوزى قاعدة عسكرية لفرنسا فى أبو ظبى وتم رفع العَلمين الفرنسى والاماراتى خلال المراسم التى حضرها نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية الشيخ سيف بن زايد آل نهيان. فى الوقت نفسه حرص الرئيس ساركوزى على التأكيد بأن إشاء القاعدة لا يستهدف اى طرف ثالث، فى إشارة غير مباشرة إلى إيران، فى الوقت الذى ركزت فيه تحليلات عديدة على ان وجود القاعدة الفرنسية يؤثر على منظومة التوازن العسكرى فى منطقة الخليج، ويضفى قدرا من الحماية لدولة الامارات العربية تجاه اى تهديدات مباشرة او غير مباشرة قد تتعرض لها.
تستوعب القاعدة 500 من العسكريين الفرنسيين فى 3 مواقع: قاعدة بحرية فى ميناء أبو ظبى وقاعدة جوية ستكون مقرا لعدد محدود من الطائرات إضافة الى معسكر للتدريب على القتال فى المدن وفى المناطق الصحراوية. ويعتبر إنشاء هذه القاعدة الفرنسية فى مياه الخليج تحولا نوعيا فى منظومة الفكر الاستراتيجى الفرنسى بجوانبه الدفاعية والسياسية والاقتصادية والتجارية. إذ أن هذه القاعدة هى الأولى من نوعها التى تنشئها فرنسا خارج مناطق المستعمرات فى إفريقيا جنوب الصحراء والجُزُر الفرنسية فى منطقتى المحيط الهندى والمحيط الاطلنطى.
ومن ثم يمكن اعتبار القرار الفرنسى بإنشاء هذه القاعدة فى مياه الخليج على مقربة من مضيق هرمز الذى تجتازه 40% من الملاحة البترولية العالمية خطوة جوهرية نحو إعادة هيكلة الدور الدولى لفرنسا فى حقبة العولمة، وهى حقبة مغايرة تماما لحقبة الستينيات والحرب الباردة، وهى الحقبة التى شهدت انتشار القواعد الفرنسية فى إفريقيا جنوب الصحراء. إذ كان دوما رؤساء فرنسا ودوائرها الإستراتيجية العليا يعتبرون إفريقيا بمثابة العمق الاستراتيجى لبلدهم والذى يضمن لها نفوذا دوليا فى مواجهة محور واشنطن ـ لندن0 ولذلك حرصت فرنسا إبان حقبة الحرب الباردة على الانتشار العسكرى فى إفريقيا كركيزة لبناء النفوذ الدولى فى مواجهة الولايات المتحدة وبريطانيا.
تراجع افريقيا وعلو مكانة الخليج
بافتتاح القاعدة العسكرية الفرنسية فى أبو ظبى يمكن القول أن اولوية أفريقيا فى السياسة الدفاعية والخارجية الفرنسية قد بدأت تتراجع وذلك لصالح منطقة الخليج. وهو تطور يعكس بلا شك إعادة تعريف وإعادة هيكلة للدور الدولى لفرنسا بين عصرين، فأولويات الدور الدولى لفرنسا فى حقبة العولمة تختلف بالضرورة عن أولويات الدور الدولى لفرنسا فى حقبة الحرب الباردة.
وهو ما أشار إليه صراحة "الكتاب الأبيض" الصادر عن وزارة الدفاع الفرنسية فى عام 2008 والذى يرسم السياسة الدفاعية لفرنسا للخمسة عشرة سنة القادمة إذ يشير الكتاب الأبيض إلى أن فرنسا "سوف تركز قدراتها الدفاعية على محور البحر المتوسط /الخليج العربى – الفارسى/ المحيط الهندى". أى ان الأولوية الأولى للإستراتيجية الفرنسية ستكون: البحر المتوسط /الخليج/ المحيط الهندى ، وليس إفريقيا جنوب الصحراء والتى كانت دوما معقل النفوذ العسكرى الفرنسى طيلة حقبة الحرب الباردة.
وإذا نظرنا الى الخريطة فيمكن أن نلحظ أن محور الإستراتيجية الفرنسية وفق المنصوص عليه فى الكتاب الأبيض قد تحرك من إفريقيا باتجاه الشرق، وتحديدا باتجاه الشرق الأوسط. إذ ان حصول فرنسا على تمركز جوى فى أبو ظبى يجعل الطيران الفرنسى قريبا جدا من مسرح العمليات فى أفغانستان وباكستان. ومن المعروف ان فرنسا لها حامية فى أفغانستان تتكون من 1500 من العسكريين. إذن تحرُكُ محور الإستراتيجية الفرنسية جغرافيا باتجاه الشرق هو نقلة إستراتيجية مؤداها ان الشرق الأوسط بالمعنى الجيو / سياسى والذى يتضمن الجزيرة العربية وقوس الأزمة والمتمثل فى إيران وأفغانستان وباكستان، قد أصبح رِهانُ السياسة الفرنسية على مدى الخمسة عشرة سنة القادمة.
تراجع قيمة القاعدة الفرنسية فى جيبوتى
وهناك جانب آخر يتمثل فى وجود علاقة ارتباط وثيق للغاية بين قرار إنشاء قاعدة فرنسية فى أبو ظبى والوضع الحالى للقاعدة العسكرية الفرنسية فى جيبوتي. وبادئ ذى بدء لابد من الاشارة إلى أن فرنسا لديها خَمس قواعد عسكرية فى إفريقيا منتشرة جغرافيا كالتالى: 3 قواعد فى غرب إفريقيا : قاعدة فى داكار عاصمة السنغال، وقاعدة فى أبيدجان العاصمة الاقتصادية لساحل العاج، وقاعدة فى ليبرفيل عاصمة الجابون.
وهذه المدن الثلاثة تقع فى غرب إفريقيا ولها سواحل على المحيط الاطلنطى وخليج غينيا الذى هو جزء من المحيط الاطلنطى. وبالتالى فالتمركز الفرنسى فى غرب إفريقيا فى السنغال وساحل العاج والجابون يمنح فرنسا نقاط ارتكاز على المحيط الاطلنطى وخليج غينيا.
بجانب التمركز فى غرب إفريقيا المطل على المحيط الاطلنطى، تم التمركز فى العمق البرى للقارة الذى يقع فى أوسط القارة ولا يطل على سواحل وذلك بإنشاء قاعدة فى انجامينا عاصمة التشاد، وبذلك فانتشار القواعد الفرنسية يمتد من الساحل الغربى لإفريقيا والمطل على المحيط الاطلنطى الى العمق البرى فى التشاد وصولا الى أهم قاعدة عسكرية لفرنسا فى إفريقيا، وهى القاعدة الفرنسية فى جيبوتي، التى تمثل الحلقة الثالثة فى التواصل الجغرافى للقواعد العسكرية الفرنسية فى إفريقيا، إذ تقع فى أقصى جنوب البحر الأحمر وتحديدا عند مضيق باب المندب المؤدى الى المحيط الهندى، وهى تمثل أهم نقطة ارتكاز لفرنسا فى شرق إفريقيا، وتعد بمثابة المفتاح الى مدخل المحيط الهندى.
وبالتالى فالانتشار الفرنسى فى إفريقيا يحقق ارتكازا على المحيط الاطلنطى وعند مدخل المحيط الهندى. ويلفت النظر أن أنشاء القاعدة الفرنسية فى جيبوتى يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، وفيها يتمركز اكثر العناصر الفرنسية خبرة عسكرية ويبلغ عددهم حاليا حوالى ثلاثة آلاف. وهى بذلك اكبر قاعدة لفرنسا خارج حدودها عددا وعتادا. وكان هدف الفكر الاستراتيجى الفرنسى من تدعيم هذه القاعدة فى أقصى جنوب البحر الأحمر هو موازنة النفوذ البريطانى الذى كان قائما فى السويس والخليج. ويطلق العسكريون الفرنسيون على قاعدة جيبوتي "مدرسة الصحراء" فهى القاعدة المنوط بها تدريب الضباط والجنود الفرنسيين على المهام الشاقة جدا فى الظروف المناخية والبيئية للصحراء.
ومنذ حقبة الرئيس "جاك شيراك" ومستقبل القاعدة الفرنسية فى جيبوتي يثير الكثير من التساؤلات فى الأوساط البرلمانية فى فرنسا، فرواتب العسكريين الفرنسيين فى هذه القاعدة هى أعلى رواتب نتيجة صعوبة الظروف التى يعيشون فيها إذ تبلغ درجة الحرارة خمسين درجة مئوية معظم شهور العام . كما ان عمليات الإمداد والتموين لهذه القاعدة قد صارت باهظة للغاية لأنه لا يوجد خط ملاحى مباشر وبالتالى يتم نقل المؤن والعتاد جوا وليس بحرا.
ثم جاء التطور الدراماتيكي فى عام 2002، إذ انشأ الجيش الامريكى قاعدة عسكرية فى جيبوتي فى إطار الحرب ضد الإرهاب. ولم تكُن العلاقات بين العسكريين الأمريكيين فى جيبوتي والعسكريين الفرنسيين فى جيبوتي على النحو المرجو، بل كانت هناك نزعة لدى الأمريكيين الى الانفراد بالتصرف والقرار دون تشاور مع الفرنسيين. وقد انعكس التمركز الامريكى فى جيبوتي سلباً على الفرنسيين إذ فى عام 2003 أصرت الحكومة الجيبوتية على ان " الإيجار السنوى للقاعدة الفرنسية فى جيبوتي" هو" ثلاثون مليون يورو". وبذلك تتحمل الميزانية الفرنسية300 مليون يورو حتى نهاية عام 2012، على أن يبدأ التفاوض على سعر جديد بعد ذلك.
وثمة مؤشرات على ان فرنسا قد تتجه إلى إغلاق كُلى أو شبه كُلى للقاعدة الفرنسية فى جيبوتي بحلول نهاية عام 2012. وانه كما تمركز الأمريكيون فى جيبوتي فقد تمركز الفرنسيون كذلك فى الخليج. بل ويدخلون الخليج على مستوى تصدير السلاح المتطور وعلى مستوى تكنولوجيا الطاقة النووية السلمية، وهو الأمر الملحوظ الآن عبر تحرك فرنسى غير مسبوق فى كثافته فى دولة الإمارات العربية وعلى كافة الأصعدة السياسية والدفاعية والاقتصادية والتجارية وايضا الثقافية ممثلة فى انشاء فرع لمتحف اللوفر فى ابوظبى.
وضع مثالى لقاعدة فرنسية فى ابوظبى
تدرك فرنسا أن بناء النفوذ الدولى فى الخليج بكافة أبعاده يبدأ ببناء النفوذ الدفاعى، لذلك كان إنشاء هذه القاعدة فى مياه أبو ظبى التى ترسو بها سنويا ما يزيد عن ثلاثين سفينة عسكرية فرنسية، وهو وضع ملاحى ممتاز لا يتوافر للقاعدة الفرنسية فى جيبوتي والتى أصبحت تكلفة ادارتها وإبقائها وامدادها، تكلفة باهظة للغاية فى ظل ظروف مالية عالمية بالغة الصعوبة. أما على المستوى السياسى والاستراتيجي فلا شك ان قاعدة جيبوتي فقدت قيمتها الرمزية بالنسبة لفرنسا بعد تمركز الأمريكيين بها منذ عام 2002.
بناء على كل هذه الاعتبارات يمكن الزعم أن القاعدة الفرنسية فى ابوظبى تُمثلُ فى الفكر الاستراتيجى الفرنسى الراهن البديل الأنسب عن القاعدة الفرنسية فى جيبوتى والتى قد تراجعت قيمتها نتيجة تحول النظام الدولى من حقبة الحرب الباردة الى حقبة العولمة.
أى أن الجانب الدفاعى فى حقبة العولمة وعلى خلاف حقبة الحرب الباردة لا يستمد فقط قيمته من ذاته وانما من قدرته على فتح أسواق خارجية للدولة خارج حدودها وهو ما يُعرََف ببناء "المجال الحيوى".
وهذا هو ما يقوم به الفرنسيون فى الامارات العربية التى تستضيف حاليا250 شركة فرنسية، وجالية فرنسية ملحوظة تبلغ عشرة آلاف فرنسى من المتخصصين فى مختلف المجالات.
وعلى المستوى الدفاعى البحت يعد انشاء قاعدة أبو ظبى قرارا محسوبا لأن الهدف الاستراتيجى منها هو أن تضمن لفرنسا منفذاً مستقراً ومستديماً الى المحيط الهندى وهو الدورالذى ظلت تؤديه قاعدة جيبوتى لسنوات طويلة، الا أن الفرنسيين يأخذون فى اعتبارهم تقلبات المستقبل السياسى لقاعدة جيبوتى فالعلاقات متدهورة للغاية بين باريس والرئيس الجيبوتى "عمر جيله" وذلك لأسباب كثيرة.
وبالتالى فحينما قرر الفرنسيون انشاء قاعدة فى أبو ظبى كان دافعهم الاكبر هو المحافظة على استمرار واستقرار منظومتهم الاستراتيجية والتى كانت دوما ومنذ القرن التاسع عشر تضمن لهم تواصلا جغرافيا بين نقاط ارتكازهم فى الأطلنطى ونقاط ارتكازهم فى المحيط الهندى. بعبارة اخرى فإن الهدف الرئيسى للقاعدة الفرنسية فى أبو ظبى هو الابقاء على انتشار استراتيجى فرنسى متصل الحلقات جغرافيا وجيو ـ سياسيا، ومُستندا الى نقاط ارتكاز فى الأطلنطى وعند مدخل المحيط الهندى الذى أصبح المعبر الرئيسى للتجارة العالمية للمواد الخام و لناقلات البترول العملاقة التى لا تستطيع اجتياز مضيق باب المندب.