توطئة
يتتبّع هذا النص بدايات دخول القوة الجوية في تشكيلات الحروب، كما يتناول تنظير “جوليو دوهيت” لأهميتها وضرورة جعلها قسماً مُستقلاً عن أقسام الجيش الأخرى تتضمّن إفراد ميزانيةٍ خاصّةٍ لها، ثمّ ينتقل للحديث عن ظروف الحرب التي عاشها “دوهيت” ودعته للإيمان العميق بالقوة الجوية وقدرتها على حسم الحرب وجعلها قصيرةً. وتظهر الآراء بين مؤيّدٍ ومعارضٍ لتنظيراته، لم تحسم الخلاف حول نقاط الضعف والقوة إلا حروبٌ فعليةٌ خاضتها قوى عظمى مع حركات مقاومةٍ تحرّريةٍ متواضعة التسليح.
*****
قبل أكثر من قرنٍ ظهرت أداةٌ جديدةٌ في ساحة المعركة على صورة طائرةٍ ميكانيكيةٍ مأهولة، استُخدمت في البداية كأداة استطلاعٍ ورصدٍ فعالة، خاصّةً إذا ما قورنت بما سبقها من المناطيد المستنِدة إلى الهواء الساخن في تحليقها فوق أرض المعركة. تقاطع دخولُ تلك الطائرة إلى أرض المعركة مع كتابات الضابط العسكريّ الإيطاليّ “جوليو دوهيت” التي برز فيها تخوّفُه وتوجّسُه من شموليّة الحرب ورصدُه لتبدّل أدواتها وشكلها؛ فبعد أن كانت الحروب تستند إلى الجيوش فقط أصبحت تُقحم المجتمع فيها برُمّته، وهو ما أفصح عن بزوغ البُعد الثالث في الحرب. [1]
ليس من المُستغرب أن أوّل محاولةٍ كبيرةٍ لفهم وتفسير استخدامات وتوظيفات القوّة الجوّية ازدهرت في شبه الجزيرة الإيطالية. في الحقيقة كان الجيش الإيطاليّ أوّل من استخدم القوّة الجوية في الحرب، بالتحديد على يد الملازم “جوليو جافوتي”، الذي ألقى بثلاثِ قنابل يدويّةٍ على مواقعَ للجيش العثمانيّ في الصحراء الليبية. [2] أقنعت تجربةُ الجيش الإيطاليّ في ليبيا هيئةَ الأركان العامة بضرورة مواصلة تطوير قوّتها الجوّية، وعيّنت “جوليو دوهيت” -وكان يحمل رتبة رائد- قائداً للقوّة الجوّيّة في ذلك الوقت. [3] لقد ارتبط اسم “دوهيت” بشكلٍ وثيقٍ بتاريخ الفكر العسكريّ بسبب تجربته كقائدٍ للقوّة الجوّية الإيطاليّة، وكتاباته التي كان لها الأثرُ الكبير في ظهور مقارباتٍ معرفيّةٍ جديدةٍ من خلال تناوله موضوع الطائرة الآلية وتأثيرها المُحتمَل في الحروب.
إن الأفكارَ التي صاغها “دوهيت” وضعته بقوةٍ كواحدٍ من الشخصيّات المركزية في تطويرِ النظريات المرتبطة بالقوة الجوّية. وتشكل كتاباتُه جزءاً لا يتجزأ من البرامج الأكاديميّة التي تتناول القوة الجوّية وتاريخها، وتفلح دوماً بخلق جدلٍ واسعِ النطاق بين المختصّين في هذا المجال. يقول “كلاوديو سيرج”: “كان دوهيت في كثيرٍ من المواقع خاطئاً، ولكن غالباً ما تتم الإشارة له”؛ [4] أيّ أنه بالرغم من الجهد الحثيث لتفكيك ونقد وإظهار الإشكاليّات الأخلاقيّة والعسكريّة في كتابات “دوهيت”، إلا أنّك ما تنفكّ تجده حاضراً في النصوص المختلفة المتعلّقة بتاريخ القوة الجوّية وجدليّاتها. كان “دوهيت” متردّداً من النتائج والعواقب التي سيخلّفها استخدامُ الطائرة الميكانيكية في الحرب حتى أنه دعا إلى حظر القوة الجوّية في أحد نصوصه الأولى، [5] لكنّه سُرعان ما غيّر موقفه مُقدّماً أطروحةً مطوّلةً في أهمية القوة الجوّية وضرورة استخدامها وما تعنيه من “تغيّرٍ ثوريٍّ شاملٍ في الحرب”. [6]