تقديم
مثلت الثورة الصناعية ونتائجها كارثة للجنس البشري، فبالرغم من مساهمتها في زيادة متوسط العمر المتوقع في البلاد المتقدمة، إلا أنها زعزعت استقرار المجتمع، وسحبت من الحياة هناءها، سامت الناس الذل مما أدى إلى معاناة نفسية عالمية –وجسدية في دول العالم الثالث-، وألحقت بالطبيعة أضرارًا بالغة، وبالتالي فإن التطور المستمر للثورة الصناعية في هيئة الثورة التكنولوجية (الثورة الصناعية الثانية) سيؤدي إلى تفاقم الكارثة، وسيخضع الإنسان إلى المزيد من الإهانات، وسيسبب أضرارًا أكبر بالطبيعة، وغالبًا سيسبب اضطرابًا مجتمعيًا أعنف وألمًا نفسيًا وربما جسديًا أكثر حتى في الدول المتقدمة.
قد ينجوا النظام الصناعي-التكنولوجي أو قد ينهار، لو نجا فقد يحقق في نهاية المطاف مستويات متدنية من المعاناة النفسية والجسدية، لكن عبر عملية طويلة ومؤلمة جدًا من تعديل وتحويل دائم لأغلب البشر والكائنات الحية الأخرى إلى مجرد منتجات مهندسة وتروس في الآلة الاجتماعية، ضف على ذلك أنه إذا نجا هذا النظام فستكون العواقب حتمية، فلن توجد طريقة لتحسين أو تعديل النظام لمنعه من تجريد الناس من كرامتهم واستقلالهم، أما إن كان مصيره الانهيار، فستكون العواقب وخيمة للغاية، وكلما تأخر الانهيار كلما زادت كارثية العواقب، لذلك من الأفضل أن ينهار عاجلاً لا آجلاً.
ولذلك فأنا أدعو إلى ثورة ضد النظام الصناعي، قد تجنح إلى استخدام العنف وربما لا، قد تكون مفاجئة، وقد تحدث تدريجيًا على امتداد بضعة عقود، لا يمكنني التنبؤ بأي من ذلك، لكني أحدد الخطوات العامة التي يجب على كل من يكره هذا النظام أن يتبعها في سبيل تمهيد الطريق للثورة القادمة ضد هذا الشكل من المجتمع.
هذا المقال سيهتم فقط ببضعة جوانب سلبية صاحبت التطور التكنولوجي الصناعي، وبعض الجوانب نذكرها بإيجاز أو نتجاهلها تمامًا، وليس لأن تلك الجوانب ليست مهمة، لكن ولأسباب عملية يجب أن أحصر نقاشي في النقاط التي لم تلقى اهتمامًا جماهيريًا كافيًا، أو حيث أستطيع أن آتي بجديد، على سبيل المثال كتبنا قليلاً عن التدهور البيئي وتدمير الحياة البرية على الرغم من كونها قضية في غاية الأهمية، ولكن ذلك بسبب وجود مبادرات بيئية وحركات متقدمة لحماية الطبيعة والحياة البرية.
سيكولوجية اليسار الحديث
سيتفق الجميع تقريبًا على أننا نعيش في عالم مضطرب للغاية، وواحد من أكثر مظاهر جنون عالمنا انتشارًا هو اليسارية، ولذلك فإن مناقشة سيكولوجية اليسار سيكون بمثابة المقدمة لمناقشة مشاكل المجتمع الحديث بشكل عام.
لكن ما هي اليسارية؟ خلال النصف الأول من القرن العشرين كان من السهل التعرف على اليسارية لأنها عمليًا كانت الاشتراكية، لكن اليوم أصبحت حركة مجزأة وصار من الصعب تحديد من هو اليساري بشكل واضح، ولذلك فإننا عندما نتحدث عن اليساريين في هذا المقال فإننا نقصد الاشتراكيين، الجماعيين*، وأعضاء الصواب السياسي، النسويات، نشطاء الدفاع عن المثليين والمعاقين، ونشطاء حقوق الحيوان وما شابه، لكن بالطبع ليس كل شخص ارتبط بأحد تلك الحركات يساري بالضرورة، إننا نحاول أن نناقش الجانب النفسي لليسارية أكثر من مناقشة أحزابها أو أيدولوجيتها، وكذلك كل ما يشابهها، وهكذا فإن ما نقصده باليسارية سيظهر بشكل جلي في سياق مناقشتنا لسيكولوجية اليسار.
ومع ذلك سيظل تصورنا عن اليسار أقل وضوحًا مما كنا نهدف، لكن لا علاج لهذا الأمر، سيقتصر ما نحاول فعله هنا على الإشارة بصورة مباشرة وتقريبية إلى الاتجاهيين النفسيين الرئيسين المحركين للقوى اليسارية الحديثة. نحن لا ندّعى بأي حال من الأحوال أننا نظهر “الحقيقة الكاملة” عن سيكولوجية اليسار، كما أن نقاشنا ينطبق فقط على اليسارية الحديثة، ونترك السؤال مطروح عن مدى إمكانية تطبيق مناقشتنا عن يساريّي القرن التاسع عشر وأوائل العشرين.
الاتجاهان النفسيان الرئيسان اللذان يكمنان خلف النزعة اليسارية الحديثة هما: “عقدة النقص” و”التنشئة الاجتماعية المفرطة-oversocialization”، عقدة النقص هي سمة أساسية لليسارية الحديثة ككل، بينما التنشئة الاجتماعية المفرطة سمة تميز شريحة معينة من اليسار الحديث لكنها ذات تأثيرٍ عالٍ.
عقدة النقص
بقولنا “عقدة النقص” لا نعني عقدة النقص بشكل محدد، لكن طيفًا واسعًا من الطبائع المصحابة مثل انعدام الثقة بالنفس، والإحساس بالعجز، والميول الاكتئابية، والروح الانهزامية، والشعور بالذنب وكره الذات إلخ، ونحن نجادل أن اليساريين المعاصرين يميلون إلى امتلاك هذه المشاعر (قد تكون مكبوتة أو لا)، وأن تلك المشاعر مؤثرة في توجيه اليسار الحديث.
عندما يفسر شخص ما أي حديث موجه إليه (أو إلى مجموعة يعرف نفسه خلالها) على أنه إهانة، نستنتج بالضرورة أن هذا الشخص يعاني من عقدة نقص وتدني لاحترام الذات، ونلاحظ هذه الأعراض على الناشطين في مجال حقوق الأقليات، سواء كانوا أفرادًا في الأقلية التي يدافعون عنها أو لا، فهم مفرطو الحساسية بشأن الكلمات المستخدمة لتسمية الأقليات، أو أي كلمة موجهة لهم، فكلمات “زنجي-negro، شرقي-oriental، معاق-handicapped، كتكوت-chick**” المستخدمة لوصف الأفريقي، أو الأسيوي أو المعاق أو المرأة لم يكن لها في الأصل معنىً ازدرائي، فكلمات مثل “Broad, chick” كانت هي الموازي الأنثوي لكلمات مثل يا فتى أو يا صاح أو يا زميل، ” guy, fellow, dude”، فقد تم إلصاق المعنى السلبي بالألفاظ من قبل الناشطين أنفسهم، بل حتى وصل تمادي بعض ناشطي حقوق الحيوان إلى إلغاء كلمة “حيوان أليف” والإصرار على استبدالها بـ “الرفيق الحيواني”، ووصل جنون الارتياب إلى حد بعيد مع علماء الأنثروبولوجيا اليساريين، فهم يتجنبون قول أي لفظ مشكوك في حمله معنى سلبي عن الشعوب البدائية، إنهم يريدون استبدال كلمة “بدائي” بكلمة “ليس لها لغة مكتوبة-nonliterate”، يبدو أنهم مصابون بجنون الشك نحو أي شيء يصور الثقافات البدائية أقل شأنًا من حضارتنا (نحن لا نعني أن الشعوب البدائية أقل شأنًا من حضارتنا، بل فقط نشير إلى الحساسية المفرطة لعلماء الأنثروبولوجيا اليسارين).
الأشخاص الأكثر حساسية تجاه المصطلحات “غير الصائبة سياسيًا” ليسوا السود المنعزلين مجتمعيًا، أو المهاجرين الأسيويين، المرأة، أو الأشخاص المعاقين، لكن أقلية من النشطاء لا ينتمون حتى للمجموعة “المضطهدة” بل ينتمون للطبقة ذات الامتيازات في المجتمع، فتمتلك الصوابية السياسية مساحة كبيرة بين أساتذة الجامعات، ممن يمتلكون عملًا ثابتًا بمرتّبات مريحة، غالبيتهم من البيض المغايرون جنسيًا المنتمون للطبقة الوسطى المتوسطة والعليا.
يشعر العديد من اليسارين بالتطابق التام بين هويتهم والمجموعات اللائي تعطي انطباع بالضعف (المرأة)، الانهزامية (الهنود الحمر)، والتنفير (المثليين) أو أي شعور بالدونية. يشعر اليساريون أنفسهم بدونية هذه المجموعات، لكن لن يعترفوا أبدًا لنفسهم بتلك المشاعر، وكونهم يرون تلك المجموعات أدنى من غيرها هو تحديدًا ما يجعلهم يشعرون بالألفة لمشكلاتهم، (نحن لا نعني أن الهنود الحمر أو المرأة إلخ أقل شأنًا من غيرهم، فنحن فقط نتحدث عن سيكولوجية اليسار).
تحرص النسويات بشدة على إثبات أن المرأة قوية وقادرة مثل الرجال، لدرجة أنه من الواضح أن الخوف من احتمالية كون المرأة ليست بقوة الرجل وقدرته يقضّ مضاجعهم.
يميل اليساريون إلى كراهية أي شيء يملك شكلًا من القوة أو النجاح، فهم يكرهون أمريكا، يكرهون الحضارة الغربية، يكرهون الرجل الأبيض، ويكرهون المنطق والعقلانية، والواضح كالشمس أن الأسباب التي تدفع اليسارين لكره الغرب وما إلى ذلك، تختلف وتغطي دوافعهم الحقيقية، فيقولون أنهم يكرهون الغرب لأنه حربي، استعماري، متحيز جنسيًا، وعنصري وهكذا، ولكن حين ظهور نفس الأخطاء في المجتمعات الاشتراكية أو البدائية فهو يختلق الأعذار لهم، وفي أفضل حال يعترف بوجودها على مضض، بينما يشير بأصبعه بسعادة (وغالبًا مع التهويل) على نفس الأخطاء في الحضارة الغربية، وبالتالي يصبح من الجلي أن تلك الأخطاء ليست السبب الحقيقي لكره اليسار لأمريكا والغرب، لكن السبب الحقيقي هو كون أمريكا والغرب أقوياء وناجحين.
ومن الكلمات ذات الحضور الضئيل في قواميس اليساريين والليبراليين “الثقة بالنفس”، “الاعتماد على الذات”، “روح المبادرة”، “الجرأة”، “التفاؤل” وما إلى ذلك، فاليساري هو شخص كاره للفردية، مؤيد لفكرة القطيع، ويريد من المجتمع أن يحل مشكلات الجميع نيابة عنه، وأن يلبي رغبات الجميع بدلاً منه، ويهتم بهم، لأنه شخص لا يمتلك ثقة في قدرته على حل مشكلاته الخاصة، أو تلبية احتياجاته الخاصة، وهكذا يعادي اليسار مفهوم المنافسة، لأنه بداخله يشعر بكونه شخص فاشل.
يميل اليسار لأشكال معينة من الفن تركز على البذاءة، الهزيمة واليأس، وإن لم تكن مما سبق، اتخذت شكل من المجون، فتهمل العقلانية وكأنه لا سبيل لتحقيق أي شيء خلال الحسابات المنطقية ولا جدوى سوى أن تغمر نفسك بضجيج اللحظة.
يميل الفلاسفة اليساريون الحديثون إلى تجاهل العقل والعلم والواقع الموضوعي والإصرار على أن كل شيء نسبي ثقافيًا، صحيح أنه يمكنك طرح أسئلة جدية حول أسس المعرفة العلمية وعن كيفية تعريف الواقع الموضوعي –إن وجد-، لكن الواضح أن الفلاسفة اليساريين الحديثين ليسوا مناطقة عقلانيون يحللون مؤسسة المعرفة بمنهجية، بالعكس، فهم منغمسون حتى رأسهم في مهاجمة الحقيقة والواقع، وينبع هجومهم على تلك المفاهيم من حاجة نفسية؛ فمن جانب هو مخرج لحقدهم، ومن الآخر إرضاءً لعطشهم إلى القوة، والسبب الأكثر أهمية لكره اليسار للعلم والعقلانية كون العلم والعقلانية يصنفون المعتقدات لحقيقية (ناجحة ومتفوقة وما إلى ذلك)، وأخرى زائفة (فاشلة ودونية وما إلى ذلك)، فتوغل مشاعر الدونية والنقص بعمق في نفس اليساري تجعله لا يستطيع التسامح مع أي تفريق بين الأشياء وتصنيف بعضها كناجح ومتفوق وبعضها الآخر كفاشل ومتدني، وهذا أيضًا يشرح سر بُغض اليساريون لمفهوم المرض العقلي وإنكار فائدة اختبارات الذكاء، ويعادي اليساريون التفسير الجيني لسلوك البشر وقدراتهم، لأن مثل هذا التفسير يجعل بعض الأشخاص متفوقين بالطبيعة وآخرين أقل مكانة، فيميل اليساريون إلى منح المجتمع الشكر أو النقد على تفوق الفرد أو فشله، فإذا كان الشخص فاشلًا فهذا ليس خطأه بل خطأ المجتمع لأنه فشل في تربيته على النحو الملائم.
عادةً لن تجد اليساري هو الشخص الذي يدفعه شعوره بالدونية للتبجح، الغرور، التنمر، ترويج الذات أو يجعله منافس لا يرحم، فهذا النوع من الأشخاص لم يفقد الأمل والإيمان في نفسه بعد، فعلى الرغم من افتقاده للثقة في النفس ووهن شعوره بالقوة، إلا أنه ما زال قادرًا على تخيل نفسه قوي، ومحاولته لجعل نفسه قويًا هي ما ينتج سلوكه غير المستحب، لكن يقع اليسار بعيدًا جدًا عن تلك الشخصية، فإحساسه بالدونية ضاربٌ بجذوره في عمق نفسه بحيث لا يستطيع تصور نفسه في موضع قوة أو قيمة بشكل فردي، وهكذا تنتج الجماعية اليسارية، فشعوره بالقوة يأتي فقط من شعوره بالانتماء لمنظمة كبيرة أو جماعة يعرف هويته من خلالها.
لاحظ الميول الماسوشية للأساليب اليسارية، فهم يتظاهرون من خلال الاستلقاء أمام السيارات، يتعمدون استفزاز الشرطة والعنصريين لدفعهم لإيذائهم وما إلى ذلك، تلك الأساليب قد تكون فعالة أحيانًا، لكن لا يستخدمها اليساريون كوسيلة لتحقيق غاية، بل فقط لأنهم يفضلون الأساليب الماسوشية، فكُره الذات هو سمة يسارية.
قد يدعي اليساري أن نشاطه مدفوع بالشفقة والمبادئ الأخلاقية، وتلعب المبادئ الأخلاقية دورًا ليسار “التنشئة الاجتماعية المفرطة”، لكن الشفقة والمبادئ الأخلاقية مستحيل أن تكون الدافع الأساسي لشخصية اليساري، فالعدائية عنصر بارز جدًا في سلوك اليساري، وكذلك التعطش إلى السلطة، وعلاوة على ذلك فإن اليساري لا يعتمد أصلاً على الحسابات العقلية لتكون تصرفاته موجهة في صالح هؤلاء ممن يدعي مساعدتهم. فمثلاً إذا اعتقد شخصٌ ما أن التمييز الإيجابي مفيد للسود، فهل من العقل المطالبة بالتمييز الإيجابي بأساليب عدائية ومصطلحات دوجمائية؟ المنطقي هو اللجوء للأساليب الدبلوماسية والنهج التوفيقية التي تغري البيض بالتنازلات الرمزية واللفظية التي تعني التمييز ضدهم أنفسهم.
لكن اليساري لن يستخدم تلك الطرق لأنها لا تفي باحتياجاته العاطفية، وبالتالي فإن مساعدة السود ليس هدفهم الحقيقي، بل مجرد زريعة ليعبروا عن عدائيتهم وتعطشهم للسلطة، والنتيجة الواقعية لهذا هو إيذاء السود، لأن تصرفات النشطاء العدائية تجاه الأغلبية البيضاء تعمل على تكثيف الكراهية العرقية.
ولو كان مجتمعنا لا يعاني من مشاكل اجتماعية إطلاقًا لكان على اليساريين اختلاق مشاكل اجتماعية جديدة تبرر وجودهم وتمدهم بالأعذار لإحداث ضجة.
أؤكد أن ما سبق ذكره ليس وصف دقيق لكل شخص ينتمي لليسار، بل هو مقاربة للاتجاه العام لليسارية.
التنشئة الاجتماعية المفرطة (OVER SOCIALIZATION)
يستخدم علماء النفس مصطلح (التنشئة الاجتماعية-socialization) لتسمية عملية تدريب الأطفال على التفكير والتصرف بناءً على متطلبات المجتمع، فيقال عن الشخص اجتماعي إن كان يؤمن بالقانون الأخلاقي لمجتمعه ويطيعه، ويلائم وظيفته كترسٍ عاملٍ من هذا المجتمع، ستكون حماقة إن قلت إن اليساري “منشأ اجتماعيًا بإفراط-over-socialized”، خصوصًا أنه يسمي نفسه ثائرًا ومتمردًا، ومع ذلك يمكننا الدفاع عن وجهة النظر تلك، فالعديد من اليساريين ليسوا متمردين كما يصدرون لأنفسهم.
لا يمكن لأحد أن يفكر ويتصرف ويشعر بطريقة أخلاقية صرف، لأن قانوننا الاجتماعي متطلب وشاق، فعلى سبيل المثال أخلاقيًا لا يجب عليك أن تكره أي شخص، ولكن يكره كل شخصٍ شخصًا ما من وقتٍ لآخر، سواء اعترف لنفسه بذلك أو لا. بعض الناس تم تنشئتهم اجتماعيًا أكثر من اللازم لدرجة أن مجرد محاولة التفكير، أو الشعور أو التصرف بأخلاقية تضعهم تحت ضغط هائل، فيعمدون إلى خداع أنفسهم على المدى الطويل ومحاولة إيجاد دوافع ومبررات أخلاقية لتصرفاتهم غير أخلاقية الأصل لتجنب الشعور بالذنب، وهكذا نستخدم مصطلح “منشأ اجتماعيًا بإفراط” لوصف أمثال هؤلاء.
يمكن أن يؤدي “فرط التنشئة الاجتماعية” إلى إحساس بالدونية، والعجز، والانهزامية، والذنب وما إلى ذلك، يُعد الشعور بالذنب أحد أهم الطرق التي يستخدمها مجتمعنا لتنشئة الأطفال اجتماعيًا، عن طريق دفعهم للشعور بالذنب والخجل من تصرفاتهم وأقوالهم المضادة لقيم المجتمع، إذا تم هذا بطريقة مبالغ فيها، أو كان طفل معين هش من ذاك الجانب سينتهي به المطاف للشعور بالخجل من نفسه، وبينما تقيد أخلاق المجتمع تمامًا مشاعر وأفكار “المنشأ اجتماعيًا بإفراط”، هناك الشخص خفيف التنشئة الاجتماعية. ينخرط معظم الناس في نشاطات مشاغبة، فهم يكذبون، يرتكبون السرقات التافهة، يخرقون قوانين المرور، يكرهون شخصًا ما، يتفوهون بألفاظ لاذعة، يستخدمون الحيل للوصول لمبغاهم أو التقرب لشخصٍ ما، لكن لا يستطيع الشخص “المنشأ اجتماعيًا بإفراط” ارتكاب تلك الجرائم، وإن ارتكبها يتولد عنده شعور عميق بالعار وكره الذات، إنه حتى لا يستطيع التفكير أو الشعور بمشاعر غير مقبولة اجتماعيًا دون الشعور بالذنب، ولا يمكنه التفكير في أفكار شائنة.
ولا تقتصر فقط التنشئة الاجتماعية على الأخلاقيات، لكنها تمتد لتصل إلى العديد من معايير السلوك التي لا تقع تحت تصنيف الأخلاق. وهكذا يظل الشخص المنشأ اجتماعيًا بإفراط تحت أغلال العقدة النفسية، مقضيًا باقِ حياته على قضبان رسمها له المجتمع مسبقًا، وتدفع التنشئة الاجتماعية المفرطة العديد من الناس للشعور بالتقييد والعجز مما يؤدي إلى صعوبات كثيرة في حياتهم، ولهذا نظن أن فرط التنشئة الاجتماعية هي أقسى الأفعال وأكثرها خطورةً مما يرتكبه الإنسان في حق الإنسان.
وندعي أن جزءًا مهمًا ومؤثرًا من اليسار الحديث ضحية للإفراط في التنشئة الاجتماعية، وهذا الإفراط عامل مؤثر وحاسم في تحديد اتجاه اليسار الحديث، يميل اليساريون المنشئون اجتماعيًا بإفراط أن يكونوا مثقفين وأعضاء من الطبقة الوسطى العليا، لاحظ أن المثقفين الجامعيين يمثلون الشريحة الأكثر اجتماعية في مجتمعنا وكذلك الأكثر يسارية.
ويحاول اليساري من النوع المنشأ اجتماعيًا بإفراط إلى التخلص من قيوده وتأكيد فرديته عن طريق التمرد، ولكنه عادةً ليس قويًا كفاية للتمرد على أبسط قيم المجتمع، فبوجهٍ عام لا تتعارض أهداف اليسار الحديثة مع الأخلاق المقبولة، بل بالعكس، يتخذ اليسار مبدأً أخلاقيًا مقبولاً، يتبناه كأنه من صنعه الخاص، ثم يتهم باقِ المجتمع بانتهاك تلك المبادئ، مثل: المساواة العرقية، المساواة الجنسية، مساعدة الفقراء، السلام كبديل للحرب، اللاعنف في العموم، حرية التعبير، العطف على الحيوان. بشكل جوهري أكثر، يجب على الفرد أن يخدم المجتمع وعلى المجتمع أن يعتني بالفرد، وتلك القيم بالأصل ضاربة بجذورها عميقًا في مجتمعنا منذ فترة طويلة، على الأقل في طبقته الوسطى والعليا، ويتم التعبير عن هذه القيم جهرًا وضمنًا وكمسلمات في معظم المواد المقدمة إلينا في وسائط الإعلام أو النظام التعليمي، ولذلك عادة لا يثور اليساريين ضد تلك المبادئ، خصوصًا المنشؤون اجتماعيًا بإفراط، بل يبررون عداءهم تجاه المجتمع عن طريق ادّعاء -على درجة ما من الصحة- أن المجتمع لا يرقى لتلك المبادئ.
وهاكم مثال يوضح تعلق اليساري المنشأ اجتماعيًا بإفراط بالعرف المجتمعي الذي يدعي تمرده عليه، يدعوا العديد من اليساريين إلى الحراك الإيجابي تجاه السود، فيدفعونهم دفعًا إلى العمل بوظائف مرموقة، والمطالبة بإمداد مدارسهم بمزيد من المال لزيادة الجودة التعليمية، ويحتقرون أسلوب حياة السود من الطبقات الدنيا كعار وخزي اجتماعي، فيعملون جاهدين على دمج الرجل الأسود بالنظام، وتحويله لمدير تنفيذي، محامٍ، وعالم مثل الطبقة المتوسطة العليا من البيض، وسيرد اليساريون أن آخر ما يريدونه هو تحويل الرجل الأسود لنسخة من الرجل الأبيض، بل هدفهم هو الحفاظ على الثقافة الأفروأمريكية، ولكن كيف يحافظون على الثقافة الأفروأمريكية من وجهة نظرهم؟ فهي لا تكاد تحتوي على شيء أكثر من تناول الطعام على طريقة السود، سماع أنواع موسيقى السود، ارتداء الملابس على طراز السود، والذهاب إلى كنيسة أو مسجد على الطراز الأسود.
بعبارة أخرى؛ يمكن للثقافة السوداء أن تعبر عن نفسها فقط بالطرق السطحية، بينما في النواحي الأكثر جوهرية يريد اليساري المنشأ اجتماعيًا بإفراط أن يحول الرجل الأسود لنسخة من الرجل الأبيض المنتمي للطبقة الوسطى، وإجباره على دراسة المواد التقنية، ودفعه ليصبح مديرًا تنفيذيًا لشركة ما أو عالمًا، يقضي باقِ حياته في محاولة تسلق السلم الاجتماعي لإثبات أنه بنفس إفادة الرجل الأبيض، يريدوا من الآباء السود أن يكونوا مسؤولين، وأن تنتهج العصابات السوداء سياسة اللاعنف، إلخ. لكن تلك هي تمامًا قيم المجتمع الصناعي التكنولوجي، فلا يهتم النظام بنوعك الموسيقي المفضل، أو طراز ملابسك، أو دينك، طالما تدرس في مدارسه، وتعمل بوظائفه، وتسعى لتسلق السلم الوظيفي، وتمثل نموذج الأب المسؤول، وتبعد عن العنف وما إلى ذلك، وهكذا فإن اليساري المنشأ اجتماعيًا بإفراط يحاول إجبار الرجل الأسود على الانخراط في نظامه وتبني قيمه مهما حاول إنكار ذلك.
ولا ندّعي طبعًا أن اليساريين، حتى من النوع المنشأ اجتماعيًا بإفراط، لا يتمردون على قيم المجتمع الأساسية، فمن الواضح أنهم وفي بعض الأحيان يتمردون ويتمادون لدرجة الانقلاب على أكثر القيم الجوهرية للمجتمع المتمثلة في اللاعنف عن طريق الانخراط في أعمال شغب عنيفة، لكن يبررون هذا العنف بأنه شكل من أشكال التحرير، وبعبارة أخرى فارتكاب العنف يخرق أحد القيود الاجتماعية المدربين عليها، ولأنهم منشأين اجتماعيًا بإفراط، فتلك القيود تحدهم أكثر من الآخرين، وبالتالي تزداد رغبتهم للانعتاق منها أكثر من الآخرين، لكنهم يبررون عادةً تمردهم عن طريق تلك القيم، فمثلاً يبررون عنفهم بأنه صراع ضد العنصرية وما شابه.
يوجد العديد من الاعتراضات يمكن أن تثار ضد النموذج المصغر السابق لسيكولوجية اليسار، لأن الوضع الحقيقي أكثر تعقيدًا، وأي شيء يقترب حتى من الوصف الكامل سوف يتطلب العديد من المجلدات حتى لو كانت البيانات الضرورية متوفرة، لكن نحن لا ندّعي أن ما سبق يمثل أكثر من إشارات إلى الاتجاهين الأكثر أهمية في سيكولوجية اليسار الحديث.
تمثل مشاكل اليسار مجرد مؤشر على مشاكل مجتمعنا ككل، فلا يقتصر تدني احترام الذات، الاكتئاب، والانهزامية على اليسار، فبالرغم أنها أكثر وضوحًا به، إلا أنها منتشرة في مجتمعنا، ويحاول مجتمع اليوم أن يُنشئنا اجتماعيُا أكثر من أي مجتمع سابق، لدرجة أن الخبراء يحددون لنا كيف نأكل، كيف نتمرن، كيف نمارس الحب، كيف نربي أولادنا وما إلى ذلك.
النهج إلى السلطة
يحتاج البشر دائمًا إلى شيء سنسميه “النهج إلى السلطة” –ربما يكون له أصل بيولوجي–، وهو يقرب بشكل ما إلى المصطلح المنتشر “الحاجة إلى السلطة” إلا أنهما ليسا نفس الشيء؛ يتكون “النهج إلى السلطة” من أربعة عناصر، ثلاثة منهم سهل التعرف عليهم وهم: الهدف، والمجهود، وبلوغ الهدف، فيحتاج الجميع إلى أهداف والتي في سبيل تحقيقها ينبغي عليهم بذل مجهود، وفي حاجة ماسة أيضًا إلى النجاح في بلوغ بعض تلك الأهداف، أما العنصر الرابع فيصعب تعريفه بالإضافة إلى هامشية الحاجة إليه لأغلب الناس، وهو الاستقلال، وسنناقشه فيما بعد.
تخيل معي التجربة الافتراضية تلك: رجل يستطيع الحصول على كل ما يبتغي بمجرد التمني، ستجد أنه رغم امتلاك هذا الرجل للسلطة، إلا أنه سيعاني من مشاكل نفسية خطيرة، سيمرح كثيرًا في البداية بالطبع، لكن بعد ذلك ومع مرور الوقت سيصاب بالملل والفتور، وقد يصاب نتيجة لهذا بالاكتئاب السريرين ويدلل التاريخ على صحة هذا، حيث أنه وبعكس الأرستقراطيات المكافحة التي يتوجب عليها النضال دائمًا للحفاظ على سلطتها؛ نرى الأرستقراطيات المرفهة دائمًا ما تميل إلى التفسخ، فكونها في أمان دائم بلا حاجة لبذل جهد ينتهي بها الحال بالغرق في مستنقع الملل واللذة الحسية وفتور الهمم، رغم امتلاكهم للسلطة، ويوضح هذا أن السلطة ليست كافية، بل ينبغي على المرء امتلاك أهداف يسعى إليها لتشحذ همته.
يسعى الجميع إلى هدف أساسي –بجانب الأهداف الأخرى– وهو تأمين أساسيات الحياة من مأكل ومشرب، وملبس وملجأ يناسب مناخ بيئته، ومن هنا يأتي فتور وملل الطبقة الأرستقراطية المرفهة، حيث يمتلكون كل تلك الأشياء بلا مجهود.
يؤدي الفشل ببلوغ الأهداف إلى الموت إن كانت تلك الأهداف ضرورات مادية، بينما يؤدي إلى الغضب إن كانت مكملة لضروريات البقاء على قيد الحياة، وإن كان هذا الفشل في بلوغ الأهداف مستمر سيؤدي في نهاية المطاف إلى الانْهِزَامِيّة وتدني الثقة بالذات والاكتئاب.
ومن ثم يحتاج الإنسان إلى هدف يتطلب مجهودًا لبلوغه، وكذلك يجب أن يكون معدّل نجاح تحقيقه لتلك الأهداف معقول، لتجنب الأمراض النفسية الخطيرة.
مثلت الثورة الصناعية ونتائجها كارثة للجنس البشري، فبالرغم من مساهمتها في زيادة متوسط العمر المتوقع في البلاد المتقدمة، إلا أنها زعزعت استقرار المجتمع، وسحبت من الحياة هناءها، سامت الناس الذل مما أدى إلى معاناة نفسية عالمية –وجسدية في دول العالم الثالث-، وألحقت بالطبيعة أضرارًا بالغة، وبالتالي فإن التطور المستمر للثورة الصناعية في هيئة الثورة التكنولوجية (الثورة الصناعية الثانية) سيؤدي إلى تفاقم الكارثة، وسيخضع الإنسان إلى المزيد من الإهانات، وسيسبب أضرارًا أكبر بالطبيعة، وغالبًا سيسبب اضطرابًا مجتمعيًا أعنف وألمًا نفسيًا وربما جسديًا أكثر حتى في الدول المتقدمة.
قد ينجوا النظام الصناعي-التكنولوجي أو قد ينهار، لو نجا فقد يحقق في نهاية المطاف مستويات متدنية من المعاناة النفسية والجسدية، لكن عبر عملية طويلة ومؤلمة جدًا من تعديل وتحويل دائم لأغلب البشر والكائنات الحية الأخرى إلى مجرد منتجات مهندسة وتروس في الآلة الاجتماعية، ضف على ذلك أنه إذا نجا هذا النظام فستكون العواقب حتمية، فلن توجد طريقة لتحسين أو تعديل النظام لمنعه من تجريد الناس من كرامتهم واستقلالهم، أما إن كان مصيره الانهيار، فستكون العواقب وخيمة للغاية، وكلما تأخر الانهيار كلما زادت كارثية العواقب، لذلك من الأفضل أن ينهار عاجلاً لا آجلاً.
ولذلك فأنا أدعو إلى ثورة ضد النظام الصناعي، قد تجنح إلى استخدام العنف وربما لا، قد تكون مفاجئة، وقد تحدث تدريجيًا على امتداد بضعة عقود، لا يمكنني التنبؤ بأي من ذلك، لكني أحدد الخطوات العامة التي يجب على كل من يكره هذا النظام أن يتبعها في سبيل تمهيد الطريق للثورة القادمة ضد هذا الشكل من المجتمع.
هذا المقال سيهتم فقط ببضعة جوانب سلبية صاحبت التطور التكنولوجي الصناعي، وبعض الجوانب نذكرها بإيجاز أو نتجاهلها تمامًا، وليس لأن تلك الجوانب ليست مهمة، لكن ولأسباب عملية يجب أن أحصر نقاشي في النقاط التي لم تلقى اهتمامًا جماهيريًا كافيًا، أو حيث أستطيع أن آتي بجديد، على سبيل المثال كتبنا قليلاً عن التدهور البيئي وتدمير الحياة البرية على الرغم من كونها قضية في غاية الأهمية، ولكن ذلك بسبب وجود مبادرات بيئية وحركات متقدمة لحماية الطبيعة والحياة البرية.
سيكولوجية اليسار الحديث
سيتفق الجميع تقريبًا على أننا نعيش في عالم مضطرب للغاية، وواحد من أكثر مظاهر جنون عالمنا انتشارًا هو اليسارية، ولذلك فإن مناقشة سيكولوجية اليسار سيكون بمثابة المقدمة لمناقشة مشاكل المجتمع الحديث بشكل عام.
لكن ما هي اليسارية؟ خلال النصف الأول من القرن العشرين كان من السهل التعرف على اليسارية لأنها عمليًا كانت الاشتراكية، لكن اليوم أصبحت حركة مجزأة وصار من الصعب تحديد من هو اليساري بشكل واضح، ولذلك فإننا عندما نتحدث عن اليساريين في هذا المقال فإننا نقصد الاشتراكيين، الجماعيين*، وأعضاء الصواب السياسي، النسويات، نشطاء الدفاع عن المثليين والمعاقين، ونشطاء حقوق الحيوان وما شابه، لكن بالطبع ليس كل شخص ارتبط بأحد تلك الحركات يساري بالضرورة، إننا نحاول أن نناقش الجانب النفسي لليسارية أكثر من مناقشة أحزابها أو أيدولوجيتها، وكذلك كل ما يشابهها، وهكذا فإن ما نقصده باليسارية سيظهر بشكل جلي في سياق مناقشتنا لسيكولوجية اليسار.
ومع ذلك سيظل تصورنا عن اليسار أقل وضوحًا مما كنا نهدف، لكن لا علاج لهذا الأمر، سيقتصر ما نحاول فعله هنا على الإشارة بصورة مباشرة وتقريبية إلى الاتجاهيين النفسيين الرئيسين المحركين للقوى اليسارية الحديثة. نحن لا ندّعى بأي حال من الأحوال أننا نظهر “الحقيقة الكاملة” عن سيكولوجية اليسار، كما أن نقاشنا ينطبق فقط على اليسارية الحديثة، ونترك السؤال مطروح عن مدى إمكانية تطبيق مناقشتنا عن يساريّي القرن التاسع عشر وأوائل العشرين.
الاتجاهان النفسيان الرئيسان اللذان يكمنان خلف النزعة اليسارية الحديثة هما: “عقدة النقص” و”التنشئة الاجتماعية المفرطة-oversocialization”، عقدة النقص هي سمة أساسية لليسارية الحديثة ككل، بينما التنشئة الاجتماعية المفرطة سمة تميز شريحة معينة من اليسار الحديث لكنها ذات تأثيرٍ عالٍ.
عقدة النقص
بقولنا “عقدة النقص” لا نعني عقدة النقص بشكل محدد، لكن طيفًا واسعًا من الطبائع المصحابة مثل انعدام الثقة بالنفس، والإحساس بالعجز، والميول الاكتئابية، والروح الانهزامية، والشعور بالذنب وكره الذات إلخ، ونحن نجادل أن اليساريين المعاصرين يميلون إلى امتلاك هذه المشاعر (قد تكون مكبوتة أو لا)، وأن تلك المشاعر مؤثرة في توجيه اليسار الحديث.
عندما يفسر شخص ما أي حديث موجه إليه (أو إلى مجموعة يعرف نفسه خلالها) على أنه إهانة، نستنتج بالضرورة أن هذا الشخص يعاني من عقدة نقص وتدني لاحترام الذات، ونلاحظ هذه الأعراض على الناشطين في مجال حقوق الأقليات، سواء كانوا أفرادًا في الأقلية التي يدافعون عنها أو لا، فهم مفرطو الحساسية بشأن الكلمات المستخدمة لتسمية الأقليات، أو أي كلمة موجهة لهم، فكلمات “زنجي-negro، شرقي-oriental، معاق-handicapped، كتكوت-chick**” المستخدمة لوصف الأفريقي، أو الأسيوي أو المعاق أو المرأة لم يكن لها في الأصل معنىً ازدرائي، فكلمات مثل “Broad, chick” كانت هي الموازي الأنثوي لكلمات مثل يا فتى أو يا صاح أو يا زميل، ” guy, fellow, dude”، فقد تم إلصاق المعنى السلبي بالألفاظ من قبل الناشطين أنفسهم، بل حتى وصل تمادي بعض ناشطي حقوق الحيوان إلى إلغاء كلمة “حيوان أليف” والإصرار على استبدالها بـ “الرفيق الحيواني”، ووصل جنون الارتياب إلى حد بعيد مع علماء الأنثروبولوجيا اليساريين، فهم يتجنبون قول أي لفظ مشكوك في حمله معنى سلبي عن الشعوب البدائية، إنهم يريدون استبدال كلمة “بدائي” بكلمة “ليس لها لغة مكتوبة-nonliterate”، يبدو أنهم مصابون بجنون الشك نحو أي شيء يصور الثقافات البدائية أقل شأنًا من حضارتنا (نحن لا نعني أن الشعوب البدائية أقل شأنًا من حضارتنا، بل فقط نشير إلى الحساسية المفرطة لعلماء الأنثروبولوجيا اليسارين).
الأشخاص الأكثر حساسية تجاه المصطلحات “غير الصائبة سياسيًا” ليسوا السود المنعزلين مجتمعيًا، أو المهاجرين الأسيويين، المرأة، أو الأشخاص المعاقين، لكن أقلية من النشطاء لا ينتمون حتى للمجموعة “المضطهدة” بل ينتمون للطبقة ذات الامتيازات في المجتمع، فتمتلك الصوابية السياسية مساحة كبيرة بين أساتذة الجامعات، ممن يمتلكون عملًا ثابتًا بمرتّبات مريحة، غالبيتهم من البيض المغايرون جنسيًا المنتمون للطبقة الوسطى المتوسطة والعليا.
يشعر العديد من اليسارين بالتطابق التام بين هويتهم والمجموعات اللائي تعطي انطباع بالضعف (المرأة)، الانهزامية (الهنود الحمر)، والتنفير (المثليين) أو أي شعور بالدونية. يشعر اليساريون أنفسهم بدونية هذه المجموعات، لكن لن يعترفوا أبدًا لنفسهم بتلك المشاعر، وكونهم يرون تلك المجموعات أدنى من غيرها هو تحديدًا ما يجعلهم يشعرون بالألفة لمشكلاتهم، (نحن لا نعني أن الهنود الحمر أو المرأة إلخ أقل شأنًا من غيرهم، فنحن فقط نتحدث عن سيكولوجية اليسار).
تحرص النسويات بشدة على إثبات أن المرأة قوية وقادرة مثل الرجال، لدرجة أنه من الواضح أن الخوف من احتمالية كون المرأة ليست بقوة الرجل وقدرته يقضّ مضاجعهم.
يميل اليساريون إلى كراهية أي شيء يملك شكلًا من القوة أو النجاح، فهم يكرهون أمريكا، يكرهون الحضارة الغربية، يكرهون الرجل الأبيض، ويكرهون المنطق والعقلانية، والواضح كالشمس أن الأسباب التي تدفع اليسارين لكره الغرب وما إلى ذلك، تختلف وتغطي دوافعهم الحقيقية، فيقولون أنهم يكرهون الغرب لأنه حربي، استعماري، متحيز جنسيًا، وعنصري وهكذا، ولكن حين ظهور نفس الأخطاء في المجتمعات الاشتراكية أو البدائية فهو يختلق الأعذار لهم، وفي أفضل حال يعترف بوجودها على مضض، بينما يشير بأصبعه بسعادة (وغالبًا مع التهويل) على نفس الأخطاء في الحضارة الغربية، وبالتالي يصبح من الجلي أن تلك الأخطاء ليست السبب الحقيقي لكره اليسار لأمريكا والغرب، لكن السبب الحقيقي هو كون أمريكا والغرب أقوياء وناجحين.
ومن الكلمات ذات الحضور الضئيل في قواميس اليساريين والليبراليين “الثقة بالنفس”، “الاعتماد على الذات”، “روح المبادرة”، “الجرأة”، “التفاؤل” وما إلى ذلك، فاليساري هو شخص كاره للفردية، مؤيد لفكرة القطيع، ويريد من المجتمع أن يحل مشكلات الجميع نيابة عنه، وأن يلبي رغبات الجميع بدلاً منه، ويهتم بهم، لأنه شخص لا يمتلك ثقة في قدرته على حل مشكلاته الخاصة، أو تلبية احتياجاته الخاصة، وهكذا يعادي اليسار مفهوم المنافسة، لأنه بداخله يشعر بكونه شخص فاشل.
يميل اليسار لأشكال معينة من الفن تركز على البذاءة، الهزيمة واليأس، وإن لم تكن مما سبق، اتخذت شكل من المجون، فتهمل العقلانية وكأنه لا سبيل لتحقيق أي شيء خلال الحسابات المنطقية ولا جدوى سوى أن تغمر نفسك بضجيج اللحظة.
يميل الفلاسفة اليساريون الحديثون إلى تجاهل العقل والعلم والواقع الموضوعي والإصرار على أن كل شيء نسبي ثقافيًا، صحيح أنه يمكنك طرح أسئلة جدية حول أسس المعرفة العلمية وعن كيفية تعريف الواقع الموضوعي –إن وجد-، لكن الواضح أن الفلاسفة اليساريين الحديثين ليسوا مناطقة عقلانيون يحللون مؤسسة المعرفة بمنهجية، بالعكس، فهم منغمسون حتى رأسهم في مهاجمة الحقيقة والواقع، وينبع هجومهم على تلك المفاهيم من حاجة نفسية؛ فمن جانب هو مخرج لحقدهم، ومن الآخر إرضاءً لعطشهم إلى القوة، والسبب الأكثر أهمية لكره اليسار للعلم والعقلانية كون العلم والعقلانية يصنفون المعتقدات لحقيقية (ناجحة ومتفوقة وما إلى ذلك)، وأخرى زائفة (فاشلة ودونية وما إلى ذلك)، فتوغل مشاعر الدونية والنقص بعمق في نفس اليساري تجعله لا يستطيع التسامح مع أي تفريق بين الأشياء وتصنيف بعضها كناجح ومتفوق وبعضها الآخر كفاشل ومتدني، وهذا أيضًا يشرح سر بُغض اليساريون لمفهوم المرض العقلي وإنكار فائدة اختبارات الذكاء، ويعادي اليساريون التفسير الجيني لسلوك البشر وقدراتهم، لأن مثل هذا التفسير يجعل بعض الأشخاص متفوقين بالطبيعة وآخرين أقل مكانة، فيميل اليساريون إلى منح المجتمع الشكر أو النقد على تفوق الفرد أو فشله، فإذا كان الشخص فاشلًا فهذا ليس خطأه بل خطأ المجتمع لأنه فشل في تربيته على النحو الملائم.
عادةً لن تجد اليساري هو الشخص الذي يدفعه شعوره بالدونية للتبجح، الغرور، التنمر، ترويج الذات أو يجعله منافس لا يرحم، فهذا النوع من الأشخاص لم يفقد الأمل والإيمان في نفسه بعد، فعلى الرغم من افتقاده للثقة في النفس ووهن شعوره بالقوة، إلا أنه ما زال قادرًا على تخيل نفسه قوي، ومحاولته لجعل نفسه قويًا هي ما ينتج سلوكه غير المستحب، لكن يقع اليسار بعيدًا جدًا عن تلك الشخصية، فإحساسه بالدونية ضاربٌ بجذوره في عمق نفسه بحيث لا يستطيع تصور نفسه في موضع قوة أو قيمة بشكل فردي، وهكذا تنتج الجماعية اليسارية، فشعوره بالقوة يأتي فقط من شعوره بالانتماء لمنظمة كبيرة أو جماعة يعرف هويته من خلالها.
لاحظ الميول الماسوشية للأساليب اليسارية، فهم يتظاهرون من خلال الاستلقاء أمام السيارات، يتعمدون استفزاز الشرطة والعنصريين لدفعهم لإيذائهم وما إلى ذلك، تلك الأساليب قد تكون فعالة أحيانًا، لكن لا يستخدمها اليساريون كوسيلة لتحقيق غاية، بل فقط لأنهم يفضلون الأساليب الماسوشية، فكُره الذات هو سمة يسارية.
قد يدعي اليساري أن نشاطه مدفوع بالشفقة والمبادئ الأخلاقية، وتلعب المبادئ الأخلاقية دورًا ليسار “التنشئة الاجتماعية المفرطة”، لكن الشفقة والمبادئ الأخلاقية مستحيل أن تكون الدافع الأساسي لشخصية اليساري، فالعدائية عنصر بارز جدًا في سلوك اليساري، وكذلك التعطش إلى السلطة، وعلاوة على ذلك فإن اليساري لا يعتمد أصلاً على الحسابات العقلية لتكون تصرفاته موجهة في صالح هؤلاء ممن يدعي مساعدتهم. فمثلاً إذا اعتقد شخصٌ ما أن التمييز الإيجابي مفيد للسود، فهل من العقل المطالبة بالتمييز الإيجابي بأساليب عدائية ومصطلحات دوجمائية؟ المنطقي هو اللجوء للأساليب الدبلوماسية والنهج التوفيقية التي تغري البيض بالتنازلات الرمزية واللفظية التي تعني التمييز ضدهم أنفسهم.
لكن اليساري لن يستخدم تلك الطرق لأنها لا تفي باحتياجاته العاطفية، وبالتالي فإن مساعدة السود ليس هدفهم الحقيقي، بل مجرد زريعة ليعبروا عن عدائيتهم وتعطشهم للسلطة، والنتيجة الواقعية لهذا هو إيذاء السود، لأن تصرفات النشطاء العدائية تجاه الأغلبية البيضاء تعمل على تكثيف الكراهية العرقية.
ولو كان مجتمعنا لا يعاني من مشاكل اجتماعية إطلاقًا لكان على اليساريين اختلاق مشاكل اجتماعية جديدة تبرر وجودهم وتمدهم بالأعذار لإحداث ضجة.
أؤكد أن ما سبق ذكره ليس وصف دقيق لكل شخص ينتمي لليسار، بل هو مقاربة للاتجاه العام لليسارية.
التنشئة الاجتماعية المفرطة (OVER SOCIALIZATION)
يستخدم علماء النفس مصطلح (التنشئة الاجتماعية-socialization) لتسمية عملية تدريب الأطفال على التفكير والتصرف بناءً على متطلبات المجتمع، فيقال عن الشخص اجتماعي إن كان يؤمن بالقانون الأخلاقي لمجتمعه ويطيعه، ويلائم وظيفته كترسٍ عاملٍ من هذا المجتمع، ستكون حماقة إن قلت إن اليساري “منشأ اجتماعيًا بإفراط-over-socialized”، خصوصًا أنه يسمي نفسه ثائرًا ومتمردًا، ومع ذلك يمكننا الدفاع عن وجهة النظر تلك، فالعديد من اليساريين ليسوا متمردين كما يصدرون لأنفسهم.
لا يمكن لأحد أن يفكر ويتصرف ويشعر بطريقة أخلاقية صرف، لأن قانوننا الاجتماعي متطلب وشاق، فعلى سبيل المثال أخلاقيًا لا يجب عليك أن تكره أي شخص، ولكن يكره كل شخصٍ شخصًا ما من وقتٍ لآخر، سواء اعترف لنفسه بذلك أو لا. بعض الناس تم تنشئتهم اجتماعيًا أكثر من اللازم لدرجة أن مجرد محاولة التفكير، أو الشعور أو التصرف بأخلاقية تضعهم تحت ضغط هائل، فيعمدون إلى خداع أنفسهم على المدى الطويل ومحاولة إيجاد دوافع ومبررات أخلاقية لتصرفاتهم غير أخلاقية الأصل لتجنب الشعور بالذنب، وهكذا نستخدم مصطلح “منشأ اجتماعيًا بإفراط” لوصف أمثال هؤلاء.
يمكن أن يؤدي “فرط التنشئة الاجتماعية” إلى إحساس بالدونية، والعجز، والانهزامية، والذنب وما إلى ذلك، يُعد الشعور بالذنب أحد أهم الطرق التي يستخدمها مجتمعنا لتنشئة الأطفال اجتماعيًا، عن طريق دفعهم للشعور بالذنب والخجل من تصرفاتهم وأقوالهم المضادة لقيم المجتمع، إذا تم هذا بطريقة مبالغ فيها، أو كان طفل معين هش من ذاك الجانب سينتهي به المطاف للشعور بالخجل من نفسه، وبينما تقيد أخلاق المجتمع تمامًا مشاعر وأفكار “المنشأ اجتماعيًا بإفراط”، هناك الشخص خفيف التنشئة الاجتماعية. ينخرط معظم الناس في نشاطات مشاغبة، فهم يكذبون، يرتكبون السرقات التافهة، يخرقون قوانين المرور، يكرهون شخصًا ما، يتفوهون بألفاظ لاذعة، يستخدمون الحيل للوصول لمبغاهم أو التقرب لشخصٍ ما، لكن لا يستطيع الشخص “المنشأ اجتماعيًا بإفراط” ارتكاب تلك الجرائم، وإن ارتكبها يتولد عنده شعور عميق بالعار وكره الذات، إنه حتى لا يستطيع التفكير أو الشعور بمشاعر غير مقبولة اجتماعيًا دون الشعور بالذنب، ولا يمكنه التفكير في أفكار شائنة.
ولا تقتصر فقط التنشئة الاجتماعية على الأخلاقيات، لكنها تمتد لتصل إلى العديد من معايير السلوك التي لا تقع تحت تصنيف الأخلاق. وهكذا يظل الشخص المنشأ اجتماعيًا بإفراط تحت أغلال العقدة النفسية، مقضيًا باقِ حياته على قضبان رسمها له المجتمع مسبقًا، وتدفع التنشئة الاجتماعية المفرطة العديد من الناس للشعور بالتقييد والعجز مما يؤدي إلى صعوبات كثيرة في حياتهم، ولهذا نظن أن فرط التنشئة الاجتماعية هي أقسى الأفعال وأكثرها خطورةً مما يرتكبه الإنسان في حق الإنسان.
وندعي أن جزءًا مهمًا ومؤثرًا من اليسار الحديث ضحية للإفراط في التنشئة الاجتماعية، وهذا الإفراط عامل مؤثر وحاسم في تحديد اتجاه اليسار الحديث، يميل اليساريون المنشئون اجتماعيًا بإفراط أن يكونوا مثقفين وأعضاء من الطبقة الوسطى العليا، لاحظ أن المثقفين الجامعيين يمثلون الشريحة الأكثر اجتماعية في مجتمعنا وكذلك الأكثر يسارية.
ويحاول اليساري من النوع المنشأ اجتماعيًا بإفراط إلى التخلص من قيوده وتأكيد فرديته عن طريق التمرد، ولكنه عادةً ليس قويًا كفاية للتمرد على أبسط قيم المجتمع، فبوجهٍ عام لا تتعارض أهداف اليسار الحديثة مع الأخلاق المقبولة، بل بالعكس، يتخذ اليسار مبدأً أخلاقيًا مقبولاً، يتبناه كأنه من صنعه الخاص، ثم يتهم باقِ المجتمع بانتهاك تلك المبادئ، مثل: المساواة العرقية، المساواة الجنسية، مساعدة الفقراء، السلام كبديل للحرب، اللاعنف في العموم، حرية التعبير، العطف على الحيوان. بشكل جوهري أكثر، يجب على الفرد أن يخدم المجتمع وعلى المجتمع أن يعتني بالفرد، وتلك القيم بالأصل ضاربة بجذورها عميقًا في مجتمعنا منذ فترة طويلة، على الأقل في طبقته الوسطى والعليا، ويتم التعبير عن هذه القيم جهرًا وضمنًا وكمسلمات في معظم المواد المقدمة إلينا في وسائط الإعلام أو النظام التعليمي، ولذلك عادة لا يثور اليساريين ضد تلك المبادئ، خصوصًا المنشؤون اجتماعيًا بإفراط، بل يبررون عداءهم تجاه المجتمع عن طريق ادّعاء -على درجة ما من الصحة- أن المجتمع لا يرقى لتلك المبادئ.
وهاكم مثال يوضح تعلق اليساري المنشأ اجتماعيًا بإفراط بالعرف المجتمعي الذي يدعي تمرده عليه، يدعوا العديد من اليساريين إلى الحراك الإيجابي تجاه السود، فيدفعونهم دفعًا إلى العمل بوظائف مرموقة، والمطالبة بإمداد مدارسهم بمزيد من المال لزيادة الجودة التعليمية، ويحتقرون أسلوب حياة السود من الطبقات الدنيا كعار وخزي اجتماعي، فيعملون جاهدين على دمج الرجل الأسود بالنظام، وتحويله لمدير تنفيذي، محامٍ، وعالم مثل الطبقة المتوسطة العليا من البيض، وسيرد اليساريون أن آخر ما يريدونه هو تحويل الرجل الأسود لنسخة من الرجل الأبيض، بل هدفهم هو الحفاظ على الثقافة الأفروأمريكية، ولكن كيف يحافظون على الثقافة الأفروأمريكية من وجهة نظرهم؟ فهي لا تكاد تحتوي على شيء أكثر من تناول الطعام على طريقة السود، سماع أنواع موسيقى السود، ارتداء الملابس على طراز السود، والذهاب إلى كنيسة أو مسجد على الطراز الأسود.
بعبارة أخرى؛ يمكن للثقافة السوداء أن تعبر عن نفسها فقط بالطرق السطحية، بينما في النواحي الأكثر جوهرية يريد اليساري المنشأ اجتماعيًا بإفراط أن يحول الرجل الأسود لنسخة من الرجل الأبيض المنتمي للطبقة الوسطى، وإجباره على دراسة المواد التقنية، ودفعه ليصبح مديرًا تنفيذيًا لشركة ما أو عالمًا، يقضي باقِ حياته في محاولة تسلق السلم الاجتماعي لإثبات أنه بنفس إفادة الرجل الأبيض، يريدوا من الآباء السود أن يكونوا مسؤولين، وأن تنتهج العصابات السوداء سياسة اللاعنف، إلخ. لكن تلك هي تمامًا قيم المجتمع الصناعي التكنولوجي، فلا يهتم النظام بنوعك الموسيقي المفضل، أو طراز ملابسك، أو دينك، طالما تدرس في مدارسه، وتعمل بوظائفه، وتسعى لتسلق السلم الوظيفي، وتمثل نموذج الأب المسؤول، وتبعد عن العنف وما إلى ذلك، وهكذا فإن اليساري المنشأ اجتماعيًا بإفراط يحاول إجبار الرجل الأسود على الانخراط في نظامه وتبني قيمه مهما حاول إنكار ذلك.
ولا ندّعي طبعًا أن اليساريين، حتى من النوع المنشأ اجتماعيًا بإفراط، لا يتمردون على قيم المجتمع الأساسية، فمن الواضح أنهم وفي بعض الأحيان يتمردون ويتمادون لدرجة الانقلاب على أكثر القيم الجوهرية للمجتمع المتمثلة في اللاعنف عن طريق الانخراط في أعمال شغب عنيفة، لكن يبررون هذا العنف بأنه شكل من أشكال التحرير، وبعبارة أخرى فارتكاب العنف يخرق أحد القيود الاجتماعية المدربين عليها، ولأنهم منشأين اجتماعيًا بإفراط، فتلك القيود تحدهم أكثر من الآخرين، وبالتالي تزداد رغبتهم للانعتاق منها أكثر من الآخرين، لكنهم يبررون عادةً تمردهم عن طريق تلك القيم، فمثلاً يبررون عنفهم بأنه صراع ضد العنصرية وما شابه.
يوجد العديد من الاعتراضات يمكن أن تثار ضد النموذج المصغر السابق لسيكولوجية اليسار، لأن الوضع الحقيقي أكثر تعقيدًا، وأي شيء يقترب حتى من الوصف الكامل سوف يتطلب العديد من المجلدات حتى لو كانت البيانات الضرورية متوفرة، لكن نحن لا ندّعي أن ما سبق يمثل أكثر من إشارات إلى الاتجاهين الأكثر أهمية في سيكولوجية اليسار الحديث.
تمثل مشاكل اليسار مجرد مؤشر على مشاكل مجتمعنا ككل، فلا يقتصر تدني احترام الذات، الاكتئاب، والانهزامية على اليسار، فبالرغم أنها أكثر وضوحًا به، إلا أنها منتشرة في مجتمعنا، ويحاول مجتمع اليوم أن يُنشئنا اجتماعيُا أكثر من أي مجتمع سابق، لدرجة أن الخبراء يحددون لنا كيف نأكل، كيف نتمرن، كيف نمارس الحب، كيف نربي أولادنا وما إلى ذلك.
النهج إلى السلطة
يحتاج البشر دائمًا إلى شيء سنسميه “النهج إلى السلطة” –ربما يكون له أصل بيولوجي–، وهو يقرب بشكل ما إلى المصطلح المنتشر “الحاجة إلى السلطة” إلا أنهما ليسا نفس الشيء؛ يتكون “النهج إلى السلطة” من أربعة عناصر، ثلاثة منهم سهل التعرف عليهم وهم: الهدف، والمجهود، وبلوغ الهدف، فيحتاج الجميع إلى أهداف والتي في سبيل تحقيقها ينبغي عليهم بذل مجهود، وفي حاجة ماسة أيضًا إلى النجاح في بلوغ بعض تلك الأهداف، أما العنصر الرابع فيصعب تعريفه بالإضافة إلى هامشية الحاجة إليه لأغلب الناس، وهو الاستقلال، وسنناقشه فيما بعد.
تخيل معي التجربة الافتراضية تلك: رجل يستطيع الحصول على كل ما يبتغي بمجرد التمني، ستجد أنه رغم امتلاك هذا الرجل للسلطة، إلا أنه سيعاني من مشاكل نفسية خطيرة، سيمرح كثيرًا في البداية بالطبع، لكن بعد ذلك ومع مرور الوقت سيصاب بالملل والفتور، وقد يصاب نتيجة لهذا بالاكتئاب السريرين ويدلل التاريخ على صحة هذا، حيث أنه وبعكس الأرستقراطيات المكافحة التي يتوجب عليها النضال دائمًا للحفاظ على سلطتها؛ نرى الأرستقراطيات المرفهة دائمًا ما تميل إلى التفسخ، فكونها في أمان دائم بلا حاجة لبذل جهد ينتهي بها الحال بالغرق في مستنقع الملل واللذة الحسية وفتور الهمم، رغم امتلاكهم للسلطة، ويوضح هذا أن السلطة ليست كافية، بل ينبغي على المرء امتلاك أهداف يسعى إليها لتشحذ همته.
يسعى الجميع إلى هدف أساسي –بجانب الأهداف الأخرى– وهو تأمين أساسيات الحياة من مأكل ومشرب، وملبس وملجأ يناسب مناخ بيئته، ومن هنا يأتي فتور وملل الطبقة الأرستقراطية المرفهة، حيث يمتلكون كل تلك الأشياء بلا مجهود.
يؤدي الفشل ببلوغ الأهداف إلى الموت إن كانت تلك الأهداف ضرورات مادية، بينما يؤدي إلى الغضب إن كانت مكملة لضروريات البقاء على قيد الحياة، وإن كان هذا الفشل في بلوغ الأهداف مستمر سيؤدي في نهاية المطاف إلى الانْهِزَامِيّة وتدني الثقة بالذات والاكتئاب.
ومن ثم يحتاج الإنسان إلى هدف يتطلب مجهودًا لبلوغه، وكذلك يجب أن يكون معدّل نجاح تحقيقه لتلك الأهداف معقول، لتجنب الأمراض النفسية الخطيرة.
ماهية المجتمع الصناعي ومستقبله
مثلت الثورة الصناعية كارثة للجنس البشري، فبالرغم من مساهمتها في زيادة متوسط العمر المتوقع في البلاد المتقدمة، إلا أن المجتمع الصناعي زعزع استقرار المجتمع!
elmahatta.com