نقلت الفضائيات مشهداً بالغ البساطة لكنه يدمى القلب، لصبية غزاوية ترنو صوب قطة كانت تقتنيها وهى تقفز فوق الحوائط المدمرة، التى كانت ذات يومٍ منزلاً يضم الأهل والأحبة، ويشع الدفء والأمان.
فى مشاهد أخرى كانت هناك سيدات ثكالى ينتحبن أمام جثث مغطاة لزوج أو ابن أو شقيق أو أب، وأخريات يبحثن بلوعة عن غائبين انقطعت أخبارهم، بينما كان «أبوالعبد» يطل عبر شاشة «الأقصى» متورد الخدين ليزف إلى الأمة ـ لا أعرف بالضبط أى أمة يقصدها ـ نبأ النصر المبين، وتعود لصدارة نشرات الأخبار مشاهد الغلمان الملثمين وهم يعلنون بطريقة سينمائية الانتصار فى غزوة غزة.
والعم أبومازن انتصر أيضاً، فقد أثبت للقاصى والدانى ألا سلام من دون فتح، ولا حرب إلا من جانب حماس، وأنه لم يزل قابضاً على «مفاتيح الشرعية»، وأنه «باق.. باق.. باق» رغم الداء والأعداء والانتخابات والمؤامرات والمؤتمرات والانقلابات.
فى شاشات أخرى، كان الساسة الإسرائيليون يعلنون بثقة أنهم انتصروا، وحققوا الأهداف المنشودة، وأن رسالة صارمة وصلت لحماس ومن يدعمها، مفادها أن إسرائيل لن تقف عاجزة حيال العبث بأمن مواطنيها ومستوطنيها.
أما فى الشاشات الخليجية والمصرية والشامية فقد كان الملوك والرؤساء يجلسون معاً فى «لقاء مصالحة»، كأنهم هم الذين كانوا يتقاتلون، وفجأة انطلقت زغاريد النصر فى الكويت مبشّرة بانطلاق عهد جديد، لكن «يا فرحة ما تمت»، لم تمض ساعات حتى تجددت الخلافات وغاب ملك ورئيس وأمير عن الجلسة الختامية.
مراسلو الفضائيات فى غزة خلعوا القمصان الواقية، وعادوا للملابس الأنيقة، وبدت وجوههم تشى بأنهم نالوا أخيراً قسطاً كافياً من النوم، تبدو آثاره واضحة على عيونهم التى أنهكتها مشاهد الخراب والضحايا.
الجميع انتصروا فى واحدة من أكثر الحروب غرابة، فحركة حماس أعلنت أنها انتصرت، وكان همها الأول أن تنشر عناصر قوتها التنفيذية فى الشوارع لتثبت للجميع أنها لم تزل قابضة على زمام الأمور فى القطاع الذى يعيش ثمانون بالمائة من سكانه على المعونات الدولية.
وإسرائيل انتصرت، وتحدث قادتها بغطرسة عن استعادة «قوة الردع الإستراتيجى» لجيشها، وأنها فرضت واقعاً جديداً، فلم تعد هى وحدها التى تحاصر غزة، بل أصبحت الولايات المتحدة وأوروبا وبلدان أخرى فى المنطقة شركاء لها فى ملاحقة «الإرهاب الحمساوى».
وسورية وحليفتها إيران أعلنتا أيضاً الانتصار، بعد أن أوصلتا للغرب والشرق رسالة مفادها أن بوسعهما إشعال الحرائق وإطفاءها فى المنطقة، وبالتالى فإن توريطهما فى مواجهات عسكرية محتملة هو اللعب بالنار الذى ينبغى على الجميع أن يحترسوا منه.
ومصر أيضاً انتصرت، وأثبتت أنها الدولة العربية الوحيدة التى استجابت إسرائيل لدعوة رئيسها، والقادرة على حشد جميع قادة أوروبا والدول الكبرى فى الشرق الأوسط، ليحتضنهم منتجع «شرم الشيخ» الرئاسى.
كما أنه ليس بوسعنا إنكار انتصار السعودية، فقد أكد عاهلها عملياً ومعملياً أن «الكبير.. كبير»، وأنه «على قدر أهل العزم تأتى العزائم»، وأن منحة المليار دولار ليست سوى دفعة أولى من «نهر الخير» الذى سيعيد الخضرة لضواحى غزة، بدلاً من الأنقاض والجثث.
حتى قطر انتصرت، إذ أثبتت عبر مؤتمر الدوحة وفضائية «الجزيرة» وأدوار الكواليس، أنها ليست مجرد «نتوء جغرافى» مهمل على خارطة المنطقة، بل هى التى حركت ركود الآخرين، وأجبرت ما يسمى «معسكر الاعتدال» على التحرك، خشية انحسار الأضواء ومواجهة اتهامات بالتواطؤ والتقاعس.
وأخيراً انتصرت واشنطن، فعلى الرغم من مرورها بلحظة تاريخية، يدخل فيها أول رئيس أسود للمكتب البيضاوى، فقد استطاعت أن تواصل دعمها الإستراتيجى لإسرائيل، وتحافظ على تماسك حلفائها بالمنطقة دون حدوث شروخ تؤثر على مصالحها.
إنها حرب عجيبة انتصر فيها الجميع، باستثناء الغزاوية المساكين الذين فقدوا حياتهم أو أحبتهم، لكن يبدو أنها لم تكن كافية ليكفّ مشعل وإخوانه عن مغامراتهم الخرقاء، ويتصرفوا بروح تدرك حجم المسؤولية عن الشعوب، أو يتخلوا عنها بسلام.
نقلا عن نبيل شرف الدين
جريدة المصرى اليوم
فى مشاهد أخرى كانت هناك سيدات ثكالى ينتحبن أمام جثث مغطاة لزوج أو ابن أو شقيق أو أب، وأخريات يبحثن بلوعة عن غائبين انقطعت أخبارهم، بينما كان «أبوالعبد» يطل عبر شاشة «الأقصى» متورد الخدين ليزف إلى الأمة ـ لا أعرف بالضبط أى أمة يقصدها ـ نبأ النصر المبين، وتعود لصدارة نشرات الأخبار مشاهد الغلمان الملثمين وهم يعلنون بطريقة سينمائية الانتصار فى غزوة غزة.
والعم أبومازن انتصر أيضاً، فقد أثبت للقاصى والدانى ألا سلام من دون فتح، ولا حرب إلا من جانب حماس، وأنه لم يزل قابضاً على «مفاتيح الشرعية»، وأنه «باق.. باق.. باق» رغم الداء والأعداء والانتخابات والمؤامرات والمؤتمرات والانقلابات.
فى شاشات أخرى، كان الساسة الإسرائيليون يعلنون بثقة أنهم انتصروا، وحققوا الأهداف المنشودة، وأن رسالة صارمة وصلت لحماس ومن يدعمها، مفادها أن إسرائيل لن تقف عاجزة حيال العبث بأمن مواطنيها ومستوطنيها.
أما فى الشاشات الخليجية والمصرية والشامية فقد كان الملوك والرؤساء يجلسون معاً فى «لقاء مصالحة»، كأنهم هم الذين كانوا يتقاتلون، وفجأة انطلقت زغاريد النصر فى الكويت مبشّرة بانطلاق عهد جديد، لكن «يا فرحة ما تمت»، لم تمض ساعات حتى تجددت الخلافات وغاب ملك ورئيس وأمير عن الجلسة الختامية.
مراسلو الفضائيات فى غزة خلعوا القمصان الواقية، وعادوا للملابس الأنيقة، وبدت وجوههم تشى بأنهم نالوا أخيراً قسطاً كافياً من النوم، تبدو آثاره واضحة على عيونهم التى أنهكتها مشاهد الخراب والضحايا.
الجميع انتصروا فى واحدة من أكثر الحروب غرابة، فحركة حماس أعلنت أنها انتصرت، وكان همها الأول أن تنشر عناصر قوتها التنفيذية فى الشوارع لتثبت للجميع أنها لم تزل قابضة على زمام الأمور فى القطاع الذى يعيش ثمانون بالمائة من سكانه على المعونات الدولية.
وإسرائيل انتصرت، وتحدث قادتها بغطرسة عن استعادة «قوة الردع الإستراتيجى» لجيشها، وأنها فرضت واقعاً جديداً، فلم تعد هى وحدها التى تحاصر غزة، بل أصبحت الولايات المتحدة وأوروبا وبلدان أخرى فى المنطقة شركاء لها فى ملاحقة «الإرهاب الحمساوى».
وسورية وحليفتها إيران أعلنتا أيضاً الانتصار، بعد أن أوصلتا للغرب والشرق رسالة مفادها أن بوسعهما إشعال الحرائق وإطفاءها فى المنطقة، وبالتالى فإن توريطهما فى مواجهات عسكرية محتملة هو اللعب بالنار الذى ينبغى على الجميع أن يحترسوا منه.
ومصر أيضاً انتصرت، وأثبتت أنها الدولة العربية الوحيدة التى استجابت إسرائيل لدعوة رئيسها، والقادرة على حشد جميع قادة أوروبا والدول الكبرى فى الشرق الأوسط، ليحتضنهم منتجع «شرم الشيخ» الرئاسى.
كما أنه ليس بوسعنا إنكار انتصار السعودية، فقد أكد عاهلها عملياً ومعملياً أن «الكبير.. كبير»، وأنه «على قدر أهل العزم تأتى العزائم»، وأن منحة المليار دولار ليست سوى دفعة أولى من «نهر الخير» الذى سيعيد الخضرة لضواحى غزة، بدلاً من الأنقاض والجثث.
حتى قطر انتصرت، إذ أثبتت عبر مؤتمر الدوحة وفضائية «الجزيرة» وأدوار الكواليس، أنها ليست مجرد «نتوء جغرافى» مهمل على خارطة المنطقة، بل هى التى حركت ركود الآخرين، وأجبرت ما يسمى «معسكر الاعتدال» على التحرك، خشية انحسار الأضواء ومواجهة اتهامات بالتواطؤ والتقاعس.
وأخيراً انتصرت واشنطن، فعلى الرغم من مرورها بلحظة تاريخية، يدخل فيها أول رئيس أسود للمكتب البيضاوى، فقد استطاعت أن تواصل دعمها الإستراتيجى لإسرائيل، وتحافظ على تماسك حلفائها بالمنطقة دون حدوث شروخ تؤثر على مصالحها.
إنها حرب عجيبة انتصر فيها الجميع، باستثناء الغزاوية المساكين الذين فقدوا حياتهم أو أحبتهم، لكن يبدو أنها لم تكن كافية ليكفّ مشعل وإخوانه عن مغامراتهم الخرقاء، ويتصرفوا بروح تدرك حجم المسؤولية عن الشعوب، أو يتخلوا عنها بسلام.
نقلا عن نبيل شرف الدين
جريدة المصرى اليوم