"قــولكم إن من كــان قبلنا من الدول الطنــانة لم تطمح أبصارهم لـذلك ، فاعلمـاو ان المرابطين صرفـوا عنايتهم لـغزو الأندلـس .. و الموحدين اقتفـوا سبيلـهم في ذلـك و زادوا حرب بني غــانيـة ، و المرينيين كانت غالـب وقائعهم مع بني عبد الواد بتلـمسـان .. و أجنـادهم لا تقاوم و لا تدوخ أقطـار السودان ..لأن سلاح الفريقيـن واحـد ، فالـقليل منهم بـكل تقـدير لا يقــاوم الكثير من أمم السودان ، و لا يتــأتى لهم لهم الغلـب عليهم إلا بالاستظهار عليهم بالـعساكر المتناهيـة فخــامة و عدة "
من كتـــابات السلطان ابي العباس أحمد المنصــور الذهبي
لــم يتخــيل الطفل الصغير Diego يومــا ما يـخبؤه له القدر خلف بحر الـميريـة .. فهو سليل أسـرة موريـة تنصرت بالاضطهاد قبل انتفاضة البوشارات ، ولـد الصغير دييغو في منـطقة بالجنوب الأندلسي تدعى كهوف المنصورة في عام ما منتصف القرن 16 جنوب اسبانيا الحالية و في ظروف قاسية عانتها اسرته و كل الأسر الأندلسية ..
لــكن حينما يختار القــديــر احدهم يخفي له الجمال خلف قبح مؤقت و الـمجـد خلف المعاناة .. سيأسر دييـغو من قبل قراصنـة مغاربة بعد احدى غاراتهم على سواحل الأندلس الجنوبية و يــفقد هذه المرة دفئ عائلتـه و روح ألميريـة الى الأبد .. سيقتــاد الصبي الى البلاط السعدي .. حيث سيــنشأ نشأة عسكريـة و عقائديـة صارمة و سيسمى جودار .. سيرتقي جودار سريعا داخل الجيش المغربي الى جانب الكثير من الضباط أندلسيي المــولد ..ليشارك في معركــة الملوك الثلاثة عام 1578 م حيث سيسطع نجمـه ، خصوصا بعد تــأكد ولاءه المطلق للمنصور ، هذا الولاء الذي ذهب النقص فيه بالعديد من القادة الاندلسيين الى سيف الجلاد بعد حملة اعدامات في حقهـم .. سيعينــه المنصــور قائدا عسكريا على اهم مدن الامبراطورية و درة التاج "مـــراكش" عام 1590 م و يصير بكل ثقــة و فــخر جودار باشا ..
لم تكن رغبة حكام المغرب بضم بلاد السودان وليدة نزوات المنصور العــابرة ، فقد كــان هاجس تأمين الطرق التجارية نحو افريقيا السوداء و الاستيلاء على خيراتها المعدنية و استجلاب رقيقها يراود اغلب السلالات المغربية منـذ المرابطيـن ، فبنو مرين دمروا سجلماسة عام 1274 على رؤوس حلفاء بني عبد الواد بالمدافع و اعادوا بناءها و السيطرة عليها ، و توغلوا جنوبا نحو تمادولت رغم مقاومة اهلها الشرسة .. بنو وطاس و رغم اضمحلال قوة المغرب في عهدهم مدوا سلطانهم الى واحة توات في القرن 15 .. و ما يذكره ابن بطوطة حول الدعاء لسلطان المغرب ابي الحسن في تومبوكتو و اعطاءه لقب اميــر المومنين خير دليل على قوة التاثير رغم عدم وصولـه للسيطرة العسكرية المباشرة على تلك الاصقاع ..
أول محاولات التوغل جنوبا في الصحراء جاءت في عهد محمد الشيخ السعدي ، فلم تمنعه مواجهاته مع الأتراك و بقايا الوطاسيين و كذا البرتغاليين على السواحل الغربية من الالتفات نحو اعماق المناطق الصحراوية ، فــكانت حملته على توات و منها الى مناجم ملح تغازى ..لكن الحملة على تغازى لم تنتج سيطرة دائمة فـالحامية المغربية سرعان ما هزمت بفعل غارات الطوارق .. لكن بعد النصر على البرتغال في 1578 تــاقت نفس المنصور الى توسيع نفوذه و اخضاع افريقيا الغربيــة لحكمـه ، فقد كانت مغرياتها لا تقاوم ، كما ان مشروعه كان طموحــأ جدا ، لم يكن اجتياح السودان غــاية في حد ذاتها ، انما وسيلـة لضرب عدة أهداف بـقذيفة مدفع واحدة :
- قطع الطريق على الإيبيريين في التوغل الى عمق افريقيا عبر سواحلها الأطلسية
- قطع الطريق امام الأتراك للجنوب ..فرغم كونهم أمــة قـتال ساحلية إلا ان وصولهم للعمق الافريقي يمثل كابوسا للكيان المغربي
- تكوين ثروة كافيـة لتمويل الجهد الحربي لحلم المنصور بـمحاربة الاسبان في عقر ايبيريـا
بــدا الاعداد الفعلي للحملـة الكبرى بدايات عام 1590 ، معسكر ضخم في قفر على نهر تانسيفت شمال غرب مراكش .. يتدرب فيه الجنود على ركوب القوارب النهرية ، و ينفذون الغارات الوهمية و ينفذ فيه الطبجية الرمايات بالمدفعيـة .. جاء الموعد المنتظر و تحرك الجيش الذي كان قوامه 15 ألف عنصــر من الفرسان رماة البنادق ، الـمشاة و 2000 من الطبجيـة ( المدفعجية ) الى جانب 8 آلاف من الابل و 1500 من الدواب المختلفة تحمل القوارب النهرية و البارود و الذخــائر و المؤونة .. يتــقدمهم جودار باشا في 10 نوفمبر 1590 ..
في 3 يناير 1591 ستصل الحملة الى جنوب درعة و تتأهب للجزء الصعب بعد ان اجتازت الممرات الجبلية الوعرة و المثلجة للأطلس الكبيـر ، ثم تتجه غربا نحو تندوف لتتجاوز الحمــادة القاحلــة الشحيحة الماء على مسافة 180 كلم ، بعدها سيتبع طريق الآبار حتى يصل تاودوني جنوبا لتبدأ اطول مرحلة بعد ذلك حوالي 450 كلم نحو اروان .. من اروان الى تمبوكتــو ضمن أرض الطوارق و متوغلا في نفوذ امبراطور السونغاي الأسكيا حيث سيعسكر في مارس 1591 في ميناء كابارا النهري قرب تومبوكتــو عاصمة السونغاي التجارية و الدينية ..كان جودار باشا يتوخى من تريثه اراحة قواته الى جانب فتح مجال التفوض مع الأسكيا على البيعة دون قتال .. الشيء الذي لم ينجح في الاخيـر ..
تاركا جزءا من قواته في كابارا سيسير جودار باشا لملاقاة قوات الأسكيا قرب العاصمة غــاو لمسافة 130 كلم متبعا نهر النيجر و ناقلا جزءا من مؤنه بالقوارب ، لكنه في الواقع لم يلق مقاومة كبيرة لتحركه ، فــالواضح ان الأسكيا اسحاق اختار خيار التخندق و الانتظار .. الى ان يصل جودار الى مكان يدعى تونــديبي يبعد حوالي 50 كلم عن غــاو .. هناك في مثل هذا اليوم 12 من ابريل عام 1591 سيلتقي الجمعــان ..
30 ألف مقاتل من السونغاي مشاة (حملة اسهم و سيوف ) + خيالة ، ضد ألف فقط من القوات المغربية من رماة البنادق و المشاة .. خلــفهم الـجنرال المدفعجي جودار باشا و بطاريات المدفعية تبيــد خطوط جيش الأسكيا .. و لم تدم المعركة سوى ساعات قليلة حتى خلفت مجزرة في القوات السودانيــة و كتب الظفر لجــودار باشا .. لكن رغم ذلك لم يسارع الى دخول غاو العاصمة بل تـمهل مجددا لافساح المجال للسياسة و لسكان غاو بالهروب او الاستسلام .. غير أنه ليدخل المفاوضات بـقوة كان عليه امتلاك شيء في يده ، و هو ما تم بالفعل حينما دخل المدينـة دون اراقـة دم في 13 مــاي 1591
رغم هزيمة السونغاي و دخول جودار عاصمتهم الا انه بدأ سلسلة مفاوضات للصلح مفادها برجوع الجيش المغربي لمراكش مقابل وضع السونغاي تحت الحماية المغربية و ايفاد الاتاوات لخزينة المنصور ، و بالفعل قد بدا ان هذا ما سيحدث بعد ان عاد جودار الى تومبوكتو منسحبا .. إلا انه سرعان ما عاد لــغاو مجددا بعد ايفاد المنصور حملة امداد اخرى ، و يبدو ان حركة الصلح هذه كانت مراوغة لكسب الوقت ريتما يجهز المغاربة سفنا أكثر لركوب نهر النيجر و تصلهم الامدادات .. بعد ان وصل القائد الجديد الذي عينه المنصور خليفة على غاو ، القائـد محمود باشا ، تم تعيين جودار حاكما عاما على السودان الـمغربي و هو منصب ظل فيــه الى غاية استدعائه عام 1599
جودار باشا لم يعد فارغا فقد جلب معه من النفائس الشيء الكثير و كتب لنفسه اسما خالدا ، فحسب مذكرات أحد الـدبلوماسيين الانجليز فإنه احصى لوحده دخول 30 جمل من الذهب الى مراكش رفقـة جودار باشا ..
سيضم المغاربـة السونغاي تماما في عهد خلفاء غاو محمود باشا و الباشا المنصور و يتوسعوا غربا ليضموا مديــنة دجيني الأستراتيجيـة .. بلغ عدد الجنود المبعوثين في حملة جودار و ما بعدها حوالي 24 ألف ، و خلف محمود باشا قياد آخرون .. اشهرهم الباشا منصور , الفتى عمار بــاشا البرتغالي و الباشا سليــمان ..
أما جودار باشا و بعد رجوعه عام 1599 فقد زج بــه المنصور في حملة عسكرية الى الريـف لإطفاء تمرد مندلـع هناك و بعـد وفاة المنصور بالطاعون عام 1603 و اندلاع حرب الخلافة بين أبناءه من بعده.. سيقاتل جودار باشا الى جانب الأمير زيدان ، و يسقـط منهزما ليــتم أسره و يـعدم في مراكش بحـد السيـف عام 1605 بأمر من المولى عبد الله ابن اخ الأمير زيدان ..
هكذا انتهت حيــاة دييغو الصغير ابن الــميريـة و جنرال المغرب العظيم .. فلترقــد روحك بســلام
All Hail Judar !!!