جنود أمريكيون يهود في العراق
"ستكون التوراة إلى جانبهم بينما يقومون بتحرير شعب آخر. خلال التاريخ اليهودي كانت التوراة دائماً إلى جانبنا. ونحن فخورون بجنودنا الذين يحملون التوراة معهم ويمكنون شعوباً أخرى من العيش بحرية".
جوزف بوتاسنيك، رئيس "مجلس حاخامات نيويورك"
"فوجئت برؤية كل هذه اليهودية في ساحة الحرب".
الملازم أول أبراهام فالكوفيتس
تكتسب مشاركة جنود أمريكيين يهود(1) في القوات الأمريكية أهمية خاصة في الإطار العام للعدوان على العراق من حيث الأهداف المعلنة أو غير المعلنة. فمن وجهة نظر إسرائيلية يعتبر اليهودي إسرائيلياً بالولادة، لهذا يمكن الافتراض أن الجنود الأمريكيين اليهود هم عملياً إسرائيليون شاركوا في العدوان على العراق وغزوه، وإن لم يذكر هذا الانتماء، أو يؤكد، علنياً. ولكن هناك حالات تشير إلى أن الجندي الأمريكي اليهودي كان مقيماً في إسرائيل، أو قضى فيها فترة طويلة، ما يعني أنه إسرائيلي قانونياً، وربما خدم في الجيش الإسرائيلي. مجموعة من الضباط اليهود يعملون كحاخامات لرعاية الجنود اليهود الملتحقين في فرق عسكرية مختلفة. وكان هؤلاء يقيمون قداسات أيام السبت والأعياد، كعيد الفصح، رأس السنة، عيد المظلـة، وعيد الأنوار، التي جاءت بدايتها بعد أسبوع واحد من سقوط بغداد في التاسع من نيسان. وأجريت هذه المراسيم الدينية في قواعد عسكرية في العراق، الكويت، وقاعدة باغرام الأمريكية في أفغانستان، وأحياناً في خيم خاصة نصِّبت لهذا الغرض وفي القصور الرئاسية في بغداد. دعم عدد كبير من المنظمات والجماعات اليهودية في الولايات المتحدة، وخاصة ولاية نيويورك، هذه الاحتفالات الدينية بأشكال مختلفة، كتوفير الحاجات الطقوسية اللازمة والأغذية المناسبة. ويلاحظ التكاتف الذي أبدته هذه المنظمات والجماعات لرعاياها على اختلاف انتماءاتها، ولكن الأهم من ذلك هو أن هذه المنظمات التي تقدم الدعم "المعنوي" للجنود في الأعياد، تقوم بذلك خدمة لأغراض سياسية جوهرها دعم العدوان الأمريكي. هذا الدعم متبادل ويظهر في موقف وزارة الدفاع الأمريكية لتسهيل عمل هذه المنظمات. والكثير من تصريحات رجال الدين اليهود لا تخلو من توجهات عنصرية تنحاز إلى جانب اليهود واليهودية. ولن يخفى على العراقي أو العربي عنصرا الإهانة والتشفي اللذان يشوبان بعض هذه التصريحات، وهو ما يؤكد الطابع الانتقامي للعدوان على العراق بسبب مواقفه القومية تجاه القضية الفلسطينية.
"أيام عصيبة"
قبل بداية العدوان على العراق، انتاب الآباء والأمهات في أمريكا القلق على "المصير المجهول" الذي ينتظر أبناءهم اليهود، فقد التحق الكثير منهم بالخدمة في الجيش الأمريكي بمحض إرادتهم، كمايكل هينكن(2) وكايتس فينلي(3)، اللذين كانا قد وصلا إلى الكويت استعداداً لغزو العراق. فوالد مايكل الحاخام ألان هينكن(4) في إنكينو (كاليفورنيا) لم يكن متحمساً في البداية لالتحاق ابنـه في احتياط الجيش، ولكن الإبن رأى في الخدمة العسكرية "مغامرة وفرصة للتوحد مع رجال ونساء طيبين وأن يخدم بلاده"، ومنذ ذلك الحين اتخذ الأب "موقفاً داعماً" لما عزم ابنه عليه(5).
هذا الحاخام قال أن العائلات تمر بـ "أيام عصيبة"، وهم قلقون على أحبائهم، الذين "سيواجهون قريباً صدام، القائد القاسي، الذي قام بقتل شعبه بالغاز ومئات الآلاف الآخرين في حروب مع إيران والكويت". وقد تكون مشاعر الخوف أكثر حدة بالنسبة لعائلات وزوجات الجنود اليهود، أكثر من غيرهم، بالنظر لـ "عداء صدام الشديد للصهيونية، ويستطيع المرء التكهن بما سيحل بالجنود الأمريكيين اليهود إذا ما وقعوا في الأسر". ولهذا لم تشجع إحدى الضابطات الأمريكيات، أحجمت عن ذكر اسمها، الجنود اليهود على التحدث إلى صحيفة "جويش جورنال" اليهودية.
ولم تكن لدى الحاخام مورديخاي فينلي(6) من لوس أنجلوس، أي هواجس عندما حسم ابنه كايتس أمره فترك الكلية والتحق بالمارينز. فالأب نفسه خدم في المارينز بين الأعوام 1973 و1976، وثمّن هذه التجربة التي "منحته حساً بالهدف والانتظام"، بالرغم من أن زملاء كايتس في الكلية "كانوا في حيرة من أمرهم كيف يقدم شاب يهودي ذكي على سلوك هذا الدرب الخطر". ولكن بالنسبة للحاخام فينلي لا يوجد ما هو أعظم من خدمة الوطن "وخاصة إذا كان الهدف هو نزع أسلحة طاغية عنيف وعدواني كصدام". ومنذ التحاقه بالمارينز عام 2000 عمل كايتس إلى جانب الجنود الكينيين في أفريقيا ورأى العالم، وحصل على منحة حكومية لإكمال دراسته الجامعية(7). وسيحتفل الابن كايتس فيما بعد بعيد الفصح في بغداد، ويتجول بحرية في العراق ويكشف عن هويته الدينية أمام العراقيين بشكل متعمد وبدون أي حرج(8).
كما في إسرائيل
بداية نيسان 2003، وقبل الذهاب إلى العراق، كانت جوانا كوهين(9) من لونغ أيلاند (نيويورك) تتدرب في قاعدة عسكرية لم يكشف عن اسمها في ولاية أيوا. وفي أيوا سيتي تجولت كوهين بزيها العسكري ودخلت أحد المقاهي الجامعية، التي "تعبق بالدخان"، فصرخت بها "مجموعة هوجاء" من الطلاب: "ينبغي أن لا تكوني هنا"، وتقدم منها شباب للاعتراض شخصيـاً على الحرب المزمعة. وتقول كوهين أن أحداً لم يسألها عن رأيها، ولكن هذا لا علاقة لـه بالموضوع، فهي تقوم بواجبها، وتقوم بذلك "مرفوعة الرأس". لكن كوهين تصبح فجأة إسرائيلية: "بالتأكيد أشعر بالكبرياء، وهذا شيء لا يشعر به كل شخص في أمريكا، بخلاف إسرائيل. وفي الحقيقة أعتقد أن على أمريكا أن تلزم كل شخص بالتدريب العسكري بعد الانتهاء من الكلية. إن هذا يفتح الأعين على كيف يسير العالم، ويعلم المسؤولية". الجنود الآخرون كانوا يسألون كوهين عن آرائها السياسية، وخاصة في ضوء الإشارات المستمرة في وسائل الإعلام إلى إسرائيل. فتقول كوهين: "هذا ليس بالأمر السيئ ولكنه يحزنني أحياناً". الجنود الآخرون لا يعرفون الكثير عن إسرائيـل، ولكنهم يعرفون أنها وراء الكثير من المشاكل في الشرق الأوسط. وفي مواجهة هذا الوضع تقول كوهين: "أحياناً أمزح بأنه ربما ينبغي علي تغيير الصفيحة المعدنية التي تحمل اسمي، لأنني سأكون الهدف الأول في العراق. أنا أخشى أن أكون يهوديـة في العراق". وأخيراً تم إرسال كوهين باتجاه العراق، وكذلك الرقيب بينجامين روثمان(10) (نيو جيرسي)، الذي كان متمركزاً في القاعدة نفسها(11).
وجبات عيد الفصح
لم تجر الأمور كما ينبغي بالنسبة للجنود اليهود في الكويت والعراق أثناء عيد الفصح اليهودي، الذي ابتدأ يوم السادس عشر من نيسان 2003، ليس بسبب "المعارك"، التي كان الجيش الأمريكي ما زال يقودها في العراق، بل لأنه لم تكن هناك مؤن غذائية مناسبة وكافية لوجبات عيد الفصح، الذي يمتد إلى ثمانية أيام. فالرائد دافيد روزنر(12) ذكر أن وجبات العشاء ("سيدريم") في الكويـت احتوت على الحد الأدنى من مأكولات الكوشر(13). هذه القضية الحيوية، التي قد تؤثر على سير عملية "الحرية العراقية"، ألزمت جيرولد نادلر(14)، النائب الديموقراطي عن مانهاتن، على التدخل لدى "القوات الجويـة" لإرسال المزيد من الغذاء الكوشر إلى الكويت والعراق. ولكن النائب، بعد حصوله على إجابات متضاربة من تلك القوات و"مجلس الرفاه اليهودي"(15) المسؤول عن تزويد المؤن الغذائية، قرر أن عليه مناقشة هذه القضية لأهميتها القصوى مع دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأمريكي، والجنرال ريتشارد مايرز، رئيس الهيئة المشتركة للأركان الأمريكية. اليهودية ليا دون(16)، إحدى عناصر القوة الجوية في الكويت، لم تعرف على من تضع اللوم للنقص في أغذية الكوشر، وقالت أن المنظمات اليهودية قامت بجمع عشرات الآلاف من الدولارات حتى يقوم "مجلس الرفاه اليهودي" بإرسال مواد غذائية، وتضيف "بهذا المبلغ يمكن شراء الكثير، أين هذا كله؟ ليس لدينا كميات كافية من الغذاء لعيد الفصح ... لم يصلنا أي شيء على الإطلاق". ويقول بروس غرينفيلد(17) "إنه أمر مريع. هناك كل أولئك الناس، الذين اعتقدوا أنهم يشاركون في عمل خيري ("ميتسفاه") في غاية الأهمية وسيصابون بخيبة أمل كبيرة عندما يعلمون أن أغذية عيد الفصح لم تصل إلى هناك". ومهما كان الأمر، فقد تفقد المقدم ميتشل أكرسون(18) (بالتيمور)، الحاخام الأعظم في مسرح العمليات(19)، المؤن اللازمة بعد وصوله إلى الكويت في الأسبوع الأول من نيسان 2003(20)، فوجد أن "السلامي" المرسلة كانت كلها متضررة. وحسب رأيه الشخصي فإن ما هو متوفر من المؤن الغذائية غير كافٍ لوجبة عشاء ("سيدر") واحدة، فكيف سيكون الأمر بالنسبة لبقية الأسبوع؟(21).
"وثنية"
بعد حوالي أسبوع أخذ الحاخام أكرسون يتنقل في جنوب العراق للتحضير لإقامة مراسيم عيد الفصح بين الجنود اليهود، في حيـن كان زميلاه الحاخامان إلسون وهويرتا يتحركان في منطقة غير محددة في الشمال(22). وأثناء وجوده في المنطقة زار الموقع الأثري أور ولم يكن بإمكانه تجنب رؤية "المعبد الوثني" في الموقع، ويقصد المعبد المرتفع المعروف باسم "الزقورة". وفي العادة هو لا يصرف الكثير من الوقت في التفكير بالمعابد الوثنية، على حد تعبيره، ولكن هذا المعبد أثار انتباهه بحجمه الهائل وموقعه المشرف على ما يصفه بأنه "قرية أور ببيوتها المنخفضة، التي لا يتعدى ارتفاعها طابقاً واحداً وطابقين في أفضل الحالات". هذه "القرية" هي أحد أكبر مواقع المدن الأثرية في العالم وأهمها، ولكن أكرسون يتساءل "مندهشاً" كيف خرج إبراهيم من هذا المكان الذي يطل عليه "المعبد الوثني" المهيب؟ وفجأة يجد الجواب، وهو أن إبراهيم استطاع أن يشق طريقه عبر هذا الظلام الوثني مهتدياً بنور التوحيد، ليصل إلى حران، ثم إلى ما يسميه بـ "أرض إسرائيل"، وهو الاسم الذي أعيد إحياؤه بعد أربعة آلاف سنة من الفترة التي يفترض أن إبراهيم عاش فيها. ويفكر الحاخام أن هناك اليوم وثنية من نوع آخر لا تتماشى مع قيم التوراة، كما يقول، وهي: "وثنية المال، السلطة، الجشع والثقافة الشعبية". ولا يحدد أين توجد هذه الوثنية المعاصرة، وإن كان أفضل مكان تتجسد فيه هو البلاد التي جاء منها ويدافع عن قيمها في أكثر من مناسبة. (23)
وربما بالقرب من ذلك "المعبد الوثني"، نصبت خيمة الكنيس للاحتفال بعيد الفصح بالرغم من عاصفة رملية هبت في المكان، ولكن الزوبعة هدأت، لحسن الحظ، قبل البدء بوجبة العشاء (السيدر). حضر إلى الخيمة أربعة عشر جندياً في الليلة الأولى، وعشرين في الليلة الثانية. كانوا خليطاً من الجنود الفعليين، الاحتياط، الضباط، والمنتسبين، وأحدهم كان من صحيفة "النيويورك تايمز". مكونات وجبة عشاء العيد جاءت من متبرعين عديدين: "مجلس الرفاه اليهودي"، "مؤسسة ألف"(24) (فلوريدا)، "أكاديمية سان دييغو العبرية"(25)، "مجلس حاخامات بالتيمور"(26). وتكلم الجميع عن "الحرية، الديموقراطية، والعدالة، وأن هذه هي المثل العليا للشعب اليهودي". وكل واحد من هؤلاء كان يغني بحيوية: "العام القادم في القدس، التي أعيد بناؤها"(27).
"الرب معي، فلا يروعني شيء"
يقول الملازم أول أبراهام فالكوفيتس(28)، الذي كان يحتفل بعيد الفصح في إحدى الخيم في العراق: "فوجئت برؤية كل هذه اليهودية في ساحة الحرب". هذا الاحتفال نظمه الرائد جوناس فوغلهوت، الذي كان يقيـم في البداية قداسات يوم السبت (الشابات) في الكويت(29)، بعد أن خرج من مكانه السري يرافقه رجلا الدين ياكوفاتس(30) وواينيك(31) ليصلوا إلى موقع اسمه "أوبجيكتيف غرادي"(32). وكان في استقبالهم هناك رجل الدين كارلوس هويرتا ومجموعة من عشرة جنود يهود من "الفرقة 101 المحمولة جواً". واشتملت المجموعة على مشاة، طيارين، أطباء، وسائقي سيارات شحن. وأفسحت هذه المناسبة المجال للتأمل بـ "التاريخ" واستخلاص العبر. يقول فوغلهوت: "نحن الشعب اليهودي كنا مرةً عبيداً. وبشكل مشابـه، وعلى مدى جيل، تعرض الشعب العراقي للاضطهاد من قبل صدام حسين. والآن كلانا أحرار. الويلات التي أنزلها الرب بالفرعون المصري، أنزلها بصدام حسين: الحصار، القيود، الحرب، وربما الموت. والآن، كاليهود الذين عبروا البحر الأحمر، على العراقيين أن يقوموا بإعادة بناء حياتهم وتعليم الحرية لأطفالهم". وعندما جلس الجميع في الخيمة كانوا يفتقدون العائلة والأصدقاء في باسادينا (كاليفورنيا)، بيتسبورغ (بنسلفانيا)، فينيكس (أريزونا)، بروكلين (نيويورك)، وأورلاندو (فلوريدا). وأنشد الجميع الأغاني والمزامير، كالمزمور 118، الذي استشهد منه الحاخام هويرتا بالعبارة التالية: "الرب معي، فلا يروعني شيء"(33).
"تحرر وتحرير"
رجل الدين إرفينغ إلسون(34) شعر من خلال احتفاله بعيد الفصح في العراق أنه، بالإضافة إلى أنه "تحرر"، قام أيضاً بـ "تحرير" الشعب العراقي. قبل أربعة أيام من بداية العيد كان إلسون مع فرقته في العراق، وذهب إلى "معسكر كوماندو" في الكويت ليحضر مؤن عيد الفصح التي تبرع بها "مجلس رجال الدين اليهود"(35) و"العديد من المنظمات اليهوديـة الأخرى"، بالإضافة إلى ما أرسلته العائلة والأصدقاء. فرقة المارينز الأولى(36)، التي اتخذت من مجمع الحرس الجمهوري العراقي في بغداد مقراً لها، أقامت لليهود في أفواجها أربعة احتفالات لعيد الفصح(37)، أحدها في "مكان الإقامة الرسمي لوزير الإعلام، بوب بغداد الشائن"، ويقصد رجل الدين بذلك وزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحاف. اكتسب هذا الاحتفال معانٍ خاصة بالنسبة لإلسون، كما يقول. ففي الموقع كانت الكهرباء والمياه مقطوعة، فأضيئت القاعة بالشموع التي أحضرها الأب بيل ديفاين(38) وخوفاً من القناصة أغلقت النوافذ. لم يكن لديهم الأغذية المناسبة للعيد، ولكنهم فتحوا ما توفر من رزم أغذية الكوشر اللذيذة، وكانت من بينها علبة من الخضروات المخللة أرسلها لإلسون "أحدهم من إسرائيل". كان الحاخام يحتفل مع رعيته بـ "عيد الحرية" ويحيط بهم "أناس بدؤوا بتذوق حلاوة الشعور بأنهم شعب لم يعد مضطهداً". ولدى عودته إلى الكويت استقل مروحية، وأثناء تحليقها أخذ يتأمل الريف العراقي ويفكر بما "أنجزه المارينز، الجنود، والطيارون. كنا شركاء مع الرب العظيم، الذي فعل للشعب العراقي ما فعله معنا في مصر. هذا حقاً موعد مع الحرية والخلاص"(39).
حيرة بين بزتين
في الأول من نيسان 2003 اتصل الحاخام إلسون بعائلة العريف مارك إفنين(40) في برلينغتون (فيرمونت) ليستفسر أين يجده في ساحة المعركة. لم يكن إفنين كبقية الأمريكيين، فقد كان كـ "صبرا"(41)، مهتماً منذ طفولته بالجيش. ويتذكر جده لأمه ماكس وال(42): "كان عنده شعور متأصل بأن عليه أن يخدم وطنه، ولكن السؤال الوحيد هو أي بزة عسكرية كان عليه ارتداؤها" الأمريكية أم الإسرائيلية، ولا يبدو أن هناك فرقاً بين الاثنتين. تقول أمه: "بعدما أصبح من المارينز والتقى جنوداً إسرائيليين كان يتكلم عن الذهاب إلى إسرائيل يوماً ما ليلتحق بالجيش الإسرائيلي"، دون أن توضح أين وكيف التقى ابنها بالجنود الإسرائيليين. وتضيف: "أنا متأكدة أن الأمر الذي كان يعنيه هو أنه يقوم بشيء سيساعد، على الأغلب، إسرائيل الآن". وعندما كان في الكشافة كان يصر على ارتداء القلنسوة، بالرغم من أنه لم يكن متديناً، فقد كان "يهودياً وطنياً، آمن بوطنه وأحب إسرائيل". تلقى إفنين تدريبـه العسكري في "معسكر ليجون"(43) (نورث كارولاينا)، وقبل إرسالـه إلى الكويت كان في "معسكر بندلتون"(44) (كاليفورنيا). وتتذكر أمه أنه ورفاقه في المارينز كانوا يقرؤون كتب هاري بوتر(45)، وتقول: "يعجبني أنهم كانوا يقرؤون كل هذه الأشياء الحلوة، لأنهم يبدون كأولئك القتلة". وفي العراق كانت المهمـة الحاسمة لـه هي الكشف عن القناصة العراقيين(46) وقيادة عربة باتجاه بغداد فيها قناص أمريكي والصحافي جون كوبمان(47) من "السان فرانسيسكو كرونيكل". في الثالث من نيسان 2003 تعرضت قافلة إفنين في مدينة الكوت لإطلاق نار فأصيب ولقي حتفه أثناء نقله من المكان(48).
"اليهود ... نور الشعوب"
عندما عاد أكرسون إلى الكويـت، بعد أسبوع ونصف قضاها في "بغداد وضواحيها"، أخذ يتأمل بما رآه هناك، وإلى واقع الخراب الذي تسببت به الحرب والقصف وإطلاق النار طوال الليل وتذكر ماريو كوؤمو(49) عندما استشهد بمطلع رواية تشارلز ديكينز "قصة مدينتين": "كانت أفضل الأزمنة، كانت أسوأ الأزمنة". وربما فكر رجل الدين أن "تحرير العراق" كان "أفضل الأزمنة" لإسرائيل، و"أسوأ الأزمنة" للعراق. الحاخام تأمل أيضاً في بعض "قصور صدام"، ونام في أحدها، لترد إلى ذهنه مقولة للفيلسوف الأمريكي جورج سانتايانا كان يطلب من تلاميذه أن يحفظوها: "من لا يتذكر الماضي مدان بأن يكرره"، والعبارة نفسها ذكرها تشرشل، مستبدلاً "يتذكر" بـ "يتعلم من". فالأمريكي أو اليهودي، لا فرق بالنسبة لأكرسون، عليه أن "يتذكر الماضي" أو "يتعلم منه"، حتى لا يكون موضع إدانة. ففي الماضي البعيد من لا يتذكر "تمادي اليونان، أو هيرود؟ وماذا عن الرومان؟ أو الصليبيين؟". وكذلك في جيلنا "هناك هتلر، عيدي أمين، آية الله، ستالين، تشاوشيسكو، وعرفات، وغيرهم". ويوضح لنا أكرسون فلسفته: "لدينا رئيس وقوات مسلحة لم تتذكر فحسب، بل تعلمت أيضاً من الماضي ورأوا في حسين ما رفض الغير رؤيته". وفجأة يصبح ضمير "نحن" عائماً، عندما يبدأ بالحديث عما يتذكره اليهود، ليقول: "نحن نستطيع القول هذه المرة، وعلى الدوام، أننا نحمل على عاتقنا مسؤولية إصلاح العالم وإبعاد الشر عن وجهـه". وها هو يجعل "اليهود" يعلون فوق كل شيء في هذا العالم، كما كانت تفعل النازية بالنسبة للشعب الألماني، إذ يكمل "تأملاته" بالقول: "كيهود علينا أن نصفق لما حصل هنا فنحن نتذكر أكثر من الآخرين". وعندما يستخدم الحاخام كلمة "إسرائيل" فهو يخلط بشكل مقصود بين مفهومين، قديم وحديث، ليؤكد أن "إسرائيل" أيضاً تعلو فوق كل شيء: "فكما تذكر الرب(50) وعده لنا، علينا نحن أيضاً أن نتذكر التزاماتنا، أن نكون نوراً للشعوب، لتذكيرهم بالتاريخ ودروسه، حتى لا ندان بالشر، وحتى نكافأ بأيام طوال من السلام لنا ولإسرائيل ولكل العالم ... إلى الأبد"(51).
السبت (الشابات) في بابل
الكولونيل أفروهام هوروفيتس(52) ترعرع ودرس الديانة اليهودية في القدس، يخدم في المارينز، وهو حاخام آخر دعي من "معسكر كوماندو" في الكويت ليجري احتفالات يوم السبت (الشابات) في معسكر بابل في حزيران 2003، وتلك هي المرة الأولى التي يحضر فيها إلى بابل، وكان يتصل مع الجنود اليهود بالبريـد الإلكتروني. ويتعاون مع قادة المارينز حتى يتمكن الجنود اليهود من الحفاظ على حرمـة يوم السبت، وعندما سمع الجندي جون ليفين(53) (غارلاند، تكساس) عن إقامة القداس أصابه الحماس: "آخر مرة ذهبت إلى القداس كانت في آذار عندما كنت في معسكر كوماندو". ولم يتمكن ليفين من الحضور يوم الجمعة لحضور الاحتفال فوصل في اليوم التالي بعد أن خصصت ثلاث عربات لمجرد نقله إلى المعسكر حيث يقام القداس. وعمل هوروفيتس لم يقتصر على إجراء المراسيم الدينية فقط، فهو أيضاً "رسول لعقيدته"، فأثناء وجوده في العراق تمكن، مع حاخامات آخرين، من زيارة "ضريح النبي حزقيال" في الكفل، جنوب غرب الحلة، ولكنه لا يشير إلى "مرقد ذي الكفل"، الاسم الفعلي للموقع، بل يصفه بأنه "الكنيس القديم الذي كان يستخدمه المسلمون للصلاة" وأنه كان قبل خمسين سنة "سوقاً يهودياً". وهناك تحدث مع رجل الدين المسلم المسؤول عن المرقد، الذي ربما أخبره أن "ذي الكفل" هو إحدى الشخصيات المذكورة في القرآن. وهوروفيتس الـ "كثير التجوال"، يقول أنه "أولاً، رجل دين في وحدته وحاخام في الوقت نفسه ويقضي معظم وقته بالعناية بوحدته"، وأنه "كالنبي حزقيال يمنح الأمل ليس للجنود في كتيبته فحسب، بل أيضاً لأي شخص يخدم في عملية الحرية العراقية"(54). وأثناء وجوده في بابل أدلى لأحد مراسلي المارينز بمعلومات حول بابل التاريخية(55)، ولكنه أطلق على فلسطين تسمية "إسرائيل" عندما وقع السبي البابلي في القرن السادس ق. م.، بالرغم من أن "إسرائيل" لم تكن موجودة في تلك الفترة. كما أبلغ الجنود اليهود والمارينز بأن لهم الحق بارتداء القلنسوة(56). وهكذا امتدت استباحة العراق لتشمل رموزاً دينية كالقلنسوة.
"تفاح وعسل"
كان من الضروري أن يحتفل الجنود اليهود العاملون في الكويت والعراق بالأعيـاد على أفضل وجه، لهذا تطلب الأمر عدداً من التحضيرات، من بينها "مبادرة" لـ "شبكة المربين اليهود"، التي حشدت لهذا الهدف "حاخامات، سياسيين، متطوعين، ومسؤولين عسكريين". وتقول ميريديث فايس(57)، رئيسة الشبكة ومؤسستها: "كنا نريد لقواتنا أن تحتفل بالأعياد اليهودية بالشكل المناسب، وأن يشعروا بأننا هنا نفكر بهم في هذه المناسبة الخاصة". وقد بدأت فكرة إرسال بعض أطعمة الكوشر قبل أشهر عندما كانت فايس تتبادل الرسائل بالبريد الإلكتروني مع "المارين اليهودي"، الرائد دافيد روزنر، وتحولت الفكرة إلى عملية كبرى أطلق عليها اسم "تفاح وعسل"، في إشارة إلى بداية طقوس عيد رأس السنة اليهودية(58). وتدخل المقدم ميتشل أكرسون لترسل رسائل إلى "المئات من الحاخامات في الولايات المتحدة" للمساهمة في المشروع. وبرزت الرغبة في الحصول على لفافات توراة أصلية، أي تلك المكتوبة بخط اليد على الرَّق، وليس نسخاً ورقية عادية(59). وشارك في جهود التنسيق مع "شبكة المربين اليهود" الحاخام جوزف بوتاسنيك(60)، رئيس "مجلس حاخامات نيويورك"(61)، فاختار لفافات التوراة التي سترسل للقداسات في الكويت والعراق، وقام بتغطية تكاليف التأمين التي بلغت عشرة آلاف دولار. ولم يكن من السهل تأمين هذه اللفافات في منطقة حروب، ولكن هيرب ليبين(62) من شركة "غراميرسي إنشورانس"(63) تمكن من إقناع شركة لويد في لندن بتقديم بوليصة تأمين تشمل جميع المخاطر، بما في ذلك "الإرهاب"(64). ويشعر بوتاسنيك بالعرفان لـ "الأمريكيين، الذين قاموا بتحرير عائلته من المحرقة"، ويقول أن غطاء إحدى هذه اللفافات يحمل إهداء لذكرى عائلته التي ستكون فخورة بالجنود الأمريكيين اليهود: "ستكون التوراة إلى جانبهم بينما يقومون بتحرير شعب آخر"، ويضيف: "خلال التاريخ اليهودي كانت التوراة دائماً إلى جانبنا. ونحن فخورون بجنودنا الذين يحملون التوراة معهم ويمكنون شعوباً أخرى من العيش بحرية"(65). ولكن بوتاسنيك أو غيره من الحاخامات لم يسأل تلك الشعوب ما إذا كانت تريد من التوراة أو ممن يحملها أن يقوم بتحريرها، أو بالأحرى استعبادها من قبل القوى، التي تقف وراء الحاخامات. وما ينبغي تحريره ليس الشعب العراقي، وإنما التوراة، التي كانت وما زالت تستغل في خدمة الاستعمار.
"شبكة المربين اليهود"، التي نظمت مشروع "تفاح وعسل"، منظمة يهودية أمريكية جديدة تضاف إلى العشرات من المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة. تستهدف المنظمة "المربين" اليهود، الذي يعملون في مدارس عامة أو خاصة، وتقوم بتنظيم ورشات عمل لهم للتعامل مع "عداء السامية" بين الطلاب، وتعزيز صورة إيجابية لـ "العالم اليهودي" في بيئة المدارس الأمريكية، متعددة الثقافات. وتعمل على تطوير برنامج لربط "المربين" اليهود الأمريكيين مع زملائهم في إسرائيل، وترى أن هذه الروابط تعمل على "تكثيف الدعم لإسرائيل بين الجمهور الأمريكي، بالإضافة إلى نقض الأساطير والتشويهات الإعلامية حول إسرائيل"(66).
التوراة في مسرح المعارك
وافقت طوائف يهوديـة سريعاً على تأمين لفافات التوراة وكتب الصلوات و"مواد تربوية عبرية" ستساهم بـ "تحرير" الشعب العراقي. فلفافات التوراة قامت بإقراضها طوائف يهودية في منطقة نيويورك(67) وتوراة صغيرة من حركة "خَبَد لوبافيتش"(68). ويقول الحاخام بروس غينزبورغ(69): "سيضمن هذا المشروع أن يقوم أخوتنا وأخواتنا الجنود في العراق والكويت بسماع قراءات صحيحة من التوراة وأن يتمتعوا بوجبات الأعياد"(70). ولأن التفاح لا يمكن أن يبقى طازجاً لفترة طويلة في حر العراق القائظ، قرر "مجلس رجال الدين اليهود" تحضير حلويات بنكهة التفاح وجرار عسل. كما وزعت على رجال الدين العاملين في المنطقة بطاقات عيد رأس السنة اليهودية(71). وقامت إيمي، زوجة الحاخام ميتشل أكرسون، بحملة تبرع لجمع "بطاقات هاتف" لتوزيعها على الجنود اليهود حتى يتمكنوا من الاتصال بذويهم في فترة الأعياد. وقد ساهم بجمع هذه البطاقات "الاتحاد الأرثوذكسي" (نيويورك) بالتعاون مع "مجلس الرفاه اليهودي"(72). وقامت طائفة "جماعة إسرائيل"(73) (سينسيناتي، أوهيو) بالتبرع بمئات من كتب الصلاة للجنود اليهود في العراق، الكويت وأفغانستان. الرائد ألان كباكوف(74) هو أحد أعضاء تلك الطائفة ويخدم في العراق كضابط شرطة، وتأمل زوجته أن يتمكن من الاحتفال بعيد رأس السنة هناك(75). وتبرع أحد مراكز طائفة خَبَد في ميلبورن (نيوجيرسي) بشمعدانات وسلاسل ورقية لنجمة داود، التي ربما ستزين القصر الرئاسي في بغداد أثناء الاحتفال بعيد رأس السنة اليهودية. وأرسل أطفال من كنيس أرثوذكسي في بالم بيتش (فلوريدا) بطاقات وزينة لعيد المظلة(76).
"انتصار على الفوضى"
قام بنقل لفافات التوراة الثمينة إلى الكويت رجل الدين، الكولونيل جاكوب غولدستين(77)، ووضعت تحت الحراسة المسلحة طوال الوقت. وبعمل "دؤوب" ساهمت النائبة هيلاري كلينتون بتسهيل إجراءات التأمين والنقل وأجرت استفسارات مهمة وأساسية في الدوائر الأمريكية المعنية. وأرسلت "شبكة المربين اليهود" "1200 وجبة عشاء" و"800 وجبة غذاء" كوشر ومواد دينية. ويقول أكرسون حول هذه الحملة لدعم "محرري العراق": "يثبت هذا المشروع، وجميع من قام به، أن أحداً لم ينس العسكريين البعيدين عن الوطن الذين يعرضون حياتهم للخطر من أجل هدف أكبر". هذا "الهدف الأكبر" دفع ديبي أستور(78)، والدة أحد جنود المارينز من اليهود(79) الذي عاد من "خدمته" في العراق، إلى القول: "جنودنا اليهود يستحقون الاحترام وينبغي النظر إليهم بجدية. إن الجهد المبذول من أجل الأعياد هو انتصار على الفوضى في عالمنا"(80). وأستور تساهم بشكل فعال في الجهود المبذولة للقضاء على الفوضى في العالم، فقد أسست في شهر شباط 2003 "الشجاع"، وهي قائمة بريدية إلكترونية لتحقيق التواصل مع الجنود اليهود. وبدأت الفكرة عندما تذكرت أن ابن الحاخام مورديخاي فينلي، هو أيضاً جندي في القوات الأمريكية. ويقول موريس كابروف(81)، الحاخام المناوب في الأسطول الأمريكي السادس في البحر الأبيض: "نريد للعالم أن يعرف أن اليهود موجودين في الجيش 365 يوماً في السنة وليس في فترة الحرب فقط". ويستضيف القائمة موقع "الكنيس المتحد لليهود المحافظين". وأستور هي أيضاً المديرة التنفيذية لـ "معبد إسرائيل"(82) في بلدة شارون، ماساتشوسيتس(83).
مهرجان الكوشر
من بين الأغذية التي أرسلت للجنود اليهود في العراق والكويت، مواد تبرع بها "مهرجان الكوشر"(84)، وهو "المعرض التجاري الدولي لخدمات وأغذية الكوشر"(85) في نيويورك التي تعتبر، بعد إسرائيل، أكبر منتج ومستهلك لهذه الأغذية، ويبلغ حجم سوقها ثلاثة بلايين دولار، كما أفاد مكتب جورج باتاكي(86)، حاكم ولاية نيويورك. وكان باتاكي قد صرح في آب عام 2002، وبمناسبة الإعلان عن نقل هذا المعرض من نيوجيرسي إلى نيويورك، "عندما نركز على أغذية الكوشر، نقوم في الوقت نفسه بتسليط الضوء على الدولة اليهودية، وهو أمر حيوي في هذه الفترة التي تعاني فيها إسرائيل من الهجمات الانتحارية الإجرامية. ومع اقترابنا من عيد رأس السنة وصلاتنا من أجل السلام في الشرق الأوسط، فإن على سكان نيويورك أن يقوموا بكل ما في وسعهم لإظهار تكاتفهم مع إسرائيل"(87).
"غذاء الجسد والروح"
وهكذا وصل الحاخام جاكوب غولدستين إلى الكويـت، في شهر أيلول عام 2003(88) قادماً من نيويورك ومعه أربع لفافات توراة، توراة صغيرة، خمس مجموعات من سعف النخيل والنارنج للاحتفال بعيد المظلة(89)، وأرغفة خبز وكعك بالعسل وغيرها من المؤن لإضفاء البهجة على الأعياد التي سيحتفل بها الجنود الأمريكيون اليهود في الكويت والعراق وأفغانستان. وأحضر معه أيضاً "ثلاث مظلات كبيرة وسبع صغيرة لاستخدام المئات من اليهود المنتشرين في الكويت والعراق"(90). ولم ينس أن يحضر معه "أعداداً لا تحصى" من علب سلامي البقر. كل هذا "بفضل وزارة الدفاع، فهي لم تدخر وسعاً لتأمين الحاجات الدينية للجنود اليهود"، كما قال غولدستين. وشحنت "مؤسسة ألف" أكثر من مائة ثوب صلاة(91)، أردية لرجال الدين، وخمسمائة علبة عسل، وغيرها من المؤن(92).
وقد أستدعي غولدستين لأن هناك "نقصاً" في رجال الدين اليهود في الخدمة العسكرية الفعلية، وقبل مغادرتـه نيويورك صرح قائلاً: "لدينا غذاء الجسد والروح. وسأتولى أنا خدمة القداس في عيد رأس السنة لجميع القوات اليهودية في الكويت". وأشار إلى أنه يوجد كنيس صغير ثابت في الموقع، أي في الكويت. وهكذا أصبح هناك ثلاثة رجال دين احتياط واثنان في الخدمة العسكرية الفعلية من رجال الدين اليهود للمساعدة في إقامة القداس للجنود اليهود .. في "العراق وإيران"، على حد تعبير "ذي جويش ويك"، التي ربمـا، في خطأ مطبعي ذي دلالة، وجدت أن "الكويت" لا تستحق كل هذا العناء، فاستبدلتها بـ "إيران". وعندما سأل عن شعوره إزاء تركه عائلته عشية الأعياد، أجاب: "إنهم فخورون بما أقوم به، وقلقون على سلامتي. ولكن ليست هذه المرة الأولى التي يجري فيها استدعائي إلى منطقة معارك ... لقد كنت في أفغانستان في عيد الفصح 2002 وفي عملية عاصفة الصحراء"(93). وفي الكويت أقام غولدستين احتفال عيد رأس السنة لمائة من الجنود اليهود العاملين هناك(94).
"أمريكا وإسرائيل والرب"
كانت الأسابيع الأولى من شهر أيلول "محمومة" بالنسبة للحاخام ميتشل أكرسون، فقد كان يعمل على التحضير لعيد رأس السنة اليهودية في العراق، ولكن الأحداث هذه المرة أضفت بعداً جديداً على طابع "التأمل" الذي يتصف به هذا الشهر عادةً. فأثناء العمل على الترتيبات النهائية للعيد التقى مجموعة من الجنود اليهود من "الفرقة المدرعة الأولى"(95) كان معظمهم "مهاجرين من الاتحاد السوفياتي سابقاً، ولكن كانت هناك أيضاً شابة لطيفة من البرازيل وأخرى من أمريكا اللاتينية". وقد اغتنم الفرصة ليتحدث مع هؤلاء حول مفهوم العدالة في اليهودية، أي كيف "نتعلم أن العدالة التي لا تمارس بعدل، هي ليست عدالة، وأن الغاية لا تبرر الوسيلة في اليهودية". وناقش الجميع أن الجيش الأمريكي هو "الأداة لتحقيق العدالة في العالم وأننا نتصرف بعدل ونلاحق هؤلاء، الذين لا يفعلون ذلك". ومن جديد تتوحد إسرائيل وأمريكا، عندما يعقب الحاخام الصالح قائلاً: "حقاً، إن الولايات المتحدة وإسرائيل هما البلدان الوحيدان اللذان دخلا حرباً حقيقية على مدى الأربعين سنة السابقة، ويستطيعان فعلاً القول أنهما تقيدا بمواثيق جنيـف (وبالتأكيد لم يفعل ذلك البلجيكيون، الفرنسيون، أو غيرهم في أفريقيا وأماكن أخرى)". أكرسون مطلع على التاريخ الأفريقي الحديث، أي ما أنزله الاستعمار من ويلات بالقارة السوداء، لكن ما جرى ويجري في فلسطين والعراق على أيدي الإسرائيليين والأمريكيين يختلف عما قام به الفرنسيون والبلجيكيون، فلم يقم أي من هؤلاء المستعمرين بما قام به الإسرائيليون، أي طرد شعب من وطنه والاستيلاء على هذا الوطن بدعـم من أمريكا التي "تتقيد فعلاً" بمواثيق جنيف. وربما بسبب هذا الدعم المطلق تجد أمريكا مكاناً فخرياً لها في اليهودية، يؤكده أكرسون عندما يكتـب: "أمريكا تؤمن بصنع عالم أحسن، أي ما نسميه نحن ‘إصلاح العالم’(96)، شاكرين، ليس فقط أمريكا أو الجنود الذين يموتون دفاعاً عنها، ولكن أيضاً الرب الذي منحنا الحياة والهدف"(97).
جوزف بوتاسنيك، رئيس "مجلس حاخامات نيويورك"
"فوجئت برؤية كل هذه اليهودية في ساحة الحرب".
الملازم أول أبراهام فالكوفيتس
تكتسب مشاركة جنود أمريكيين يهود(1) في القوات الأمريكية أهمية خاصة في الإطار العام للعدوان على العراق من حيث الأهداف المعلنة أو غير المعلنة. فمن وجهة نظر إسرائيلية يعتبر اليهودي إسرائيلياً بالولادة، لهذا يمكن الافتراض أن الجنود الأمريكيين اليهود هم عملياً إسرائيليون شاركوا في العدوان على العراق وغزوه، وإن لم يذكر هذا الانتماء، أو يؤكد، علنياً. ولكن هناك حالات تشير إلى أن الجندي الأمريكي اليهودي كان مقيماً في إسرائيل، أو قضى فيها فترة طويلة، ما يعني أنه إسرائيلي قانونياً، وربما خدم في الجيش الإسرائيلي. مجموعة من الضباط اليهود يعملون كحاخامات لرعاية الجنود اليهود الملتحقين في فرق عسكرية مختلفة. وكان هؤلاء يقيمون قداسات أيام السبت والأعياد، كعيد الفصح، رأس السنة، عيد المظلـة، وعيد الأنوار، التي جاءت بدايتها بعد أسبوع واحد من سقوط بغداد في التاسع من نيسان. وأجريت هذه المراسيم الدينية في قواعد عسكرية في العراق، الكويت، وقاعدة باغرام الأمريكية في أفغانستان، وأحياناً في خيم خاصة نصِّبت لهذا الغرض وفي القصور الرئاسية في بغداد. دعم عدد كبير من المنظمات والجماعات اليهودية في الولايات المتحدة، وخاصة ولاية نيويورك، هذه الاحتفالات الدينية بأشكال مختلفة، كتوفير الحاجات الطقوسية اللازمة والأغذية المناسبة. ويلاحظ التكاتف الذي أبدته هذه المنظمات والجماعات لرعاياها على اختلاف انتماءاتها، ولكن الأهم من ذلك هو أن هذه المنظمات التي تقدم الدعم "المعنوي" للجنود في الأعياد، تقوم بذلك خدمة لأغراض سياسية جوهرها دعم العدوان الأمريكي. هذا الدعم متبادل ويظهر في موقف وزارة الدفاع الأمريكية لتسهيل عمل هذه المنظمات. والكثير من تصريحات رجال الدين اليهود لا تخلو من توجهات عنصرية تنحاز إلى جانب اليهود واليهودية. ولن يخفى على العراقي أو العربي عنصرا الإهانة والتشفي اللذان يشوبان بعض هذه التصريحات، وهو ما يؤكد الطابع الانتقامي للعدوان على العراق بسبب مواقفه القومية تجاه القضية الفلسطينية.
"أيام عصيبة"
قبل بداية العدوان على العراق، انتاب الآباء والأمهات في أمريكا القلق على "المصير المجهول" الذي ينتظر أبناءهم اليهود، فقد التحق الكثير منهم بالخدمة في الجيش الأمريكي بمحض إرادتهم، كمايكل هينكن(2) وكايتس فينلي(3)، اللذين كانا قد وصلا إلى الكويت استعداداً لغزو العراق. فوالد مايكل الحاخام ألان هينكن(4) في إنكينو (كاليفورنيا) لم يكن متحمساً في البداية لالتحاق ابنـه في احتياط الجيش، ولكن الإبن رأى في الخدمة العسكرية "مغامرة وفرصة للتوحد مع رجال ونساء طيبين وأن يخدم بلاده"، ومنذ ذلك الحين اتخذ الأب "موقفاً داعماً" لما عزم ابنه عليه(5).
هذا الحاخام قال أن العائلات تمر بـ "أيام عصيبة"، وهم قلقون على أحبائهم، الذين "سيواجهون قريباً صدام، القائد القاسي، الذي قام بقتل شعبه بالغاز ومئات الآلاف الآخرين في حروب مع إيران والكويت". وقد تكون مشاعر الخوف أكثر حدة بالنسبة لعائلات وزوجات الجنود اليهود، أكثر من غيرهم، بالنظر لـ "عداء صدام الشديد للصهيونية، ويستطيع المرء التكهن بما سيحل بالجنود الأمريكيين اليهود إذا ما وقعوا في الأسر". ولهذا لم تشجع إحدى الضابطات الأمريكيات، أحجمت عن ذكر اسمها، الجنود اليهود على التحدث إلى صحيفة "جويش جورنال" اليهودية.
ولم تكن لدى الحاخام مورديخاي فينلي(6) من لوس أنجلوس، أي هواجس عندما حسم ابنه كايتس أمره فترك الكلية والتحق بالمارينز. فالأب نفسه خدم في المارينز بين الأعوام 1973 و1976، وثمّن هذه التجربة التي "منحته حساً بالهدف والانتظام"، بالرغم من أن زملاء كايتس في الكلية "كانوا في حيرة من أمرهم كيف يقدم شاب يهودي ذكي على سلوك هذا الدرب الخطر". ولكن بالنسبة للحاخام فينلي لا يوجد ما هو أعظم من خدمة الوطن "وخاصة إذا كان الهدف هو نزع أسلحة طاغية عنيف وعدواني كصدام". ومنذ التحاقه بالمارينز عام 2000 عمل كايتس إلى جانب الجنود الكينيين في أفريقيا ورأى العالم، وحصل على منحة حكومية لإكمال دراسته الجامعية(7). وسيحتفل الابن كايتس فيما بعد بعيد الفصح في بغداد، ويتجول بحرية في العراق ويكشف عن هويته الدينية أمام العراقيين بشكل متعمد وبدون أي حرج(8).
كما في إسرائيل
بداية نيسان 2003، وقبل الذهاب إلى العراق، كانت جوانا كوهين(9) من لونغ أيلاند (نيويورك) تتدرب في قاعدة عسكرية لم يكشف عن اسمها في ولاية أيوا. وفي أيوا سيتي تجولت كوهين بزيها العسكري ودخلت أحد المقاهي الجامعية، التي "تعبق بالدخان"، فصرخت بها "مجموعة هوجاء" من الطلاب: "ينبغي أن لا تكوني هنا"، وتقدم منها شباب للاعتراض شخصيـاً على الحرب المزمعة. وتقول كوهين أن أحداً لم يسألها عن رأيها، ولكن هذا لا علاقة لـه بالموضوع، فهي تقوم بواجبها، وتقوم بذلك "مرفوعة الرأس". لكن كوهين تصبح فجأة إسرائيلية: "بالتأكيد أشعر بالكبرياء، وهذا شيء لا يشعر به كل شخص في أمريكا، بخلاف إسرائيل. وفي الحقيقة أعتقد أن على أمريكا أن تلزم كل شخص بالتدريب العسكري بعد الانتهاء من الكلية. إن هذا يفتح الأعين على كيف يسير العالم، ويعلم المسؤولية". الجنود الآخرون كانوا يسألون كوهين عن آرائها السياسية، وخاصة في ضوء الإشارات المستمرة في وسائل الإعلام إلى إسرائيل. فتقول كوهين: "هذا ليس بالأمر السيئ ولكنه يحزنني أحياناً". الجنود الآخرون لا يعرفون الكثير عن إسرائيـل، ولكنهم يعرفون أنها وراء الكثير من المشاكل في الشرق الأوسط. وفي مواجهة هذا الوضع تقول كوهين: "أحياناً أمزح بأنه ربما ينبغي علي تغيير الصفيحة المعدنية التي تحمل اسمي، لأنني سأكون الهدف الأول في العراق. أنا أخشى أن أكون يهوديـة في العراق". وأخيراً تم إرسال كوهين باتجاه العراق، وكذلك الرقيب بينجامين روثمان(10) (نيو جيرسي)، الذي كان متمركزاً في القاعدة نفسها(11).
وجبات عيد الفصح
لم تجر الأمور كما ينبغي بالنسبة للجنود اليهود في الكويت والعراق أثناء عيد الفصح اليهودي، الذي ابتدأ يوم السادس عشر من نيسان 2003، ليس بسبب "المعارك"، التي كان الجيش الأمريكي ما زال يقودها في العراق، بل لأنه لم تكن هناك مؤن غذائية مناسبة وكافية لوجبات عيد الفصح، الذي يمتد إلى ثمانية أيام. فالرائد دافيد روزنر(12) ذكر أن وجبات العشاء ("سيدريم") في الكويـت احتوت على الحد الأدنى من مأكولات الكوشر(13). هذه القضية الحيوية، التي قد تؤثر على سير عملية "الحرية العراقية"، ألزمت جيرولد نادلر(14)، النائب الديموقراطي عن مانهاتن، على التدخل لدى "القوات الجويـة" لإرسال المزيد من الغذاء الكوشر إلى الكويت والعراق. ولكن النائب، بعد حصوله على إجابات متضاربة من تلك القوات و"مجلس الرفاه اليهودي"(15) المسؤول عن تزويد المؤن الغذائية، قرر أن عليه مناقشة هذه القضية لأهميتها القصوى مع دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأمريكي، والجنرال ريتشارد مايرز، رئيس الهيئة المشتركة للأركان الأمريكية. اليهودية ليا دون(16)، إحدى عناصر القوة الجوية في الكويت، لم تعرف على من تضع اللوم للنقص في أغذية الكوشر، وقالت أن المنظمات اليهودية قامت بجمع عشرات الآلاف من الدولارات حتى يقوم "مجلس الرفاه اليهودي" بإرسال مواد غذائية، وتضيف "بهذا المبلغ يمكن شراء الكثير، أين هذا كله؟ ليس لدينا كميات كافية من الغذاء لعيد الفصح ... لم يصلنا أي شيء على الإطلاق". ويقول بروس غرينفيلد(17) "إنه أمر مريع. هناك كل أولئك الناس، الذين اعتقدوا أنهم يشاركون في عمل خيري ("ميتسفاه") في غاية الأهمية وسيصابون بخيبة أمل كبيرة عندما يعلمون أن أغذية عيد الفصح لم تصل إلى هناك". ومهما كان الأمر، فقد تفقد المقدم ميتشل أكرسون(18) (بالتيمور)، الحاخام الأعظم في مسرح العمليات(19)، المؤن اللازمة بعد وصوله إلى الكويت في الأسبوع الأول من نيسان 2003(20)، فوجد أن "السلامي" المرسلة كانت كلها متضررة. وحسب رأيه الشخصي فإن ما هو متوفر من المؤن الغذائية غير كافٍ لوجبة عشاء ("سيدر") واحدة، فكيف سيكون الأمر بالنسبة لبقية الأسبوع؟(21).
"وثنية"
بعد حوالي أسبوع أخذ الحاخام أكرسون يتنقل في جنوب العراق للتحضير لإقامة مراسيم عيد الفصح بين الجنود اليهود، في حيـن كان زميلاه الحاخامان إلسون وهويرتا يتحركان في منطقة غير محددة في الشمال(22). وأثناء وجوده في المنطقة زار الموقع الأثري أور ولم يكن بإمكانه تجنب رؤية "المعبد الوثني" في الموقع، ويقصد المعبد المرتفع المعروف باسم "الزقورة". وفي العادة هو لا يصرف الكثير من الوقت في التفكير بالمعابد الوثنية، على حد تعبيره، ولكن هذا المعبد أثار انتباهه بحجمه الهائل وموقعه المشرف على ما يصفه بأنه "قرية أور ببيوتها المنخفضة، التي لا يتعدى ارتفاعها طابقاً واحداً وطابقين في أفضل الحالات". هذه "القرية" هي أحد أكبر مواقع المدن الأثرية في العالم وأهمها، ولكن أكرسون يتساءل "مندهشاً" كيف خرج إبراهيم من هذا المكان الذي يطل عليه "المعبد الوثني" المهيب؟ وفجأة يجد الجواب، وهو أن إبراهيم استطاع أن يشق طريقه عبر هذا الظلام الوثني مهتدياً بنور التوحيد، ليصل إلى حران، ثم إلى ما يسميه بـ "أرض إسرائيل"، وهو الاسم الذي أعيد إحياؤه بعد أربعة آلاف سنة من الفترة التي يفترض أن إبراهيم عاش فيها. ويفكر الحاخام أن هناك اليوم وثنية من نوع آخر لا تتماشى مع قيم التوراة، كما يقول، وهي: "وثنية المال، السلطة، الجشع والثقافة الشعبية". ولا يحدد أين توجد هذه الوثنية المعاصرة، وإن كان أفضل مكان تتجسد فيه هو البلاد التي جاء منها ويدافع عن قيمها في أكثر من مناسبة. (23)
وربما بالقرب من ذلك "المعبد الوثني"، نصبت خيمة الكنيس للاحتفال بعيد الفصح بالرغم من عاصفة رملية هبت في المكان، ولكن الزوبعة هدأت، لحسن الحظ، قبل البدء بوجبة العشاء (السيدر). حضر إلى الخيمة أربعة عشر جندياً في الليلة الأولى، وعشرين في الليلة الثانية. كانوا خليطاً من الجنود الفعليين، الاحتياط، الضباط، والمنتسبين، وأحدهم كان من صحيفة "النيويورك تايمز". مكونات وجبة عشاء العيد جاءت من متبرعين عديدين: "مجلس الرفاه اليهودي"، "مؤسسة ألف"(24) (فلوريدا)، "أكاديمية سان دييغو العبرية"(25)، "مجلس حاخامات بالتيمور"(26). وتكلم الجميع عن "الحرية، الديموقراطية، والعدالة، وأن هذه هي المثل العليا للشعب اليهودي". وكل واحد من هؤلاء كان يغني بحيوية: "العام القادم في القدس، التي أعيد بناؤها"(27).
"الرب معي، فلا يروعني شيء"
يقول الملازم أول أبراهام فالكوفيتس(28)، الذي كان يحتفل بعيد الفصح في إحدى الخيم في العراق: "فوجئت برؤية كل هذه اليهودية في ساحة الحرب". هذا الاحتفال نظمه الرائد جوناس فوغلهوت، الذي كان يقيـم في البداية قداسات يوم السبت (الشابات) في الكويت(29)، بعد أن خرج من مكانه السري يرافقه رجلا الدين ياكوفاتس(30) وواينيك(31) ليصلوا إلى موقع اسمه "أوبجيكتيف غرادي"(32). وكان في استقبالهم هناك رجل الدين كارلوس هويرتا ومجموعة من عشرة جنود يهود من "الفرقة 101 المحمولة جواً". واشتملت المجموعة على مشاة، طيارين، أطباء، وسائقي سيارات شحن. وأفسحت هذه المناسبة المجال للتأمل بـ "التاريخ" واستخلاص العبر. يقول فوغلهوت: "نحن الشعب اليهودي كنا مرةً عبيداً. وبشكل مشابـه، وعلى مدى جيل، تعرض الشعب العراقي للاضطهاد من قبل صدام حسين. والآن كلانا أحرار. الويلات التي أنزلها الرب بالفرعون المصري، أنزلها بصدام حسين: الحصار، القيود، الحرب، وربما الموت. والآن، كاليهود الذين عبروا البحر الأحمر، على العراقيين أن يقوموا بإعادة بناء حياتهم وتعليم الحرية لأطفالهم". وعندما جلس الجميع في الخيمة كانوا يفتقدون العائلة والأصدقاء في باسادينا (كاليفورنيا)، بيتسبورغ (بنسلفانيا)، فينيكس (أريزونا)، بروكلين (نيويورك)، وأورلاندو (فلوريدا). وأنشد الجميع الأغاني والمزامير، كالمزمور 118، الذي استشهد منه الحاخام هويرتا بالعبارة التالية: "الرب معي، فلا يروعني شيء"(33).
"تحرر وتحرير"
رجل الدين إرفينغ إلسون(34) شعر من خلال احتفاله بعيد الفصح في العراق أنه، بالإضافة إلى أنه "تحرر"، قام أيضاً بـ "تحرير" الشعب العراقي. قبل أربعة أيام من بداية العيد كان إلسون مع فرقته في العراق، وذهب إلى "معسكر كوماندو" في الكويت ليحضر مؤن عيد الفصح التي تبرع بها "مجلس رجال الدين اليهود"(35) و"العديد من المنظمات اليهوديـة الأخرى"، بالإضافة إلى ما أرسلته العائلة والأصدقاء. فرقة المارينز الأولى(36)، التي اتخذت من مجمع الحرس الجمهوري العراقي في بغداد مقراً لها، أقامت لليهود في أفواجها أربعة احتفالات لعيد الفصح(37)، أحدها في "مكان الإقامة الرسمي لوزير الإعلام، بوب بغداد الشائن"، ويقصد رجل الدين بذلك وزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحاف. اكتسب هذا الاحتفال معانٍ خاصة بالنسبة لإلسون، كما يقول. ففي الموقع كانت الكهرباء والمياه مقطوعة، فأضيئت القاعة بالشموع التي أحضرها الأب بيل ديفاين(38) وخوفاً من القناصة أغلقت النوافذ. لم يكن لديهم الأغذية المناسبة للعيد، ولكنهم فتحوا ما توفر من رزم أغذية الكوشر اللذيذة، وكانت من بينها علبة من الخضروات المخللة أرسلها لإلسون "أحدهم من إسرائيل". كان الحاخام يحتفل مع رعيته بـ "عيد الحرية" ويحيط بهم "أناس بدؤوا بتذوق حلاوة الشعور بأنهم شعب لم يعد مضطهداً". ولدى عودته إلى الكويت استقل مروحية، وأثناء تحليقها أخذ يتأمل الريف العراقي ويفكر بما "أنجزه المارينز، الجنود، والطيارون. كنا شركاء مع الرب العظيم، الذي فعل للشعب العراقي ما فعله معنا في مصر. هذا حقاً موعد مع الحرية والخلاص"(39).
حيرة بين بزتين
في الأول من نيسان 2003 اتصل الحاخام إلسون بعائلة العريف مارك إفنين(40) في برلينغتون (فيرمونت) ليستفسر أين يجده في ساحة المعركة. لم يكن إفنين كبقية الأمريكيين، فقد كان كـ "صبرا"(41)، مهتماً منذ طفولته بالجيش. ويتذكر جده لأمه ماكس وال(42): "كان عنده شعور متأصل بأن عليه أن يخدم وطنه، ولكن السؤال الوحيد هو أي بزة عسكرية كان عليه ارتداؤها" الأمريكية أم الإسرائيلية، ولا يبدو أن هناك فرقاً بين الاثنتين. تقول أمه: "بعدما أصبح من المارينز والتقى جنوداً إسرائيليين كان يتكلم عن الذهاب إلى إسرائيل يوماً ما ليلتحق بالجيش الإسرائيلي"، دون أن توضح أين وكيف التقى ابنها بالجنود الإسرائيليين. وتضيف: "أنا متأكدة أن الأمر الذي كان يعنيه هو أنه يقوم بشيء سيساعد، على الأغلب، إسرائيل الآن". وعندما كان في الكشافة كان يصر على ارتداء القلنسوة، بالرغم من أنه لم يكن متديناً، فقد كان "يهودياً وطنياً، آمن بوطنه وأحب إسرائيل". تلقى إفنين تدريبـه العسكري في "معسكر ليجون"(43) (نورث كارولاينا)، وقبل إرسالـه إلى الكويت كان في "معسكر بندلتون"(44) (كاليفورنيا). وتتذكر أمه أنه ورفاقه في المارينز كانوا يقرؤون كتب هاري بوتر(45)، وتقول: "يعجبني أنهم كانوا يقرؤون كل هذه الأشياء الحلوة، لأنهم يبدون كأولئك القتلة". وفي العراق كانت المهمـة الحاسمة لـه هي الكشف عن القناصة العراقيين(46) وقيادة عربة باتجاه بغداد فيها قناص أمريكي والصحافي جون كوبمان(47) من "السان فرانسيسكو كرونيكل". في الثالث من نيسان 2003 تعرضت قافلة إفنين في مدينة الكوت لإطلاق نار فأصيب ولقي حتفه أثناء نقله من المكان(48).
"اليهود ... نور الشعوب"
عندما عاد أكرسون إلى الكويـت، بعد أسبوع ونصف قضاها في "بغداد وضواحيها"، أخذ يتأمل بما رآه هناك، وإلى واقع الخراب الذي تسببت به الحرب والقصف وإطلاق النار طوال الليل وتذكر ماريو كوؤمو(49) عندما استشهد بمطلع رواية تشارلز ديكينز "قصة مدينتين": "كانت أفضل الأزمنة، كانت أسوأ الأزمنة". وربما فكر رجل الدين أن "تحرير العراق" كان "أفضل الأزمنة" لإسرائيل، و"أسوأ الأزمنة" للعراق. الحاخام تأمل أيضاً في بعض "قصور صدام"، ونام في أحدها، لترد إلى ذهنه مقولة للفيلسوف الأمريكي جورج سانتايانا كان يطلب من تلاميذه أن يحفظوها: "من لا يتذكر الماضي مدان بأن يكرره"، والعبارة نفسها ذكرها تشرشل، مستبدلاً "يتذكر" بـ "يتعلم من". فالأمريكي أو اليهودي، لا فرق بالنسبة لأكرسون، عليه أن "يتذكر الماضي" أو "يتعلم منه"، حتى لا يكون موضع إدانة. ففي الماضي البعيد من لا يتذكر "تمادي اليونان، أو هيرود؟ وماذا عن الرومان؟ أو الصليبيين؟". وكذلك في جيلنا "هناك هتلر، عيدي أمين، آية الله، ستالين، تشاوشيسكو، وعرفات، وغيرهم". ويوضح لنا أكرسون فلسفته: "لدينا رئيس وقوات مسلحة لم تتذكر فحسب، بل تعلمت أيضاً من الماضي ورأوا في حسين ما رفض الغير رؤيته". وفجأة يصبح ضمير "نحن" عائماً، عندما يبدأ بالحديث عما يتذكره اليهود، ليقول: "نحن نستطيع القول هذه المرة، وعلى الدوام، أننا نحمل على عاتقنا مسؤولية إصلاح العالم وإبعاد الشر عن وجهـه". وها هو يجعل "اليهود" يعلون فوق كل شيء في هذا العالم، كما كانت تفعل النازية بالنسبة للشعب الألماني، إذ يكمل "تأملاته" بالقول: "كيهود علينا أن نصفق لما حصل هنا فنحن نتذكر أكثر من الآخرين". وعندما يستخدم الحاخام كلمة "إسرائيل" فهو يخلط بشكل مقصود بين مفهومين، قديم وحديث، ليؤكد أن "إسرائيل" أيضاً تعلو فوق كل شيء: "فكما تذكر الرب(50) وعده لنا، علينا نحن أيضاً أن نتذكر التزاماتنا، أن نكون نوراً للشعوب، لتذكيرهم بالتاريخ ودروسه، حتى لا ندان بالشر، وحتى نكافأ بأيام طوال من السلام لنا ولإسرائيل ولكل العالم ... إلى الأبد"(51).
السبت (الشابات) في بابل
الكولونيل أفروهام هوروفيتس(52) ترعرع ودرس الديانة اليهودية في القدس، يخدم في المارينز، وهو حاخام آخر دعي من "معسكر كوماندو" في الكويت ليجري احتفالات يوم السبت (الشابات) في معسكر بابل في حزيران 2003، وتلك هي المرة الأولى التي يحضر فيها إلى بابل، وكان يتصل مع الجنود اليهود بالبريـد الإلكتروني. ويتعاون مع قادة المارينز حتى يتمكن الجنود اليهود من الحفاظ على حرمـة يوم السبت، وعندما سمع الجندي جون ليفين(53) (غارلاند، تكساس) عن إقامة القداس أصابه الحماس: "آخر مرة ذهبت إلى القداس كانت في آذار عندما كنت في معسكر كوماندو". ولم يتمكن ليفين من الحضور يوم الجمعة لحضور الاحتفال فوصل في اليوم التالي بعد أن خصصت ثلاث عربات لمجرد نقله إلى المعسكر حيث يقام القداس. وعمل هوروفيتس لم يقتصر على إجراء المراسيم الدينية فقط، فهو أيضاً "رسول لعقيدته"، فأثناء وجوده في العراق تمكن، مع حاخامات آخرين، من زيارة "ضريح النبي حزقيال" في الكفل، جنوب غرب الحلة، ولكنه لا يشير إلى "مرقد ذي الكفل"، الاسم الفعلي للموقع، بل يصفه بأنه "الكنيس القديم الذي كان يستخدمه المسلمون للصلاة" وأنه كان قبل خمسين سنة "سوقاً يهودياً". وهناك تحدث مع رجل الدين المسلم المسؤول عن المرقد، الذي ربما أخبره أن "ذي الكفل" هو إحدى الشخصيات المذكورة في القرآن. وهوروفيتس الـ "كثير التجوال"، يقول أنه "أولاً، رجل دين في وحدته وحاخام في الوقت نفسه ويقضي معظم وقته بالعناية بوحدته"، وأنه "كالنبي حزقيال يمنح الأمل ليس للجنود في كتيبته فحسب، بل أيضاً لأي شخص يخدم في عملية الحرية العراقية"(54). وأثناء وجوده في بابل أدلى لأحد مراسلي المارينز بمعلومات حول بابل التاريخية(55)، ولكنه أطلق على فلسطين تسمية "إسرائيل" عندما وقع السبي البابلي في القرن السادس ق. م.، بالرغم من أن "إسرائيل" لم تكن موجودة في تلك الفترة. كما أبلغ الجنود اليهود والمارينز بأن لهم الحق بارتداء القلنسوة(56). وهكذا امتدت استباحة العراق لتشمل رموزاً دينية كالقلنسوة.
"تفاح وعسل"
كان من الضروري أن يحتفل الجنود اليهود العاملون في الكويت والعراق بالأعيـاد على أفضل وجه، لهذا تطلب الأمر عدداً من التحضيرات، من بينها "مبادرة" لـ "شبكة المربين اليهود"، التي حشدت لهذا الهدف "حاخامات، سياسيين، متطوعين، ومسؤولين عسكريين". وتقول ميريديث فايس(57)، رئيسة الشبكة ومؤسستها: "كنا نريد لقواتنا أن تحتفل بالأعياد اليهودية بالشكل المناسب، وأن يشعروا بأننا هنا نفكر بهم في هذه المناسبة الخاصة". وقد بدأت فكرة إرسال بعض أطعمة الكوشر قبل أشهر عندما كانت فايس تتبادل الرسائل بالبريد الإلكتروني مع "المارين اليهودي"، الرائد دافيد روزنر، وتحولت الفكرة إلى عملية كبرى أطلق عليها اسم "تفاح وعسل"، في إشارة إلى بداية طقوس عيد رأس السنة اليهودية(58). وتدخل المقدم ميتشل أكرسون لترسل رسائل إلى "المئات من الحاخامات في الولايات المتحدة" للمساهمة في المشروع. وبرزت الرغبة في الحصول على لفافات توراة أصلية، أي تلك المكتوبة بخط اليد على الرَّق، وليس نسخاً ورقية عادية(59). وشارك في جهود التنسيق مع "شبكة المربين اليهود" الحاخام جوزف بوتاسنيك(60)، رئيس "مجلس حاخامات نيويورك"(61)، فاختار لفافات التوراة التي سترسل للقداسات في الكويت والعراق، وقام بتغطية تكاليف التأمين التي بلغت عشرة آلاف دولار. ولم يكن من السهل تأمين هذه اللفافات في منطقة حروب، ولكن هيرب ليبين(62) من شركة "غراميرسي إنشورانس"(63) تمكن من إقناع شركة لويد في لندن بتقديم بوليصة تأمين تشمل جميع المخاطر، بما في ذلك "الإرهاب"(64). ويشعر بوتاسنيك بالعرفان لـ "الأمريكيين، الذين قاموا بتحرير عائلته من المحرقة"، ويقول أن غطاء إحدى هذه اللفافات يحمل إهداء لذكرى عائلته التي ستكون فخورة بالجنود الأمريكيين اليهود: "ستكون التوراة إلى جانبهم بينما يقومون بتحرير شعب آخر"، ويضيف: "خلال التاريخ اليهودي كانت التوراة دائماً إلى جانبنا. ونحن فخورون بجنودنا الذين يحملون التوراة معهم ويمكنون شعوباً أخرى من العيش بحرية"(65). ولكن بوتاسنيك أو غيره من الحاخامات لم يسأل تلك الشعوب ما إذا كانت تريد من التوراة أو ممن يحملها أن يقوم بتحريرها، أو بالأحرى استعبادها من قبل القوى، التي تقف وراء الحاخامات. وما ينبغي تحريره ليس الشعب العراقي، وإنما التوراة، التي كانت وما زالت تستغل في خدمة الاستعمار.
"شبكة المربين اليهود"، التي نظمت مشروع "تفاح وعسل"، منظمة يهودية أمريكية جديدة تضاف إلى العشرات من المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة. تستهدف المنظمة "المربين" اليهود، الذي يعملون في مدارس عامة أو خاصة، وتقوم بتنظيم ورشات عمل لهم للتعامل مع "عداء السامية" بين الطلاب، وتعزيز صورة إيجابية لـ "العالم اليهودي" في بيئة المدارس الأمريكية، متعددة الثقافات. وتعمل على تطوير برنامج لربط "المربين" اليهود الأمريكيين مع زملائهم في إسرائيل، وترى أن هذه الروابط تعمل على "تكثيف الدعم لإسرائيل بين الجمهور الأمريكي، بالإضافة إلى نقض الأساطير والتشويهات الإعلامية حول إسرائيل"(66).
التوراة في مسرح المعارك
وافقت طوائف يهوديـة سريعاً على تأمين لفافات التوراة وكتب الصلوات و"مواد تربوية عبرية" ستساهم بـ "تحرير" الشعب العراقي. فلفافات التوراة قامت بإقراضها طوائف يهودية في منطقة نيويورك(67) وتوراة صغيرة من حركة "خَبَد لوبافيتش"(68). ويقول الحاخام بروس غينزبورغ(69): "سيضمن هذا المشروع أن يقوم أخوتنا وأخواتنا الجنود في العراق والكويت بسماع قراءات صحيحة من التوراة وأن يتمتعوا بوجبات الأعياد"(70). ولأن التفاح لا يمكن أن يبقى طازجاً لفترة طويلة في حر العراق القائظ، قرر "مجلس رجال الدين اليهود" تحضير حلويات بنكهة التفاح وجرار عسل. كما وزعت على رجال الدين العاملين في المنطقة بطاقات عيد رأس السنة اليهودية(71). وقامت إيمي، زوجة الحاخام ميتشل أكرسون، بحملة تبرع لجمع "بطاقات هاتف" لتوزيعها على الجنود اليهود حتى يتمكنوا من الاتصال بذويهم في فترة الأعياد. وقد ساهم بجمع هذه البطاقات "الاتحاد الأرثوذكسي" (نيويورك) بالتعاون مع "مجلس الرفاه اليهودي"(72). وقامت طائفة "جماعة إسرائيل"(73) (سينسيناتي، أوهيو) بالتبرع بمئات من كتب الصلاة للجنود اليهود في العراق، الكويت وأفغانستان. الرائد ألان كباكوف(74) هو أحد أعضاء تلك الطائفة ويخدم في العراق كضابط شرطة، وتأمل زوجته أن يتمكن من الاحتفال بعيد رأس السنة هناك(75). وتبرع أحد مراكز طائفة خَبَد في ميلبورن (نيوجيرسي) بشمعدانات وسلاسل ورقية لنجمة داود، التي ربما ستزين القصر الرئاسي في بغداد أثناء الاحتفال بعيد رأس السنة اليهودية. وأرسل أطفال من كنيس أرثوذكسي في بالم بيتش (فلوريدا) بطاقات وزينة لعيد المظلة(76).
"انتصار على الفوضى"
قام بنقل لفافات التوراة الثمينة إلى الكويت رجل الدين، الكولونيل جاكوب غولدستين(77)، ووضعت تحت الحراسة المسلحة طوال الوقت. وبعمل "دؤوب" ساهمت النائبة هيلاري كلينتون بتسهيل إجراءات التأمين والنقل وأجرت استفسارات مهمة وأساسية في الدوائر الأمريكية المعنية. وأرسلت "شبكة المربين اليهود" "1200 وجبة عشاء" و"800 وجبة غذاء" كوشر ومواد دينية. ويقول أكرسون حول هذه الحملة لدعم "محرري العراق": "يثبت هذا المشروع، وجميع من قام به، أن أحداً لم ينس العسكريين البعيدين عن الوطن الذين يعرضون حياتهم للخطر من أجل هدف أكبر". هذا "الهدف الأكبر" دفع ديبي أستور(78)، والدة أحد جنود المارينز من اليهود(79) الذي عاد من "خدمته" في العراق، إلى القول: "جنودنا اليهود يستحقون الاحترام وينبغي النظر إليهم بجدية. إن الجهد المبذول من أجل الأعياد هو انتصار على الفوضى في عالمنا"(80). وأستور تساهم بشكل فعال في الجهود المبذولة للقضاء على الفوضى في العالم، فقد أسست في شهر شباط 2003 "الشجاع"، وهي قائمة بريدية إلكترونية لتحقيق التواصل مع الجنود اليهود. وبدأت الفكرة عندما تذكرت أن ابن الحاخام مورديخاي فينلي، هو أيضاً جندي في القوات الأمريكية. ويقول موريس كابروف(81)، الحاخام المناوب في الأسطول الأمريكي السادس في البحر الأبيض: "نريد للعالم أن يعرف أن اليهود موجودين في الجيش 365 يوماً في السنة وليس في فترة الحرب فقط". ويستضيف القائمة موقع "الكنيس المتحد لليهود المحافظين". وأستور هي أيضاً المديرة التنفيذية لـ "معبد إسرائيل"(82) في بلدة شارون، ماساتشوسيتس(83).
مهرجان الكوشر
من بين الأغذية التي أرسلت للجنود اليهود في العراق والكويت، مواد تبرع بها "مهرجان الكوشر"(84)، وهو "المعرض التجاري الدولي لخدمات وأغذية الكوشر"(85) في نيويورك التي تعتبر، بعد إسرائيل، أكبر منتج ومستهلك لهذه الأغذية، ويبلغ حجم سوقها ثلاثة بلايين دولار، كما أفاد مكتب جورج باتاكي(86)، حاكم ولاية نيويورك. وكان باتاكي قد صرح في آب عام 2002، وبمناسبة الإعلان عن نقل هذا المعرض من نيوجيرسي إلى نيويورك، "عندما نركز على أغذية الكوشر، نقوم في الوقت نفسه بتسليط الضوء على الدولة اليهودية، وهو أمر حيوي في هذه الفترة التي تعاني فيها إسرائيل من الهجمات الانتحارية الإجرامية. ومع اقترابنا من عيد رأس السنة وصلاتنا من أجل السلام في الشرق الأوسط، فإن على سكان نيويورك أن يقوموا بكل ما في وسعهم لإظهار تكاتفهم مع إسرائيل"(87).
"غذاء الجسد والروح"
وهكذا وصل الحاخام جاكوب غولدستين إلى الكويـت، في شهر أيلول عام 2003(88) قادماً من نيويورك ومعه أربع لفافات توراة، توراة صغيرة، خمس مجموعات من سعف النخيل والنارنج للاحتفال بعيد المظلة(89)، وأرغفة خبز وكعك بالعسل وغيرها من المؤن لإضفاء البهجة على الأعياد التي سيحتفل بها الجنود الأمريكيون اليهود في الكويت والعراق وأفغانستان. وأحضر معه أيضاً "ثلاث مظلات كبيرة وسبع صغيرة لاستخدام المئات من اليهود المنتشرين في الكويت والعراق"(90). ولم ينس أن يحضر معه "أعداداً لا تحصى" من علب سلامي البقر. كل هذا "بفضل وزارة الدفاع، فهي لم تدخر وسعاً لتأمين الحاجات الدينية للجنود اليهود"، كما قال غولدستين. وشحنت "مؤسسة ألف" أكثر من مائة ثوب صلاة(91)، أردية لرجال الدين، وخمسمائة علبة عسل، وغيرها من المؤن(92).
وقد أستدعي غولدستين لأن هناك "نقصاً" في رجال الدين اليهود في الخدمة العسكرية الفعلية، وقبل مغادرتـه نيويورك صرح قائلاً: "لدينا غذاء الجسد والروح. وسأتولى أنا خدمة القداس في عيد رأس السنة لجميع القوات اليهودية في الكويت". وأشار إلى أنه يوجد كنيس صغير ثابت في الموقع، أي في الكويت. وهكذا أصبح هناك ثلاثة رجال دين احتياط واثنان في الخدمة العسكرية الفعلية من رجال الدين اليهود للمساعدة في إقامة القداس للجنود اليهود .. في "العراق وإيران"، على حد تعبير "ذي جويش ويك"، التي ربمـا، في خطأ مطبعي ذي دلالة، وجدت أن "الكويت" لا تستحق كل هذا العناء، فاستبدلتها بـ "إيران". وعندما سأل عن شعوره إزاء تركه عائلته عشية الأعياد، أجاب: "إنهم فخورون بما أقوم به، وقلقون على سلامتي. ولكن ليست هذه المرة الأولى التي يجري فيها استدعائي إلى منطقة معارك ... لقد كنت في أفغانستان في عيد الفصح 2002 وفي عملية عاصفة الصحراء"(93). وفي الكويت أقام غولدستين احتفال عيد رأس السنة لمائة من الجنود اليهود العاملين هناك(94).
"أمريكا وإسرائيل والرب"
كانت الأسابيع الأولى من شهر أيلول "محمومة" بالنسبة للحاخام ميتشل أكرسون، فقد كان يعمل على التحضير لعيد رأس السنة اليهودية في العراق، ولكن الأحداث هذه المرة أضفت بعداً جديداً على طابع "التأمل" الذي يتصف به هذا الشهر عادةً. فأثناء العمل على الترتيبات النهائية للعيد التقى مجموعة من الجنود اليهود من "الفرقة المدرعة الأولى"(95) كان معظمهم "مهاجرين من الاتحاد السوفياتي سابقاً، ولكن كانت هناك أيضاً شابة لطيفة من البرازيل وأخرى من أمريكا اللاتينية". وقد اغتنم الفرصة ليتحدث مع هؤلاء حول مفهوم العدالة في اليهودية، أي كيف "نتعلم أن العدالة التي لا تمارس بعدل، هي ليست عدالة، وأن الغاية لا تبرر الوسيلة في اليهودية". وناقش الجميع أن الجيش الأمريكي هو "الأداة لتحقيق العدالة في العالم وأننا نتصرف بعدل ونلاحق هؤلاء، الذين لا يفعلون ذلك". ومن جديد تتوحد إسرائيل وأمريكا، عندما يعقب الحاخام الصالح قائلاً: "حقاً، إن الولايات المتحدة وإسرائيل هما البلدان الوحيدان اللذان دخلا حرباً حقيقية على مدى الأربعين سنة السابقة، ويستطيعان فعلاً القول أنهما تقيدا بمواثيق جنيـف (وبالتأكيد لم يفعل ذلك البلجيكيون، الفرنسيون، أو غيرهم في أفريقيا وأماكن أخرى)". أكرسون مطلع على التاريخ الأفريقي الحديث، أي ما أنزله الاستعمار من ويلات بالقارة السوداء، لكن ما جرى ويجري في فلسطين والعراق على أيدي الإسرائيليين والأمريكيين يختلف عما قام به الفرنسيون والبلجيكيون، فلم يقم أي من هؤلاء المستعمرين بما قام به الإسرائيليون، أي طرد شعب من وطنه والاستيلاء على هذا الوطن بدعـم من أمريكا التي "تتقيد فعلاً" بمواثيق جنيف. وربما بسبب هذا الدعم المطلق تجد أمريكا مكاناً فخرياً لها في اليهودية، يؤكده أكرسون عندما يكتـب: "أمريكا تؤمن بصنع عالم أحسن، أي ما نسميه نحن ‘إصلاح العالم’(96)، شاكرين، ليس فقط أمريكا أو الجنود الذين يموتون دفاعاً عنها، ولكن أيضاً الرب الذي منحنا الحياة والهدف"(97).