في ديسمبر من عام 2008 فاجأ الرئيس الإكوادوري "رفاييل كوريا" العالم حين أعلن امتناع بلاده عن دفع مبلغ قدره 30.6 مليون دولار كان من المفترض أن تسدده الإكوادور للمقرضين الدوليين في نفس الشهر كفائدة على دين مستحق عليها قدره 510 ملايين دولار يجب سداده بالكامل في عام 2012.
وجاء قرار "كوريا" على خلفية توصية صادرة عن لجنة أنشأتها الإكوادور قبل ذلك التاريخ بشهر واحد، نصحت فيها الرئيس بالامتناع عن سداد 40% من ديون البلاد البالغة في ذلك الوقت نحو 10 مليارات دولار، بعد أن اتهمت اللجنة مجموعة من المسؤولين الحكوميين والمصرفيين الأجانب بالتلاعب غير القانوني بتلك القروض بغرض كسب أرباح كبيرة.
الممانعة التي لم تدم طويلاً
لكن بغض النظر عن عدالة قضيته من عدمها، فشل "كوريا" في النهاية في تنفيذ تهديده ولم يستطع الامتناع عن سداد ولو دولار واحد من تلك التي اقترضتها بلاده. بل وصل الأمر إلى أن الإكوادور ظلت تحاول إرضاء المقرضين الدوليين خلال السنوات القليلة الماضية، لتحصل هذا العام أخيراً على قرض بقيمة 4.2 مليار دولار من صندوق النقد الدولي.
تلك الحادثة تثير سؤالاً مثيراً جداً للاهتمام طرحته قبل ذلك عالمة السياسة والاجتماع الأمريكية "سوزان جورج" حين قالت: "لماذا لا ترفض دول العالم الثالث ببساطة أن تدفع ديونها؟ هذا السلوك لم يكن غريباً على العلاقات الدولية طوال الخمسمائة عام السابقة على الحرب العالمية الثانية، فلماذا لم يعد ممكناً اليوم؟"
وبالفعل نجد أن التاريخ مليء بحوادث امتنعت فيها دول عن سداد ديونها لمقرضيها وإن اختلفت الأسباب. وربما واحدة من أشهر تلك الحوادث هي امتناع المكسيك في عام 1861 عن سداد ديونها لكل من بريطانيا وإسبانيا وفرنسا، مما دفع الدول الثلاث لغزو المكسيك التي ظلت ثابتة على موقفها ولم تدفع لهم أي شيء في نهاية المطاف.
لكن الوضع تغير خلال العقود القليلة الأخيرة ولم يعد بإمكان أي دولة مهما كانت جرأة أو حماقة مسؤوليها التلويح بذلك الخيار ناهيك عن استخدامه أصلاً، فما السبب؟
لفهم هذه المسألة تستعرض السطور التالية جزءاً من كواليس أزمة الديون التي عانت منها أمريكا اللاتينية -وبالأخص المكسيك- خلال ثمانينيات القرن الماضي، لنتعرف على العناصر الجديدة التي باتت تحكم المعادلة.
إعادة تدوير دولارات النفط
مع بداية السبعينيات بدأت البنوك الكبرى في وول ستريت تنخرط في تجارة رائجة جداً في ذلك الوقت تعرف باسم "Petrodollar Recycling" أو إعادة تدوير دولارات النفط، والتي تقوم خلالها بأخذ الأموال الفائضة من الدول الغنية بالنفط لتعيد استثمارها عبر إقراضها بفائدة عالية للدول النامية.
تزامن ذلك مع تورط الاقتصادات الغنية وفي مقدمتها الاقتصاد الأمريكي في فخ الركود، مما أثر سلباً على عوائد الاستثمارات المحلية بتلك الاقتصادات. وفي وسط هذه الظروف سارعت البنوك والمؤسسات المالية الكبرى لتغيير وجهتها ليصبح نشاطها الرئيسي هو إقراض الدول الناشئة وفي القلب منها دول أمريكا اللاتينية.
إجمالاً، أقرضت 9 بنوك أمريكية فقط نحو 53 مليار دولار للمكسيك وحدها. وفي البداية كانت الأمور تمضي على ما يرام وكانت الأرباح كبيرة وسهلة، حتى وصل الأمر إلى أن أكثر من نصف أرباح "سيتي بنك" -أحد أكبر البنوك الأمريكية- خلال السبعينيات كان مصدره عوائد قروض تم منحها لدول أمريكا اللاتينية.
لكن لم تدم هذه الحفلة طويلاً. ففي محاولة منه لوضع حد لأزمة الركود التي عانى منها الاقتصاد الأمريكي خلال السبعينيات قام رئيس الاحتياطي الفيدرالي "بول فولكر" فجأة برفع سعر الفائدة الرئيسي من 9% فقط في أكتوبر 1979 إلى 20% في مايو 1980.
وبما أن معظم القروض التي حصلت عليها دول أمريكا اللاتينية في ذلك الوقت كان متعاقد عليها على أساس سعر الفائدة المتغير وليس الثابت، تسببت قرارات "فولكر" في إحداث صدمة للدول النامية التي ارتفعت الآن قيمة خدمة ديونها إلى السماء.
انتهت الحفلة
في المكسيك وعلى خلفية مخاوف من حدوث أزمة ديون وشيكة قد تؤدي إلى انخفاض قيمة العملة بعد قرارات "فولكر" سارع المواطنون والمستثمرون الأجانب إلى نقل كميات كبيرة من رأس المال إلى خارج البلاد، مما أدى إلى استنزاف احتياطيات البنك المركزي للبلاد من النقد الأجنبي بسرعة كبيرة.
خلال الفترة ما بين عامي 1973 و1982، ارتفعت الديون الخارجية للمكسيك بمعدل 30% سنوياً من 4 مليارات دولار فقط إلى أكثر من 80 مليار دولار. وفي الوقت نفسه أجبرت الصدمة التي أحدثها قرار "فولكر" والتي تسببت في هروب رؤوس الأموال من البلاد -البنك المركزي المكسيكي- على اقتراض المزيد لدعم احتياطياته.
وفقاً لتقديرات البنك الدولي والحسابات الرسمية للمركزي المكسيكي بلغ مجموع رؤوس الأموال الهاربة من المكسيك خلال الفترة ما بين عامي 1978 و1982 نحو 27 مليار دولار، بينما أشارت تقديرات الاقتصاديين المستقلين إلى مبالغ تتراوح ما بين 40 و55 مليار دولار.
الآن تقترض المكسيك من الخارج لمجرد سداد ديونها الخارجية القديمة، وهكذا دخلت في حلقة مفرغة لا يمكنها أن تستمر إلا إذا ظلت بنوك وول ستريت على استعداد لتجديد ديون البلاد مستحقة الدفع بدلاً من تحصيلها. ولكن هذا غير ممكن، لذا بدأت تلك البنوك في تقليل آجال الديون الجديدة التي تعطيها للمكسيك.
فكل الأموال الجديدة تقريباً التي حصلت عليها المكسيك خلال تلك الفترة جاءتها في شكل قروض لا تزيد مدة استحقاقها على 6 أشهر. وفي الوقت نفسه أمسكت البنوك الكبرى يدها عن إقراض الدول اللاتينية بشكل عام.
فمقارنة مع قروض قيمتها 42 مليار دولار حصلت عليها أمريكا اللاتينية في الـ18 شهراً السابقة على منتصف 1982، لم تحصل القارة على أكثر من 9 مليارات دولار في الـ18 شهراً التالية لذلك التاريخ.
الأموال تدخل في النهار وتغادر قبل حلول المساء
وسط تلك الأوضاع السيئة أدرك المسؤولون الماليون في المكسيك أن بلادهم ستكون في حاجة ماسة إلى خطة إنقاذ دولية أو قرض من صندوق النقد الدولي إذا أرادت ألا تتخلف عن سداد ديونها الخارجية.
في البداية رفض الرئيس المكسيكي "لوبيز بورتيو" بشكل حاسم لجوء بلاده إلى صندوق النقد الدولي خشية الإذعان لما سمَّاها (الشروط المذلة)، ولكنه سرعان ما تخلى عن كبريائه واضطر في النهاية للجوء للصندوق، وبدأت البلاد في أوائل عام 1982 في تنفيذ برنامج التقشف الإصلاحي الخاص بصندوق النقد الدولي والمكون من 17 شرطاً لطمأنة المستثمرين الأجانب.
عن تلك الفترة يحكي وزير المالية المكسيكي السابق "سيلفا هيرزوج" كيف كانت تدور الكواليس فيقول: "في ذلك الوقت كنا نجتمع فنقول مثلاً أنه علينا أن نسدد غداً دفعة قدرها 40 مليون دولار إلى البنوك "س" و"ص" و"ع" ولكننا لم نملك سوى نصف ذلك المبلغ، فما العمل؟"
يتابع الوزير السابق حديثه قائلاً: "هذا معناه أننا في حاجة لاقتراض 20 مليون دولار لمدة 24 أو 48 ساعة من البنك "م" لتغطية التزاماتنا المالية. وحين يأتي الغد وتنتهي مهلة ذلك القرض سنحاول ساعتها التصرف بأي شكل". تلك كانت مقطتفات من الحوارات التي كانت تدور في كواليس الأزمة بين صناع السياسة المالية في المكسيك خلال ذلك الوقت.
بحلول نهاية يونيو 1982 كان المركزي المكسيكي يفقد يومياً ما يتراوح ما بين 200 إلى 300 مليون دولار من احتياطياته الأجنبية التي انخفضت قيمتها لدرجة أنها لم تعد تكفي لتغطية واردات البلاد لأكثر من أسبوعين.
التخلف عن السداد لم يعد خياراً
السؤال الآن: المكسيك في وضع متأزم وتسير بخطى ثابتة نحو كارثة مالية، فلماذا لا تقوم ببساطة بتعليق مدفوعات الديون إلى البنوك الأجنبية كما فعلت العديد من الحكومات المكسيكية الأخرى في الماضي؟
ببساطة كان المسؤولون يدركون أن هذا الخيار لم يعد ممكناً وأن إقدام المكسيك على تلك الخطوة ستكون له عواقب خطيرة فورية من بينها -على سبيل المثال لا الحصر- امتناع القطاع المالي العالمي عن توفير خدمات الائتمان لها، واهتزاز الثقة بالقطاع الخاص المكسيكي الذي يعتمد بشكل كبير على الواردات.
كان سبب الخوف الرئيسي أن تؤدي خطوة تعليق مدفوعات الديون إلى دفع الدائنين الدوليين إلى رفض منح أي قروض أخرى ليس للحكومة المكسيكية وحدها بل وللقطاع الخاص أيضاً، وهو ما سوف يتسبب حتماً في إحداث صدمة اقتصادية واجتماعية ستكون لها عواقب سياسية لا يمكن التنبؤ بها.
السر وراء خوف المكسيك من الإقدام على تلك الخطوة كان يكمن في إدراكها لطبيعة مقرضيها الدوليين. ففي الثمانينيات كان الوضع مختلفاً تماماً عن الثلاثينيات حين كان مقرضو الحكومات مجرد مجموعة من البنوك والأثرياء غير المنظمين والذين لم يكن بإمكانهم إجبار الحكومات على أي شيء.
أما في الثمانينيات فكانت البنوك الكبرى تتصدر المشهد معاً وتحظى في نفس الوقت بولاء البنوك الصغيرة وكبار المستثمرين، أي أن القطاع المالي بالكامل يقف في مواجهة الحكومات كفريق واحد يعمل بشكل منسق وجماعي.
هذا معناه أنه إذا قررت المكسيك أو غيرها التخلف عن سداد ديونها لأي من البنوك الكبرى سيتحزب القطاع المالي العالمي بالكامل ضدها ولن يكون بمقدورها الحصول ولو على دولار واحد من أي مصدر بديل.
هذا أوضحه نائب رئيس "سيتي بنك" حين قال في خضم الأزمة: إن الدائنين ليسوا مجرد مجموعة من الأفراد الضعفاء بل هم مجموعة قوية تتكون من أكبر البنوك في العالم. وأي دولة ستقرر التخلف عن سداد ديونها ستجد النظام المصرفي بالكامل ضدها. لن يحصلوا على أي ائتمان على الإطلاق ولا حتى على المدى القصير".
باختصار.. في العقود الأخيرة تعززت قوة الدائنين القائمة على امتلاك السوق نفسه والتصرف بشكل جماعي في مواجهة أي محاولة للتمرد على النظام من قبل أي دولة مهما علا شأنها.
وجاء قرار "كوريا" على خلفية توصية صادرة عن لجنة أنشأتها الإكوادور قبل ذلك التاريخ بشهر واحد، نصحت فيها الرئيس بالامتناع عن سداد 40% من ديون البلاد البالغة في ذلك الوقت نحو 10 مليارات دولار، بعد أن اتهمت اللجنة مجموعة من المسؤولين الحكوميين والمصرفيين الأجانب بالتلاعب غير القانوني بتلك القروض بغرض كسب أرباح كبيرة.
الممانعة التي لم تدم طويلاً
لكن بغض النظر عن عدالة قضيته من عدمها، فشل "كوريا" في النهاية في تنفيذ تهديده ولم يستطع الامتناع عن سداد ولو دولار واحد من تلك التي اقترضتها بلاده. بل وصل الأمر إلى أن الإكوادور ظلت تحاول إرضاء المقرضين الدوليين خلال السنوات القليلة الماضية، لتحصل هذا العام أخيراً على قرض بقيمة 4.2 مليار دولار من صندوق النقد الدولي.
تلك الحادثة تثير سؤالاً مثيراً جداً للاهتمام طرحته قبل ذلك عالمة السياسة والاجتماع الأمريكية "سوزان جورج" حين قالت: "لماذا لا ترفض دول العالم الثالث ببساطة أن تدفع ديونها؟ هذا السلوك لم يكن غريباً على العلاقات الدولية طوال الخمسمائة عام السابقة على الحرب العالمية الثانية، فلماذا لم يعد ممكناً اليوم؟"
وبالفعل نجد أن التاريخ مليء بحوادث امتنعت فيها دول عن سداد ديونها لمقرضيها وإن اختلفت الأسباب. وربما واحدة من أشهر تلك الحوادث هي امتناع المكسيك في عام 1861 عن سداد ديونها لكل من بريطانيا وإسبانيا وفرنسا، مما دفع الدول الثلاث لغزو المكسيك التي ظلت ثابتة على موقفها ولم تدفع لهم أي شيء في نهاية المطاف.
لكن الوضع تغير خلال العقود القليلة الأخيرة ولم يعد بإمكان أي دولة مهما كانت جرأة أو حماقة مسؤوليها التلويح بذلك الخيار ناهيك عن استخدامه أصلاً، فما السبب؟
لفهم هذه المسألة تستعرض السطور التالية جزءاً من كواليس أزمة الديون التي عانت منها أمريكا اللاتينية -وبالأخص المكسيك- خلال ثمانينيات القرن الماضي، لنتعرف على العناصر الجديدة التي باتت تحكم المعادلة.
إعادة تدوير دولارات النفط
مع بداية السبعينيات بدأت البنوك الكبرى في وول ستريت تنخرط في تجارة رائجة جداً في ذلك الوقت تعرف باسم "Petrodollar Recycling" أو إعادة تدوير دولارات النفط، والتي تقوم خلالها بأخذ الأموال الفائضة من الدول الغنية بالنفط لتعيد استثمارها عبر إقراضها بفائدة عالية للدول النامية.
تزامن ذلك مع تورط الاقتصادات الغنية وفي مقدمتها الاقتصاد الأمريكي في فخ الركود، مما أثر سلباً على عوائد الاستثمارات المحلية بتلك الاقتصادات. وفي وسط هذه الظروف سارعت البنوك والمؤسسات المالية الكبرى لتغيير وجهتها ليصبح نشاطها الرئيسي هو إقراض الدول الناشئة وفي القلب منها دول أمريكا اللاتينية.
إجمالاً، أقرضت 9 بنوك أمريكية فقط نحو 53 مليار دولار للمكسيك وحدها. وفي البداية كانت الأمور تمضي على ما يرام وكانت الأرباح كبيرة وسهلة، حتى وصل الأمر إلى أن أكثر من نصف أرباح "سيتي بنك" -أحد أكبر البنوك الأمريكية- خلال السبعينيات كان مصدره عوائد قروض تم منحها لدول أمريكا اللاتينية.
لكن لم تدم هذه الحفلة طويلاً. ففي محاولة منه لوضع حد لأزمة الركود التي عانى منها الاقتصاد الأمريكي خلال السبعينيات قام رئيس الاحتياطي الفيدرالي "بول فولكر" فجأة برفع سعر الفائدة الرئيسي من 9% فقط في أكتوبر 1979 إلى 20% في مايو 1980.
وبما أن معظم القروض التي حصلت عليها دول أمريكا اللاتينية في ذلك الوقت كان متعاقد عليها على أساس سعر الفائدة المتغير وليس الثابت، تسببت قرارات "فولكر" في إحداث صدمة للدول النامية التي ارتفعت الآن قيمة خدمة ديونها إلى السماء.
انتهت الحفلة
في المكسيك وعلى خلفية مخاوف من حدوث أزمة ديون وشيكة قد تؤدي إلى انخفاض قيمة العملة بعد قرارات "فولكر" سارع المواطنون والمستثمرون الأجانب إلى نقل كميات كبيرة من رأس المال إلى خارج البلاد، مما أدى إلى استنزاف احتياطيات البنك المركزي للبلاد من النقد الأجنبي بسرعة كبيرة.
خلال الفترة ما بين عامي 1973 و1982، ارتفعت الديون الخارجية للمكسيك بمعدل 30% سنوياً من 4 مليارات دولار فقط إلى أكثر من 80 مليار دولار. وفي الوقت نفسه أجبرت الصدمة التي أحدثها قرار "فولكر" والتي تسببت في هروب رؤوس الأموال من البلاد -البنك المركزي المكسيكي- على اقتراض المزيد لدعم احتياطياته.
وفقاً لتقديرات البنك الدولي والحسابات الرسمية للمركزي المكسيكي بلغ مجموع رؤوس الأموال الهاربة من المكسيك خلال الفترة ما بين عامي 1978 و1982 نحو 27 مليار دولار، بينما أشارت تقديرات الاقتصاديين المستقلين إلى مبالغ تتراوح ما بين 40 و55 مليار دولار.
الآن تقترض المكسيك من الخارج لمجرد سداد ديونها الخارجية القديمة، وهكذا دخلت في حلقة مفرغة لا يمكنها أن تستمر إلا إذا ظلت بنوك وول ستريت على استعداد لتجديد ديون البلاد مستحقة الدفع بدلاً من تحصيلها. ولكن هذا غير ممكن، لذا بدأت تلك البنوك في تقليل آجال الديون الجديدة التي تعطيها للمكسيك.
فكل الأموال الجديدة تقريباً التي حصلت عليها المكسيك خلال تلك الفترة جاءتها في شكل قروض لا تزيد مدة استحقاقها على 6 أشهر. وفي الوقت نفسه أمسكت البنوك الكبرى يدها عن إقراض الدول اللاتينية بشكل عام.
فمقارنة مع قروض قيمتها 42 مليار دولار حصلت عليها أمريكا اللاتينية في الـ18 شهراً السابقة على منتصف 1982، لم تحصل القارة على أكثر من 9 مليارات دولار في الـ18 شهراً التالية لذلك التاريخ.
الأموال تدخل في النهار وتغادر قبل حلول المساء
وسط تلك الأوضاع السيئة أدرك المسؤولون الماليون في المكسيك أن بلادهم ستكون في حاجة ماسة إلى خطة إنقاذ دولية أو قرض من صندوق النقد الدولي إذا أرادت ألا تتخلف عن سداد ديونها الخارجية.
في البداية رفض الرئيس المكسيكي "لوبيز بورتيو" بشكل حاسم لجوء بلاده إلى صندوق النقد الدولي خشية الإذعان لما سمَّاها (الشروط المذلة)، ولكنه سرعان ما تخلى عن كبريائه واضطر في النهاية للجوء للصندوق، وبدأت البلاد في أوائل عام 1982 في تنفيذ برنامج التقشف الإصلاحي الخاص بصندوق النقد الدولي والمكون من 17 شرطاً لطمأنة المستثمرين الأجانب.
عن تلك الفترة يحكي وزير المالية المكسيكي السابق "سيلفا هيرزوج" كيف كانت تدور الكواليس فيقول: "في ذلك الوقت كنا نجتمع فنقول مثلاً أنه علينا أن نسدد غداً دفعة قدرها 40 مليون دولار إلى البنوك "س" و"ص" و"ع" ولكننا لم نملك سوى نصف ذلك المبلغ، فما العمل؟"
يتابع الوزير السابق حديثه قائلاً: "هذا معناه أننا في حاجة لاقتراض 20 مليون دولار لمدة 24 أو 48 ساعة من البنك "م" لتغطية التزاماتنا المالية. وحين يأتي الغد وتنتهي مهلة ذلك القرض سنحاول ساعتها التصرف بأي شكل". تلك كانت مقطتفات من الحوارات التي كانت تدور في كواليس الأزمة بين صناع السياسة المالية في المكسيك خلال ذلك الوقت.
بحلول نهاية يونيو 1982 كان المركزي المكسيكي يفقد يومياً ما يتراوح ما بين 200 إلى 300 مليون دولار من احتياطياته الأجنبية التي انخفضت قيمتها لدرجة أنها لم تعد تكفي لتغطية واردات البلاد لأكثر من أسبوعين.
التخلف عن السداد لم يعد خياراً
السؤال الآن: المكسيك في وضع متأزم وتسير بخطى ثابتة نحو كارثة مالية، فلماذا لا تقوم ببساطة بتعليق مدفوعات الديون إلى البنوك الأجنبية كما فعلت العديد من الحكومات المكسيكية الأخرى في الماضي؟
ببساطة كان المسؤولون يدركون أن هذا الخيار لم يعد ممكناً وأن إقدام المكسيك على تلك الخطوة ستكون له عواقب خطيرة فورية من بينها -على سبيل المثال لا الحصر- امتناع القطاع المالي العالمي عن توفير خدمات الائتمان لها، واهتزاز الثقة بالقطاع الخاص المكسيكي الذي يعتمد بشكل كبير على الواردات.
كان سبب الخوف الرئيسي أن تؤدي خطوة تعليق مدفوعات الديون إلى دفع الدائنين الدوليين إلى رفض منح أي قروض أخرى ليس للحكومة المكسيكية وحدها بل وللقطاع الخاص أيضاً، وهو ما سوف يتسبب حتماً في إحداث صدمة اقتصادية واجتماعية ستكون لها عواقب سياسية لا يمكن التنبؤ بها.
السر وراء خوف المكسيك من الإقدام على تلك الخطوة كان يكمن في إدراكها لطبيعة مقرضيها الدوليين. ففي الثمانينيات كان الوضع مختلفاً تماماً عن الثلاثينيات حين كان مقرضو الحكومات مجرد مجموعة من البنوك والأثرياء غير المنظمين والذين لم يكن بإمكانهم إجبار الحكومات على أي شيء.
أما في الثمانينيات فكانت البنوك الكبرى تتصدر المشهد معاً وتحظى في نفس الوقت بولاء البنوك الصغيرة وكبار المستثمرين، أي أن القطاع المالي بالكامل يقف في مواجهة الحكومات كفريق واحد يعمل بشكل منسق وجماعي.
هذا معناه أنه إذا قررت المكسيك أو غيرها التخلف عن سداد ديونها لأي من البنوك الكبرى سيتحزب القطاع المالي العالمي بالكامل ضدها ولن يكون بمقدورها الحصول ولو على دولار واحد من أي مصدر بديل.
هذا أوضحه نائب رئيس "سيتي بنك" حين قال في خضم الأزمة: إن الدائنين ليسوا مجرد مجموعة من الأفراد الضعفاء بل هم مجموعة قوية تتكون من أكبر البنوك في العالم. وأي دولة ستقرر التخلف عن سداد ديونها ستجد النظام المصرفي بالكامل ضدها. لن يحصلوا على أي ائتمان على الإطلاق ولا حتى على المدى القصير".
باختصار.. في العقود الأخيرة تعززت قوة الدائنين القائمة على امتلاك السوق نفسه والتصرف بشكل جماعي في مواجهة أي محاولة للتمرد على النظام من قبل أي دولة مهما علا شأنها.
لن ندفع! .. هل بإمكان دول العالم الثالث الامتناع ببساطة عن سداد ديونها؟
في ديسمبر من عام 2008 فاجأ الرئيس الإكوادوري "رفاييل كوريا" العالم حين أعلن امتناع بلاده عن دفع مبلغ قدره 30.6 مليون دولار كان من المفترض أن تسدده الإ
www.argaam.com
التعديل الأخير: