البطولة التي أتحدث عنها اليوم، هي البطولة التي بدت في عين جالوت، في رمضان منذ
نحو سبعمائة سنة، وكانت البطولة التي أبدتها مصر ممثلة في سلطانها الملك المظفر
سيف الدين قطز، وأمرائها وأجنادها من أصحاب السيوف، وعلمائها من القاطعين
بالأحكام الشرعية، والمفتين، والمتصدرين للتدريس، ورجال دواوينها من أصحاب الأقلام،
وأهل الفلاحة والصناعة والتجارة، وهم عماد الدولة، وهم الذين جهزوا الجيوش، وهم
الذين بثوا روح التساند والتكافل، وهم جميعًا الذين أنقذوا مصر في عين جالوت، سواء
منهم الذين حضروها بأنفسهم وبأشخاصهم، والذين كانوا في حكم الحاضرين؛ لأنهم
هم الذين مكنوا المقاتلين من القتال.
وعلى هذا فالبطولة يمكن أن تكون عمل فرد، ويمكن أن تكون عمل مجموعة،
وممكن أن تتجلى في عمل يحدث بارزًا قائمًا بنفسه، ويمكن أن تتجلى في عصر بأكمله
أو في حياة طائفة من الشعب، ويمكن أن تكون عملًا حربيٍّا، كما يمكن أن تكون نشاطًا
مدنيٍّا؛ فالأبطال، كما صورهم كاتب غربي مشهور (وقد نقل كتابه للغة العربية أديب
مشهور: السباعي) فهم الأدباء ورجال الحرب، وغيرهم من القادة، والبطولة أوسع من
بطولات الملاحم، وزمانها يعم جميع أدوار التاريخ، وإن أحبت الأمم أن تمجد أبطالها
الأقدمين، وأحيانًا أبطالها الخرافيين، مع أن الواقع كما نعرف أعجب من الخرافة،
فلنلتمس بطولاتنا في الواقع، وعين جالوت التي بدت فيها بطولة مصرممثلة على النحو
الذي وصفت، شهدت في القديم بطولة من نوع آخر، ففيها، كما ورد في المأثور، قتل
الصبي داوود العملاق جالوت، وقد قدر لله لداوود أن يقتل به جالوت ووهبه ما وهب.
وفيها تقابل جيش مصر بجموع المغول والتتر، فحطم تلك الجموع، وكانت هذه
أول مرة انكسر فيها هؤلاء منذ أن دخلوا أقطار العالم الإسلامي، وضربوا العراق
والجزيرة والديار العربية والسورية، فكانت من الوقائع الحاسمة في التاريخ.
والبطولة التي تجلت فيها مرت في ثلاثة أدوار: في الدور الأول كانت بطولة التغلب
على النزوع إلى التفرق، بطولة جمع الكلمة مع تقليد الحكم والزعامة للرجل الذي
يستطيع مواجهة الشر والخطر، وفي الدور الثاني: كانت بطولة القرار العظيم؛ قرار
الخروج إلى مواجهة البرابرة الزاحفين، وعدم انتظارهم، وفي أرض الوطن، وبطولة
الخروج ينبغي أن ننوه بخطورتها وذلك لسببين؛ أولًا: لأن المغول كانوا منذ خروجهم
من بلادهم يعتمدون أكثر ما يعتمدون على نشر الرعب، وتحطيم أي عزم على المقاومة،
وقد بلغ من إرهابهم أن الأسرى كانوا يستسلمون وهم كثيرون لتتري واحد، بل وقيل:
إنهم كانوا ينتظرون دورهم هادئين مطمئنين حتى يفرغ التتري لقتلهم صبرًا، وهم في
ذلك كالضواري يقال إنها تسحر فريستها، فلا تحاول فرارًا أو مقاومة، فكان الخروج
لهم بطولة الجرأة، وكان أيضًا بطولة الحكمة، ذلك أن البقاء في مصرانتظارًا لقدومهم
كان من شأنه أن يؤدي إلى تفرق الكلمة بعد أن اجتمعت، وإلى نشر روح التخاذل، وإلى
التعلق بالآمال الكاذبة، ورجاء حدوث المعجزات التي تغني الناس عن البذل والتضحية.
وفي الدور الثالث: كانت البطولة التي بدت في القتال، في الواقعة نفسها، وللجميع
أن يفخروا بما كان منهم، ولكن الفخر الأكبر لقطز نفسه.
ما الذي أحضر تلك الجموع من أقصى آسيا شرقًا إلى أدناها لمصر غربًا؟ ما الذي
دفعها إلى التحطيم والتخريب، وإلى تمزيق الدول الإسلامية دولة دولة، هل نصدق ما
قاله هولاكو في رسالته لسلطان مصر عن نفسه وعن قومه، وعما تصدى هو وهم
إنا نحن جند لله في أرضه، خلقنا من سخطه وسلطنا على من حل به » : لتحقيقه؟ قال
غضبه … نحن لا نرحم من بكى ولا نرق لمن شكى … فتحنا البلاد وطهرنا الأرض
من الفساد، وقتلنا معظم العباد … فالحصون لدينا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع،
ودعاؤكم علينا لا يُسمع … فإنكم أكلتم الحرام … وخنتم العهود والأيمان … ونشأ
فيكم العقوق والعصيان، وقد ثبت عندكم أنَّا نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة،
إلى آخره، هذا مثال مما … « وقد سلطنا عليكم من له الأمور المقدرة، والأحكام المدبرة
كان يكتبه على لسانهم رجال الأقلام المسلمين الذين سخروهم لخدمتهم، ويصعب أن
نصدق أنهم آمنوا بأن لهم رسالة من نوع ما وصفوا، وكل ما كانوا يرمون إليه هو أن
يلقوا في رُوعِ الناس أنْ لا خلاصمنهم أبدًا، كما يصعب أن نصدق أن النسطورية التي
انتشرت في بعض قبائلهم وشعوبهم، ودان لها بعض كبرائهم (فكان كتبوغا قائدهم في
عين جالوت نسطوريٍّا، وكانت إحدى زوجات هولاكو نسطورية أيضًا) كانت النسطورية
هي المحرك لهم نحو غزو بلاد الإسلام، وتخريبها، وإذلال أهلها.
والأصدق أن نتصور أنهم استغلوا النسطورية في استمالة من استمالوا إليهم من
الطوائف غير الإسلامية، وذلك للتفرقة، وجعل الكل يتجه إليهم للاحتماء بهم، ويصعب
أخيرًا أن نصدق أنهم قدموا غربًا استجابة لدعوات التحالف التي وجهها إليهم بعض
ملوك الفرنجة ورؤسائها الدينيين، والذي نعرفه أنهم استقبلوا سفراء الفرنجة واستمعوا
إليهم، ولكنهم طلبوا إليهم أن يدخلوا في طاعتهم
نحو سبعمائة سنة، وكانت البطولة التي أبدتها مصر ممثلة في سلطانها الملك المظفر
سيف الدين قطز، وأمرائها وأجنادها من أصحاب السيوف، وعلمائها من القاطعين
بالأحكام الشرعية، والمفتين، والمتصدرين للتدريس، ورجال دواوينها من أصحاب الأقلام،
وأهل الفلاحة والصناعة والتجارة، وهم عماد الدولة، وهم الذين جهزوا الجيوش، وهم
الذين بثوا روح التساند والتكافل، وهم جميعًا الذين أنقذوا مصر في عين جالوت، سواء
منهم الذين حضروها بأنفسهم وبأشخاصهم، والذين كانوا في حكم الحاضرين؛ لأنهم
هم الذين مكنوا المقاتلين من القتال.
وعلى هذا فالبطولة يمكن أن تكون عمل فرد، ويمكن أن تكون عمل مجموعة،
وممكن أن تتجلى في عمل يحدث بارزًا قائمًا بنفسه، ويمكن أن تتجلى في عصر بأكمله
أو في حياة طائفة من الشعب، ويمكن أن تكون عملًا حربيٍّا، كما يمكن أن تكون نشاطًا
مدنيٍّا؛ فالأبطال، كما صورهم كاتب غربي مشهور (وقد نقل كتابه للغة العربية أديب
مشهور: السباعي) فهم الأدباء ورجال الحرب، وغيرهم من القادة، والبطولة أوسع من
بطولات الملاحم، وزمانها يعم جميع أدوار التاريخ، وإن أحبت الأمم أن تمجد أبطالها
الأقدمين، وأحيانًا أبطالها الخرافيين، مع أن الواقع كما نعرف أعجب من الخرافة،
فلنلتمس بطولاتنا في الواقع، وعين جالوت التي بدت فيها بطولة مصرممثلة على النحو
الذي وصفت، شهدت في القديم بطولة من نوع آخر، ففيها، كما ورد في المأثور، قتل
الصبي داوود العملاق جالوت، وقد قدر لله لداوود أن يقتل به جالوت ووهبه ما وهب.
وفيها تقابل جيش مصر بجموع المغول والتتر، فحطم تلك الجموع، وكانت هذه
أول مرة انكسر فيها هؤلاء منذ أن دخلوا أقطار العالم الإسلامي، وضربوا العراق
والجزيرة والديار العربية والسورية، فكانت من الوقائع الحاسمة في التاريخ.
والبطولة التي تجلت فيها مرت في ثلاثة أدوار: في الدور الأول كانت بطولة التغلب
على النزوع إلى التفرق، بطولة جمع الكلمة مع تقليد الحكم والزعامة للرجل الذي
يستطيع مواجهة الشر والخطر، وفي الدور الثاني: كانت بطولة القرار العظيم؛ قرار
الخروج إلى مواجهة البرابرة الزاحفين، وعدم انتظارهم، وفي أرض الوطن، وبطولة
الخروج ينبغي أن ننوه بخطورتها وذلك لسببين؛ أولًا: لأن المغول كانوا منذ خروجهم
من بلادهم يعتمدون أكثر ما يعتمدون على نشر الرعب، وتحطيم أي عزم على المقاومة،
وقد بلغ من إرهابهم أن الأسرى كانوا يستسلمون وهم كثيرون لتتري واحد، بل وقيل:
إنهم كانوا ينتظرون دورهم هادئين مطمئنين حتى يفرغ التتري لقتلهم صبرًا، وهم في
ذلك كالضواري يقال إنها تسحر فريستها، فلا تحاول فرارًا أو مقاومة، فكان الخروج
لهم بطولة الجرأة، وكان أيضًا بطولة الحكمة، ذلك أن البقاء في مصرانتظارًا لقدومهم
كان من شأنه أن يؤدي إلى تفرق الكلمة بعد أن اجتمعت، وإلى نشر روح التخاذل، وإلى
التعلق بالآمال الكاذبة، ورجاء حدوث المعجزات التي تغني الناس عن البذل والتضحية.
وفي الدور الثالث: كانت البطولة التي بدت في القتال، في الواقعة نفسها، وللجميع
أن يفخروا بما كان منهم، ولكن الفخر الأكبر لقطز نفسه.
ما الذي أحضر تلك الجموع من أقصى آسيا شرقًا إلى أدناها لمصر غربًا؟ ما الذي
دفعها إلى التحطيم والتخريب، وإلى تمزيق الدول الإسلامية دولة دولة، هل نصدق ما
قاله هولاكو في رسالته لسلطان مصر عن نفسه وعن قومه، وعما تصدى هو وهم
إنا نحن جند لله في أرضه، خلقنا من سخطه وسلطنا على من حل به » : لتحقيقه؟ قال
غضبه … نحن لا نرحم من بكى ولا نرق لمن شكى … فتحنا البلاد وطهرنا الأرض
من الفساد، وقتلنا معظم العباد … فالحصون لدينا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع،
ودعاؤكم علينا لا يُسمع … فإنكم أكلتم الحرام … وخنتم العهود والأيمان … ونشأ
فيكم العقوق والعصيان، وقد ثبت عندكم أنَّا نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة،
إلى آخره، هذا مثال مما … « وقد سلطنا عليكم من له الأمور المقدرة، والأحكام المدبرة
كان يكتبه على لسانهم رجال الأقلام المسلمين الذين سخروهم لخدمتهم، ويصعب أن
نصدق أنهم آمنوا بأن لهم رسالة من نوع ما وصفوا، وكل ما كانوا يرمون إليه هو أن
يلقوا في رُوعِ الناس أنْ لا خلاصمنهم أبدًا، كما يصعب أن نصدق أن النسطورية التي
انتشرت في بعض قبائلهم وشعوبهم، ودان لها بعض كبرائهم (فكان كتبوغا قائدهم في
عين جالوت نسطوريٍّا، وكانت إحدى زوجات هولاكو نسطورية أيضًا) كانت النسطورية
هي المحرك لهم نحو غزو بلاد الإسلام، وتخريبها، وإذلال أهلها.
والأصدق أن نتصور أنهم استغلوا النسطورية في استمالة من استمالوا إليهم من
الطوائف غير الإسلامية، وذلك للتفرقة، وجعل الكل يتجه إليهم للاحتماء بهم، ويصعب
أخيرًا أن نصدق أنهم قدموا غربًا استجابة لدعوات التحالف التي وجهها إليهم بعض
ملوك الفرنجة ورؤسائها الدينيين، والذي نعرفه أنهم استقبلوا سفراء الفرنجة واستمعوا
إليهم، ولكنهم طلبوا إليهم أن يدخلوا في طاعتهم