قصه وحش الجزيرة - قصه حقيقيه 100%

vondeyaz

عضو
إنضم
28 ديسمبر 2008
المشاركات
57
التفاعل
9 0 0
بسم الله الرحمن الرحيم
وحش الجزيرة الخضراء
الفصل الاول
الخبر
بخطي بطيئه منتظمه وتحت لهيب شمس الصيف ، تثاقلت خطوات الجمال المتعبه في طريق عودتها من رحلتها الشاقه عبر محافظات صعيد مصر المختلفه ، ولن يستطيع اي رجل من الرجال الثمانيه الذين خرجوا في هذا الرحله ان ينساها بأي حال من الاحوال ، فلم يكن هذا الصيف مثل اي صيف سابق خرجوا فيه في تجارة بيع الجمال ، فقد كان صيف عام 1967 والذي حدث من خلاله لم يكن احد يستطيع ان ينساه مما زاد من مشقه الرحله ومن انهاكهم
وفوق احد الجمال الاربعه العائده ، جلس شاب لم يتعدي سنه الثانيه والعشرين عاما قمحي اللون ذو سمار مكتسب من كثرة التعرض للشمس ، مجعد الشعر ، رفيع الجسم ، متوسط القامه تطل من عينيه نظرات حاده ويعلو وجهه شارب رفيع جدا .
بدأ خيري عمله في تجارة الجمال منذ نعومه اظافرة حيث علمه والده كل ما يحتاجه عن تلك التجارة واصول تربيه الجمال وعند وفاه والده منذ عشر سنوات كان خيري ابن اثني عشر عاما وكان وحيدا علي فتياتين يصغرانه بعده سنوات ، فتكفله عمه بالرعايه ووجد ان له إمكانيات جيده جدا للعمل معه في التجارة ، فأصطحبه معه في اول رحله الي محافظات مصر لبيع الجمال ، وحقق نجاحا كبيرا ومن وقتها لا تخرج رحله تجارة الا وكان خيري بها ، حيث وثق كبار تجار القريه في رأيه ونظرته الثاقبه ورجاحه عقله رغم صغر سنه .
جلس خيري فوق جمله ، وتطلع بنظرة الي الامتار الاخيرة من الطريق ، فها هي عزبه المراكبيه تكاد تظهر علي الافق ، فقد ظهرت قمه المأذنه الخضراء أعلي مباني القريه ، لتعلن للرجال قرب انتهاء رحلتهم التي دامت قرابه ثلاث اشهر
تقع عزبه المراكبيه في نطاق مركز مدينه منيا القمح بمحافظه الشرقيه ، ولا احد يعرف بالتحديد لماذا سميت بهذا الاسم حيث انها لا تطل علي اي بحر ولا يعمل احدا من سكانها بالصيد وليس لهم علاقه بالمراكب
جال خيري بتفكيرة فيما واجهه خلال تلك الرحله العجيبه ، فقد بدأت رحلته في اواخر شهر مايو وكانت الاحداث ملتهبه في تلك الاوقات ، ورغم عدم اهتمامه بالاحداث السياسيه الا ان استدعاء معظم شباب العزبه للتجنيد واولهم ابن عمه محمد جعله يتابع ما يحدث .
اصطحب خيري معه في تلك الرحله راديو ترانزستور صغير ليتابع اخر الاخبار ، وكان هذا الراديو هو رفيقه ونافذته للعالم الخارجي ، وقتها كانت الاغاني الحماسيه لا تكاد تتوقف لحظه وحُفَرت في ذاكرته كلمات اغاني عبد الحليم حافط بقوة كما حُفِرت الرسومات علي المعابد الفرعونيه ولم تبل بعوامل التعريه او الزمن ، إنما صمدت مع الزمن في وقت انهارت فيه امبراطوريات عظيمه في العالم .
وكان المقطع الذي حفر في عقله وردده كثيرا (( خطتنا خلاص في إيدنا ، وخلاص متشمرين – وحزين ياللي تعاندنا بتعاند جبارين –جبل الجرانيت انشال وفي بحر النيل اتزق - ما في حد يقول لنا لا إش حال – يوم تحريرنا فلسطين ))
وهو مقطع يعبر عن قوة الجيش المصري ومدي المعاناه التي سيعانيها من يعادي مصر وقرب موعد تحريرنا لفلسطين
وعبر الاثير عرف خيري بدء الحرب وكان وقتها مع رفاقه علي مشارف القاهرة، وشاهد بعيني رأسه اعمده الدخان تغلف سماء مطاري القاهرة و الماظه ، وقتها فرح ببدء الحرب وتمايل طربا مع بيانات القوات المسلحه التي تؤكد اسقاط عشرات من طائرات العدو ومن ان قواتنا بدأت تتحرك تجاه عاصمه العدو ، لكنه في نفس الوقت احس بالقلق علي محمد .
فلم يكن محمد مجرد ابن عم ، لكنه كان اكثر قربا له من اي انسان اخر في الدنيا ، فقد نشأوا وتربوا وشبوا معا وأسرارهم وطباعهم مشتركه واهتمامتهم واحده تقريبا ، ولا يستطيع ايا كان ان يتدخل بينهم او يفرق بينهم .
احس خيري بالقلق علي محمد ومما يمكن ان يحدث له في القتال الدائر ، لكن البيانات العسكريه المتواليه والتي يشدو بها المذيع اللامع احمد سعيد مذيع صوت العرب ، هذه البيانات رطبت قليلا من مخاوفه وهدأت من قلقه
لكن في اليوم التالي مباشرة تغير الحال ، وتغيرت نبرة البيانات العسكريه فبدأ خيري بفطرته الاصيله يتوجس خيفه مما يحدث وبدأ القلق يعتريه وبعد يومين كان قد وصلوا الي مشارف صعيد مصر ووقتها ظهرت الحقيقه امام الجميع عاريه مجرده من كل الاقنعه الزائفه أمامه ، فقد اعلن عبد الناصر ان مصر قد هُزمت وانه سيتنحي عن الحكم متحملا مسئوليه الهزيمه كامله .
لحظتها كان خيري ورفاقه في مدينه بني سويف ، وبرك خيري علي ركبتيه كما تبرك الجمال ، فقد كان عبد الناصر له بمثابه الاب الذي فقده منذ عشر اعوام ، وعندما يهزم الاب لابد للابن ان يضيع ، وقتها احس خيري بأنه عاري في وسط الطريق ، فقد هُزمت الام وتنحي الاب ، فبكي الرفاق وبكي خيري كما لم يبك علي والده وعندما تمالك نفسه قليلا ،
تذكر فجأه محمد وتسأل خيري في صدمه كيف ينسي محمد وسط خضم الاحداث ودعا الله ان يكون بخير ، وطاف بذاكرته لاخر لقاء له مع محمد وكان في محطه القطار حيث يغادر محمد مع زملائه الي معسكر التجنيد .
تبسم خيري عندما تذكر اخر لقاء له مع محمد ، ففي هذا اليوم أستجمع خيري شجاعته وفاتح محمد في رغبته في الزواج من شقيقه محمد ، فضحك محمد عاليا وصارح محمد بأن كل اهالي الكفر يعرفون بأمره ، ففغر خيري فاه من الدهشه ، فهو لم يتكلم معها في هذا الموضوع ولم يبدر منه اي حركه قد تفهم منها اي شئ ، واجاب محمد عن شلال الاسئله التي تبرز من عيني خيري واخبرة بأن نظراته الهائمه كلما رأها يراها اهل القريه جيدا ويعرفون ما في قلب الاثنين تجاه الاخر .
فتسأل خيري عما يجب ان يفعله وانه يحس بالاحراج من التقدم لعمه في الوقت الذي يسافر فيه محمد للقتال ، فتبسم محمد واخبرة انه فور عودته من الاستدعاء سيفاتح والده بلا تردد واضاف محمد مطمئنا خيري بأن الموضوع منتهي ولا داعي للقلق
وها هو الان خيري يعتصر ذكرياته وحوارته مع محمد بينما خطوات الجمال الثقيله تخطو تجاه الامتار الاخيرة من المنزل حيث الهدوء والراحه بعد عناء استمر ثلاث اشهر .
بعث خيرة ببصره تجاه الساقيه القبليه حيث تعودت ان تنتظره محبوبته لتستقبله بنظرات مرحبه مليئه بالحب والحنان ترحب بعودته ، لكن بصرة عاد اليه متحسرا حزينا فمحبوبته لا تنتظرة هذه المرة ، فلاول مرة من عامين كاملين لا تنتظرة محبوبته ، فلابد وأن مكروا قد حدث لحظتها احس خيري بألم في صدرة وقلبه ينقبض فتزايد القلق داخله بدرجه كبيرة جدا
وكانت من عاده اهل القريه الخروج لاستقبال الرجال العائدين قرب الجسر المار فوق ترعه المياه المغذيه للقريه ، لكن احدا لم يظهر حتي الان فأنتقل القلق من خيري الي الرجال بدورهم والذين تسألوا عما حدث للجميع وتزايد القلق مع كل خطوة من خطوات الجمال ، فكل خطوه تقربهم الي القريه تزيد من قلقهم ، وكل واحد منهم خشي ان يكون مكروها قد الم بأهله
أشار احد الرجال تجاه الجامع وقال عبارات لم يفهمها خيري جيدا حيث كان صوت القلق داخل عقله اعلي من صوت الرجل ، لكنه نظر تجاه الجامع فوجد اهالي القريه كلهم تقريبا مجتمعين في ساحه جامع القريه ، فنزل من فوق جمله وربط عقاله في اقرب جزع شجرة وانطلق يجري تجاه هذا الحشد ،ودقات قلبه تتسارع في عنف ، ومن خلفه هرول زملائه .
ومع اقتراب خيري من الحشود ، وجد ان الجميع يقف في صمت يستمعون الي حديث رجل ما لم يظهر له بعد ، فأخترق الحشد متجها نحو الرجل وعقله يدعو الله بأن يلطف به وبأهله .
وفور وصوله الي الصف الاول ، وجد شيخ الجامع الشيخ عبد الله يقف في جلل يستمع الي حديث اثنين من الرجال
كانت ملابس الرجال رثه جدا ومتسخه وبالكاد تستر عورتهم من فرط التمزيق في كل جوانبها ، وملامحهم تحمل قدرا عظيما من الارهاق والاجهاد وقله النوم بالاضافه الي درجه عاليه من الاتساخ
احتاج خيري الي لحظات لكي يفهم عقله ما تراه عينيه ، وبعد لحظات استطاع ان يميز بقايا الملابس العسكريه للرجلين وبعد تدقيق كبير صاح في فزع ( يا الله ... مش معقول ) ثم استدار محدثا رجل يقف بجوارة قائلا ( دول حسن ومصطفي ) فقد استطاع تمييز صديقيه وزميليه لسنوات طويله بصعوبه بالغه ،
فقد كان مختلفين تماما عن الهيئه التي تعود ان يراهما فيها طوال عشرون عاما تقريبا ، فاللحيه طويله والشعر اشعث والعيون زائغه بقدر كبير والوجه ممتص من حجم الاعياء وقله الغذاء والماء ، ولا يمكن لاي شخص ان يربط هيئتهم الحاليه وبين هيئتهم وقتما غادروا القريه .
تنبه حسن ومصطفي الي وجود خيري أمامهم فجأه ، وتقدم خيري محتضنا رفاقه في سعاده ومهنئا بسلامه العوده ، الا ان حسن ومصطفي ردا مشاعر خيري الفياضه بشئ من الفتور قابله صمت ووجوم من اهل القريه ، وبسعاده بالغه شد خيري علي ايدي الرجال ، بينما تحاشي حسن ان ينظر في عيني خيري السعيده .
وبعد ثوان حدث ما خشي من الجميع ، فقد سأل خيري سؤالا منطقيا وهو ينظر حوله باحثا (أمال فين محمد ؟؟ )
لم يلحظ خيري الصمت والوجوم الذي حل علي الجميع من حوله ، ولم يلحظ ان شيخ عبد الله نكس رأسه ونظر في الارض
فسأل خيري مرة اخري (( هو محمد مرجعش معاكم ولا ايه ))
نظر حسن حوله طالبا بعينيه الغوث مما هو فيه ، لكن احدا لم يغثه فأستجمع ما تبقي في جسده من قوة وامسك بكتفي خيري ونظر في عينيه نظرة منكسرة حزينه (( محمد عاش راجل ومات راجل يا خيري ، البقيه في حياتك ))
دارت الدنيا بخيري فعقله رفض ان يفهم ما سمعته اذنه ، وعينيه زاغت من فرط الصدمه ، واهتزت ركبتاه بشده وأعلنت معاناتها في تحمل ثقل هذا الجسد .
نظر خيري حوله بحيرة وتساؤل لعل وعسي ان يري او يسمع شخصا يقول كلاما اخرا يكذب ما قاله حسن في التو ،
لكن أعين الرجال كانت تحمل شفقه وعطف وأسي يؤكد ما قاله حسن .
وبعد تلك الثوان الخاطفه من الحيرة وعدم التصديق ، جاء عقل خيري ليبلغ سائر اعضاءالجسد بأن الخبر صحيح وان الصدمه حقيقيه ، فأنكسرت مقاومه ركبتي خيري وخر الجسد علي الارض ، والقت العيون بشلال من الدموع المحتجزة وعجز اللسان عن ان يقول شيئا ، ودار العقل بسرعه الضوء مصورا كل المشاهد التي جمعت خيري مع محمد علي مدار عشرين عاما ، عشرون عاما من الحياه اختفت في لحظه وحل محلها مجرد ذكريات ماضي جميل.
سقط خيري علي ركبتيه غير مصدق الخبر ، وعم الوجوم ارجاء المكان فتقدم شيخ عبدالله علي استحياء وانحني تجاه خيري مواسيا ، ولم يجد الشيخ ما يواسي به خيري المنهار سوي ان يقرأ له
(( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون )) فتمتم خيري بصعوبه (و نعم بالله )
وأقترح احد الرجال وايده الجميع ان يصطحبوا خيري الي منزله ، وتعاون رجلين في إيقاف خيري علي قدميه وبصعوبه بالغه سار معهم تجاه منزله ، وسار معه جمع من اهالي القريه ،وطوال الطريق تحدث معه الرجال محاولين تصبيرة علي ما اصابه من مصيبه ، فالكل يعلم مدي ما حل بخيري ومدي صدمته والكل يحاول ان يخفف من معاناته لكن اي منهم لم يحس بمقدار البركان الذي بدأ في الغليان داخله .
أقترب الرجال من منزل خيري وتعالت اصوات العويل والبكاء من منزل عمه الملاصق لمنزله ، وازداد انهيار خيري مع تدفق اصوات النساء كسكاين تقطع في لحمه الحي بلا رحمه ، واراد ان يتجه لمنزل عمه مباشرة الا ان الشيخ عبد الله نصحه بعكس ذلك ، فقد نصحه الشيخ بان يتمالك نقسه أولا وان يجمع شتات نفسه بالصلاه وقراءه القران قبل ان يتجه لمنزل عمه ، حيث انهم علموا بالخبر منذ قليل وحاله الانهيار تسود ارجاء المنزل ويجب علي خيري ان يكون متماسكا عندما يدخل عليهم ، كان الشيخ يتكلم بمنطق يخالف ما يريده خيري الا ان الحاح الرجال المحيطين به وعدم قدرته علي المقاومه جعلت جميع الطرق مغلقه امامه الا طريق منزله ، فدلف الي المنزل ووجده خاليا من الاهل ، فمن المؤكد ان والدته وشقيقتيه قدا هرعتا لمنزل عمه فور علمهما بالخبر ، وفور دخوله لغرفته انهار خيري في بكاء شديد ، فلم يكن يتصور يوما ما ان يعيش مثل تلك اللحظات ، فقد خطط مع محمد للمستقبل بكل تفاصيله وتخيلا حياتهما وعملهما معا .
توضأ خيري وصلي ركعتين علي روح محمد ثم جلس وبدأ في الدعاء له حتي نام مكانه من فرط الارهاق ، لم يدر خيري كم نام من الوقت لكنه استيقظ علي صوت القرأن يتصاعد من منزل عمه المجاور له ، ولوهله تخيل خيري انه كان يحلم وان كل ما حدث له من احداث خلال اليوم ما هو الا كابوس قاسي ، لكن صوت القران نبهه الي ان ما حدث لم يكن حلما بقدر ما كان واقع قاسي مر لابد وان يعيش كل لحظاته بكل ما فيها من مرارة والم
غير خيري ملابسه وخرج من منزله وقد عاهد نفسه علي ان يكون متماسكا صلبا امام عمه وابناء عمه الاخرين ، لكنه فور ان غادر منزله واستدار ليتجه لمنزل عمه ، وجد عمه ينظر اليه وهو يقف مستندا علي عصا وهو محني الظهر دامع العين ليتقبل العزاء ، وما ان تلاقت النظرات حتي صاح عمه في لوعه ( محمد مات يا خيري ، محمد ماااااااات ) لم يستطع خيري رغم كل القوة التي استخدمها في وقف دموعه من الانهمار ، فما كان منه الا ان رمي نفسه في احضان عمه والذي اختلطت الكلمات والعبارات في فمه في هول الصدمه القويه .
لم يستطع خيري ان يقول شيئا ، فما الذي يمكن ان يقال في مثل هذا الموقف الصعب ؟ ، لا شئ يمكن ان يطفئ نار اي من الرجلين الذين اشعلها خبر استشهاد محمد و لا يعلم الا الله كيف ستنطفأ او متي .
هدأ خيري من روع عمه واجلسه علي احد المقاعد بينما تكفل خيري بأستقبال الرجال الوافدين للعزاء ، ومع مرور الوقت هدأ خيري واستطاع تمالك نفسه قليلا مع تردد ايات القران في ارجاء المكان .
وبعد فترة حضر حسن يستند علي احد اشقائه ، فقد كان غير قادر علي السير وأسرع نحوة خيري يلومه علي حضورة ، فحسن منهك الجسد ويحتاج الي علاج وراحه طويله في المنزل ، الا ان حسن اجابه بأن محمد لم يكن مجرد صديق انما اكثر من ذلك بكثير واقل شئ ان يكون في عزائه
فأنحني خيري علي حسن وطلب منه ان يحكي له كل ما حدث لمحمد في سيناء ، ووافق محمد علي ان يكون ذلك في وقت اخر .
وبعد صلاه العشاء بفترة ، جلس خيري مع عمه في مدخل المنزل بعد ان انصرف كل المعزيين ، وشاركهم شقيقي محمد التوأم كريم ورجب اللذين لم يتجاوز عمرهما التاسعه بعد ، وكان خيري بمثابه الاخر الاكبر لهم
جلس الجميع صامتين مفكرين تائهين في ذكريات محمد ، فبينما العم وخيري لا يستطيعون تقبل الصدمه وتصديقها ، فأن التوأم كانا قد تجاوزا الصدمه بحكم صغر سنهما ولطف الله بهما ،
و صاح احدهم ببراءة وسذاجه سائلا توأمه (( يعني احنا مش هنشوف محمد تاني ؟))
فرد الاخر (( لا .... محمد عند ربنا دلوقت ))
فعلق الاول (( لو معايا مسدس دلوقت كنت رحت وقتلت اللي قتلوا محمد ))
فصاح فيهم والدهم غاضبا بأن يصمتوا وان يدخلوا المنزل متمما بعبارات عدم تحمل سماع اي كلام ، وقدر خيري ذلك وطيب خاطر التوأم قليلا وادخلهم للمنزل ، وكانت هذه المرة الاولي التي يدخل فيها المنزل منذ ان علم بالخبر ، وطافت عينيه سريعا بين السيدات ذات الملابس السوداء والعيون الباكيه لتتلاقي مع ابنه عمه التي جلست في احد الاركان ، وقد تكور جسدها داخل الملابس السوداء ، واحمرت عينها من فرط البكاء ، ثانيه واحده تلاقت فيها العيون دار فيها حوار طويل جدا ، ففي تلك الثانيه صبرها خيري واخبرها بانه معها وبجانبها ، وفي نفس الوقت طلبت من العون والمسانده فيما هي فيه ، وبعد هذا الحوار أستدار خيري وخرج من باب المنزل ليجد عمه يهم بالدخول مرة اخري للمنزل طالبا الراحه .
وبعد فترة عاد خيري لمنزله ومدد جسده فوق السطح الرطب لسقف منزله فقد اراد ان يكون وحيدا بعيدا عن اهل منزله ، واطلق عينيه الي السماء والي الانهائيه في الفضاء واطلق لذكرياته العنان حتي نام من فرط الارهاق والتعب .
مرت أيام العزاء بطيئه وثقيله جدا علي خيري ، وظهر التحسن تدريجيا علي حسن وبات قادرا علي الحركه بمفرده لكن زميله الاخري مصطفي كانت حالته اسوأ واضطر اهله الي ادخاله مستشفي الزقازيق العام
وبعد صلاه العشاء في احد الايام التقي خيري وحسن مصادفه وذكرة خيري بطلبه واجابه حسن بالايجاب فسار الاثنان تجاه ضفه الترعه حيث جلسا فوق احد الصخور ومن خلفهم اضواء القريه الخافته
وكان واضحا ان حسن غير مرحب جدا بهذا الحديث وكان خيري يعرف ذلك جيدا فهو حديث مؤلم ملئ بذكريات قاسيه لكنه كان في شوق بالغ لمعرفه ما الذي حدث لمحمد بالتحديد .


أشعل حسن سيجارة لنفسه ومد يده بسيجارة الي خيري ، لكن خيري رفضها بهدوء فهو يكرة التدخين وحسن يعلم ذلك وكان لابد لاحدهما ان يفتتح الحوار المر القاسي ، والقي خيري بسؤاله عما حدث بالضبط ،وبدأ حسن كلامه
(( انت عارف يا خيري ان الموضوع ده صعب عليا جدا ، ولولا اني عارف انك مش هتيسبني في حالي الا لما احكي لك ، ولولا اني عارف كويس جدا زي ما كل الناس عارفه ان محمد بالنسبه لك حاجه كبيرة جدا ، فصدقني مستحيل اني كنت اوافق اني اقعد معاك هنا واحكي لك )) اومأ بخيري رأسه لحسن شاكرا ومقدرا
واستكمل حسن (( انت كنت موجود لما الحكومه جت ولمتنا عشان نروح الجيش ، لمًونا في عربيات ورمونا في معسكر الزقازيق يومين ، وبعدها استلمنا الهدوم والجزم وبدأوا في توزيعنا علي الوحدات ، انا ومحمد كنا ضمن مجموعه من العساكر اللي اتجندت قبل كده وعندها خلفيه عن الجيش ، وعشان كده سلمونا سلاح ووزعونا علي كتيبه كانت مسافرة لسينا، والباقي وزعوهم علي وحدات تانيه مختلفه ، وبعد يومين كنا في القطار رايحين سينا مع الكتيبه بتاعتنا ضمن لواء دبابات علي المحور الاوسط ، محمد كان تخصصه في المدفعيه المضاده للطائرات لان ده سلاحه ، وانا كنت عسكري مراسله لقائد الكتيبه ، يعني معاه في كل وقت واعمل له اللي هو عايزة يعني اغسل واكوي له هدومه وانظف له الخيمه والحاجات دي اللي العسكري المراسله بيعملها بس المهم انه لو احتاجني في اي وقت لازم اكون قدامه في نفس اللحظه،
وبدأنا نتحرك في الاول بالقطار وبعدين لما عدينا القنال علي كوبري الجيش ، نزلنا وركبنا العربيات المدرعه والدبابات
وكنت بشوف محمد علي فترات لما قائد الكتيبه بيمر يفتش علي الكتيبه )) وسكت حسن ملتقطا انفاسه ومشعلا لنفسه سيجارة اخري ثم استكمل
(( بعد تمركزنا لمده يومين في سينا وبعد ما حفرنا خنادق وجهزنا ، جت لنا الاوامر بالتحرك لموقع اخر ، وخذ عندك اوامر بالشكل ده لمده اسبوع ، كل يوم نروح حته ويطلع عنينا حفر خنادق للعساكر وخنادق للدبابات وقبل ما ناخذ نفسنا ييجي لنا امر تاني بالتحرك لمكان تاني ، وهكذا لغايه لما الاعطال زادت في العربيات والدبابات بصورة كبيرة وحركتنا قلت جدا والعساكر كانت تعبانه جدا من المجهود))
كان خيري ناظرا لمياه الترعه الراكده وهو يتخيل ما يقوله حسن ، وتجنب ان يقاطعه ويوقف استرساله في الحوار
واستكمل حسن (( يوم 5 يونيو المشئوم ، كنا عارفين ان المشير جاي سينا وكان المفروض انه هيزور الكتيبه عشان كده كنا جاهزين قبلها بيومين ، وغسلنا الدبابات والعربيات والمدافع وكله كان عال العال لاستقبال المشير ، لانه كان هيتعشي في قياده اللواء ، لكن الصبح وبعد الفطار بفترة سمعنا في الراديو ان الحرب قامت ))
قاطعه خيري مضطرا مستفزا (( سمعتوا ان الحرب قامت؟؟ انتوا مش علي الجبهه برضه ؟؟))
حسن (( ايوة احنا كنا علي الجبهه وسمعنا بخبر الحرب من اذاعه صوت العرب ، وعلي طول قائد الكتيبه بدأ يتحرك بسرعه وبدل ما الدبابات واقفه في طابور عرض للمشير رجعت الخنادق تاني وحطينا شبك التمويه فوقها ، وبعد دقائق بقينا جاهزين لاي اوامر ، وقائد الكتيبه اتصل بقياده اللواء للاستفسار عن الاخبار وجه له التأكيد بأن الحرب فعلا قامت ))
خيري (( ازاي الحرب قامت من غير ما تحسوا ؟؟؟))
حسن (( الحرب بدأت الاول في الجو لما بدأوا يضربوا مطارتنا ، لكن عندنا علي الجبهه كانت الاحوال هادئه ومفيش اي حاجه ، لكن الساعه اتنين الظهر بدأنا نسمع صوت ضرب مدفعيه جامد ، وقرب المغرب كان الضرب قرب جدا مننا ))
وصمت قليلا ليلتقط انفاسه ثم واصل (( احنا كانت مواقعنا في ظهر لواء مشاه مصري ومهمتنا حمايه ظهرة وتعزيزة ، وطوال الليل كان الضرب المدفعي شغال علي ودنه وعمال يقرب ، وبعد الفجر بشويه جت لنا اشارة ان الدبابات الاسرائيلي اخترقت دفاعات اللواء المصري وداخله علينا فبدأنا نستعد وقائد الكتيبه ركب دبابه القياده وكنت معاه وقتها شفت محمد واقف علي مدفعه زي الأسد وشاورت له وضحك لي واشار لي بعلامه النصر ))
صمت حسن قليلا ، وبدأ عليه الحزن اكثر فيما سيقوله وأستطرد
(( وحوالي الساعه تسعه ، بدأنا نشوف تراب من ناحيه الشرق وده معناه ان الدبابات الاسرائيلي جايه ، فأصدر قائد الكتيبه اوامرة بحبس النيران اي عدم الضرب الا بأمر مباشر منه ، ومرت بينا دقايق صعبه جدا وبطيئه واحنا شايفين التراب بيقرب مننا ، وبعد شويه رصدنا الدبابات الاسرائيلي ، وكانت جايه ناحيتنا وعلي اقصي سرعه ،
وقعدت تقرب والقائد ساكت ، لغايه لحظه معينه أصدر امر الضرب ، وفجأه كل اسلحه الكتيبه فتحت النار حتي المدفعيه الثقيله ضربت مباشر علي الدبابات ، وبعد ثوان ملئ دخان اسود الخط الامامي عندنا من جراء الضرب بتاعنا ،ومكناش قادرين نشوف حاجه خالص واصدر القائد امر بوقف الضرب ، ولما الدخان راح لقينا حوالي عشر دبابات اسرائيلي محروقه وانسحب الباقي وفضلوا بعيد علي مسافه من خطوطنا ، خرجنا نهلل ونهتف وكنا فرحانين جدا ، وجري عدد من العساكر بتوعنا علي حطام الدبابات ورجعوا بعلم اسرائيلي وبقايا من مخلفات الدبابات كتذكار ، واهدوا القائد العلم الاسرائيلي ، وكانت معنوياتنا في السماء ))
تدخل خيري مستفسرا وهو مستغرب الوصف(( هي مش دي نفس الحرب اللي انهزمنا فيها ، ايه الكلام اللي بتقوله ده ؟؟))
حسن (( ما انا بحكي لك اللي حصل بالتفصيل ، أصل بعد ما كنا في قمه روحنا المعنويه وفرحتنا بالانتصار الاول لنا ، سمعت قائد الكتيبه وهو يصيح فزعا في اللاسلكي كان بيكلم قيادته وسمعته بيقول – ازاي ننسحب يا فندم انا محافظ علي الخط بتاعي وصديت هجوم مدرع للعدو واوضاعي كويسه انسحب ليه ؟؟؟ - دي كانت اول مرة اسمع كلمه الانسحاب واضطر قائد الكتيبه طبعا لتنفيذ الامر ، وبدأنا نسيب مواقعنا الدفاعيه بسرعه ونرجع تجاه خط الدفاع التاني ، لكن بمجرد ما بدأنا نتحرك بدأ الطيران الاسرائيلي في الضرب علينا ، فأصدر قائد الكتيبه امر لمجموعه الدفاع الجوي اللي محمد واحد منها بالانتشار علي جانبي الطريق وانها تضرب علي الطيران الاسرائيلي في الوقت اللي احنا بننسحب فيه ، وفعلا بدأوا يضربوا علي الطيارات وقدروا يطفشوا الطيارات بسبب ضربهم الدقيق ، لكن بعد شويه جت غارة تانيه ))
واخذ حسن نفسا عميق من سيجارته (( جت طيارات اسرائيلي تانيه ، والمرة دي كانت جايه لضرب المدفعيه المضاده للطيارات ، وبدأت المدافع تنضرب الواحد ورا التاني وكان اليهود بيستخدموا قنابل بتعمل نار رهيبه لدرجه انها بتسيح الحديد والواحد مبيقاش قادر يقرب منها ولما سئلت ضابط معانا قال لي دي قنابل نابالم وانها محرمه))
خيري (( يعني ايه محرمه ))
حسن (( يعني الجيوش ممنوع تستخدمها لانها بتسبب دمار واسع جدا وممكن تصيب مدنيين كمان عشان كده القوانين الدوليه حرمت القنابل دي ))
خيري (( يا ولاد الكلب ، طب وليه اليهود بيستخدموها ؟؟))
حسن (( عشان دول ناس معندهومش دين او اخلاق او ضمير ))
خيري (( وبعدين ايه اللي حصل ؟))
حسن (( مدافع الكتيبه بدأت تنضرب واحد ورا التاني لحد مبقاش فاضل الا مدفع محمد ومدفع تاني جنبه ، الطيارات الاسرائيلي كانت كتير ، والواحده وراها واحده وكان واضح ان المدفعين مش هيقدروا يعملوا حاجه عشان كده قائد الكتيبه قال لهم يسيبوا المدافع ، لكن محدش منهم اتحرك وفضلوا يضربوا علي الطيارات وفعلا اصابوا اتنين ، انا كنت شايف اللي بيحصل وعمال ادعي لمحمد وزملائه من كل قلبي ، وانضرب المدفع التاني وساح رجالته وسط الحديد قدامنا في لحظه ، كان منظر بشع يا خيري ، مهما وصفت لك مش هتقدر تتخيل منظر زميل لك وهو بيسيح في النار ، وفضل مدفع محمد دقايق بيضرب حتي انضرب هو كمان وسكت للابد واستشهد كل من عليه ))
نظر حسن تجاه خيري المحدق في المياه الراكده ودموعه تنساب في صمت ، وفضل حسن ان يتركه في هدوء وينصرف الا ان خيري امسك بيده وطلب منه ان يستمر في سرده ، كانت نظرات خيري لا تدع امام حسن سوي ان يجيب له طلبه
فأستطرد حسن (( بعد ضرب كل مدفعيتنا المضاده للطيارات ، بدأ الطيران الاسرائيلي يتسلي علي عربياتنا ودبابتنا واي حاجه بتتحرك ، وفعلا قرب المغرب كان كل دبابتنا وعربيتنا تدمرت تقريبا وكان امامنا طريق طويل جدا ، وكملنا بقيه الطريق علي الرجلين ، في الاول كنا كتير حوالي فوق الخمسمائه واحد ومعنا ضباط كتير ، لكن مع مرور الوقت كل جماعه مشيت في طريق واتفرقنا ، كنا بنمشي بليل ونستخبي الصبح عشان الهليكوبتر الاسرائيلي كان بيصاد اي عسكري في الصحراء سواء معاه سلاح او اعزل ))
خيري مستنكرا (( ازاي كده ، طب العساكر العزل يقتلوا ليه ؟ ده حرام ، دي كده مش حرب ده ذبح ))
حسن باسما بأسي (( حرام ايه بس يا خيري دول ناس متعرفش ربنا ، المهم بعد يومين كانت المجموعه بتاعتي فضل منها حوالي عشرين عسكري ،
ومكنش معانا مياه او اكل وكان واضح ان الطريق لسه طويل وكان قائدنا ملازم لسه حديث التخرج وكان خايف جدا ومرتبك ، الملازم ده رغم انه صغير لكنه كان متعلم الا انه عرف يقودنا عن طريق اتجاه النجوم تجاه الغرب وقرب القنال تقابلنا مع مجموعه راجعه من شرم الشيخ وكان بينهم مصطفي وكانت حالتهم سيئه زينا كده ، وبعد كده بيوم قابلنا مجموعه بدو شربونا واكلونا وكانوا اخر كرم معانا ، وبسبب لطف ربنا بينا ولولا الناس دول كنا متنا بالتأكيد ، لانهم قالوا لنا علي طريق للقنال بعيد عن اليهود وكمان طريق كام بير ميه في الطريق ، وبعد ثلاث ايام تانيه قدرنا نوصل للقناه ونشوف عساكرنا الناحيه التانيه قرب السويس ، وعدينا القنال في مراكب صيد صغيرة علي دفعات ، والباقي انت عارفه ، رجعنا البلد وانت قابلتنا ))
خيري (( ياااه يا حسن دا انت شوفت الويل ))
حسن (( احنا شفنا الموت بعننينا في كل لحظه طيارة اسرائيلي تطير بالقرب مننا ، او نسمع صوت جنزير دبابه ، الموت يا خيري كان حولنا في كل حته ، كان زملائنا بيموتوا من حولنا عشان عطشانين او مصابين واحنا مش قادرين نعمل لهم حاجه ، فيه لحظات تمنيت اني اموت لاننا كنا مرعوبين من اننا نتمسك ونبقي أسري ))
خيري (( ليه ؟؟))
حسن (( انت مش عارف الاسري بيحصل فيهم ايه ؟؟؟ دول بيمشوا فوقهم بالدبابات ويدهسوهم بلا رحمه، او بيضربوهم بالنار ويدفنوهم في مقابر جماعيه ))
خيري منتفضا في رعب (( ازاي كده ، دي مش حرب ، يارب رحمتك بينا يارب ))
حسن (( القصص اللي سمعناها في الطريق من العساكر اللي كنا بنقابلهم تشيب الواحد من اللي شافوة ، فيه عساكر حكت لنا ان زملائهم ماتوا بعد ما استسلموا علي طول ، لان اليهود مكنوش عايزين يتعطلوا فكانوا بيضربوا الاسري بالنار ))
أطرق خيري رأسه ووضعها بين راحتي يده وغاص في تفكير عميق وصور له عقله تلك المشاهد التي وصفها حسن وأنسحب حسن بهدوء تاركا خيري في تفكيرة العميق غارقا في تصوراته وقد ترقرقت الدموع في عينيه تأبي ان تنساب
مر وقت لم يحسبه خيري وهو جالس ينظر للمياه الراكده وعقله يعمل بلا توقف ، كان عقله يبحث عن حل لمشكله اساسيه تؤرقه بشده ، الا وهي كيف يكون مسار حياته بعد استشهاد محمد ؟ كيف يعيش وكيف يمارس حياته بصورة طبيعيه ؟
كان تفكيرة يلح عليه في ان الموت حق علينا وان ما حدث يمكن ان يحدث لاي فرد في العالم كله ورغم ذلك فأن حياه اي فرد لم ولن تتوقف بوفاه شخص عزيز لديه ، لكن في نفس الوقت كان عقله يعود ويرفض تلك الفكرة بصورة غريبه حيرت خيري نفسه ، فقد كان الصراع شديدا داخله وهذا الصراع استمر داخله عده اسابيع تاليه .
فقد تغيرت حاله خيري طوال الايام والاسابيع التاليه وصار اكثر عزوفا عن الناس وعن الاكل وعن التحدث ، ورغم ان عجله الحياه استمرت داخل القريه ولم تتوقف الا ان خيري كان متوقفا عن فعل اي شئ ، حتي منزل عمه فقد دبت في الحياه مرة اخري وهو امر طبيعي ان تعود الحياه لطبيعتها ، فمن لطف الله بعباده ان المصيبه هي الشئ الوحيد الذي يولد كبيرا ويصغر مع الوقت حتي يتلاشي مع مرور الوقت ويصبح كأنه لم يكن .
لم يكن احدا في القريه سواء عجوزا او شابا او طفلا الا وكان مشفق علي حال خيري الذي ساء بقدر كبير وكانت عصبيته ظاهرة عليه في اي حوار يحاول فيه اي فرد ان يعيده الي صوابه ، فقد كان لديه اعتراض علي اي شئ وكل شئ ولم يكن احدا يعرف فيما يفكر في تلك الساعات الطويله التي يقضيها علي تلك ضفه الترعه ينظر الي المياة الراكده
وكان عمه يعمل جاهدا لمساعدته في الخروج من ازمته عن طريق دفعه دفعا الي العمل ، لكن خيري كان متمردا علي نصائح عمه رافضا توسلات والدته او شقيقتيه في ان يأكل كميات اكثر مما يأكله لكي يستطيع ان يعيش ، لكن المأكل والمشرب بالنسبه له اصبح مجرد واجب يقوم به لمجرد ان يعيش ، ولو استطاع الاستغناء عنهم ما تردد لحظه
كان لديه احساس كبير جدا لا يستطيع ان يقاومه بأن الله قد اختار له مسار في اخر في حياته وان استشهاد محمد ما هي الا نقطه تحول كبيرة في حياته لكن الذي حيرة واقلقه جدا هو انه لا يعرف ما هو المسار ، لذلك فقد اصبح عصبيا مفكرا اكثر من اي وقت اخر ويميل الي العزله والوحده لاكثر وقت ممكن
 
سيتم اضافه الفصول التاليه بانتظام في الاسابيع التاليه
 
بارك الله فيك اخ فوندياز حقيقة قصة تثير القهر في الانسان وننتظر الباقي وان شاء الله يكون مليئ بالبطولة والثار
 
رحم الله شهدائنا وشهداء المسلمين .
اسرائيل استخدمت كل السلاح المحرم دوليا في حروبها .
ضد الجيوش العربيه ولم يحاسبها احد .
 
بارك الله فيك اخ فوندياز حقيقة قصة تثير القهر في الانسان وننتظر الباقي وان شاء الله يكون مليئ بالبطولة والثار
الباقي ملئ بالبطوله والنار والشرف فعلا
لذلك يستحق كل عضو ان يقرأ تلك القصه لكي يعرف من الذي يستحق ان يكون قدوة لشبابنا
مش هيفا وابو تريكه ( مع كامل الاحترام لابو تريكه فقط)
 
رحم الله شهداء الحق والعدل بدايه سلسلة موفقة نحن بانتظار بقيه الاجزاء
 

الفصل الثاني
الجندي
مر وقت طويل منذ أستشهاد محمد ، عادت فيها الحياه الطبيعيه لعائله خيري بشكل كامل ، وعاد صديقيه حسن ومصطفي الي الجبهه مرة اخري ، في تلك الاثناء أشتري خيري راديو ترانزستور صغير يعمل بالبطاريه ، واصبح هذا الراديو هو رفيق خيري في وحدته الاختياريه وعزلته اللانهائيه ، وعن طريق هذا الراديو بدأ خيري يلم بما يحدث علي الجبهه والقتال الدائر يوميا هناك واحس بالالم والغضب مما يسمعه من غطرسه العدو المنتصر، كما سمع عن إغراق قواتنا البحريه للمدمرة ايلات الاسرائيليه ، وعن دوريات العبور التي تعبر القناه ، لكن اكثر ما لفت نظر خيري هو التغير في الاغاني التي اصبحت تبث يوميا عن تلك التي كانت تبث قبل النكسه ، حتي صوت عبد الحليم قد نالت النكسه منه واصبح منكسرا ، وبدلا من الاغاني الحماسيه والالحان الرنانه التي صدح بها عبد الحليم نجد ان صوته اصبح منكسرا وهو يغني موال النهار وينعي حال البلد ويحث الرجال علي الصمود رغم كل شئ ورغم الهزيمه ، وكانت تلك الاغاني هي المؤشر الذي استخدمه خيري لمعرفه حال البلد ، فالهزيمه كانت كبيرة ومروعه علي كل ارجاء البلد ، والاحتلال الاسرائيلي فرض نفسه علي ثلاث بلاد عربيه ، وأستغل العدو ذلك في اهانه العرب وفي فرض واقع مر اليم يرفضه واستغل خيري ذلك الراديو الصغير في توسعه مداركه والالمام بواقع كان منعزل عنه في الماضي .
وخرج خيري في قافله تجارة مضطرا بعد ضغط اهله عليه ، وعاد كما سافر هائما حزينا مفكرا صامتا عابسا
وفي احد الايام وفي وسط رذاذ خفيف من امطار الشتاء خرج خيري من المسجد بعد صلاه الفجر وقادته قدميه الي مكانه المفضل، وبينما هو يجلس في غير مبالي بالامطار مفكرا وتائها ،أضائت عشرات بل ملايين المصابيح في عقله مرة واحده فقد استجاب الله اخيرا لدعواته ووجد الحل لعشرات علامات الاستفهام التي كانت بل حل ، ووجد ان طريقا قد رُسم ليحل له كل مشكلاته النفسيه مع نفسه ، فهو يريد اطفاء تلك النيران التي تأكل صدرة في كل لحظه ومع كل نفس يدخل صدرة تزيده نارا ، ويريد ان ينتقم لاستشهاد محمد ويريد ان يعيد النصاب لاوضاع حياته المقلوبه رأسا علي عقب .
وبدون اي مقدمات ظهر الحل ، فظهرت الابتسامه لاول مرة علي وجهه منذ ان علم بالخبر المشئوم ، ولاول مرة منذ ذلك اليوم يحس بأنفاسه تدخل وتخرج بسهوله ، فأنتفض في مكانه وأسرع تجاه منزله وهو يعدو عدوا .
وبعد ساعتين خرج مرة اخري من منزله مهرولا وأسرع تجاه محطه القطار ، كان يحس بتفكيرة نقيا واضحا ، وتبسم عندما وجد نفسه بدون وعي يركض تجاه محطه القطار ليتجه الي الزقازيق ، حيث دلف بعد ساعتين الي مبني متواضع موضوع عليه لافته (( مكتب تطوع القوات المسلحه )) وبعد ساعه تقريبا خرج مرة اخري من المبني وقد أحس بسعاده غامرة تجتاح كل جوانبه ، سعاده باطنها الحزن والاسي والحقد والكراهيه ، فقد كانت معادله سهله لكن صُعب عليه حلها لفترة طويله فهو يريد الثأر لمصر ولشرفها ولصديق عمرة محمد ، فأولا واخيرا محمد جزء من مصر والهدف واحد والغايه مبررة والثأر لا يكون الا بالقتال ، قتال كل ما هو اسرائيلي ، فقد أصبح يكره الاسرائيلين كرها شديدا يفوق قدرته علي التحمل وعدم التجاوب مع احساسه جعله تائها شاردا ممزقا ، ومنذ ساعات حل الله له المعادله فاذا اردت ان تثأر لمصر ولمحمد فعليك القتال ، ولكي تقاتل يجب ان تتطوع في القوات المسلحه لتكون ترسا في منظومه تروس تعمل بلا كلل لتحقيق نفس الاهداف مع اختلاف الاسباب ، فما الفرق بين من يريد القتال لتحرير الارض او للثأر فالهدف واحد والكراهيه واحده والحقد واحد ايضا .
عاد من الزقازيق لمنزله قرب اذان العصر ، وطوال الطريق للمنزل لاحظ كل من في القريه التغير الذي طرأ علي خيري ، حتي اهل منزله شاهدوا التغير ، وعندما اخبرهم بما قام به هذا الصباح ، فجعت الام وغضبت وثارت ، فهي ام قبل اي شئ اخر وتخاف علي ابنها وكثيرا ما حمدت الله علي انه وحيد وليس له تجنيد اجباري مما يبعده عن ويلات الحرب ، وها هو ابنها يلقي بنفسه في اتون الحرب في وقت يتهرب فيه الاخرين من التجنيد خوفا منها ، فهرعت تطلب العون من عمه الذي تناقش كثيرا مع خيري في هذا الامر محاولا تضييق الخناق عليه لكن خيري كان كالسد العالي صلب وقوي ،
وبأءت كل محاولات عمه معه بالفشل الذريع لان خيري رد علي اخر محاولات عمه بهدوء شديد (( محمد مات وسايبني اخذ تارة ، مين غيري هياخذ تار مصر وتار محمد ؟؟؟))
فخرج العم خالي الوفاض بعد فشل كل محاولاته مع خيري الذي كان متحمسا بالطريق الذي رُسم له
وفي احد ايام الشتاء البارده وتحديدا في شهر يناير عام 1968 غادر خيري منزله متجهها لمعسكر التدريب بعد ان امضي اسبوعا في الكشوفات الطبيه والاجتماعيه حتي تم قبوله للتطوع بالقوات المسلحه .
غادر خيري منزله بعد ان ودع اهله وسط دموع ودعاء والدته وشقيقتيه ، وسار علي الطريق المؤدي لمحطه القطار لاخر مرة كمواطن مدني ، فحياته المدنيه تلفظ انفاسها الاخيرة بلا رجعه وهو الان علي مشارف مرحله جديده في حياته .
وقرب الساقيه القبليه وجد محبوبته وابنه عمه تنتظرة كما تعودت ان تودعه وتستقبله مع القافله ، ومن بعيد تلاقت العيون في شوق ودفئ كبير رغم بروده الطقس ، وتلاقت العيون في منتصف الطريق تبث أشواق وامنيات ودعوات ، لكن الجديد الذي ميزة خيري في نظرات محبوبته له هذه المرة هو تشجيعها علي ما يقوم به وطلبها الشديد له بأن يأخذ بثأر محمد وثأر مصر كلها ، لحظات توقف فيها الزمن تاركا النظرات تنتقل بين الاثنين وتشحن احاسيس خيري لاقصي مدي .
تدفقت الدماء في شرايين خيري بسرعه كبيرة وازداد حماسه حماسا بعد تشجيع محبوبته له ووداعها له كأجمل ما يتخيل، وهرول تجاه محطه القطار وهو سعيد بما نقلته له محبوبته من مشاعر واحاسيس .
وبعد ساعات كان خيري يودع رسميا الحياه المدنيه بكل ما فيها ليبدأ مشوارا صعبا شاقا مميتا بكل ما تحمله الكلمه من معاني ، وتخلي خيري عن اي شئ يربطه بالحياه المدنيه سواء الملابس او الشعر ، كل ما استطاع ان يحتفظ به من حياته السابقه هو الراديو الصغير وصورة له مع محمد .
وفور استلامه للمخله العسكريه وملابسه العسكريه الجديده بدأ خيري اول ايامه كجندي مجند، ملئ بالكراهيه للعدو
وبكل حماس وإقدام بدأ خيري تدريباته العسكريه والبدنيه بكل شوق ، كانت تدريبات هدفها الاساسي تحويل الفرد المدني الي شخص عسكري بكل ما تحمله الكلمه من معاني ، فالطاعه والانضباط العسكري هما الهدف الرئيسي من ايام التدريب الاولي ، تلاها تدريبات بدنيه شاقه جدا لاكساب الجندي لياقه بدنيه تجعله قادرا علي تخطي الصعاب التي قد يواجهها ، ثم تلي ذلك تدريبات بسيطه علي استخدام السلاح الشخصي .
وبعد شهر أتم خيري فترة التدريب المبدئي والتي كانت مكثفه وسريعه جدا ، فالقوات المسلحه في حاجه الي كل مقاتل يمكن ان يتوفر بسرعه لكي يتم دفعه للجبهه سريعا حتي تستطيع ان تنتهي من خط الدفاع الاول .
وكان تفوق خيري في كافه التدريبات ملفتا للنظر كذلك طاعته المثاليه ، لكن رغم كل المحاولات التي تم بذلها من جانب زملائه ، فقد رفض ان يصادق اي منهم وفضل ان يكون بمفرده طوال فترات الراحه مصطحبا فقط الراديو الصغير لكي ينقل له ما يحدث علي الجبهه اول بأول .
وفي نهايه فترة التدريب تم استدعاء خيري الي مكتب القائد ، حيث سأله القائد عن السلاح الذي يرغب الانضمام له بعد فترة التدريب المبدئي ، وحيث ان خيري كان الاول علي زملائه في التدريب وكما كان متبعا فله الحق في اختيار السلاح ، وعلي الفور اجابه بلا تفكير ولا تردد بأنه يريد الانضمام لسلاح المدفعيه .
تعجب القائد من سرعه رد خيري ، وسأله في دهشه عن السبب ، ورد خيري بعبارات مختصرة وقاطعه
(( عشان اخذ بتار مصر من الطيران الاسرائيلي اللي موت عساكرنا في سينا يا فندم ))
نظر القائد الي ملف خيري الذي بين يديه وهو يحاول اخفاء اظهار اعجابه بأجابه خيري ، وكان بالملف كل المعلومات التي جمعتها المخابرات الحربيه عن خيري في فترة ما قبل قبول تطوعه بالقوات المسلحه ، وكان بالتقرير وصف لمدي الترابط بينه وبين ابن عمه الشهيد محمد والذي كان في سلاح المدفعيه المضاده للطائرات والتي كانت تعتبر حتي الان فرعا من فروع المدفعيه قبل فصل الدفاع الجوي في سلاح مستقل لاحقا في نفس العام
وكان القائد فطنا وذو بعد نظر كبير ، ووجد ان اجابه طلب خيري لالحاقه علي سلاح المدفعيه سيكون عاملا ايجابيا لخيري وللقوات المسلحه حيث سيزيد عطاء الجندي وابداعه وتفوقه طالما انه يعمل في مجال يختارة بنفسه ، وكذلك ان الغضب المكتوم والاحتقان الكامن داخله سيجعل معدلات ادائه عاليه جدا مقارنه بمن تم فرض السلاح عليه فرضا بدون اختيار،
فوافق القائد علي الفور ، وأمر بالحاق خيري علي سلاح المدفعيه وكتب توصيه بأن يتم الحاقه علي فرع المدفعيه المضاده للطائرات .
وسعد خيري كثيرا بهذا القرار والذي اعتبرة خطوه اخري تقربه من هدفه ، واحس بأن الله يمهد له الطريق لكي يقوم بما كان يجب ان يقوم به من فترة كبيرة .
وسعد اكثر عندما علم بأن له يومين اجازة يقضيهم في قريته قبل ان ينتظم في معسكر المدفعيه لبدء تدريب تخصصي علي سلاحه الجديد.
عاد خيري الي قريته قرب صلاه العصر ، وفي الطريق الي منزله لمح عمه وسط ابنائه وعدد من الفلاحين يعملون بالحقل ، فدخل اليه وسط الزراعات ، وعينيه تشق الفضاء باحثه عن محبوبته ، هرع الي عمه وابنائه التوأم و الفلاحين فور ان شاهدوه ، وارتمي خيري في احضان عمه بعد شهر من الغياب ، وفي تلك اللحظه عاد اليه بصرة سريعا يحمل مشهد محبوبته وهي تهرع تجاهه من بعيد وعلي وجهها ابتسامه شوق وسعاده غامرة .
تحدث اليه عمه وابنائه والفلاحين مرحبين به لكنه لم يسمعهم ، فمن المؤكد ان اذنه سمعت الكلام لكن العقل كان متركزا ومشغولا في مشاهد محبوبته والتي ينقلها له عينيه من بعيد ، فلم يهتم العقل بما تنقله الاذن وتابعت الاعين محبوبته التي ابطئت من سرعتها وظهر الخجل علي وجهها وهي تمد يدها بالسلام علي خيري ، مجرد اجراء شكلي قامت به محبوبته فالسلام والترحيب تم من فترة عندما تلاقت الاعين وعندما تشابكت النظرات .
افاق خيري من حلمه الجميل واصطدم بأرض الواقع عندما تنبه الي ما يقوله عمه من عبارات الترحيب ومن تعلق ابناء عمه بثيابه العسكريه فأضطر مجبرا الي تحويل نظرة عن محبوبته ، ووسط سعاده عمه والفلاحين بعودته أنسل خيري منهم بصعوبه بالغه متجهها نحو منزله وهو في شوق لان يعود لمحبوبته
أستقبلته والدته وشقيقتيه استقبال الفاتحين المنتصرين واعدت له وليمه فرحا وترحيبا بعودته وحزنت عندما علمت بأن لن يلبث معهم سوي ليله واحده فقط ، لكنها استغلت تلك الفترة القصيرة احسن استغلال في بث اشواقها وحنانها وحبها لابنها الوحيد ، ورغم اعتراضها في البدايه علي أنضمامه للقوات المسلحه ، الا انها تباهت به امام اهالي القريه وهو يغادر منزله في اليوم التالي متجهها لمحطه القطار.
كان تخطيطيه محكما في اختلاس عده نظرات وربما حديث ودي مع محبوبته ، وبدأ عقله يعمل بأسلوب عسكري بحت مما تعلمه في فترة التدريب المبدئي ، فقام بالتمويه علي اهله بالمغادرة مبكرا بحجه ان يحتاج لشراء عده حاجيات قبل السفر ، قام بالتسلل تجاه الساقيه القبليه ، لكن قام عمه بأفساد تخطيطه عندما وجده امامه يركب عربته التي يجرها حصان ، ودعاه لتوصيله الي محطه القطار ، فبهت خيري من تلك المفاجأه التي قلبت موازين خطته وإسقط في يده .
وركب بجوار عمه صاغرا وكم تحسر وهو يري محبوبته بجوار الساقيه كما توقع ، لكنها ودعته بنفس النظرات المشجعه له .
التحق خيري بمعسكر تدريب المدفعيه المضاده للطائرات فورا بعد يومين فقط من عودته من الاجازة ، وهناك كان الحال مختلفا تماما عن معسكر التدريب المبدئي ، ففي معسكر تدريب المدفعيه كانت المشقه بعينها ، فالحياه داخل المعسكر عباره عن تدريبات بدنيه وتدريبات عسكريه طوال اليوم ، وفي الليل تدريبات نظريه ومحاضرات توعيه .
انبهر خيري بساحه التدريبات حيث تراصت المدافع المضاده للطائرات وحولها الرجال يتدربون بسرعه فائقه ، فالوقت عامل حاسم في المعركه
وكان اول ما عرفه في هذا المعسكر هو شئ مهم جدا ، هو ان امامه ستون يوما فقط لكي يخرج الي الجبهه ، ستون يوما يجب ان يعرف فيها كل ما يحتاجه ان يعرف عن سلاحه الجديد وكيفيه صيانته وتكتيكات استخدامه فكان يجب ان يدرس ويتدرب ويجيد ويتفوق ويستوعب جيدا كل ذلك .
منذ ان خطا اول خطوه داخل هذا المعسكر وجد ان السباق قد بدأ منذ فترة بين قواتنا المسلحه وبين العدو ويجب ان نسبق العدو باي حال من الاحوال والا فأن مصير الامه كله سيكون في خطر ، فقواتنا المسلحه تبني نفسها من الصفر والعدو يحاول بشتي الطرق ان يعيدنا الي نقطه الصفر مرة اخري ، وكان يستخدم سلاحه الجوي والذي يعتبرة ذراعه الطويله في تدمير اي تجهيزات تقوم بها قواتنا المسلحه للوقوف علي قدميها مرة اخري، وكان لابد من وجود دفاع جوي فعال ضد الطيران الاسرائيلي لكي يحمي قواتنا البريه ،
لذلك كان معسكر تدريب المدفعيه المضاده للطائرات كخليه نحل بكل ما تحمله الكلمه من معاني فلا هدوء ولا راحه ويجب ان يتم تكثيف التدريبات لاختصار ما يمكن اختصار لتخريج دفعات مؤهله للعمل علي الجبهه فورا
ومن خلال المحاضرات النظريه اليوميه ومن خلال دروس التوعيه تعلم خيري درسا مهما جدا في حياته ، فمن خلال الدرسات عرف ان مصر لم تهزم ولن تهزم مهما كانت الصعاب ،فقد هُزمنا في معركه وهو شئ وارد جدا لاي جيش، لكن الفرد المصري لم يهزم ولن يستطيع احد هزيمته مهما كان، فالعزيمه موجوده والانتقام ورد الشرف هو القاسم المشترك الوحيد بينهم وعرف ان الهزيمه تحدث عندما يفقد الفرد ايمانه بالله وبقضيته وبالنصر ، وطالما ان الجندي المصري لم يفقد ايمانه بالله بل ازدار تمسكا بذلك فأن الهزيمه كانت ابعد ما يكون عن مصر وكانت تلك حقيقه علمها خيري قبل ان يعلمها الشعب الذي نخرت الهزيمه عظامه ،فالشعب لم يدرك بعد ان الجيش صامد ويقاتل بكل عزيمه لكي يصمد هو الاخر .
وفي محاضرات التوعيه طار خيري مع طيارونا الذين دكوا دفعات العدو شرق القناه في 14 و 15 يوليو 1967 وأبحر مع لنشات الصواريخ في ضربها للمدمرة ايلات فخر البحريه الاسرائيليه في 21 اكتوبر 1967 ودق قلبه مع ضربات المدفعيه علي تحصينات العدو طوال الفترة الماضيه ، عبر مع دوريات العبور المقاتله التي عبرت إما لجمع شتات القوات المشتته في سيناء او لضرب مخازن الذخيرة المكدسه في العراء .
احس فعلا بانه ترس صغير جدا في منظومه هائله تحاول ان تقف علي قدميها وان عليه ان يضاعف مجهوده عشرات المرات لكي يساعد تلك المنظومه في النهوض ، انها مصر تناديكم ان ترفعوا العار عنها فهل انتم لها ؟؟ جمله قالها احد المحاضرين فسرت علي الفور قشعريرة في بدن خيري وصاحت جوارحه بكل عزم وكبرياء نعم نحن لها
لم يمض وقت طويل حتي لمع نجم خيري في ارجاء المعسكر ، فبخلاف الطاعه العمياء والانضباط الشديد ودقته في تنفيذ الاوامر ، كانت حماسته واصرارة وتفوقه في التدريب الفني ملفته لانظار جميع الضباط
حتي ان احد ضباط الصف المسئولين عن سريته كتب في تقرير سري يرفع للقائد
(( خيري لا يتدرب انما يقاتل ، وان عزيمته في التدريب وراءها هدف خفي لا اعرفه ، فهو نموذج للريفي البدوي الاصيل الذي يرد في ادب ويؤدي اي عمل يطلب منه في إتقان وسرعه ))
واستمر خيري في معسكر التدريب يتدرب ثماني عشر ساعه يوميا ، وبعد انتهاء التدريب كان يجلس فوق سريرة محتضنا الراديو الصغير وينظر الي صورة محمد من ان لاخر ثم يهيم من خلال نافذه العنبر الي السماء صامتا شاردا مفكرا حتي ينام .
ورغم تكرار محاولات عدد من الزملاء في مصداقته الا انه قد اخذ عهدا علي نفسه الا يصادق احدا بعد محمد وكان في ذلك العهد راحه كبيرة لنفسه .
مع مرور ايام التدريبات الشاق والمجهده برز تفوق خيري ولمع اسمه واقترن بمهام الفرد رقم 2 علي المدفع المتوسط من عيار 85 مليمتر المضاد للطائرات وهي مهام فرد التنشين والضرب علي المدفع ، وتوالت التدريبات وخيري يتقدم ويجيد
وكانت التدريبات تشمل اطلاق انذار مفاجئ وعلي جميع الافراد التوجه الي امكانهم علي المدافع اينما كانوا ، وكان الجميع يتسابق للوصول الي مدفعه واعطاء تمام الاستعداد في اسرع وقت ممكن .
وبعد فترة من التدريب الشاق ، خرجت سريه خيري الي ميدان ضرب النار لعمل بيان عملي لضرب ذخيرة حيه علي اهداف جويه هيكليه ، وكان ذلك معتاد قرب نهايه فترة التدريب للوقوف علي مستوي الجنود .
وعلي غير المعتاد حضر التدريب رئيس اركان القوات المسلحه الفريق عبد المنعم رياض ويرافقه قائد قوات المدفعيه وجمع من قاده القوات المسلحه وهو يعكس مدي اهتمام القياده العليا بمستوي الجنود الجدد في القوات المسلحه
وأتمت سريه خيري انتشارها في ميدان ضرب النار ، وأطمأن خيري علي تجهيز مدفعه ووجود ذخيرة كافيه ، ووضع قائد السريه مدفع خيري في منتصف تشكيل البطاريه لكي يستطيع ان ينسق العمل بين المدافع الاخري .
وبعد دقائق ظهر الهدف الاول وهو عبارة عن طائرة نقل عسكري تجر خلفها بمسافه طائرة هيكليه يتم الضرب عليها
سار الهدف امام خيري لكنه كان بعيدا عن مدي مدفعه فلم يضرب عليه ، وبعد دقائق عاد الهدف لكنه عاد من اتجاه يجعل الشمس في ظهر الهدف وفي اعين اطقم المدفعيه وهو اسلوب قتال جوي استحدثه البريطانيين في معركه الدفاع عن بريطانيا عام 1942 وهو يعمد الي ان الشمس تقوم بحجب الهدف عن المدفعيه الارضيه في حين تكون الاهداف الارضيه واضحه تماما .
اصابت الشمس عيني خيري وهو يحاول تحديد مدي الهدف لكنه وبصعوبه كبيرة استطاع ان يبدأ الضرب علي الهدف بدفعات مركزة وقصيرة من مدفعه ولحقه بقيه المدافع في الضرب ايضا ، لكن خيري كان له السبق في تدمير الهدف بدفعه مركزة ، واثناء الاشتباك ظهر هدف اخر في اتجاه اخر قريب جدا من احد المدافع الاخري والذي دمرة ايضا
وتواصل الاشتباك مع الاهداف التي تظهر علي فترات طوال فترة التدريب الحي
وفي نهايه التدريب كان خيري قد استطاع تدمير ثلاث اهداف من اجمالي خمس اهداف تم تدميرها ، وكانت نتيجه جيده جدا لذلك طلب رئيس الاركان مقابله اطقم المدافع واثني علي عملهم وأمر بصرف خمسين جنيها لكل جندي منهم تقديرا لجهودها ، ودار حوار بين الرجل وجنوده وعما يحتاجونه فأندفع خيري طالبا سرعه توجههم الي الجبهه فتبسم رئيس الاركان واخبرة بأن الموعد قد قرب جدا وان المهم في هذه المرحله هو التدريب الشاق لان هذا التدريب يوفر الدم خلال المعركه .
وبعد مغادرة رئيس الاركان ومرافقيه لارض التدريب ، انزوي خيري بقائد سريته وطلب منه تحويل مبلغ المكافأه الي اهله أسوة بمرتبه كما تعود ، فربت قائد السريه علي كتف خيري واخبرة بأن ذلك لن يكون عسيرا .
مرت ايام التدريب مشحونه بالتدريب والعمل الجاد لكن بالنسبه لخيري فقد كانت بطيئه وممله ، فهو في شوق للجبهه بمثل شوقه للنظر الي محبوبته ، فقد كان يحصي الساعات والدقائق التي تقربه من الخروج لمقابله العدو وجها لوجه لكي يبدأ في اخراج البركان الكامن داخله .
وازداد غضب خيري عندما علم من الراديو بأن الجبهه مشتعله ، فالاشتباكات صارت اكثر شراسه وحده ، والطيران الاسرائيلي يضرب قواتنا بطول الجبهه ، وجعلت تلك الاخبار خيري غير متمالك نفسه وظهر ذلك جليا عندما استدعاه قائده عصر احد الايام في شهر مارس عام 1968 عندما قاربت فترة التدريب علي الانتهاء
دخل خيري بكل انضباط الي مكتب قائده وادي التحيه العسكريه لقائده والذي بادله اياها ، تحدث القائد بأن الدفاع الجوي اصبح قوة مستقله عن الاسلحه الاخري ثم اردف القائد بأن خيري مرشح لدوره تدريب علي الصواريخ ارض-جو التي بدأت تصل مصر بكثافه لتعمل جنبا الي جنب مع المدفعيه المضاده للطائرات وان هذه الدوره لا يحصل عليها الا افراد أكفاء ومؤهلين جيدا ، وان خيري مرشح لهذه الدورة والتي تستمر حوالي ثلاث اشهر .
ففزع خيري وصاح في سرعه (( لا – انا مش عاوز دورات ))
فوجئ القائد برد فعل خيري الغير هادئ والغير متوافق مع شخصيته الهادئه والمعروفه علي مستوي المعسكر ، فظهرت علامات التعجب والحيرة علي وجهه القائد ، الا ان خيري تمالك نفسه سريعا واستكمل
(( انا اسف يا فندم ، بس انا كنت بأعد الايام اللي اخلص فيها التدريب عشان اروح الجبهه ، ومش هقدر استحمل دورة لمده تلات اشهر تانيه ، انا نفسي اروح الجبهه النهارده قبل بكرة ، ارجو سامحني يا فندم ))
تبسم القائد أبتسامه لم يفهم خيري معناها وقتها ورد القائد بعدها (( طيب ، أظن انك كمان مش هترفض اجازة 72 ساعه ولا هتوافق ؟))
فرد خيري بالموافقه ، وكان ذلك ايذانا بانتهاء خيري من مرحله التدريب التخصصي في معسكر تدريب المدفعيه المضاده للطائرات .
هم خيري بأن ينصرف الا انه توقف وعادت ملامحه للجديه الشديده وسأل قائده (( ممكن اطلب منك خدمه يا فندم ؟؟))
ظن القائد ان خيري سيطلب منه اي طلب من الطلبات التي يطلبها الجنود من قادتهم مثل مد فترة الاجازة.
فأوما الرجل برأسه موافقا ، وساله خيري (( ممكن اتنقل لاكتر موقع متقدم علي الجبهه ))
حدق القائد في وجه خيري الخالي من التعبيرات ، وفكر في معدن هذا الرجل الواقف امامه والذي يطلب ان يُزج به الي النار بملئ ارادته ، لكنه تذكر ما قرأه في ملف خيري وعن ملاحظات قادته عنه وعن تقارير المتابعه الوارده اليه ، ففكر قليلا ثم اجابه بأنه سيقوم بما يمكن وان خيري فور عودته سيعرف وحدته الجديده .
انصرف خيري من مكتب القائد ومشاعرة متباينه جدا ، فتارة هو في شوق الي الجبهه وفي شوق الي القتال وتارة اخري هو في شوق الي عيون محبوبته والي العوده الي المنزل .
واستمر تفكيرة حتي وهو في القطار متجهه نحو قريته ، ولفت نظرة مناظر الزراعات علي جانبي القطار والحياه الريفيه التي تعج بها الحياه في الدلتا ، وسرح مع مشهد مر من امامه سريعا مشهد فلاح يزرع ارضه وبجوارة صبيه صغيرة ترعي الغنم ، فبينما لم يسمع او يري او يفكر طوال الثلاث وسبعين يوما الماضيه في شئ غير الحرب والقتل والدمار ومدفعه ، فأن الحياه مازالت تنبض في هذا البلد الصامد ، فالحياه يجب ان تستمر ولا بد ان تستمر ، فكيف يتوقف الفلاح عن الزراعه وكيف يتوقف العامل في مصنعه
فأذا توقف كل هؤلاء لتوقفت الحياه ولوجد الجيش نفسه جائعا عاريا اما عدو لا يتواني عن اي عمل مهما كان دنيئا او حتي غير انسانيا لكي يحقق اهدافه .
احس بتفكيرة قد تغير ، فهو يلاحظ الان اشياء لم يكن يلاحظها من قبل ، اشياء كانت غائبه عن تفكيرة مثل الحياه وما فيها من امور مسلم بها لا يفكر فيها لا من يفتقدها .
لمست قدماه ارض رصيف القطار وقد اصبح انسانا اخرا بكل ما تحمله الكلمه من معاني ، فقد غادر نفس المكان منذ ثلاث وسبعين يوما شخصا مدنيا تائها باحثا عن هدف ، وهو الان يعود لنفس المكان اكثر ثباتا وتركيزا ، اكثر معرفه بهدفه واكثر ثقه في نفسه وفي امكانياته لتحقيق هذا الهدف .
اول ما احس به خيري هو الغربه في قريته ، فهذه الطرقات والمزارع سار بها اكثر من الاف المرات خلال عمرة وهو الان يحث بالغربه فيها ، الهذه الدرجه تعود علي الحياه العسكريه في تلك الفترة القصيرة لدرجه انه أستغرب الحياه المدنيه التي شب عليها ؟.
سار خطوات قصيرة ليقابل عمه مصادفه في الطريق ، سعد عمه جدا بلقاء خيري المفاجئ ودعاه الي منزله للعشاء لانه يريده في أمر هام جدا ، لم يهتم خيري كثيرا بالموضوع الهام بقدر اهتمامه بأنه سيري محبوبته في المساء ، واستقبلته والدته وشقيقاته استقبالا كبيرا كما اسقبلته في المرة الماضيه واعدت له وليمه كبيرة أحس بعدها خيري بالامتلاء التام وهو احساس غاب عنه كثيرا في الجيش ، ثم امضي بقيه النهار بصحبه شقيقتيه يحكي لهما احواله في معسكر التدريب،
وفي المساء صلي العشاء في جامع القريه وتحدث قليلا مع الشيخ عبد الله وبعض الرجال ، ثم استأذنهم متجها لمنزل عمه
أدخله رجب الي غرفه الضيوف كما اعتاد ، و فوجئ خيري بصورة محمد معلقه علي الحائط و متشحه بقطعه سوداء من القماش ، هام للحظات بمفرده في صورة محمد ، وتحدث معها (( خلاص يا محمد ، هانت ، كلها كام يوم بأذن الله وابدأ اخذ بتارك من ولاد الكلب اليهود اللي موتوك وموتوا زملائك في الصحراء ، صدقني يا محمد طيارات اليهود كلها مش هتشفي غليلي بس كده احسن ما اقعد حاطط ايدي علي خدي واندب حظي )) قطع دخول العم حديث خيري الصامت مع صورة محمد، بدأ العم في الترحيب بخيري وسؤاله عن احواله ، واستمر الحوار لمده دقائق وخيري منتظر دخول العم في لب الحديث ، وسرعان ما تطرق العم الي المهم قائلا (( مش ان الاوان يا خيري عشان ننفذ وصيه محمد ؟))
بهت خيري من المفاجأه وتساءل عما يتحدث عمه ، فلاول مرة يعرف خيري ان محمد ترك وصيه وظهرت الحيرة علي وجهه
فأستطرد العم (( من كام يوم وصل جواب كان محمد باعته لنا قبل النكسه ، والجواب وصل لنا بعد الفترة دي كلها ، وفي الجواب محمد كاتب الموضوع اللي قلته له عند محطه القطر قبل سفرة ، وانه بيبارك وموافق علي جوازك من بنت عمك ، وطبعا انا مش هلاقي احسن منك لبنتي ))
شلت المفاجأه لسان خيري ، فنظر الي صورة محمد المعلقه علي الحائط وطفت دموع قليله علي عينيه فأستكمل عمه
(( الجواب ده بالنسبه لي ولك زي الوصيه تمام وانا لازم انفذها بالحرف))
أستمر خيري صامتا مركزا نظرة في صورة محمد ولم يستطع ان يتفوة بكلمه فتسأل العم عن سبب صمت خيري والذي اجاب بصعوبه وبدون تركيز فيما يقوله
(( والله يا عمي ...... الموضوع ده ......... انا مش عارف اقول ايه ؟...... وصيه محمد بالنسبه لي .......))
فأدرك العم مدي ارتباك خيري فأنهي الموضوع وهو يمد يده لخيري (( نقرأ الفاتحه ))
مد خيري يده بعفويه سريعه وقرأ الفاتحه مرتين فهو يكاد يطير فرحا مما يحدث له هذه الايام لكنه أوقف فرحته سريعا فلا يجب ان ينسي تلك النار التي تأكل صدرة بأستمرار ولا يجب للفرحه ان تحل محل تلك النار فلا يجب ان ينسي ثأر مصر وثأر محمد ، لذلك قرأ الفاتحه في المرة الثانيه ترحما علي روح محمد والذي كان بجانبه حيا وشهيدا
عم السرور ارجاء المنزل بعد ان اعلن العم انه قد قرأ الفاتحه مع خيري وإن كانت فرحه مبتورة ، فخيري اعلن انه لا يمكن له اتمام الزواج قبل الحصول علي موافقه القوات المسلحه وهو اجراء متبع ومعروف ، مما جعل فرحه محبوبته مبتورة وإن كانت عينيها تنطق بكل الوان الفرح الموجوده في الدنيا .
ومرت اجازة خيري سريعا بأسرع مما يتخيل ، فعاده اوقات الفرح تمر بسرعه واوقات الحزن تمر كئيبه بطيئه جدا
وبعد ساعات وجد خيري نفسه في عربه خاله التي يجرها الحصان تشق الطريق تجاه محطه القطار ، هذه المرة كانت محبوبته بجوارة في نفس العربه لا يفصل بينها غير اخواتها التوأم والذين كانوا مثل حائط منيع بين الاثنين ، لكن خيري لم يعدم حيله ، فأستمرت النظرات كما كانت في السنوات الماضيه ، وإن كانت نظرات صريحه مستقيمه لا تخشي ان يلاحظها احد .
ودع خيري محبوبته علي باب القطار ، وبدأ القطار يتحرك ببطء وعيناهما متشابكه تأبي ان تنفصل عن بعضهما البعض ، ومع تزايد سرعه القطار بدأ التباعد يزداد شيئا فشيئا حتي تلاشت محبوبته ومحطه القطار من امامه تماما .
جلس علي مقعد خالي في القطار وهام في حاله الحب والعشق التي يعيشها حاليا مع محبوبته ، وفكر انه متجهه للجبهه وأستشهاده وارد جدا فما سيكون حال اهله ومحبوبته بعد وفاته ، لكن فجأه دق جرس الانذار في عقله ، وجاءت صيحات التحذير مدويه ، فما حدث في تلك الاجازه لا يجب ان يثنيه عما هيأ نفسه له ويجب الا ينسي هدفه الاساسي والوحيد في هذه الدنيا الا وهو الثأر ، فكيف يعيش سعيدا وهو لم يأخذ بالثأر بعد ، وكيف يواجه نفسه والبركان يغلي داخله ولم يخرج بعد ، وهام في هذا التفكير قليلا حتي توصل الي انه يجب ان يفصل تماما بما يحس به ويحدث له في قريته وخاصه مشاعرة تجاه محبوبته وبين ما وضعه لنفسه من اهداف ، حتي لا يتعارض تنفيذ اهدافه مع مشاعرة الشخصيه والتي لا بد وان تكون في ذيل اولوياته في الوقت الراهن .
وعاد بتفكيرة الي اخر لقاء له مع قائده ، وتذكر وعد قائده له بأنه سيرسله لاقرب موقع علي الجبهه وفكر قليلا في اي موقع سيرسله له قائده ، وعاهد نفسه مره اخري انه يجب ان يكون متفوقا علي نفسه والا يترك طائرة اسرائيليه تنعم بالهدوء في سماء موقعه ايا كان .
وصل خيري لمعسكر تدريب المدفعيه فوجد حشدا من الجنود يستعدون لركوب سيارات النقل ، كان حشدا كبيرا تسوده حاله من عدم الانضباط والهرج ، ولمح قائد سريته فأسرع الي ركضا متسائلا عما يحدث ، وفور ان رأه قائد السريه حتي نظر في ورقه يحملها قائلا (( خيري ...... وحدتك في الجزيرة الخضراء ، شد حيلك يا وحش ، اركب اللوري رقم 9 ))
ادي خيري التحيه العسكريه وصافح قائده واتجه ناحيه سيارات النقل باحثا عن السيارة رقم 9 ثم ركب الصندوق بجوار عدد اخر من الجنود من ابناء دفعته المتجهين الي الجبهه .
وتابع ببصرة عدد السيارات المنطلقه الي الجبهه تحمل جنود مدفعيه مضاده للطائرات ، عشرات الجنود في طريقه الي مواقعهم الجديده لكي يساهموا مع خيري ورفاقهم القدامي في الجبهه في تحويل سماء الجبهه الي جحيم ونار تلهب وتحرق المقاتلات الاسرائيليه ، فتمني في نفسه السلامه لكل واحد منهم .
وفور تحرك السيارة شرد خيري فيما قاله له قائده (( الجزيرة الخضراء )) فما هي ؟؟ واين تكون ؟؟ اهي قريبه ام بعيده من الجبهه ؟؟ هل قائده يكافأه ؟؟ ام يعاقبه ؟؟ فلو كانت بعيده عن الجبهه فهو عقاب له وربما يظن القائد انه يخدمه بهذه الطريقه .
فيضان عارم من الافكار والامال والامنيات طاف بعقل خيري طوال الطريق والذي كان مزدحما بسيارات عسكريه تتجهه من والي جبهه القناه حيث القتال الحقيقي .
في بدايه الطريق كان الهرج هو سمه صندوق السيارة ، فالجنود يتكلمون في مواضيع مختلفه وبصوت عال ينافس صوت الرياح التي تلفح وجوههم في الطريق وصوت محرك السيارة، وكعادته كان خيري صامتا هائما وغير قادرا علي سماع صوت الراديو ، وفي لحظه صمت الجميع ليستمعوا الي ما يبثه راديو خيري .
فقد كان بيانا عسكريا عن غارة اسرائيليه جويه علي قواتنا في القطاع الجنوبي للجبهه خلفت اصابات بين المدنيين ، وهو بيان عسكري معتاد في مثل هذه الايام .
وكتم خيري غيظه وغلي الدم مرة اخري في عروقه ، فمن سيوقف الطيران الاسرائيلي عن استباحه سماءنا ، ما ذنب المدنيين في ان يقتلوا في الحرب ، فما نوع هذا العدو الذي سيواجهه ، اهم من بني ادم ام من ابناء جنس اخر لا يرحم
ولا يراعي مواثيق او اعراف .
 
الفصل الثالث
الجــــــــــــزيــــــــــرة الخضـــــــــــــــــــــراء
الجزيرة الخضراء هي واحده من الجزر الهامه التي تقع في خليج السويس ، وهي تقع في اقصي الشمال من خليج السويس ولها اهميه استراتيجيه وعسكريه كبيرة جدا حيث انها تشرف وتتحكم في المدخل الجنوبي لقناه السويس تحكما كاملا وهي لا تبعد عن شاطئ مدينه السويس سوي خمسه كيلومترات وعن شاطئ بورتوفيق وسيناء سوي سبعه كيلومترات .
وتاريخيا اكتشف البريطانيين اهميه هذه الجزيرة فوضعت فيها قوة مسلحه دائمه لتأمين الملاحه في قناه السويس وبعد انتهاء الاحتلال البريطاني لمصر ، وضعت مصر بها قوة مسلحه خفيفه زادتها بعد النكسه خوفا من استثمار العدو لنجاحه وقيامه باحتلا ل تلك الجزيرة الهامه .
ورغم صغر حجم هذه الجزيرة التي لا يزيد عن كيلومتر واحد ، فقد تمسكت بها مصر بضراوه وحاول الطيران الاسرائيلي كسر مقاومه الجزيرة اخضاعها لكنه فشل في ذلك
وصل خيري الي مدينه السويس في مارس 1968 ، وكان الدخان الاسود يغلف سماء المدينه بصورة رهيبه جدا ، وكان صوت ضرب المدفعيه مسموع من بعيد ، وتحولت حاله الهرج في صندوق السيارة الي حاله صمت وترقب ووجوم ، فقد دخلوا الي الجبهه بكل ما تحمله من قتال وضحايا كل يوم ، كانت رائحه البارود تملئ الجو بصورة مكثفه من جراء القصف المدفعي الاسرائيلي علي المدينه ، وبينما السيارة تسير ببطء في طرق السويس ، تطلع خيري ورفاقه الي حجم الدمار الهائل الذي حل بالمدنيه ، فالمباني شبه مهدمه ومن النادر ان تجد منزلا غير مصاب بطلقات او شظايا عديده ، او تجد طريقا ممهد فكل الطرق بها فجوات ناتجه من القصف المعادي .
كان خيري مجبرا ان يقارن بما يراه في السويس وبين مشاهد الحقول الممتده حول مسار القطار ، او بين قريته التي تنعم بالهدوء التام والسلام بينما السويس تعاني من الحرب والخراب، كان الاحساس الذي لازمه في تلك اللحظه انه خرج من عالم الي عالم اخر مختلف تماما عما يعرفه .
كانت الحرب تطل بوجهها القبيح علي السويس وتعلن انها مدينه اشباح فالعدو علي بعد امتار قليله منه الان ، لا يفصل بينهم سوي قناه السويس ، فها هو المسرح قد ُاعد والمواجهه مع العدو ستحدث لا محاله ، ومع السير البطئ لسيارة الجنود تطلع خيري الي مظاهر الحياه في السويس ، فرغم هذا الدمار الهائل ورغم التهجير الاجباري لاهل السويس الا ان عددا منهم رفض مغادرة منزله واثر التمسك بارضه لو حتي معرضا حياته للموت ، فها هي سيده تقف تشتري حاجيات منزلها من منفذ التموين ، وهذا اخر يقف في محله ليبيع الخردوات ، مظاهر تظهر علي استحياء لحياه تحت القصف المعادي المتقطع .
دلفت السيارة الي جوار احد المباني ، وتوقفت وُطُلب منهم النزول ، فنزل الجنود من السيارة وهم واجمون مما هم فيه
وتم تقسيم الجنود بواسطه احد العرفاء ، فجزء سينطلق الي منطقه الشط ، وجزء اخر سيتجه مع السيارة الي قياده الجيش الثالث وجزء اخر سيتحرك سيرا الي احد مواقع المدفعيه المضاده للطائرات والمخصصه للدفاع عن مدينه السويس نفسها وتبقي خيري وثلاثه أخرين ، واخبرهم العريف بأنهم سينتظرون في شقه صغيره مهجورة في نفس المكان حتي هبوط الظلام ثم يتحركوا تجاه شاطئ البحر حيث سينقلون بحرا الي الجزيرة .
دلف خيري الي تلك الشقه المهجورة داخل المبني المهجور والتي اتخذها العريف نقطه للراحه حتي التحرك ليلا ، وضع خيري المخله التي تحتوي علي حاجياته الشخصيه والعسكريه ، ومدد جسده علي الارض واضعا رأسه علي المخله وتسلل النوم الي عينيه رغما عنه .
وقرب المغرب أستيقظ خيري مرعوبا مفزوعا وهو يسمع دوي انفجار رهيب قريبا منه اهتز علي اثرة المبني بشده ، وتطاير من النوافذ ما تبقي بها من زجاج و عم الفرغ ارجاء الشقه ، وبدأ الذعر علي خيري وعلي زملائه الثلاثه ، أما العريف فكان هادئا يحتسي كوبا من الشاي ويجلس في احد اركان الغرفه باسما وهو يقول (( اهلا بيكم علي الجبهه )) فأنفعل احد الجنود غاضبا من هدوء العريف وانفجار القنبله كان قريبا جدا وكاد يودي بحياتهم ، فأرتشف العريف بعضا من الشاي واستكمل باسما
(( من الحاجات اللي هتتعلموها في الحرب ، ان القنبله اللي هتموتك مش هتلحق تسمع صوتها ، وطالما انك سمعت صوت الانفجار يبقي انت عايش ، وانا واحد بعرف ربنا وعارف ان لكل اجل كتاب ، فبلاش قلق وكلها كام يوم وتتعودوا علي الضرب واعصابكم تهدأ ))
لم يستطع خيري ورفاقه ان يستوعبوا الكلام الباسم المطمئن من العريف ، فالانفجار كان قريبا كبيرا ومدويا .
خرج خيري مع رفاقه بعد ثوان من الانفجار يتابعوا تبعاته ، فوجدوا ان الانفجار اصاب الطريق العام وبدأ الدخان في التلاشي تاركا فجوة عملاقه في وسط الطريق .
وقف خيري ورفاقه ينظرون الي رد فعل اهالي السويس بعد الانفجار ، فوجدوا ان احدا لم يهتم بالتجمع قرب الانفجار كعادته المصريين في التجمع والتجمهر عند اي حادث ، لكن احدا من اهل السويس لم يبالي .
فقط سيارة دفاع مدني جاءت مسرعه تشق الطريق شقا ومن خلفها سيارة اسعاف وتوقفتا قليلا قرب الانفجار ، وعندما تأكد من فيها بأن الانفجار لم يخلف ضحايا او حرائق ، عادتا مسرعتين من نفس الطريق.
مالت الشمس خلف جبل عتاقه وبدأ الظلام يحل تدريجيا علي السويس وبدأت معالم المدينه تختفي امام عيني خيري وهو يقف يتأمل في شرود ويحاول ان يستوعب الواقع الجديد الذي اصبح فيه
نادي العريف علي خيري ورفاقه بان يستعدوا للرحيل، فقد اوشك الظلام ان يملئ ارجاء المكان تاركا ستارا يمكن للرجال التحرك في ستارة بهدوء ، وبعد دقائق كان الرجال يتحركون سيرا حاملين المخالي متجهين تجاه شاطئ خليج السويس
سار الرجال خلف العريف في صمت يتابعون ما يستطيعون متابعته من مباني المدينه المهدمه ، وقرب الشاطئ أشار العريف تجاه الشرق قائلا (( الصبحيه تقدروا تشوفوا العلم الاسرائيلي من الناحيه التانيه )) أحس خيري علي الفور بالدم يندفع في عروقه حارا حارقا ، فالكلاب لا يبعدون عنه الان سوي امتار ، لابد وانهم الان يضحكون ويمرحون ومستمتعون في مواقعهم علي ارضنا المحتله ، ياله من شعور قاسي بالعار والخزي وقله الحيله والذي يجتاح كل مقاتل مصري يري العلم الاسرائيلي امامه يوميا بدون ان يستطيع ان يحرقه او ينكسه ويضع علم مصر محله .
وصل خيري الي شاطئ الخليج علي بعد مئات الامتار فقط من الاسرائيليين ، وامرهم العريف ان يتجهوا معه تجاه احد لنشات الصيد الراسيه علي احد المراسي ، وبعد لحظات كان الرجال يتخذون مواقعهم علي سطح اللنش في انتظار الابحار ، لكن الانتظار طال وبدأ الرفاق في الاحساس بالملل خاصه وان الجو أصبح باردا جدا، لكن خيري كان معهم جسدا فقط وروحه هائمه فوق ذلك الموقع الاسرائيلي الغارق في الظلام فوق ضفه القناه ، تمني لو معه سلاحا يستطيع ان يمحو ذلك الموقع من الوجود محوا ولا يترك مكانه حجرا فوق حجر .
مر الوقت والرجال مازالوا في انتظار ابحار اللنش وتعالت الاعترضات من الجنود بسبب بروده الطقس ، لكن العريف اخبرهم بأنه تم رصد دوريه مدرعه اسرائيليه عند بورتوفيق ، ومن الممكن ان تقوم بفتح نيرانها علي اللنش في اي وقت لذلك هم في انتظار ابتعاد الدوريه عن شاطئ الخليج.
وبعد فترة صعد رجل الي سطح اللنش يلبس ملابس اولاد البحر وسرعان ما بدأت الحركه تدب علي اللنش ، وظهر من الظلام جنود يحملون صناديق لتحميلها علي اللنش استطاع خيري تمييز صناديق ذخيرة المدفعيه المضاده للطائرات بسهوله ، في حين فشل في تمييز باقي الصناديق .
خرج الرجل الذي يلبس ملابس البحر بكل خفه ونشاط من قاع اللنش وبدأ في اعطاء اوامرة يمينا ويسارا للرجال والجنود علي السواء والكل ينفذ في طاعه ، فقد كان الجميع يستعد للابحار ، وفي إنعكاس لضوء احد المصابيح الخافته علي وجه الرجل استطاع خيري ان يري ملامح العجز وتقدم السن علي وجه الرجل والذي قدر خيري عمرة بأنه اكبر من سبعون عاما علي اقل تقدير ، ورغم ذلك فأن الرجل يتمتع بحيويه ونشاط شاب في العشرين من عمرة .
وبعد قليل دار محرك اللنش بصوت عال جدا معلنا عن محرك يعاني من تقدم العمر وقله الصيانه ، وبدأ اللنش يتحرك رويدا رويدا مغادرا الشاطئ وتاركا قلوب الرجال تودع اضواء السويس الخاقته في خوف وترقب مما يمكن ان يقابلونه في المستقبل علي تلك الجزيرة .
ومع مغادره اللنش الشاطئ تحرك خيري الي المقدمه حيث كان شوقه الي موقعه والي سلاحه ، ودار عقله برفاقه الثلاث الجالسين في صمت يدخنون السجائر وفكر أيعقل ان يكون احدهم صديقا له او قريبا من نفسه كمحمد ، لكنه رد علي نفسه بسرعه تلقائيه رافضا تلك الفكرة وتساءل مرة اخري في نفسه عن حال هؤلاء الثلاثه والذي لا يختلف عن حاله كثيرا ،
فمن المؤكد ان كل منهم كان يخطط للمستقبل بشكل مختلف تماما ولم يكن يضع في حساباته او توقعاته ان يكون مستقبله في الحرب والقتال ومواجهه الموت من كل جانب .
مستقبلهم اصبح بين عشيه وضحاها قاتما اسودا ، لا امل فيه في القريب ، فتمتم خيري من اعماق قلبه وهو ينظر تجاه نقطه العدو (( الله يخرب بيوتكم بيت – بيت ))
ووسط ظلام حالك سواء من السماء الملبده بالغيوم الكثيفه او من البحر الساكن بلا حركه كالسجاده الثقيله، تحرك اللنش مسرعا تجاه الجنوب وخيري يقف علي مقدمته هائما في الماضي متحفزا للمستقبل ، ومع تعالي صوت اللنش في ارجاء البحر جاءته يد ممدوه بسيجارة مشتعله ، فرفض بأذب وسار بعينيه ليري وجه صاحب هذه اليد ، فوجده الريس غريب صاحب اللنش وربانه ، وتحدث الريس غريب (( سمعتك بتلعن ابو اليهود ، فقلت اجي معاك العن ابوهم )) وسحب الرجل نفسا من سيجارته بينما لم يتجاوب خيري مع الحوار فأردف الرجل سائلا ((انما انت منين يا دفعه ؟؟))
فرد خيري (( منيا القمح – شرقيه )) فتهلل وجه الريس غريب (( أجدع ناس واهل الكرم والجود كله )) فتبسم خيري علي مجامله الريس غريب ، في نفس الوقت تعالي صوت الحديث بين الجنود الثلاثه المرافقين لخيري علي سطح المركب ،فألتفت اليهم الريس غريب معاتبا وطالب منهم عدم رفع صوتهم خشيه ان يسمع صداه في البحر ويسمعه اليهود من الناحيه الاخري ، فرد احد الجنود مداعبا (( ياريس انت صوت مركبك بيتسمع في اسوان )) فتبسم الريس غريب من مداعبه الجندي له ثم تحولت نظرته المبتسمه الي جديه (( انتم اصلكم لسه صغيرين ومتعرفوش اليهود كويس ، احنا بقه السوايسه عارفنهم كويس جدا ، انا حاربتهم في 48 وكنت مع الشهيد احمد عبد العزيز ، الله يرحمه كان مجننهم ، وفي سنه 56 كنا شايفنهم علي البر التاني وشفنا عملوا ايه في العمال الغلابه اللي ملهمش في الطور ولا الطحين ، ياولداه العمال ادفنوا عايشين ، وطبعا اللي حصل في يونيو اللي فات ده ملوش وصف ، دول ناس ميعرفوش دين او اخلاق ))
اصطدمت كلمات الرجل الحاده بعقل كل منهم بقوة جعلت العقول تعمل بقوة ، لكن الرجل أستطرد
(( بس علي فكرة الحرب لسه مخلتصش ، انا كل يوم بشوف رجاله زي الورد ، زيكم كده بالضبط ، الرجاله دول بيعدوا الناحيه التانيه بالقوارب وساعات عوم ، بيموتوا منهم كتير وبيضربوا دباباتهم ، ومن كام اليوم الولد الرفاعي رجع وهو معاه اسير من ولاد الكلب، وبعد ساعه كانت السويس كلها عرفت ان الرفاعي جاب اسير )) تساءل خيري في عقله سريعا عمن يكون هذا الرفاعي الذي تعرف السويس عملياته وتتابع اخبارة ، التقط الرجل انفاسه ثم استطرد
(( انا خلاص راحت عليا ، البركه فيكم بقه ، لو كل واحد فيكم عمل اللي عليه ، صدقوني هنرجع الارض ))
جاء صوت احد مساعدي الريس غريب ليقطع استرسال الريس غريب في الحوار
وتحرك الريس بسرعه واستلم دفه القياده ، ليبدأ اللنش في الانعطاف في اتجاه اخر ، حاول خيري ان يفهم مغزي هذه التحركات البحريه ، فاللنش يسير وسط ظلام تام سواء في السماء او البحر علي السواء ، وبعد لحظات صعد الريس غريب الي مقدمه اللنش مرة اخري وفي يده مصباح ، وبدأ يعطي اشارات ضوئيه متقطعه ، وتعجب خيري عندما شاهد اشارات رد تلك الاشارات من وسط الظلام وتساءل بتعجب عن كيفيه اهتداء الريس غريب الي مكان الجزيرة في سط هذا الظلام .
وبعد قليل صاح الريس غريب في الرجال (( لما نربط ، كل واحد منكم يشيل صندوق وينزل بيه بسرعه ، انا مقدرش اقف في الجزيرة كتير والا هيسمعونا وهننضرب علي طول ، لكن قبل ما نربط انا عايز اقولكم حاجه واحده ، الجزيرة دي أمانه في رقبتكم واوعوا تخلوا رجل كلب يهودي تلمس ارضها الطاهرة )) أحس خيري برجفه مع كلمات الريس غريب ، فكلمات الرجل المشجعه لمست وجدانه تماما .
أقترب الضوء المتقطع من الجزيرة ومن خلفه بدأت معالم الجزيرة تظهر شيئا فشيئا وسط الظلام الحالك ، فرغم الظلام الحالك الا ان داخل هذا الظلام يقبع رجال ساهري الاعين ، متقدي الحماس ،شديدي الايمان برغبتهم في الصمود ومنع العدو من النيل من جزيرتهم الصغيرة .
رسي اللنش علي الشاطئ وسرعان ما حمل كل جندي صندوقا ونزل به بسرعه بينما صعد جنودا اخرين ليقوموا بعمليه التفريغ لبقيه الصناديق، لم يري خيري من اين ظهر هؤلاء الجنود الا انه وجدهم فجأه علي حافه اللنش خارجين من وسط الظلام .
وما هي الا لحظات الا وغادر اللنش شاطئ الجزيرة تاركا خيرة وسط رفاقه الجدد في وسط ظلام الجزيرة .
ومع بدء صوت محرك اللنش في الاندثار ، صاح صوت اجش يحمل نبرة أمرة لا تجعل من الممكن تجاهلها
(( أقف انتباه يا عسكري منك له )) فوقف خيري ورفاقه في وضع الانتباه بسرعه .
وضع الرجل ذو الصوت الاجش الضوء في اعين الجنود وخاطبهم (( حمد الله علي السلامه يا رجاله ، انا اسمي الشاويش عباس ، انا حكمدار الجزيرة ، اللي محتاج حاجه يجيلي وانا اعملهاله واللي هيعمل حاجه غلط ومش هيمشي معايا زي الساعه هطين عيشه اللي خلفوة )) حاول خيري ان يتعرف علي ملامح الرجل ، لكنه فشل فقد اعماه ضوء مصباح الشاويش عباس المسلط علي اعينهم ، وبعدها أستكمل الشاويش عباس حديثه بنبرة هادئه لا تخلو من صيغه الامر
(( دلوقت الرائد منعم قائد الموقع هيقابلكم )) واستدار الشاويش ومن خلفه الجنود .
تعثر احد الجنود وقاوم خيري الا يتعثر ، فهم يسيرون فوق صخور حاده بارزة في الظلام خلف ضوء الشاويش والذي مثل لهم الاتجاه الصحيح، وبعد عده خطوات احس الشاويش بتعثر الرجال فقال لهم (( خلاص وصلنا )) فتمتم احد الجنود غاضبا في هدوء بينما تساءل خيري في نفسه (( وصلنا ازي ؟؟!ّ!!!!!)
أشار ضوء الشاويش الي ضوء اخر يبرز خافتا بين الضخور وامرهم بالنزول ، نزل الجنود ومن بعدهم خيري وفي النهايه الشاويش عباس
كان الضوء يقترب بينما خيري يهبط درجات صناعيه من شكائر الرمل الصلبه بينما جانبي الدرج من صخور الجزيرة ناريه اللون ، ومع نزوله عده درجات زاد الضوء جدا ووجد امامه امام خليه نحل فعلي يمينه وجد رجلا يجلس امام جهاز لاسلكي وهو يضع السماعات علي اذنيه ويدون ما يسمعه ، وعلي يسارة رجلا اخرا يجلس امام جهاز مختلف ويحرك بيده مؤشره في صمت ويسمع بالسماعات ايضا ، سار خيري خلف رفاقه عده خطوات ليجد نفسه وسط قاعه كبيرة تتوسطها طاوله موضوع عليها خريطه وخرائط اخري للجزء الجنوبي من قناه السويس ، ومعلق علي الحائط علم كبير لمصر وصورة الرئيس عبد الناصر ، أيقن خيري انه يقف في غرفه عم وتلي تلك القاعه ممر مظلم لم يعلم خيري الي أين يؤدي .
وقف الجنود انتباه بينا دخل الشاويش عباس متأخرا ، وتحت الاضواء البراقه استطاع خيري ان يميز صاحب هذا الصوت الاجش ، فوجد رجلا متوسط القامه في الاربعينيات من عمرة يخط الشعر الابيض في جزء من شعرة بقوة بينما تكفل الصلع بباقي جزاء رأسه ، بدين الجثه بشكل ملفت للنظر .
دلت هيئه الشاويش عباس انه امضي ردحا من الزمان في الاعمال المكتبيه ومثله مثل عشرات اخرين تم سحبهم من مكاتبهم للخدمه علي الجبهه مباشرة بدون اعاده تأهيل بدني .
تفحص خيري الرجل حتي سمع وقع اقدام علي الارضيه الاسمنتيه ، تأتي من داخل الممر، ونادي الشاويش عباس بصوته الاجش (( أأأأنتبــــــااه )) فوقف الجميع انتباه بمن فيهم الشاويش عباس نفسه ، ودخل القاعه رجل في اوائل الثلاثينيات من عمرة مهندم الملابس ، حليق الزقن ، جسده متناسق مع طوله المتوسط ، وجهه يحمل ملامح تعب وارهاق شديد جدا، حذائه لامع ، وشعره مهندم ، وعينيه تحمل قدرا كبيرا من الثقه ، ويحمل علي كتفيه رتبه الرائد .
تفحصه خيري جيدا فهو الرائد منعم قائد الموقع واول قائد ميداني له ، قام الرائد منعم بقراءه ورقه موضوعه علي خريطه العمليات وقام بمكالمه تليفونيه مع احد الضباط وبصوت لا يكاد يكون مسموعا ، ثم انتصب ناظرا بعيون حاده كعيون الصقر في وجوه الجنود الجدد ، وبعد ثوان من الفحص قال الرائد (( أحب ارحب بيكم علي الجزيرة ، انا الرائد عبد المنعم قائد الموقع ، والجزيرة هنا فيها تحت قيادتي برضه سريه مشاه بقياده النقيب مصطفي )) ثم تحولت لهجته للشده والحزم قائلا (( الجزيرة هنا تعتبر اقرب موقع لقواتنا من قلب مواقع العدو في سينا ، والارض قدامنا مفتوحه عشان كده بنقدر نلقط اتصالاتهم بسهوله اكبر من باقي الجبهه ، واليهود عارفين كده كويس عشان كده موقعنا حيوي جدا وكمان بنحمي ميناء الادبيه وشاطئ السويس ، يعني بالمختصر احنا لقمه في زور اليهود ، وعشان كده احنا بننضرب ليل نهار ))
وازدادت لهجته حزم (( العساكر اللي بيشتغلوا معايا مش مجرد عساكر لا – دول وحوش ، عارفين يعني ايه وحوش ؟؟، يعني مفيش نوم او اكل كفايه وفيه قتال كل يوم تقريبا ، ولو مفيش قتال لازم نكون جاهزين لاي قتال ،لان اليهود اولاد الكلاب مش هيعدوموا حيله الا وعايزين يفجئونا بأي شكل ، وهما عارفين اننا في كل مرة بنكون صاحيين لهم تمام وعشان كل ده انا متوقع كل واحد فيكم يكون وحش زي زملائه القدام اللي هنا ويكون قد المسئوليه زيهم ))
وأستكمل (( في كل غارة لازم علي الاقل نصيب لهم طيارة او اتنين ، وعلي فكرة انا قريت ملف كل واحد منكم وعارف قدراتكم )) ثم تقدم متفحصا وجوه الجنود عن قرب بنظرات فاحصه قويه ثم استطرد
(( التعليمات اللي عندي اني ادافع عن موقعي لاخر طلقه واخر راجل ، وانا معنديش استعداد رجل يهودي تنزل علي الجزيرة الا علي جثتي فاهمين ؟؟ ))
ثم وقف امام خيري متفحصا عينيه واردف سائلا (( ولا ايه يا خيري ؟؟))
فوجئ خيري بأن القائد يعرف اسمه بالتحديد ، لكنه رد بكل حزم وقوة (( تمام يا فندم ، لاخر طلقه ولاخر راجل ))
ظهرت ابتسامه خفيفه علي شفتي القائد الذي عاد لطاوله العمليات ودعا الجنود للاقتراب منها ايضا وبدأ في الشرح عليها
(( زي ما قلت لكم الجزيرة قوتها الاساسيه عبارة عن سريه مشاه تحت قياده النقيب مصطفي وملحق عليها سريه مدفعيه مضاده للطائرات (م-ط) السريه دي فيها مدفعين تقيل 14.5 بوصه متمركيز في القلب ، وعلي الاطراف ست مدافع عيار 85 مليمتر ، العبء الرئيسي حاليا في الدفاع عن الجزيرة بيكون علي قوات الدفاع الجوي لان كل الهجمات دلوقت بتكون من الجو بس احتمال الانزال البحري وارد جدا في اي ، وده معناه يقظه تامه 24 ساعه علي مدار ايام السنه )) ثم اختلفت نظرته وكسا الحزن صوته (( من يومين خسرنا مدفع وخمس شهداء ، واتعطل مدفع تاني ورحلنا 3 جرحي للسويس )) ثم تحولت نبرته للحده مرة اخري (( عارفين ده معناه ايه ؟؟ معناه ان القياده مستعده تقبل اي حجم من الخسائر في الموقع بس ميقعش في ايد اليهود )) ثم استدار للشاويش عباس (( عباس .... خذ الرجاله علي ملجاءهم ، يلحقوا يريحوا شويه عشان ورانا شغل كتير بكرة )) ادي الشاويش عباس التحيه لقائده وامر الجنود بالانصراف بالخطوة السريعه .
وبعد دقائق كان الشاويش عباس يصطحب خيري عبر الظلام الي ملجأءة وتساءل خيري عن مدفعه وموقعه
(( مدفعك رقم سبعه يا خيري ، ده في وش اليهود علطول )) واشار الي هيكل معدني غارق في الظلام مستكما
(( اهوة مدفعك يا وحش ورينا الهمه يا بطل )) هام خيري مع منظر مدفعه القابع في الظلام كالسيف في غمده منتظرا ضوء النهار او هجوم العدو لكي يخرج من غمده ويذيق طائرات العدو من نارة .
لمح خيري رجلا يقف علي المدفع في ورديه حراسه وهم ان يتقدم تجاهه الا ان عباس قطع تفكيرة مشيرا الي ملجأ تحت الارض قائلا (( ده ملجأك يا خيري هتلاقي تحت جنب سريرك الشده بتاعتك والبندقيه بتاعتك ، بكرة الصبح تبقي تيجي لي تمضي علي استلام الشده والسلاح ))
ترك الشاويش عباس- خيري بمفرده يتأمل ذلك الشبح الحديدي الغارق في ظلام الجزيرة ،أراد ان يلمسه ويتحسسه ويناجيه ، اراد ان يعتليه فورا لكن بروده الجو وتعب ومشقه السفر طوال اليوم حالت دون ذلك فاثر ان يستريح قليلا ويستيقظ مبكرا لكي يناجي مدفعه كيفما شاء ، فنزل درجات الملجأ تحت الارض والغارق هو الاخر في الظلام وبصعوبه تحسس طريقه في الظلام حتي تعثر في الشده الميدانيه الخاصه به ، وعلي الفور أستيقظ احد الجنود النيام واضاء مصباحه في وجه خيري مستفسرا في حده عما يكون .
عرفه خيري بنفسه ورد الاخر بأنه يعرف اسمه حيث ابلغهم الشاويش عباس بموعد حضورة ، وقام الجندي واضاء مصباحا صغيرا متدلي من سقف الملجأ ، ولاول مرة يشاهد خيري ملجأ حقيقي ، فها هو منزله الجديد ، ودار بعينيه في انحاء الملجأ ذو السقف الحديدي المنخفض و المكسو بشكائر الرمل لتحمل القصف وكذلك جوانبه مكسوة بنفس نوعيه الشكائر في تناسق وعلي الارض وضع اربع اسرة ميدانيه وبجوارها عدد من الدواليب ، فتسال خيري عن مكان سريرة فأشار اليه الجندي الي سرير في اخر الملجأ ، فشكرة خيري وسأله عن اسمه فرد الرجل الملتحف بعدد لا بأس به من البطاطين (( انا جرجس زميلك علي المدفع ، واللي نايم جنبك ده عبد الحميد )) واشار الي شخص نائم وقد غطي كل جسده بعدد من البطاطين لكي تقيه من البرد الذي يحيط بجو الجزيرة ، ثم اكمل جرجس مشيرا الي اخر لا يظهر من جسده شئ هو الاخر من كم الاغطيه التي تغطيه (( وده شديد واد مجدع وابن بلد )) ثم بدأ جرجس يهز في جسد شديد في عنف طالبا منه الاستيقاظ لاستلام نوبه الحراسه من زميله وحيد ،فاستلق خيري علي سريرة بعد ان جمع حاجياته بجوار سريرة وشاهد شديد وهو يستيقظ من نومه متثاقلا لاستلام خدمته علي المدفع ، ونصحه جرجس بالنوم قليلا حيث قارب الفجر علي الظهور ووافقه خيري في حاجته لقليل من الراحه
وما هي الا ثوان وكان خيري في سبات عميق بعد ان غطي نفسه بكل ما وصلت اليه يديه من الحفه وبطاطين .
افاق خيري في الصباح التالي علي يد تهز كتفه ، فنظر بأستغراب لصاحب اليد ، فوجدها يد زميله شديد الذي طلب منه سرعه التوجه مقر القائد سريعا ، وانصرف خارجا من الملجأ.
احتاج خيري الي لحظات لكي يقوم ويلبس ملابس القتال ويعتمر خوذته ويمسك بسلاحه الالي ويسرع خارجا من الملجأ الخالي من الجنود ، وفور خروجه من الملجأ أصابه ضوء الشمس اللامع فأعمي عينيه لثوان ، وبعد ثوان استطاع خيري ان يري جيدا ، وان يري ملامح الجزيرة واضحه في ضوء الشمس ، فوجد الجزيرة شبه بيضاويه يتوسطها تبه صغيرة من الصخور الناريه الحاده في منتصف الجزيرة الصغيرة وفي اعلي التبه برجا للملاحظه يقف عليه جنديين ينظران بنظارتهم المعظمه في جميع الاتجاهات لانذار الجزيرة من اي هجوم ويعلو البرج علم مصر ، وتحت برج الملاحظه سلسله من الخنادق المتصله وقد غطيت حوافها بشكائر الرمل وتمركزت عليها بعض الرشاشات الاليه ، وتجاه الشاطئ حول التبه رصت المدفعيه المضاده للطائرات المتوسطه كما شرح له القائد امس ، والمدفعين الثقيلين علي جانبي التبه في منتصف الجزيرة تماما، وكان مدفعه يقع في الشمال من الجزيرة في مواجهه شاطئ مدينه السويس ومدخل قناه السويس
، سمع خيري صوت يأتيه مازحا (( صباحيه مباركه يا عريس )) وتعالي بعدها صوت ضحك جماعي ، فنظر تجاه الصوت فأذا هو احد رفاقه علي المدفع ، لابد وانه وحيد او عبد الحميد فهما من لم يتعرف عليهم بالامس ، فأشار اليهم خيري محييا بأبتسامه صغيرة وهرول تجاه مركز القائد .
وفي الطريق الي مركز القائد الذي استطاع خيري تحديد موقعه بخبرته القرويه ، شاهد الجزء الجنوبي من الجزيرة والذي يمثل ارضا منبسطه نوعا ما أستغلها رجال سريه المشاه في تدريبات بدنيه عنيفه وقرب الشاطئ الاخر مدفعي متوسطي العيار مثل مدفع خيري وعلي مسافه قصيرة منهم تجمع كم كبير من الحديد المحترق والذي استطاع خيري تمييزة بسرعه ، فهذه مدافع مدمرة ومحترقه تماما لابد وانها اخر خسائر تعرضت لها الجزيرة وتنتظر الاخلاء كما قال القائد ،وهرول خيري نازلا درجات مقر القائد ووقف امامه انتباه ودوي صوت كعبي حذائه في ارجاء المقر وهم يؤدون التحيه العسكريه بشكل محترف صارم .
كان القائد منكب علي الخريطه وبجوارة شاب يحمل علي كل كتف ثلاث نجوم ، فلابد انه النقيب مصطفي قائد سريه المشاه وبجوارهم الشاويش عباس متابعا الحديث الذي يدور حول تشديد الدفاع عن الجزيرة بصورة اشد احكاما
تابع خيري ملامح النقيب مصطفي ، فهو في العقد الثاني من العمر ذو جسد متناسق يميل الي الطول ، عينيه تشع بريقا من الثقه والهدوء ولديه شارب رفيع .
وقف خيري قليلا حتي انتهي الحوار بانصراف النقيب مصطفي والشاويش عباس ، فأدي خيري التحيه لقائده مره اخري ورد القائد التحيه ودعاه الي الاقتراب منه وسأله اذا ما كان قد استلم مهماته وسلاحه ، فرد خيري بالايجاب ، فعاد وسأله القائد عما اذا كان هناك شيئا ينقصه فرد خيري بالنفي شاكرا للقائد اهتمامه .
وتطرق القائد بعدها الي الشرح العسكري موضحا لخيري ان التحذيرات قد وصلت اليهم هذا الصباح بأن الجزيرة معرضه لقصف جوي مركز في القريب مع احتمال قيام العدو بأنزال بحري وشيك ، وتطرق القائد الي العجز الواضح لديه في الحكمداريه لادارة وتنسيق النيران ، واردف بأنه قرأ ملف خيري جيدا واعجب بقدراته لذلك عينه حكمدارا لمدفعه رقم 7 والذي يقع في اتجاه الهجوم الجوي المعادي ، ومن الضروري ان يكون المدفع رقم 7 هو اول من يضرب واخر من يتوقف عن الضرب ، كان خيري مركزا كل حواسه في اذنيه فكل كلمه تسجل بالحفر في عقله لكي لا تمحا ابدا ، ثم اردف القائد بأن خيري مسئول ايضا مؤقتا عن المدفع رقم سته والمجاور لمدفعه لحين استعواض خسارة العريف رضا والذي اصيب من يومين ، واضاف القائد ان حاله المدفع سته هي 50% فقد اصيب تروس الحركه به ولم يعد قادرا علي الضرب علي الاجناب ، واضاف القائد حانقا بان قطع الغيار كان من المفترض وصولها امس علي نفس اللنش الذي جاء فيه خيري لكنها لم تأت معه .
ثم تقدم من خيري وامسك كتفيه (( انا عندي نظرة في الرجاله اللي معايا والنظرة دي عمرها ما خيبت ، انا عارف انك هتكون قد المسئوليه يا خيري )) ثم تبسم (( توكل علي الله عايزين نملي ملفك بحاجات حلوة ))
تبسم خيري وادي التحيه لقائده بنفس الدقه والانضباط واسرع منصرفا .
كانت كلمات القائد المشجعه بلاضافه الي حماسه الداخلي وفرحته بأول ايامه علي الجبهه دافعا لكي يركض ركضا الي مدفعه وفور ان امتطاه واحتل موقعه كرقم اثنين حتي بدأ في التعود علي المدفع وتحريك ماسورته لبيان مدي قوته ودقته ، فقد كان ينتظر هذه اللحظه بشوق بالغ وتجاوب معه افراد المدفع بكل دقه واعجبوا فيما بينهم بسرعه تحريك خيري لماسورة المدفع وضبط زوايا الضرب علي اهداف وهميه سريعه ، كذلك كان خيري يحتاج الي ان يتعرف علي موقع مدفعه وسط بقيه المدافع لكي يعرف الزويا الحرجه والاتجاهات التي يجتاج ان يركز عليها اكثر .
وبعد حوالي نصف ساعه من التدريب السريع أحس بالطمئنان الي مدفعه فأنصرف تجاه المدفع رقم سته تاركا عبد الحميد مكانه .
وعلي المدفع رقم سته دار حوار قصير بين خيري وبين طاقم المدفع حول صلاحيه المدفع ووجد ان ماسورة المدفع لا تتحرك يمينا او يسارا كما قال القائد ، وكان ذلك يعني بالنسبه للموقع ان هناك ثغرة في السماء يمكن للطيران الاسرائيلي ان يخترق منها ولا يمكن للمدفع ان يغلقها مما يعرض بقيه الموقع للخطر ، واسقط في يد خيري فهذه بدايه غير مبشرة علي الاطلاق ، ووجد خيري الحل سريعا في عقله ، في نفس الوقت كان الشاويش عباس يقف بجوار احد الخنادق يرتشف كوبا من الشاي ويتحدث مع احد الجنود ، فاسرع اليه خيري طالبا منه الاذن بمغادرة موقعه الي حيث يرقد المدفعين المدمرين ، تلكأ الشوايش عباس في اعطاء الامر وظهر تردده واضحا ، مما جعل خيري يطلب منه اخذ الاذن من القائد بنفسه ، فوافق الشوايش علي الفور وظهر لخيري ان الرجل الصارم ذو الصوت الاجش يخشي اعطاء موافقه بدون علم القائد رغم انها من صلاحياته المباشرة ، وعلي الفور دار اتصال بين القائد وبين الشاويش عباس ، ووافق القائد وارسل مع خيري اثنين من جنود الصيانه لمرافقه خيري .
ووسط دهشه زملائه علي المدفع رقم سبعه مما يحدث هرول خيري تجاه الجانب الاخر من الجزيرة
وصل خيري الي حيث يرقد ما كان يقال عنهم من قبل مدافع ، فوجد كومه من الحديد المنصهر والمختلط بزيوت ، لم يكن لاي فرد يري تلك القطع المعدنيه المنصهرة ان يتوقع انها كانت فيما مضي مدافع تطلق نيرانها بشده وقسوة تجاه طائرات العدو ، لا يستطيع احد ان يعقل ان هذا المنظر البشع حمل الموت الي طائرات العدو ، وفي لحظه من الزمان تمكنت منه طائرات العدو واسكتته الي الابد .
وجد ان احد المدافع قد تدمر به كل ما يمكن استخدامه كقطع غيار اما المدفع الاخر فبه ما يمكن استخدامه ، فبدأ خيري فك ما يمكن فكه من الحديد المنصهر وبعد نصف ساعه وجد خيري نفسه وسط كميه من قطع الغيار المختلفه .
كانت عقارب ساعته تشير الي السابعه صباحا عندما هرول عائدا الي المدفع رقم سته يحمل مجموعه كامله من التروس الصالحه ومن خلفه احد جنود الصيانه يحاول اللحاق به بينما انشغل جندي الصيانه الاخر بحمل باقي قطع الغيار الي المخزن تحت الارض ، وبينما وقف القائد اسفل برج الملاحظه يتابع ما يجري علي فترات ، فأن طاقم مدفعه بدأ في تشجيعه عندما علموا ما يحدث .
خلع خيري عده القتال ووضع سلاحه جانبا وبدأ في فك اجزاء المدفع رقم سته واختفي تحته وبجوارة جندي الصيانه يناوله الادوات ، وسرعان ما تمكن خيري من فك علبه التروس والتي ظهرت مهشمه تماما بفعل شظيه من احد قنابل العدو
مازالت الشمس تصعد في السماء ، وعقارب الساعه تتحرك وخيري يعمل بسرعه البرق لتركيب التروس الجديده ، فلو هاجم العدو الان لكان وضع خيري يحسد عليه .
ومع دقات الثامنه صباحا كان خيري قد انتهي من تركيب التروس وبدأ في تجربتها وتحرك المدفع في سهوله ويسر وسط فرحه افراده وتشجيع طاقم المدفع رقم سبعه ، ومن بعيد كانت عيني القائد تلمع في سعاده واسر بعده كلمات في اذن النقيب مصطفي الواقف بجوارة فأومأ الاخير موافقا علي ماقاله القائد .
عاد خيري الي مدفعه وانفاسه تكاد تتقطع من فرط المجهود الذي بذله طوال ساعه كامله ، وفور امتطائه المدفع أخبر شديد بأن يبلغ القائد بأن المدفع رقم سته جاهز للاشتباك الكامل مع العدو ، ولم يكن خيري ملاحظا ان القائد يتابع كل ما يدور من مركز قيادته الخارجي تحت برج الملاحظه .
مرت فترة من الزمن وخيري شلمخ علي مدفعه ، يتابع بنظراته المعظمه سماء الموقع والافق البعيد مثله مثل اي حكمدار اخر ، فالعدو من الممكن ان يهاجم من اي اتجاه وفي اي وقت .
دق جرس الانذار فجأه ودوي صوته في انحاء الجزيرة ، وعلي الفور وبسرعه رهيبه ظهر جنوب المشاه في الخنادق وخرجت رشاشات ثقيله لتوضع في اماكنها ، واعتلي الرائد منعم مكانه في القياده بينما ، وبدأ جنود المدفعيه في مسح السماء بحثا عن اهداف .
مسح خيري السماء فلم يجد الا طائرة تطير علي ارتفاع شاهق جدا مخلفه ورائها ذيلا من العادم الابيض ، كان واضحا انها طائرة استطلاع تستطلع قواتنا علي الجبهه ، ولا يمكن لمدي مدفعه ان يصل الي منتصف ارتفاع تلك الطائرة .
احس خيري بالغضب والحنق يملئ كل جوارحه ، فها هي اول طائرة اسرائيليه يراها ، ومدفعه عاجز ان يصل اليها ويحرقها حرقا ، تمني لو مد يده لتلك الطائرة وعصرها بأصابعه التي تعتصر مقود التوجيه ، ان الالم الذي يحس به في اصابعه الان من فرط قوة قبضته علي مقود التوجيه ، ما هي الا نتاج البركان الداخلي الذي يملئ كل جوارحه .
صاح وحيد ساخرا (( هما كده يا خيري يا اخويا ، كل يومين يبعتوا طيارة استطلاع ، تمسح الجبهه من الجنوب للشمال ، ولاد الكلب خايفين نكون دخلنا صواريخ للجبهه وعايزين يكونوا عاملين حساب كل حاجه الجبنا ))
رد جرجس (( الطيارة دي هترجع ويشوفوا الصور ويطمنوا علي الصور وبعدين يبدأوا الضرب فينا زي كل يوم ))
تدخل عبد الحميد في الحوار (( يعني هما خايفين من ايه ؟ هييجوا ويطحنوا فينا زي كل يوم واحنا نطحن فيهم ))
تساءل خيري عن اصابات طائرات العدو في الغارات الاخيرة ، فرد عبد الحميد (( بقالنا كام يوم مش عارفين نضرب لهم اي طيارة ، كلها اصابات بس ، امبارح مدفع حسين اصاب لهم طيارة ودخنت علي طول بس الطيار كمل بيها ورجع علي طول))
احس خيري بالبروده تسري في اوصاله بسرعه ، فالحديث عن الحرب مختلف في الموقع عن الحديث في معسكر التدريب
ففي معسكر التدريب كان الحديث مرسلا اما الان فهو واقع امامه ورغم البركان الكامن داخله في قوة الا ان البروده سرت في اصاله تدريجيا حتي وصلت لاطراف اصابعه التي تجمدت علي مقود التوجيه واحس بقدميه تتجمد ايضا علي بدال الضرب .
لاحظ الرجال حوله حالته وتغامزوا فيما بينهم فهو جندي مستجد وهو امر طبيعي له في اول قتال ، لكن علقه كان يعمل بلا هواده ، طلب منهم ان يعيدوا التأكد من جاهزيه المدفع لكي يحرك اطرافه ، وفي عقله كان يعاتب نفسه بشده ، ايعقل ان تتجمد اطرافه ويحس بذلك الخوف الكامن من الموت ، فماذا يفعل اذن لو كان خائفا ؟؟ اليس هو من اراد الانتقام ، ان الانتقام لابد له من قلب قوي لا يعرف الخوف او الرحمه قلب ميت من الحواس ، وها هي الفرصه لاخراج البركان ولابد من استغلالها جيدا ، وردد مرة اخري (( وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس باي ارض تموت )) صدق الله العظيم ، ومع هدير محركات عقله بأيجابيه تامه وثقه ، عاد الدفئ مرة اخري الي اوصاله وعاد تركيزة مرة اخري الي عينيه متطلعا باحثا مدققا منتظرا طائرات العدو .
 
الفصل الرابــــــع
الغـــــــــــارة الاولــــــــــــــي
مضي وقت طويل منذ ان دق انذار الامان ، وعادت قوات المشاه الي دشمها وملاجئها تحت الارض بينما ظل رجال الدفاع الجوي في مواقعهم ، مع مرور كل دقيقه كان خيري يزداد توتر فعقله يريد ان يشتبك وعينيه تبحث عن هؤلاء الكلاب الطائرة .
فأين هم ولماذا تأخروا ؟ الم يقل عبد الحميد منذ قليل ان موعد غاراتهم يبدأ عاده في العاشرة صباحا وها هي الساعه قد تجاوزت الحاديه عشر بقليل ولم يرصد طائرة واحده ؟
احس بالخذر في ذراعه ، فقد كانت اطراف اصابعه تطبق علي مقود التوجيه والتنشين بقوة ، ربما من فرط التوتر او التحفز الزائد .
لم يحس مثل ما احس به طاقم مدفعه من راحه وخمول والاستمتاع بشمس الربيع الدافئه ، بل كان متعجلا مشاهده طائرات العدو تطبق علي الجزيرة، اطلق بصرة تجاه ارجاء الجزيرة راصدا ملامح الحياه عليها في انتظار الموت الطائر .
كان اول ما وقع بصرة عليه عددا من جنودا من المشاه يرتشفون الشاي في استمتاع ويدور بينهم حوار هادئ يتخلله عدد من الضحكات العاليه والتي تخرج من قلب منتظر الموت ويريد ان يمتص من الدنيا كل ما بها من رحيق ويستمتع بكل ثانيه ممكنه و بجوارهم اخرون ينظفون اسلحتهم الشخصيه في مهارة تامه ، بينما جلس احد الجنود يغسل ملابسه واخر يكتب خطابا .
وفي مشهد اخر القائد منعم ومعه النقيب مصطفي يتحدثان مع احد الجنود ومن خلفهم الشاويش عباس لا يفارق ظلهم .
حياه عاديه لموقع مثل مئات المواقع علي الجبهه ، حياه لجنود وضباط تعودوا علي أطلاله شبح الموت حولهم في كل لحظه وكل ثانيه ، فأستغلوا كل لحظه من اوقات الراحه في الاستمتاع بمظاهر الحياه المتوافرة لهم في ارجاء الجزيرة وعدوهم لا يبعد عنهم سوي ثوان .
تلاقت عيني خيري مع عيني قائده ورغم بعد المسافه الا ان القائد يحفز جنوده فنظراته تحمل قدرا من الثقه في خيري
وفي عقل خيري تردد صدي قول قائده (( الدفاع عن الجزيرة لاخر جندي واخر طلقه ))
وحيد يطلق دعابه في وسط الصمت (( براكاتك يا خيري ،شكلها النهارده اليهود مش ناويين يزورونا ))
وفجأه يضرب جرس الانذار رافضا صدق نبؤه وحيد ، وتتحول الجزيرة الي الحركه الشديده ، فالكل يعرف موقعه تماما ودورة محفوظ عن ظهر قلب .
يأتي التبليغ عبر حكمدار المدفع رقم 1 ويسمعه شديد في التليفون الميداني ويبلغه لخيري (( اربع اهداف من الشرق المسافه 7 كيلو )) ينظر خيري تجاه الطائرات فيرصد بنظراته المعظمه الطائرات الاربع تحمل الموت تحت بطنها تسرع تجاه الجزيرة علي ارتفاع منخفض .
تبليغ من القائد عبر تليفون شديد بحبس النيران ويجيب خيري بالعلم وعقله يعمل كمحرك نفاث
– الطائرات تقترب بسرعه والثوان ترفض ان تمر
- بدأت الطائرات في الدخول الي مدي الضرب المؤثر له
– قدمه تكاد تضغط بدال الضرب
– الاوامر تمنعه من الضرب
– ولاد الكلاب محملين قنابل علي الاخر
– ولا واحده منهم هتلمس الجزيرة بأذن الله
– محمد مات وسابني اخذ بتارة
- مدفعي اول مدفع يضرب
- ولاد الكلب في دايرة الضرب القائد منتظر ايه ؟ انا بتحرق يا فندم من جوة ، أدي الامر بقه ، بقالي أشهر في عذاب

يصيح شديد معلنا الامر السعيد (( اضرب – أضرب – أضرب ))
ما بين لحظه سماعه الامر وانطلاق اول طلقه كسر علي مائه من الثانيه ، وتلت الطلقه الاولي عشرات الطلقات ، بل المئات من مختلف مدافع الجزيرة لتحول سماءها الي كتله من النيران والشظايا الي تصيب في دائرة كبيرة اي شئ يمر بينها .
ضرب خيري مركزا طلقاته علي طائرة في مدي مدفعه كما تدرب في معسكر التدريب ، كان معدل ضربه سريع جدا مقارنه بباقي المدافع ، وتجاوب شديد ووحيد في امداده بالذخيرة طوال الوقت بينما تعاون بولس وعبد الحميد مع مناوراته للتنشين
ورغم كثافه النيران الا ان خيري لم يستطيع اصابه اي طائرة معاديه ، لكنه نجح مع زملائه في طرد طائرات العدو من سماء الجزيرة وعدم دقه توجيه قنابلها التي انفجرت كلها في المياه خارج الجزيرة ، وسرعان ما ايقنت الطائرات ضرواة الدفاع عن الجزيرة فأبتعدت تجاه الشرق مؤثرة سلامتها .
وبدأت المدافع في التوقف علي التوالي بعد خروج الطائرات الاسرائيليه من المدي ، الا مدفع خيري الذي مازال يضرب،
عينيه مرتكزة داخل دائرة التصويب فمازالت هناك طائرة اسرائيليه في مدي مدفعه ، نظر الرائد منعم تجاه الهدف الذي يضرب عليه خيري وتعجب من بعد المسافه بينها وبين الموقع ورغم ذلك مازالت الطلقات المتفجرة تنفجر حولها في تركيز ، وعلي المدفع كان خيري يردد في رتابه (( لسه – لسه )) وقدمه لا تتوقف عن الضرب المستمر ، ورغم تعجب رفاقه من موقفه الا انهم تجاوبوا مع معدل ضربه العالي ، وعم الصمت ارجاء الجزيرة تاركا لمدفع خيري الحريه لان يزغرد بمفرده ، وفجأه تصاعد دخان اسود كثيف من فتحه عادم الطائرة دليل علي اصابتها ، ليتعالي اثرها التكبير في انحاء الجزيرة ليعلو علي صوت مدفعه الذي تباطأ معدل ضربه حتي توقف بعد ان خرجت كل الطائرات من مرماه .
احس خيري بالحرارة علي وجهه ، فقد انسابت دموع الخلاص من عينيه ، فها هو البركان قد بدأ يطلق حممه ويا ويل من يقترب من نيرانه ، يا لها من راحه يحس بها ، فقد بدأ بالفعل في الوفاء بقسمه تجاه مصر وتجاه محمد .
ربت بولس علي كتف خيري مهنأ ، بينما صاح وحيد مداعبا (( الف مبروك يا خيري ، اديك عًلمت علي واحد منهم ))
وقال شديد ضاحكا (( زمان الطيار عمال يلعن اهلك كلهم )) وضحك الجميع عدا خيري الذي ارتعشت اصابعه علي المقود وهو يحاول ان يلم شتات مشاعرة المتابينه ، ولمحه عبد الحميد فتدخل في الحوار مشجعا اياه
(( زمان الطيار محتاس دلوقت ومش عارف هينزل ازاي ، شكلنا كده يا رجاله كسبنا وحش بحق وحقيق ))
دار خيري برأسه ناظرا لقائده الذي كان وجهه متهللا ، وتلاقت العيون ، وبوجه باسم اشار له القائد بأشارة الاجاده
عم الفرح ارجاء الموقع وأستمر التكبير والتهليل فترة حتي جاء انذار اخر بأقتراب تشكيل معادي اخر ، تغلب خيري علي مشاعره سريعا وتوجهت كل حواسه الي السماء بحثا عن تلك الاهداف ،
وصاح وحيد (( دول جايين لك مخصوص يا خيري ))
رصد خيري طائرتين تأتيان من اتجاه الشرق مستغله ضوء الشمس ، وتذكر البيان العملي الذي قام به امام رئيس الاركان
وبدأت المدفعيه كلها في الضرب علي الاهداف المعاديه ، لكن طائرة ميراج استطاعت النفاذ من النيران المعاديه واسقاط قنبله انفجرت علي سطح الماء قرب شاطئ الجزيرة ، لكنها لم تسلم من طلقات المدفعيه التي لاحقتها ، حاول الطيار الارتفاع السريع والخروج من مدي المدفعيه المركزه عليه الا ان احد الطلقات اصابت جناح الطائرة وأشتعلت فيها النيران بقوة وأستمات الطيار في محاوله التحكم في الطائرة للابتعاد عن الجزيرة ونجح في ذلك وقفز بالمقعد القاذف الي الماء علي مسافه امنه بعيدا عن الجزيرة
اما الطائرة الاخري فقد تخلصت من الاشتباك سريعا وعادت تجاه الشرق مسرعه وطلقات خيري تطارها بدون جدوي
وببطء هبطت مظله الطيار الي الماء ، ومن بين تكبيرات الجنود أعلن برج الملاحظه خلو السماء من الطائرات المعاديه .
ركز خيري بصرة تجاه المظله التي تهبط علي مسافه لا تقل عن خمسه كيلومترات من موقعه ، ود لو أن معه قارب يستطيع به ان يأسر الطيار ويعود به كهديه لمصر ، لكن عاده لا تأتي الرياح بما تشتهي السفن ُ فبعد نصف ساعه أقتربت طائره هيلكوبتر اسرائيليه والتقطت الطيار وعادت به لقاعدته سالما وسط لعنات المقاتلين علي الجزيرة .
مضي جزء كبير من النهار بدون غارات اخري علي الجزيرة فلابد وأن (( اليهود اخذوا كفايتهم من الضرب)) كما علق وحيد مازحا وشاركه شديد وعبد الحميد وبولس في الضحك ، وعند المغرب ترك خيري مدفعه هو ورفاقه تاركين بولس بمفرده في الحراسه ، لكي يتناولوا طعام الغذاء ويستريحوا قليلا حتي يأتي دور كل منهم في تناوب الحراسه .
في طريقه الي دشمه الطعام حيث موائد الطعام تحت الارض كما هو كل شئ اخر في تلك الجزيرة ، كان خيري صامتا في سيرة ، هائما في عالمه تاركا لاذنه الاذن فقط بسماع الانذار لكي يستجيب العقل ، أما غير ذلك فالاذن صماء والعقل شارد في ذكرياته والعين لا تري الا الطريق فقط .
واثناء تناول الطعام تحدث عبد الحميد ، ورد شديد ، وعقب وحيد ضاحكا كعادته لكن خيري لم يسمع كلمه ، فقد كانت محركات عقله النفائه تعمل بلا كلل محاوله لفهم تلك المشاعر المتضاربه داخله ، فلاول مرة يكون قريبا جدا من الموت لهذه الدرجه ، فالقنابل التي انفجرت حوله داخل المياه كان الممكن ان تكون فوق رأسه تماما لو اطلقها الطيار نصف ثانيه مبكرا او استطاع التركيز اكثر اثناء التصويب ، مع اول انفجار ارتعش جسده لكنه لم يحس بالخوف وقتها ، لكنه الان يسأل نفسه لماذا لم يخاف ؟؟
أما مشاعرة الاخري فهي مشاعر حقد وكراهيه تقطع امعاءه وصدرة وقلبه من الداخل ، فهو ينتظر الغد والذي قد يحمل معه غارة ثانيه والموت له ، لكنه ينتظرة بشوق كما ينتظر الطفل لعبه من والده ، فهو في شوق بالغ لكي يري طائرات العدو تحترق حوله في الجزيرة وتتحطم بمن فيها ، وتساءل في نفسه أين كانت تلك المشاعر الدمويه الصلبه قبل استشهاد محمد ، فقد كان شخصا وديعا مسالما بكل معاني الكلمه ، لا يدخل في مشادات او خلاف ويحاول ان يحكم عقله ويستخدم اخلاقه الطيبه في حل الخلاف ايا كان .
كانت خطوات بسيطه تلك التي سارها خيري من مدفعه الي الميس حيث تناول طعامه علي عجل كعاده الحياه في الجيش وخرج مسرعا ليصلي المغرب ، وبعد ان انهي صلاته جلس فوق صخرة لا تبعد عن مدفعه الا امتار قليله ، ووضع سلاحه بجوارة واخرج الراديو الصغير من جيبه .
كانت الاغاني والموسيقات الوطنيه تملئ كافه المحطات المصريه ، وهي عاده تتبعها الاذاعه قبل اذاعه بيان عسكري ، وانتظر خيري سماع البيان وعينيه لا تفارق صفحه المياه السوداء والمتحركه بانتظام .
وجاء صوت المذيع يعلن البيان العسكري والذي يصف اغارات العدو الجويه علي الجبهه بدون ان يحدد مواقع وعن نتائج تلك الغارات وعدد الشهداء الذين سقطوا وفي النهايه اعلن عن اسقاط طائره للعدو واصابه اخري .
بيان عادي مكرر في تلك الاوقات لا يحمل اكثر مما قال ، لكن لاول مرة يستطيع خيري ان يقرأ ما بين السطور ، فموقعه كان مشاركا في تلك الاحداث ومدفعه اصاب تلك الطائرة ، ومدفع اخر هو الذي اسقط الاخري ، سطور هائله ومشاعر رهيبه تم اختزالها في سطر او اثنين ليخرج بيان يسمعه الاهالي في البيوت والمقاهي ، ففيما مضي كان مستمعا والان اصبح مشاركا في صنع تلك البيانات ، فيما مضي كان يدعو للجنود علي الجبهه بالصبر والنصر ، والان اصبح ممن يدعو له الشعب ، تغير هائل في حياته وفي احساسه وفي مستقبله يحس به الان بكل قوة .
تمني لو محمد يسمعه ويحس به الان من مكانه في جنه الفردوس ليراه وهو يأخذ بثأر مصر وثأرة في صبر وجلد .
وبعد انتهاء البيان واصل خيري شروده الدائم والمستمر ، ومر وقت من الزمن لم يقسه ولم يعره اهتماما لكنه تنبه الي اغنيه يسمعها لاول مرة ، كلمات الاغنيه شدته فأستمع اليها في تركيز ، كانت الاغنيه لمطرب شاب لم يسمع عنه من قبل يدعي محمد نوح ، وكان نوح يصدح بكل قوة و عزيمه
(( مدد مدد – مدد – مدد شيدي حيلك يابلد/ مدد مدد – مدد – مدد شيدي حيلك يابلد
لو النهادره مات لك شهيد – بكرة الف هيتولد – مدد مدد ))
كانت كلمات جديده ومعاني جديده جدا علي خيري والذي الف نبرة الحزن في صوت المطربين ، لكن الان تلك الاغنيه تصيح بكل قوة ان الشعب قد عرف ان جيشه يصمد ويقاتل وان الشعب صامد معه ، فأغاني الهزيمه لم تستمر طويلا وايقن الشعب ان الجيش يحتاج لاغاني تحسه علي الصمود والقتال ، فالجميع يتقدم للثأر وليس خيري فقط ، فهو واحد من ضمن الوف وملايين لهم أب او اخ او ابن او حتي جار قد أستشهد والكل يتقدم للثأر فالمعركه لم تنته بعد ولن تنتهي الا بالنصر .
احس بالبرد يسري بسرعه في اوصاله ، فليل الجزيرة قارس البروده كما علم من شديد ، ولابد من اتخاذ كافه التدابير للوقايه منه .
افاقه البرد من شروده وطاف بعينه في انحاء الجزيرة الغارقه في الظلام ، نعم سطح الجزيرة غارق في الظلام والهدوء كما رأه بالامس ، لكنه يعرف الان ان تحت السطح يقبع وحوش كاسرة واجهزة وعقول تعمل بلا كلل للقتال والنصر .
تناهي الي سمعه صوت يأتي من بعيد ، انه صوت محرك لنش الريس غريب ،فتبسم عندما تذكر خوف الريس من حديث الرجال علي متن اللنش حتي لا يكتشفه احد ، وها هو الصوت الان يتردد في انحاء الخليج ويمكن سماع صوته علي مسافه كبيرة جدا ، ومع اقتراب صوت لنش الريس غريب بدأت الحركه تدب علي سطح الجزيرة ، فالرجال يستعدون لاستلام ما باللنش من امدادات .
وبدأ الشاويش عباس في اعطاء اشارات التعارف ، وعاد الرد بأشارات اخري خافته من وسط ظلام المياه ، وتزايد الصوت تدريجيا حتي توقف تماما الصوت وظهر اللنش تدريجيا منعكسا علي صفحه المياه وضوء مصباح الشاويش عباس ، وعلي مقدمه اللنش وقف الريس غريب بقامته الممشوقه يدير امور التفريغ والتحميل
وبعد دقيقتين من الحركه السريعه عاد صوت اللنش عاليا وهو مبحر عائدا الي السويس ومع ابتعاده عاد الهدوء والصمت لانحاء الجزيرة تاركا لصوت رياح بارده ان تصدح بمفردها في زهو .
ظل خيري جالسا هائما لفترة حتي في الهدوء وعقله يعمل بلا توقف حتي أحس بحاجته الي النوم ، فنزل الي الملجأ ملتمسا قليلا من النوم قبل موعد حراسته علي المدفع بعد الفجر بقليل ، وما ان اغلق عينيه حتي غرق في سبات عميق .
لم يمر الا دقائق حتي أستيقظ خيري من نومه مفزوعا علي جرس الانذار ، ولم يفكر في شئ الا في الوصول الي مدفعه في اسرع وقت ممكن ، أفادته ملحوظه عبد الحميد بضرورة النوم بملابس القتال الكامله تحسبا لاي طوارئ فهرع سابقا زملائه ليعتلي المدفع ويبدأ في البحث عن الاهداف التي من اجلها تم اطلاق الانذار ، ومن خلفه أستيقظ الموقع كله في ثوان معدوده واتخذ كل الجنود اماكنهم.
دار ببصرة وارهف سمعه بحثا عن طائرات العدو ، لكن السماء كانت خاليه ولا يُسمع الا صوت الرياح والامواج المتكسرة علي صخور الجزيرة في هدوء .
وتعجب الجميع من الأنذار وظن خيري ان خطأ قد حدث ، او انه نوع من التدريبات لضمان جاهزيه الموقع ، لكن جاء الخبر من شديد والذي أبلغ برصد زورق بحري معادي يحوم حول طرف الجزيرة الجنوبي تجاه خليج السويس .
نظر خيري خلفه واستخدم نظارته المعظمه وبالفعل استطاع رصد انوار الزورق الواضحه تماما في ظلام الخليج ، وتعجب الجميع خلال حديثهم عن ظهور الزورق بمثل هذه الطريقه الواضحه وبدون اي محاوله منه لتجنب الكشف .
أستمر الرجال في مواقعهم حتي انبلاج ضوء الفجر ، ومازال الزورق يحوم حول طرف الجزيرة الجنوبي بمسافه ، ومع تدفق اشعه الشمس علي صفحه المياه بهدوء ، ظهر الزورق واضحا علي مسافه خمسه كيلو مترات ، وقام الرائد منعم بأبلاغ الموقف الي قياده الجيش الثالث وطلب توجيه ضربه جويه او مدفعيه ضد هذا الزورق ، وكان تحليل النقيب مصطفي ان الزورق يجس نبض دفاعات الجزيرة ودرجه الاستعداد بها ، واتفق الرائد منعم مع النقيب مصطفي علي حبس النيران وضبط النفس حتي لو دخل اللنش مدي رشاشات الموقع المتوسطه والثقيله لكي لا يعطي الفرصه للاسرائيليين في معرفه مواقع الرشاشات او خطط النيران .
في نفس الوقت وفي احد قواعد القوات الجويه المتقدمه ، خرج اثنان من الطيارين من غرفه قائدهم متجهين الي دشم طائراتهم علي عجل ، وبعد لحظات خرجت طائرتين ميج 21 محملتين بصواريخ جو ارض ، وعلي اول الممر أنتظرت الطائرتين ثوان معدوده حتي جاء صوت قائدهم من برج المراقبه (( علي بركه الله يا ولاد )) واقلعت الطائرتين في سرعه وتناسق ، واتخذتا مسارهم تجاه الشرق ، وجاء صوت قائدهم في اللاسلكي مرة اخري معيدا اليهم تعليمات الطلعه
(( طيران ارتفاع منخفض – دورتين هجوم علي الهدف- دورة بالصواريخ ودورة بالرشاشات )) ورد قائد التشكيل بالعلم .
وفي الجزيرة الخضراء دق انذار اخر ، فقد تم رصد طائرتين تقتربان من الغرب ، ورغم ان غرب الجزيرة اراضي مصريه الا ان خيري ادار مدفعه وبسرعه وضع احد الطائرتين داخل دائرة تصويبه ، وعندما أستفسر عبد الحميد عن تصرف خيري ، تمتم خيري (( ولاد الجنيه دول ملهومش امان ، خليني منشن عليه لحد ما نعرف نميًزه))
وجاء التأكيد من وحيد وكررة مرتين (( ميج 21 مصري – اوقف الضرب )) فأرتخت اصابع خيري من علي مقود التوجيه ، وتهلل قلبه وهو يرصد نسور مصر لاول مرة .
أرتفعت الطائرتين قرب الجزيرة واتخذتا زاويه الضرب علي الزورق الذي اطلق لمحركه العنان هاربا من الطائرات المصريه ، واطلق عده ستائر دخان لكي تستر انسحابه ، لكن الطائرات المصريه أستطاعت تنفيذ الدورة الاولي للهجوم ،
صورة من كاميرا المدفع لطائرة مصريه وهي تصوب نحو زورق اسرائيلي
واطلقت ثمان صواريخ غير موجهه تجاه الزورق والذي اختفي داخل الدخان الرمادي الذي اطلقه بكثافه كبيرة ،
أرتفعت الطائرات مرة اخري ودارتا تمهيدا لتنفيذ دورة الهجوم الاخر .
لكن في نفس الوقت ظهرت 4 طائرات اسرائيليه من وراء الافق فتم رصدها بسرعه من المدفع رقم 3 ، ووجهه خيري ماسورة مدفعه تجاهه الطائرات المقتربه ، لكن امر لحبس النيران صدر بسرعه البرق من الرائد منعم ، فسماء الجزيرة بها طائرات صديقه ، وكان واضحا ان الطائرات الاسرائيليه كانت علي مقربه وتنتظر اقتراب الطائرات المصريه
فتابع الرجال في ترقب ما ستسفر عنه اللحظات القليله القادمه الحاسمه ، ودار خيري بعينيه في ارجاء الجزيرة والتقطت عينيه مشاهد عديده .
* القارب ما زال مبحرا باقصي سرعه تجاه الجنوب يحاول الهروب ومن حوله دخان رمادي كثيف يحجبه عن الرؤيه ،
لكن ظهر وسط الدخان الرمادي دخان اسود بسيط ، فلابد وان احد الصواريخ قد اصاب الزورق
* القائد يتابع سماء الموقع بنظراته المعظمه وبجوارة النقيب مصطفي يتحدث في التليفون الميداني
* جميع افراد الموقع اعينهم في السماء تتابع ما سوف يحدث
* قائد التشكيل المصري رصد طائرات العدو ، فألغي دورة الهجوم الثانيه واتجه تجاه طائرات العدو والتي تفوقه عددا
بالضعف .
* طائرات العدو اطلقت صاروخين تجاه طائراتنا ، وانتشرت في سماء الموقع محوله الالتفاف حول طائراتنا لاسقاطها
ولم تتمكن صواريخ العدو من اصابه اي من طائراتنا وبدأت حلقه الصراع تحتدم فوق رأس الجنود ، فطائراتنا تحاول ان تلتف حول طائرات العدو وطائرات العدو تحاول نفس الشئ ، وبعد ثوان قليله تصاعد الدخان من طائرة اسرائيليه وانسحبت من سماء المعركه وسط تكبير رجال الموقع ، فهاهي اصابه محققه من نسورنا ، وتقلص عدد طائرات العدو ،
لكن في نفس الوقت بدأت النيران تشتعل في طائرة مصريه ، واضطر الطيار للقفز بالمظله قرب شاطئ السويس تاركا قائده بمفرده في سماء المعركه وسط ثلاث طائرات إسرائيليه .
كان الجميع متوقعا انسحاب الطيار المصري من سماء المعركه لان فرصته مستحيله ، لكن الطيار الشجاع رفض ترك سماء المعركه لعدوة وفضل ان يستمر في المناورة محاولا اصابه طائرات العدو ، وبدأ يستخدم مناورات رأسيه وافقيه حاده للهرب من صاروخين اخرين اطلقا عليه .
أيقن قائد التشكيل ان فرصته للنجاه قليله جدا ، لكنه لم يفكر في الانسحاب وترك سماء المعركه لعدوة ورغم ان فرصته ضعيفه جدا للافلات ، لكن صمم علي البقاء لاخر نفس في المعركه .
في نفس اللحطه كاد خيري ان يقفز من مكانه من غيظه ، فالطائرات الاسرائيليه في متناول يديه ولا يستطيع الضرب عليها وفي نفس الوقت الطيار المصري مستميت في المناورات وامله ضعيف جدا ، فنظر الي الرائد منعم وتلاقت النظرات ودار حوار سريع وحاسم ، خيري يستعطف قائده في الضرب لانقاذ الطيار المصري والقائد يريد ذلك لكنه خائف علي اصابه الطيار ، ثم اومأ القائد لخيري ووصل الرد الحاسم ، التقط الرائد منعم تليفونه وامر بأستمرار حبس النيران ، بينما بدأ في تلك اللحظه مدفع خيري في الضرب بمعدل نيران عال جدا وبتوجيه دقيق ، جعل شديد ووحيد يعملان بسرعه رهيبه لمحاوله التجاوب مع معدل ضرب خيري .
عم الذهول جميع من في الموقع فور بدء خيري في الضرب ، فخيري لم يكن يوجهه طلقاته الي طائرات العدو ، انما يوجهها في المسافه الضيقه بين طائرات العدو والمصريه ، فهو يريد تشتيت تركيز الاسرائيليين ، وان يترك للطيار المصري فرصه للنجاه تحت ستر نيرانه .
مرت ثوان قليله حتي ادرك الطيار المصري ما يقوم به خيري فصاح فرحا بكل جوارحه (( ينصر دينك )) وبدلا من الانسحاب فقد بدأ في عمل مناورات حاده لادخال الطائرات الاسرائيليه في مرمي نيران خيري وكانت معركه كرامه قبل اي شئ فلا طرف يريد الانسحاب من المعركه وترك السماء لعدوة ، وبدأت بوادر نجاح خيري تظهر حيث تراجعت الطائرات الاسرائيليه وتوقف اطلاقها للنار علي الطائرة المصريه وزادت المسافه بينهم مما جعل الرائد منعم يعطي امرة بالضرب علي طائرات العدو ، وسرعان ما اصبحت سماء الجزيرة جحيم لا يطاق لطائرات العدو ، فالانفجارت تملئ كل شبر من السماء ووجود طائرات العدو فيها اصبح مستحيلا ، وانسحبت طائرات العدو تجاه الشرق تحاول النجاه بنفسها من طلقات المدفعيه .
لم يكن امرا عاديا ان تنسحب طائرات العدو بهذه السرعه وعدم التنظيم ، وحير ذلك الرائد منعم ، لكن حيرته لم تستمر طويلا فقد جاءته تبليغ بوجود سته طائرات تقترب من الغرب ، وبعدها بثوان تأكيد انها طائرات مصريه ، ومع توقف اطلاق النار لانسحاب الطائرات الاسرائيليه عم التكبير سماء الموقع فطائرتنا استطاعت طرد الطائرات الاسرائيليه من سماء الموقع وفرضت وجودها .
دخلت ست طائرات مصريه ميج 21 سماء الجزيرة ودارت دورة تجاه الشمال ، وشارك فيها الطيار المصري ، وقبل ان ينضم للتشكيل ويعود لقاعدته اخذ الاذن وطار منفردا فوق الجزيرة ومال بجناح طائرته مرة ناحيه اليمين ومرة ناحيه اليسار في تحيه للدفاعات الارضيه والتي انقذته من الموت وساهمت معه في السيطرة علي سماء الجزيرة ،
وتابع الرجال الطائرة وهي ترتفع لتلتحم بباقي التشكيل وهم يغادورا سماء الموقع تجاه مطاراهم
وكانت تحيه عسكريه يعرفها كل من بالموقع وفسرها بولس لخيري فتبسم الاخير في تواضع .
(( كان ذلك أقل ما يمكن عمله لهؤلاء الرجال المهرة )) هكذا كتب الطيار في تقريرة بعد عودته بسلام
مر باقي اليوم علي الرجال تحفزهم الدائم لكن الحديث لم ينقطع عما حدث في الصباح ونال خيري استحسان قائده وتشجيعه علي كفاءه تصويبه ودقته ودار بينهم حوار فني بحت حول المعركه ، وكمكافأه من الشاويش عباس لخيري وطاقمه فقد امر ((بـ دور شاي )) لكامل الطاقم علي حسابه الخاص ، وتهلل الجميع من تلك البادرة النارده الحدوث من الشاويش عباس.
ومع هبوط الليل وقرب انتهاء خيري من ثاني يوم له في الحرب ، أثر ان يظل علي مدفعه بعد ان تناول طعامه سريعا وصلي المغرب ، وشاركه زملاءه علي المدفع في السهر بجوار المدفع وحديثهم لا يتوقف عن معركه الصباح تخلله عده نكات من وحيد تجاوب معها الجميع في روح معنويه عاليه جدا .
مرت عده ايام بدون اي اغارات علي الموقع وان كان الجميع يشاهد طائرات العدو تغير علي السويس ليل نهار ، مما اثار اعصاب الرائد منعم ، فتوقف غارات العدو غريبا عما اعتادوا عليه في الاشهر الاخيرة ، ولا بد وان العدو يدبر لهم شيئا في الخفاء ، وهو ما اثار اعصابه .
واذا كان الرائد منعم قد توجس خيفه مما يدبرة العدو لموقعه ولجنوده في الخفاء فأن خيري قد كان يشعر بالملل والغضب في نفس الوقت ، فرؤيه طائرات العدو في هجماتها ضد مواقع قواتنا حول السويس بعيدا عن مدي مدفعه كان يثير غضبه وحنقه وتمني لو ان مدي مدفعه يستطيع ان يصل الي حيث تلك الطائرات لكي يحرقها بمن فيها ويقطع اوصالها في عنف .
ومع مرور الاسابيع بهدوء عرف جنود الموقع جميعهم خيري ، وعرفوا ان لديه ملكات كبيرة جدا في صيانه السلاح وفي التصويب الدقيق ، وعرف الكل رغبته الشخصيه في الانتقام و الانعزال التام وعدم ترحيبه بأي صدقات مع اي زميل ، كان الوحيد الذي يحاول ان يتقرب منه رغم فشله المتكرر هو بولس ، والذي وجد في خيري مستمعا جيدا واستطاع ان يفتح معه حوارا هادئا بعيدا عن امور خيري الشخصيه ، وعرف عن بولس ان لديه زوجه واطفال بالصعيد وانه وجد نفسه مطلوب للتجنيد بعد النكسه مباشرة هو وشقيقه الاكبر ، فترك أرضه لاسرته ترعاها وتقتات منها ، وان شقيقه قد جُند في الجيش الثاني ، وكثيرا ما حاول بولس ان يخترق حاجز الصمت لدي خيري وان يتوغل داخله الا انه كل مرة كان يواجهه بحوائط عاليه من الرفض جعلت حياه خيري الخاصه شيئا غامضا بالنسبه للجميع في الموقع ، حيث جرت العاده بين الجنود في مواقع القتال ان يبوحوا بتفاصيل حياتهم ويشاركوها لزملائهم في محاوله للقضاء علي رتابه وصرامه الحياه العسكريه ومن شبح الموت المحيط بهم .
وقوبل انعزال خيري في اول الامر بفتور وتساؤل من جانب بقيه الجنود ، لكنهم في النهايه رضخوا لرغبته وطوت الايام تسأولاتهم ، وكانت الجمله الوحيده التي قالها خيري عن حياته الشخصيه في احد ليالي الربيع بجوار المدفع
(( محمد مات ............... مات وسابني لوحدي )) وكانت تلك الجمله مثيرة للفضول اكثر للرجال ، فتسألوا فيما بينهم عمن يكون محمد ومدي قرابته لخيري ، وهيهات حاول الرجال تجاوز حوائط خيري المنيعه بعد جملته المثيرة للفضول .
ومع حلول الربيع عادت الغارات علي الموقع وتفاوتت تلك الغارات بين المكثفه وبين غارات تقوم بها طائرة او اثنين وعلي ارتفاع عال واطلق عليها الرجال في الموقع غارات ازعاج ، في تلك الفترة استطاع خيري اصابه طائرتين ،واستطاعت احد الطائرات ان تصيب احد المدافع ويستشهد عدد من افراده
لكن مع حلول صيف 68 هدأت الغارات تماما ، وبدأت تمر ايام واسابيع كامله بدون رؤيه طائره معاديه واحده في السماء
ورغم استغلال الجنود والضباط حاله السكون في الاستمتاع بجو الصيف والاستمتاع بمياه الخليج الدافئه وقضاء الوقت في صيانه السلاح والاستمتاع بيوم اخر من الحياه وامتصاص رحيقه لاخر قطرة ، في كل ذلك الجو الهادئ بالجزيرة الخضراء كان هناك بركانا داخل خيري ، فالغضب تصاعد مع سماعه اخبار القتال علي انحاء الجبهه وتواصل حرب الاستنزاف التي بدأتها مصر وسارت فيها رغم الخسائر المتبادله مع العدو .
وكانت اخبار القصف المدفعي ودوريات العبور المقاتله قاسم مشترك في كل بيانات الجبهه اليوميه وهو ما اثار اعصابه اكثر .
فالذي لم يكن يعرفه خيري وقتها ان الطيران الاسرائيلي مشغول بمهاجمه تلك المنشات الخرسانيه عجيبه الشكل التي يقوم عمال صعايده مدنيين ببنائها ، في بادئ الامر لم يكن الاسرائيليين يعرفون ماهيه تلك المنشأت العجيبه التي بدأت تقام بطول الجبهه ، لكن حل هذا اللغز وصل للقياده الاسرائيليه عبر صور اقمار صناعيه امريكيه ، فتلك المنشأت التي تقام قرب جبهه القناه ، مطابقه لتلك المنشات الموجوده في فيتنام الشماليه ، وما هي الا دشم لمنصات صواريخ ارض- جو
وفور تحليل الصور ومطابقاتها اضيئت كل الانوار الحمراء في القياده الاسرائيليه وعم الفزع والهلع القوات الجويه لديهم فوجود صواريخ سام بالقرب من القناه سيقوض دور القوات الجويه الاسرائيليه في قصف القوات المصريه وفي حريه الحركه فوق القناه .
وعلي الفور بدأت عجله القصف الجوي لتلك المنشات بصورة مكثفه وشديده من بورسعيد شمالا حتي السويس جنوبا
وتحولت الجزيرة الخضراء الي هدف ثانوي بالمقارنه بتلك المنشأت الخرسانيه
ودار سباق اقل ما يوصف بأنه رهيب جدا ، فالطيران الاسرائيلي يهاجم تلك المنشأت اثناء بنائها وفي بعض الاوقات كانت المنشأت تضرب قبل ان يجف الاسمنت ويتصلب ، وكان المطلوب من القوات المصريه سرعه بناء تلك المنشأت والدفاع عنها لادخال الصواريخ الي الجبهه ، وأستشهد المئات من عمال البناء المصريين تحت الانقاض ومن تأثير القنابل لاسرائيليه الثقيله ، ورغم سقوط العديد من الطائرات الاسرائيليه في عمليات القصف المتواصل الا انه نجح تماما في تدمير كل الدشم الخرسانيه وفرض سيطرته الجويه تماما علي الجبهه مما اعتبره نصرا ساحقا اخرا لذراعه الطويله .
في تلك الفترة فكر خيري كثيرا في ان يتقدم بطلب للنقل الي موقع متقدم اخر يستطيع من خلاله القتال ، فالنار في داخله اصبحت لا تطاق ، وفاتح الشاويش عباس في هذا الموضوع ، وعلي عكس المتوقع من الشاويش عباس المتجهم دائما ، فأن الرجل بحنان ابوي نادر الظهور منه ، طلب من خيري التمهل في طلبه والا يتسرع لان ذلك سيقابل بالرفض وسيترك انطباع سئ امام القائد .
وبدلا من ان يترك خيري حزينا ، فان الرجل نصح خيري بأن يأخذ اجازة ، فهو قد رفض الاجازة مرارا وقد مر قرابه سته أشهر منذ وصل للجزيرة ، ووافق خيري علي مضض .
وبعد يومين كان خيري يستقل لنش الريس غريب متجهها للسويس بعد حوالي 170 يوم قضاها علي الجزيرة ، وبدلا من ان يقف علي مقدمه الزورق فأنه وقف علي مؤخرة الزورق يشاهد ملامح جزيرته وهي تختفي في الظلام
احساس غريب انتابه في تلك اللحظات القليله التي شاهد فيها الجزيرة تختفي من امامه في الظلام ، أحساس المسافر بعيدا عن بيته وليس العكس ، فالجزيرة اصبحت هي منزله وبيته والحضن الدافئ الذي يرتمي فيه ، وزملاءه أصبحوا اهله وعشيرته ، احساس غريب جدا بأنه بدأ يفتقد زملاءه ومدفعه وملجأه وسريرة ، أحاسيس غريبه متضاربه يحس بها واللنش يبحر مقتربا من شاطئ السويس .
بعد عده ساعات كان خيري داخل صندوق سيارة نقل عسكري يخترق شوارع القاهرة الساهرة ، شتان الفارق بين السويس والقاهرة ، وبين الحرب الدائرة وبين اضواء المدنيه وضخبها ، تطلع لما يدور في الشوارع وركز حواسه علي ما يراه في شوارع وسط المدينه ، رجال ونساء يقضون اوقاتهم في التنزة في الشارع ومشاهده واجهات المحلات ، وهذا اخر يعتصر يد صديقته وهو يعبر بها الطريق ، وهذا تجمهر من الرجال امام شباك تذاكر احد دور السينما والتي تعرض فيلما اجنبيا ، وهذا اخر يتناول مخروطا من الايس كريم في أستمتاع تام ، لا شئ يدل علي ان حربا تدور رحالها علي مسافه قصيرة جدا
، حرب يموت فيها في كل يوم رجال وشباب في عمر الزهور ، حرب تقطع اوصال الرجال وتحولهم الي معاقي حرب
حرب يحاول فيها العدو كسر صمود الجيش ، بينما القاهرة غارقه في الانوار والضخب والسهر .
اراد ان يقفز من الصندوق ويصيح في الناس ، بأن الناس تموت علي الجبهه لكي تكونوا في أمان ، وانتم لا تهتمون بما يحدث في الحرب ومستمرون في الصخب والسهر ، أراد ان يمسك بتلابيب ذلك الفتي الذي يكاد يحتضن تلك الفتاه في الطريق ، أراد ان يقول له ان عليش مات وهو في مثل سنك ، لكنه مات وهو يدافع عنك ، مات وهو ممسك بسلاحه وليس بكتف تلك الفتاه ، كانت صدمته كبيرة مما يراه ، فلا شئ يدل علي ان البلد في حرب سوي بعض مصابيح السيارات المطليه بلون ازرق داكن ، والتي تظهر بين الحين والاخر ، فلا احد يبدو انه يهتم بما يحدث .
كانت نظرات خيري وتعابير وجهه الغاضبه فاضحه جدا لما يدور في عقله ، فأنحني احد الجنود المرافقين له قائلا
(( احنا بنموت علي الجبهه ومحدش هنا حاسس بينا )) فتدخل اخر قائلا معترضا (( يعني يعملوا ايه يعني ؟؟ يقعدوا في بيوتهم ولا يبطلوا يخرجوا ويتفسحوا ؟؟ )) فرد الاول (( امال يعني ايه البلد في حرب ؟؟ ))
فرد الثاني (( ما الناس دي هيه اللي بتشغل المصانع والمصالح ، هما دول الناس اللي بيعملوا الاكل اللي بناكله علي الجبهه واللبس اللي بنلبسه والرصاص اللي بنضربه ، ماهم برضه بيحاربوا لكن في ميدان تاني وبطريقه مختلفه خالص ، الفرق عننا انهم بيقدروا يخرجوا بليل يتفسحوا واحنا لا )) كان الحوار بين الاثنين وخيري مستمع وعينيه تشاهد ما يحدث في شوارع العاصمه ، وعقله يخزن كل ما يراه ، لكنه اقتنع تماما ان دورة هو القتال بينما دور باقي الشعب هو تدعيم الجيش بما يمكن ان يقدمه ، فليس من الضروري ان يحمل كل فرد السلاح ، فهناك من يكون سلاحه قلم او مطرقه او حتي لحن
لكن الجميع يصب عمله في مصلحه الوطن .
كانت صورة ورديه تلك التي اراد ان يرسمها خيري في عقله لصمود الشعب ،
لكن الحقيقه ان هناك فئه كبيرة من الشعب قد هُزمت بالفعل وضاع عندها الايمان بالقضيه واختفي لديها مفهوم تحرير الارض ورضخت تماما للدعايه الاسرائيليه الغربيه وانتشرت تفسد في البلد من الداخل بكل اشكال الفاسد الخلقي والاجتماعي ، والغريب ان تلك الفئه رفضت القبول بان الجيش صامد ويقاتل وأصبحت كالخنجر في ظهر الشعب والجيش علي حد السواء .
وصل خيري الي محطه مصر ، حيث استقل القطار الي قريته ، وبعد ساعتين كانت قدماه تطأ عزبه المراكبيه مره اخري ، حيث عاد اليها والي محبوبته والي ذكريات الايام الجميله ، لا يستطيع ان يري مكانا في قريته الا وارتبط بذكريات جميله مع محمد .
أمضي خيري يومين ونصف في احضان بلدته وجو السلام والهدوء الذي يغلف كل مكان فيها ، فلا شئ يدل بالمرة علي ان الوطن في معركه مصيريه في تلك اللحظات ، فالهدوء والسكينه يغلفان جو القريه ، وسير العمل في الحقول يسير بنفس دورته المعتاده ، وأستمتع بدفء وحنان والدته وشقيقتيه والاتي اغرقته في اصناف الطعام المختلفه والحوارات المتعدده ، ولم يضع اي فرصه في امتصاص مشاعر الحب والعشق من محبوبته ، فقط كان يعيد ملئ مستودعات قلبه بمشاعر انسانيه كثيرة افتقدها كثيرا في الاشهر السته الماضيه ، فقد كانت مشاعره علي الجبهه من وجهه نظرة غير انسانيه بالمرة فكلها حقد وكراهيه وقتل ،اما الان فهو يعيد التوازن لنفسه المسالمه قليلا قبل ان يعود للجزيرة
وخلال حديثه مع والدته ارتاح فؤاده عندما علم ان مرتبه يصل لوالدته بأنتظام تام ، فقد كان يشك في ذلك وكثيرا ما سأل والدته عبر الخطابات المتواصله بينهم ولم يرتاح من تأكيدتها له فقد احس بأنها لا تريد ان تزيد من اعباؤة .
وعندما زار منزل عمه في اليوم الاخير لاجازته ، واجه صورة محمد المتشحه بالاسود بنظرة مختلفه تماما عما نظر اليها اخر مرة قبل توجهه الي الجبهه ، فنظرته هذه المرة تحمل قدرا من الطمأنيه والراحه ، فهو يسير في طريق الثأر بكل ما يستطيع من قوة وليس هناك ما يمكن ان يتم فعله ولم يقم به، ورغم ان الصورة هي نفسها التي شاهدها وناجاها عده مرات من قبل ، الا ان احساس غريب جدا تسلل اليه رغم عنه ، احساس عميق بالراحه ، وكأن وجه محمد يبتسم له .
وتعجب خيري من نفسه وهو يودع قريته ومحبوبته ، تعجب من تلك القدرة العجيبه التي اصبح يمتلكها في وضع الاحلام والامنيات الخاصه بعائله والمستقبل وراء ظهرة فور اختفاء محبوبته وقريته من الافق ، ففور ان اختفت قريته من امام انظارة ، ظهرت شخصيه خيري الجندي المقاتل مرة اخري علي السطح ، فأخرج جهاز الراديو الصغير والذي غاب عن يده طوال مده الاجازة وبدأ تدير مؤشر الترددات لمتابعه اخر الاخبار وعقله مع رفاقه في الجزيرة وتمني من كل قلبه ان يكونوا بخير كلهم .
وقرب اذان الظهر كان خيري يدخل مدينه السويس مرة اخري ، تنشق رائحه الهواء المعبئ برائحه البارود وملئ رئتيه بهذه الرائحه التي تذكرة بالموت الجاثم علي بعد مئات الامتار منه ، فها هو قد عاد لخط المواجهه ولواجبه المقدس الذي ينتظرة في شوق .
وبحلول الليل استقل خيري اللنش متجها للجزيرة وهو في شوق لمدفعه ولرفاقه ولقائده ، وخلال الطريق علم من الريس غريب ان الاحوال هادئه تماما خلال اليومين الماضيين ، فحمد خيري الله علي سلامه رفاقه .
 
موضوع غاية فى الروعه قمة فى التناسق والترابط الادبى
بالتوفيق وفى انتظار المزيد
تقبل مروري
 
رد: قصه وحش الجزيرة - قصه حقيقيه 100%

ارجو من العضو vondeyaz ان يذكر مصدر القصه المنقوله
حتى نعطى كل ذى حقا حقه
فقط للامانه
 
رد: قصه وحش الجزيرة - قصه حقيقيه 100%

ارجو من العضو vondeyaz ان يذكر مصدر القصه المنقوله
حتى نعطى كل ذى حقا حقه
فقط للامانه

Vondeyaz هو أ/ أحمد عبدالمنعم زايد

كاتب القصة

وشكرا اخى على اهتمامك وحرصك على

اعطاء كل ذى حق حقه

 
التعديل الأخير:
رد: قصه وحش الجزيرة - قصه حقيقيه 100%

باقى القصة فين
 
رد: قصه وحش الجزيرة - قصه حقيقيه 100%

انا اسف فقط لم اكن لارى خطا
ولا اوجهه وشكرا للكاتب المتميز أ/ أحمد عبدالمنعم زايد
ارجو الا يفهم احد انى اقحم نفسى فيما لا يعنينى
فقط شروط المنتدى تحتم كتابة مصدر الموضوع
لذلك تدخلت
مره اخرى اعتذر
واشكر الكاتب المتميز أ/ أحمد عبدالمنعم زايد
شكرا
 
التعديل الأخير:
رد: قصه وحش الجزيرة - قصه حقيقيه 100%

رائع يا استاذ احمد زايد
 
رد: قصه وحش الجزيرة - قصه حقيقيه 100%

اعذرنى لان التقييم لن يوفيك حققك
ومهما كتبت لك من كلمات
وسرد رائع لقصه ابطال نحتاجهم اليوم اكثر من اى وقت مضى
لكن اين بقيه القصه؟؟
ارجو ان يتم استكمالها فاقل ما نقدمه لهؤلاء الابطال سرد قصصهم لنتعلم منها ولتخليد بطولاتهم الى الابد
 
السالفة نسخ لصق منتديات مثل هازا




الفصــــل الخـــــــــامــــــــــس
الدمنــــــــــــــــهوري

عاد خيري لموقعه ليلا وبعد ان غادر لنش الريس غريب شاطئ الجزيرة حاملا معه عدد من الجنود المتجهين الي منازلهم في اجازات ، وجد خيري ان الجنود مازالوا في حاله الراحه التي تركهم عليها قبل اجازته، فرغم ان سطح الجزيرة ليلا يكون عاده صامتا خاليا من الحركه ، الا انه في اوقات الهدوء وخاصه مع اعتدال المناخ يكون ساهرا عامرا بدوائر من الجنود الساهرة في حديث مستمر حول اكواب الشاي الثقيل ودخان السجائر، رحب الجنود بعوده خيري وزادت سعادتهم بكميات الفطير والجبن الطازج التي اصطحبها خيري معه لهم ، وعلي الفور تم عمل مائده سريعه لطاقم المدفع في الملجأ لتناول اصناف الطعام المتعدده ، وقبل انتصاف الليل كان الطعام قد اختفي من علي سطح المائده تماما .
ووسط الحوار المرح تسأل خيري عن احوال الموقع في الايام الماضيه ، فأفاض بولس وعبد الحميد في الشرح المفصل لاي حدث قد يكون هاما لخيري ، وانحصرت تلك الاحداث في متابعه عمليه قصف جوي معادي للسويس ، ورد المدفعيه المصريه بقصف مكثف لمنطقه بورتوفيق والتي تقع شمال الجزيرة تماما .
وفي الصباح التالي اعتلي خيري مدفعه مرة اخري بكل همه ونشاط كعادته دائما ، وتطلع ببصرة في السماء باحثا متطلعا ومتمنيا رصد اي اهداف جويه ، لكن بصرة عاد اليه بخيبه امل كبيرة ، وقرب منتصف النهار سمع صوتا مميزا ، انه صوت محرك الريس غريب ، فما الذي يجعله ياتي للجزيرة صباحا ؟ واين ذهبت تحذيرات الريس غريب وحرصه الشديد علي الحضور ليلا ؟
رسي اللنش ونزل منه عده جنود يحمل عدد منهم الكثيرمن العلب صغيرة .
فور نزول الجنود اجتاح الموقع حاله من السعاده فجأه ، وتساءل خيري وجاءة الرد من وحيد بأن الدمنهوري قد حضر
وتسأل خيري في دهشه عمن يكون هذا الدمنهوري ، فرد عبد الحميد شارحا بينما خيري يتابع بعينيه قائده وهو يسرع ويستقبل احد الجنود الذين نزلوا من اللنش في سعاده .
قال عبد الحميد (( الدمنهوري ظهر من فترة قبل ما انت تيجي هنا ، وكان بيجي لنا كل اسبوع تقريبا ومعاه هدايا كتير وبتكون قعدته معانا حلوة ومرحه جدا ))
والتقط بولس طرف الحديث (( احنا مش عارفين هو رتبته ايه ، عمره ما جالنا وهو حاطط رتب ، بس من الواضح انه رتبه كبيرة لان القائد بيقابله بأحترام جامد ، وشكله كده انه من قياده الجيش الثالث))
فسر حديث الرفاق ما يراه خيري بعينيه من حديث ودي باسم بين الرائد منعم والنقيب مصطفي وبين ذلك الدمنهوري ، ذلك الرجل نحيف الجسد ممشوق القوام أسمر اللون خفيف الشعر .
وبعد لحظات اختفي الثلاث داخل مقر القياده وعاد الهدوء الي سطح الجزيرة مرة اخري ، وبعد فترة دعا الرائد منعم عددا من الجنود لتناول الغذاء في الميس بصحبه الدمنهوري ، وكان خيري واحدا ممن وقع عليهم الاختيار .
دلف خيري الي الميس وجلس في مكانه المفضل وبعد لحظات دخل الدمنهوري ضاحكا وبعده الرائد منعم والنقيب مصطفي
وجلس الجميع ، وبدأ وضع اصناف الطعام والتي تميزت بوفرة اللحوم والدجاج علي غير العاده .
واطلق الدمنهوري عده نكات متتاليه ضجت لها القاعه ضحكا وتبسم خيري مجامله وان كانت عينيه تتابعان الدمنهوري في تركيز وتتسائل عمن يكون هذا الرجل الغامض .
وبدون اي مقدمات يتجه الدمنهوري الي خيري بحديثه وكأنه يعرفه منذ سنوات (( مالك يا خيري مش بتضحك ليه ؟؟))
نظر خيري الي عيني الدمنهوري والتي بدت لاول وهله انها اعين ميته بلا شعور ، وفكر خيري في الرد قليلا ، وتسائل كيف عرف الدمنهوري بأسمه وهو لم يقابله من قبل ، الا ان الدمنهوري لم يمهله اي فرصه وباغته ضاحكا وهو يمسك فرخه بيده (( اللي ياكل الفرخه دي الاول يترقي عريف ؟ ))
كان اقتراحا شهيا ضجت له القاعه ضحكا وشاركهم الرائد منعم في الضحك ،
الا ان خيري رد علي الاقتراح بأقتراح اخر (( لا يا فندم ، أراهنك علي فك وتركيب المدفع 14ونص )) وعم الصمت ارجاء القاعه من رد خيري الحاد وتلاقت عيني خيري مع الدمنهوري في تحد ، وعلا صوت الرياح عبر فتحات التهويه وسط الصمت والترقب من الجميع ، وبدلا من أستمرار نبرة الضحك في حوارة ،
قال الدمنهوري في تحد اخر لخيري مستفزا (( بس ده مش مدفعك يا دفعه ، انت عاوز تطير الترقيه من أيدك ولا ايه ؟؟))
تبسم خيري في ثقه قائلا (( يبقي ساعتها ربنا مش كاتبلي نصيب في الترقيه ))
فتبسم الدمنهوري ووافق علي اقامه المسابقه بعد الغذاء ، واختار الحكمدار عبد الفتاح كمنافس لخيري ،وكان ذلك تحديا اخر فعبد الفتاح حكمدار مدفع ثقيل 14.5 بوصه وهو متخصص فيه ، مما جعل التحدي صعب جدا
وبعد انتهاء الغذاء ، انطلق الخبر في ارجاء الموقع وتجمع الجنود حول المدفعين في انتظار بدء المسابقه ، وبعد اشارة من يد الرائد منعم ، بدأ السباق في فك المدفعين وسط تشجيع الجنود وهتافاتهم المشجعه ، وبعد دقائق انتهي الاثنين في فك المدفعين في توقيت متزامن ، وبدأا في التركيب بنفس القوة والنشاط ، لكن خيري كان الاسبق في تركيب المدفع بسرعه اثارت دهشه واعجاب الجميع وخاصه ان هذا المدفع ليس تخصصه ، وبعد مرور دقائق انتهي خيري من تركيب المدفع وبعده بدقيقه استكمل عبد الفتاح مهمته ايضا ، وسط عبارات الاعجاب والاشاده بخيري من الجميع ووسط نظرات الاعجاب من الدمنهوري ، أُعلن الرائد منعم فوز خيري بالمسابقه وبالترقيه .
وبعد انتهاء المسابقه اقترح الدمنهوري اقامه مبارة كرة بين جنود المشاه وجنود الدفاع الجوي ، وتحمس الجميع واعتلي خيري احد الصخور يتابع المباراه في صمت وتركيز
 
عودة
أعلى