إبراهيم باشا.
كانت الحملة المصرية التي وُجِّهت إلى عكا وسوريا مؤلفةً من ستة آلايات من المشاة،وأربعة من الفرسان، وسلاحها أربعون مدفع ميدان، وأكثر منها من مدافع الحصار، وكان هذا الجيش المصري أول جيش شرقي سار على النظام الحديث، حتى إن إبراهيم باشا ذاته تعلَّم في المدرسة النظامات العسكرية كأحد الجنود. وقد بلغ عدد الجيش المصري الذي نُظِّم يومئذ على الطراز الحديث نحو مائة ألف مقاتل، وكان مع هذا الجيش عددٌ كبير من الفرسان العرب ورجال القبائل المصرية.
سيرزي بك مؤسس البحرية المصرية.
أما الأسطول الذي جَدَّده المهندس الفرنساوي «سيرزي» ونظمه «بيسون» بعد احتراق الأسطول في فرضة نافارين، فقد ركبه إبراهيم باشا من الإسكندرية إلى يافا، وكان أركان حرب الحملة مؤلَّفًا من عباس باشا حفيد محمد علي، ومن إبراهيم باشا ابن أخيه، ومن سليمان بك — الكولونيل سيف — ومن أحمد بك المنيكلي.
وكان هذا الأسطول مؤلَّفًا من خمس سفن كبيرة تَبِعَتْها السفن الصغيرة في مدى أربعة أيام، فلما رسا الأسطول قُبالة يافا نزل وجهاؤها وعَرَضوا على إبراهيم تسليم المدينة، وكانت حاميتها ٢٥٠ جنديًّا، فأنزل بلوكًّا لاستلامها وأبقى المتسلم حاكمًا عليها. وجاءته حامية غزة مسلِّمة، واستولى على مدافع قلعة يافا، وكانت ٤٧ مدفعًا مع الذخائر، وأخذ بعض رجال البحر من أهل يافا لإرشاد الأسطول في مياه عكا، ووصل إليه وهو في يافا أن أهل الشام قَتلوا رجال الحكم من الترك، واختاروا خمسة منهم لإدارة الأعمال، إلى أن يصل إليهم إبراهيم «سر عسكر» الجيش العربي — كما كان يُلقِّب نفسه — ويوقِّع أوامره ورسائله إلى أهل تلك البلاد.
ولما ضرب الجيش البري النطاق حول عكا قام الأسطول بحَصْرِها بحرًا وقوامه خمس سفن كبيرة وعدة فرقاطات كانت صغيرة، وكانت جملة الجيش ومجموعه ٢٤ ألف مقاتل.
أما حامية عكا فكان عددها ستة آلاف مقاتل من الرجال الأشداء، يقودهم بعض الضباط المهندسين من الأوروبيين. وكان سور المدينة منيعًا وسلاحها من أقوى الأسلحة. وبعد أن أحكم إبراهيم باشا النطاق حول المدينة برًّا وبحرًا أخذ في ٩ و١٠ ديسمبر يرميها بالقنابل من كل جهة.ولم تكن تلك القنابل يومئذ سوى قنابل من كتل الحديد والفولاذ المستديرة، لا تنفجر بل تدكُّ وتهدم، وكثير منها لا يزال موجودًا إلى الآن في ميادين القتال التي قاتل فيها إبراهيم باشا، وقد استخدمه الأهالي لرَصِّ الطرقات. واستمر ضرب المدينة برًّا وبحرًا من الفجر إلى المساء، فألقي عليها في يوم واحد عشرة آلاف كرة وثلاثة آلاف قنبلة، وقد رووا أن فرقاطة واحدةمصرية ألقت ٣٧٠٠ قنبلة. أما حامية عكا فإنها كانت تقتصد بالذخائر كل الاقتصاد لِعِلْمها بأن المَدد قد لا يصل إليها سريعًا من البر أو من البحر، لا كما كان أمرها يوم حاصَرَها نابليون قبل حصار إبراهيم بنحو اثنين وثلاثين سنة؛ لأن الإنكليز كانوا يومئذ يمدونها بالذخائر من البحر.
وأصيب بعض سفن الأسطول المصري، فعاد إلى الإسكندرية لإصلاح ما حلَّ به من التلف. وفي ١٩ ديسمبر نصب جيش إبراهيم مدافع الحصار وأخذ بإطلاقها على المدينة التي ظلت على المقاومة حتى آخر يناير، وحينئذ تبيَّن لإبراهيم باشا أن الحصار طويل، فأرسل إلى الأمير بشير الثاني الشهابي — الذي قلنا إنه جاء مصر ونزل في ضيافة محمد علي — ليوافيه إلى عكا، فتأخر قليلًا؛ لأن والي حلب — وكان وزيرًا كبيرًا — طلب منه مقاومة إبراهيم باشا ورَدَّه عن سوريا، «فإن لم يفعل يدكُّ لبنان دكًّا ويبيد سكانه.» ولما تأخر الأمير بشير عن المجيء إلى عكا كتب إبراهيم إلى والده عن تأخره، فكتب محمد علي إلى الأمير كتابًا يلومه فيه عن تأخره ويهدده بأنه «إذا خالف عهده معه ووعده له يخرب مساكنه ويزرع في أرضها تينًا.»
وقبل وصول كتاب محمد علي إلى الأمير بشير، كان هذا قد ركب من مركزه بلبنان بمائة فارس إلى عكا، وقبل أن يصل إليها التقى برسول محمد علي ومعه ذلك الكتاب، فواصل سيره حتى وصل إلى سهل عكا، فخرج إبراهيم باشا بأركان حربه وبشرذمة من جيشه لمقابلته وأمر بإطلاق المدافع تحية له، فدخل معسكر إبراهيم بموكب عظيم. وكتب إبراهيم باشا إلى والده خبرَ وصول الأمير قبل أن يتلقى كتابه، فكتب إليه محمد علي يمتدح صدقه وإخلاصه. وحدث إبان ذلك أن عبد الله باشا رفع الأعلام البيضاء فوق أسوار عكا دلالة على التسليم، فأرسل إليه إبراهيم باشا رسله، وبينما كانوا يتفاوضون بشروط الصلح قَطَع عبد الله باشا المفاوضة وعاد إلى القتال؛ لأنه تلقى من السلطان كتابًا بأن المَدَد واصلٌ إليه على جناح السرعة، لأن الأوامر كانت قد صدرت إلى الولاة بجمع الجنود لقتال إبراهيم باشا ورده عن عكا. فبعد قطع المفاوضة عاد إبراهيم إلى ضرب القلعة، وحينئذ أرسل الأمير بشير إلى ولده الأمير خليل بأن يحضر إلى عكا، فحضر وتلقى منه الأمر بجمع الرجال اللبنانيين. وأرسل محمد علي إلى إبراهيم بأن يعطي الأمير بشيرًا إيالة صيدا، وأن يجعل في يده تصريف أمور المتسلمين وأصحاب المقاطعات. وأرسل إبراهيم باشا الأمير خليلًا بألف مقاتل لبناني إلى طرابلس ليقطع الطريق على محمد علي باشا سر عسكر السلطان الذي كان قد وصل إلى حمص، وفي الوقت ذاته وصل القائد التركي عثمان باشا إلى اللاذقية معينًا على طرابلس ومعه خمسة آلاف مقاتل، فقبض الأمير خليل على بعض مراسلاته مع مشايخ البلاد وأرسلها إلى والده في عكا، فأمر الأمير بشير ولده أمينًا بجمع الرجال، وأرسل إلى «زحلة» الأمير قاسمًا لجَمْع المُؤن لجيش إبراهيم باشا ومعه ألفا لبنانيٍّ. وفي أثناء ذلك أرسل إبراهيم باشا أربعة آلاف رجل إلى طرابلس مددًا للأمير خليل، ولكن عثمان كان قد وصل من اللاذقية قبل وصول المدد، فقاتله الأمير خليل حتى كسره، وقبض على القاضي والمفتي اللذين كانا يراسلانه ليُسلماه المدينة، وقصد إبراهيم باشا ذاته إلى طرابلس، فعند وصوله إلى البترون — وهي على مسيرة ساعتين من طرابلس — فَرَّ عثمان باشا ومن معه إلى جهة حمص، فصمم إبراهيم باشا على اقتفاء أثره إلى هناك، والتقى جيشه برجال والي الدين ووالي قيسارية وعثمان باشا فدحرهم وغنم ما معهم.
الأمير بشير الشهابي أمير لبنان.
أما عكا فإنها ظلت ثابتة على المقاومة، وأضرَّ المطر والبرد بالجيش المصري إضرارًا شديدًا، ورأى إبراهيم باشا أن يكتفي بالحصار، فاستدعى إليه من الإسكندرية الكولونيل «روماي» الطلياني؛ لأنه اشتهر في حصار قلعة موسوليغي في بلاد اليونان، فوصل مع رفيقه كارتو — وهو كورسيكي — وألبرتيني — وهو إيطالي — إلى معسكر عكا في ٢ فبراير، فغيروا شكل الحصار والضرب.
وفي ٣ مارس بدءوا بضرب القلاع على الطريقة الجديدة، واستمروا على ذلك عشرة أيام كاملة إلى أن دكوا البرج الذي يحمي باب المدينة، واندكَّ معه جانب من السور، فردم الخندق وهجم المصريون من تلك الفتحة التي فتحتها المدافع، ولكنهم اصطدموا بجيش عبد الله باشا، ولم تكن الفتحة تتسع لأكثر من ثلاثين رجلًا، وكان عبد الله باشا قد نصب في تلك الفتحة ذاتها مدفعين، فاستولى عليهما المصريون برءوس الحراب.
ولما دخل الجنود المصريون المدينة أخذ جنود عبد الله باشا يُلهبون ألغام البارود المبثوثة في الأرض وتتناولهم نيران البنادق من المنازل، فخشي القواد سوء العاقبة، فأمروا الجنود بالارتداد، وهكذا حبط هجوم ٩ مارس ١٨٣٢.
ولكن هذا الهجوم دلَّ على أن المدينة باتت في حالة الاحتضار؛ لأن الحامية نقصت ولم يبقَ منها للقتال سوى ٩٠٠ مقاتل، ولأن الأمراض تفشَّتْ فيها وقَلَّت اللحوم والبقول. أما الباب العالي فإنه لم يفعل شيئًا لإمداد عكا؛ لأن رجاله كانوا منصرفين إلى التحاسد أكثر من انصرافهم إلى التعاون، ولأن صدمتهم في طرابلس وحمص أوهنت قواهم وفرَّقت شملهم.
ولما اجتمع قناصل الدول عند محمد علي لتهنئته بعيد الفطر في ٤ مارس حدَّثهم وحدثوه بأمر الحملة على عكا، فقال لهم محمد علي:
أين هي جيوش جلالة السلطان؟ وأين هم قواده العظام؟ أهو باشا حلب الذي كان منذ عهد قريب باش قواص؟ لا … إنه يَحْسُن بالباب العالي أن يعمل حسابه قبل أن يهجم على جيشي.
وكان من عادة الباب العالي أن يصدر في كل سنة يوم عيد الفطر التوجيهات أو جدول باشاوات السلطنة وأصحاب الرتب والولايات، فصدرت التوجيهات في تلك السنة وليس فيها اسم محمد علي وابنه إبراهيم، فلم يدل ذلك لا على غضب السلطان فقط، بل على عزمه على تأديبها — كما كان يفهم دائمًا من هذا العمل …
وإليك ما جاء في مقدمة التوجيهات: «رأينا ألا نقطع بتوجيه ولايات مصر وجدة وكريد حتى يصلإلى بابنا العالي جواب محمد علي باشا على ما أرسلنا إليه من الرسائل والفرمانات بشأن ما ارتكبه من الخروج على خليفته وسلطانه، ولزوم عدوله عن خطة الخسة والدناءة التي سار عليها هو وإبراهيم ولده، أو رجوعه إلى حد التأديب وقهره بقدر ما تصل إليه القدرة إن شاء الله.»
أما من الوجهة العسكرية، فالذي يصح قوله أن إبراهيم أدرك عند ظهور عثمان باشا أمام طرابلس وظهور قواد آخرين بين حلب وحمص، أن القواد الأتراك يجمعون قواتهم ليهاجموه، وبدلًا من أن يكون حاصِرًا عدوَّه يصير محصورًا، فأبقى أمام عكا آلايين وصار بعشرة آلاف جندي لمقاتلة قواد السلطان، ووكل إلى الأمير بشير وابنه أمين حراسة خطوط المواصلات وجمع المؤن في زحلة وبعلبك والرياق. ولما وصل إبراهيم باشا إلى القصير خرج أعيان حمص لمقابلته وتهنئته، ثم عاد إبراهيم باشا إلى بعلبك وزحلة، فظن عثمان باشا ورفاقه أنه تقهقر، فقصدوا إلى جيشه ومعهم ١٢ ألف جندي، فارتد عليهم وفرَّقهم، فاتجهوا نحو حماه على ما قلنا، واتجهت أنظاره إلى عكا للخلاص من حصارها، فترك قوته في بعلبك بقيادة أخيه عباس باشا ليرقب حركة الجيش التركي.
وهكذا اتبع إبراهيم خطة نابليون قبل ذلك باثنين وثلاثين سنة، فاستولى وهو سائر إلى سوريا على غزة ويافا وحيفا والقدس ونابلس.
---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
عن المؤلف
داود بركات: هو صحفي وسياسي ومفكِّر إصلاحي لبناني عاش في مصر ونادى بالإصلاح السياسي والاجتماعي والتربوي، وقد كان رئيسًا لتحرير «جريدة الأهرام» لمدة ثلاثين عامًا.
وُلِدَ بركات في «يحشوش» بلبنان عام ١٨٦٨م لأسرة مسيحية مارونية، حيث درس هناك وأجاد اللغتين العربية والفرنسية، ثم سافر لمصر حيث عمل مدرِّسًا، ولكنه لم يلبث أن ترك التدريس ليلتحق بالعمل الصحفي.
تنقَّل بركات بين عدة صُحف حيث عمل بجرائد «النيل» و«المحروسة» و«القاهرة»، حتى انتهى به المُقام صحفيًّا بجريدة الأهرام التي كانت لا تزال في بدايتها صحيفة صغيرة تصدر في أربع صفحات بشكل غير منتظم، فعمل على تطويرها عندما تولَّى رئاسة تحريرها عام ١٨٩٩م، فقام بزيادة عدد محرريها وتحسين أحوالهم المادية وتدريبهم بشكل جيد على أسس الصحافة الحديثة، فأصبحت الأهرام في عهده صحيفة واسعة الانتشار منتظمة الصدور تصدُر فيما لا يقِل عن ست عشرة صفحة، كذلك أدخل عليها العديد من التعديلات والتطويرات في الإخراج، التي جعلت الأهرام أُولى الصحف العربية، وقد ظل بركات يرأس تحرير الأهرام مدة ثلاثين عامًا متواصلة، ويُعَدُّ بركات أطول من ترأَّسوا صحيفة مصرية، فاعتُبِر أحد شيوخ الصحافة المصرية.
كان بركات وطنيًّا محبًّا لمصر رغم كونه لبنانيًّا، فكان يهاجم الاحتلال الإنجليزي لمصر في مقالاته، ويقف في صف التيار الوطني المصري، فكان لقضايا العروبة والتحرُّر الوطني نصيب كبير من مقالاته.
تُوُفِّيَ بركات عام ١٩٣٣م بعد مرض لم يَطُلْ.