أنتم أعلم بأمور دنياكم
فقد مر الرسول r في المدينة على قوم يؤبرون النخل - أي يلقحونه - فقال: " لو لم يفعلوا لصلح له " فامتنع القوم عن تلقيح النخل في ذلك العام ظناً منهم أن ذلك من أمر الوحي، فلم ينتج النخل إلا شيصاً (أي بلحاً غير ملقح، وهو مر لا يؤكل) فلما رآه النبي r على هذه الصورة سأل عما حدث له فقالوا: " قلت كذا وكذا.. " قال: " أنتم أعلم بأمور دنياكم " عن عائشة وعن ثابت وعن أنس): وفي صحيح مسلم عن موسى بن طلحة عن أبيه أن النبي r قال: " ما أظن يغني ذلك شيئاً ".. ثم قال: " إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه. فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن. ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به ".
* * *
تلك قصة الحديث.. وهي واضحة الدلالة فيما تركه الرسول r للناس من أمور يتصرفون فيها بمعرفتهم، لأنهم أعلم بها وأخبر بدقائقها. إنها المسائل " العلمية الفنية التطبيقية " التي تتناولها خبرة الناس في الأرض، منقطعة عن كل عقيدة أو تنظيم سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي. وهي في الوقت ذاته تصلح للتطبيق مع كل عقيدة وكل تنظيم، لأنها ليست جزءاً من أي عقيدة أو أي تنظيم.. بل إنها حقائق علمية مجردة عن وجود الإنسان ذاته بكل عقائده وكل تنظيماته. كحقيقة اتحاد الأكسجين والإيدروجين لتكوين الماء، وحقيقة انصهار الحديد في درجة كذا مئوية. هي حقائق ليسن ناشئة عن وجود الإنسان. وإنما هي سابقة له، موجودة منذ وجدت هذه العناصر في الكون. وقصارى " تدخل " الإنسان فيها أن يكتشفها ويعرفها، ثم يستغلها لصالحه، ويطبقها في حياته العملية.
وقصة النخل لا تخرج عن كونها حقيقة علمية اكتشفها الإنسان فطبقها في حياته العملية: حقيقة التلقيح والإخصاب في عالم النبات. وهي عملية لا يتم بدونها تكون الثمرة ونضجها على النحو المعروف. والرسول r لم يقطع فيها برأي - كما هو ظاهر من الحديث - وإنما قال: " إنما ظننت ظناً ". ولعل الشك الذي ساوره r قد جاء من اعتقاده بأن الله لا بد أن يكون قد أودع فطرة الحياة ما تتم به عملياتها " البيولوجية " دون حاجة إلى تدخل الإنسان..! وطالما خطر في نفسي أنا هذا السؤال: من كان يلقح النخيل، وينقل فسائل النباتات التي لا تنمو بغير التنقيل، قبل أن يوجد الإنسان على ظهر الأرض، والنباتات كلها سابقة للإنسان في الخليقة؟! ولا شك أن علماء النبات لديهم لهذا السؤال جواب. ولكني أقول فقط: إنها خاطرة جديرة بأن تخطر على قلب إنسان!
هي إذن المسائل " التكنيكية " البحتة بتعبيرنا العلمي الحديث. المسائل التي يتحصل عليها المؤمنون والكفار سواء. ولا تؤثر بذاتها في عقيدة القلب أو اتجاه الشعور.
ومع ذلك فإن فريقاً من الناس يريدون أن يفهموا منها غير ما قصده الرسول وحدده. يريدون أن يبسطوها حتى تشمل الحياة الدنيا كلها، بتشريعاتها وتطبيقاتها، باقتصادياتها واجتماعياتها، بسياساتها وتنظيماتها. فلا يدعون لدين الله ولرسول الله مهمة غير " تنظيف القلب البشري وهدايته " بالمعنى الروحي الخالص، الذي لا شأن له بواقع الحياة اليومي، ولا شأن له بتنظيم المجتمع وسياسة الأمور فيه. ثم يسندون هذا اللون من التفكير للرسول r، ويجعلونه - هو - شاهداً عليه!!
وما أريد أن أبادر بسوء الظن! فقد يكون هذا الفريق من الناس مخلصاً في تفكيره مطمئناً إليه! وقد يكون ذلك بالنسبة إليه مهرباً " لا شعورياً " من ضغط المفاهيم الأوربية - الغربية أو الشرقية - عن الدين من جانب، و " العلوم " الاقتصادية والاجتماعية المنقطعة عن الدين من جانب آخر. مهرباً يلجأ إليه العاجزون المغلوبون، ليحتفظوا بعقيدتهم الشخصية في الله، ثم يكونوا بعد ذلك تقدميين أو تحرريين!!
ولكن قليلاً من النظر كان جديراً أن يردهم إلى التفكير الصائب والتقدير الصحيح، ويرفع عنهم هذه الذلة الفكرية التي يعانونها إزاء الغرب، فتلوي أفكارهم - بوعي أو بغير وعي - وتفسد مشاعرهم فينحرفون عن السبيل.
لو كان الإسلام رسالة " روحية " بالمعنى المفهوم لهذا اللفظ - المعنى الوجداني الخالص الذي لا شأن له بواقع الحياة اليومي - ففيم إذن كان هذا الحشد الهائل من التشريعات والتوجيهات في القرآن والحديث؟
وفيم إذن يقول الله سبحانه وتعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)! ثم يعقب في نفس الآية بالتهديد للمخالفين: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [116]؟!
فيم هذا كله إذا كانت المسألة هي " تنظيف القلب " ليس غير؟!
* * *
وإن تنظيف القلب البشري لمهمة ضخمة دون شك.. مهمة تحتاج إلى رسول! وإنها - حين تنجح - لهي الضمان الأول لسلامة الحياة كلها واستقامتها ونظافتها. فإن أخفقت.. فلا ضمان!
والإسلام يوجه لهذا القلب أكبر عناية يمكن أن يوجهها إليه نظام أو دين. فهو يربطه دائما بالله، ويوجهه دائماً لخشيته وتقواه والعمل على رضاه. ثم هو يتتبع هذا القلب في كل نزعة من نزعاته، وكل ميل من ميوله.. في الأعمال الظاهرة والمشاعر المستترة.. في السر الذي يخفى على الناس ولا يخفى على الله، بل فيما هو أخفى من السر، من المشاعر الساربة في حنايا الضمير [117].. يتتبعه في كل ذلك، عملاً عملاً وخاطراً خاطراً وفكرة فكرة.. فينظفها بخشية الله، والحياء من رقابته الدائمة التي لايغيب عنها شيء في الأرض ولا في السماء.. ويوجهه إلى صفحة الكون الواسعة، وما فيها من آيات القدرة المعجزة، ليمسح عنه الغلظة التي تحجر المشاعر، والغبش الذي يحجب عنه النور.. ويطلقه من إسار الشهوات والضرورات التي تثقله وتشده إلى الأرض، لينطلق خفيفا صافيا شفيفا يسبح الله ويفرح بهداه..
نعم.. يبذل الإسلام ذلك الجهد الضخم كله " لتنظيف القلب ".
ولكن الإسلام دين الفطرة.. الدين الذي يعرف أسرار الفطرة فيقدم لها ما يلصح لها وما يصلحها. الدين الذي يعالج الفطرة على أحسن وجه وأنسب طريقة، ليخرج منها بأقصى ما تستطيع أن تمنحه من الخير. الدين الذي يتلبس بالفطرة فيملؤها كلها ولا يترك فراغاً واحداً لا ينفذ إليه. الدين الذي يأخذ الفطرة كما هي كلاًّ واحداً لا يتجزأ، كلاً يشمل الجسم والعقل والروح، فيعالجها العلاج الشامل الذي يأخذ في حسابه الجوانب كلها. ويأخذها مرتبطاً بعضها ببعض في نظام وثيق..
ومن ثم لا يأخذ شعور الإنسان ويترك سلوكه. لا يأخذ " مبادئه " ويترك " تطبيقه ". لا يأخذ آخرته ويدع دنياه.. وإنما يعمل حساب ذلك كله في توجيهاته وتشريعاته سواء.
* * *
الإسلام يتناول الحياة كلها، بكل ما تشتمل عليه من تنظيمات. ويرسم للبشر صورة كاملة لما ينبغي أن تكون عليه حياتهم في هذه الأرض. إنه يتناول الإنسان من يقظته في الصباح الباكر حتى يسلم جنبه للنوم في آخر المساء. يعلمه ويلقنه ماذا يصنع وماذا يقول أول مايفتح عينيه، ثم حين يقوم، ثم حين يقضي ضرورته، ثم حين يؤدي صلاته، ثم حين يضرب في مناكب الأرض باحثاً عن رزقه: زارعاً أو صانعاً أو عاملاً أو بائعاً أو شارياً.. ثم حين يتناول طعامه، ثم حين يستريح من القيلولة، ثم حين يعود في آخر اليوم، ثم حين يلقى زوجه وأطفاله، ثم حين يضع جنبه، ثم حين يأخذ في النوم.. بل إذا صحا كذلك في وسط النوم فزعاً أو غير مفزّع!
وكما تناول الإنسان فرداً في جميع أحواله، فقد تناوله كذلك وهو يعيش في المجتمع مع غيره من الأفراد. فعلم المجتمع ولقنه كيف تكون الصلات بين أفراده، وكيف تكون العلاقات. وكيف ينشئ تقاليده على المودة والإخاء والحب، والتكافل والتعاون. وكيف يشتري وكيف يبيع. وكيف يزرع وكيف يجني. وكيف يملك وكيف يوزع الثروة بين الأفراد.
وكما تناول الفرد والمجتمع تناول كذلك " الدولة " ممثلة المجتمع. فأعطى ولي الأمر حقوقاً وأوجب عليه واجبات. وعلمه ولقنه كيف يحكم الناس، وكيف يقيم بينهم العدل، وكيف يوزع المال بينهم، بأي نسب وعلى أي الفئات ومن أي الموارد. وكيف يعلن الحرب وكيف يقيم السلم، وكيف يتعامل مع الدول والجماعات والأفراد..
الحياة كلها بجميع دقائقها وتفصيلاتها. الحياة المادية والفكرية والروحية. الحياة الفردية والاجتماعية. الحياة بكل ما تشمله من مفاهيم. وكانت تلك هي طريقة الإسلام الفذة في " تنظيف القلب "!
أوَ يعجب الناس من هذا القول؟! أيقولون ما للقلب والروح بواقع الأرض؟ بالاقتصاد والسياسة والاجتماع؟!
ويح الناس!
أليسوا هم الذين " اكتشفوا " في القرن التاسع عشر والقرن العشرين أن " مشاعر " الناس مرتبطة بوضعهم الاقتصادي وبعلاقات الإنتاج؟!
فيم العجب إذن إن قيل لهم إن الإسلام وهو " ينظف القلب " يضع في حسابه إقامة نظام اقتصادي عادل، ونظام اجتماعي متوازن، ونظام سياسي راشد محكم الرباط؟
أم هم يُدِلّون على الله بعلمهم؟ ويحسبون أنهم وحدهم الذين أدركوا هذه الحقيقة، بينما الله الذي خلق الخلق وهو أدرى به، قد فاته إدراكها؟! سبحانه وتعالى عما يصفونه علواً كبيراً..
كلا! إن الإسلام قد تناول هذه الحقائق كلها قبل أن يصحو لها الناس. وبيَّن أن الحياة السليمة النظيفة المتكاملة لا يمكن أن تتم في داخل القلب معزولة عن واقع الحياة. لا يمكن أن تتم في الوجدان والمشاعر إن لم يكن لها رصيد مواز لها من العمل والسلوك. ومن ثم لم يجعل الدين " عقيدة " كامنة في الضمير. وإنما جعلها نظاماً قائماً على عقيدة، ومجتمعاً قائماً على هذا النظام.
صحيح أنه لم ينزل في ذلك إلى مهاوي المادية الهابطة والمذاهب الاقتصادية المنحرفة. لم يجعل المادة هي الأصل، والإنسان هو التابع الذليل الذي لا يملك نفسه إزاء التطورات الحتمية للاقتصاد والإنتاج.. وإنما جعل الإنسان هو الأصل. جعل القلب البشري هو المصدر الذي تصدر عنه الطاقة ويصدر عنه الإشعاع. ولكنه في الوقت ذاته لم يشأ أن يجعله معلقاً في البرج العاجي، يطلق شحنته الهائلة في الفضاء في قفزات الخيال وسبحات الروح. وإنما أراد لهذه الطاقة الضخمة أن تنتج في واقع الأرض، وأن تنشئ مجتمعها ونظامها بوحي من العقيدة وهدي من الله، فيتوازن بذلك الشعور والعمل، والوجدان والسلوك، ويتوازن بذلك " الإنسان ".
وكان هذا هو الأمر الطبيعي ما دام الإسلام " دين الفطرة ".
إن المشاعر المرفرفة والوجدان المشرق والأفكار الجميلة لا قيمة لها إذا لم تتحول إلى قوة بانية في عالم الواقع، إذا لم تتحول إلى حقيقة ظاهرة ملموسة يحس بها الناس.
والأعمال " العظيمة " والإنتاج الباهر والحركة الفاعلة لا قيمة لها إذا لم تستند إلى شعور عميق بالخير، وإحساس حي بروابط الأخوة الإنسانية والالتقاء إلى الله.
بل هما - بدون هذا التزاوج - ينقلبان إلى شر مدمر للبشرية:
الأولى تنقلب إلى زهادة وعزلة تتوقف بها الحياة.
والثانية تنقلب إلى طغيان كافر يدمر الحياة على وجه الأرض.
ولا بد منهما معاً لتستقيم الحياة، مرتبطين متمازجين، لا انفصال بينهما ولا افتراق!
تلك هي " الفطرة " البشرية.
والإسلام دين الفطرة وكلمة الله.
ومن ثم لم يكن بد - وهو " ينظف القلب البشري " - أن يجعل في حسابه الباطن والظاهر، والشعور والعمل، والوجدان والسلوك.
وهو بذلك واقعي إلى أقصى حدود الواقعية...
إنه يعنى أشد العناية بعالم الروح ونظافة الضمير. وإنه يثق في أن القلب البشري مصدر الطاقة ومصدر الإشعاع. ولكنه - مع ذلك - لا يفترض في الناس كلهم أنهم من أولي العزم! لا يفترض فيهم أنهم يستطيعون دائماً أن يعيشوا بقلوب نظيفة في مجتمع غير نظيف، أو يمارسوا العدالة في مجتمع غير عادل، أو يحرصوا على الفضائل في مجتمع يحرص على المنكرات.
ففي " الفطرة " البشرية ضعف يحتاج إلى سند ويحتاج إلى معونة: (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً).
هناك ثقلة الضرورة ودفعة الشهوات.
وهي " واقع " لا مصلحة في تجاهله، ولا سبيل إلى نكرانه.
ولا بد من تنظيمه.. لا بد من تنظيمه ليستطيع الإنسان أن يفرغ من ضغطه على الأعصاب والمشاعر. وينطلق حيث يشاء، حيث يليق بخليفة الله أن يكون.
من أجل ذلك يحرص الإسلام على واقع المجتمع أن يكون نظيفاً ليعاون الفرد على نظافة الضمير. ولن تكون نظافة المجتمع إلا بنظام اقتصادي عادل، ونظام اجتماعي متوازن، ونظام سياسي راشد محكم الرباط بالعقيدة الصحيحة والإيمان الصحيح.
* * *
من صميم مهمة الدين إذن في تنظيف القلب كانت هذه التشريعات وهذه التوجيهات التي تتناول الأسرة والمجتمع، وسياسة الحكم، وسياسة المال. يستوي في ذلك التشريع الاقتصادي، والتشريع السياسي، والتشريع الجنائي، والتشريع المدني، والتشريع الدولي.. والتوجيهات العديدة المتعلقة بكل هذه الشئون. ولم يكن الإسلام - وهو جاد في تناول الإنسان والحياة البشرية بالتنظيم والتنظيف - ليغفل هذه الشئون الواقعية كلها، وينصرف إلى تهذيب الضمير في عالم المثل والأحلام. ولم يكن رسول الإسلام r ليتخلى عن مهمته الهائلة في ذلك الشأن، وينفض يديه منها، ويقول للناس: " أنتم أعلم بأمور دنياكم " أي تصرفوا أنتم في تشريعاتكم وتنظيماتكم، في سياسة المال وفي سياسة الحكم، في علاقات المجتمع، وفي القوانين التي تنظم الحياة..
كلا! لم يكن ليفعل ذلك. ولو فعل فما أدى إذن رسالة الله. والله هو الذي يقول له في مجال التكليف: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [118].
* * *
ولكن هذا الفريق من الناس الذي ذكرناه آنفا، أو فريقاً غيره يقول: إن الحياة تتطور. فكيف إذن يمكن أن يشرع الله أو يشرع رسوله للأجيال التالية لعصر القرآن؟ إن ما كان يصلح منذ ألف وأربعمائة عام لا يصلح اليوم. وما كان حركة تقدمية ثورية في ذلك التاريخ يصبح اليوم أمراً رجعياً عتيقاً متجمداً لا يجاري التطور ولا يصلح للحياة.. ومن ثم قال الرسول r هذه الكلمة ليفتح الباب للتطور، ولا يقف بالناس عند تشريعات وتنظيمات قد اقتضتها بيئة معينة وظروف معينة، وإنما يتركهم يشرعون وينظمون فيما هم أدرى به من الأمور. " التطور ".. ويح الناس من التطور!
إنه هوس يصيب هذا القرن العشرين! هوس يخيِّل إليهم أن الحياة كلها بلا قواعد، والكون كله بلا ناموس!
لقد كانت فكرة التطور اكتشافاً جديداً بالنسبة لأوربا في تاريخها الحديث، بعد أن غرقت فترة طويلة في ظلام العصور الوسطى، لا تعلم شيئاً ولا تساير ركب الحياة. وفي القرن التاسع عشر امتلأت رءوس المفكرين والعلماء بفكرة التطور، في العلم والسياسة والاقتصاد والاجتماع، ثم تلقفتها الجماهير في نهاية القرن الفائت وفي خلال هذا القرن.. تلقفتها بما يشبه اللوثة.. تفسر بها كل شيء وتفسد بها كل شيء!
بينما العالم الإسلامي لم يكن غريباً عن فكرة التطور وآثاره في حياة الجماعة. فقد فطن إليها ابن خلدون في مقدمته وعالجها علاجاً " علمياً " وافياً يشهد له بالبراعة والتدقيق. ولقد فطن إليها عمر بن عبد العزيز في صدر الإسلام إذ يقول " يجدّ للناس من الأقضية بقدر ما يجد لهم من القضايا " وفطن إليها الفقه الإسلامي كله، وهو يضع التفريعات الدائمة في كل شئون الحياة النامية المتجددة جيلاً بعد جيل.
ولكن الفكر الإسلامي لم يخرج عن صوابه وهو يحس بالتطور ويساوق خطاه. فلم يفهم من التطور أن الحياة بلا قواعد، والكون بلا ناموس! لم يفهم منه أن ينفصل عن الأصول الثابتة وينطلق بلا دليل!
وجاء " العلم " في القرون الأخيرة يؤيد الفهم الإسلامي للتطور، ولا يؤيد اللوثة التي أصابت الجماهير في أوربا، وأشباه العلماء هناك، وانتقلت عن طريقهم إلى الشرق في عصرنا الأخير.
* * *
الحياة البشرية تتطور، والكون كله يتطور.. نعم! ولكن هذا لا ينفي وجود قواعد ثابتة في هذا الكون وفي الحياة البشرية.. أولها وأبسطها، وأقربها إلى البديهة، صدور الكون كله عن إرادة الله الخالق المدبر، وانتظام سننه ونواميسه انتظاماً دقيقاً معجزاً لا يخل ثانية ولا ثالثة، ولا قيد شعرة في هذا الفضاء الهائل الرهيب! السدم تتطور إلى نجوم.. والنجوم تتطور وهو تدور، فتسخن وتبرد، وتتكور وتنبعج. وتسرع وتبطئ.. ولكن شيئاً واحداً من ذلك لا يحدث بلا قانون، وشيئاً واحداً من ذلك لا يحدث مخالفاً للناموس الناموس الذي يكشف العلم طرفاً منه كلما تيسرت له الوسائل وأتيحت له الأدوات.
ومجموعتنا الشمسية الصغيرة التي نحن جزء منها، تتبع نواميس الكون وهي تتطور، وتسير على النهج الذي أراده لها الله منذ الأزل، لا تنحرف عنه لحظة إلى يمين أو شمال.
والأرض التي نعيش عليها تحكمها - في تطورها - النواميس الأزلية التي تحكم الكون، فيسير كل شيء على سطحها كما أراده الله وفق قانونه الذي ارتضاه.
الأكسجين هو الأكسجين.. والإيدروجين هو الإيدروجين. في الأرض والشمس وجميع النجوم سواء. والماء قدر من الأكسجين وقدران من الإيدروجين (أيد2) لا تتغير هذه النسبة سواء ركب الماء في المعمل أم هطل من السماء.. والمطر هو المطر.. بخار يصعد من البحر، فينطلق إلى الجو، فيتكاثف، فيتركز ويثقل، فينزل إلى الأرض.. سواء حدث ذلك " طبيعياً " أم أنزل صناعياً من السماء.. لا يتغير قانون واحد من قوانينه، ولا يختل في مساره عن الناموس.
والحياة على الأرض كذلك.. تطورت.. لا نعلم علم اليقين كيف، وإن كنا نحاول أن نصل إلى اليقين.. ولكنا نجد من أبحاث العلم ما يؤكد لنا تأكيداً قاطعاً أن الحياة لم تنشأ على الأرض مصادفة، ولم يكن استمرارها مئات الألوف من السنين كذلك بالمصادفة. وإنما هو نتيجة النظام المحدد المقرر الذي بنيت به المجموعة الشمسية وأخذت به مسارها في الفضاء. بحيث لو اختلت نسبة واحدة من النسب لانعدمت بذلك الحياة.. فهي إذن إرادة االخالق، وتدبيره الدقيق المعجز. ولولاه لم تقم حياة[119].
والإنسان بعد ذلك.. الإنسان الذي ملأه غرور العلم.. وأصابته لوثة التطور.. ذلك الإنسان يتطور. تتغير حياته يوماً بعد يوم، ويستحدث جديداً كل يوم. ولكنه مع ذلك خاضع للنواميس. النواميس التي تدخل التطور في حسابها، فإذا التطور ذاته جزء من القانون الثابت الذي يحكم الكون ويحكم الحياة!
* * *