نقل تلك المقولة الفقيه الأصولي تقي الدين بن تيمية
"ينصر الله الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة" مقولة شائعة متداولة، غالبا ما تستدعى في أوساط إسلامية؛ للاستدلال بها على أهمية العدل ودوره في استقرار الدول ودوام ملكها.
نقل تلك المقولة الفقيه الأصولي تقي الدين بن تيمية في كتبه، مستحسنا لها، وتتابع الناس من بعده على ذكرها والاستشهاد بها. لكن، وبحسب باحثين، فثمة إشكالات تثار عليها، إذ كيف ينصر الله الدولة الكافرة وإن كانت عادلة، مع أنه تعالى لا يمنح نصره إلا لرسله وعباده المؤمنين على سبيل الإكرام والتأييد لهم؟ وما مدى صحة تلك المقولة؟ وما هي أسانيدها الشرعية؟
في سياق مناقشته لتلك الإشكالات، بيَّن الباحث في الفكر السياسي الإسلامي، محمد الصياد، أن "الله وضع في هذه الدنيا قوانين كونية، وجعل سننا إلهية، لا تتبدل ولا تتغير من أجل أحد، فالمسلمون عندما لا يأخذون بزمام الحضارة وأسباب النهضة، ولا يتجهون لبناء المصانع والمزارع، وبناء أنظمة سياسية محترمة تحترم حقوق المواطنين، وتؤمن بالتداول السلمي للسلطة، وتوزع الثروات، فإنهم لا يحترمون تلك القوانين والسنن".
أما حينما يقيمون نظاما سياسيا مؤسسيا، لا دخل للعوارض البشرية فيه، ويأخذون بأسباب الحضارة والنهضة والمدنية والبناء، فإنهم بذلك يحترمون القوانين والسنن، ويمكن لهم أن يشاركوا في صناعة حضارة عالمية وإنسانية، أما بقاؤهم خارج نطاق العصر العلمي والتقدمي الصناعي والاقتصادي، فأنى لهم الانتصار والغلبة"؟
وتساءل الباحث المصري الصياد: "لو نصرهم الله مع تخلفهم وغبائهم وخلافهم وتشظيهم، أيكون وقتئذ عادلا؟ ونحن نعلم أن العدل من أسمائه عز وجل، والظلم من أقبح ما حذرنا الله منه".
وأشار الصياد إلى أن "كفر الدولة الكافرة، لا علاقة له بالنصر، بل حاز الكفار النصر بسبب أخذهم بالقوانين الكونية والسنن الإلهية، التي سبقت الإشارة إليها، ومن ثم استطاعوا بناء أنظمة سياسية محترمة جدا، وأنظمة تعليمية وتربوية قوية وذات معايير منهجية، واعتمدوا الفلسفة في علومهم ومناهجهم".
وأضاف: "وهم كذلك يطورون أنفسهم كل يوم، فانتصارهم طبيعي جدا؛ لأنهم أعدوا إعدادا محكما على كل المستويات، ونحن لم نعد أي شيء"، لافتا إلى أنه "ليس كل الكافرين انتصروا في معاركهم، بل فقط من أخذ منهم بزمام السنن الإلهية والقوانين الكونية، وهذا دليل على أن نصر الله لا يحابي أبيض ولا أسود، بل يكون فقط لمن يأخذ بقوانينه ويلتزم بها ويُفعلها.
من جهته، أوضح الباحث الشرعي الأردني، طارق السرحان، أن ابن تيمية ذكر تلك المقولة من غير أن يبين مصدرها وسندها الشرعي، بل قال قبل نقله لها: "ولهذا يروى"، ولعله أراد بها أن ما يقع من انتصار الدولة العادلة وإن كانت كافرة، فإنما يقع وفق قدر الله الكوني، المعلق بأسبابه، فمتى وجدت ترتبت عليه نتائجها، ولا يعني تفضيل الله لهم ولا إكرامه لهم".
وواصل السرحان بيانه بالإشارة إلى أن "الله ذكر في القرآن الكريم أن نصره لعباده المؤمنين إنما يكون لهم على سبيل الإكرام لهم كما في قوله تعالى {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}، وهو سبحانه ألزم نفسه بنصر المؤمنين حينما يأخذون بأسباب النصر كما قال {وكان حقا علينا نصر المؤمنين}.
وأضاف السرحان لكنه سبحانه لم يذكر أنه ينصر الكفار، فما يقع لهم من الغلبة وقيام دولتهم ودوامها بالعدل، إنما يجري وفق السنن والقوانين التي أقامها في كونه وخلقه".
وأنهى السرحان حديثه بالقول: "لو استوى نصر الله لعباده المؤمنين، ونصر الله للكافرين، لتعطلت الشرائع، ولم يعد ثمة فرق بين إيمان وكفر، إذ الكل سواء في ذلك".
بدوره، رأى الكاتب والباحث السوري، أحمد الرمح، أن تلك المقولة صحيحة، وتنسجم تمام الانسجام مع مقاصد القرآن الكريم، الذي دعا المسلمين لاعتماد قوانين السببية في التعامل مع الظواهر العامة، مستشهدا لذلك بقوله تعالى {ثم أتبع سببا}، وبقوله تعالى {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}.
واعتبر الرمح انتصار الدولة العادلة مع كفرها أمرا عاديا يتوافق مع السنن والقوانين الفاعلة، منتقدا ما يتصوره بعض المسلمين من أن الله سينصرهم لمجرد كونهم مسلمين، مع تخلفهم عن ركب الحضارة والقوة والمدنية، وافتقارهم إلى أبسط أسباب القوة والفاعلية الحضارية.
ضرورة بث ثقافة السببية والأخذ بالأسباب؛ لأن عصر المعجزات انتهى، فكل أمة من أمم الأرض تثبت حضورها وفاعليتها بقدر ما تأخذ بأسباب القوة" مبينا أن "العقل الغربي فهم ذلك كله، وأدرك قوانين التسخير الإلهي لكل ما في الكون لخدمة الإنسان، فاستثمرها، وعمل عليها بجد واجتهاد".
ولفت الرمح إلى أن تدبر قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} يرشدنا إلى أن تدخل السماء المباشر في الظواهر العامة انتهى، وبقي دور العقل والأخذ بالأسباب وفق قوانين السببية، واكتشاف أسرار وقوانين التسخير التي أودعها في كونه، واستثمارها لصالح الإنسان".
وختم الرمح حديثه بالقول: "من التزم تلك القوانين، وجدَّ واجتهد في اكتشافها واستثمارها، فإنه بالتأكيد سيحصل على نتائجها المترتبة عليها في الدنيا؛ بصرف النظر عن إيمانه أو كفره، تماما كما هو حال الدول الغربية، فهي تعمل بقوانين السببية، وتجني نتائجها. أما نحن، فندعي الإيمان، منتظرين معجزة سماوية لن تحصل أبدا"، بحسب عبارته.