(1)
08 نوفمبر 2017
محمد إلهامي باحث ومؤرخ مصري
قال ابن خلدون: «كان ينبغي أن تُلْحَق دولة معاوية وأخباره بدول الخلفاء وأخبارهم؛ فهو تاليهم في الفضل والعدالة والصحبة»(1).
لقد كانت الدولة الأموية هي أفضل دول الإسلام بعد دولة الخلافة الراشدة، ولم تأتِ بعدها دولة أفضل منها؛ فلقد اتَّسعت فيها الفتوح ما لم تَتَّسع من قبل، وأعادت فتح ما كان قد خرج من دولة الإسلام في زمن الفتنة.
ثم أضافت إليها أرضًا وبلادًا جديدة، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وحفظت بقاء الدولة موحدة يجمعها خليفة واحد يحكم من أقصاها إلى أقصاها.
تبدأ الدولة الأموية منذ تنازل الحسن بن علي -رضي الله عنه- عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-؛ فانتهت بذلك سنوات الفتنة التي شغلت الأُمَّة الإسلامية، وسُمِّي هذا العام بـ «عام الجماعة».ومعاوية -رضي الله عنه- صحابي جليل، أسلم قُبيْل الفتح، وحسن إسلامه، وكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاهد في حنين والطائف، ثم ولاه عمر بن الخطاب ولاية دمشق بعد موت أخيه يزيد بن أبي سفيان، ثم ولي كلَّ الشام في عهد عثمان -رضي الله عنه-، واستمرَّ يحكم الشام في عهد علي وقت الفتنة الكبرى؛ حتى تنازل له الحسن عن الخلافة، فكان حاكمًا أربعين سنة؛ منها عشرين في الإمارة، وعشرين أخرى في الخلافة، فمات سنة 60هـ، وعمره ثمانية وسبعون عامًا.
وكان معاوية محبوبًا غاية الحب في الشام، وهو أساس حب أهل الشام لبني أمية وولائهم لهم، وكان في غاية الحلم والذكاء، ويُضرب به المثل فيهما، وحكم ملكًا عظيمًا وساسه بخير سياسة؛ حتى لُقِّبَ بـ «كسرى العرب»، وكان حكمه نهاية للفتنة التي أصابت المسلمين، وبداية جديدة لعودة الفتوحات (2).قال ابن تيمية: «لم يتولَّ أحد من الملوك خيرًا من معاوية؛ فهو خير ملوك الإسلام، وسيرته خير من سيرة سائر الملوك بعده»(3). وللإمام الذهبي -مؤرِّخ الإسلام- كلمة بليغة في أمر الفتنة التي توزع فيها الناس بين المحب والمُبْغِض، قال: «وخلف معاوية خلقٌ كثير يحبُّونه ويتغالون فيه، ويُفَضِّلونه، إما قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء، وإمَّا قد ولدوا في الشام على حبه.
وتربى أولادهم على ذلك. وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة، وعدد كثير من التابعين والفضلاء، وحاربوا معه أهل العراق، ونشأوا على النصب - نعوذ بالله من الهوى- كما قد نشأ جيش علي - رضي الله عنه- ورعيته -إلا الخوارج منهم- على حبه، والقيام معه، وبغض مَنْ بغى عليه، والتبرِّي منهم، وغلا خلق منهم في التشيع.فبالله كيف يكون حال مَنْ نشأ في إقليم، لا يكاد يُشاهد فيه إلَّا غاليًا في الحب، مفرطًا في البغض، ومَنْ أين يقع له الإنصاف والاعتدال؟ فنحمد الله على العافية الذي أوجدنا في زمان قد انمحص فيه الحق، واتضح من الطرفين، وعرفنا مآخذ كل واحد من الطائفتين، وتبصرنا، فعذرنا، واستغفرنا، وأحببنا باقتصاد، وترحمنا على البغاة بتأويل سائغ في الجملة، أو بخطأ -إن شاء الله- مغفور، وقلنا كما عَلَّمنا الله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10]. وترضينا -أيضًا- عمن اعتزل الفريقين، كسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، ومحمد بن مسلمة، وسعيد بن زيد، وخلقٌ، وتبرَّأنا من الخوارج المارقين الذين حاربوا عليًّا، وكفروا الفريقين»(4).استقرَّت الدولة عبر عشرين سنة، ولما أحسَّ معاوية - رضي الله عنه- بقرب أجله رتَّب الأمر ليتولَّى من بعده ولده يزيد بن معاوية، ورأى أن ذلك هو الأفضل لمصلحة الأُمَّة، والمانع لتفرقها ودخولها في فتن جديدة؛ لا سيما والدولة قد اتَّسعت، وكثرت الأمم الداخلة فيها، وما هي بحاجة لأن تحتمل نزاعات جديدة قد تودي بها.
والتحليل المتأنِّي لجميع الروايات ولأحوال هذه الفترة يُفضي إلى القول بأن هذا القرار كان هو القرار الأصوب في هذه الفترة(5)، وقد لخَّص هذا ابن خلدون حين قال: «الذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذٍ من بني أمية؛ إذ بنو أمية يومئذٍ لا يرضون سواهم، وهم عصابة قريش، وأهل الملة أجمع، وأهل الغلب منهم، فآثره بذلك دون غيره ممن يُظَنُّ أنه أولى بها، وعدل عن الفاضل إلى المفضول؛ حرصًا على الاتفاق واجتماع الأهواء، الذي شأنه أهمُّ عند الشارع، وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا؛ فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك.
وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه، فليسوا ممن يأخذهم في الحقِّ هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزَّة في قبول الحقِّ؛ فإنهم كلهم أجلُّ من ذلك وعدالتهم مانعة منه»(6).
كثير من الروايات وردت عن فسق يزيد بن معاوية وتهتُّكه وشربه للخمر، وثمة روايات أخرى تصمه بأكثر من هذا، ولا يصح شيء من هذه الروايات، بل إن يزيد كان من الشخصيات القوية والمؤهَّلة للخلافة -ولو لم يكن أفضل الموجودين بطبيعة الحال- وقد كان قائد الجيش الذي غزا القسطنطينية في عهد أبيه.
وبايعت الأمصار يزيد بن معاوية، ولم يرفض بيعته إلَّا أربع شخصيات: الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن أبي بكر، وعبد الله بن عمر، فلمَّا تُوُفِّيَ معاوية كان محمد بن أبي بكر قد مات، وكان عبد الله بن عمر معترضًا على مبدأ مبايعة الخليفة القادم في حياة القائم.فلمَّا تُوُفِّيَ معاوية وبويع ليزيد بايعه عبد الله بن عمر، وبقى عبد الله بن الزبير والحسين على معارضتهما ليزيد، فأمَّا عبد الله بن الزبير فلم يخرج، وأمَّا الحسين فقد غَرَّه أهل الكوفة وطلبوا قدومه إلى الكوفة؛ لكي يتزعمهم في الخروج على يزيد. كثير من الصحابة والتابعين نصحوا الحسين بعدم الخروج، لا سيما وأن أهل الكوفة لم يَبْدُ منهم عزمٌ جادٌّ؛ فما زال الوالي الأموي يحكمهم ولم يخرجوا عليه، إلَّا أنَّ الحسين - رضي الله عنه - أصرَّ على الخروج، وأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة ليأخذ له البيعة، فما كان مصير ابن عمه إلَّا الاعتقال.ولما وصل الحسين إلى الكوفة كان حال أهلها كما قال الفرزدق: «قلوبهم معه وسيوفهم عليه». وما صمدوا معه ولا ثبتوا أمام والي العراق ولا جيش الأمويين الذي كان أهله من العراق أيضًا، وسارت الأحداث كأسوأ ما تكون المسيرة؛ حتى أسفرت عن استشهاد الحسين في مأساة كربلاء الشهيرة.
كان استشهاد الحسين مصيبة من المصائب التي نزلت بالأُمَّة المسلمة، لكنها على كل حال ليست أفدح من استشهاد عمر وعثمان وعلي بن أبي طالب، وتضخيم هذه الحادثة وحدها إنما هو في جوهره تضخيم لمصالح سياسية وقتية، ونقطة من نقاط الاشتعال بين السُّنَّة والشيعة، وما ثمة أحد في السُّنَّة يحبُّ يزيد أكثر مما يحبُّ الحسين، إلَّا أنها إعادة إنتاج الأحداث بما اشتملت عليه من روايات ضعيفة وباطلة رواها كذابون لا يعتدُّ بهم(7).
على كل حال؛ انتهت ثورة الحسين باستشهاده؛ لكنها أشعلت القلوب، لا سيما وأن يزيد -وإن لم يُرضه قتلُ الحسين وبكى عليه وأكرم أهل بيته- لم يأخذ إجراءً عمليًّا ضد عبيد الله بن زياد (والي الكوفة) أو عمر بن سعد (قائد الجيش)، وكلاهما لم يتركا للحسين فرصة للعودة أو لإنهاء القتال، وإنما أرادوه أسيرًا فأبى، وقاتل حتى قُتِل، فكان من آثار استشهاده ثورة في العراق قام بها مجموعة ممَّنْ شعروا بالندم لخذلانهم الحسين، وسموا أنفسهم «التوَّابين».
إلَّا أن الثورة الأخطر والأكبر كانت في المدينة المنورة. وهذا ما نعرضه في المقال القادم بإذن الله.
(1) ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 2/ 188.
(2) ابن سعد: الطبقات الكبرى 7/ 406، والبغوي: معجم الصحابة 5/ 363، وابن عساكر: تاريخ دمشق 59/ 57 وما بعدها (وفيه كثير من الأحاديث الضعيفة)، وابن الأثير: أسد الغابة 4/ 416، والذهبي: سير أعلام النبلاء 3/ 119 وما بعدها، وابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة 6/ 151.
(3) ابن تيمية: منهاج السنة النبوية 7/ 328.
(4) الذهبي: سير أعلام النبلاء 3/ 128.
(5) ناقشت هذا في دراسة منفصلة بعنوان: «هل كان معاوية محقًّا حين عهد بالخلافة إلى يزيد؟»
(6) ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 1/ 210، 211.
(7) راجع في هذا: د. علي الصلابي: الدولة الأموية 1/ 482 وما بعدها، ويُعَدُّ هذا من أوفى ما كُتب في الموضوع، فقد جمع فيه خلاصة ما كُتب في المراجع الأخرى.
08 نوفمبر 2017
محمد إلهامي باحث ومؤرخ مصري
قال ابن خلدون: «كان ينبغي أن تُلْحَق دولة معاوية وأخباره بدول الخلفاء وأخبارهم؛ فهو تاليهم في الفضل والعدالة والصحبة»(1).
لقد كانت الدولة الأموية هي أفضل دول الإسلام بعد دولة الخلافة الراشدة، ولم تأتِ بعدها دولة أفضل منها؛ فلقد اتَّسعت فيها الفتوح ما لم تَتَّسع من قبل، وأعادت فتح ما كان قد خرج من دولة الإسلام في زمن الفتنة.
ثم أضافت إليها أرضًا وبلادًا جديدة، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وحفظت بقاء الدولة موحدة يجمعها خليفة واحد يحكم من أقصاها إلى أقصاها.
تبدأ الدولة الأموية منذ تنازل الحسن بن علي -رضي الله عنه- عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-؛ فانتهت بذلك سنوات الفتنة التي شغلت الأُمَّة الإسلامية، وسُمِّي هذا العام بـ «عام الجماعة».ومعاوية -رضي الله عنه- صحابي جليل، أسلم قُبيْل الفتح، وحسن إسلامه، وكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاهد في حنين والطائف، ثم ولاه عمر بن الخطاب ولاية دمشق بعد موت أخيه يزيد بن أبي سفيان، ثم ولي كلَّ الشام في عهد عثمان -رضي الله عنه-، واستمرَّ يحكم الشام في عهد علي وقت الفتنة الكبرى؛ حتى تنازل له الحسن عن الخلافة، فكان حاكمًا أربعين سنة؛ منها عشرين في الإمارة، وعشرين أخرى في الخلافة، فمات سنة 60هـ، وعمره ثمانية وسبعون عامًا.
وكان معاوية محبوبًا غاية الحب في الشام، وهو أساس حب أهل الشام لبني أمية وولائهم لهم، وكان في غاية الحلم والذكاء، ويُضرب به المثل فيهما، وحكم ملكًا عظيمًا وساسه بخير سياسة؛ حتى لُقِّبَ بـ «كسرى العرب»، وكان حكمه نهاية للفتنة التي أصابت المسلمين، وبداية جديدة لعودة الفتوحات (2).قال ابن تيمية: «لم يتولَّ أحد من الملوك خيرًا من معاوية؛ فهو خير ملوك الإسلام، وسيرته خير من سيرة سائر الملوك بعده»(3). وللإمام الذهبي -مؤرِّخ الإسلام- كلمة بليغة في أمر الفتنة التي توزع فيها الناس بين المحب والمُبْغِض، قال: «وخلف معاوية خلقٌ كثير يحبُّونه ويتغالون فيه، ويُفَضِّلونه، إما قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء، وإمَّا قد ولدوا في الشام على حبه.
وتربى أولادهم على ذلك. وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة، وعدد كثير من التابعين والفضلاء، وحاربوا معه أهل العراق، ونشأوا على النصب - نعوذ بالله من الهوى- كما قد نشأ جيش علي - رضي الله عنه- ورعيته -إلا الخوارج منهم- على حبه، والقيام معه، وبغض مَنْ بغى عليه، والتبرِّي منهم، وغلا خلق منهم في التشيع.فبالله كيف يكون حال مَنْ نشأ في إقليم، لا يكاد يُشاهد فيه إلَّا غاليًا في الحب، مفرطًا في البغض، ومَنْ أين يقع له الإنصاف والاعتدال؟ فنحمد الله على العافية الذي أوجدنا في زمان قد انمحص فيه الحق، واتضح من الطرفين، وعرفنا مآخذ كل واحد من الطائفتين، وتبصرنا، فعذرنا، واستغفرنا، وأحببنا باقتصاد، وترحمنا على البغاة بتأويل سائغ في الجملة، أو بخطأ -إن شاء الله- مغفور، وقلنا كما عَلَّمنا الله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10]. وترضينا -أيضًا- عمن اعتزل الفريقين، كسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، ومحمد بن مسلمة، وسعيد بن زيد، وخلقٌ، وتبرَّأنا من الخوارج المارقين الذين حاربوا عليًّا، وكفروا الفريقين»(4).استقرَّت الدولة عبر عشرين سنة، ولما أحسَّ معاوية - رضي الله عنه- بقرب أجله رتَّب الأمر ليتولَّى من بعده ولده يزيد بن معاوية، ورأى أن ذلك هو الأفضل لمصلحة الأُمَّة، والمانع لتفرقها ودخولها في فتن جديدة؛ لا سيما والدولة قد اتَّسعت، وكثرت الأمم الداخلة فيها، وما هي بحاجة لأن تحتمل نزاعات جديدة قد تودي بها.
والتحليل المتأنِّي لجميع الروايات ولأحوال هذه الفترة يُفضي إلى القول بأن هذا القرار كان هو القرار الأصوب في هذه الفترة(5)، وقد لخَّص هذا ابن خلدون حين قال: «الذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذٍ من بني أمية؛ إذ بنو أمية يومئذٍ لا يرضون سواهم، وهم عصابة قريش، وأهل الملة أجمع، وأهل الغلب منهم، فآثره بذلك دون غيره ممن يُظَنُّ أنه أولى بها، وعدل عن الفاضل إلى المفضول؛ حرصًا على الاتفاق واجتماع الأهواء، الذي شأنه أهمُّ عند الشارع، وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا؛ فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك.
وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه، فليسوا ممن يأخذهم في الحقِّ هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزَّة في قبول الحقِّ؛ فإنهم كلهم أجلُّ من ذلك وعدالتهم مانعة منه»(6).
كثير من الروايات وردت عن فسق يزيد بن معاوية وتهتُّكه وشربه للخمر، وثمة روايات أخرى تصمه بأكثر من هذا، ولا يصح شيء من هذه الروايات، بل إن يزيد كان من الشخصيات القوية والمؤهَّلة للخلافة -ولو لم يكن أفضل الموجودين بطبيعة الحال- وقد كان قائد الجيش الذي غزا القسطنطينية في عهد أبيه.
وبايعت الأمصار يزيد بن معاوية، ولم يرفض بيعته إلَّا أربع شخصيات: الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن أبي بكر، وعبد الله بن عمر، فلمَّا تُوُفِّيَ معاوية كان محمد بن أبي بكر قد مات، وكان عبد الله بن عمر معترضًا على مبدأ مبايعة الخليفة القادم في حياة القائم.فلمَّا تُوُفِّيَ معاوية وبويع ليزيد بايعه عبد الله بن عمر، وبقى عبد الله بن الزبير والحسين على معارضتهما ليزيد، فأمَّا عبد الله بن الزبير فلم يخرج، وأمَّا الحسين فقد غَرَّه أهل الكوفة وطلبوا قدومه إلى الكوفة؛ لكي يتزعمهم في الخروج على يزيد. كثير من الصحابة والتابعين نصحوا الحسين بعدم الخروج، لا سيما وأن أهل الكوفة لم يَبْدُ منهم عزمٌ جادٌّ؛ فما زال الوالي الأموي يحكمهم ولم يخرجوا عليه، إلَّا أنَّ الحسين - رضي الله عنه - أصرَّ على الخروج، وأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة ليأخذ له البيعة، فما كان مصير ابن عمه إلَّا الاعتقال.ولما وصل الحسين إلى الكوفة كان حال أهلها كما قال الفرزدق: «قلوبهم معه وسيوفهم عليه». وما صمدوا معه ولا ثبتوا أمام والي العراق ولا جيش الأمويين الذي كان أهله من العراق أيضًا، وسارت الأحداث كأسوأ ما تكون المسيرة؛ حتى أسفرت عن استشهاد الحسين في مأساة كربلاء الشهيرة.
كان استشهاد الحسين مصيبة من المصائب التي نزلت بالأُمَّة المسلمة، لكنها على كل حال ليست أفدح من استشهاد عمر وعثمان وعلي بن أبي طالب، وتضخيم هذه الحادثة وحدها إنما هو في جوهره تضخيم لمصالح سياسية وقتية، ونقطة من نقاط الاشتعال بين السُّنَّة والشيعة، وما ثمة أحد في السُّنَّة يحبُّ يزيد أكثر مما يحبُّ الحسين، إلَّا أنها إعادة إنتاج الأحداث بما اشتملت عليه من روايات ضعيفة وباطلة رواها كذابون لا يعتدُّ بهم(7).
على كل حال؛ انتهت ثورة الحسين باستشهاده؛ لكنها أشعلت القلوب، لا سيما وأن يزيد -وإن لم يُرضه قتلُ الحسين وبكى عليه وأكرم أهل بيته- لم يأخذ إجراءً عمليًّا ضد عبيد الله بن زياد (والي الكوفة) أو عمر بن سعد (قائد الجيش)، وكلاهما لم يتركا للحسين فرصة للعودة أو لإنهاء القتال، وإنما أرادوه أسيرًا فأبى، وقاتل حتى قُتِل، فكان من آثار استشهاده ثورة في العراق قام بها مجموعة ممَّنْ شعروا بالندم لخذلانهم الحسين، وسموا أنفسهم «التوَّابين».
إلَّا أن الثورة الأخطر والأكبر كانت في المدينة المنورة. وهذا ما نعرضه في المقال القادم بإذن الله.
(1) ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 2/ 188.
(2) ابن سعد: الطبقات الكبرى 7/ 406، والبغوي: معجم الصحابة 5/ 363، وابن عساكر: تاريخ دمشق 59/ 57 وما بعدها (وفيه كثير من الأحاديث الضعيفة)، وابن الأثير: أسد الغابة 4/ 416، والذهبي: سير أعلام النبلاء 3/ 119 وما بعدها، وابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة 6/ 151.
(3) ابن تيمية: منهاج السنة النبوية 7/ 328.
(4) الذهبي: سير أعلام النبلاء 3/ 128.
(5) ناقشت هذا في دراسة منفصلة بعنوان: «هل كان معاوية محقًّا حين عهد بالخلافة إلى يزيد؟»
(6) ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 1/ 210، 211.
(7) راجع في هذا: د. علي الصلابي: الدولة الأموية 1/ 482 وما بعدها، ويُعَدُّ هذا من أوفى ما كُتب في الموضوع، فقد جمع فيه خلاصة ما كُتب في المراجع الأخرى.