الشركس وأثرهم في الحضارة العربية
محمد حسين الشيخ *
"يا عزيز يا عزيز كُبة تاخد الإنجليز"، كان هذا واحداً من هتافات المصريين ضد الاحتلال البريطاني... فمن هو عزيز؟
هو عزيز المصري، المولود في القاهرة، وأحد أقطاب الوطنية المصرية وأحد الآباء المؤسسين للقومية العربية. فهو القائد العسكري للثورة العربية عام 1916 ضد الحكم العثماني، وعيّنه الشريف حسين وكيلاً لوزارة الحربية، وحارب الإنجليز في العراق، وحارب الإيطاليين في ليبيا، وهو الأب الروحي لتنظيم الضباط الأحرار في مصر.
ولكن عزيز المصري ليس بمصري ولا بعراقي ولا بليبي ولا بعربي. إنه شركسي، تمتد جذوره إلى منطقة القفقاس، بحسب "الموسوعة التاريخية الجغرافية" لمسعود الخوند.
عزيز المصري ليس حالة استثنائية، فهو جزء من عائلات شركسية كثيرة، لا تزال تعتز بجذورها، وفدت من بلاد القفقاس، أو القوقاز، إلى المنطقة العربية بدءاً من العصر الأيوبي حتى منتصف القرن التاسع عشر، ليكوّن بعضهم دولاً حكمت المنطقة، وليشارك آخرون في حكم دول والنضال من أجلها.
دماء شركسية وأفكار عروبية
يقول الكاتب والباحث الشركسي، محمد أزوقة، المتخصص في الشأن الشركسي لرصيف22، إن الشركسي محمود نامي كان حاكماً عسكرياً لسوريا عام 1834 ثم عيّن وزيراً للمال في مصر، وقائداً عاماً للقوات المصرية المسلحة عام 1867 ووزيراً للحربية عام 1879.
وفي تونس، لمع اسم خير الدين لاش، الذي تبوأ عدة مناصب بدءاً من قيادة البحرية حتى وصل الى رئاسة الوزراء، وإليه يرجع الفضل في وضع أول دستور تونسي عام 1861، ثم أصبح رئيساً للوزراء عام 1873.
ساعده عدة وزراء شراكسة في تحديث الجهاز الحكومي، ونجح في ذلك نجاحاً باهراً بحيث استدعاه السلطان عبد الحميد الثاني وعينه رئيساً لوزراء السلطنة العثمانية.
وعن الأردن، يقول أزوقة إن الشراكسة ساهموا في بناء المملكة الهاشمية منذ نشأتها، وشغلوا أرقى المناصب العسكرية والسياسية والأمنية فيها.
كان منهم رئيس الوزراء والوزراء وقادة كل المؤسسات الأخرى، وعلى رأسهم سعيد المفتي، الذي شغل منصب رئاسة الوزراء أربع مرات، وكذلك منصب رئيس مجلس الأعيان ومجلس الأمة، وعباس ميرزا الذي كان وزيراً للداخلية، ووصفي ميرزا، الذي شغل أكثر من حقيبة وزارية، وكان الشركسي الشيخ عمر لطفي أول مفتٍ عام للديار الأردنية، وغيرهم الكثيرون.
ومن شراكسة مصر، كان محمود شريف، علي ماهر، أحمد ماهر، أحمد زيوار، الذين تولوا رئاسة الوزراء في مصر مرات عدة، كما كان منهم المناضلون الوطنيون مثل الشاعر محمود سامي البارودي، الذي تولى رئاسة الوزراء، وكان من قادة الثورة العرابية، وعبد الرحمن فهمي، مؤسس الحركة الوطنية السعدية.
وفي العراق كان ناجي شوكت وياسين الهاشمي اللذان شغلا منصب "رئيس الوزراء"، وكذلك كان منهم اللواء الركن غازي الداغستاني، معاون رئيس هيئة أركان الجيش.
يرى محمد أزوقة أن الشراكسة تميزوا بشكل خاص في الأجهزة العسكرية والقيادية بسبب ميلهم الفطري إلى الشجاعة والانضباط، وكان هذا الأمر من الأسباب الرئيسية لاستجلاب الدولة العثمانية لهم من بلادهم.
يضيف أزوقة أنه في الغالب، كان التفوق العسكري في هذه العصور يقود إلى المناصب السياسية العليا، بجانب مهارتهم في الزراعة التي ساهمت في استزراع منطقة الأناضول، والكثير من صحارى الشام.
قاهرو التتار والصليبيين
أول ذكر للشراكسة في العالم العربي كان عام 1250 حينما هزم الجيش الأيوبي الحملة الصليبية على مصر بقيادة الملك الفرنسي لويس التاسع، الذي أسره الأيوبيون في مدينة المنصورة، ولمع وقتها الظاهر بيبرس "الشركسي"، كأحد أهم قادة الجيش، بحسب ما ذكرت الدكتورة محاسن الوقاد، أستاذة التاريخ الإسلامي الوسيط، لرصيف22.
ولفتت الوقاد إلى أن الوجود الشركسي في العالم العربي بدأ منذ عهد صلاح الدين الأيوبي، الذي كان يستجلبهم كمقاتلين محترفين للانضمام إلى جيشه، في القرن الثاني عشر الميلادي. ومع الوقت أصبحوا نافذين في الدولة الأيوبية، وأصحاب النفوذ الأعظم في الدولة المملوكية.
كان بيبرس أيضاً الرجل الثاني في الحرب على المغول، والانتصار في معركة عين جالوت، بعد قطز، وعقب استيلائه على السلطة في دولة المماليك، قاد عدة حملات منذ عام 1264 ضد المغول والصليبيين، وسيطر بموجبها على الشام وأغلب الأراضي العراقية، واقتحم مملكة كيليكيا الأرمينية، وهزم دولة السلاجقة، وأقام الخلافة العباسية من جديد في القاهرة، بعد تدميرها في بغداد على يد المغول.
كما أن دولة المماليك البرجية التي حكمت مصر والشام، أسسها الظاهر سيف الدين برقوق، الذي ولد في القوقاز وقدم إلى مصر وعمره 20 عاماً، ويميل البعض إلى تسمية دولة المماليك البرجية بـ"دولة المماليك الشركسية"، بحسب الوقاد، التي تشير إلى أن العثمانيين دخلوا القاهرة "عاصمة المماليك" عام 1517 وسيطروا عليها، إلا أن النفوذ الشركسي ظل قائماً في مصر إلى عصر محمد علي وأسرته من بعده.
من هم الشراكسة؟
استوطن الشراكسة أو الجراكسة المنطقة الواقعة بين بحر قزوين والبحر الأسود، شمال القوقاز، "أو القفقاس"، منذ فجر التاريخ، وما قبل التدوين التاريخي. وقديماً كان يسميها العرب ببلاد الخزر واللان، وبها ما يعرف بسد يأجوج ومأجوج في المعتقد الإسلامي.
وتنقسم الشعوب الشركسية إلى مجموعتين، الأولى هي الغربية، وتشمل: الآديغة، الوبخ، الأبخاز، والثانية هي الشرقية، وتشمل: الوايناخ، الأستين، الداغستان. لكن الآديغة هي الكتلة الأكبر والأكثر عدداً بين الشركس، واللغة الأديغية هي الأكثر شيوعاً بينهم، بحسب كتاب "بلاد الشركس في فجر التاريخ"، لبرزخ أمين سمكوغ.
كيف اختلط الشراكسة بالعرب؟
كانت تلك البلاد مطمعاً للغزاة منذ الفراعنة حتى الروس، مروراً بالفرس والروم والعرب والمغول، واعتنقوا الإسلام بالتدريج، حتى أصبح أغلبهم يدينون به خلال القرن الخامس عشر بفعل القرب الجغرافي من الدولة العثمانية.
وتنحصر حالياً تلك البلاد في 3 جمهوريات روسية "الإديغي، الشركس، والقبرداي" تُحكم ذاتياً، ولكن ضمن دولة روسيا الاتحادية.
وبخلاف قدومهم إلى العالم العربي منذ العهد الأيوبي، فإن الوجود الأكبر لهم جاء في القرن التاسع عشر. ويوضح برزخ سمكوغ أن الحرب الروسية الشركسية امتدت مئة عام وبدأت منذ عام 1763 ضمن الحرب بين الفرس والروس، وانتهت بتطهير عرقي وتهجير جماعي إلى الدولة العثمانية عام 1864.
ويشير محمد أزوقة إلى أن بلاد الشركس لم يتبقَّ بها من السكان الأصليين إلا 10% تقريباً، وهُجّر الباقون إلى الأراضي العثمانية التي كانت تسيطر على المشرق العربي كله وقتها وأجزاء من شرق أوروبا، مشيراً إلى أن اعتناق الشراكسة للإسلام كان سبباً رئيسياً في ذلك، لافتاً إلى قول كاثرين العظيمة الثانية، "قيصر روسيا": إن هؤلاء الجبليين إما أن يعودوا للأرثوذوكسية أو يهجروا.
ويروي أن التهجير والتطهير العرقي أفقدا الشركس نصف عددهم تقريباً، فقد هربوا عبر الغابات، ومات الكثير منهم على قارعة الطريق، والباقون وصلوا إلى شواطئ البحر الأسود لينتظروا السفن لتحملهم إلى تركيا "دار الإسلام". وفي البحر غرق منهم كثيرون نتيجة تهالك السفن، لدرجة أن مَن عاشوا بعد ذلك كانوا يكرهون أكل الأسماك، لأنها تغذت على ذويهم الغرقى!
الحاضر الشركسي
أغلب المهجرين استوطنوا تركيا العثمانية، وبعضهم ذهب إلى الولايات العربية المتاخمة لها، خاصة سوريا والأردن، وأصبحوا مواطنين من الدرجة الأولى. كافحوا من أجل بلدانهم الجديدة، وأثروا في شتى مجالات الحياة.
حديثاً، بدأ الاهتمام بتفعيل القضية الشركسية، بحسب محمد أزوقة، الذي يرى أن أبناء قومه مقصرون في المطالبة بحقوقهم، والسبب هو تأدبهم مع البلدان التي صاروا جزءاً منها، خوفاً وخجلاً من الاتهام بالعقوق.
أصبحت للقضية الشركسية أدوات تعمل من أجلها، كالجمعية الشركسية العالمية، الجمعية الخيرية الشركسية، مؤسسة التعليم الشركسية، وتأسست فضائية "نارت" للتعريف بقضيتهم.
ويوضح أزوقة أن "الاهتمام بالقضية أخذ يتسارع مع تنامي الوعي السياسي وتطور وسائل الاتصال، خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. ففي عام 1991 عقد مؤتمر علمي في مايكوب تحت عنوان "نحن أديغا شركس"، للتعريف باللغة الشركسية وقضية الشركس بشكل عام".
يطالب أزوقة بجمع أكبر عدد من الوثائق والمخطوطات والحفريات التي تشير إلى أن الشراكسة كانوا يسكنون أرضهم منذ فجر التاريخ، ومخاطبة روسيا الاتحادية لإعطائهم حقوقهم بالعودة إلى وطنهم، وإن لم تستجِب يتم التوجه إلى المجتمع الدولي بهيئاته المختلفة.
* كاتب مصري، عمل كصحافي تحقيقات، وكاتب مقالات لعدد من الصحف والمواقع المصرية والعربية منذ عام 2004، وكان مساعدا لرئيس تحرير موقع دوت مصر، ومهتم بالتاريخ والفن.
عن موقع رصيف 22
محمد حسين الشيخ *
"يا عزيز يا عزيز كُبة تاخد الإنجليز"، كان هذا واحداً من هتافات المصريين ضد الاحتلال البريطاني... فمن هو عزيز؟
هو عزيز المصري، المولود في القاهرة، وأحد أقطاب الوطنية المصرية وأحد الآباء المؤسسين للقومية العربية. فهو القائد العسكري للثورة العربية عام 1916 ضد الحكم العثماني، وعيّنه الشريف حسين وكيلاً لوزارة الحربية، وحارب الإنجليز في العراق، وحارب الإيطاليين في ليبيا، وهو الأب الروحي لتنظيم الضباط الأحرار في مصر.
ولكن عزيز المصري ليس بمصري ولا بعراقي ولا بليبي ولا بعربي. إنه شركسي، تمتد جذوره إلى منطقة القفقاس، بحسب "الموسوعة التاريخية الجغرافية" لمسعود الخوند.
عزيز المصري ليس حالة استثنائية، فهو جزء من عائلات شركسية كثيرة، لا تزال تعتز بجذورها، وفدت من بلاد القفقاس، أو القوقاز، إلى المنطقة العربية بدءاً من العصر الأيوبي حتى منتصف القرن التاسع عشر، ليكوّن بعضهم دولاً حكمت المنطقة، وليشارك آخرون في حكم دول والنضال من أجلها.
دماء شركسية وأفكار عروبية
يقول الكاتب والباحث الشركسي، محمد أزوقة، المتخصص في الشأن الشركسي لرصيف22، إن الشركسي محمود نامي كان حاكماً عسكرياً لسوريا عام 1834 ثم عيّن وزيراً للمال في مصر، وقائداً عاماً للقوات المصرية المسلحة عام 1867 ووزيراً للحربية عام 1879.
وفي تونس، لمع اسم خير الدين لاش، الذي تبوأ عدة مناصب بدءاً من قيادة البحرية حتى وصل الى رئاسة الوزراء، وإليه يرجع الفضل في وضع أول دستور تونسي عام 1861، ثم أصبح رئيساً للوزراء عام 1873.
ساعده عدة وزراء شراكسة في تحديث الجهاز الحكومي، ونجح في ذلك نجاحاً باهراً بحيث استدعاه السلطان عبد الحميد الثاني وعينه رئيساً لوزراء السلطنة العثمانية.
وعن الأردن، يقول أزوقة إن الشراكسة ساهموا في بناء المملكة الهاشمية منذ نشأتها، وشغلوا أرقى المناصب العسكرية والسياسية والأمنية فيها.
كان منهم رئيس الوزراء والوزراء وقادة كل المؤسسات الأخرى، وعلى رأسهم سعيد المفتي، الذي شغل منصب رئاسة الوزراء أربع مرات، وكذلك منصب رئيس مجلس الأعيان ومجلس الأمة، وعباس ميرزا الذي كان وزيراً للداخلية، ووصفي ميرزا، الذي شغل أكثر من حقيبة وزارية، وكان الشركسي الشيخ عمر لطفي أول مفتٍ عام للديار الأردنية، وغيرهم الكثيرون.
ومن شراكسة مصر، كان محمود شريف، علي ماهر، أحمد ماهر، أحمد زيوار، الذين تولوا رئاسة الوزراء في مصر مرات عدة، كما كان منهم المناضلون الوطنيون مثل الشاعر محمود سامي البارودي، الذي تولى رئاسة الوزراء، وكان من قادة الثورة العرابية، وعبد الرحمن فهمي، مؤسس الحركة الوطنية السعدية.
وفي العراق كان ناجي شوكت وياسين الهاشمي اللذان شغلا منصب "رئيس الوزراء"، وكذلك كان منهم اللواء الركن غازي الداغستاني، معاون رئيس هيئة أركان الجيش.
يرى محمد أزوقة أن الشراكسة تميزوا بشكل خاص في الأجهزة العسكرية والقيادية بسبب ميلهم الفطري إلى الشجاعة والانضباط، وكان هذا الأمر من الأسباب الرئيسية لاستجلاب الدولة العثمانية لهم من بلادهم.
يضيف أزوقة أنه في الغالب، كان التفوق العسكري في هذه العصور يقود إلى المناصب السياسية العليا، بجانب مهارتهم في الزراعة التي ساهمت في استزراع منطقة الأناضول، والكثير من صحارى الشام.
قاهرو التتار والصليبيين
أول ذكر للشراكسة في العالم العربي كان عام 1250 حينما هزم الجيش الأيوبي الحملة الصليبية على مصر بقيادة الملك الفرنسي لويس التاسع، الذي أسره الأيوبيون في مدينة المنصورة، ولمع وقتها الظاهر بيبرس "الشركسي"، كأحد أهم قادة الجيش، بحسب ما ذكرت الدكتورة محاسن الوقاد، أستاذة التاريخ الإسلامي الوسيط، لرصيف22.
ولفتت الوقاد إلى أن الوجود الشركسي في العالم العربي بدأ منذ عهد صلاح الدين الأيوبي، الذي كان يستجلبهم كمقاتلين محترفين للانضمام إلى جيشه، في القرن الثاني عشر الميلادي. ومع الوقت أصبحوا نافذين في الدولة الأيوبية، وأصحاب النفوذ الأعظم في الدولة المملوكية.
كان بيبرس أيضاً الرجل الثاني في الحرب على المغول، والانتصار في معركة عين جالوت، بعد قطز، وعقب استيلائه على السلطة في دولة المماليك، قاد عدة حملات منذ عام 1264 ضد المغول والصليبيين، وسيطر بموجبها على الشام وأغلب الأراضي العراقية، واقتحم مملكة كيليكيا الأرمينية، وهزم دولة السلاجقة، وأقام الخلافة العباسية من جديد في القاهرة، بعد تدميرها في بغداد على يد المغول.
كما أن دولة المماليك البرجية التي حكمت مصر والشام، أسسها الظاهر سيف الدين برقوق، الذي ولد في القوقاز وقدم إلى مصر وعمره 20 عاماً، ويميل البعض إلى تسمية دولة المماليك البرجية بـ"دولة المماليك الشركسية"، بحسب الوقاد، التي تشير إلى أن العثمانيين دخلوا القاهرة "عاصمة المماليك" عام 1517 وسيطروا عليها، إلا أن النفوذ الشركسي ظل قائماً في مصر إلى عصر محمد علي وأسرته من بعده.
من هم الشراكسة؟
استوطن الشراكسة أو الجراكسة المنطقة الواقعة بين بحر قزوين والبحر الأسود، شمال القوقاز، "أو القفقاس"، منذ فجر التاريخ، وما قبل التدوين التاريخي. وقديماً كان يسميها العرب ببلاد الخزر واللان، وبها ما يعرف بسد يأجوج ومأجوج في المعتقد الإسلامي.
وتنقسم الشعوب الشركسية إلى مجموعتين، الأولى هي الغربية، وتشمل: الآديغة، الوبخ، الأبخاز، والثانية هي الشرقية، وتشمل: الوايناخ، الأستين، الداغستان. لكن الآديغة هي الكتلة الأكبر والأكثر عدداً بين الشركس، واللغة الأديغية هي الأكثر شيوعاً بينهم، بحسب كتاب "بلاد الشركس في فجر التاريخ"، لبرزخ أمين سمكوغ.
كيف اختلط الشراكسة بالعرب؟
كانت تلك البلاد مطمعاً للغزاة منذ الفراعنة حتى الروس، مروراً بالفرس والروم والعرب والمغول، واعتنقوا الإسلام بالتدريج، حتى أصبح أغلبهم يدينون به خلال القرن الخامس عشر بفعل القرب الجغرافي من الدولة العثمانية.
وتنحصر حالياً تلك البلاد في 3 جمهوريات روسية "الإديغي، الشركس، والقبرداي" تُحكم ذاتياً، ولكن ضمن دولة روسيا الاتحادية.
وبخلاف قدومهم إلى العالم العربي منذ العهد الأيوبي، فإن الوجود الأكبر لهم جاء في القرن التاسع عشر. ويوضح برزخ سمكوغ أن الحرب الروسية الشركسية امتدت مئة عام وبدأت منذ عام 1763 ضمن الحرب بين الفرس والروس، وانتهت بتطهير عرقي وتهجير جماعي إلى الدولة العثمانية عام 1864.
ويشير محمد أزوقة إلى أن بلاد الشركس لم يتبقَّ بها من السكان الأصليين إلا 10% تقريباً، وهُجّر الباقون إلى الأراضي العثمانية التي كانت تسيطر على المشرق العربي كله وقتها وأجزاء من شرق أوروبا، مشيراً إلى أن اعتناق الشراكسة للإسلام كان سبباً رئيسياً في ذلك، لافتاً إلى قول كاثرين العظيمة الثانية، "قيصر روسيا": إن هؤلاء الجبليين إما أن يعودوا للأرثوذوكسية أو يهجروا.
ويروي أن التهجير والتطهير العرقي أفقدا الشركس نصف عددهم تقريباً، فقد هربوا عبر الغابات، ومات الكثير منهم على قارعة الطريق، والباقون وصلوا إلى شواطئ البحر الأسود لينتظروا السفن لتحملهم إلى تركيا "دار الإسلام". وفي البحر غرق منهم كثيرون نتيجة تهالك السفن، لدرجة أن مَن عاشوا بعد ذلك كانوا يكرهون أكل الأسماك، لأنها تغذت على ذويهم الغرقى!
الحاضر الشركسي
أغلب المهجرين استوطنوا تركيا العثمانية، وبعضهم ذهب إلى الولايات العربية المتاخمة لها، خاصة سوريا والأردن، وأصبحوا مواطنين من الدرجة الأولى. كافحوا من أجل بلدانهم الجديدة، وأثروا في شتى مجالات الحياة.
حديثاً، بدأ الاهتمام بتفعيل القضية الشركسية، بحسب محمد أزوقة، الذي يرى أن أبناء قومه مقصرون في المطالبة بحقوقهم، والسبب هو تأدبهم مع البلدان التي صاروا جزءاً منها، خوفاً وخجلاً من الاتهام بالعقوق.
أصبحت للقضية الشركسية أدوات تعمل من أجلها، كالجمعية الشركسية العالمية، الجمعية الخيرية الشركسية، مؤسسة التعليم الشركسية، وتأسست فضائية "نارت" للتعريف بقضيتهم.
ويوضح أزوقة أن "الاهتمام بالقضية أخذ يتسارع مع تنامي الوعي السياسي وتطور وسائل الاتصال، خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. ففي عام 1991 عقد مؤتمر علمي في مايكوب تحت عنوان "نحن أديغا شركس"، للتعريف باللغة الشركسية وقضية الشركس بشكل عام".
يطالب أزوقة بجمع أكبر عدد من الوثائق والمخطوطات والحفريات التي تشير إلى أن الشراكسة كانوا يسكنون أرضهم منذ فجر التاريخ، ومخاطبة روسيا الاتحادية لإعطائهم حقوقهم بالعودة إلى وطنهم، وإن لم تستجِب يتم التوجه إلى المجتمع الدولي بهيئاته المختلفة.
* كاتب مصري، عمل كصحافي تحقيقات، وكاتب مقالات لعدد من الصحف والمواقع المصرية والعربية منذ عام 2004، وكان مساعدا لرئيس تحرير موقع دوت مصر، ومهتم بالتاريخ والفن.
عن موقع رصيف 22