إمارة «الإخوان»
مأمون فندي
AA
«عندما كنتُ شابّاً كنتُ عضواً في حزب البعث، وبعد هزيمة 1967 تنسبت لتنظيم الإخوان المسلمين»، هكذا قال الشيخ حمد بن خليفة أمير قطر السابق، يوم أن كان يحكم، لواحد من وزراء الخارجية الخليجيين، عندما كانت الأزمة الأولى بين المملكة العربية السعودية وقطر، التي ادعى فيها أمير قطر أن له مشكلات حدودية مع المملكة، وأن رفات أجداده مدفونة في المملكة، مما عَقَّد الأمور كثيراً، وعلى العشاء، عندما سأل الوسيطُ الأميرَ حمد قال صراحة إنه عضو في جماعة الإخوان. فماذا تعني هذه المقدمة للأزمة الحالية وفرص الحل؟ هذا المقال يرى أن الأزمة ستطول، وذلك لأن المطالب المطروحة على قطر تعني أن على النظام أن يغيّر سياسته 180 درجة، أو أن يحلّ نفسه، ويتخلَّى عن أدواته التي جعلت من إمارة صغيرة تنتفخ وتتمدد إلى هذا الحجم.
بعد انقلاب الشيخ حمد على والده عام 1995 كان الهاجس الأكبر للنظام هو المملكة العربية السعودية، ولذلك بنى كل استراتيجيته بالاستعانة بقوى خارجية لحماية نفسه من المملكة والخروج من عباءتها، وإن استطاع إيذاءها، فبنى النظام استراتيجيته على ثلاثة أعمدة رئيسية: «الإخوان» والأميركان والغاز.
جاء الشيخ حمد بن خليفة بجماعة الإخوان مرجعاً دينياً لقطر، بديلاً للمذهب الحنبلي، التي كان يضع أهلها في دائرة الفتوى من علماء المملكة، وكان فك الارتباط المذهبي بين إمارة «الإخوان» والمملكة واحداً من ثلاثة أعمدة بُنِي عليها النظام الجديد في قطر، ليصبح الشيخ يوسف القرضاوي أشبه بعلي خامنئي في إيران كمرجع ديني.
أما العمود الثاني لهذا النظام فكان محاولة تقديم أنفسهم حليفاً لأميركا بدلاً من المملكة، فبعد أن طالبت المملكة القوات الأميركية بمغادرة الأراضي السعودية بعد انتهاء مهمتها بتحرير الكويت، وترك قاعدة الأمير سلطان التي كانت تُدار منها العمليات، تحير الأميركيون في بديل إقليمي، ولما جاء الانقلاب في قطر قَدّم قاعدتي «العديد» و«السيلية» للأميركان بديلاً وبتسهيلات أكبر فيما يخص الاتفاقية القانونية لبقاء القوات الأميركية خارج حدودها، أو ما تُعرَف بـ(status of forces agreement) وهي اتفاقية أتمنى على الإخوة في قطر نشرها، حيث لا يخضع الأميركي هناك إلى السيادة القطرية أو القانون القطري حتى لو ارتكب حادثاً مروريّاً خارج القاعدة. المهم هنا هو أن الحزام الأمني الأميركي بالقاعدتين كان موجهاً ضد المملكة، حيث اتهم النظام الجديد أيامها مصر والسعودية بمحاولة إعادة الأمير الوالد (الشيخ خليفة إلى موقعه)، وذهب عمر سليمان رئيس المخابرات المصرية في صيف 1997 ليقلل من مخاوف النظام الجديد فيما يخص نيات مصر والمملكة تجاهه. ومع ذلك لم يطمئن النظام الجديد الذي رأى أن أفضل استراتيجية للدفاع هي الهجوم، مع محاولة الخروج من تحت مظلة الهيمنة السعودية عسكريّاً ومذهبيّاً، وأيضاً فيما يخص قضايا البترول والطاقة.
رغم ما ظَنّه النظام خروجاً عسكرياً ومذهبياً من الهيمنة السعودية (خصوصاً أن هذا جاء بعد غزو صدام حسين للكويت، كانت لدى النظام الجديد مخاوف مماثلة من المملكة ولذلك الحماية الأميركية). إلا أن قطر بقيت تحت مظلة المملكة وسيطرتها في منظمة الدول المصدِّرَة للبترول (أوبك)، وبعد اكتشاف أكبر حقول الغاز في قطر، أحدها مشترك مع إيران (حقل الشمال) قررت قطر، بالاشتراك مع إيران وروسيا، محاولة بناء منظمة منافِسَة للغاز أو ما عرف بـ«الجاسوبك»، ويتضح هنا أن التحالف مع إيران ليس الآن وإنما هو قديم، وأساسه العداء للمملكة، ومحاولة تقليص دورها الإقليمي، وكان هذا هو العمود الثالث الذي بنى عليه نظام الانقلاب في قطر استراتيجيته للبقاء.
هناك أعمدة ليست إنشائية في معمار النظام الجديد في قطر مثل أن تحزّم نفسها بعلاقة خاصة مع إسرائيل، وفتحت مكتب التمثيل التجاري الإسرائيلي في الدوحة عام 1996، وكتب أول ممثل تجاري بعد أن ترك الدوحة رسالته للدكتوراه عن علاقة قطر بإسرائيل، وكان فيها جزء يُعتَبَر سرّيّاً ما زال معتماً بالأسود في الرسالة، ولكنه تحدث عن دور إسرائيل في دعم النظام الجديد، وفي عهده تعهدت قطر ببناء استاد الدوحة في الجليل، وحتى عندما ترشحت قطر للمنافسة على استضافة كأس العالم، وافقت على مشاركة الفريق الإسرائيلي إذا ما تأَهَّل، وجاءت الزيارات الإسرائيلية العديدة للدوحة ومقابلات بين القادة الإسرائيليين والشيخ حمد في نيويورك والدوحة، بما في ذلك شيمعون بيريس، وإيهود باراك، وتسيبي ليفني، وآخرين.
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، التي كان من منفذيها مواطنون سعوديون، استغلت قطر هذا الحدث لتقول للأميركيين بفكرة تغيير الأنظمة ونشر الديمقراطية، وإن الحل ضد التطرف هو تبني «الإسلام المعتدل الذي تمثله جماعة الإخوان»، وكانت قطر دائماً تشير إلى تركيا كنموذج لـ«الإخوان» والإسلام المعتدل، وكان عَرَّاب هذا المشروع هو كشاهد مارتن إنديك الذي كان سفير أميركا لدى إسرائيل، والذي استحدث «مشروع أميركا والعالم الإسلامي» تكون قاعدته الدوحة، ويشرف عليه معهد بروكينغز في واشنطن، الذي أصبح لديه فرع في الدوحة كجزء من هذه الاستراتيجية.
وكانت «الجزيرة» واحدة من أدوات هذه الاستراتيجية حيث تبنَّتْ فتح ملفات غير مسبوق لدول خليجية الحديث فيها، كما تمت شخصنة الأمور تجاه قيادات الدولتين بشكل جارح، بهدف كسر الهيبة. هذه هي أعمدة النظام وأدواته التي رَكَّب ماكينته عليها، ومن هنا تكون المطالب السعودية الإماراتية المطروحة الآن تعني إما أن يغير النظام سياسته مائة وثمانين درجة، أو أن يحل نفسه بفكّ تحالفاته مع «الإخوان» والجماعات المتطرفة، وتخليه عن كل أدواته التي استخدمها لزعزعة الاستقرار، كاستراتيجية هجوم تغني عن الدفاع. ومن هنا يتضح أن الأزمة ستطول ريثما يفكر النظام في قطر في حلول بديلة تمنحه فسحة من الوقت. هذه الأزمة ستطول هذه المرة لأن شرط خروج «الإخوان» يُعدّ من أصعب الشروط في إمارة أصبحت فعليّاً هي إمارة «الإخوان»، بوضع اليد.
لماذا لا تتخلى قطر أو نظام قطر عن «الإخوان» و«الجزيرة» كأدوات قوة إقليمية؟ عندما جاء الشيخ حمد والد الشيخ تميم إلى السلطة، وأحضر إلى قطر قادة تنظيم الإخوان الذي، باعترافه، هو جزء منه، كمرجعية دينية بديلة للمذهب الحنبلي، لم يكن يتصور أن «الإخوان» سيسيطرون على الإمارة وأدوات القوة فيها.
«الإخوان»، خصوصاً المصريين منهم، قادمون من عالم ثقافة وضع اليد كممارسة معيشية يومية. فهناك في مصر مَن يسكنون في شقق إيجارها جنيهان، أي ما يوازي سنتاً واحداً، ولا تستطيع حتى الدولة أن تخرجهم لأنهم أخذوا الشقق بوضع اليد، الناس يجلسون على أراضي الدولة يزرعونها ويبنون عليها بيوتاً، وهي ليست حقّاً لهم، ولكنهم يملكونها بوضع اليد. «السايس» في الشارع، الذي يساعدك على ركن سيارتك يملك الشارع كله بوضع اليد. «الإخوان» قادمون من هذه الثقافة، وهم يسيطرون على قطر الآن بوضع اليد. الحكم للأمير، و«الجزيرة» والمجتمع لـ«الإخوان»، هذا هو تقسيم العمل في قطر. قطر فعليّاً هي أقرب شيء إلى دولة «الإخوان» أو إمارة «الإخوان» في العالم العربي.
استراتيجية «الإخوان» لم تكن في البداية السيطرة على الدول الفقيرة مثل مصر وتونس، «الإخوان» كانوا في رحلة التنقيب عن النفط للسيطرة على دول غنية، لذلك بنوا تنظيمهم في الكويت من خلال جمعية الإصلاح التي أتى منها الكثيرون من مقدمي البرامج في «الجزيرة»، مثل أحمد منصور، وغيره من أعضاء التنظيم، مثل ماهر عبد الله الذي وافته المنية عام 2004، وكلهم بدأوا مقدمين لبرنامج «الشريعة والحياة» على قناة «الجزيرة».
«الإخوان» ركزوا جل عملهم على الكويت والإمارات والسعودية وقطر بهدف الاستيلاء على دولة غنية للإنفاق على التنظيم في الدول الفقيرة.
فشلوا في السعودية والإمارات والكويت رغم وجود أعضائهم هناك، إلا أنهم وجدوا ضالتهم في قطر وعضو التنظيم الأمير حمد بن خليفة.
«الإخوان» لن يتركوا التي أخذوها بوضع اليد لتصبح إمارتهم في الخليج، أما بقية لائحة المطالب فستأخذ وقتاً أطول. المشكلة أن ما تطلبه الدول الخليجية من قطر يهز بنية نظام ما بعد انقلاب 1995. هذا إضافة إلى انعدام الثقة بين المملكة والنظام في قطر، حتى عندما أصبح الشيخ تميم أميراً.
أما خادم الحرمين الملك سلمان بن عبد العزيز، فكان هو المسؤول عن المفاوضات مع قطر في عهد الملك عبد الله، وتركت نتائج تلك المفاوضات مرارة لديه نتيجة للكذب القطري، ومن هنا يصعب ترميم الثقة، وهذا يحتاج إلى وقت طويل، وكلما تكشفت الخيوط لقادة الخليج بالأدلة بأننا أمام «إمارة الإخوان»، سيزداد الأمر تعقيداً، لذا وقبل التسرع في الوساطة واستعجال الأمور، القضية تحتاج إلى جرعة واقعية في مدى التزام قطر بتعهداتها، وهذا ما كتبتُه في هذه الصحيفة (الشرق الأوسط 24 نوفمبر «تشرين الثاني» 2014) بعد اتفاق الرياض عام 2014، الذي شككتُ فيه في قدرة نظام قطر على الوفاء بوعوده.