*
محمد شعبان أيوب
محرر تاريخ
"طليطلة عظيمة القُطر، كثيرة البشر، عالية الذرى، حسنة البقعة، ولها قنطرة من عجائب البنيان، وهي قوس واحدة، والماء يدخل تحتها بعنفٍ وشدة جرىٍ، ومع آخر القنطرة ناعورة، وارتفاعها في الجو تسعون ذراعاً، وهي تصعد الماء إلى أعلى القنطرة، ويجري الماء على ظهرها فيدخل المدينة".
(الحميري في "صفة جزيرة الأندلس")
تُعدُّ مدينة طُليطلة قديمة البناء في إسبانيا، فقد كانت قائمة قبل أن يغزو الرومان شبه جزيرة إيبريا، ومن ثم فهي مدينة إيبرية قديمة، وقد استولى عليها الرومان سنة 193م، وقبيل الفتح الإسلامي للأندلس، كانت طليطلة تتبوأ المكانة الأولى في أسبانيا القوطية سياسيًا ودينيا، ففضلاً عن كونها حاضرة القوط السياسية، فقد كانت الكرسي الأسقفي في أيبريا.
ومنذ أن انتصر الملك القوطي ريكاريد (Ricardo) للكاثوليكية واتخذها مذهبًا رسميًا للقوط سنة 587م؛ لذا علت مطرانيتها على سائر المطرانيات الأسبانية، فصارت منذ ذلك الحين مدينة الملوك و"قاعدة القوط ودار مملكتهم ومنها كانوا يغزون عدوّهم، وإليها كانت تجتمع جنوهم"، وظلت المدينة على هذه الحال حتى طرق المسلمون شبه جزيرة إيبريا/أسبانيا في عهد آخر ملوك القوط لذريق/رودريك Roderic)[1 )
الفتح الإسلامي
في بدايات شهر رجب سنة 92هـ/711م عبرت القوات الإسلامية بقيادة طارق بن زياد العدوة المغربية باتجاه الأندلس، بعدما أتموا من قبل استكمال فتح بلاد المغرب العربي، وقد تمكن القوات من العبور، وقد مُني القوط بعدة هزائم سريعة، قبل أن تتجمع قواتهم بالقرب من وادي لكّة أو وادي بكه. ففي هذا السهل الصغير الذي تحده من الجنوب سلسلة من التلال العالية، وعلى ضفاف بحيرة خنده ونهر "بارباتي" تلاقى العرب والقوط، وذلك في الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة 92/17 يوليه سنة 711 م. وفرق النهر بين الجيشين مدى أيام ثلاثة شغلت بالمعارك البسيطة. وفي اليوم الرابع التحم الجيشان ونشبت بينهما معركة عامة[2]، سحق فيها المسلمون الجيش القوطي، وكان قد تجمع فيه كبار رجال الدولة والفرسان؛ لذا كانت الهزيمة تعني صعوبة المواجهة الكبرى مرة أخرى، وهو ما تحقق، ولم يكن والحال هذه سوى أن يسرع طارق بن زياد خطاه نحو عاصمة القوط "طُليطلة"، وهو ما تم له.
يقول ابن عُذارى: "لما فتح طارق طُليطلة وجدَ بها بيت الملوك ففتحه فوجد فيه زبور داود في ورقات الذهب مكتوباً بماء ياقوت محلول من عجيب العمل الذي لم يكد يُر مثله، ومائدة سليمان، ووجد فيه أربعة وعشرين تاجاً منظمة بعدد ملوك القوطيين بالأندلس: إذا تُوفي أحدهم جعل تاجَه بذلك البيت، وفعل الملك بعده لنفسه غيره، جرت عوائدهم على ذلك ووجد فيه قاعة كبيرة مملوءة بإكسير الكيمياء فحمل ذلك كله إلى الوليد بن عبد الملك"[3] في دمشق.
ومنذ ذلك الحين خضعت طُليطلة كما بقيت مدن الأندلس للحكم الإسلامي، وتعاقب عليها ولاة الأمويين، ثم دخلت في مرحلة من التصارع الداخلي بين عصبيتها العربية من قيسية ومضرية، حتى جاءها عبد الرحمن الداخل، فتمكن من إخضاع الجزيرة للحكم الأموي في الأندلس هذه المرة سنة 138هـ وظلت الأندلس كما طُليطلة على هذه الحال من الوحدة والتبعية للحكم الأموي حتى بداية القرن الخامس الهجري مع انقضاء الدولة العامرية التي كانت تدين اسمًا للأمويين، وإن شاب المدينة بعض الثورات على حكم الأمويين كما حدث في بداية عصر الأمير عبد الرحمن الناصر حين تمرد بها أحد زعماء المولّدين لُبّ بن الطربيشة، فأرسل إليه الناصر جيشه، واستمر الحصار مدة عامين، حتى نضبت موارد المدينة، وخبَت عزائم أهلها، واضطرت في نهاية المطاف إلى التسليم والإذعان سنة 308هـ[4].
كانت طليطلة عاصمة القوط قبل دخول الإسلام، ولأنها أهم وأقرب الثغور، فإن الهجمات النصرانية كانت لا تتوانى منذئذ في الهجوم على قرى ومناطق وحصون طُليطلة
حين سقطت الدولة العامرية ومعها الخلافة الأموية في الأندلس، مع ظهور الفتنة البربرية الكبرى في قرطبة انفرط عقد الأندلس، واستقل كل أمير بمنطقته، فظهرت حقبة ملوك الطوائف، وكانت طُليطلة من نصيب بني ذي النون الذين تعود أصولهم إلى البربر، وكانوا قد حاذوا ثقة الأمويين في القرن الرابع الهجري، على أن استقلالهم لهذه المنطقة كان قصيرًا مقارنة بملوك الطوائف الآخرين؛ فقد كانت هذه المنطقة التي تُسمى "الثغر الأوسط" لمتاخمة حدودها للممالك الإسبانية النصرانية، واعتبارها بذلك حاجز الدولة الإسلامية وجناحها الشمالي الأوسط ضد عدوان النصارى؛ لذا وفي ظل حالة التمزق التي شهدتها الأندلس منذ مستهل القرن الخامس الهجري الذي تزامن مع صعود قوة الإسبان الكاثوليك في الشمال، ولما كانت طليطلة عاصمة القوط قبل دخول الإسلام، ولأنها أهم وأقرب الثغور، فإن الهجمات النصرانية كانت لا تتوانى منذئذ في الهجوم على قرى ومناطق وحصون طُليطلة.
قبسات من حضارة طليطلة
لقد ازدهرت هذه المدينة الأندلسية ازدهارًا حضاريًا فريدًا على كافة المستويات العلمية والاقتصادية والعمرانية، فاقتصاديًا فإنها تميزت باقتصاد زاهر تعددت فيه الموارد، وتنوعت ما بين زراعة ورعي وتعدين وصناعة؛ فالزراعة في طليطلة كانت على درجة ملحوظة من الازدهار في عصرها الإسلامي؛ فقد كثرت بساتينها وأينعت جناتها، وأنتجت فواكه "عديمة المثل لا يُحيط بها تكييف ولا تحصيل"؛ وذلك لعدة أسباب من أهمها وجود أراض شاسعة فسيحة صالحة للزراعة حولها، وتميز أهلها بفنون الري؛ فقد عرفوا النواعير والقواديس والقنوات التي يجري فيها الماء إلى البساتين المحدقة بالمدينة.
لقد كان من حسن حظ المدينة أن ارتبط ببلاط ملوكها بني ذي النون بعض علماء الزراعة الأندلسيين المشاهير مثل العلامة ابن بصّال الطُليطلي الذي أجرى تجارب عديدة على كثير من النباتات، واستنبط الكثير من طرق الفلاحة، كانت هذه التجارب المصادر الأساسية التي اعتمد عليها العالم ابن العوام الإشبيلي في تأليف كتابه الضخم "الفلاحة الأندلسية"، ويبدو أنهم استثمروا هذه الخبرة العلمية في تحسين مزروعاتهم، فقد ذكر بعض المؤرخين أن ثمرة الجلنار كان عندهم في قدر الرمّانة، وأن الشجرة لديهم يكون فيها أنواع من الثمر[5]!
لأهل طليطلة مكانة مهمة في الأندلس على المستوى العلمي والفكري، ومنهم من جاب المشرق والمغرب طلبًا للعلم، مثل تمّام بن عبد الله بن تمام المعافرى
لقد وقف أصحاب الموسوعات العلمية والتراجم مثل أبو الوليد الأزدي (ت 403هـ) صاحب موسوعة "تاريخ العلماء بالأندلس"، وابن بشكوال صاحب "الصلة في تاريخ أئمة الأندلس" مع عشرات العلماء من أهل طُليطلة، هؤلاء العلماء منهم من كان من علماء القراءات، ومنهم رجال الحديث، ومنهم من كان من القضاة، ومنهم المفتون والأعيان، ومنهم من رحل إلى المشرق لطلب العلم فمكث به سنينًا، ومنهم من لم يخرج من بلده، ومنهم من عيّنه الأمويون في مدن الأندلس في مناصب عالية لمكانتهم العلمية المرموقة.
لذا فإننا نلحظ أن لأهل طليطلة مكانة مهمة في الأندلس على المستوى العلمي والفكري، فهذا أبان بن محمد بن دينار الفقيه الذي وثق في علمه وفقهه الطليطليون[6]، ومثله أحمد بن الوليد بن عبد الخالق الطليطلي الذي ولي قضاء طليطلة وجيان، وكان قاضيًا ابن قاض[7]، وأيوب بن سليمان من أهل طليطلة كان معدودا في فقهائها، توفي بها سنة 293هـ[8].
ومن أهل طليطلة من جاب المشرق والمغرب طلبًا للعلم، مثل تمّام بن عبد الله بن تمام المعافرى (ت 377هـ)، الذي سمع وأخد عن علماء مكة والشام وغزة والقيروان، وأضحى له شأنه في بلده بعد رجوعه من رحلة الحج والعلم[9]. ويبدو أن المعافريين - وهي القبيلة العربية اليمنية الأصل - كان لهم شأنهم العلمي في طُليطلة فقد برز منهم أيضًا بعد ذلك أحمد بن خلف بن أحمد المعافري "كان من أهل العلم والدين والفضل. وكان يحفظ موطأ مالك"[10]، وعبد الله بن سُليمان المعافري "كان من أهل العلم والفضل والخير، وكان الأغلب عليه الحديث والآثار والآداب والقراءات. وكان كثير الكتب جلها بخطّه"[11]، والقاضي الذكي سعيد بن يحيى بن سعيد التجيبي الذي توفي قُبيل سقوط طليطلة ببضع سنوات، قال ابن بشكوال: "كان حسن السيرة، جميل الأخلاق، دربا بالأحكام ثقة فيها، مبلو السداد"[12].
سقوط طُليطلة!
في لحظة من الشقاق بين ملوك الطوائف، وانشغالهم بمحاربة بعضهم البعض، استغل الملك ألفونسو السادس ملك قشتالة هذه اللحظة البائسة التي كان يمر بها المسلمون في الأندلس، بل إن بعض الروايات تشير إلى تواطؤ بعض ملوك الطوائف مع ألفونسو مثل المعتمد بن عباد ملك إشبيلية القريب والجار لطليطلة حين تفاهم مع ألفونسو على تركه لمحاربة بني ذي النون،
كان سقوط طليطلة إحدى قواعد الأندلس العظمى في يد قشتالة، إنما هو نذير السقوط النهائي، وأن انهيار الحجر الأول في صرح الدولة الإسلامية، إنما هو بداية انهيار الصرح كله
يقول المؤرخ الألمعي محمد عبد الله عنان: "وهكذا عدمت طليطلة كل مصدر للعون الحقيقي، كل ذلك والموقف يتحرج، وألفونسو السادس ماض في غزواته المدمرة، حتى أضحت سهول طليطلة كلها خراباً يباباً. ولم يكن يخفى على عقلاء المسلمين أن الموقف عصيب، وأن سقوط طليطلة إحدى قواعد الأندلس العظمى في يد قشتالة، إنما هو نذير السقوط النهائي، وأن انهيار الحجر الأول في صرح الدولة الإسلامية، إنما هو بداية انهيار الصرح كله، فبادر جماعة منهم إلى الحث على الاتحاد واجتماع الكلمة إزاء الخطر المشترك، ونهض القاضي العلامة أبو الوليد الباجي"[13].
"سقطت الحاضرة الأندلسية الكبرى، وخرجت من قبضة الإسلام إلى الأبد، وارتدت إلى النصرانية حظيرتها القديمة، بعد أن حكمها الإسلام ثلاثمائة وسبعين عاماً"
لكن جهود الإمام الباجي وغيره من عقلاء المسلمين في الأندلس ذهبت سدى، وفي خريف سنة 477هـ/1084م بدأ حصار الملك القشتالي للمدينة، ولمدة تسعة أشهر كاملة استمر هذا الحصار، ولم يكن ثمة معين من ملوك الطوائف الآخرين لهذه المدينة، بل تشير بعض الروايات إلى أن هؤلاء الملوك البائسين كانوا يُرسلون سفراءهم لألفونسو بالهدايا والتحف خشية على أنفسهم، وأنهم أذعنوا له بدفع الجزية التي فرضها عليهم، وفي نهاية المطاف، وبعد الجوع وقلة الأقوات وضعف العامة وانهيار المقاومة سلم أهل طليطلة مدينتهم وهم في ذلة وضعف إلى الملك الكاثوليكي في بداية شهر صفر سنة 478هـ/مايو 1085م.
يقول ابن بسّام: "وخرج ابن ذي النون خائبا مما تمناه، شرقا بعقبى ما جناه، والأرض تضج من مقامه، وتستأذن في انتقامه، والسماء تود لو لم تطلع نجما إلا كدرته عليه حتفا مبيدا، ولم تنشئ عارضا إلا مطرته عذابا فيه شديدا. واستقر بمحلة أذفنوش مخفور الذمة، مزال الحرمة، ليس دونه باب، ولا دون حرمه سِتر ولا حجاب. حدّثني من رآه يومئذ بتلك الحال وبيده اصطرلاب يرصد فيه أي وقت يرحل، وعلى أي شيء يعول، وأي سبيل يتمثّل، وقد أطاف به النصارى والمسلمون، أولئك يضحكون من فعله، وهؤلاء يتعجبون من جهله"[14]، فكان الجهل والخيانة والتشرذم الأسباب الرئيسة لسقوط المدينة!
وهكذا سقطت الحاضرة الأندلسية الكبرى، وخرجت من قبضة الإسلام إلى الأبد، وارتدت إلى النصرانية حظيرتها القديمة، بعد أن حكمها الإسلام ثلاثمائة وسبعين عاماً. ومن ذلك الحين تغدو طليطلة حاضرة لمملكة قشتالة، ويغدو " قصرها " منزلا للبلاط القشتالي، بعد أن كان منزلا للولاة المسلمين[15].