بدايات الصراعات
من العسير تحديد بدايات الصراع على مصادر مياه النيل تحديداً دقيقاً. فالتاريخ، بلا شك، مليئ
بالأساطير أن مصر هبة النيل أو أن النيل هبة مصر (كيفما يريد القارئ أن تكون التراتب)، وعلى هذه التراتيبية إرتبطت الحياة فى مصر بالنيل إرتباط الجنين بالحبل السُرى وكانت البلاد جنوبها (السودان) تحت خطر دائم لأن مصر على خوف مستمر من إنقطاع وصول المياه إليها "محسنة الظن" أن شيئاً ما يحول دون إنسياب المياه نسبة لتذبذب تدفقها أحياناً. فمثلاً، قُدِّر إيراد النيل في الفترة 1899- 1970م بحوالى 110 بليون متر مكعب، بينما بلغ متوسط الإيراد 84 بليون في الفترة 1899-1954م، و81.5 بليون م۳ ما بين 1954-1988م. أما فى الأساطير القديمة فقد وردت قصصٌ مفداها أن سلطان مصر أرسل رُسلاً إلى ملك الحبشة في سنة من سنين إحدى المجاعات التي ألمت بمصر يستهديه ألا يعيق إنسياب المياه إلى بلاده، كما مضى أحد الرحالة الأستلنديين فى القرن الثامن عشر يروى لنا أن ملك الحبشة أرسل كتاباً لحاكم مصر مهدداً إياه بقطع الماء عن مصر.(9) ما لم تستوفيه القصص هو التعريف الدقيق للحبشة، أهي إثيوبيا الحالية أم بلاد الحبش، تلك الرقعة الواسعة التى تقع جنوب مصر. لا نشك أنها إثيوبيا الحالية والسودان الحالي إن لم يكن المعنى هو حوض النيل بأكمله.
على كل حالٍ، فقد بدأ الصراع الحديث على مياه النيل فى مطلع القرن العشرين المنصرم، أو قُبيله بقليل، عندما تبيَن لبريطانيا الدور الذى ستلعبه مصادر المياه على مستعمراتها فى شرق أفريقيا فلذلك عملت على تقوية قبضتها عليها بالسيطرة، أولاً، على منابع النيل بنفسها أو بالوكالة عنها مقابل سيطرتها على قناة السويس التى ستربطها مباشرة بالهند لتسهيل مد ذراعيها لتوسيع إمبراطوريتها التى لا تغيب عنها الشمس.
لتحقيق تلك الأهداف قامت بريطانيا، دولياً، بممارسة ضغوطاً على كلٍ من إيطاليا التى كانت تشاكس الحكومة الأثيوبية القائمة آنذاك، وفرنسا في جنوب شرق السودان (فشودة)، منطقة البحيرات العظمى، بوروندى تحديداً، وأفريقيا الوسطى. ضغطت عليها بريطانيا بعدم التدخل فى حوض النيل وأبرمت معها سلسة من المعاهدات أولها البرتوكول البريطاني-الإيطالي في العام 1891م الذي يقضى بأنه لا يحق للحكومة الإيطالية القيام بأي بناء على نهر عطبرة ما قد ينتج عنه إعاقة تدفق المياه إلى مصر.(10) أمر هذه الإتفاقية يدعو للحيرة وللتساؤل: بأي حق تكون لإيطاليا سلطة إبرام مثل هذا الإتفاق نيابة عن أثيوبيا مع أنها لم تسيطر بعد عليها سيطرة كاملة؟ فكما هو معلوم فإن نهر عطبرة لا ينبع من ولا يصب في أرضٍ إيطالية أو إحدى مستعمراتها كما أن إيطاليا لم تستعمر أية دولة قرب العطبراوى كيما يكون لها الحق فى السيطرة على مياهه. هذا السؤال لم يكن بالطبع لغرض الشكوى والنواح بأن هذه المشكلة خلقها الإستعمار حتى لا نقع فى فخ "التشميع" بأنه لولا فلان وفرتكان، كما عهدنا وتعودنا على سماعه فى السودان عندما نعجز عن حل قضايانا فندلو بها إلى حُكام بلاد الله الواسعة خوفاً ورهبةً بما سيلحق بحُكمنا غير الراشد. فهذا التشفى قد قضى ومضى أجله.
أما الاتفاقية الثانية فكانت معاهدة الخامس عشر من أيار (مايو) 1902م بين بريطانيا وإثيوبيا والتى نص البند الثالث منها على أن يتعهد الأمبراطور الأثيوبي منليك الثاني، ملك ملوك أثيوبيا، للحكومة البريطانية بعدم القيام أو السماح ببناء أية منشآت على النيل الأزرق أو نهر السوباط يتأثر بها إنسياب المياه إلى النيل إلا بموافقة الحكومة البريطانية وحكومة السودان.(11) والله هذا سخف آخر. ألم تكن حكومة السودان وقتذاك هي الحكومة البريطانية؟ وما أغرب الأمرُ أيضاً أن تمارس بريطانيا سلطات كهذه على إمبراطورية مستقلة وتجبرها على الرضوخ. ولكن حقيقة الأمر الواقع، هذا ما يلقاه الضعيف من الأقوى عوداً والأصلب ظهراً، أو كما يقولون. أما المادة الرابعة من المعاهدة الثالثة بين بريطانيا، فرنسا وإيطاليا العام 1906م، (12)جاء فيها الآتى: على الدول الثلاث العمل سوياً لحماية مصالح بريطانيا العظمى ومصر فى حوض النيل وبخاصة فيما يتعلق بالتحكم فى مياه النيل ورافده وذلك بمنع أثيوبيا من ممارسة مطلق سيادتها (Absolute Sovereignty) على مصادر مياهها الداخلية. لا ريب، غلبت بريطانيا، والحال كذلك فى حروب المصالح بين الدول الكبرى والدول الصغرى التى فيها تخسر وتضيع الأمم الصغرى، فما أظلم الإنسان.
مهما يكن من أمر الإتفاقيات هذه، فقد فشلت بريطانيا،ً أو إدعت الفشل، عملياً فى السيطرة على وإدارة موارد مياه النيل الرئيسة في المرتفعات الأثيوبية إلا أن الضغوط السياسية المصرية عليها نجحت فى تعجيلها لإبرام إتفاقية مياه النيل مع مصر، كما أسلفنا الذكر العام 1929م، ربما لتخفيف الضغط عليها من ناحية أو من أجل الإستحواذ وحدها بالسيطرة الكاملة على قناة السويس التى كانت أقصر الطرق لربطها بآسيا. ومما لا جدال فيه أن قلة المياه ما برحت تجر دول الحوض للصراع وربما المواجهة المسلحة مستقبلا وما المهاترات الكلامية والحديث داخل برلمانات هذه الدول إلا مؤشرات أولية لهذا الصراع.
مصر والسودان: أشقاء في السراء... أعداء في الضراء
محاولات مصر الدؤوبة لتوحيد وادى النيل، لا من أجل شئ غير الماء، لها مبرراتها. فحديثاً أظهر تقرير تنمية المياه العالمية التابع للأمم المتحدة (UN World Water Development Report) الذى يبيِّن الحد الأدنى من نصيب الماء للفرد سنوياً على أن يوغندا والسودان يحتلان المركزين اﻟ 115 واﻟ 129، على التوالي، بينما كان ترتيب بلدان أثيوبيا (137)، كينيا (154) ومصر (156) من مجموع 180 دولة. (13) وإذا ما اعتبرنا أن الحد الادنى المقبول من الماء سنوياً هو ألف متر مكعب للفرد، فإن نصيب الفرد في مصر كان 1100 م۳ في 1992 إلا أن هذه الكمية ستنخفض إلى 645 م۳ في العام 2025م. (14) كذلك أوردت تقارير المعونة الأمريكية أن مصر ستعانى عجزاً فى ميزان المياه بما يقدر ﺒ 16% إلى 30%. (15) نتيجة لهذه التقارير وتلك "الحكاوي" التي أوردناها، كان لمصر الحق في الخوف من أى عمل يهدد إنسياب المياه إليها. كذلك من الطبيعى والمنطقى أن تسعى لتأمين مصادر المياه بأية وسيلة وبأى ثمن ولو قاد ذلك لحرب لا هوادة فيها نسبة للعلاقة الطردية بين حاجة التنمية الإقتصادية لدول الحوض والحاجة الماسة للمياه لدعم تلك التنمية من ناحية، وإختلال المعادلة أوعدم التوازن بين الوارد السنوي من المياه لقلة الأمطار أو عدم إزدياد الموارد المائية ومعدلات إنسياب المياه إليها من ناحية أخرى. فلتأمين شر هذه الهواجس قامت مصر ببناء قناة الوادي الجديد في الصحراء المصرية الغربية (منطقة توشكى) بتكلفة قدرها 2 بليون دولار لربط مجموعة الواحات الصحراوية (الواحة الداخلة والخارجة) ببعضها وببحيرة ناصر من أن أجل التخزين وإستغلال مزيداً من الأراضى.(16) إلا أن السؤال الكبير هو من أين ستحصل مصر على الماء لملئ هذه القناة علماً بأنها حصلت على كامل حصتها من مياه النيل. تكمن الإجابة فى سعيها في المضي قُدُماً لدعم السودان سياسياً (المبادرة المصرية-الليبية) لما لها من مصالح لا سيما لتطوير وتنمية مشاريع على النيل لملئ هذه البحيرات.
مهما كان من مغزى ذلك الدعم فإن توتر وفتور العلاقات بين مصر والسودان، بين الفينة والأخرى، في العقد الأخير من القرن الماضى إلا إنعكاساً وإمتداداً لصراع له من السنين عدداً على مَنْ سيسيطر على مصادر المياه. فليس سراً أن مصر، أكثر الدول خوفاً من أن تتعرض حصتها للإنتقاص، جاهزة وقادرة على التدخل العسكرى لإيقاف أي عمل من شأنه "العبث" بمصادر المياه دون موافقتها حتى ولو كان ذلك العابث هو دولة السودان الشقيق. فحرب الموارد بين الدول العربية الشقيقة والأكثر تجانساً وإنسجاماً، لكثيرة. أسباب الإستحواذ على الموارد قطعت الوشائج الأخوية والرابطة العربية وحطمت شعارات كأمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة وكوحدة - حرية - إشتراكية. دونكم حرب اليمن والسعودية العام 1964م التي لم تكن من أجل الحدود بقدر ما كانت من أجل النفط، ثم كانت خيانة صدام حسين على الأمة العربيَّة باحتلال الكويت صبيحة اليوم الثاني من (آب) أغسطس العام 1990م من أجل النفط ذاته. إذن، ما الذى يمنع السودان ومصر من الدخول فى مثل هذا الإحتكاك الرجيم من أجل البقاء؟
احتج السودان العام 1993م على الخطة المصرية لنقل الماء إلى سيناء، فكان ردود الفعل المصرية كثيرة وعنيفة. فمثلاً أعلن عمرو موسى وزير الخارجية المصرى آنذاك (الأمين العام الحالى للجامعة العربية) رداً لتهديدات الدكتور حسن الترابى بقطع الماء عن مصر بقوله: ﺒ"ألا يلعب بالنار" وأردف وزير الإعلام صفوت الشريف أن مصر ترفض رفضاً باتاًً التهديدات الجوفاء من نظام الخرطوم وإنَّ أي تلاعب أو العبث بالماء سيُواجه بقوة وحزم، ثم تبعه وزير الماء والموارد، عبد الهادى راضى بوصف إتفاقية مياه النيل ﺒ "الخط الأحمر" الذى لا يمكن تخطيه. (17) ثمَّ جاء مسك الختام من الرئيس المصري محمد حسنى مبارك بالقول: لن أصمت بعد الآن فى وجه الإستفزازات السودانية الكثيرة، ولا أريد أن أؤذى السودانيين الغلابة، ولكن أقول والعالم يسمعنى، إذا ما إستمروا في موقفهم هذا وإتخذوا إجراءاتهم، فلي إجراءاتي الخاصة. فحسبما أوردت بعض المصادر، أنه في آب (أغسطس) العام 1994م خطَّطت مصر، ثم ألغت، غارة جوية كانت تعتزم القيام بها على حكومة الخرطوم بسبب قيام الخرطوم ببناء سداً على أحد روافد النيل. (18) كما كاد توتر العلاقات السودانية-المصرية إثر إتهام السودان فى الضلوع لمحاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في أثيوبيا العام 1995م أن تُعجِّل بمثل هذه المواجهات. بالفعل دخلت الدولتان فى مواجهة إتخذتا مثلث حلايب السوداني–المصري مسرحاً تجريبياً لذلك النزاع الصغير (Mini-conflict)، ولكن الرؤية الحصيفة للقيادة المصرية كمؤسسة ترعى مصالح شعبها حالت دون القيام بعمل تأديبى ضد نظام الخرطوم لأن الإقدام على عمل إنتقامي من أجل فرد، ربما إرتأت مصر، سينتج عنه معاناة للشعبين "الشقيقين". لا يشك أحد فى القول أنه لو أقدم السودان أو حاول الإمساك أو"التلاعب" بالماء الذى يجرى صوب مصر فسيكون الموقف، الأخوي، واحد وواضح: التعامل بالتي هي أخشن.
السودان وأثيوبيا...تواصُل علاقات الدم
حسب تقديرات الباحثين فى مجال المياه تساهم المرتفعات الإثيوبية بأكثر من 71 بليون متر مكعب، أى ما يعادل 85% من من إيرادات مياه النيل السنوية إلا أن إستغلال أثيوبيا من هذه الكمية يبلغ 0.65 بليون متر مكعب، أي 1% من الإيراد السنوى وفى مقابل هذه الكمية تبلغ مساحة الرقعة المروية فى أثيوبيا 8,000 هكتاراً مقارنة، مثلاً، ﺒ 2 مليون هكتاراً فى السودان. لا تختلف الصورة فى مجال الطاقة الكهربائية كثيراً حيث تبلغ القدرة الكامنة للتوليد الكهربائى 60 بليون كيلوواط/ساعة إستطاعت إثيوبيا أن تستغل منها 2.3 مليون كيلو واط/ساعة فقط بينما ينتج خزان الروصيرص 2.7 ميغا واط/ساعة/اليوم. على ضوء هذه التقديرات يبقى الخوف من مصر والسودان والخطر عليهما اذا أقدمت أثيوبيا فى بناء مشاريع مائية فى أراضيها لدرء مخاطر المجاعات وتوليد الطاقة الكهربائية لتلبية إحتياجات الصناعة.(19)
يُذكر على أنه فى هامش الإجتماع الوزارى السابع بين السودان وأثيوبيا في تموز (يوليو) 2003م، والذي لم يتطرق بقليلٍ أو كثيرٍ، من قريبٍ أو من بعيدٍ لموضوع الماء، لم يخفِ وزير خارجية السودان السابق الدكتور مصطفى إسماعيل عثمان كامل تأييده ورضاه، بعد مُداورة وهروبٍ بوّاح، بإتفاقية 1959م لتقاسم مياه النيل عندما سُئل ما إذا كان سعيداً بها. (20) ما عاب هذه الإجابة هو عدم الدبلوماسية واللباقة حتى لا تثير مشاعر الغبينة الدفينة لدى أثيوبيا لظلم الاتفاق لها. فخلافات السودان مع أثيوبيا كثيرة ولكن الحديثة منها كانت على مواقف كلِ منهما فى دعم حركات التحرير – دعم السودان لثوار إريتريا ضد إثيوبيا – ومساندة أثيوبيا للحركة الشعبية والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان ضد حكومات السودان العسكرية والمدنية. تلك المساندة والإسنادات المصلحية أدت إلى أن يغض هذان البلدان الطرف عن النظر فى الشؤون المتعلقة بالتنمية التى تعتمد إعتماداً رئيساً على الماء فضلاً عن إنشغال الدولتين فى تعزيز تراساناتها العسكرية. أما الآن، فقد هدأت هذه المهاترات بعد نيل إريتريا الإستقلال وإحلال السلام جنوب السودان، فما هو إلا مسألة وقت فيه تتفرغ الدولتان لموضوع الماء فتتحول الرياح الهادئة وعلافات الدم إلى عاصفة بركانية عاصفة. هذا ما تغافله كثيرٌ من ساسة السودان وتمسكهم بمُسلَّم العلاقات "الاخوية" الأزلية بين الشعبين السوداني والأثيوبي والتي لا شك فيها!
مصر وإثيوبيا .. وحديث الحرب والبناء
إن الخلاف بين مصر وإثيوبيا فى موضوع المياه لقديم، كما أسلفنا، ولكنه مستمر ومتجدد. فمثلاً، هدد الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات بإتخاذ إجراءات صارمة بما فيها الحرب إذا ما أقدمت أثيوبيا على إقامة مشاريع إنمائية على النيل الأزرق أو نهر بارو (Baro River)، أحد روافد نهر السوباط، للإنتاج الزراعى لسد الفجوة الغذائية. (21) هذا المطمح لا يمكن إنجازه إلا ببناء حوالى ثلاثة وثلاثين سداً، بني حتى الآن سبعة سدود الأمر الذي يتطلب المزيد من المياه بواسطة أثيوبيا وبالتالي تخفيض إمكانية قيام مشاريع التطوير والتنمية في باقي وادي النيل. (22) دفعت هذه المخاوف بالسادات أن يعلن فى صيف 1980م أنه لا يحتاج لإذن من أثيوبيا إذا ما قرر تحويل مياه ترعة التصريف إلى سيناء. (32) فمصر بوزنها الإقليمي في المنطقتين الإفريقية والعربية أصبحت كالغول ومصدر الخوف للدول الإفريقية الواقعة على حوض النيل لقوتها العسكرية. أما موقعها الإستراتيجي فقد أكسبها ثقلاً سياسياً عالمياً لا يمكن تجاهله وتهوينه. فقد أدت القوة السياسية العالمية هذه، ولا سيما ما يتبعها من تأثيرات على قرارات هامة، إلى إتهام وزير التجارة والصناعة الإثيوبيي أتو قيرما بيرو (Ato Girma Birru)في آب (أغسطس) العام 2004م مصر بأنها استغلت نفوذها السياسية للضغط على بيوتات المال العالمية وبخاصة العالم العربي بعدم منح ديون أو تقديم قروض مالية لأثيوبيا لتمويل مشاريع تنموية على حوض النيل الأزرق. (24) أما على النطاق الإقليمى الإفريقى فقد تردد في بعض الأوساط أن مصر وقفت عائقاً دون حصول أثيوبيا على قرض من بنك التنمية الأفريقى لنفس الغرض. إزاء هذه الإتهامات وفى محاولة لإطفاء شرارات النار من الإنداع إنبرت وزيرة الشئؤن الخارجية المصرية لتصرح عن رغبة مصر الاكيدة وإستعدادها لتقديم المساعدة الفنية لإثيوبيا لإستغلال مصادر النيل وبخاصة في مجالي مشاريع الري والكهرباء إلا أنها لم تفصح عن ماهية هذه المساعدات الفنية. عدم التصريح هذا يؤكد حرص مصر على السيطرة الكاملة على النيل تثبيتاً لحقها فى تنفيذ بنود إتفاقية مياه النيل طمعاً وطمحاً.
مصر وكينيا .. وإعلان الحرب
تعتبر كينيا من أقل دول الحوض مساهمة فى إيرادات مياه النيل إلا أن صوتها فى الإحتجاج على الإتفاقيات وعلى القسمة الضيزى أعلى من أية دولة. ففي إحدى جلسات البرلمان الكيني أعلن أعضاؤه بقيادة وزير الطاقة رايلا أودينجا (Raila Odinga)أن اتفاقية المياه المبرمة العام 1929م بين السودان ومصر بائدة لأن مصر هى المستفيدة الوحيدة منها فلا يمكن أن يقبع الكينيون جالسين دون استعمال الماء لري أراضيهم في حين أن مصر تخطط لتصدير بعض الماء إلى سيناء، وطالبوا الحكومة بمراجعة الاتفاقية وبحث دعم دول شرق إفريقيا الأخرى، وبخاصة تنزانيا ويوغندا. كما استفسر في استنكار شديد عضو البرلمان بول مويتى (Paul Muite) قائلاً: إن الكينيين اليوم يستوردون المنتجات الزراعية من مصر التى تنتجها من مياه النيل فلماذا لا نستعمل نفس الماء لزراعة فاكهتنا فى وطننا؟ 25)) هذه الصرخة تبعتها واحدة أقوى وأعنف من مساعد وزير الشؤون الخارجية الكيني موسيس ويتانقولا مجاهراً: إن الحكومة لتعتبر معاهدة مياه النيل لاغية وأنه – أي الوزير - يبحث نظاماً جديداً يضمن لكينيا حقها وواصل أنَّ كينيا لا تقبل أية قيود لإستعمال بحيرة فكتوريا أو نهر النيل ثم أدرك، إلى أين يجره الجهر بالقول إلا لينادي الدول المعنية للمشاركة في إقرار كيفية إستغلال المياه. نعتقد أن ما غاب عن الكينيين أنهم لم يمحصوا أو يحسنوا قراءة الإتفاقيتين كيما يختاروا أقصر وأسلم الطرق، على الأقل، لتخفيف حدة الصراع. القصور فى التحليل والإنسياق وراء العواطف الجيَاشة حجبا هؤلاء المشرعيين من التريث في إلقاء القول على عواهنه وتبصير العواقب من التصريحات غير المسؤولة ليس لشئ ولكن لكسب مآرب سياسية. هذا ما سنرمى إليه لاحقاً، بأساليب الإستقطاب من ساستنا بمناداتهم لتفنيش المشكل المائي المُعقّد في نيفاشا.
ثم ندلف لنقرأ رد فعل مصر، التي ربما لم يدرك الممثلين الكينيين بوجود ممثليها بنيروبي، على شطحاتهم وحسبوا أنْ يُتركوا سُدىً. كان رد فعل مصر مختصراً مفيداً وحازماً على لسان وزير الرى محمود أبوزيد حيث قال: تعتبر مصر هذه التصريحات "عملاً عدائياً عليها" (Act of war on Egypt) وستُفرض عقوبات سياسية وإقتصادية ضد كينيا وحينها لن تستطيع نيروبى إستعمال كلمة السيادة (Sovereignty) كورقة لحماية نفسها من أي عمل تود القاهرة إتخاذه. ( (26هذا هو الكلام الجد. فالجد جد والمزاح مزاح عندما يتعلق الأمر بمصلحة الشعب، فمسألة الماء بالنسبة لمصر هي الموت أو الحياة فلن تتردد في خوض أية حرب ومع أية دولة على منابع النيل.
اوغندا تجلس على البحيرة .. ومصر تمنع
تجلس اوغندا على مخزن مياه منابع النيل القصي "بحيرة فكتوريا" كما منحها الله موقعاً تحسد عليه من حيث وفرة الموارد الطبيعية نسبياً إلا أنها تطمع، كغيرها، للتنمية العامودية فى مجالات الصناعة، الطاقة الكهربائية والزراعة. وكغيرها أيضاً، تشعر يوغندا بظُلم الإنسان لها بحرمانها من الإستغلال الأمثل للماء. لذلك عبَّر اليوغنديون على المستويين الشعبي والرسمي عن رغبتهم فى الاستفادة من الماء. فعلى المستوى الشعبي، كتب أحد المعلقين اليوغنديين (شارلس أونيانقو أووبوCharles Onyango-Obbo ) تعليقاً يستنكر فيه تمتع مصر بنعمة الوصول للبحر وحجبها ليوغندا المُغلقة (Landlocked) عن البحر من الإستفادة من الماء، ليس لجرمٍ أُرتكب، ولكن لحقيقة أن يوغندا تجلس على مصدر النيل. (27) هذه الإشارات والإيماءات من مواطن ليس فى موضع صنع القرار لها من الدلالات ما يذخر به عامة الناس بالمسؤلية فلا تأخذ الظنون أهل السياسة أنهم وحدهم الأقدر على الحس والحدس بهموم الشعب. أما رسمياً فقد سلك البرلمان اليوغندي نهج رصيفه الكيني، وكأنهما على موعدٍ محددٍ، وطالب صراحة بالتعويض من مصر لما أسموه "حرمان يوغندا" من إستغلال موارد المياه للتنمية وإعطاء الحق الكامل لمصر. لم يقف عضو البرلمان أمون موزورا عند التذمر والشكوى بل تقدم بإقتراح يقضي بإلغاء اتفاقيات مياه النيل التي أبرمت قبل استقلال بلاده جملةً، وطالب بتعويض مالي من مصر قدره ۱‚۲ مليون دولاراً سنوياً. هذه هى مهددات الأمن و الإستقرار فى المنطقة التى تتطلب الإجماع المسؤول، فهل من متعظ؟
تنزانيا والتهجم على الإتفاقية ...السير نحو مصر
تمثل تنزانيا نقيضاً ليوغندا من حيث الموارد المائية. فحديثاً عانت الأجزاء الشمالية الغربية من تنزانيا من موجات الجفاف بسبب قلة الأمطار مما حدى بها، فردياً، ببناء مشروع أنبوب مائي بطول 170 كلم بتكلفة قدرها 85.1 مليون دولار لنقل المياه من بحيرة فكتوريا إلى تخوم شمال - غرب تنزانيا، تحديداً إلى كاهاما (Kahama)في منطقة شينيانجا (Shinyanga) ليستفيد منها 400,000 إلى 900,000 نسمة.(28) المشروع من حيث المبدأ ما هو إلا تعبيراً لحلقة من مسلسل حلقات الغضب التي تتلقاها اتفاقيتا مياه النيل من دول جنوب الحوض. هذه المبادرة الفردية ضد الاتفاقية قد تكون الأولى وستتبعها أُخريات إن سكتت عنها مصر إلى أن ينفذ صبرها وبعدها تقوم القيامة. ومهما كان من شأن، فكالوزير الكيني ردد وزير الماء التنزاني إدوارد لوواسا (Edward Lowasa): أنَّ هؤلاء القوم – وها الإشارة هنا لأهالي منطقة شينياجا - ليس لهم ماء فكيف يجلسون متفرجين بدون عمل أي شئ والبحيرة قابعة هناك مليئة بالماء. هذه هي مسؤولية الراعي تجاه رعيته، وليس الذي يبحث عن المهالك لشعبه ولا يهتدي.
مبررنا للتشاؤم من هذه التصريحات والقرارات الإنفرادية هو انكماش مصادر المياه والخوف الشديد من نشوب أعنف مواجهات القرن في بلادٍ لا تزال الطبيعة تأخذ على أهلها شر مأخذ. فلضخامة مشكلة الماء سعت دول الحوض إقليمياً، بقدر من المسؤولية، لخلق مبادرات لمناقشة هذه القضية ذات الدرجة العالية من الحساسية بهدف الوصول لصيغة توفيقية دون إفلات الأمر ليأخذ منعطفاً خطيراً
.....يتبع.....