للاصدقاء من البلدين هذا المقال يتحدث عن سياسة تونس وموقفها في الصحراء الغربية منذ عهد بورقيبة الى الان
انصح الجميع لدرسته حتى تفهمو اسباب موقفنا
السياسة المغاربية لتونس... السير بين حقول الألغام
منذ بداية عقد ستينات القرن العشرين وعلاقات الجزائر المستقلة عام 1961 بالمغرب في أسوأ حالاتها، فإما اقتتال مباشر بين الجيوش أو حرب باردة ديبلوماسية وإعلامية ومخابراتية، ناهيك بالسباق المحموم للتسلح الذي انخرط فيه البلدان منذ عقود. وانتهى هذا الصراع الإقليمي بغلق الحدود نهائياً بين الطرفين عام 1994 تاريخ حصول تفجيرات بملهى ليلي في مدينة مراكش فرض بموجبه المغرب التأشيرة على الجزائريين وردت الجزائر بإغلاق الحدود.
يتذمر المغرب من التقسيم الاستعماري غير العادل للأراضي في المنطقة الذي استفادت منه الجزائر، والتي ورثت مساحات شاسعة عن فرنسا، ويؤكد أن ولايتي تندوف وبشار الجزائريتين هي أراض مغربية. وتصرّ الجزائر في المقابل على أحقيتها بالولايتين اللتين سالت فيهما دماء جزائرية من أجل التحرر من الاستعمار الفرنسي وتؤكد أنهما جزء لا يتجزأ من أراضيها.
وأدت هذه الأزمة الحدودية إلى اندلاع حرب الرمال بين البلدين خلال سنتي 1963 و1964 والتي انتهت بوساطة من كل من جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي إلى وقف إطلاق النار ثم ترسيم الحدود بين الطرفين في وقت لاحق. وكاد البلدان يعيدان الكرة وينخرطان في حرب طويلة إثر سيطرة المغرب على أغلب الأراضي في الصحراء الغربية أواسط السبعينات من القرن الماضي من خلال المسيرة الخضراء التي خطط لها ونفذها الملك الراحل الحسن الثاني مقابل دعم الجزائر للجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب المعروفة اختصاراً بالإسبانية بـ"البوليساريو" التي تعتبر "المسيرة الخضراء" احتلالاً مغربياً لبلادها.
ولم يعرف البلدان علاقات طبيعية رغم تأسيس اتحاد المغرب العربي عام 1989، تم الاتفاق أثناء مفاوضات تأسيسه على تحييد قضية الصحراء وتركها للأمم المتحدة التي كان من المفروض أن تنظم استفتاءً بشأنها. لكن هذا الاتحاد سرعان ما تعطلت هياكله وتجمدت بفعل هذه القضية التي بقيت إلى اليوم السبب الرئيسي للتوتر في العلاقات الجزائرية المغربية.
ولم تقف تونس مكتوفة الأيدي إزاء هذه الأزمات المتكررة بين الجزائر والمغرب، حيث قامت بمساعيها للمساهمة في إيقاف حرب الرمال بدفع من الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. وتواصل الأمر خلال المناوشات التي حصلت عام 1976 حيث لم يتأخر ساكن قرطاج في إرسال مبعوثيه من كبار المسؤولين في الدولة لتطويق المسألة قبل أن تتطور وتستفحل لتصبح حرباً ضروساً على غرار ما حصل في بداية الستينات من القرن الماضي.
يقول وزير الداخلية والخارجية التونسي الأسبق الطاهر بلخوجة في كتابه العقود الثلاثة لبورقيبة متحدثاً عن مساعي تونس لوقف التصعيد في اشتباكات سنة 1976: "في الثلاثين من كانون الثاني (يناير)، استدعاني الرئيس بورقيبة إلى اجتماع مضيق مع الهادي نويرة الوزير الأول والحبيب الشطي وزير الخارجية والشاذلي القليبي مدير الديوان. ومباشرة، كلفني الرئيس بمهمة عاجلة لدى الرئيس الجزائري وملك المغرب، قائلاً: "لقد كنت أراها قادمة، فالرهان كبير جداً... ينبغي محاولة وقف هذا التصعيد وإلا فإن الأمور ستمضي بعيداً". استُقبلنا في الجزائر من قبل الرئيس بومدين الذي كان مُحاطاً ببوتفليقة، وبنظيري أحمد عبدالغني والمدير العام للأمن أحمد درايا والعقيد محمد يحياوي. قال بومدين الهادئ والمصمم: "لقاءات القمة بيننا وحسن نيتنا، تمت خيانتها باتفاق مدريد الثلاثي الذي أعاد إسبانيا إلى المنطقة والذي يهدف الى تقسيم الصحراء على حساب شعب بأكمله يُراد تشتيته... ينبغي أن نتفق جميعاً على ألا يكون هناك أي إخلال بالتوازن في المنطقة، جغرافياً أو سياسياً من دون اتفاقنا جميعاً... وبلادي مصممة على إرسال كل قواتها في المعركة في حال حصول عدوان جديد بعد أمغالا، حيث لم نرد أن نرُد تفادياً للتصعيد...".
ويضيف: "هكذا مرت ساعتان كاملتان، لم أتمكن من التدخل خلالها إلا في شكل متفرق، في جو خانق، فقد كان بومدين بحاجة إلى تفريغ ما في نفسه... لكنه بدا لي صادقاً، وقد خرجت مقتنعاً بأنه مصمم على الرد في أقرب اشتباك. كانت الساعة السابعة مساء تقريباً، دعاني الرئيس الجزائري إلى قبول دعوته للعشاء، فهمت من ذلك أن بومدين يريد استبقائي كي أواصل المحادثات مع مساعديه". ويتابع: "في الحادي والثلاثين من كانون الثاني (يناير)، في الصباح الباكر، عدت إلى تونس وتوجهت مباشرة إلى قرطاج حيث وجدت الرئيس محاطاً بالوزير الأول ووزير الشؤون الخارجية ومدير الديوان. وبعد تقريري عن الزيارة وبعد تبادل مطول لوجهات النظر، خلصنا إلى أنه إضافة إلى الآثار غير المتوقعة على الملكية المغربية العتيقة وعلى الثورة الجزائرية الفتية، وبغض النظر عن الطموحات التوسعية والمصالح الاقتصادية لهذا الطرف أو ذاك، فإن تونس لا يمكنها إلا أن تتخوف من أي تطور، لذلك ينبغي أن تصر للحصول على هدنة فورية، في انتظار تحقيق سياسة حسن جوار واحترام متبادل... وفي ظل هذه الظروف ينبغي إقناع المغرب بالاكتفاء بنصر أمغالا وتهدئة اللعب، مع تحذيره بأن الجزائر قد ترد في شكل مختلف عن ردها في حرب الرمال. بعد الاتصالات الدبلوماسية، أخذت الطائرة الخاصة، في المساء نفسه إلى الرباط، ومنها إلى فاس حيث كان يقيم الحسن الثاني، وفي اليوم التالي، دامت المقابلة مع الملك ساعة و15 دقيقة وكان بمفرده، على عكس بومدين وتحدث جلالته بتعاطف عن زيارتي الأخيرة إلى المغرب، سنتان قبل ذلك. ومررنا فوراً إلى قضايا الساعة وعبّر لي عن مدى استيائه وحزنه لموقف القادة الجزائريين ووصف الوضع باختصار".
وقال: "سألني عن مهمتي في الجزائر فأجبته، إنها مهمة السلام نفسها التي أقوم بها هنا...". فكر العاهل لحظة ثم انطلق، بهدوء في عرض هجائي للجزائر كي ينهي عرضه الجيواستراتيجي بالقول: "... قضية الصحراء قضية مغربية - موريتانية، والبلدان معاً نجحا في دفع إسبانيا إلى الرحيل. والجزائر تريد التدخل وتعقيد الوضع، وبورقيبة يعرف الأسباب الحقيقية وكذلك أنا...". و ختم الملك بالحديث مطولاً عن حرب 1963، في أعقاب المحاولات التوسعية في تندوف...
واصل الحسن الثاني بحماس متحدثاً عن المزايا الحربية للشعب المغربي: "وبذلك فإن المغرب يدافع عن مجموع المنطقة ويريد حصر الجزائر بصورة نهائية داخل حدودها... وأنتم معنيون مثلنا تماماً...". كان تصميم الملك مثيراً... لم أبتعد معه كثيراً في التاريخ وعدت إلى الموضوع قائلاً: "أحب أن أرجع إلى بورقيبة بقراركم وقف التصعيد"، وهو ما جعلني أنصت إلى تدخل طويل من الملك ختمه بالقول إن "الجيش سيقوم بواجبه...". أمام هذا التصميم، وبتلقائية، تحملت مسؤولية كلامي وقلت له: "ستكون تونس مضطرة إلى شجب واستنكار أي تعقيد جديد". ويضيف: "قطّب الملك حاجبيه، ثم سأل :هل هذا هو الموقف الشخصي لبورقيبة؟ أجبت، يا جلالة الملك، هذا ما فهمته... لقد ذكرتم دوماً بنصائح المرحوم سيدي محمد الخامس للحفاظ على استراتيجية سياسية متشابهة بين الرجلين... ثم أنهيت كلامي بالإشارة إلى أن الجزائريين مصممون هم أيضاً على القتال. ران صمت ثقيل وتوقفت الجلسة وطلب مني الحسن الثاني أن أمدد فترة إقامتي: كان يريد استقبالي مرة ثانية...".
ويتابع الرواية، في المساء، حوالى العاشرة، تم استقبالي من جديد في قصر فاس. وكان العاهل، هو الذي استقبلني في طابق آخر في مكتب جديد، مرتدياً لباس القائد العسكري، وقال لي: "لقد اجتمعت مع هيئة أركاني... وهذا الغلاف يضم تعليماتي للمضي قُدُماً، كان علينا هذا المساء استرجاع بير لحلو لكنني أوقفت كل شيء موقتاً، قل هذا الكلام لبورقيبة وآمل في أن يحصل على المقابل من الجزائر وألا يتم إحباطه...".
إن هذا الحياد الإيجابي للخضراء في العلاقة مع الجزائر والمغرب كثيراً ما أدى إلى نتائج جيدة في المنطقة لكنه أيضاً كثيراً ما أوقع تونس في الحرج كلما أراد أحد الطرفين انتزاع موقف مساند منها سواء في قضية الصحراء أو في غيرها. فقد حرص المسؤولون المغاربة وعلى سبيل المثال في عام 2016 خلال حكم الرئيس الباجي قائد السبسي على أن يزور رئيس الحكومة التونسية الأسبق الحبيب الصيد مدينة الداخلة الصحراوية لحضور مؤتمر، لكن الأخير تفادى ذلك حتى لا تفسر زيارته على أنها انتصار لموقف المغرب من قضية الصحراء، وهو ما أثار استياء المغرب بخاصة بعد استعمال الصيد لمصطلح "الصحراء الغربية" الذي لا يحبذه المغاربة ويستعيضون عنه بعبارة "الصحراء المغربية" وذلك في ندوة صحافية عقدت بتونس.
وقد أعادت هذه الحادثة، وحادثة عدم استقبال العاهل المغربي محمد السادس لرئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد منذ سنتين بسبب موقف غير مساند للمغرب في قضية الصحراء أثناء انعقاد اللجنة العليا المشتركة بين البلدين، إلى الأذهان أزمة اعتراف تونس باستقلال موريتانيا ودعم ضمها إلى الجامعة العربية ومنظمة الأمم المتحدة خلافاً لإرادة المغرب. فالرباط كانت تعتبر موريتانيا مع بداية الستينات من القرن الماضي جزءاً من أراضيها ولم تعترف باستقلالها عن فرنسا إلا عام 1969 ولم تغفر للرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة أنه أول من اعترف باستقلال هذا البلد المغاربي الشقيق.
أما الجزائر، فإن رغبتها في انتزاع موقف تونسي مساند لها في علاقة بالمغرب قد تراجع مع تمسك بورقيبة وبن علي من بعده باستقلالية القرار التونسي مغاربياً وعدم التخندق مع هذا الطرف على حساب ذاك. وأصبح حكام بلد المليون شهيد يكتفون بالحياد الإيجابي لجارتهم الشرقية ولم يسعوا في العقود الأخيرة إلى طلب أي تغيير في الموقف التونسي حتى خلال العشرية الأخيرة التي عانت فيها تونس من الضعف والوهن والاختراقات.
وتتعرض العلاقات التونسية - الجزائرية هذه الأيام إلى شبه أزمة تسببت فيها تصريحات مسؤولين سابقين تونسيين من الوزن الثقيل اعتبرتها الجزائر رسمياً وشعبياً وإعلامياً مسيئة لها وغير مسؤولة ومساندة للمغرب. وصدرت هذه التصريحات عن الرئيس التونسي الموقت الأسبق المنصف المرزوقي ووزير الخارجية الأسبق أحمد ونيس، وحاول الحد من تأثيرها السلبي وزير الخارجية التونسي الأسبق منجي الحامدي الذي دافع عن الجزائر وعن العلاقات الثنائية الممتازة بين البلدين.
فالخضراء ومنذ استقلالها، بعد سنوات الجمر التي عاشتها في ظل الإستعمار الفرنسي، وجدت نفسها في وضع لا تحسد عليه، في محيط مغاربي ملتهب عاصر فيه حكامها بداية من بورقيبة حرباً عسكرية وأخرى باردة بين الجزائر والمغرب وتصرفات غير محسوبة ومغامرات استفزازية لمعمر القذافي، وذلك على مدى عقود، إضافة لما تعيشه ليبيا اليوم من انقسام داخلي يقتضي من التونسيين الحذر في المعاملات والتصريحات. ولعل هذا ما جعل البعض يصف السياسة المغاربية لتونس طيلة الستين سنة الماضية بأنها عملية سير وسط حقول الألغام.
www.annaharar.com