21) الشريف حسين بن علي: شريف مكة الذي خان الخلافة وباع الجزيرة
من بين الخيانات الكبرى في القرن العشرين، يبرز اسم الشريف حسين بن علي (1854 – 1931م)، شريف مكة وأمير الحجاز، الذي ارتبط اسمه بـ الثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية، والتي فتحت الباب على مصراعيه لدخول الاستعمار البريطاني والفرنسي إلى قلب العالم العربي والإسلامي.
من أمير مكة إلى عميل بريطانيا
كان الشريف حسين أميرًا لمكة منذ عام 1908م، في ظل الدولة العثمانية التي كانت تمنحه الشرعية بصفته ممثلها على الحجاز. ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، بدأت بريطانيا تبحث عن أدوات لإضعاف الدولة العثمانية من الداخل. وجدت ضالتها في الشريف حسين، الذي كان يطمح لأن ينصّب نفسه "خليفة" على المسلمين.
دخل الشريف حسين في مراسلات سرية مع المندوب السامي البريطاني في القاهرة السير هنري مكماهون، عُرفت باسم مراسلات حسين–مكماهون (1915–1916م). في هذه الرسائل، وعدته بريطانيا بدعمه لإقامة "مملكة عربية مستقلة" تمتد من الجزيرة العربية إلى الشام والعراق، مقابل أن يعلن الثورة على العثمانيين.
الثورة العربية الكبرى: طعنة في ظهر الخلافة
في يونيو 1916م، أعلن الشريف حسين "الثورة العربية الكبرى" ضد الدولة العثمانية، مدعومًا بالذهب والسلاح البريطاني. جنّد أبناءه – فيصل وعبد الله – وقادوا قوات البدو في الحجاز والأردن وسوريا، بينما كانت الجيوش البريطانية بقيادة الجنرال اللنبي تتقدم من مصر والعراق.
هكذا وجد العثمانيون أنفسهم في حرب على جبهتين: الخارج (بريطانيا وحلفاؤها) والداخل (الشريف حسين). هذه الثورة سهّلت سقوط الشام والقدس وبغداد في أيدي الاحتلال البريطاني والفرنسي.
قال اللورد كيرزن، وزير الخارجية البريطاني لاحقًا:
"لقد كان العرب خنجرًا غُرس في خاصرة تركيا، وساهموا مساهمة فعالة في إسقاطها."
الخديعة الكبرى
لكن ما لم يدركه الشريف حسين أن بريطانيا وفرنسا كانت قد عقدت اتفاقية سايكس–بيكو (1916م) لتقسيم المشرق العربي بينهما، وأن بريطانيا وعدت اليهود بوطن قومي في فلسطين عبر وعد بلفور (1917م). وحين انتهت الحرب، لم تمنح بريطانيا الشريف حسين "المملكة العربية الكبرى"، بل قسمّت البلاد إلى مستعمرات: فلسطين تحت الانتداب البريطاني، سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، والعراق وشرق الأردن تحت الوصاية البريطانية.
النهاية المذلة
بعد أن استنفدت بريطانيا خدماته، انقلبت عليه. ففي عام 1924م، أعلن الشريف حسين نفسه "خليفة المسلمين" بعد إلغاء الخلافة العثمانية، لكن العالم الإسلامي تجاهله. وفي العام نفسه، فقد الحجاز بعد أن طرده عبد العزيز آل سعود (مؤسس المملكة العربية السعودية) وسيطر على مكة والمدينة.
نُفي الشريف حسين إلى قبرص، ثم أُعيد إلى عمان حيث مات غريبًا عام 1931م.
كتب المؤرخ باتريك سيل:
"لقد صدّق الشريف حسين وعود بريطانيا، لكنه لم يدرك أنه لم يكن سوى أداة صغيرة في لعبة استعمارية كبرى."
وهكذا يبقى اسمه محفورًا في التاريخ كـ الرجل الذي باع الخلافة، وسلّم مقدسات الأمة، وفتح الطريق أمام الاستعمار الغربي والاحتلال الصهيوني لفلسطين.
22) مصطفى كمال أتاتورك: الرجل الذي أسقط الخلافة وقطع شريان الأمة
لم يعرف التاريخ الإسلامي في عصوره المتأخرة خيانة أعمق أثرًا من تلك التي ارتبطت باسم مصطفى كمال أتاتورك (1881 – 1938م). الرجل الذي خرج من صفوف الجيش العثماني ليصبح زعيمًا قوميًا في الأناضول، لكنه في النهاية لم يكتفِ بإسقاط آخر قلاع الخلافة الإسلامية، بل أسس مشروعًا شاملاً لاقتلاع الأمة من جذورها الإسلامية وإحلال هوية علمانية متغربة مكانها.
بداية الصعود
ولد مصطفى كمال في مدينة سالونيك (ثيسالونيكي حاليًا في اليونان) عام 1881م، في بيئة متأثرة بالتيارات الغربية والجاليات الأجنبية. التحق بالمدارس العسكرية العثمانية، وتدرّج حتى صار ضابطًا لامعًا في الجيش. لفت الأنظار بمهاراته في حرب الدردنيل ضد قوات الحلفاء خلال الحرب العالمية الأولى، حيث اعتُبر "بطلًا قوميًا".
لكن خلف هذا المجد العسكري، كان أتاتورك ينتمي فكريًا إلى التيار القومي الطوراني المعادي للفكرة الإسلامية الجامعة، والذي كان يطمح لاستبدال "الخلافة الإسلامية" بفكرة "القومية التركية الحديثة".
من بطل الحرب إلى خيانة الأمة
مع هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وتوقيع معاهدة سيفر (1920م) التي قسمت أراضيها، ظهر أتاتورك زعيمًا لحركة "التحرر الوطني" في الأناضول. لكنه بدل أن يجعل معركته معركةً لاستعادة الخلافة وتحرير كل الأراضي الإسلامية، ركز على تأسيس كيان قومي تركي منفصل، لا صلة له بالعالم الإسلامي.
في 1923م، نجح في التفاوض مع الأوروبيين على معاهدة لوزان التي اعترفت بالجمهورية التركية الحديثة، مقابل التنازل عن كل الولايات العربية والبلقانية. وهكذا أُسدل الستار على أربعة قرون من الخلافة العثمانية.
وفي 3 مارس 1924م، ارتكب الخيانة العظمى: ألغى الخلافة الإسلامية رسميًا، وطرد الخليفة عبد المجيد الثاني، منهياً بذلك رمز الوحدة السياسية والروحية للمسلمين منذ عهد الخلفاء الراشدين.
حربه على الإسلام
لم يكتفِ أتاتورك بإلغاء الخلافة، بل شنّ حربًا شاملة على الإسلام في تركيا:
- إلغاء المحاكم الشرعية والشريعة الإسلامية واستبدالها بالقوانين السويسرية والإيطالية.
- منع الأذان بالعربية وفرض الأذان بالتركية.
- إلغاء التعليم الديني وإغلاق المدارس الشرعية والتكايا الصوفية.
- إلغاء الحروف العربية وفرض الحروف اللاتينية عام 1928م لقطع صلة الأتراك بتراثهم الإسلامي.
- فرض السفور والزي الغربي بالقوة، وتجريم الحجاب في المؤسسات الرسمية.
قال عنه المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي:
"إن ما فعله مصطفى كمال في تركيا لم يكن مجرد إصلاح سياسي، بل كان قطيعة كاملة مع الإسلام، قطيعة لم يعرفها أي بلد مسلم قبله."
النهاية المأساوية
رغم أن الغرب احتفى به باعتباره "المصلح العظيم"، فإن نهاية أتاتورك كانت مأساوية: أصيب بتليف كبدي نتيجة إدمان الخمر، وتوفي في 10 نوفمبر 1938م في قصره بدولما بهجة في إسطنبول. ورغم تشييعه بجنازة رسمية ضخمة، ظل اسمه محفورًا في الذاكرة الإسلامية كـ الخائن الأكبر الذي طعن الأمة من القلب وأسقط رايتها الجامعة.
23) محمد رضا بهلوي: شاه إيران الأخير وخادم الغرب وإسرائيل
كان أبوه رضا شاه بهلوي قد فتح الباب واسعًا أمام الغرب ليهيمن على إيران، لكن ابنه محمد رضا بهلوي (1919 – 1980م) مضى أبعد بكثير، حتى صار حاكمًا مستبدًا وركيزة أساسية للمشروع الأمريكي–الإسرائيلي في قلب العالم الإسلامي. حكم إيران منذ عام 1941م حتى سقوطه بثورة 1979م، لكنه سيظل في ذاكرة الأمة كـ شاه النفط والخيانة.
البداية على العرش بقرار أجنبي
لم يكن صعود محمد رضا إلى العرش نتيجة إرادة شعبية أو إنجاز وطني، بل كان بقرار مباشر من بريطانيا والاتحاد السوفيتي. فحين غزت قوات الحلفاء إيران عام 1941م لإخضاعها، أجبرت والده رضا شاه على التنازل عن العرش ونفته، ونصبت مكانه الابن الطيع محمد رضا. هكذا بدأ عهده مُثقلاً بالعمالة والارتهان للأجنبي.
انقلاب 1953: عودة الدمية إلى مكانها
في مطلع الخمسينيات، حاول رئيس الوزراء المنتخب محمد مصدق أن يحرر النفط الإيراني من هيمنة شركة النفط البريطانية، فأمم النفط عام 1951م. أثار ذلك جنون لندن وواشنطن. وفي عام 1953م، نظمت وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) بالتعاون مع المخابرات البريطانية (MI6) انقلابًا عسكريًا أطاح بمصدق وأعاد الشاه إلى الحكم المطلق.
منذ تلك اللحظة، صار محمد رضا بهلوي شرطي الخليج لحساب أمريكا، وحليفًا استراتيجيًا لإسرائيل.
سياساته المعادية للإسلام
سار الشاه على نهج أبيه في محاربة الإسلام، بل زاد:
- دعم النفوذ الأمريكي والإسرائيلي اقتصاديًا وعسكريًا.
- سمح للموساد الإسرائيلي بتأسيس شبكة قوية في إيران لمراقبة المعارضة.
- استخدم جهاز المخابرات الشرس السافاك في قمع العلماء والطلاب والمعارضين، حتى امتلأت السجون بآلاف المعتقلين.
- حاول فرض ما سمّاه الثورة البيضاء (1963م): إصلاحات شكلية للزراعة والتعليم، لكنها كانت وسيلة لاقتلاع سلطة العلماء الشيعه وتغريب المجتمع.
وقد وقف ضده علماء الشيعه الكبار مثل الخميني الذي قال في خطبة شهيرة:
"إن إسرائيل هي التي تستفيد من إصلاحات الشاه، وإن حكومته إنما هي خادم لمصالح أمريكا."
بذخ الحاكم وخيانة الأمة
بينما كان الشعب الإيراني يغرق في الفقر، كان الشاه ينفق أموال النفط على نزواته وبذخه. في عام 1971م، أقام احتفالًا أسطوريًا في برسبوليس (عاصمة الفرس القديمة) بمرور 2500 عام على الإمبراطورية الفارسية، استُدعي له الملوك والرؤساء من أنحاء العالم، بتكلفة تجاوزت مئات الملايين، في وقت لم يكن الشعب يجد الخبز.
أراد أن يقدم نفسه كإمبراطور علماني حديث، يقطع كل صلة بين إيران وهويتها الإسلامية.
السقوط المدوي
لكن سياساته الاستبدادية وخيانته الصريحة للإسلام ومساندته للغرب ولإسرائيل فجرت ثورة شعبية عارمة عام 1979م، قادها العلماء الشيعه والطلاب والعمال. خرج الملايين في الشوارع يطالبون بإسقاط حكمه. وعندما حاول الجيش قمع الشعب، انحاز كثير من الجنود للثورة.
هرب الشاه في يناير 1979م من إيران، متنقلًا بين مصر والمغرب والمكسيك والولايات المتحدة، حتى استقر أخيرًا في القاهرة حيث استقبله الرئيس أنور السادات. مات بالسرطان عام 1980م في منفاه بمصر، بعدما رفضت أغلب دول العالم استضافته خوفًا من غضب الشعب الإيراني.
إرث الخيانة
يُذكر محمد رضا بهلوي اليوم كرمز للاستبداد والتبعية للغرب، وكخائن باع ثروات بلاده، وخدم إسرائيل وأمريكا على حساب الأمة. وبسقوطه، دخلت إيران مرحلة جديدة من الصراع مع الغرب، لكن اسمه ظل محفورًا كـ آخر ملوك الخيانة في طهران.
24) جمال عبد الناصر: الأب الروحي للانقلابات العربية الذي صنع مجد إسرائيل على أنقاض مصر
لم يعرف التاريخ الحديث شخصية أثارت كل هذا الجدل مثل الرئيس المصري
جمال عبد الناصر (1918–1970م). رفع شعارات العروبة والحرية والوحدة، حيث انه في منتصف القرن العشرين، ظهر رجل من ضباط الجيش المصري الشبان يَعِد الجماهير بالكرامة والتحرر، هذا الرجل اصبحت صورته معلقة على جدران بيوت العرب من المحيط إلى الخليج، والهتافات تملأ الشوارع باسمه. لكن خلف صورة "الزعيم الملهم" كان هناك واقع أشد قسوة: رجلٌ حوّل مصر من دولة رائدة إلى ساحة محطمة و لم يكتفي بذلك فقط , لكنه في الواقع كان أحد أخطر من غيّروا وجه المنطقة الإسلامية إلى الأسوأ. فمنذ لحظة وصوله إلى الحكم بانقلاب 1952م على الملكية، أدخل مصر والعالم العربي في دوامة من
الانقلابات العسكرية، والحروب الخاسرة، والانهيار الاقتصادي والاجتماعي، والتراجع الديني.
صعود الانقلاب العسكري
دخل عبد الناصر الجيش في فترة كانت مصر فيها تعاني من الاحتلال البريطاني الحكم الملكي. فقاد مع مجموعة من الضباط ما عُرف بـ"حركة الضباط الأحرار" التي أطاحت بالملك فاروق في يوليو 1952م. لكن الحركة التي وعدت بالديمقراطية انتهت بتأسيس
نظام شمولي استبدادي، يقوده ضابط واحد ويمجد القائد بدلًا من الشعب.
منذ تلك اللحظة، صار عبد الناصر هو النموذج الذي احتذت به بقية الانقلابات في العالم العربي:
- انقلاب العراق 1958م الذي أسقط الملكية الهاشمية.
- انقلاب ليبيا 1969م بقيادة القذافي.
- انقلابات اليمن وسوريا والسودان.
وبهذا تحولت المنطقة إلى مسرح لانقلابات متتالية قضت على الاستقرار السياسي وأدخلت العالم الإسلامي في صراع دائم.
التيار القومي وصدامه مع الإسلام
رفع عبد الناصر لواء
القومية العربية، لكنه فعل ذلك على حساب الإسلام الذي كان جامع الأمة عبر قرون. اعتبر أن الدين "شأن شخصي" لا مكان له في السياسة، وقام بقمع كل الحركات الإسلامية بلا رحمة، فامتلأت السجون بعلماء ودعاة عُذبوا حتى الموت.
أراد أن يصنع "أمة عربية جديدة" بلا دين جامع، وإنما بروابط قومية مصطنعة. أدى ذلك إلى
تفكيك الهوية الإسلامية وصعود تيارات "التحرر" والانفتاح الاجتماعي بعيدًا عن الضوابط الشرعية، حتى صار جيل كامل أسيرًا لخطاب قومي علماني.
تضييع هيبة مصر وثرواتها
ادّعى عبد الناصر قيادة الأمة العربية، لكنه ورّط مصر في حروب وصراعات أهدرت هيبتها وثرواتها:
- حرب اليمن (1962–1967م): أرسل عشرات الآلاف من الجنود المصريين إلى جبال اليمن لدعم انقلاب عسكري هناك، فاستنزفت مصر دماءها واقتصادها بلا مكسب حقيقي.
- حرب 1967م (النكسة): دخل مواجهة مباشرة مع إسرائيل بلا استعداد، فخسر الجيش المصري في ستة أيام فقط سيناء وغزة والضفة الغربية والجولان. كانت أكبر كارثة عسكرية في تاريخ العرب الحديث، وفضحت زيف ادعاءاته عن القوة والتحرير.
بهزيمة 1967م، سقطت صورة "الزعيم المخلّص"، وانكشفت مصر أمام العالم كدولة منهكة اقتصاديًا وعسكريًا.
الاقتصاد المنهك والقمع الداخلي
بينما كانت الشعارات القومية تملأ خطابات عبد الناصر، كان الواقع الاقتصادي كارثيًا:
- سياساته الاشتراكية أدت إلى انهيار الصناعة والزراعة.
- التأميمات العشوائية نفرت المستثمرين وحطمت القطاع الخاص.
- ازدادت معدلات الفقر والبطالة.
وفي الداخل، مارس عبد الناصر
قبضة حديدية: لا أحزاب، لا معارضة، لا حرية صحافة. كل شيء كان مسيطرًا عليه عبر أجهزة الأمن.
الإرث المرير
مات جمال عبد الناصر عام 1970م وهو في الثانية والخمسين، لكن إرثه ظل حاضرًا:
- الانقلابات العسكرية التي دمرت استقرار العالم العربي.
- التيار القومي العلماني الذي قزّم الإسلام كعامل جامع.
- النكسة العسكرية التي أضاعت هيبة العرب.
- الاقتصاد المدمر والسياسات القمعية التي أهدرت ثروات مصر.
لقد قدّم نفسه كـ"قائد العرب"، لكنه في الحقيقة كان أحد أبرز من
فتحوا باب الخراب على الأمة الإسلامية في القرن العشرين. وكأن سيف خيانته لم يكن موجهًا فقط ضد مصر، بل ضد مستقبل المنطقة كلها.
25) الملك حسين بن طلال: الحليف الخفي لإسرائيل
بينما كان جمال عبد الناصر يملأ الدنيا صخبًا بشعاراته القومية، كان في الضفة الشرقية رجل أكثر هدوءًا ودهاءً، لكن أثره على الأمة لم يكن أقل خطورة. إنه
الملك حسين بن طلال (1935–1999م)، ملك الأردن، الذي جلس على العرش شابًا في عمر السابعة عشرة بعد اغتيال جده الملك عبد الله الأول. ومنذ بداية حكمه، رسم لنفسه خطًا سياسيًا أساسه
التحالف السري مع الغرب وإسرائيل على حساب القضايا العربية والإسلامية.
بداية الحكم: العرش الموروث والارتباط بالغرب
تسلم حسين الحكم سنة 1952 في ظل ظروف مضطربة. ورث مملكة صغيرة تعيش بين مطرقة القومية العربية الصاعدة وسندان الاحتلال الإسرائيلي. لم يخفِ ميوله الغربية، إذ كان قد تلقى تعليمه في إنجلترا وتربى في أجواء تجعل الولاء للندن وواشنطن أقرب من أي مشروع عربي أو إسلامي.
كتب الصحفي البريطاني بيتر مانسفيلد:
"منذ أول يوم في الحكم، كان الملك حسين يرى أن بقاء عرشه مرهون بدعم بريطانيا وأميركا."
العلاقة السرية مع إسرائيل
رغم رفعه شعارات العداء لإسرائيل في العلن، كان حسين أحد أكثر القادة العرب قربًا من الدولة العبرية في السر, فمنذ منذ بداية الستينيات، بدأ حسين بفتح قنوات سرية مع إسرائيل، وكان أول لقاء له مع وزيرة الخارجية غولدا مائير في لندن عام 1963، اجتماع تم بوساطة المخابرات البريطانية. تبع ذلك لقاءات متكررة مع قادة إسرائيل، مثل إسحاق رابين وموشيه ديان، حيث كانت المحادثات الاستراتيجية تتناول تفاصيل التحركات العربية وأسرار الجيوش الفلسطينية، بما يجعل حسين الأداة الأوثق بين إسرائيل والعالم العربي. وثائق الموساد لاحقًا كشفت أن هذه الاجتماعات لم تكن مجرد حوارات دبلوماسية، بل كانت نقاشات لتقديم معلومات استخباراتية حساسة، وقال المؤرخ الإسرائيلي آفي شلايم: "كان الملك حسين أثمن عميل غير رسمي لإسرائيل. فقد قدم لهم معلومات لم يحصلوا عليها من أي مكان آخر."
عندما اقتربت حرب يونيو 1967، كانت الاتصالات بين عمان وتل أبيب في ذروتها، وفي الخامس من يونيو التقى الملك حسين بالجنرال الإسرائيلي مردخاي غور عبر قناة سرية، حيث نقلت إسرائيل رسالة واضحة بأن لا تدخل الأردن الحرب وأن يترك المعركة لأعدائه. على الرغم من ذلك، وبضغط من جمال عبد الناصر والرأي العام العربي، أعلن حسين دخول الحرب، لكن الجيش الأردني ظل بلا أوامر واضحة ولم يتحرك بجدية، ما أدى إلى سقوط القدس الشرقية والضفة الغربية في أيدي إسرائيل خلال أيام قليلة.
قال وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان ساخرًا:
"الملك حسين قدم لنا القدس على طبق من ذهب."
روى موشيه ديان، وزير الدفاع الإسرائيلي:
"كان حسين يعرف أن المعركة خاسرة، لكنه دخلها ليحفظ ماء وجهه أمام العرب."
أيلول الأسود: الدماء على ضفاف عمان
بعد الهزيمة، تحولت الأردن إلى مركز رئيسي للمقاومة الفلسطينية، لكن وجود الفصائل بدا له تهديدًا على عرشه. في سبتمبر 1970، أمر الجيش الأردني بضربات واسعة على مخيمات الفلسطينيين في عمان وإربد والزرقاء، لتتحول المعارك إلى مذابح مروعة استمرت عشرة أيام وأودت بحياة عشرات الآلاف من الفلسطينيين. وقد وصف الصحفي البريطاني باتريك سيل قرار الملك حسين بالضرب بلا هوادة للفلسطينيين بأنه "سحق بلا تردد، حتى لو كان الثمن مذابح مروعة".
كتبت الصحفية الأميركية جوان بيترز:
"لم يكن أحد يتصور أن أكبر مذابح الفلسطينيين ستأتي من جيش عربي، لكن حسين فعلها بلا تردد."
تحالف معلن مع إسرائيل
بعد 1973، لم يعد الملك حسين يخفي اتجاه, فبعد أيلول الأسود، صار الملك حسين أكثر اعتمادًا على الغرب وإسرائيل كحليف موثوق، ولعب دور الوسيط في مفاوضات السلام المصرية – الإسرائيلية وسهل مرور المعلومات واللوجستيات الإسرائيلية عبر الأردن. وفي 1994 وقع معاهدة وادي عربة، لتصبح الأردن ثاني دولة عربية تعترف رسميًا بإسرائيل، وهو ما عزز مكانتها لدى الغرب والولايات المتحدة.
قال إسحاق رابين بعد توقيع الاتفاق: "كان الملك حسين صديقنا القديم، واليوم صار حليفنا المعلن."
قال شمعون بيريز بعد توقيع الاتفاق:
"كان الملك حسين شريكًا استثنائيًا، صديقًا مخلصًا لإسرائيل منذ سنوات طويلة."
النهاية: جنازة عالمية لملك صديق للغرب
مات الملك حسين عام 1999م بعد صراع مع السرطان. شارك في جنازته زعماء العالم وعلى رأسهم الرئيس الأميركي بيل كلينتون، ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، ووفد ضخم من الساسة الإسرائيليين، في مشهد لخص مسيرته:
ملك عربي، لكنه أقرب إلى أصدقاء إسرائيل من قضايا أمته.
إرثه المرير
ترك حسين وراءه إرثًا من الخيانة السياسية:
- سقوط الضفة الغربية والقدس في 1967.
- مذبحة أيلول الأسود التي دمّت العلاقة بين الفلسطينيين والأردنيين.
- فتح أبواب التطبيع العربي مع إسرائيل على مصراعيها.
لقد عاش حسين عمره وهو يحاول أن يحافظ على عرشه الصغير، لكنه في سبيل ذلك فرّط في واحدة من أعظم القضايا الإسلامية:
القدس وفلسطين. وكما قال أحد المؤرخين العرب:
"إذا كان عبد الناصر قد أعطى إسرائيل الانتصار، فإن حسين أعطاها الشرعية."