مدينة القدس (سياسياً… وتاريخياً… ودينياً)
مدينة القدس

إذا كانت فلسطين تشكل جوهر النزاع العربي ـ الإسرائيلي، على مدى ما يقرب من نصف قرن، فإن مدينة  القدس تشكل قلب القضية الفلسطينية. فلا سلام ما لم تنته القضية الفلسطينية إلى حل عادل، يُلبّي مطالب الشعب الفلسطيني بقيام دولته المستقلة، وفي قلبها عاصمتها، القدس الشرقية. إن المدخل الصحيح إلى القضية الفلسطينية، هو معالجة قضية القدس: حق ملكية الأرض، وحق السيادة والشرعية عليها. فالقدس مِلكٌ لصاحب الحق فيها، لأنها جزءٌ من أرض فلسطين العربية، ولشعب هو الشعب الفلسطيني، صاحب السيادة عليها منذ آلاف السنين.

وعلى الرغم من ذلك، فإن المدخل الديني، الذي يروّج له على أساس أن القدس هي مهد الأديان والرسالات، هو مدخل طبيعي ومكمل لمدخل السيادة، حتى يعود إلى القدس أمانها وسلامها، اللذان طالما افتقدتهما، حينما كانت تغتصب عنوة (في العهدين الروماني والصليبي، على سبيل المثال). وكما تعيش حالياً في حالة من عدم الاستقرار وافتقاد الأمان، منذ بدأ اغتصابها الأخير، الذي تم على مرحلتين. كانت المرحلة الأولى تقسيم المدينة، عقب حرب عام 1948، والاستيلاء على القدس الغربية. ثم كانت الثانية، استكمال الاستيلاء على مدينة القدس الشرقية)، عقب حرب عام 1967.

وعودة الاستقرار والأمان المفقودين إلى القدس، لن يتحققا إلاّ بعودتها إلى أصحابها الشرعيين، بمن فيهم اليهود. ويؤكد ذلك دوري جولد[1]، حين قال: “بعد الغزو المسيحي للقدس، على يد الصليبيين، في عام 1099، مُنع اليهود، مجدداً، من الدخول إلى القدس. ولم يبدأ المجتمع اليهودي في استعادة عافيته ووضعه، إلا بعد أن انتزعها صلاح الدين الأيوبي من أيدي الصليبيين”.

ليست “القدس قضية مغلقة سياسياً، إلا أنها مفتوحة دينياً”. بل هي قضية متعددة الأبعاد. لها بعدها السياسي لدى العرب، إلى جانب بعدها الديني تماماً. وبمعنى أدق، فإن القدس لا تُعَدّ موضوعاً إستراتيجياً، بقدر ما هي قضية قومية ودينية، بالنسبة إلى الفلسطينيين والعرب. ولا ينفي ذلك حقوق أتباع الديانتين الأخريين في أماكنهم المقدسة، والدخول الآمن إليها لممارسة شعائرهم.

ويثير ما تدّعيه إسرائيل، من أن القدس يهودية، وعاصمة أبدية للدولة العبرية، العديد من التساؤلات. لعل أبرزها ما يلي:

· هل يؤسس حكم اليهود للقدس لمدة “ثلاثة وسبعين عاماً” متقطعة، خلال كل تاريخ البشرية، وانقطاع صلتهم بها، على يد القائد الروماني، تيطس فيسبيانوس Titus Flavius Vespasianus، منذ عام 70 وحتى عام 1897م، هذا الحق الذي يّدعونه؟ بينما لا يؤسس، بالقدر نفسه، حقاً للشعب الفلسطيني، الذي عاش فيها أكثر من خمسة آلاف عام؟

· هل يقبل العالم أن يحلّ مأساة الشتات اليهودي في أوروبا، في النصف الأول من القرن العشرين، على حساب تشتيت الشعب الفلسطيني، في النصف الثاني من القرن العشرين؟

هل يـأخذ العالم بالمرجعيات الدينية المحرفة، ليرتب عليها حقوقاً، بعد كل هذه السنين، منذ أقام داود ـ عليه السلام ـ مملكته، عام 1000 قبل الميلاد، كأول وآخر حُكْمٍ يهودي، لم يستمر سوى أربعين عاماً، ثم ثلاثة وثلاثين عاماً لخلفه، ابنه سليمان؟ ماذا سيكون عليه العالم، إذاً، من صراعات وعدم استقرار، لو أُخذ بهذا المبدأ في مختلف القوميات والأديان؟

بيانات أساسية وإِحصائية عن مدينة القدس

نشأة مدينة القدس

مدينة القدس مدينة قديمة، يمتد تاريخها إلى حوالي خمسة آلاف سنة. ذُكرت في النصوص المصرية القديمة في تل العمارنة، وفي اللوحات الحجرية، والرسائل المتبادلة بين حاكم أورشليم، “عبدي خيبا ABDY KEBA” وفرعون مصر، أمنحتب الرابع “إخناتون” (1367 ـ 1350 ق.م)[1]. وللقدس أسماء عدة، عُرفت بها على مر العصور، تبعاً للأمم والشعوب التي استوطنتها. ومن هذه الأسماء:

1. “يبوس”، نسبة إلى اليبوسيين بناة القدس الأولين. وقد ورد في سجلات الفراعنة اسم “يابيثي”. وتشير نصوص العهد القديم إلى أسماء مختلفة أخرى، أطلقت على القدس، منها هذا الاسم: “يبوس”.

2. “أورسالم” (مدينة السلام)، كما أسماها العرب الكنعانيون. وعرفها الفراعنة بهذا الاسم أيضاً.

3. ظهر اسم “أورشاليم” في الكتابات المسمارية على هذا النحو (أورو ـ سا ـ ليم)، وهو ما يوافق اسمها في الآثار الأشورية منذ القرن الثامن ق.م (أور ـ سا ـ لي ـ أمو). وإذا رجعنا إلى نصوص العهد القديم، نجد أن أقدم الأسماء العبرية، التي أطلقت على المدينة هو (شاليم) ، ثم اختصر إلى (ساليم) أو (أورشليم). ثم تطور الاسم فصار يُنْطق (يوروشالايم)، وهو الاسم نفسه، الذي ظهر على العملة اليهودية، في الأدب اليهودي القديم.

4. ومن أسمائها “مدينة داود”، و”صهيون”، وذلك أثناء الحكم اليهودي لها. ثم اقتبسوا الاسم الكنعاني لها، وحرّفوه، وأصبحت تدعى “أورشاليم”، أي (البيت المقدس).

5. وفي الترجمة السبعينية، وردت أورشليم تحت اسم (إيروسليم). وفي كتابات يوسيفوس (هيروسليم). أما في سِفرَي المكابيين، الثاني والثالث، فـ (هيروسلوما)، وهو الاسم نفسه، الذي ورد في كتابات أسترابون، وشيشيرون وبليني، وثاكيتوس وغيرهم.

6. في أوائل الفتح الروماني، سميت “هيروسليما”، ثم “هيرو ساليما”. وعندما حاصرها تيطس (70م)، سميت “سوليموس”. وفي عصر الإمبراطور هادريان (117-138م) Hadrian Caesar Traianus Augustus، صار الاسم الذي يطلق على منطقة أورشليم هو إيلياء الكبرى، أو إِيلياء كابيتولينا Aelia Capitolina.

7. تسمى أيضاً (مدينة العدل)، و(مدينة داود)، أي مدينة القدس.

8. ظلت تعرف بالاسم الروماني “إيلياء” حتى الفتح الإسلامي. وقال ياقوت في “معجم البلدان” إن “إيلياء” و”إلياء” اسم لبيت المقدس، ومعناه بيت الله.

9. ومن أسمائها “بيت إيل (ومعناه بيت الرب)، والقرية، والأرض المباركة، والساهرة، والزيتون”. وأسماء كثيرة أخرى، لا مجال لحصرها.

10. أمّا الاسم (جيروسليم)، فقد ورد، للمرة الأولى، في الكتابات الفرنسية، التي ترجع إلى القرن الثاني عشر.

11. والاسم الشائع في اللغة العربية، هو (بيت المقدس) أو (القدس). أما في الكتابات المسيحية، فتسمى (أورشليم)، نقلاً عن اسمها العبري. أما عن معنى اسم (أورشليم)، فالرأي السائد، أن اسمها يعني (مدينة السلام) أو (مدينة الإله ساليم).

ثانياً: الموقع
1. تقع على الخط الأخضر (خط التقسيم)، الفاصل بين حدود الضفة الغربية لعام 1967 وحدود إسرائيل، في وادٍ رحب بين الجبال التي تحيط بها.

2. تبعد مسافة 54 كلم (33 ميلاً) شرق البحر المتوسط، ومسافة 23 كلم (14 ميلاً) غرب الطرف الشمالي للبحر الميت، ومسافة 250 كلم (150 ميلاً) شمال البحر الأحمر.

3. تتفاوت ارتفاعات المدينة فوق سطح البحر بين 2350 قدماً و258 قدماً.

ثالثاً: المساحة والتغير الجغرافي لمدينة القدس
1. قدرت مساحة القدس، عام 1946 (قبل التقسيم)، بـ 20.199 دونماً (الشطر الشرقي 868 دونم + الشطر الغربي 868 دونم + خارج أسوار المدينة القديمة 18.463 دونماً).

2. قدرت مساحة القدس بعد اتفاقية الهدنة، بحوالي 19.331 دونماً (الشطر الشرقي 2220 دونم + الشطر الغربي 16.261 دونم + 850 دونم مناطق حرام).

3. قدرت مساحة القدس، عشية حرب 1967، بحوالي 44.500 ألف دونم (الشطر الشرقي 6500 دونم + الشطر الغربي 38000 دونم).

4. قدرت مساحة القدس، بشطريَها، حتى عام 94/1995، بحوالي 123 ألف دونم (الشرقية 70.400 دونم + الغربية 52.600 دونم).

رابعاً: المناخ
المناخ معتدل. ومتوسط درجة الحرارة، على مدار العام، حوالي 18 درجة مئوية. ومتوسط سقوط الأمطار في العام، يصل إلى حوالي 650 ملم، وموسم الأمطار بين شهرَي نوفمبر وأبريل.

خامساً: السكان والتغير الديموجرافي لمدينة القدس
1. قدر تعداد القدس الشرقية، عام 1967، بحوالي 266300 نسمة. بينما قدر تعداد القدس الغربية، عام 1967، بحوالي 260900 نسمة يهودي.

2. بلغ تعداد سكان القدس، بشطرَيها، حتى عام 1997، 564300 نسمة

أ. منهم 413700 يهودي، بنسبة 73.3%.

ب. بينما بلغ عدد السكان العرب 150600 نسمة، بنسبة 23.7%.

3. الهجرة اليهودية إلى القدس

أ. شكل عدد المهاجرين إلى القدس، عام 1981، نسبة (18.8%) من إجمالي عدد المهاجرين إلى إسرائيل، في مقابل (12.7%)، عام 1986. وانخفضت النسبة، عام 1990، إلى (6.7%)، لكنها ارتفعت، عام 1991، إلى (8%).

ب. هاجر إلى القدس، عام 1991، حوالي (5600) مهاجر، منهم (5370) يهودياً، بينما نزح منها إلى مستوطنات الضفة الغربية وغزة، حوالي (1800) مهاجرٍ جديد.

ج. هاجر من القدس، عام 1992، حوالي (15 ألف) مهاجر (10% منهم من المهاجرين الجدد، واستقبلت تل أبيب منهم 25%)، وقد بلغ ميزان الهجرة السلبي أي العكسي (5700 مهاجر).

د. في عام 1993، هاجر حوالي (16700) مهاجر، (منهم 4300 من المهاجرين الجدد). اتجه (40% منهم إلى مستوطنات معاليه أدوميم، ومبسرات أورشاليم، وجفعت زئيف، وأفرت، وبيتار عيليت، وبيت شمس). كما استقبلت تل أبيب (10%) منهم. وتوجه الباقون إلى مناطق بئر سبع وحيفا وإيلات وعسقلان وأشدود.

هـ. بدأت ظاهرة الهجرة العكسية من القدس، منذ بداية الثمانينيات، إذ هاجر منها حوالي (27 ألف) مهاجر، خلال الفترة من 1983 إلى 1995. انتقل أغلبهم إلى الضفة الغربية، والمستوطنات القريبة منها في حيّز القدس. ولا تقتصر ظاهرة الهجرة العكسية على اليهود القدامى، بل شملت المهاجرين الجدد أيضاً. وترجع أسباب الهجرة العكسية، بصفة أساسية، إلى ارتفاع إيجارات المساكن في القدس، وانعدام فرص العمل.

4. المواليد والوفيات

أ. يرتفع معدل الزيادة الطبيعية في عدد السكان بالقدس عن المعدل الطبيعي، ويرجع ذلك، بصفة أساسية، إلى نسبة المواليد العالية بين المتدينين، من اليهود والمسلمين. وفي الوقت نفسه، يزيد متوسط الأعمار فيها، وقد يكون ذلك متعلقاً بطبيعة المناخ هناك.

ب. بلغ معدل إنجاب اليهود في مدينة القدس (27) مولوداً لكل ألف نسمة، في مقابل (18.6) مولوداً لكل ألف في المدن الإسرائيلية.

ج. بلغت نسبة الوفيات بين اليهود بالقدس، عام 1996، حوالي (5.3) أشخاص لكل ألف نسمة، بينما كانت، عام 1967، حوالي (7.1) أشخاص لكل ألف نسمة.

د. بلغت نسبة الوفيات بين العرب، عام 1996، حوالي (4.1) حالات لكل ألف نسمة، بينما كانت، عام 1967، حوالي (12.8) حالة لكل ألف نسمة.

مدينة القدس
مدينة القدس

مدينة القدس وبداية الانتداب البريطاني

استقرت مدينة القدس في أيدي سلاطين المماليك، حتى دخلها العثمانيون، سنة 1516. وظلت في إطار الدولة العثمانية الإسلامية لمدة أربعة قرون، حتى دخلها البريطانيون، إبّان الحرب العالمية الأولى، بقواتهم العسكرية، تحت قيادة إدموند اللنبي Edmund Allenby، عام 1918.

وبوجه عام، فإن نهاية دولة المماليك، ودخول الشام تحت سيطرة العثمانيين (1516م)، لم يترتب عليهما تغيير يُذكر، بالنسبة إلى مدينة بيت المقدس، سواء في وضعها الإداري، أو وضع الأقليات الدينية فيها، على الرغم مما شهده العصر العثماني من تدفق ملحوظ من جانب الأوروبيين، وخصوصاً إلى بلاد الشام التي شهدت قُدوم الأجانب، وتنازل الدولة العثمانية عن كثير من حقوقها، في شكل امتيازات، مُنحت لهؤلاء الأجانب.

بعد حرب القرم (28 مارس 1854 ـ 1 فبراير 1856)، حدثت منافسات وصراعات حول ملكية الأماكن المقدسة وحقوق الطوائف المسيحية فيها. ما دعا السلطان العثماني إلى إصدار “فرمان” خاص، بتنظيم وتوزيع وترتيب الأماكن المقدسة بين تلك الطوائف (اُنظر ملحق الكنائس والآثار المسيحية في القدس). وقد ثُبت نظام التوزيع والترتيب هذا في معاهدتَي باريس (30 مارس 1856) وبرلين (1878)، وعرف باسم “الستاتوكو Statuquo”. وقد وضع هذا الترتيب بين البطريركية الأرثوذكسية للروم، وحراس الأراضي المقدسة الفرنسيسكان، وبطريركية الأرمن، والأرثوذكس، وطائفة اللاتين الفاتيكانية، وحقوق الطوائف المسيحية في القدس، كالأحباش والأقباط والسريان، مما يدل، بوضوح، على أن تلك الصراعات، نشأت عن النزاع بين الكاثوليك والأرثوذكس أساساً، أو بين فرنسا وروسيا. والمعروف أن الحروب بين الدولة العثمانية والغرب، قد أدت إلى نشوء نظام الامتيازات والحمايات الأجنبية. ووقع ميثاق مع فرنسا، عام 1535م، ثم عام 1604م، ضمن لفرنسا رعاية مصالح المسيحيين والأماكن المقدسة في فلسطين (حرية الزيارات والإقامة والتنقل والممارسة الدينية)، ما أدى، تدريجياً، إلى تحوُّل فرنسا إلى الحامي الرسمي للأماكن المقدسة المسيحية في الدولة العثمانية.

وتلا ذلك توقيع معاهدة كارلوفيتز Karlowitz مع النمسا (26 يناير 1699)، ومعاهدة كوتشوك قينارجي Kaainardji-Kuchuk مع روسيا (16 يوليه 1774) ومع أسبانيا (1762) وإنجلترا (1845)، وصولاً إلى باريس وبرلين. وقد نظمت كل هذه المعاهدات والمواثيق ورعت الحماية الأجنبية للأماكن المقدسة، ما أدى إلى نزاعات مستمرة، انتهت بفرمان “الستاتوكو”.

وإذا كانت معاهدة باريس (30 مارس 1856)، قد أثبتت امتيازات فرنسا في حماية الأماكن المسيحية المقدسة، دون غيرها من الدول، وأعطتها الطابع الحقوقي الدولي، في حين أنها كانت، قبل ذلك، نابعة من التعاقد الثنائي بين الدولة العثمانية، ذات السيادة على هذه الأماكن، والدول الأوروبية منفردة، فإن معاهدة برلين (1878)، وسّعت صلاحيات بقية الدول العظمى فيما يخص الحماية الدولية للأشخاص الأجانب ولمؤسساتهم الدينية (اُنظر ملحق المعابد اليهودية في القدس)، وأثبتت الحقوق الراهنة (الستاتوكو) لكل الدول، موقعة المعاهدة. وبقي هذا الوضع هو القاعدة الأساسية للتعامل الدولي حتى الحرب العالمية الأولى، واحتلال الإنجليز للقدس. وفي هذا التاريخ، أعلن الجنرال اللنبي تعهد الحكومات المنتصرة بالمحافظة على الوضع الراهن للأماكن المقدسة.

لم تكن هذه الامتيازات خطراً على الدولة، وهي في عنفوان قوّتها، خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. ولكن هذه الامتيازات، بعد ذلك، تحولت إلى حقوق، اكتسبت شرعيتها بفعل ديمومتها مع الزمن، من جانب، وضعف الدولة العثمانية من جانب آخر. وشملت هذه الامتيازات إعفاءات كثيرة، لعل أخطرها السماح للأوروبيين بممارسة نشاطاتهم الدينية، خصوصاً في بلاد الشام. وأصبح التسابق على أشده بين الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت، وتمادي الأمر إلى السماح ببناء العديد من المؤسسات التعليمية والتثقيفية المسيحية. وحينما أدركت الدولة العثمانية خطر الموقف، كان الزمن قد مضى، وكان الرجل المريض (الدولة العثمانية)، قد تدهورت حالته، وتكالبت عليه المطامع الأوروبية، التي أودت بحياته.

وفي ظل الامتيازات، التي قدّمها العثمانيون إلى الأجانب عموماً، كان لليهود دور متزايد، لا يتناسب مع قِلة عددهم. فعددهم لم يزد، في فلسطين عموماً، خلال القرون الثلاثة الأولى من الحكم العثماني، على عشرة آلاف نسمة. وكانوا ثلاثة أمثال هذا العدد في بلاد الشام كلها.

أوجدت هذه الكثرة العددية لليهود (في بلاد الشام) العديد من المسارب اليهودية إلى القدس، حيث نمت مؤسساتهم التعليمية بشكل ملحوظ. وعندما أدركت الدولة العثمانية خطر الامتيازات، التي فتحت الباب على مصراعيه، لم تستطع أن تحُول دون نمو هذه الامتيازات، التي أصبحت مواثيق مذلة للعثمانيين، آلت إلى سقوط دولتهم، عقب الحرب العالمية الأولى.

ثانياً: الانتداب البريطاني في فلسطين
تبرز في القرن التاسع عشر، قضيتان مهمتان، أولاهما: المسألة الشرقية، التي تمثلت في عملية التربص بإرث الخلافة العثمانية، التي كانت إمبراطورية شاسعة، ولكن الوهن أصابها، فتهيأت كل ممتلكاتها، الأوروبية والآسيوية والأفريقية، لتكون ميراثاً للمنتصرين، ومن ثم، راح كل طرف منهم يطالب بنصيبه من الإرث.

وأما القضية الثانية، التي بدأت تظهر، تدريجياً، منذ بداية القرن، فتمثلت في المسألة اليهودية. وهي قضية ديانة، توزع أتباعها في أنحاء الأرض، ويتعرضون، بين الحين والآخر، لغارات دموية، تولدها احتكاكات دينية واجتماعية وفكرية. وكان يهود العالم، منذ مأساة الخروج مع المسلمين من الأندلس، في عام 1492، موزعين بين أوروبا وشمالي أفريقيا. وقد لجأ الكثيرون منهم إلى العالم الإسلامي، في نهاية العهد المملوكي، وبداية التوسع العثماني التاريخي في العالم العربي. ومنذ تلك الأيام، كان الحديث عن العودة إلى فلسطين نداء، يردده الحاخامات بين حقبة وأخرى، ولم يكن هناك من يأخذ هذا النداء مأخذ الجدّ.

وقد حاول نابليون بونابرت Napoleon Bonaparte، في نهاية القرن الثامن عشر، وبداية القرن التاسع عشر، أن يعزف على الوتر الديني اليهودي لتكون فلسطين، وهي حينذاك من أملاك الخلافة العثمانية، التي يتسابق الكل إلى إرثها، الوطن الموعود والمختار لليهود، برعاية فرنسا، فتكون فلسطين نقطة انطلاقة للإمبراطورية البونابرتية في قلب الخلافة العثمانية، في وقت كان التنافس الدولي بين فرنسا وإنجلترا على أشده، علاوة على القوى الاستعمارية الأخرى. ومن المحقق، أن بعض علماء الحملة الفرنسية، بدأوا، مبكراً، في الاتصال ببعض حاخامات اليهود في فلسطين، مثل “موسى موردخاي” و”جاكوب الجازي”. وكانت ورقة نابليون، التي أظهرها لليهود أمام أسوار القدس، في عام 1799، نداء إلى يهود العالم، لم يوزع في فلسطين وحدها، وإنما جرى توزيعه، آنذاك، في فرنسا وإيطاليا والإمارات الألمانية، وحتى أسبانيا، الأمر الذي يشير إلى أن القضية، كانت أكبر وأوسع من ظرف محلي، واجهه نابليون حينما استعصت عليه أسوار القدس.

وجاء نداء نابليون إلى يهود العالم على النحو التالي:

“من نابليون بونابرت، القائد الأعلى للقوات المسلحة للجمهورية الفرنسية في أفريقيا وآسيا، إلى ورثة فلسطين الشرعيين. أيها الإسرائيليون، أيها الشعب الفريد، الذي لم تستطع قوى الفتح والطغيان، أن تسلبه نسبه ووجوده القومي، وإن كانت قد سلبته أرض الأجداد فقط. إن مراقبي مصائر الشعوب الواعين المحايدين، وإن لم تكن لهم مقدرة الأنبياء، مثل إشعياء ويؤئيل، قد أدركوا ما تنبأ به هؤلاء بإيمانهم الرفيع، أن عباد الله، سيعودون إلى صهيون، وهم ينشدون، وسوف تعمّهم السعادة، حين يستعيدون مملكتهم دون خوف. انهضوا، بقوة، أيها المشردون في التيه. إن أمامكم حرباً مهولة، يخوضها شعبكم، بعد أن اعتبر أعداؤه أن أرضه، التي ورثها عن الأجداد، غنيمة تقسم بينهم حسب أهوائهم. لا بد من نسيان العار، الذي أوقعكم تحت نِير العبودية، وذلك الخزي، الذي شل إرادتكم لألفَي سنة. إن الظروف لم تكن تسمح بإعلان مطالبكم، أو التعبير عنها، بل إن هذه الظروف أرغمتكم، قسراً، على التخلي عن حقكم. ولهذا، فإن فرنسا تقدّم إليكم يدها الآن، حاملة إرث إسرائيل، وهي تفعل ذلك، في هذا الوقت بالذات، وعلى الرغم من شواهد اليأس والعجز … إن الجيش، الذي أرسلتني العناية الإلهية به، ويمشي بالنصر أمامه وبالعدل وراءه، قد اختار القدس مقراً لقيادته، وخلال بضعة أيام، سينتقل إلى دمشق المجاورة، التي استهانت طويلاً بمدينة داود وأذلتها … يا ورثة فلسطين الشرعيين … إن الأمة الفرنسية، التي لا تتّجر بالرجال والأوطان، كما فعل غيرها، تدعوكم إلى إرثكم، بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء … انهضوا، وأظهروا أن قوة الطغاة القاهرة، لم تخمد شجاعة أحفاد هؤلاء الأبطال، الذين كان تحالفهم الأخوي شرفاً لإسبرطة وروما، وأن معاملة العبيد، التي طالت لألفَي سنة، لم تفلِح في قتل هذه الشجاعة … سارعوا ! إن هذه هي اللحظة المناسبة ـ التي ربما لا تتكرر لآلاف السنين ـ للمطالبة باستعادة حقوقكم ومكانتكم بين شعوب العالم، تلك الحقوق التي سلبت منكم لآلاف السنين، وهي وجودكم السياسي، كأمة بين الأمم، وحقكم الطبيعي المطلق في عبادة إلهكم يهوه، طبقاً لعقيدتكم. وافعلوا ذلك في العلن، وافعلوه إلى الأبد ” … بونابرت.

إن ورقة نابليون اليهودية هذه، هي الوثيقة التي تستحق الاهتمام في السياق التاريخي، لأنها الأثر الإستراتيجي الباقي في المنطقة من تلك الأيام.

لم يكن نابليون بونابرت يهودياً، ولا موالياً لليهود. ولكن ورقته اليهودية، المتمثلة في ندائه يهود العالم، من خارج أسوار القدس، هي التي تعبّر عن دوره، ودور فرنسا، في مساندة التحرك اليهودي. لم يكن في مقدور اليهود، مهْما فعلوا، أن ينصروه، أو يخذلوه. ولكن كانت تلك رؤية القائد الفرنسي، الذي كان يملك حساً إستراتيجياً نابهاً وبعيداً، حتى إنه من الثابت أن نابليون، بعد عودته من حملة مصر، وإعلان نفسه إمبراطوراً لفرنسا، حضر اجتماع المحفل اليهودي الأكبر، في سنة 1807، في باريس، ورُسمت لوحة لهذا المحفل، وظهرت ضمن مجموعة رأسمالي يهودي هو إسرائيل سولومون، في عام 1860. وقد سمح ابنه بنشرها، وظهرت مطبوعة، للمرة الأولى، في سنة 1871. ولا شك أن حضور نابليون اجتماع المحفل اليهودي المذكور، يوضح مدى اهتمامه باستقطاب يهود العالم لمصلحة فرنسا.

وعلى الرغم من أفول نجم نابليون في أوروبا، عام 1815، فإن الرؤى الإستراتيجية الواسعة للفاتحين الكبار، لا تموت بموتهم، وإنما تبقى في ذاكرة التاريخ بعدهم، تنتظر غيرهم، ممن يجدون الجرأة والجسارة على استعادتها من جديد، جزئياً أو كلياً.

ويأتي الحديث عن الدور البريطاني، إذ كان “بالمرستون Viscount Palmerston”، شأنه شأن ساسَة جيله، يعرف ما فيه الكفاية عن المسألة اليهودية. وبالطبع، فإنه، من موقعه وزيراً لخارجية بريطانيا، ثم رئيساً لوزرائها، كان مشغولاً بالمسألة الشرقية. والوثائق البريطانية حافلة بالشواهد على تطور فكر رئيس وزراء بريطانيا، حتى وصل إلى تحديد ثلاثة أهداف للسياسة البريطانية في الشرق الأدنى، خاصة بمواجهة محمد علي باشا، على ثلاث مراحل: أولها، إخراج محمد علي من سورية، لفك ضِلْعي الزاوية المصرية ـ السورية. وثانيها، حصر محمد علي داخل الحدود المصرية، وراء سيناء، وتحويل هذه الصحراء إلى منطقة عازلة. وثالثها، قبول وجهة النظر القائلة بفتح أبواب فلسطين لهجرة اليهود إليها، وتشجيعهم على إنشاء شبكة من المستعمرات الاستيطانية فيها، ليكون منها، ذات يوم، عازلاً، يحجز مصر عن سورية، ويمنع لقاءهما في الزاوية الإستراتيجية الحاكمة. وكانت أهداف بالمرستون تلقى تأييداً ومساندة من اللورد “ويلّنجتون Wellington”، قائد الجيوش البريطانية. ومن الملاحظ، أن كثيراً من التقارير في الوثائق البريطانية، تشير إلى أن ويلّنجتون، هو صاحب نظرية مواجهة محمد علي، على ثلاث مراحل.

وقد كتب بالمرستون مذكرة، في 11 أغسطس 1840، إلى سفيره في عاصمة الدولة العثمانية، بشأن توطين اليهود في فلسطين (اُنظر ملحق مذكرة بالمرستون إلى سفير بريطانيا في تركيا). كما كتب، مرة أخرى، رسالة، في فبراير 1841، إلى سفيره لإقناع السلطان بإباحة هجرة اليهود إلى فلسطين (اُنظر ملحق رسالة بالمرستون إلى سفيره في تركيا). ومن المثير للتأمل، أن عدد اليهود في فلسطين، آنذاك، في نهاية عام 1840، كان 3200 نسمة فقط.

على أن الحوادث الكبرى، التي وقعت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، في مصر وحولها، وبالذات في فلسطين، لم تكن مصادفة، وإنما حدثت نتيجة لأفكار وخطط وصراعات ومصالح وقوي. ومن هنا، نفهم سرّ مساعدة بنيامين دزرائيلي Benjamin Disraeli، رئيس الوزراء الإنجليزي، إدموند روتشيلد Rothschild، على شراء الحصة المصرية في شركة قناة السويس، بأسرع ما يمكن، قبل أن يغير خديوي مصر رأيه أو قبل أن يعرف أحد الصفقة. وفي عام 1877، كانت أسرة روتشيلد تموّل إنشاء أول مستعمرة استيطانية لليهود في فلسطين، على مساحة 2275 فداناً، وهي مستعمرة “بتاح تكفاه”.

وفي عام 1882، وهي السنة نفسها التي احتلت بريطانيا فيها مصر، نظّم البارون إدموند روتشيلد أول هجرة جماعية يهودية إلى فلسطين. وفي الوقت نفسه، كانت أسرة روتشيلد، قد بدأت في جمع تبرعات ومساهمات طائلة لشراء أراضٍ في فلسطين، وكانت الواجهة الظاهرة لهذه العملية، مؤسسة للاستثمار في مجال الأراضي الزراعية في المشرق العربي. وخلال عشر سنوات، اكتمل إنشاء عشرين مستعمرة كبيرة، ومستعمرات أخرى صغيرة.

وعلى هذا المسرح، ظهر دور “تيودور هيرتزل”، المولود في فيينا، والذي كان يعمل في مجال الصحافة، واتصل بالمسألة اليهودية، من طريق جمعيات ومنظمات فكرية وثقافية، تُعنى بهذه المسألة. ولم يكن هيرتزل وحيداً في ميدانه، فقد سبقه، وأحاط به جمع لا يستهان به من المفكرين والدعاة اليهود، الذين رأوا الفكرة، التي كان يراها، وإن لم يقدروا على تحديدها والتبشير بها صراحة وعلناً. وكانت ميزة هيرتزل على قرنائه الآخرين في زمانه، أنه استطاع استيعاب مجمل الظروف الإستراتيجية. فكان مؤتمر “بازل Basel”، في 29 أغسطس 1897، مؤسساً للحركة الصهيونية العالمية.

وفي سنة 1904، دعت إنجلترا إلى عقد مؤتمر، على شكل حلقات دراسية، يُمِّثل فيه الدول الاستعمارية، في ذلك الوقت، بعض خبرائها وأساتذتها الجامعيين، لدراسة الأسباب التي يمكن أن تَكْفل للاستعمار أطول فترة ممكنة من البقاء. وعلى هذا النحو جاء تقرير “هنري كامبل بانرمان Henry Campbell Bannerman”، رئيس وزراء بريطانيا، يدعو إلى تجزئة سورية، لأن: “الخطر الذي يهدد الاستعمار الغربي، يَكْمُن في البحر المتوسط، الذي يضم على سواحله، الشرقية والجنوبية، شعباً واحداً، يتميز بكل مقومات الوحدة والترابط، ناهيك بما في أراضيه من كنوز وثروات، تتيح لأهلها مجال التقدم والرقي في طريق الحضارة والثقافة. وكذلك، ينبغي العمل، كوسيلة عاجلة، بالتوصية الآتية: وهي فصل الجزءين، الأفريقي والآسيوي، في هذه المنطقة، أحدهما عن الآخر، وإقامة حاجز بشري قوي وغريب في نقطة التقاء الجزءين يمكن للاستعمار أن يستخدمه أداة لتحقيق أغراضه”.

وما أن نشبت الحرب العالمية الأولى، ووقفت الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا والنمسا، حتى جهزت بريطانيا حملة، اتخذت من مصر قاعدة انطلاق لها، عبْر سيناء، بقيادة الجنرال “أرشيبالد مري”. بدأت الحملة تحركها للسيطرة على فلسطين والشام عموماً، عام 1916، وخلف الجنرال “أرشيبالد”، عليها الجنرال “إدموند اللنبي”، الذي استطاع الوصول إلى غزة، حين صدر وعد بلفور في الثاني من نوفمبر 1917، ثم تمكن من دخول القدس، فكان ذلك بداية النهاية للدولة العثمانية، وانتقلت الإدارة في القدس، آنذاك، من السلطة العثمانية إلى السلطة البريطانية.

انضمت إلى قوات الجنرال اللنبي قوة، تشكلت من متطوعي اليهود، تراوح بين 5000 و5500 مقاتل، عرفت باسم “فيلق اليهود”. وكان هدفها، كما رسم زعماء الحركة الصهيونية، مساعدة القوات البريطانية على تخليص فلسطين من أيدي الأتراك. غير أن الحقيقة الباطنة، هي استخدام هذه القوة اليهودية في المساومة السياسية مع بريطانيا، من أجل إنشاء الوطن القومي، ولتكون نواة الجيش، الذي سيتولى حماية الكيان الصهيوني في فلسطين، بعد تمرسه بخبرة هذه الحرب. وقد وصل هذا التشكيل العسكري اليهودي إلى فلسطين، لينضم بعدها إلى الجيش البريطاني، تحت اسم “فرقة المشاة الملكية”.

ولما كان اللنبي قائداً أعلى للعمليات العسكرية، التي لم تكن قد انتهت بعد، فقد عَدّ فلسطين، بما فيها القدس، جزءاً من أراضي العدو المحتلة في سورية. ومن ثم، فقد عُرفت باسم “أرض العدو المحتلة الجنوبية”. وقد خضعت مباشرة لإدارة عسكرية بريطانية، على رأسها اللنبي، كقائد عام، وممثل لوزارة الحربية البريطانية، التي تتلقى أوامرها وتعليماتها من وزارة الخارجية، لأنها المسيِّرة، آنذاك، لشؤون المستعمرات البريطانية الخارجية.

وقد حرص اللنبي، عقب دخوله القدس، على القضاء على كل محاولة عربية، تسعى إلى تثبيت نفسها في فلسطين، مهْما كانت ضئيلة. فعندما همَّ العرب في القدس برفع الأعلام العربية على أبنية الحكومة، أمر بإنزال هذه الأعلام، مشيراً إلى أن فلسطين جزء من الدولة العربية المستقلة، والحرب لم تنته بعد. (اُنظر شكل القدس تحت الاحتلال البريطاني)

وهكذا، وُضع الحجر الأساسي للإدارة العسكرية في فلسطين. فقد كان الضابط السياسي العام مرتبطاً بالإدارة السياسية في القاهرة، من طريق المكتب العربي، وذلك لضمان تنفيذ المخططات والأطماع البريطانية في هذه المنطقة. وفي عام 1918، استقلّت الإدارة العسكرية البريطانية في فلسطين، وأصبحت غير مرتبطة بالإدارة السياسية في مصر.

وتجدر الإشارة إلى أن الإدارة البريطانية في فلسطين بوجه عام، وفي القدس بوجه خاص، استمرت في العمل على تقوية قبضة اليهود على البلاد. فمنحتهم، وحدهم، درجة في المحاكم، مع حق تعقب أو مراجعة الجناة. ثم أتبعت هذه الخطوة بتعيين مستشار يهودي لمحاكمها، للنظر في أمور اليهود الخاصة. كما بدأت تكوّن من اليهود فرقة، ألحقتها بقوات الشرطة، وسلحتها تسليحاً كاملاً، ووضعتها داخل فلسطين للحفاظ على الأمن العام بها. غير أن تعديات أفراد الفرقة على السكان، تفاقمت، فكانوا محل سخط واحتجاج لدى الحاكم العسكري، من قبل الجمعية الإسلامية ـ المسيحية، التي طالبت بأن يكون للعرب مثل هذا الحق ، ولكن دون أي استجابة.

وعلى كل حال، فما أن أعلن مؤتمر سان ريمو San Remo، في أبريل 1920، وكان من بينها بند يقضي بوجوب الانتداب البريطاني في فلسطين، حتى كان ذلك مؤشراً إلى انتهاء الحكم العسكري البريطاني، لتحل محله حكومة مدنية، وضع على رأسها هربرت صموئيل Sir Herbert Samuel، كمندوب سام بريطاني، لتنفيذ وعد بلفور. وبوجه عام، لا يمكن القول بأن الحكم العسكري، الذي امتد بين عامَي 1918 ـ 1920، اهتم بتنظيم البلاد، والعمل على دفعها نحو التقدم، وإنما جاءت هذه الإدارة بتدابير مؤقتة، هدفها مساعدة العناصر اليهودية، والتمهيد لإقامة إدارة مدنية.

وثمة أمر أخير، فقد كانت القدس فريسة سهلة لحملة اللنبي، نتيجة للدور الذي قامت به حركة الشريف حسين، التي عُرفت بالثورة العربية، في دعم تلك الحملة، التي بدت، في رؤوس مخططيها ومنفذيها، وعلى أعلى المستويات، العربية والبريطانية، حملة صليبية للاستيلاء على فلسطين في الدرجة الأولى، وتدمير الروابط العربية والإسلامية، وتصفية الدولة العثمانية، معقل الخلافة، آنذاك، الرابطة للعالم الإسلامي. فكانت القدس، على حدّ طلب لويد جورج Lloyd George من اللنبي، “هدية عيد الميلاد للشعب البريطاني”. كما أحدث احتلالها صدى بعيداً في العالمين، المسيحي والإسلامي، فضلاً عن أنه بعث الأمل في الإمبراطورية البريطانية، التي أرهقتها، حينذاك، معارك الحرب العالمية الأولى. وقد مهدت بريطانيا كل السبُل لتقديم القدس إلى اليهود (طوال فترة الانتداب) متجاهلة بذلك حق الشعب الفلسطيني والأمة العربية.

ويمثل الانتداب البريطاني في فلسطين (1920 ـ 1948)، أول مرحلة من مراحل المؤامرات الاستعمارية الصهيونية، لاقتلاع جذور فلسطين العربية ـ الإسلامية، والتمهيد لاستيلاء اليهود عليها، وتهويدها تدريجياً. وتضمن صك الانتداب، الذي أقره مجلس عصبة الأمم في 24 يوليه 1922، اعترافاً ” بالصِّلة التاريخية، التي تربط اليهود بفلسطين، وبالأسباب التي تبعث على إعادة إنشاء وطنهم القومي في تلك البلاد”. كما تضمن الصك تصريح بلفور، والاعتراف بكل ما ورد فيه، وألزم الدولة المنتَدَبة (بريطانيا) بالعمل على إنشاء الوطن القومي لليهود في فلسطين، وذلك بتسهيل هجرة اليهود إلى هذا البلد وشرائهم الأرضي فيه. وكان أهم ما جاء في صك الانتداب ما يلي:

1. ورد في ديباجته: إن الدول الكبرى توافق على أن تكون الدولة المُنْتدَبة (بريطانيا) مسؤولة عن تنفيذ وعد بلفور، لمصلحة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.

2. وجاء في مادته الثانية: تكون الدولة المنتدَبة مسؤولة عن وضع البلاد، في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية، تضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي، وفقاً لما جاء بيانه في ديباجة هذا الصك، وتطوير مؤسسات الحكم الذاتي.

3. كما جاء في المادة الثالثة: تعترف سلطات الانتداب بوكالة يهودية، صالحة كهيئة حكومية، لإسداء المعونة والمشورة إلى إدارة فلسطين. (اُنظر شكل القدس والانتداب البريطاني)

كان المُخطط لإفراغ فلسطين من مضمونها، وتغيير هويتها، يسير بدعم ومعاونة من دول عظمى، لا قِبل لأحد بها. وعلى الرغم من ذلك، لم يستكن الفلسطينيون، وبذلوا في مقاومة ذلك المخطط الكثير. ففي البداية، أظهروا تخوفهم من الغزو الاستيطاني المنظم، بادئين بمناشدة المندوب السامي البريطاني، في 20 ديسمبر1921، ثم بمناهضة السياسة البريطانية نفسها، في عام 1922، والامتناع عن دفع الضرائب، ومتابعة حركة النضال والمقاومة. ثم عمدوا إلى سلاح الإضراب. ثم انتهوا إلى القيام بثورات متتالية، منذ عام 1922. وعلى إِثر ذلك، عين وزير المستعمرات البريطانية، في يوم 13 سبتمبر من العام نفسه، لجنة للتحقيق في الأسباب، التي أدت إلى وقوع الحوادث، واتخاذ التدابير اللازمة لمنع تكرارها.

ونظراً إلى الأهمية الخاصة المستمدة من بقاء الأحوال الراهنة، في الأماكن المسيحية المقدسة، خشية امتداد الأطماع اليهودية إليها، زارت اللجنة هذه الأماكن، ومنها كنيسة القبر المقدس، وكنيسة المهد في بيت لحم، لتأكيد بقاء هذه الأماكن على ما هي عليه في أيدي المسيحيين بفلسطين. وعلى الرغم من استماتة اليهود في الدفاع عن حائط المبكى، أثبتت اللجنة الدولية أنه أثر إسلامي. وقد أقرت حكومة الانتداب البريطاني ما ورد في تقرير اللجنة، وألزمت اليهود به.

وقد جاء في تقرير اللجنة الدولية، “لجنة شو”، برئاسة Sir Walter Shaw، التي بحثت الأمر من جميع جوانبه، أن أفضل حلّ لفضّ هذا النزاع، هو منع اليهود من الاقتراب من الحائط. وكانت مهمة لجنة شو، التحقيق في النزاع، الذي نشأ بين العرب واليهود فيما يتعلق بممارسة دينية يهودية، هي ذهاب اليهود إلى الحائط الغربي أو البراق، وهو ما يطلق عليه اليهود حائط المبكى، للتضرع وذرف الدموع.

وكانت الحكومة البريطانية، في كتابها الأبيض، الصادر في شهر أكتوبر 1928، ذكرت أن الحائط الغربي، أو المبكى، يشكل قسماً من الحائط الخارجي لهيكل اليهود القديم، وهو مقدس لديهم. كما يشكل الحائط، أيضاً، قسماً من الحرم الشريف، وهو بهذه الصفة، مقدس لدى المسلمين وملك لهم، كما أن الرصيف المقابل له وقف عليهم. ورأت الحكومة البريطانية، تطبيقاً لأحكام المادة (13) من صك الانتداب في فلسطين، أن المسألة توجب المحافظة على الحالة الراهنة، والسماح لليهود بالمرور لإقامة صلواتهم، على الرغم من ملكية المسلمين للحائط، مع عدم السماح بإجراء أي محدثات أو تغييرات في الحائط نفسه أو بالقرب منه، ما يلحق باليهود إزعاجاً أثناء إقامة صلواتهم.

فإن كان لا بدّ من المحافظة على الحائط الغربي، والرصيف الكائن أمامه، لمصلحة اليهود الدينية، فإن على اليهود، أيضاً، أن يراعوا حرمة المسلمين، الذين أكرموا مثواهم، والذين ضمنت لهم أحكام صك الانتداب مقاماتهم المقدسة.

وفضلاً عن ذلك، فقد تلقّى المسلمون ما ورد في الكتاب الأبيض في هذا الشأن، بمزيد من الارتياح، على حد ما ذكرته لجنة شو في تقريرها. وفي 27 ديسمبر 1928، أرسل مفتي القدس، بصفته رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، كتاباً إلى حاكم مقاطعة القدس، يقول فيه:

اطّلع المجلس الإسلامي الأعلى على الكتاب الأبيض، الذي أصدره وزير المستعمرات في شهر أكتوبر 1928، ونشرته الجريدة الرسمية، في شأن قضية البراق (حائط المسجد الأقصى الغربي)، فوجد أن ما فيه، من الدقة وبُعْد النظر ومراعاة العدل من غير محاباة، قد بدد، بوضوح وصراحة، تلك الغيوم، التي حاولت الدعاية الواسعة والضجة المصطنعة، أن تخفيا تحتها الحالة الراهنة. ويصف الخطاب موقف الحكومة البريطانية في هذا الشأن بالنزاهة، ويرى ضرورة إسراعها بالمحافظة على الحالة الراهنة، التي استمرت منذ عهد الأتراك، وظلت مرعية قبل الحرب العالمية الأولى، ومنع اليهود من وضع أي حاجز أو ستار، سواء لفصل الرجال عن النساء، أو لأي غاية أخرى، أو وضع أي سجادة أو حصيرة، أو النفخ في البوق (شوفار).

وفي شهر ديسمبر 1929، بعثت لجنة التحقيق بتوصياتها إلى وزير المستعمرات، ومن بينها تعيين لجنة مؤقتة، في أقرب وقت، طبقاً للمادة (14) من صك الانتداب في فلسطين، لتحديد الحقوق والادعاءات في شأن حائط المبكى في القدس.

وفي الاجتماع الذي عقده مجلس عصبة الأمم، عرض المندوب البريطاني في المجلس بعض الاقتراحات، التي تتفق وما أوصت به اللجنة. وقد قرر المجلس، بناءً على ذلك، أن يعهد إلى لجنة دائمة تسوية هذه الحقوق والمطالب. وتتألف اللجنة من ثلاثة أعضاء من غير الإنجليز، على أن يكون أحدهم، على الأقل، من فقهاء القانون.

وقد أُلقيت التبعة على بريطانيا، صاحبة الانتداب في فلسطين، لأنها لم تتولَّ إدارة الأماكن الإسلامية المقدسة، التي يضمن صك الانتداب ضماناً تاماً، عدم تعرضها لامتيازات جديدة إضافية لمصلحة اليهود، بخلاف السماح الآمن لهم بالمرور لإقامة صلواتهم. وقد احتج رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، في كتاب بعث به إلى الجمعية العامة لعصبة الأمم، في 17 مارس 1930، لتعيين لجنة دولية لبت حقوق اليهود ومطالبهم، في شأن الحائط الغربي، نظراً إلى أن أيّ تلميح أو إشارة إلى حقوق ومطالب اليهود في هذا المكان، تعَدُّ تعدياً خطيراً على حقوق المسلمين ومقدساتهم.

وأقرت اللجنة، أن تعود إلى المسلمين، وحدهم، ملكية الحائط الغربي، ولهم، وحدهم، الحق العيني فيه، لأنه يشكل جزءاً لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف، التي هي من أملاك الوقف. كما تعود ملكية الرصيف، الكائن أمام الحائط، وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة المقابلة للحائط إلى المسلمين أيضاً، لكونه موقوفاً، حسب أحكام الشرع الإسلامي، لجهات البِر والخير.

وقد توصلت اللجنة المكونة من: إلياس لوفجرين، وشارلي بيرد، وفان كمبن، وستيج ساهلين، إلى آرائها وقراراتها، في ديسمبر 1930، وقراراتها كانت في مصلحة العرب.

وهكذا، استمرت الاضطرابات بين الجانبين، الفلسطيني واليهودي، حتى قام الفلسطينيون بما سُمّي بـ “الثورة العربية”، عام 1936، والتي بدأت بإضراب، غير مسبوق في التاريخ، لمدة ستة أشهر. واستمرت الصدامات بين عرب فلسطين وسلطة الانتداب، التي أعلنت قانون الطوارئ.

ونتيجة لذلك، توجه عرب فلسطين إلى ملوك الدول العربية ورؤسائها، آملين أن يعملوا على إنقاذهم، وتحرير مقدساتهم. وفي أكتوبر 1936، ناشد بعض الملوك والأمراء العرب الفلسطينيين الهدوء، حتى يمكنهم التوسط لدى بريطانيا. واستجاب الفلسطينيون حتى وصلت “لجنة بيل”، البريطانية، في نوفمبر 1936، برئاسة روبرت بيل Lord Robert Peel، التي أوصت بتقسيم فلسطين، مما أدى إلى اندلاع الثورة من جديد، بدءاً من عام 1937 حتى عام 1939. وظل الحال على هذا الوضع المتأزم بين الفلسطينيين وبريطانيا، من جهة، واليهود، من جهة أخرى، حتى لاحت بوادر الحرب العالمية الثانية. فاضطرت بريطانيا لإصدار الكتاب الأبيض الثالث، في 17 مايو 1939، في محاولة لترضية العرب، وكسب تأييدهم، وضمان وقوفهم خلفها، ما أدى إلى تهدئة الموقف. ولمّا كان هذا الكتاب، في مجمله، لمصلحة العرب، فقد أدى إلى استكانة الصراع العربي ـ البريطاني. وما كادت الحرب العالمية الثانية تنتهي، في 7 مايو 1945، باستسلام ألمانيا للحلفاء وانتهاء النازية، حتى عاد الصراع للاشتعال، مرة أخرى، بين اليهود، من جهة، وكل من العرب وسلطة الانتداب، من الجهة الأخرى.

ونتيجة لتزايد الاضطرابات العربية ـ اليهودية، والتي وُجِّه شيء منها إلى البريطانيين، من كلا الطرفين، خاصة اليهود، اتخذت الحكومة البريطانية الخطوة، التي كانت الوكالة اليهودية تأملها. فحولت عبء تسوية مشكلة فلسطين، بعد أن غذتها إلى أن استفحلت، إلى الأمم المتحدة، وأعلنت بريطانيا، عام 1946، أن عام 1948 سيكون موعداً لانسحابها من فلسطين، بعد أن تأكد نمو الوليد اليهودي.

وقد تطور تعداد قاطني فلسطين إلى أن وصل، عام 1946، إلى حوالي 000 947 1 نسمة:

· العرب المسلمون 000 952 بما يمثل 48.9%

· العرب المسيحيون 000 317 بما يمثل 16%

· عرب فلسطين 65.2%

· اليهود 000 678 بما يمثل 34.8%

وكان من نتيجة الضغط البريطاني للانسحاب من فلسطين، عام 1948، أن أصدرت الأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947، مشروع القرار الرقم (181) الخاص بتقسيم فلسطين إلى دولتين مستقلتين، الأولى عربية، والثانية إسرائيلية. وكان هذا القرار هو التطور الرئيسي الثالث، الذي حاق بفلسطين على مدى حوالي ربع قرن.

القضية وأبعادها الدينية

قد يكون من الضروري تناول بعض القضايا الخلافية، التي تتعلق بموضوع القدس، والعرب، مسلمين ومسيحيين، لا يتناولون تلك المسائل من المنظور الديني البحت فقط. كما أنهم لا يتعالون على الشعوب الأخرى، ولا يرتبون لأنفسهم حقوقاً عليها، على أساس أنهم ساميون؛ فهُم من نسل إسماعيل بن إبراهيم ـ عليهما السلام ـ الذي لم يكن هو أو أبناؤه (إسماعيل ـ إسحاق ـ يعقوب) وكذلك أبناؤهم يهوداً أو عبرانيين، والتسمية العبرية لهم خطأ، لأنهم مؤمنون موحِّدون مسلمون.

غير أن اليهود يدينون بشيء آخر، تعود مواثيقه إلى كتب وأسفار، أثبت العديد من الدراسات الموثقـة تحريفهـا عبر العصـور، والمثـال على ذلك ما تحدث به ديفيد بن جوريون David Ben-Gurion، في أوائل الخمسينيات، عن الصهيونية وفلسفتها، حين قال إنها: “تستمد وجودها وقوّتها من مصدر عميق عاطفي دائم، مستقل عن الزمان والمكان، وهو قديم قدم الشعب اليهودي نفسه”، وأشار إلى أن هذا المصدر، هو الوعد الإلهي وأمل العودة. ويرجع هذا الوعد إلى قصة اليهودي الأول، الذي أبلغته السماء أن: “سأعطيك، ولذريتك من بعدك، جميع أرض كنعان، ملكاً أبدياً لك”. وهذا الوعد بوراثة الأرض، رأى اليهود فيه جزءاً من ميثاق دائم، تعاهدوا مع إلههم على تنفيذه وتحقيقه.

هذا عن الوعد. أما عن الشعب المختار وعن الحق، من وجهة نظر اليهود، فهو ما يتفق وأهواءهم ومصالحهم. وأما ما سوى ذلك، فهو ليس بحق، بل هو زعم باطل.

فالرب هو إله بني إسرائيل، وحدهم، الذي جعلهم شعباً مختاراً. أما بقية الشعوب، فقد قسم لها الرب، من وجهة نظر اليهود، آلهة أخرى تعبدها، وتتقرب إليها، حتى لا تشارك اليهود مجدهم. ذلك هو مفهوم الحق في العقيدة عند اليهود، كما تشير إليه أسفارهم: “وَلئَلاَّ ترفع عينيك إلى السماء، وتنظر الشمس والقمر والنجوم، كل جند السماء، التي قسمها الرب إلهك لجميع الشعوب، التي تحت كل السماء، فتغتر وتسجد لها وتعبدها. وأنتم قد أخذكم الرب وأخرجكم من كور الحديد من مصر، لكي تكونوا له شعب ميراث كما في هذا اليوم”.

المرجعيات الدينية اليهودية

جاء في دائرة المعارف الأمريكية: “إن العهد القديم، يتكون، حسب عقيدة البروتستانت، من 39 سِفراً، عدا ملحق، يعرف بالأبوكريفا Apocrypha، أي الأسفار المحذوفة. على حين تضيف الطوائف الأخرى، مثل الكاثوليك والإنجيليين والكنائس الأرثوذكسية، تلك الأسفار المحذوفة (وعددها 14 سفراً) إلى أسفار العهد القديم. وبذلك يصبح مجموع أسفاره 53 سفراً.

والشائع بين اليهود، هو أن الأسفار الخمسة الأولى، بنتاتشو Pentateuch، المنسوبة إلى موسى ـ u تكوِّن الجزء الأول من الأسفار، وتعرف بالتوراة أو الناموس. على حين تكوَّن الكتب التاريخية الجزء الثاني، وتعرف بكتب النبوات أو الأنبياء. أما الجزء الثالث، فيعرف بالكتب. أي أن العهد القديم، يتكوِّن من الناموس والأنبياء والكتب”.

كيف صارت كتب العهد القديم أسفاراً مقدسة

كان هناك نشاط أدبي بين الإسرائيليين، منذ عهد مبكر. فسجلوا تقاليدهم القبلية، وقوانين الجماعة الإسرائيلية، إلى جانب الأغاني الشعبية وترانيم العبادة، وما يَنطق به الكهنة والأنبياء من كهانة ووحي. كما سجلوا حِكم شيوخهم وأقوالهم وسلوكهم والأحداث التاريخية المهمة. ومن الواضح، أن كل ما سجلوه، لم يكن مختصاً بالمسائل الدينية. ولكن بعد أن استقرت حياة الطائفة الإسرائيلية، بدأت تظهر ركائز لحياتها العقائدية. وبهذا، أُعطيت هذه العناصر وقاراً خاصاً، تفردت به، وتحولت، بذلك، إلى كتابات مقدسة. ولا شك أن الكُتّاب الأصليين لهذه الكتب، لم يدُر بخلدهم، أن ما كتبوه وسجلوه، سيكون له، في يوم من الأيام، مثل هذه القداسة في حياة الطائفة الإسرائيلية.

كتُبت أسفار العهد القديم باللغة العبرية، عدا بعض الكلمات والتعبيرات والأسماء، كما جاء في إصحاحات الأسفار. فكل هذه الإصحاحات كتبت بالآرامية. وقد كانت اللغة العبرية هي لغة مملكتَي إسرائيل ويهوذا، حتى السبي البابلي. بينما كان يهود ما بعد السبي، وإن احتفظوا بالعبرية لغة مقدسة، يتكلمون الآرامية، وهي اللغة التي كانت سائدة، آنذاك، في غربي آسيا. ومن المعلوم أن كلاً من العبرية والآرامية تنتمي إلى عائلة واحدة، أو مجموعة متجانسة من اللغات، تعرف بمجموعة اللغات السامية. وتنقسم هذه المجموعة إلى:

أ. مجموعة شرقية: وهي الآشورية ـ البابلية، وتعرف بالأكدية.

ب. مجموعة جنوبية غربية: وهي العربية والأثيوبية.

ج. مجموعة شمالية غربية، وهي الفينيقية والمؤابية والعبرية والآرامية والسريانية.

ولذلك، يعَدّ العهد القديم كتاباً غير متجانس، إذ إنه مجموعة من الوثائق، تكوَّنت خلال فترة تزيد على الألف عام، على يد رجال لهم تراث لغوي متعدد. ذلك أن اللغة العبرية، التي كُتبت بها أسفار العهد القديم، هي في الواقع لغة خليط في أصلها وتطورها، حيث لم تكن لغة نقية، وتلك هي النتيجة التي تخلُص إليها الدراسات اللغوية لكتب العهد القديم.

وعلى مدى القرون الطويلة، التي كُتبت خلالها أسفار العهد القديم، نجد أن نصوصه، نسخت مراراً، وأعيدت كتابتها باليد. وقد حدثت أخطاء في عملية النسخ، إما بسبب عدم القدرة على قراءة النصوص قراءة صحيحة، أو العجز عن سماع النطق صحيحاً، حين كان يُمْلى على الكاتب، أو بسبب شعور الكاتب نفسه بالتعب، أو عجزه عن فهْم ما كان يكتبه، أو حتى بسبب إهماله. وكان يحدث، أحياناً، أن تضاف إلى النص بعض المواد، التي كتبت كهوامش له.

كما تقول دائرة المعارف البريطانية ” إن التقويم التاريخي لأحداث العهد القديم، قد صار، لاعتبارات كثيرة، أمراً غير موثوق به. فقبل قيام المملكة، لم تكن الظروف تسمح بعمل تقويم تاريخي يعتمد عليه. وفي واقع الأمر، فإن تاريخ الأحداث القديمة، قد أضيف بعد قرون عديدة من وقوعها، ودرجة الدقة فيها مظهرية فقط. وحتى بعد تكوين المملكة، فإن الأخطاء تسربت في الأرقام، بحيث صار الخطأ في تواريخ الأحداث نحو بضع عشرات من السنين”.

يرتكز الواقع اليهودي، منذ زمن طويل، وتحديداً من اللحظات الأولى، التي بدأ فيها “تيودور هرتزل Theodor Herzl” التفكير في إنشاء دولة إسرائيل، على أسانيد ومرتكزات عدة، تدّعي بها اليهودية (بل الصهيونية) حقها في ما ترتكبه من آثام وتجاوزات. وللوقوف على حقيقتَي الصهيونية وإسرائيل، لا بد من معرفة ما تحتويه أسانيدهما، التي تتمثل في التوراة والتلمود والبروتوكولات الماسونية.

العهد القديم

يعُدّ الإسلامُ اليهودَ هم أصحاب التوراة، التي هي كتاب سماوي، نزل على نبيهم ـ موسى ـ عليه السلام ـ وقد وصف القرآن هذا الكتاب بأنه هدى ورحمة ونور. قال تعالى: ]إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُون[ (سورة المائدة: الآية 44).

ولكن أين الآن تلك التوراة، التي أنزلها الله على موسى؟ وأين هي التوراة، التي تحمل هذه الأوصاف؟ لا أحد يعرف أين توجد تلك التوراة. والذي يُعْرف الآن هو العهد القديم. ويضم هذا العهد تسعة وثلاثين سفراً، قسمت إلى ثلاثة أقسام: التوراة (أي الناموس)، والأنبياء والكتب.

القسم الأول، التوراة: وهي أسفار موسى الخمسة (وهي التكوين، والخروج، واللاويون، والعدد، والتثنية).

القسم الثاني، الأنبياء: قسمان: الأوائل والأواخر.

القسم الثالث، الكتب: وهي المزامير والأمثال وأيوب، وما ذكر بعدها.

أ. القسم الأول: التوراة/ الناموس/ أسفار موسى الخمسة

تُعرف باسم “التوراة” أو “شريعة موسى”. وهي تحتوي على الشرائع والقوانين والطقوس والوصايا، التي أوصى الله بها موسى. كما تضم أخباراً تاريخية عن بني إسرائيل. وتتألف التوراة من خمسة أسفار، هي:

(1) سفر التكوين Genesis: الذي يهتم بوصف الخليقة وأصل الشعب الإسرائيلي، كما يتناول وصفاً لحياة إبراهيم وإسحاق ويعقوب.

(2) سفر الخروج Exodus: ويروي تاريخ العبرانيين في مصر، وخروجهم منها، ووصولهم جبل سيناء.

(3) سفر اللاويين Leviticus: لاوي (ليفي) أحد أسباط إسرائيل الاثنى عشر. واللاويون خلفاؤه الذين نصّبهم موسى، ليخدموا في خيمة الاجتماع، مكافأة لهم على رفضهم الاشتراك في عبادة العجل الذهبي. وقد وُكلت كل عائلة من سبط لاوي بمهام وواجبات محددة، تتصل بنقل وجمع أجزاء خيمة الاجتماع إلى البرية.

(4) سفر العدد Numbers: وفيه تعداد رؤساء الشعب وحاملي السلاح. ويروي قصة ترحال الشعب مع موسى أربعين سنة، بداية من جبل سيناء إلى أن وصلوا بالقرب من أرض كنعان.

(5) سفر التثنية Deuteronomy: أو تثنية التشريع (الاشتراع)، أي إعادة الشريعة، وتكرارها على بني إسرائيل مع التأكيد على تطبيقها.

ب. القسم الثاني: الأنبياء، وينقسم إلى جزءين

(1) الأنبياء السابقون، ويتكون من أسفار: يشوع، القضاة، صموئيل (الأول والثاني)، الملوك (الأول والثاني).

(2) الأنبياء المتأخرون، ويتكون من أسفار: إِشعياء، وإِرميا، وحِزَقِيَال، والاثني عشر نبياً الأصاغر (هوشع ـ يؤئيل ـ عاموس ـ عوبديا ـ يونان ـ ميخا ـ ناحوم ـ حبقوق ـ صفنيا ـ حجي ـ زكريا ـ ملاخي).

ج. القسم الثالث: الكتب، وهي تتكون من

(1) المزامير، والأمثال، وأيوب.

(2) راعوث، ونشيد الأنشاد، والجامعة، ومراثي إِرميا، وأستِير.

(3) دانيال، وعزرا، ونحميا، وأخبار الأيام (الأول والثاني).

وقد اكتسب كل من الأجزاء الثلاثة الرئيسية للعهد القديم صبغته القانونية (مصداقيتها) على مدى قرون طويلة، بيانها كالآتي: (اكتمل للناموس شرعيته حوالي عام 400 ق. م، والأنبياء حوالي عام 200 ق . م. وأما الكتب فكانت حوالي عام 90 ميلادية).

وإذا كانت تواريخ تلقّي موسى ـ عليه السلام ـ التوراة تراوح بين 1290 و1250 ق.م، كما يقدر المؤرخون، صار من الواضح أن أسفار (الناموس) التي وصلتنا، استغرقت أكثر من ثمانية قرون، حتى اكتمل بناؤها، وأخذت صورتها القانونية (مصداقيتها). ولا يختلف الحال كثيراً بالنسبة إلى (الأنبياء) و(الكتب)، فكلاهما استغرق قروناً عدة ليكتسب قانونيته (مصداقيته).

3. التلمود

أ. تعود جذور اليهود وينابيعهم إلى عهود سابقة. فإذا شئنا أن نفهم حقائق اليهود في القرن العشرين، فعلينا أن نفهم حقائقهم منذ كانوا، ومنذ كانت التوراة، قبل عشرات القرون. وأن نفهم التلمود الذي وضع نهائياً بعد انتهاء أسفار التوراة بعدة قرون، والقبالة من التلمود وحكماء صهيون وبروتوكولاتهم. وهذا يرجع بجذوره إلى التلمود.

ب. ماهية التلمود: كتاب (ديانة اليهود وتعاليمهم وآدابهم). وهو كتاب مقدس لدى اليهود الربانيين. ولا يؤيده القراءون ولا السامرة. وقد كتب بعد موسى بقرون عدة. أما التوراة، فقد كتبت بعد موسى بثمانمائة سنة على الأقل.

ج. مصادر التلمود

(1) تلمود أورشليم، وهو الذي كان موجوداً في فلسطين سنة 230م.

(2) تلمود بابل، وهو الذي كان موجوداً فيها سنة 500 بعد المسيح.

د. ويوجد في نسخ كثيرة من التلمود، المطبوع في المائة سنة الأخيرة، مساحة بيضاء أو رسم دائرة، بدلاً من ألفاظ السباب في حق المسيح والعذراء والرسل. وهي ألفاظ كانت مكتوبة في النسخ الأصلية. ومع هذا، فإن النسخ المشار إليها من التلمود، لم تخلُ من طعن في المسيحيين. إن كل ما جاء في التلمود في خصوص باقي الأمم غير اليهود، كذكر أجانب أو وثنيين، فالمراد به المسيحيون. ولما اطلّع المسيحيون على ألفاظ السباب تلك، هالهم الأمر وتذمروا من اليهود، فقرر المجمع الديني لليهود، وقتئذِ، أن تترك مساحة بيضاء مكان هذه الألفاظ، أو تُعلّم بدائرة، وهذه التعاليم تدرّس في مدارسهم فقط.

4. الوصايا العشر/ الكلمات العشر

عقب خروج بني إسرائيل من مصر، تلقّى موسى الوصايا العشر. وكان ذلك هو العهد الإلهي لموسى وبني إسرائيل، وميثاقه الذي واثقهم به.

فانصرف موسى، ونزل من الجبل، ولوحا الشهادة في يده. لوحان مكتوبان على جانبيهما من هنا، ومن هنا كانا مكتوبين، واللوحان هما صنعة الله، والكتابة كتابة الله منقوشة على اللوحين. وكان عندما اقترب إلى المحَلةِ أنه أبصر العجل والرقص. فحمي غَضبُ موسى وطرح اللوحين من يديه، وكسرهما في أسفل الجبل، وأحرق العِجل. ثم طلب الله من موسى نحت لوحين آخرين: “ثم قال الرب لموسى، انحت لك لوحين من حجر، مثل الأولين. فأكتب أنا على اللوحين الكلمات، التي كانت على اللوحين الأولين، اللذين كسرتهما”. ويؤيد القرآن الكريم ما جاء في التوراة في شأن الألواح، فيقول الله تعالى: ]وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ[ (سورة الأعراف: الآية 154).

صعد موسى إلى الجبل، وكتب عهد الرب، معه ومع بني إسرائيل. فكتب على اللوحين كلمات العهد، الكلمات العشر (الوصايا العشر). ويذكر القرآن الكريم ما كتب في الألواح في قوله تعالى: ]وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ[ (سورة الأعراف: الآية 145)، ويعدد لنا ابن خلدون هذه الكلمات العشر في “كلمة التوحيد، والمحافظة على السبت بترك الأعمال فيه، وبر الوالدين ليطول العمر، والنهي عن القتل والزنا والسرقة وشهادة الزور، ولا تمتد عين (أحدكم) إلى بيت صاحبه أو امرأته أو لشيء من متاعه، هذه الكلمات العشر تضمنتها الألواح”.

إستراتيجية التهويد والاستيلاء الإسرائيلي على مدينة القدس

إن ما يجري، الآن، في مدينة القدس بواسطة الجانب الإسرائيلي، ما هو إلا صراع مع الزمن. فقد بدأ يترسخ في العقل الإسرائيلي، أن الأوان قد آن لإعادة الحقوق إلى أصحابها، ومن ثم، فهم في صراع مع الزمن، في محاولة تغيير المعالم، الجغرافية والديموجرافية، للكثير من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، عموماً، بحجة الأمن، وفي القدس الشرقية، خصوصاً، بحجة عد القدس الموحدة عاصمة أبدية لإسرائيل.

في هذا السياق، تجري عمليات التهويد على قدم وساق، من إقامة أحزمة من المستوطنات الأمنية، وشق الطرق حولها، خاصة من الاتجاه الشرقي، في محاولة لعزلها عن الضفة الغربية. ويواكب ذلك محاولات تشجيع الإسرائيليين على الهجرة، والاستقرار في القدس. بينما على الجانب الآخر، تعرقل إسرائيل النمو الطبيعي للعرب المقدسيين، سواء بالنسبة إلى إقامة مساكن جديدة، أو لمحاولة البقاء في القدس، من خلال المضايقات المتعددة، التي تهدف إلى دفعهم إلى مغادرة القدس. وبذلك، تحقق هدفها من التغيير، الجغرافي والديموجرافي، الأمر الذي يمكن أن يفرض نفسه في النهاية لمصلحة إسرائيل.

ولمّا كان الفكر اليهودي، والصهيوني عموماً، يتميز، على مر العصور، بالتخطيط بعيد المدى، لذلك، يجدر بنا تناول المحاولات اليهودية والصهيونية لتهويد القدس، ومراحل ذلك، على امتداد التاريخ الحديث وحتى اليوم، بغية تعرف هذا الفكر الاستعماري الاستيطاني.

أولاً. مراحل التهويد
1. المرحلة الأولى: 1807 ـ 1916

شرعت الجماعات اليهودية في بريطانيا تمارس نفوذها، للبدء بتنفيذ خطوات على طريق التهويد التدريجي. فتمكن موسى مونتفيوري، بحكم منصبه كضابط في قصر الملكة فيكتوريا Victoria ، ملكة إنجلترا، إذ كان يصاهر آل روتشيلد، أثرى أثرياء الأُسر اليهودية، آنذاك، من التأثير في فرنسا وإنجلترا، لممارسة ضغوطٍ على الدولة العثمانية، لاستصدار فرمانات، تسمح بإقامة مؤسسات يهودية في فلسطين، تأتي القدس في مقدمتها.

وكنتيجة لهذه الضغوط المتواصلة، تمكنت قوى الجماعات اليهودية، من إقناع قناصل الدول المقيمين بالمدينة المقدسة، من انتزاع (فرمانات) عدة، لإقامة مثل هذه المؤسسات، لتصبح القدس هدفاً متميزاً للمطامع اليهودية الصهيونية، حتى قبل الإعلان، عملياً، عن هوية الحركة الصهيونية، في 29 أغسطس 1897، في بال في سويسرا.

مدينة القدس
مدينة القدس

وبعد أن مهد موسى مونتفيوري السبيل للشروع في حملته الاستيطانية، في قلب مدينة القدس التاريخية، بدأ بتنظيم رحلات عمل إليها، لإقامة الأحياء اليهودية، منذ عام 1827. فقام بست زيارات، لتنفيذ مخططه التمهيدي، ببناء المؤسسات والأحياء اليهودية، خارج محيط السور التاريخي لمدينة القدس، ليكون ذلك مقدمة لتحقيق الأهداف، التي اتفق عليها في شأن القدس مع زعماء الطوائف اليهودية في إنجلترا وإيطاليا ورومانيا والمغرب وروسيا، خلال الفترة ما بين 1838 ـ 1872.

ولعل الخطوة الأولى في عملية التهويد، بدأها مونتفيوري بإجراء إحصاء لليهود في قلب القدس، عام 1839، وفي سائر أنحاء فلسطين، كي تتكامل عمليات الاستيطان، التي تكون مدينة القدس انطلاقتها. وقد تأسست عام 1863، أول بلدية عربية للقدس. (اُنظر خريطة الأوضاع النهائية في فلسطين) و(خريطة القدس بين عامي 1949-1967) و(خريطة القدس منذ عام 1967) و(شكل القدس في الخمسينيات) و(شكل القدس في الستينيات) و(شكل القدس في السبعينيات).

2. المرحلة الثانية: 1917ـ 1948 (اُنظر ملحق أبرز النشاطات الاستيطانية اليهودية في القدس، في الفترة 1917 – 1948)

قبل الانتداب البريطاني، عام 1917، كان العرب الفلسطينيون، يملكون أكثر من 90%، بينما ملكية اليهود لا تذكر. ونتيجة لنشوء الضواحي الاستيطانية في المنطقة العربية، ونتيجة للزعم الصهيوني، بأن القدس كانت دائماً ذات أغلبية يهودية، جرى ترسيم الحدود البلدية، عام 1921، لتضم حدود البلدة القديمة، وقطاعاً عريضاً، بعرض 400م، على طول الجانب الشرقي لسور المدينة، إضافة إلى أحياء باب الساهرة، وادي الجوز، الشيخ جراح، من الناحية الشمالية. ومن الناحية الجنوبية، انتهي خط الحدود إلى سور المدينة فقط. أما الناحية الغربية، والتي تعادل مساحتها أضعاف القسم الشرقي، فقد شملتها الحدود، لاحتوائها تجمعات يهودية كبيرة، إضافة إلى بعض التجمعات العربية (القطمون، والبقعة الفوقا والتحتا، والطالبية، والوعرية، والشيخ بدر، ومأمن الله).

وقد شهدت الهجرة إلى القدس نشاطاً محموماً، منذ عام 1922، إذ عملت الصهيونية، ممثلة في منظماتها الإرهابية، على تغيير معالم الوجه التاريخي لمدينة القدس، الذي حافظ على طابعه منذ آلاف السنين. في هذا السياق، أقيمت مستوطنة أجودات بني برايت، في عام 1929، على يد أعضاء منظمة بني برايت (أبناء العهد)، في الشطر الغربي من المدينة المقدسة.

وفي عام 1945، خلال الانتداب البريطاني، بلغت مساحة القدس:

 

دونماً، داخل السور 868

دونماً، خارج السور 18463

دونماً، موزعة ملكيتها كالآتي:19331

الجملة(النسبة 58%).

دونماً، يملكها العرب 11191 (النسبة 25%).

دونماً، يملكها اليهود 4835 (النسبة 17%).

دونمات، طرق ـ ميادين ـ أغراض أخرى 3305

 

أما المخطط الثاني لحدود البلدية، فقد وضع عام 1946، بقصد توسيع منطقة خدماتها. غير أن التوسيع، تركز، أيضاً، في القسم الغربي، حتى يمكن استيعاب وضم الأحياء اليهودية الجديدة، التي بقيت خارج منطقة التنظيم العام (1931). وفي الجزء الشرقي، أضيفت قرية سلوان، من الناحية الجنوبية، ووادي الجوز، وبلغت مساحة المخطط 20.199 دونماً. توزعت ملكية أراضيها كما يلي:

40% أملاك عربية

1

26.12% أملاك يهودية

2

13.86% أملاك مسيحية

3 2.9% أملاك حكومية وبلدية

4

17.12% طرق، سكك الحديد

5

100% المجموع

وارتفعت المساحة المبنية من 4130 دونماً، عام 1918، إلى 7230 دونماً، عام 1948.

3. المرحلة الثالثة: 1948 ـ 1967 (اُنظر ملحق الضواحي اليهودية الجديدة في الفترة من 1948 – 1967) و(خريطة القدس بين عامي 1949-1967)

ثم جاءت حرب عام 1948، وتصاعُد المعارك الحربية، التي أعقبت التقسيم، الأمر الذي أدى إلى تقسيم المدينة إلى قسمين رئيسيين. وفي 30 نوفمبر 1948، وقعت السلطات، الإسرائيلية والأردنية، على اتفاق وقف إطلاق النار، بعد أن فصل خط تقسيم القدس بين القسمين، الشرقي والغربي للمدينة. غير أنه مع نهاية عام 1948، كان تقسيم القدس إلى ثلاثة أقسام قد اكتمل:

11.48%

2220 دونماً

مناطق فلسطينية تحت السيطرة الأردنية

1

84.12%

16.261 دونماً

مناطق فلسطينية محتلة (الغربية)

2

4.39%

850 دونماً

مناطق حرام ومناطق للأمم المتحدة

3

100%

19.331 دونمًا

المجموع

(اُنظر ملحق أساليب الاستيلاء على الأراضي والممتلكات الفلسطينية).

وهكذا، وبعد اتفاق الهدنة بين الطرفين، الأردني والإسرائيلي، في 3 أبريل 1949، تأكدت حقيقة تقسيم القدس بينهما، تماشياً مع موقفهما السياسي، المعارض لتدويل المدينة. وفي 13 يونيه 1951 جرت أول انتخابات لبلدية القدس الشرقية (العربية). وقد أولت البلدية اهتماماً خاصاً بتعيين وتوسيع حدودها البلدية، وذلك لاستيعاب الزيادة السكانية. وتم ترسيم القدس الشرقية، للمرة الأولى، في الأول من أبريل 1952. وقد ضمت القرى الآتية إلى مناطق مسؤولية البلدية: سلوان، رأس العمود، الصوانة، أرض السمار، والجزء الجنوبي من قرية شعفاط. وأصبحت المساحة الواقعة تحت مسؤولية البلدية 6.5كم2، في حين لم تزد مساحة الجزء المبني منها على 3 كم2. وفي 12 فبراير 1957، قرر مجلس البلدية توسيع حدودها. وفي جلسة لبلدية القدس، بتاريخ 22 يونيه 1958، ناقش المجلس مشروع توسيع حدود البلدية شمالاً، لتشمل منطقة بعرض 500م، من كلا جانبي الشارع الرئيسي، المؤدي إلى رام الله، ويمتد حتى مطار قلنديا.

واستمرت مناقشة موضوع توسيع حدود البلدية، بما في ذلك وضع مخطط هيكلي رئيسي للبلدية، حتى عام 1959، دون نتيجة. وفي سبتمبر 1959، أعلن عن تحويل بلدية القدس إلى ” أمانة القدس “. ولكن هذا التغيير في الأسماء، لم يتبعه تغيير في حجم الميزانيات أو المساعدات. وفي عام 1964، وبعد انتخابات عام 1963، كان هناك توصية بتوسيع حدود بلدية القدس، لتصبح مساحتها 75 كم2. ولكن نشوب حرب عام 1967، أوقف المشروع، وبقيت حدودها على ما كانت عليه في الخمسينيات.

4. المرحلة الرابعة: 1967 حتى 1997 (اُنظر شكل القدس في الثمانينيات)

وكان من نتيجة حرب يونيه 1967، أن احتلت إسرائيل القدس الشرقية (العربية)، ما حدا إسحاق رابين Yitzhak Rabin القول: “لقد أخذنا القدس في حربين”. وبدأت، على الفور، خطوات تهويد المدينة، واتفقت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، حكومات العمل والليكود، على الإطار الإستراتيجي، وإن اختلفت تكتيكياً. ووضعت، في هذا السياق، الخطط العامة التفصيلية، لتحقيق هذا الهدف، إذ بدأت إسرائيل، من فورها، العمل على مستويات عدة:

أ. المستوى الأول: إزالة أحياء عربية برمتها.

ب. والمستوى الثاني: منع العرب المقيمين بالمدينة، من بناء مساكنهم، أو ترميمها.

ج. والمستوى الثالث: مصادرة جميع أراضي الدولة، داخل المدينة وحولها (داخل حزامها الإداري).

ثم لجأت السلطات الإسرائيلية، فيما بعد، إلى إجراءات التوسع الإداري لنطاق بلدية القدس، إذ ألحقت عدداً من القرى، إدارياً، بالمدينة، وبدأت بالحديث عن القدس الكبرى. وتواكب كل ذلك مع إعلان ضم المدينة، إدارياً، إلى إسرائيل، وعرض الجنسية الإسرائيلية على العرب المقيمين بها.

أما بالنسبة إلى التغيير السكاني، فقد عملت إسرائيل على تقليل أعداد العرب، بكل الطرق، مستغلة سياسة التهجير، وطرد السكان العرب من فلسطين، أي مستخدمة الضغوط، الاقتصادية والقانونية. وفي الوقت نفسه، بدأت في تسكين جماعات من اليهود المتدينين المتشددين، فيما زُعم أنه إجراء من قِبَل مدارس دينية لليهود، في البيوت المصادرة، أو المبيعة بالتزييف والتزوير، أو في البيوت التي بُنيت حديثاً. وهكذا، لم تمض سنوات الاحتلال، إلا وقد حوصرت مدينة القدس بأسوار من المستوطنات، التي يقطنها المهاجرون الجدد. وقد تبع ذلك، أن قامت، في داخل المدينة، مؤسسات يهودية. وتحول العرب، القاطنون في القسم الشرقي من المدينة، من أغلبية في السكان (الجميع تقريباً) إلى أقلّ من النصف. ولا يزال 85% منهم، يرفضون الهوية الإسرائيلية الحكومية، مضحين بالامتيازات العديدة، التي توفرها الجنسية الإسرائيلية التي تعطيهم حق الانتخاب، سواء في الانتخابات العامة أو في الانتخابات البلدية، إلى جانب تطبيق القانون الإسرائيلي عليهم وعلى ممتلكاتهم.

وبعد إعلان توسيع حدود بلدية القدس وتوحيدها، في 28 يونيه 1967، وطبقاً للسياسة الإسرائيلية، للسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض، مع أقلّ عدد ممكن من السكان العرب، خُططت الحدود البلدية للقدس الموحدة بشكل متناقض، لتضم أراضي 28 قرية ومدينة عربية، وتخرج، في الوقت نفسه، جميع التجمعات السكانية العربية الكثيفة. والهدف من ذلك، أن تأخذ هذه الحدود وضعاً شاذاً، وغير منتظم، فهي، مرة مع خطوط التسوية، وأخرى مع الشوارع. وهكذا، بدأت حقبة أخرى من ترسيم الحدود البلدية للقدس الموحدة، لتتسع مساحة بلدية القدس الشرقية من 6.5 كم2 إلى 70.5 كم2، ولتصبح مساحتها مجتمعة، الشرقية والغربية، 108.5 كم2، ثم لتتوسع، مرة أخرى، عام 1990، في اتجاه الغرب، حتى أصبحت مساحتها، الآن، 123 كم2.

وهكذا، بدأت السياسة الإسرائيلية، ومنذ الساعات الأولى للاحتلال، في رسم الإطار لتهويد القدس، من أجل فرض الأمر الواقع، وخلق ظروف ديموجرافية، الأمر الذي يجعل من الصعب على السياسي، أو الجغرافي، إعادتها إلى وضعها قبل عام 1967، وتقسيمها مرة أخرى. فبدأت في إقامة الأحياء اليهودية، لتحيط القدس الشرقية بسلسلة من المستوطنات، من جميع الجهات. ثم جلبت إليها المستوطنين، لتخلق أمراً واقعاً، جغرافياً وديموجرافياً، ومن ثم، تُحدث خلخلة سكانية في القدس العربية. وبعد أن كان الفلسطينيون يشكلون أغلبية سكان القدس الشرقية، عام 1967، أصبحوا أقلية، عام 1997. وبعد أن كانوا يسيطرون على 100% من الأراضي، أصبحوا لا يسيطرون إلاّ على 21% من الأراضي، بعد عمليات المصادرة، وإقامة المشروعات الاستيطانية عليها، وفتح الطرق، والبناء ضمن الأحياء العربية. ثم تأتي مرحلة أخرى من مراحل التهويد وترسيم الحدود، وهي حدود القدس الكبرى (المتروبوليتان)، لتشمل أراضٍ، تبلغ مساحتها 840 كم2، أو ما يعادل 15% من مساحة الضفة الغربية، ولتبدأ حلقة أخرى من إقامة المستعمرات، خارج حدود البلدية، في سياق هدفٍ واضحٍ، وهو التواصل، الإقليمي والجغرافي، ما بين المستعمرات، خارج حدود البلدية، والواقعة في الضفة الغربية. إضافة إلى إقامة شبكة من الطرق الالتفافية، تصل ما بين هذه المستعمرات.

كان العامل الحاسم في إحداث التغيير في حدود القدس، هو الاحتلال وسياسة التوسع والاستيطان الإسرائيلية. ومن ثم، فقد بدأت عمليات المصادرة للأراضي العربية، بعد الاحتلال الإسرائيلي مباشرة، في شيخ جراح، وأرض السمار، ووادي الجوز، وخلة نوح، في الأرض الحرام. وكانت البداية إقامة مستوطنات رامات أشكول، وجعفات همبتار، والتلة الفرنسية، والجامعة العبرية على تلك الأراضي المصادرة، في عامَي 1968 – 1969. وقد تم ذلك على خمس مراحل. (اُنظر ملحق مراحل مصادرة الأراضي الفلسطينية في القدس، منذ عام 1967).

وتجدر الإشارة إلى أن حدود مدينة القدس الشرقية، توسعت، مقارنة بحدود 1949 و1969، في كل الاتجاهات. ففي المنطقة الشرقية، على سبيل المثال، جرى التوسع بضم جبل المشارف والطور وجبل المكبر، إلى حدود القدس الشرقية. وتقع أقصى نقطة في الشرق في المنطقة المرتفعة، الفاصلة بين وادي النار غرباً، ووادي الجهير شرقاً، المعروفة بجبل السلحيد، وذلك بهدف عزلها عن باقي الضفة الغربية.

ثانياً: الإستراتيجية الإسرائيلية لتهويد مدينة القدس

لقد مضى أكثر من نصف قرن على احتلال القدس الغربية، وحوالي ثلاثة عقود على احتلال القدس الشرقية، وخلال هذه الفترة لم تتغير الإستراتيجية الإسرائيلية حيال مدينة القدس، والتي هدفت إلى استمرار السيطرة عليها وعدم التنازل أو التفريط في هذه السيطرة، ولذلك أصدر الكنيست قانونه الخاص بتوحيد المدينتين الغربية والشرقية وجعلها عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل. وإذا كانت الاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمت بين بعض الدول العربية وإسرائيل من جانب، وكذلك بين الفلسطينيين وإسرائيل من جانب آخر، وخاصة اتفاق أسلو، أكدت على عدم فتح ملف القدس ما لم يتم الانتهاء من الملفات الأخرى، وخلال مرحلة مفاوضات الوضع النهائي، فإن ذلك لم يعنِ أن إسرائيل كانت قد غيرت إستراتيجيتها تجاه مدينة القدس، بل إنها كانت ترغب في تحقيق أهدافها وإستراتيجيتها تجاه مدينة القدس بطرق سلمية، دون الدخول في مواجهات مع العرب والمسلمين، وخاصة في بداية مسيرة العملية السلمية.

1. تطور الإستراتيجية الإسرائيلية تجاه مدينة القدس

أ. بن جوريون وإستراتيجية الأمر الواقع[1]

يُعَدُّ بن جوريون أول من تطلع إلى القدس كعاصمة لإسرائيل، حتى قبل إعلان نشأتها في ليلة 14 مايو 1948، ولقد تبنى إستراتيجية فرض الأمر الواقع مبكراً على مدينة القدس، ومنذ صدور قرار تقسيم فلسطين في نوفمبر 1947، وتقسيمها إلى مدينتين، والتهويد المبكر للجزء الغربي منها. ولقد تعامل بن جوريون مع قرار تقسيم فلسطين بأسلوب يعتمد على الخداع والمكر لم يفهمه العرب، حيث عمل على أن يكون للقدس كياناً منفصلاً خاضعاً لنظام دولي خاص، تتولى الأمم المتحدة إدارته، وتعين مجلس وصاية ليقوم بأعمال السلطة الإدارية نيابة عن الأمم المتحدة. ولقد أكد القرار حدود المدينة والتي تضمنت بلدية القدس الحالية، إضافة إلى القرى والبلدان المجاورة لها، والتي امتدت شرقاً حتى أبو ديس، وجنوباً حتى بيت لحم، وغرباً حتى عين كارم، وشملت أيضاً المنطقة المبنية من قرية قالوينا.

وإذا كان العرب قد رفضوا قرار التقسيم، انطلاقاً من أن التدويل يسلبهم حقهم التاريخي والشرعي في السيادة على المدينة، إلا أن اليهود قبلوا مشروع التدويل حتى يمكنهم إعلان قيام دولة إسرائيل. على أن تعمل بعد ذلك على فرض أمر واقع جديد. ولذلك احتلت القوات الصهيونية مزيداً من الأراضي العربية، ثم أقامت طريقاً يربط بين تل أبيب والقدس، كما بادرت باحتلال حي القطمون الذي له أهمية إستراتيجية في القدس قبل إعلان قيام دولة إسرائيل. ولتحقيق الإستراتيجية التي تبناها بن جوريون، لم يحترم قرارات مجلس الأمن، حيث لم يلتزم بقرار تجريد القدس من السلاح لحمايتها من الدمار. ولقد نجح بن جوريون في تثبيت إستراتيجيته القائمة على سياسة الأمر الواقع خلال اتفاق وقف إطلاق النار مع الأردن، حيث عُينت خطوط وقف إطلاق النار في القدس، وهي الخطوط التي أصبحت فيما بعد خطوط الهدنة في اتفاق 3 أبريل 1949، أو خطوط الأمر الواقع لتقسيم القدس إلى مدينتين شرقية وغربية.

تكريساً للأمر الواقع، بادر بن جوريون بنقل العديد من الوزارات إلى القدس، وكان منها وزارة الخارجية، حتى تضطر الدول التي تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل إلى نقل سفاراتها من تل أبيب إلى القدس. ومن ثم تعترف بالأمر الواقع الذي عمد بن جوريون إلى تثبيته. كما بدئ في إقامة مبنى الكنيست الجديد في 14 أكتوبر 1958، والذي افتتح في 30 أغسطس 1966، وبذلك يكون بن جوريون قد نجح في تنفيذ إستراتيجيته الهادفة إلى خلق أمر واقع جديد، على الرغم من أن طموحاته كانت أكبر من هذا بكثير. حيث كان قد أعلن الخطوط العامة لحدود دولة إسرائيل قبل قيامها، على أن تكون الحدود الشمالية هي نهر الليطاني جنوب لبنان، والحدود الشرقية عند نهر العوجي في سورية وصحراء الأردن، والحدود الجنوبية عند البحر الأحمر.

ب. ليفي أشكول واحتلال القدس الشرقية

عمل ليفي أشكول على استكمال إستراتيجية بن جوريون، الذي اعتزل الحياة السياسية عام 1963. ولقد كانت حرب يونيه 1967 سبباً رئيسياً لسقوط القدس الشرقية. وفي يوم 27 يونيه 1967، أعلن عن ضم الأحياء العربية في القدس الشرقية، ولقد شمل أمر الضم المنطقة ما بين مطار وقرية قلنديا شمالاً، وقرى صور باهر وبيت صفافا جنوباً، وقرى الطور والعيسوية وعناتا والأم شرقاً، وحدود الهدنة عام 1949 غرباً.

تحددت إستراتيجية ليفي أشكول، في تغيير معالم الأرض، التي استولى عليها، خلال حرب يونيه 1967،. ولذلك أصدرت السلطات الإسرائيلية قراراً لحل مجلس أمانة القدس العربي المنتخب، وإقصاء أمين القدس من عمله، وإلحاق موظفي وعمال أمانة القدس ببلدية القدس المحتلة. كما أقامت السلطات مراكز حدود عسكرية وجمركية على الطرق والمعابر، تأكيداً بأن القدس أصبحت منطقة أجنبية بالنسبة للمدن والقرى في الضفة الغربية، ويستلزم دخول القدس وجود تصاريح عسكرية لا تمنح إلا بشروط معقدة. كما أصدرت بطاقات هوية إسرائيلية للعرب المتواجدين في القدس الشرقية، وعدت غير الموجودين من العرب، أثناء إصدار هذه الهويات، غائبين ومنعتهم من حق الرجوع. حيث بدأت بعد ذلك في تطبيق قانون أموال الغائبين، الذي كان قد أقر في 31 مارس 1950، حتى يمكن للسلطات الإسرائيلية السيطرة على الأموال المنقولة وغير المنقولة التي يملكها العرب.

ولتحقيق أكبر قدر من نجاح إستراتيجية تغيير معالم الأرض، بدأ في إقامة المناطق السكنية لليهود، وإنشاء العديد من المنشآت الخدمية الرسمية والشعبية والثقافية والاجتماعية بالقدس، كعاصمة يهودية موحدة. إضافة إلى فرض السيطرة الإسرائيلية على المباني الحكومية والخاصة التي استولى عليها. ولقد عمل أشكول على تطبيق إستراتيجيته خلال مراحل متتابعة، مع حرصه على إطلاق العديد من المزاعم والادعاءات التاريخية الباطلة.

ج. جولدا مائير واستكمال إستراتيجية فرض الأمر الواقع

بعد أن تولت جولدا مائير رئاسة الحكومة، واصلت سياسة فرض الأمر الواقع التي كان كرسها بن جوريون. حيث استهلت فترة حكمها، بمحاولة إحراق المسجد الأقصى في 21 أغسطس 1969. وكان اختيار هذا التوقيت له دلالة وتأكيد أن هناك مخططاً، لطمس كل المقدسات الإسلامية بالقدس، ولقد تمت هذه المحاولة في اليوم التالي لإنجاز بعض الحفريات التي قامت بها حكومة إسرائيل، تحت أرض المسجد الأقصى، بحثاً عن الآثار المزعومة لهيكل سليمان، حيث كانت محاولة إحراق المسجد الأقصى متممة لعمليات الحفر.

على الرغم من الاتهامات التي وُجِّهت إلى جولدا مائير وحكومتها، إلا أنها استمرت في مواصلة سياسة فرض الأمر الواقع، كما هو مخطط. حيث استكملت عمليات مصادرة الأراضي، وكان أخطرها قرار الحكومة الإسرائيلية الصادر في 30 أغسطس 1970، الذي صادر مساحات شاسعة، بلغت حوالي 11680 دونماً من الأراضي العربية، وانتزع خلالها حوالي عشر قرى تحيط بالقدس، ومن ثم إقامة، بدلاً منها، الطرق والمؤسسات الخدمية، وكذلك حوالي 22 ألف وحدة سكنية. كما أعلن في يونيه 1971 عن مصادرة 12 ألف دونم جديدة في ضواحي القدس الشرقية، لزيادة مساحة المستوطنات وإقامة حي أشكول.

د. إسحاق رابين وإستراتيجية توحيد القدس

تولى رئاسة الحكومة إسحاق رابين بعد جولدا مائير منذ عام 1974، وخاض، خلال هذه المرحلة، مفاوضات فك الاشتباك على الجبهتين المصرية والسورية، إلا أنه، في الوقت ذاته، واصل السياسة الاستيطانية التي بدأتها الحكومات السابقة. كذلك واصل رابين سياسة ضم المدينتين، الغربية والشرقية، بخطوط متتابعة، من خلال مصادرة مزيد من الأحياء العربية والاستيلاء على الأراضي المحيطة بالمسجد الأقصى، للبدء في تنفيذ مشروع بناء القدس الكبرى، لتضم أكبر من ربع مساحة الضفة الغربية.

وبذلك وضحت إستراتيجية رابين خلال فترة ولايته الأولى 1974-1977، والهادفة إلى تحقيق مشروع القدس اليهودية الموحدة كعاصمة لإسرائيل، إلا أنه لم يتمكن من تحقيق هدفه خلال هذه الفترة، وبتولي مناحم بيجين رئاسة الحكومة في مايو 1977، وعلى الرغم من أنه، خلال هذه المرحلة، وقعت اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978، ثم المعاهدة المصرية ـ الإسرائيلية عام 1979، والتي أكد من خلالها الموقف المصري أن القدس العربية جزء من الضفة الغربية، إلا أن موقف بيجين استند إلى موقف حكومته التي أصدرت مرسوماً يُعد القدس مدينة واحدة غير قابلة للتقسيم. ولقد كان هذا الموقف دافعاً قوياً للكنيست لتأكيد قراره السابق. حيث أقر مرة أخرى، وبشكل عاجل، في 30 يوليه 1980، قانوناً جديداً لتهويد القدس وجعلها عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل.

على الرغم من الإدانة الدولية للقانون الإسرائيلي، إلا أن حكومة بيجين وحكومة شامير قد استندتا إلى هذا القانون، لاستكمال إستراتيجية القدس الموحدة، وبناء المزيد من المشروعات الاستيطانية في القدس خلال ثلاث مراحل تمثلت في:

(1) المشروعات التي استهدفت الأحياء العربية في القدس نفسها، وحاولت تغليب العنصر اليهودي حضارياً وسكانياً على الطابع العربي للمدينة.

(2) توسيع المدينة بشوارع تربطها بالضواحي، التي أُقيمت على أراضي القرى العربية القريبة من القدس، بهدف فصلها عن المدن الأخرى في الضفة الغربية.

(3) إقامة الحي اليهودي في القدس الشرقية، لتكتمل عملية التهويد الشاملة للمدينة. ويعد هذا الحي من أخطر المشروعات، التي تستهدف تغيير معالم المدينة، بإقامة سور جديد.

وبذلك يكون مشروع القدس الكبرى، كما خطط له كل من: رابين، ثم تبعه بيجين، وشامير، منذ منتصف السبعينيات. ولقد كان شامير من أشد المعارضين لاتفاقيات كامب ديفيد، وقامت سياسته أساساً على مبدأ أرض إسرائيل الكاملة. وبانتهاء فترة رئاسته للحكومة، تولى شيمون بيريز رئاسة الحكومة عام 1985. ولقد كان هناك تطورات سريعة ومتلاحقة منذ بداية هذه المرحلة، إلا أنه كان هناك اتفاق إسرائيلي عام حول عدم التخلي عن مدينة القدس والتمسك بها كعاصمة أبدية لإسرائيل. وإذا كان شامير حكم على قضية القدس بالجمود طوال فترة حكمه، رداً على أحداث الانتفاضة الفلسطينية عام 1987، ولم يحرك هذا الموقف الساكن سوى مؤتمر مدريد (30 أكتوبر ـ 2 نوفمبر 1991).

عملت إسرائيل، خلال مفاوضات السلام مع الفلسطينيين، على تأجيل بحث قضية القدس إلى مفاوضات الوضع النهائي، وإذا كان اعتراف إسرائيل بأن القدس قضية لها أهميتها بالنسبة للعرب والمسلمين ، يُعد تراجعاً عن موقفها تجاه مدينة القدس، إلا أن هذا الاعتراف لم يمنع إسرائيل من استعمال إستراتيجيتها الهادفة لفرض الأمر الواقع، وخاصة أن مفاوضات أوسلو قد أسفرت أيضاً عن تأجيل قضية القدس إلى مفاوضات الوضع النهائي أيضاً.

مع احتدام المواجهات التفاوضية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أصدر الكنيست قانوناً، يوم 10 مايو 1994، يؤكد استمرار تمسكه بمدينة القدس موحدة إلى الأبد تحت السيادة الإسرائيلية. ومع شعور إسرائيل بخطورة مكانة بيت الشرق،[2] بعد اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية، أصدر الكنيست في ديسمبر 1994 قانوناً يحظر نشاط المنظمة في القدس الشرقية. كما هدد المسؤولون الإسرائيليون بإغلاق بيت الشرق للحد من الأنشطة الفلسطينية المكثفة. وفي نهاية أغسطس 1995، بدأت التهديدات المباشرة لبيت الشرق تتعدد، حيث أصدر رابين أوامره باتخاذ الإجراءات القانونية لمواجهة ما عَدّه، تجاوزات بيت الشرق.

باغتيال رابين في نوفمبر 1955، دخلت القدس ضمن المساومات الانتخابية، حيث كانت وحدة القدس هي الهدف الرئيسي لكل رؤساء الوزراء بعد ذلك، وكان هناك تأكيد بأنها ليست داخل إطار المفاوضات. ولذلك استمرت القدس هي القضية الخلافية الأولى في مفاوضات السلام، والتي أدت إلى تعثرها أكثر من مرة، كما أنها السبب الأساسي في انهيار المفاوضات السلمية في كامب ديفيد 2. ولقد أعلن شارون في برنامجه الانتخابي، استمرار تمسكه بإستراتيجية القدس الموحدة، وعدم تفريطه فيها، أو الموافقة على تقسيمها أو المساس بها، أو حتى التفاوض بشأنها.

ثالثاً: أساليب السلطات الإسرائيلية لفرض الأمر الواقع
1. تهجير السكان العرب وترحيلهم

منذ الأيام الأولى لاحتلالها القدس، وضعت إسرائيل حافلات ركاب، لنقل السكان العرب من القدس إلى الضفة الشرقية. وقد باشرت ذلك من خلال الخطوات التالية:

أ. تهجير حوالي 6500 مواطن من سكان حارة المغاربة وحارة الشرف، بعد هدم أحيائها في 8 مايو 1967، ومصادرة أراضيها، البالغة 16 دونماً، كانت تضم 595 بناية و104 محلات تجارية و5 مساجد و4 مدارس.

ب. استمرت في هدم المنازل العربية بشكل متواصل، منذ ذلك الحين. وعلى سبيل المثال، هدمت 256 منزلاً، بين عامَي 1986 ـ 1994، وخططت لهدم 550 منزلاً، بمعدل 50 منزلاً كل عام. ولكن أولمرت، عمدة القدس، استعجل الأمر، وهدد بالهدم الفوري لـ 70 منزلاً، (تصريحاته في أواخر أغسطس 1996). وبذلك تُخْلي القدس من سكانها العرب، ليقيموا خارج حدود البلدية.

2. مصادرة العقارات

أ. صادرت إسرائيل حارة المغاربة وحارة الشرف، وشيدت مكانهما 460 منزلاً لليهود، تختلف في طابعها العمراني عن باقي منازل القدس.

ب. صادرت 17 عقاراً ومتجراً ومدرسة، وأماكن دينية مختلفة، في منطقة باب السلسلة وحي الواد.

ج. في 25 يونيه 1969، امتدت الاستملاكات والمصادرات، لتشمل أكثر من 300 عقار في البلدة القديمة، كان أهمها المسكن، الذي استولى عليه أرييل شارون Ariel Sharon في حي الواد.

د. لجأت السلطات إلى تسهيل انتقال ملكية العقارات العربية إلى اليهود، بوسائل غير مشروعة، كما حدث في رأس العمود.

هـ. صُودر 73% من أراضي القدس، لإقامة مستوطنات عليها (منذ عام 1967)، وهناك 7% مرشحة للمصادرة. وأقيم عليها 40 ألف مسكن، يسكنها حالياً حوالي 160 ألف يهودي.

و. تخطط السلطات الإسرائيلية لتنفيذ 30 ألف وحدة سكنية، في أحياء استيطانية جديدة، وتوسيع الأحياء القديمة، وقد بدأت السلطات في التنفيذ الفعلي لهذا المخطط. (اُنظر ملحق أبرز النشاطات الإسرائيلية في الفترة من 1967 – 1997)، أبرز تلك التغييرات.

ز. إحكام الطوق الأمني حول القدس، ما زاد معاناة الفلسطينيين، اقتصادياً وتعليمياً وطبياً واجتماعياً وثقافياً وأخلاقياً وتراثياً. وتسببت هذه المعاناة، وزيادة الضرائب، بتفريغ القدس من سكانها العرب.

ح. سحب الهويات من العرب، سكان القدس الأصليين.

آليات تنفيذ المخطط الإسرائيلي لضم القدس وتهويدها

يتمثل هذا المخطط في تنفيذ مشروع “القدس الكبرى”. وذلك، بإقامة حزام أمني إسرائيلي، يبدأ بتوسيع حدود الكتلة الاستيطانية، غوش عتسيون، في الجنوب، عند بيت لحم، ثم شرقاً إلى معاليه أدوميم (الخان الأحمر)، وشمال شرق القدس، ليصل جفعات زئيف. بينما اقترح أرييل شارون، وزير البنية التحتية في حكومة بنيامين نتانياهو Benjamin Netanyahu، عام 1997، أن يمتد هذا الحزام شمالاً حتى بيت إيل (بيتين)، فلا ينتهي عند جفعات زئيف. ومن هذا التصور، تنطلق وجهة نظر واضعي الخريطة الهيكلية للتوسع العمراني في هذه المنطقة، من خطة القدس الكبرى، لتشتمل على أربعة مجمعات ضخمة وأساسية: (اُنظر شكل القدس في التسعينيات) و(خريطة الأراضي المصادرة في القدس)

1. بيتار ـ غوش عتسيون (بما فيها مستوطنة تكواع)، في الجنوب، ليصل عدد المستوطنين الإسرائيليين 16.713 نسمة.

2. معاليه أدوميم ـ ميشور أدوميم (الخان الأحمر)، في الشرق، ليصل عدد المستوطنين اليهود 21.348 نسمة.

3. بيت إيل ـ كوخاف هشاحر، في الشمال، ليصل عدد المستوطنين اليهود 7.573 نسمة.

4. غفعون ـ بيت حورون، في الغرب، ليصل عدد المستوطنين 17.644 نسمة.

وهكذا، فإن 63.278 مُسْتَوطناً إسرائيلياً يعيشون، حالياً، في هذه المنطقة الحضرية على حدود الضفة الغربية، أي خارج حدود بلدية القدس المتعارف عليها، وذلك من خلال مجموعة من الأحزمة والأطواق الاستيطانية، التي أحيطت بها مدينة بيت المقدس، في نهاية عام 1994. وهي تعكس حقيقة ما تبّيته إسرائيل، ليس إزاء مدينة القدس، وحدها، بل لكل المنطقة، الممتدة من رام الله شمالاً، إلى أقصى جنوب مدينة الخليل، على طريق الخليل ـ بئر سبع. ويمكن رصد هذه الأطواق والأحزمة كما يلي:

أولاً: الطوق الاستيطاني الأول

تمثل الهدف الإسرائيلي من الطوق الأول في محاصرة القدس القديمة داخل الأسوار والأحياء العربية المجاورة لها، تمهيداً لتفتيتها وإخلائها من سكانها العرب على مراحل. ويمتد هذا الطوق الاستيطاني من الحي اليهودي داخل البلدة القديمة جنوباً، والحديقة الوطنية المحيطة بسور البلدة من الشرق والجنوب، وضمنها مناطق واسعة تقرر منع إقامة المباني فيها، حتى تكون بمثابة مناطق احتياطية يمكن استغلالها في الاستيطان اليهودي مستقبلاً. ويستكمل هذا الطوق من الجهة الشمالية خلال إقامة المركز التجاري الرئيسي للمدينة القديمة، والذي يمتد إلى الجهة الغربية منها، حتى يتم الربط بين القدس الشرقية والغربية بواسطة مشروع ماميلا المكمل له. إلى جانب إقامة هذا الطوق الاستيطاني على المناطق التي استولى عليها وعلى أنقاض الأملاك العربية التي صودرت، وبعد أن حوصرت البلدة القديمة والأحياء المجاورة لها، فإنه خطط لكي يزحف هذا الطوق الاستيطاني باتجاه الداخل وفي عمق البلدة القديمة، وكذلك باتجاه الخارج نحو الأحياء العربية القائمة بينه وبين الطوق الاستيطاني الثاني. (اُنظر شكل الأطواق الاستيطانية حول القدس)

1. مراحل وأسلوب تنفيذ الطوق الاستيطاني الأول

أ. الحي اليهودي

بدأت السلطات الإسرائيلية بإخلاء السكان العرب، والذي قُدر عددهم بحوالي 6500 فرد من الحي اليهودي، بعد احتلال مدينة القدس مباشرة. واستأنفت السلطات الإسرائيلية عمليات هدم وترحيل العرب من ثلاثة أحياء، هي: حي المغاربة الذي دمر كاملاً، وجزء من حي السريان، وحي الشرق. ومع بداية عام 1971، كانت السلطات الإسرائيلية قد أتمت إخلاء حوالي 3500 عربي. وفي عام 1977، لم يكن موجوداً في مدينة القدس سوى 20 عائلة فقط، أُخلوا عام 1980. ونظراً إلى أهمية هذه المنطقة الملاصقة للحائط الغربي للمسجد الأقصى، فقد أنشأت إسرائيل شركة حكومية لتنفيذ النشاطات الاستيطانية في هذه المنطقة. وتُشكل مساحة الحي اليهودي حوالي 20% من مساحة البلدة القديمة من القدس. ولقد بذلت السلطات الإسرائيلية جهوداً مكثفة ووفرت الاستثمارات المالية، لإعادة بناء الحي، والمزج بين الطراز التقليدي الذي يميز المباني القديمة وبين الطابع العصري، بهدف جعل هذا الحي معلماً سياحياً من معالم المدينة. وفي عام 1994، أعلن عن إقامة 650 وحدة سكنية إضافية على مساحة 80 دونماً، ومن المخطط أن يصل عدد الوحدات المضافة حوالي 2122 وحدة.

ب. المركز التجاري الرئيسي

خُطِّط لإقامة هذا المركز على مساحة 2700 دونم، في الجانب الشمالي والشمالي الغربي من البلدة القديمة. ويتمثل الهدف الأساسي لإقامة المركز التجاري، في تشكيل إحدى حلقات حصار البلدة القديمة، وعزلها عن الأحياء العربية في الشمال والشمال الشرقي. كما يحقق الربط بين شطري القدس، إضافة إلى أنه يمثل تهديداً لمركز المدينة ومصالحها العربية. ولقد تضمنت الخطة إقامة المركز التجاري الرئيسي، ليكون على أنقاض الأحياء العربية الآتية:

(1) حي باب الساهرة، الذي يضم مناطق سكنية وتجارية وسياحية ومدرسية.

(2) حي باب العمود، ويضم مناطق خارج السور، وتشكل جزءً مهماً من المناطق التجارية والسكنية والدينية.

(3) حي الشيخ جراح، ويضم مناطق سكنية وسياحية وتجارية مكتظة بالسكان.

(4) بعض مناطق أحياء المصرارة وسعد وسعيد وجميع هذه المناطق عربية احتلت في يونيه 1967.

ج. مشروع قطاع ماميلا (قرية داود)

وهو مشروع مكمل لمشروع المركز التجاري الرئيسي، ويهدف أساساً إلى تعمير قطاع شارع ماميلا بالقرب من بوابة يافا، الذي غيرت السلطات الإسرائيلية معالمه منذ عام 1967، تمهيداً لتهويده. ولقد بدأت الحكومة الإسرائيلية في إنشاء شركة كارتا، لتنفيذ المشروع عام 1971، حيث قامت بإخلاء السكان وإعادة تخطيط المدينة. وتبلغ مساحة المشروع حوالي 120 دونماً، بين سور البلدة القديمة شرقاً وشارع الملك داود غرباً، وبين شارع الملك سليمان وساحة الجيش الإسرائيلي شمالاً، وشارع راؤول وولنبرج وامتداده حتى قلعة داود جنوباً، وتعد هذه المنطقة جزءاً من مخطط عام، يهدف إلى دمج القدس الشرقية في القدس الغربية وإعادة تشكيلهما. ويتم البناء، وفقاً لطرز وأنماط معينة، وفقاً لأهداف تجارية وسياحية.

هذا القطاع يُعَدّ جزءً مهماً من مركز القدس، حيث يقع بين جزئي المدينة اليهودي والعربي، وسوف يكون محاطاً بالأحياء الحيوية المهمة من البلدة القديمة والأسواق والفنادق السياحية، إضافة إلى الحديقة العامة في الجنوب والمركز التجاري في الشمال الغربي للمدينة. وكانت الحكومة الإسرائيلية قد صادرت حوالي 100 دونم في عام 1970، بهدف إعادة توطين اليهود بها، ولقد بدأ تنفيذ المشروع في عام 1980، واستمر العمل فيه حتى عام 1990.

د. مشروع الحديقة الوطنية

خُطِّط لإنشاء الحديقة الوطنية الضخمة، حول سور مدينة القدس القديمة، من الجهتين الشرقية والجنوبية[1]. ولقد شرعت السلطات الإسرائيلية في الإعداد لتنفيذ المشروع بعد الاحتلال مباشرة، حيث أخلي السكان العرب من الأحياء القريبة من السور، وخاصة مناطق عين الحلوة، وقسماً كبيراً من سلوان. ويهدف هذا المخطط إلى خفض نسبة تواجد السكان العرب في المدينة، كما أن هذه الحديقة ستستكمل حصار البلدة القديمة، حيث يُقام جزء منها على أنقاض المقابر الإسلامية، ولقد بدأ افتتاح هذه المدينة منذ عام 1975.

ثانياً: الطوق الاستيطاني الثاني

أقيم هذا الطوق الاستيطاني على حدود أمانة القدس العربية، ونفذ في صورة أحياء سكنية قلاعية لها شكل القوس، وروُعي فيها أن تحيط بالقدس العربية من الجهات الجنوبية والشمالية الشرقية، كما أن هذا الطوق يفصل المدينة العربية من التجمعات السكانية العربية إلى الشمال والجنوب منها، إضافة إلى تشديد الحصار ومنع تمدد المدينة كمرحلة أولية لإخلائها من سكانها العرب. ولقد عملت السلطات الإسرائيلية على إقامة أحد عشر حياً سكنياً يهودياً ضخماً في إطار هذا الطوق حتى منتصف الثمانينيات، تمثلت في الآتي:

1. حي رامات أشكول

أقيم في منطقة الشيخ جراح، شمالي غرب القدس، في عام 1968، ويشكل هذا الحي السكني مع أبنية الجامعة الجديدة على جبل سكوبس والتلة الفرنسية، حزاماً شمالياً يتكون من 8 آلاف وحدة سكنية.

2. حي محلات دفنا

أنشئ عام 1973، ويشكل امتداداً لحي رامات أشكول من الجانب الشمالي، وتبلغ مساحة الحي 389 دونماً، وأُقيم عليها 1184 وحدة سكنية، وهي تعد من مستوطنات أحزمة المركز، حيث أُقيم بجوارها مقر حرس الحدود، وتخطط إسرائيل لانتشار المزيد من الوحدات السكنية في الأماكن الخالية، ويبلغ عدد سكانها حوالي 4700 نسمة.

3. حي سانهدريا

أنشئ عام 1973، إلى الشمال الشرقي من القدس، حتى يشكل امتداداً لرامات أشكول، ويصل عدد الوحدات السكنية به حوالي 680 وحدة.

4. حي النبي يعقوب

بدأ إنشاؤه، منذ عام 1973، على الجانب الشمالي الشرقي من طريق القدس ـ رام الله، وعلى مسافة 7 كم من مركز المدينة، وحوالي 5 كم من الأحياء المحيطة بالقدس على أن تكثف هذه المنطقة الموجودة بين أحياء رامات أشكول والجامعة العربية والتلة الفرنسية. وحتى عام 1980، بلغ عدد الوحدات السكنية به حوالي 3800 وحدة، يقيم بها 19.300 نسمة على مسافة 862 دونماً، إضافة إلى عدد 46 دونماً مساحة خضراء، تمثل احتياطياً لتوسيع المستوطنة في المستقبل.

5. حي التلة الفرنسية

هو أول المستوطنات التي أُقيمت في القدس، حيث بدئ في إنشائه، عام 1969، شرقي جبل سكوبس على طريق القدس ـ رام الله. ويضم حوالي 5400 وحدة سكنية، ويشكل مع حي رامات أشكول والجامعة العبرية فاصلاً بين مركز المدينة العربية وشماليها، وهي من أكبر الأحياء السكنية في الطوق الاستيطاني الثاني، وتبلغ مساحتها حوالي 822 دونماً، ويسكنها حالياً حوالي 6500 نسمة.

6. حي الجامعة العبرية

بدأ العمل فيه، منذ عام 1969، بهدف توسيع حدود الجامعة القديمة والمستشفى الملحق بها، ولقد أقيمت عشرات المباني كقاعات للمحاضرات ومساكن إقامة الطلبة، وروعي في إقامة هذه المباني أن تكون في المناطق المحيطة بالجامعة القديمة، بعد مصادرة مساحات شاسعة من أراضي قريتي العيسوية ولفتا. ولقد رُبط حي الجامعة العبرية بالقدس الغربية من طريق الأحياء السكنية، التي أُقيمت بالقرب من التلة الفرنسية وغفعات همفتار، ورامات أشكول. وتبلغ مساحة الحي 740 دونماً، كما أن هذا الحي له مكانة إستراتيجية، سواء من الناحية الأمنية أو السياسية، حيث يسيطر على شمال القدس، ويشرف على القرى التي حولها، ويبلغ عدد السكان حوالي 2500 نسمة.

7. حي تلبيوت

أٌقيم هذا الحي عام 1973 على جبل المكبر وسور باهر والتل الجنوبي، ويقدر عدد الوحدات السكنية حوالي 3000 وحدة، ويعد هذا الحي امتداداً لطوق الحصار من الجهة الجنوبية على طريق الخليل ـ بيت لحم. ولقد أُقيمت بالحي 4400 وحدة سكنية، استوعبت حوالي 15 ألف نسمة، ويقع جزء كبير من هذا الحي على الأراضي الحرام، التي تفصل بين الأردن وإسرائيل، والتي تشرف عليها قوات مراقبة الهدنة.

8. حي راموت

بدأت إقامة هذا الحي، عام 1973، على أراضي قريتي بيت أكسا وبيت حنينا، ليشكلا فاصلاً بين الخط السكاني العربي شعفاط ـ بيت حنينا الذي يحده شرقاً، وبين رامات أشكول الذي يحدوه جنوباً. ويخطط ليضم هذا الحي حوالي 8000 وحدة سكنية، يسكنها حوالي 37.200 نسمة، في إطار أكبر عمليات المصادرة التي تمت في مدينة القدس عام 1970، حيث استولى على 4840 دونماً، كما بدئ في توسع حدودي آخر، تحت مسمى راموت 6، بهدف إقامة 200 وحدة سكنية إضافية.

9. حي غيلو

أقيم، عام 1973، على مسافة كم واحد من قرية بيت صفافا وإلى الجنوب الغربي من القدس، بالقرب من بيت جالا. وتبلغ مساحة هذا الحي حوالي 2743 دونماً، أُقيم عليها 7484 وحدة سكنية، ويقطنها حوالي 30200 نسمة. ولقد توسعت حدود الحي أكثر من مرة، وتعد هذه المستوطنة أكبر المستوطنات الموجودة في الجزء الجنوبي الغربي، حيث تسيطر على المناطق المشرفة على بيت جالا وبيت لحم، ومن المنتظر أن يصل عدد الوحدات السكنية المخطط إنشاؤها حوالي 9 آلاف وحدة سكنية.

10. حي غفعات همفتار

بدأ إنشاؤه، منذ عام 1973، شمالي شرق القدس، على أراضي تل الذخيرة في منطقة الشيخ جراح. ويُقدر عدد الوحدات التي أنشئت حوالي 3 آلاف وحدة سكنية، على مساحة 397 دونماً، وتستوعب 6600 نسمة. وتشكل مع الأحياء الاستيطانية التي أنشئت في الجزء الغربي، مناطق لمراقبة الطريق العام الذي يربط بين القدس ورام الله، إضافة إلى تطويق مدينة القدس.

11. حي عطاروت

وهو مستوطنة صناعية، تقع إلى الشمال من مدينة القدس، وعلى مسافة 8 كم منها. والغرض من إنشائها، دعم الحزام الاستيطاني، ووقف الامتداد العمراني العربي لمدينتي البيرة ورام الله باتجاه القدس. ولقد أنشئ حوالي 61 مصنعاً بها، تتركز في صناعة الدهانات والأثاث ومواد البناء والمساكن الجاهزة وورش الحدادة والنجارة ومستودع للتبريد ومعملاً بيولوجياً. ونظراً إلى قرب عطروت من المطار، أُعدّ لتوسيع مدرج المطار والمنشآت الخاصة به لاستخدامه في نقل البضائع إلى الخارج، وتبلغ مساحة الحي حوالي 1360 دونماً.

ثالثاً:. الطوق الاستيطاني الثالث

يُنفَّذ هذا الطوق في إطار مشروع القدس الكبرى، ولقد أقر هذا المشروع عام 1975. ويستهدف هذا المشروع، ضم مساحات جديدة من الأراضي تراوح بين 400-500 كم2، يقطنها سكان عرب، يبلغ عددهم حوالي 250 ألف نسمة، موجودين في مدينتي البيرة ورام الله شمالاً، ومدن بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور وحتى أطراف مدينة الخليل جنوباً. إضافة إلى 60 قرية عربية، وقد بني، في إطار هذا المشروع، عدد من المستوطنات تشكل طوقاً يحيط بالمدن والقرى العربية، ويمنع التواصل بينها، ويفصلها عن مدينة القدس. ولقد أقيمت المستوطنات الآتية:

1. مستوطنة ألكانا

أُقيمت على أراضي قرية مسحة العربية في عام 1978، ويبلغ عدد المستوطنين بها حوالي 40 عائلة.

2. مستوطنة كندا بارك

وهي متنزه كبير أقيم عام 1976، جنوبي غرب رام الله، على أراضي قرى بالا والحمواس وبيت نوبا. ولقد أسهم في إقامتها الصندوق القومي اليهودي، على مساحة 4500 دونم، منها 1500 دونم من البساتين وأشجار الفاكهة التي يملكها أهالي القرى العربية.

3. مستوطنة كفار عتسيون

أقيمت عام 1967، على طريق الخليل ـ بيت لحم، وهي أول مستوطنة إسرائيلية تنشأ في المناطق المحتلة عام 1967، ولقد أُقيمت هذه المستعمرة على أراضي قرية الخضر العربية.

4. مستوطنة أيلون شغوت

أنشئت، عام 1969، في منطقة بيت لحم، وهي تعد مركزاً إقليمياً لمستعمرات غوش عتسيون تقدم الخدمات الثقافية والدينية والإدارية، ولقد توسعت على أراضي قريتي أرطاس وبيت اسكاريا.

5. مستوطنة روش تسوريم

أُقيمت على أراضي قريتي أرطاس وغالين وبيت اسكاريا وبيت زكريا، وتبلغ مساحة المستوطنة حوالي 3500 دونم.

6. مستوطنة أليعزر

أنشئت، عام 1975، على أراضي قرية الخضر جنوب بيت لحم، وتبلغ مساحتها حوالي 620 دونم.

7. مستوطنة أفرات

بدأ العمل فيها، منذ عام 1975، على أراضي قرى الخضر ودقماق ونيس وقيقان، وهي تعد مركزاً صناعياً وتصل مساحتها حوالي 13 ألف دونم.

8. مستوطنة تكواع

أقيمت، عام 1975، جنوبي شرق بيت لحم، على السفوح الجنوبية لجبال القدس، وتبلغ مساحتها 5150 دونماً.

9. مستوطنة حداشا

بدأ العمل في إنشائها، عام 1978، شمالي غرب القدس، وبالقرب من قريتي الجيب وبدو وبيت أجزا، حيث صودر من أراضيهم حوالي 830 دونماً لصالح إنشاء المستوطنة.

10. مستوطنة غفعون

أنشئت، عام 1977، جنوبي غرب رام الله، وبالقرب من قرية الجيب، وفي أواخر عام 1980 بدأ العمل في إقامة ضاحية غفعات زئيف، كإضافة جديدة للمستوطنة.

11. مستوطنة الموغ

أنشئت، عام 1968، في الشمال الغربي للبحر الميت، في المنطقة الممتدة بين أريحا والبحر الميت والقدس، ويبلغ مساحتها حوالي 500 دونم.

12. مستوطنة أدوميم

بدأ العمل في إنشائها، عام 1972، كمركز صناعي في منطقة الخان الأحمر، وعلى مسافة 11 كم شرقي القدس على طريق القدس أريحا، وتبلغ مساحتها حوالي 70 ألف دونم تقريباً، وهي تضم أكثر من 60 مصنعاً، والمخطط أن يصلوا حوالي 700 مصنع.

13. مستوطنة أدوميم أ

أقيمت، عام 1975، شرقي القدس، وإلى الشرق من أبو ديس وإلى الجنوب من معاليه أدوميم، ويُقدر عدد الوحدات السكنية بها حوالي 5 آلاف وحدة.

14. مستوطنة أدوميم ب

أنشئت، بنهاية عام 1979، إلى الشمال الشرقي من القدس، على أراضي قرى عناتا وحزما والعيزرية وأبي ديس في مفترق طرق القدس ـ أريحا.

15. مستوطنة أدوميم ج

أُنشئت عام 1979، ويمثل انتهاء العمل بها استكمال الطوق الاستيطاني للقدس من الجهة الشرقية.

16. مستوطنة بيت حورون

أنشئت، عام 1977، على أراضي قريتي بيت عور الفوقا وبيتونيا، على مساحة 1600 دونم تقريباً، ويوجد بها العاملون في مجال الصناعات العسكرية والجوية الإسرائيلية.

17. مستوطنة هار ـ غيلو

أنشئت، عام 1976، في منطقة جبل الرأس التابعة لقرية بيت جالا، وتبلغ مساحتها حوالي 4600 دونم، حيث أنشئت 700 وحدة سكنية بها.

18. مستوطنة غفعات همطوس

أُقيمت هذه المستوطنة على أراضٍ تعود ملكيتها إلى قرية بيت صفافا ومدينة بيت جالا، وتبلغ مساحتها 170 دونماً. ولقد بدأ العمل في إنشائها عام 1991، بإقامة بضع مئات من المنازل المتحركة، وتبلغ مساحتها 980 دونماً. ومن المخطط إنشاء حوالي 3600 وحدة سكنية، وتعد مستوطنة غفعات همطوس مع مستوطنة غليو بمثابة الحزام الجنوبي الغربي الذي يُبنى حول القدس من أجل منع الامتداد العربي، ومحاصرة القرى العربية التي تقع داخل حدود بلدية القدس، وفصلها عن مدن الضفة الغربية.

مدينة القدس
مدينة القدس

المواقف الدولية من قضية القدس

تشكل القدس جوهر القضية الفلسطينية. لذلك، لا حلّ يُنتظر للقضية الفلسطينية، من دون التوصل إلى حل مشكلة مدينة القدس. ومما يزيد الموقف صعوبة، إصرار الجانب الإسرائيلي على عد القدس الموحدة، عاصمة أبدية لإسرائيل. وهو موقف، يقابله إصرار فلسطيني مماثل على استعادة الحقوق المشروعة للفلسطينيين، وعد القدس الشرقية عاصمة لفلسطين.

ولقضية القدس أبعاد متعددة، زمانية ومكانية وسياسية ودينية. ولذلك، يعُدها بعض المفكرين العقبة الأساسية أمام الوصول إلى سلام شامل، دائم، لأن أبعادها تتخطى حدود الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.

لذلك، يُخطئ من يتصور أن لديه حلاً كاملاً وجاهزاً، يُرْضي جميع الأطراف. ومن ثم، يمكن، من خلاله، التوصل إلى حل تلك المشكلة المستعصية، وهي مشكلة القدس. فالقضية بالغة التعقيد، ومن غير المستطاع حلها، من الوهلة الأولى، بل تحتاج إلى حلول معقدة، هي الأخرى، لأن هناك بَوناً شاسعاً، بين ما يجب أن يكون، وما يجرى على أرض الواقع. فالقضية ليست مجرد حق تاريخي أو قانوني، راسخ وواضح، لأن جوهرها يمسّ العلاقة بين الأطراف الضالعة من المشكلة. وهي علاقة تقوم على توازن القوى، وليس توازن المصالح.

فهي تعتمد على القوة والإكراه، لأنها قضية توازنات إستراتيجية مختلفة، تحاول إسرائيل استغلالها، لفرض مسار الأحداث، وفرض حلول من وجهة نظرها. كما يجب ألاّ ننسى، أن جوهر القضية، هو الأرض والسيادة، وليس كيفية الوصول إلى الأماكن المقدسة، لأن الفصل بين الحقوق الدينية والسيادة، في قضية القدس خاصة، يعَد تخليطاً. فالصهيونية العالمية، تحاول، منذ إبرام اتفاقيات أوسلو، أن تنزع صفة الوطن عن قضية القدس، وتقديمها إلى العالم على أنها قضية أماكن مقدسة، ينحصر النزاع فيها حول كيفية إدارتها.

ومن الغريب حقاً، أن بعض المراقبين، سواء على المستوى الدولي أو الإقليمي، قد ينخدع وينساق خلف هذا الزيف. ومما يُؤسف له، أن هناك العديد من الأفكار الإسرائيلية، التي يتم تسريبها بصفة منتظمة، حتى انطلت على عقول وأفكار عدد من المفكرين والمؤسسات، إلى درجة يمكن أن يقال معها، إِنهم ابتلعوا الطعم، دون قصد بطبيعة الحال. ولذلك، تبدو الأفكار والخيارات العربية، وكأنها أقلّ من الحد الأدنى للطموحات العربية، في ما يتعلق باستعادة السيادة على القدس الشرقية. وستتناول مجموعة من الأفكار والخيارات، غير الرسمية، المتعددة الاتجاهات، التي يمكن، في مجموعها، أن تلقي الضوء على المزيد من أبعاد المشكلة.

أولاً: عناصر الثبات والتغير في قضية القدس
1. عناصر الثبات

أ. الحقوق التاريخية للعرب والفلسطينيين في فلسطين بشكل عام، وفي القدس على وجه الخصوص.

ب. الحقوق الدينية للمسلمين والمسيحيين، وهي تزيد كثيراً على الحقوق والادعاءات اليهودية.

ج. الشرعية الدولية، المتمثلة في قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، التي تعترف بأن القدس أرض محتلة، لا يجوز إحداث أي تغييرات فيها.

د. انتماء القدس الشرقية، جغرافياً، إلى الضفة الغربية.

هـ. ثبات موقف الغالبية العظمى من دول العالم مع قرارات الشرعية الدولية، خاصة الاتحاد الأوروبي وفرنسا والصين وروسيا الاتحادية واليابان.

2. عناصر التغيير

أ. التغييرات الجغرافية المستمرة، الهادفة إلى حصار القدس الشرقية، وعزلها عن الضفة الغربية، بإنشاء أطواق عدة من المستعمرات حولها وداخلها، إضافة إلى هدم ونزع ملكية الكثير من الأراضي والمساكن العربية.

ب. التغييرات البلدية، بزيادة مساحة المدينة، لتشكل حوالي 30% من مساحة الضفة الغربية، بهدف تغيير طابعها، من خلال ربطها، في مجالي الاقتصاد والخدمات بالضفة الغربية (كهرباء ـ مياه …)، لتحقيق ابتلاع المدينة في نهاية الأمر.

ج. التغييرات القانونية، من خلال إصدار إسرائيل العديد من القوانين، الخاصة بتغيير الوضع القانوني للقدس. أبرزها القانونان الرقمان 1 / 1967، 5841 / 1980، الخاصان بتوحيد القدس، وضمها، وعدها عاصمة لإسرائيل.

د. التغييرات الديموجرافية المستمرة، لتكريس الواقع الجديد، بإتاحة الفرصة، وتقديم الحوافز إلى الإسرائيليين لتشجيعهم على الهجرة إلى القدس، مع تضييق الخناق على الفلسطينيين المقدسيين، لحثهم على الهجرة منها.

هـ. راوح الموقف الأمريكي بين الموافقة على قرارات الشرعية الدولية، وتغافله عن الإجراءات غير الشرعية، التي تتخذها إسرائيل، بل تقديمه الحماية لها في مجلس الأمن، فضلاً عن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس.

و. عدم الاستقرار، والعنف المضاد في القدس، كرد فعل طبيعي للتعنّت الإسرائيلي.

ز. عدم استقرار السياسة الإسرائيلية، وتنكرها للاتفاقيات الموقعة مع الجانب الفلسطيني، الأمر الذي يوسع من هوة الخلاف، ويزيد فجوة عدم الثقة بين الجانبين.

ح. عدم استقرار الإدارة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، بما فيها القدس، من خلال إقفال المعابر، وعمليات الحصار، الأمني والاقتصادي، وحجز أموال الجمارك والضرائب، المستحقة للسلطة الوطنية الفلسطينية، كإحدى وسائل الضغط عليها.

ط. النمو والتطوير المستمران للقدرات الفلسطينية (بنْية تحتية ـ اقتصادية ـ تعليم…).

ثانياً: الشرعية الدولية وقضية القدس

1. موقف هيئة الأمم المتحدة من قضية القدس

على الرغم من أن هيئة الأمم المتحدة بمؤسساتها المختلفة لا تملك القدرة على تنفيذ قراراتها، إلا أن هذه القرارات تظل دائماً مرجعاً قانونياً يُعْتد به عند الاحتكام للشرعية الدولية. وإذا كانت قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ليست إلا توصيات، إلا أنها تتمتع بقيمة أدبية عالية، لأنها تُعَبِّر عن رأي المجتمع الدولي، ولذلك فهي تقترب إلى حد الإلزام القانوني.

ولذلك تنبه العرب والمسلمون للأطماع الصهيونية الإسرائيلية في مدينة القدس، حتى قبل إعلان قيام إسرائيل في العام 1948. فعلى إثر الأحداث التي شهدتها منطقة حائط البراق، والمعروفة بهَبَّة أغسطس 1929، والتي اشترك فيها البريطانيون لصالح اليهود، حيث ارتفع عدد الضحايا إلى المئات من الجانبين، ولقد أدت هذه الحادثة إلى مطالبة بعض الفلسطينيين بمحاربة بريطانيا نفسها، لأنها أساس المشكلة.

ومن أجل أن يسود الهدوء والاطمئنان، سارعت الحكومة البريطانية بإرسال لجنة السير ولتر شو إلى الأراضي الفلسطينية، وبعد انتهاء تحقيقاتها، قدمت تقريرها للحكومة البريطانية، والذي أكد أن الهجرة اليهودية تُلِحق الضرر باقتصاديات العرب.

وكان لتقرير لجنة شو أثره في أن شكلت عصبة الأمم لجنة دولية لبحث الحقوق العربية في هذه المنطقة، وبعد أن اضطلعت لجنة البراق الدولية بدراسة واقعية في فلسطين، خلال الفترة من 19 يونيه ـ 19 يوليه 1930، كما استمعت إلى مرافعات وشهود العرب والمسلمين واليهود، توصلت اللجنة إلى استنتاجاتها، التي أكدت أحقية العرب في حائط البراق، وأن الساحة المجاورة له ملك إسلامي ووقف للمسلمين (اُنظر ملحق ملخص تقرير لجنة البراق الدولية).

ومع ذلك سمحت اللجنة لليهود، بممارسة شعائرهم إلى جانب الحائط. وتكمن أهمية توصيات اللجنة، في أنها فندت الادعاءات الإسرائيلية الحالية والخاصة بحقهم التاريخي في القدس، وتثبت عروبة القدس التي تأكدت خلال قرار التقسيم عندما ترك القدس كاملة في القسم العربي.

بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الرقم 181، الصادر في 29 نوفمبر 1947، والخاص بتقسيم فلسطين، أوصت الجمعية العامة بأن يكون لمدينة القدس كيان ووضع مستقل خاضع لنظام دولي خاص تحت إدارة الأمم المتحدة، على أن يُعين مجلس وصاية ليقوم بأعمال السلطة الإدارية. ولقد تضمن حدود هذا الكيان المستقل بلدية القدس، إضافة إلى القرى المجاورة، وحتى أبو ديس شرقاً، وبيت لحم جنوباً، وعين كارم غرباً، وتشمل أيضاً المناطق المبنية من قرية قالودينا.

على أن تكون السلطة التشريعية في يد مجلس تشريعي منتخب بالاقتراع العام والسري، على أساس تمثيل نسبي لسكان المدينة، دو تمييز بين الجنسيات. إلا أن العرب رفضوا قرار التقسيم وقبلته إسرائيل، بما في ذلك تدويل القدس.

اتخذت الجمعية العامة القرار الرقم 187 في 6 مايو 1948، متضمناً تعيين هارولد إيفانس ـ أمريكي الجنسية ـ مفوضاً بلدياً خاصاً، يقوم بالتعاون مع اللجان الطائفية الموجودة في القدس، لتنفيذ المهام الموكلة إلى اللجنة البلدية، إلا أنه فشل في إقناع كلا الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي بالتعاون معه. ولذلك قدم الوسيط الدولي المنتدب من قِبل الجمعية العامة اقتراحاً، في 29 يونيه 1948، لحل قضية القدس، تمثل في أن تبقى المدينة عربية مع إدارة محلية للجالية اليهودية فيها، وخاصة فيما يتعلق بالأماكن المقدسة. إلا أن الحكومة الإسرائيلية المؤقتة رفضت هذا الاقتراح، فكان رد الوسيط الدولي خلال رسالته للجانب الإسرائيلي، يوم 6 يوليه 1948، والتي أشار فيها إلى صعوبة عزل القدس سياسياً عن أي تقسيم لفلسطين. كما أكد أنه على الرغم من أهمية القدس بالنسبة لليهود، إلا أنها لم تكن يوماً جزءاً من الدولة اليهودية، بل كانت دائماً منفصلة عن دستورها وحدودها.

بعد نشوب حرب 1948، دعا مجلس الأمن في قراره الرقم 50 يوم 29 مايو إلى عقد هدنة، وحث جميع الحكومات والسلطات المعنية، على أن تتخذ كل الاحتياطيات اللازمة، لضمان حرية الوصول إلى الأماكن المقدسة والمزارات والمعابد، ومدينة القدس، بغرض العبادة. وعند إعلان الهدنة الثانية، أصدر مجلس الأمن قراره الرقم 54، في 15 يوليه 1948، الذي أمر فيه الأطراف كافة بوقف الاشتباكات فوراً، ودون شروط في مدينة القدس. كما أصدر المجلس تعليماته إلى الوسيط الدولي، لمواصلة جهوده من أجل نزع السلاح في مدينة القدس، دون إجحاف بوضعها السياسي، وتأمين وحماية الأماكن المقدسة في القدس وحرية الوصول إليها. ولقد كثف الوسيط الدولي جهوده، حتى تكون القدس مدينة منزوعة السلاح، فقبل العرب ذلك، بينما رفضه الإسرائيليون، لأنهم كانوا قد احتلوا العديد من المناطق العربية، منها اللد والرملة.

كذلك تمكنوا من فتح طريق، يربط بين القدس وتل أبيب، لنقل الإمدادات العسكرية إليها، وعدوا القدس جزءاً من أمن الدولة اليهودية. حيث كانوا قد استولوا على الجزء الغربي من القدس بكل أحيائها العربية، كما احتلوا مساحات أخرى تفوق ما كان مقرراً في قرار التقسيم.

على الرغم من توقيع اتفاقية جبل سكوبس، في 7 يوليه 1948، بين إسرائيل والأردن، ولجنة الهدنة والمراقبين الدوليين، والتي أكدت أن تظل المنطقة تحت إشراف مراقبي الأمم المتحدة كمنطقة منزوعة السلاح، إلا أن ذلك لم يمنع لجنة التوفيق التي شُكلت لتقديم اقتراحاتها، بشأن إقامة نظام دولي دائم لمدينة القدس، والأماكن المقدسة الموجودة بها. ولذلك تبنت الجمعية العامة قرارها الرقم 194، في 11 ديسمبر 1948، الذي أكد ضرورة أن تلقى القدس معاملة خاصة ومنفصلة غير سائر فلسطين، ويجب أن توضع تحت السلطة الفعلية للأمم المتحدة.

بعد أن وافقت إسرائيل على مشروع التقسيم، ووقعت على بروتوكول لوزان في 12 مايو 1949، وحصلت على عضويتها في الأمم المتحدة، نقلت عاصمتها إلى القدس مع بعض الوزارات، على الرغم من القرارات الدولية والمعارضة العربية. ولذلك أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها الرقم 303، الصادر في 9 ديسمبر 1949، على وضع القدس تحت نظام دولي دائم. ولذلك أصدرت قرارها الرقم 356، في اليوم التالي مباشرة، لفتح اعتماد مالي، قدره ثمانية ملايين دولار، بهدف إقامة نظام دولي للمدينة.

اتخذ مجلس الوصاية التابع للأمم المتحدة العديد من القرارات الخاصة بمدينة القدس، منها القرار الرقم 114 في 20 ديسمبر 1949 يطالب إسرائيل بإلغاء نقل الدوائر والوزارات إلى القدس، كذلك أصدر المجلس قراره الرقم 118 في 11 فبراير 1950 يطالب فيه كل من إسرائيل والأردن إلى إبداء رأيهما في تعديل مشروع نظام القدس والذي يمنع العرب واليهود من اتخاذ القدس عاصمة لهم، إلا أن المجلس اضطر إلى اتخاذ قراره الرقم 234 في 14 يونيه 1950، والذي أعلن فيه عدم استعداد الدولتين للتعاون من أجل تنفيذ التعديل.

ولذلك قرر رفع المشكلة إلى الجمعية العامة. ولقد رفض الإسرائيليون هذا القرار، لتمسكهم بالقدس عاصمة لهم، وهددوا بعدم التعاون مع أي مندوب للأمم المتحدة. ومنذ ذلك التاريخ، لم تتخذ الجمعية العامة أي قرار بالنسبة للقدس، حتى تمكنت إسرائيل، بعد حرب يونيه 1967، من احتلال الضفة الغربية، وضم القسم الشرقي من القدس إليها.

بعد احتلال إسرائيل الجزء الشرقي من مدينة القدس، بما فيها البلدة القديمة، في يونيه 1967، وبدأت في اتخاذ إجراءات تهويدها وتفريغها من العرب، اضطلعت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الخامسة، التي بدأت في 17 يونيه 1967، بمناقشته قضية القدس، في إطار أزمة الشرق الأوسط، واتخذت قرارها الرقم 2253، في 4 يوليه 1967 (اُنظر ملحق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الرقم 2253، الخاص بالقدس )، والذي أعربت فيه عن قلقها الشديد من التدابير الإسرائيلية الهادفة لتغيير وضع المدينة، وعدت هذه التدابير غير صحيحة وطالبت إسرائيل بإلغائها، والامتناع من القيام بأي عمل من شأنه تغيير وضع القوى. وفي 10 يوليه 1967، قدم الأمين العام للأمم المتحدة تقريره إلى الجمعية العامة، والذي وضح فيه أن إسرائيل لم تتراجع عن الإجراءات، التي اتخذتها تجاه تغيير وضع القدس.

أصدرت الجمعية العامة قرارها الرقم 2254، في يوليه 1967، تأكيداً لقرارها السابق، وطالبت إسرائيل بإلغاء التدابير كافة، التي اتخذت، بشأن تغيير وضع القدس (اُنظر ملحق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الرقم 2254). وعلى إثر هذا القرار، عين السفير السويسري تالمان، ممثلاً خاصاً للأمين العام للأمم المتحدة، لدراسة الأوضاع في القدس. وقدم تقريره، في 12 سبتمبر 1967، مؤكداً فيه أن إسرائيل سيطرت على القدس بكاملها، وتطبق التشريعات الإسرائيلية عليها وعلى بعض المناطق العربية المحيطة بهاً، والتي كانت تابعة للإدارة الأردنية. كما أنها بدأت في عملية تهجير السكان العرب، والاستيلاء على العديد من الأراضي العربية.

أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها الرقم 2851، الصادر في 20 ديسمبر 1971، أن كل الإجراءات، التي اتخذتها إسرائيل، لتهويد القدس والاستيطان في الأراضي العربية المحتلة، باطلة ولاغية كلياً. ومنذ ذلك التاريخ، توالت قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تؤكد هذه الحقائق، حيث كان هناك بند ثابت سنوياً، يُدرج في جدول أعمالها، من خلاله، كانت تقرر أن الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة، أراضٍ عربية. ويحظر على سلطة الاحتلال الإسرائيلية، إجراء أي تعديلات قانونية أو إدارية أو سكانية عليها، على أساس أن أي تعديلات تتم، تكون باطلة قانوناً.

ومع بدء المسيرة السلمية لتسوية مشكلة الشرق الأوسط في مدريد عام 1991، استمرت الجمعية العامة في متابعتها تطور المفاوضات، حيث أصدرت قراراً في 12 ديسمبر 1996، أكدت خلاله حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. كذلك أصدرت قراراً في 12 مارس 1997، أكدت خلاله أن إسرائيل تشكل قوة احتلال، وأنها تخالف الأحكام الدولية، واتفاقية جنيف لعام 1949، في سياستها الاستيطانية التي تمارسها في الأراضي المحتلة، وأن القدس العربية تعد جزءاً من الأراضي المحتلة الخاضعة للقانون الدولي وأحكامه الملزمة. كما طالبت إسرائيل بالتوقف عن البناء في مستوطنة هارحوما بجبل أبو غنيم، إلا أن استمرار إسرائيل في ممارساتها غير الشرعية أدى إلى عقد الجمعية العامة لدورة استثنائية طارئة، في 14 أبريل 1997، تحت صيغة الاتحاد من أجل السلام، لدراسة الأوضاع المتدهورة في الأراضي الفلسطينية. حيث أدينت جميع الممارسات الإسرائيلية الخاصة ببناء المستوطنات وتهويد مدينة القدس، وأكدت ضرورة التنفيذ الدقيق للاتفاقيات التي توصل إليها بين إسرائيل والفلسطينيين.

نظراً لأن مجلس الأمن له دور متعاظم في رسم معالم الشرعية للمجتمع الدولي، ومن ثم فإن قراراته لها حكم الاتفاق الواجب الالتزام بها، بوصفها مصدراً من مصادر الشرعية الدولية. وإذا كانت قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة والموقف الدولي لم يردع إسرائيل عن الاستمرار في سياستها الاستيطانية وتهويد القدس، الأمر الذي أجبر مجلس الأمن إلى تدخله في قضية القدس، وأصدر العديد من القرارات تتمثل في الآتي:

أ. القرار الرقم 250 الصادر بتاريخ 27 أبريل 1968، الذي طالب إسرائيل بالامتناع عن إقامة العرض العسكري في مدينة القدس يوم 2 مايو 1968، وبامتناع إسرائيل عن تنفيذ هذا القرار، أصدر مجلس الأمن قراره الرقم 251 في 2 مايو 1968، الذي أدان الموقف الإسرائيلي بإقامة العرض العسكري في القدس.

ب. القرار الرقم 253 الصادر في 21 مايو 1968، الذي طالب إسرائيل بإلغاء جميع الإجراءات التي اتخذت حيال القدس، والإعلان أن جميع الإجراءات التشريعية والإدارية والتصرفات التي اضطلعت بها إسرائيل، بما في ذلك نزع ملكية الأراضي والممتلكات، بهدف تغيير الأوضاع فيها، هي إجراءات باطلة.

ج. القرار الرقم 267، الصادر بتاريخ 3 يوليه 1969، الذي أكد خلاله أن الاستيلاء على الأراضي من خلال الغزو العسكري غير مقبول. كما أبدى أسفه، لتجاهل إسرائيل لقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة. كما شجب جميع الإجراءات المتخذة من جانب إسرائيل والهادفة لتغيير وضع القدس وعدها باطلة. وطالب إسرائيل مجدداً، بإلغاء جميع الإجراءات، التي من شأنها تغيير وضع القدس.

د. القرار الرقم 271، الصادر في 15 سبتمبر 1969، الذي أدان عملية حرق المسجد الأقصى وتدنيسه، وطالب إسرائيل باحترام القوانين الدولية واتفاقيات جنيف المتعلقة بالاحتلال العسكري، والكف عن النشاطات التي تمس نشاط المجلس الإسلامي الأعلى في القدس.

هـ. القرار الرقم 298، الصادر في 25 سبتمبر 1971، والذي ندد فيه المجلس بالسلوك الإسرائيلي الذي لم يحترم الشرعية الدولية. وأكد بطلان الإجراءات الإسرائيلية، وطالب بإلغاء الإجراءات كافة، التي اتخذتها إسرائيل حيال مدينة القدس.

و. القرار الرقم 478، الصادر في 20 أغسطس 1980، والذي أكد فيه المجلس عدم شرعية الاستيلاء بالقوة على الأراضي. كما ندد بشدة بالسلوك الصهيوني الخاص بإصدار إسرائيل القانون الأساسي للقدس، وعدم احترامها القرارات السابقة. وأكد أن سن إسرائيل هذا القانون، يمثل انتهاكاً للشرعية الدولية واتفاقية جنيف عام 1949 فيما يتعلق بحماية المدنيين وقت الحرب، ثم أقر بعدم اعترافه بهذا القانون الأساسي وغيره من الإجراءات المماثلة. وطالب مجلس الأمن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، بسحب بعثاتها الدبلوماسية من مدينة القدس.

ز. القرار الرقم 592، الصادر في 8 ديسمبر 1986، الذي أكد الوضع الخاص بالقدس. ودان وشجب بقوة، إطلاق الجيش الإسرائيلي النيران على الطلاب العزل، وطالب إسرائيل بالإفراج عن المحتجزين، والالتزام باتفاقية جنيف الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب.

ح. القرار الرقم 672، الصادر في 13 أكتوبر 1990، والذي عبر فيه مجلس الأمن عن قلقه من أعمال العنف التي تمت في الحرم الشريف، يوم 8 أكتوبر، والأماكن المقدسة الأخرى بمدينة القدس، ما أسفر عن استشهاد حوالي 150 من المصلين الفلسطينيين، كما أدان أعمال العنف التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية.

ط. القرار الرقم 673، الصادر في 24 أكتوبر 1990، والذي شجب فيه مجلس الأمن رفض الحكومة الإسرائيلية استقبال مبعوث الأمين العام للمنظمة، وحثها على إعادة النظر في هذا القرار.

ي. القرار الرقم 661، الصادر في 30 ديسمبر 1990، وفيه أكد المجلس عدم جواز اكتساب الأرض بالحرب، كما شجب قرار الحكومة الإسرائيلية الخاص بإبعاد المدنيين الفلسطينيين من الأراضي المحتلة.

ك. القرار الرقم 904، الصادر في 18 مارس 1994، الذي أدان فيه مذبحة الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل خلال فبراير 1994، والتي أدت إلى استشهاد أكثر من 50 فلسطينياً، وطالب المجلس إسرائيل بمصادرة الأسلحة من المستوطنين الإسرائيليين.

ل. كما كان هناك مشروع قرار لمجلس الأمن في 16 مايو 1995، بشأن مصادرة إسرائيل لمساحة 52 هكتار من الأراضي في القدس الشرقية، إلا أن الفيتو الأمريكي أحبط إصدار هذا القرار. كما أحبط الفيتو الأمريكي أيضاً، مشروع قرار لمجلس الأمن، في مارس 1997، بشأن إنشاء 6500 وحدة سكنية في جبل أبو غنيم بالقدس الشرقية.

مما سبق، يتضح أن الاستهانة الإسرائيلية بقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكذلك قرارات مجلس الأمن، وخاصة فيما يتعلق بمدينة القدس والقضية الفلسطينية، ترجع أساساً إلى التأييد الأمريكي المطلق والفيتو الأمريكي الذي من خلاله، تحبط القرارات الدولية كافة، إلا أن هذه القرارات تظل شاهدة على العنصرية الإسرائيلية والانتهاك الدائم والمستمر لمدينة القدس، خاصة أن الأمم المتحدة لا تملك تنفيذ هذه القرارات.

2. موقف الولايات المتحدة الأمريكية من قضية القدس

على الرغم من إعلان واشنطن اتخاذها موقفاً محايداً في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، إلا أن الحقيقة تشير إلى انحيازها إلى إسرائيل بشكل مباشر، إضافة إلى عرقلتها أي قرارات، تصدرها الشرعية الدولية، تحاول التصدي لإسرائيل. وآخر مواقفها، ما يتصل بأحداث “نفق البراق”، وبناء المستوطنات في جبل أبو غنيم، في القدس الشرقية.

ويكشف التحليل الدقيق للموقف الأمريكي، أن ما يميز الموقف الرسمي لواشنطن من قضية القدس، هو تغليب الولايات المتحدة الأمريكية للعوامل الإستراتيجية والسياسية، على العوامل التاريخية والقانونية. وذلك إلى حدّ استخدامها حق الفيتو، دون سند أو مبرر، لعرقلة إدانة الإجراءات الإسرائيلية لتهويد القدس، ثم موافقة الكونجرس على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وهو ما يتعارض مع قرارات الشرعية الدولية، ومع مرجعية مؤتمر مدريد.

أ. تطور الرؤية الأمريكية، من عام 1947 حتى عام 1967 (قبل حرب يونيه)

أيدت الولايات المتحدة الأمريكية، منذ البداية، قرار التقسيم الرقم 181، ثم القرار الرقم 194، ثم شاركت في لجنة التوفيق، ومارست الضغوط من داخلها، حتى تخلت اللجنة عن فكرة التدويل، وتركت الموضوع للأمر الواقع، الذي أدت إليه حرب عام 1948، وهو تقسيم المدينة. إلاّ أن أهم ما ميز موقفها، هو رفضها الاعتراف بالقدس الغربية عاصمة لإسرائيل، وكذلك رفضها الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة ثانية للأردن.

ب. تطور الرؤية الأمريكية، من عام 1967 (عقب حرب يونيه) حتى عام 1997

بدأت هذه المرحلة عقب حرب عام 1967، حين احتلت إسرائيل القدس الشرقية، وأعلنتها عاصمة موحدة لها. وقد تحدد الموقف الأمريكي في بيان السفير أرثر جولدبرج Arthur Goldberg، الذي أعلنه في المنظمة الدولية، في 14 يوليه 1967. ويُعَدّ هذا البيان، حتى الآن، المرجعية الرسمية للموقف الأمريكي، على الرغم من بعض الطروحات الأخرى، المتناثرة هنا وهناك. وقد احتوى البيان على العناصر الآتية:

(1) يتقرر المستقبل النهائي للقدس، ككلّ، عبر الحل العام لمشكلة الشرق الأوسط.

(2) الدعوة إلى فرض رقابة دولية على الأماكن المقدسة.

(3) رفض الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، أو نقل السفارة إليها.

(4) تعَدّ الولايات المتحدة الأمريكية القدس الشرقية منطقة محتلة، تخضع لقانون الاحتلال العسكري، ولا يجوز لإسرائيل أن تُدخل أي تغييرات عليها، وتعَدّ التغييرات، التي أجرتها، باطلة، ولا تمثل حُكْماً مسبقاً على الوضع النهائي والدائم للمدينة.

غير أن مبادرة وليم روجرز William Pierce Rogers أدخلت، أواخر عام 1969، تغييرات جديدة في ما يتعلق بالقدس، منها:

(1) حصر الحل في إطار مفاوضات عربية ـ إسرائيلية.

(2) عدم الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وعدم نقل السفارة إليها.

(3) عدم الإشارة إلى العناصر الواردة في بيان جولدبرج.

وأَكّد السفير شارلز يوست Charles Yost، مندوب الولايات المتحدة الأمريكية في مجلس الأمن، الموقف نفسه، في الأول من يوليه 1969، وأعلن “أن القدس، التي وقعت تحت سيطرة إسرائيل في حرب 1967، مثلها مثل مناطق أخرى، احتلتها إسرائيل، تعَدّ مناطق محتلة، تخضع لنصوص القانون الدولي، الذي يُنظم حقوق دولة الاحتلال والتزاماتها، القائلة بأن دولة الاحتلال، لا يحق لها أن تحدِث تغييرات في القوانين أو الإدارة”.

تمسكت إدارة الرئيس جيمي كارتر، بعد ذلك، ببيان جولدبرج، إضافة إلى العناصر الواردة في مبادرة روجرز. غير أنها أضافت إليها العناصر التالية:

(1) عدم إدراج قضية القدس في متن اتفاقات كامب ديفيد، وحصر ذلك في خطابات متبادلة، تُلحَق بالاتفاقية (خطاب الرئيس جيمي كارتر، الموجه إلى الرئيس المصري محمد أنور السادات، الذي حدد فيه الموقف الأمريكي من القدس، بأنه الموقف نفسه الذي أعلنه السفير جولدبرج في مجلس الأمن، في 14 يوليه 1967. ويوضح (ملحق وثائق كامب ديفيد في ما يتعلق بالقدس)، الخطابات المتبادلة، الملحقة بوثائق اتفاقية كامب ديفيد.

(2) للقدس وضع، يختلف عن بقية الأراضي المحتلة. وتُعامل على نحو منفصل.

(3) تأييد اشتراك سكان القدس في أعمال سلطة الحكم الذاتي، دون مد سلطة هذا الحكم إلى القدس.

وعندما تولت الحكم إدارة الرئيس رونالد ريجان Ronald Wilson Reagan، عام 1981، تمسكت بالمبادئ العامة السابقة عينها، مع بعض الإضافات الأخرى، كما يلي:

(1) بقاء المدينة موحدة، ويُقرَّر وضعها النهائي في المفاوضات.

(2) عدم الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وعدم نقل السفارة إليها.

(3) مشاركة سكان القدس في الانتخابات، وليس الترشيح.

(4) إدراج القدس، كمدينة إسرائيلية، في سجلات وزارة الخارجية.

(5) استئجار أراضٍ عربية من إسرائيل، لبناء سفارة عليها.

ثم تولت، بعد ذلك، إدارة الرئيس جورج بوش George Bush، عام 1989، التي أكدت تمسكها بالمبادئ السابقة، مع بعض التعديلات، كما يلي:

(1) التأكيد مجدداً أن القدس الشرقية أرض محتلة، مع إدخال بعض التغييرات على أرض الواقع.

(2) التغاضي عن عملية الاستيطان في القدس الشرقية.

وأخيراً، جاءت إدارة الرئيس الحالي بيل كلينتون، سواء في فترة رئاسته الأولى أو الثانية، لتُحدِث نوعاً من التغيير الجذري، بالنسبة إلى القضية، ويتمثل في الآتي:

(1) عدم معارضة أو إدانة القرار الإسرائيلي، القائل إن القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل.

(2) صدور قرار الكونجرس، بموافقة مجلسَيه على نقل السفارة إلى القدس عام 1999.

(3) إرجاء نقل السفارة إلى القدس، إلى أن يُتوصل إلى حل لمشكلة القدس، عبر المفاوضات النهائية.

(4) توفير الحماية لإسرائيل من قرارات الإدانة في مجلس الأمن، نتيجة عمليات التوسع والتهويد في القدس الشرقية، بالاستخدام، غير المبرر، لحق الفيتو.

(5) العودة إلى عرقلة مناقشة قضية القدس في المنظمة الدولية، بعد الاتفاق الفلسطيني ـ الإسرائيلي، بإعلان مندوبة الولايات المتحدة الأمريكية في الأمم المتحدة، مادلين أولبرايت[1] Madeleine Albright: “أن المنظمة الدولية، ليست هي المكان المناسب لمناقشة حل هذه القضية. وأن مكانها المناسب، هو المفاوضات الثنائية بين الجانبين”.

وهكذا يبدو التراجع المستمر في المواقف الأمريكية حيال القدس، والذي يمكن تلخيص جوهره الحالي في الآتي:

لا يزال موقف واشنطن الدبلوماسي يبدو، ظاهرياً، دون تغيير، بمعنى أنها ترفض الموقف الإسرائيلي، ولا تعترف به، ولكنها في الوقت عينه، تتغافل، وتوافق على كل ما تفعله إسرائيل من عمليات لفرض الأمر الواقع، أي أن لها خطابين سياسيين مختلفين: أحدهما للعرب، والآخر لإسرائيل. وهي تسعى في هذا السياق إلى حث الأطراف المعنية على التوصل إلى حل للقضية، دون ممارسة أي ضغط على إسرائيل، الأمر الذي يؤدي إلى أن تكون كل الخيارات الممكنة المطروحة في مصلحة إسرائيل: (ضم المدينة إدارياً وتشريعياً ـ تغيير هويتها الديموجرافية ـ شراء أو مصادرة الأراضي العربية ـ محاصرة المدينة بالمستوطنات…). كما يبدو أن مسألة الاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، قد حُسمت، وأن نقل السفارة إليها، هي مسألة وقت فقط. أما في شأن السيادة والترتيبات الإدارية، فالولايات المتحدة الأمريكية، تهدف إلى تفرد إسرائيل بالفلسطينيين من مركز القوة، في غياب أي رادع أمريكي.

3. الموقف الروسي من قضية القدس

يتسم الموقف السوفيتي سابقاً، والروسي حالياً، بين المتذبذب حيناً والمناوئ في معظم الأحيان، لإيجاد حل للمشكلة الفلسطينية، ما عدا المواقف الرسمية في الأمم المتحدة. فمن الثابت، أن السوفيت كان لهم دوماً موقف مناوئ للأديان السماوية، حتى لليهود السوفيت الذين لاقوا الاضطهاد، منذ قيام الثورة الشيوعية. ولقد بلغ هذا الاضطهاد قمته، عام 1937، عندما أعدم ستالين العديد من الزعماء اليهود السوفيت، إلا أنه تحت تأثير الهزائم التي لحقت بالاتحاد السوفيتي في المراحل الأولى للحرب العالمية الثانية، بذلت الحكومة السوفيتية جهداً كبيراً لنشر التعاطف مع اليهود في العالم، حيث أعلن في موسكو عن تكوين اللجنة اليهودية المناوئة للفاشية عام 1942.

في مؤتمر نقابات العمال العالمي، الذي عُقد بلندن في فبراير 1945، وافق الوفد السوفيتي على قرار ينص على أنه يجب تمكين الشعب اليهودي من إقامة وطن لهم في فلسطين. كما وافق ستالين على فتح أبواب فلسطين للهجرة اليهودية، واستمرت هذه السياسة السوفيتية المؤيدة لليهود في فلسطين، حيث أعلن المندوب السوفيتي في الأمم المتحدة، يوم 14 مايو 1947، موافقته على إقامة دولة يهودية في فلسطين. ولم يراعِ السوفيت أي مطالب عربية. وحتى صدور قرار التقسيم، لم يحاول السوفيت إيجاد حل عادل للمشكلة الفلسطينية، بل يُعده الاتحاد السوفيتي، خلال هذه المرحلة، أقوى سند للدولة اليهودية، كما أصبح الاتحاد السوفيتي أول دولة تعترف بإسرائيل اعترافاً صريحاً ومباشراً وقانونياً.

مما سبق، يتضح أن الاتحاد السوفيتي، كان متحمساً لليهود ومؤيداً لهجرتهم إلى فلسطين طوال النصف الثاني من الأربعينيات، والفترة اللاحقة لها. أما بالنسبة إلى القدس وأوضاعها، فلقد امتنع السوفيت عن التصويت في الأمم المتحدة لكل ما يتعلق بهذه القضية، إلا أن السفير السوفيتي في إسرائيل قد قدم أوراق اعتماده للحكومة الإسرائيلية في القدس، على أساس أنها عاصمة لإسرائيل، على الرغم من عدم اعتراف معظم الدول بالقدس عاصمة لإسرائيل.

بعد عدوان 1956 على مصر، بدأ النفوذ السوفيتي يمتد في المنطقة العربية، وازدادت حدود وأبعاد هذا الدور بعد نكسة يونيه 1967. وتمثل الموقف السوفيتي، في مشروع قرار لمجلس الأمن، يطلب سحب القوات الإسرائيلية إلى ما خلف خطوط الهدنة، كما طالب المندوب السوفيتي أن يتم التصويت فوراً على مشروع القرار، إلا أن عملية التصويت أسفرت عن فشل المشروع. ولقد عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة دورة طارئة، للنظر في العدوان الإسرائيلي عام 1967، بناءً على دعوة وزير خارجية الاتحاد السوفيت، إلا أنه لم تتمكن الجمعية العامة من اتخاذ قرار يدعو إسرائيل إلى الانسحاب. وبعد فشل الاتحاد السوفيتي، كدولة عظمى، في إزالة آثار العدوان على الدول العربية، بدأ يتراجع في المراحل اللاحقة عن مناقشات اللجان والهيئات، التي تسعى إلى تخفيف العبء عن الشعب الفلسطيني، وركز السوفيت دعوتهم على ضرورة إيجاد حل سلمي للنزاع العربي ـ الإسرائيلي.

أدت سياسة الوفاق بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، إلى تخلي السوفيت عن العرب، وخاصة مصر، حيث لم يوفوا بوعودهم في إعادة تسليح مصر. ووضح أن ما يسعون إليه، هو استمرار وجودهم في المنطقة وليس استرداد الحقوق العربية. ومن ثم، زاد توتر العلاقات بين السوفيت ومصر، حتى أبعد السادات الخبراء السوفيت. ومع بدء حرب أكتوبر 1973، تغير كثيراً الإدراك السوفيتي لقدرة العرب على تحريكهم الموقف عسكرياً.

وإذا كان السوفيت قد أعلنوا تأييدهم لاتفاقية فصل القوات الأولي بين مصر وإسرائيل، إلا أنهم أعلنوا عدم مشاركتهم في التوقيع النهائي على هذا الاتفاق. ومنذ ذلك التاريخ، ظل الاتحاد السوفيتي معزولاً عن المحاولات، التي بذلت من أجل تحقيق السلام، وفيما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وظهور روسيا، استمر هذا الموقف المعزول والذي لا يتناسب معها. ومع تطور الأحداث العالمية والداخلية في روسيا، لم يزد دورها على دعوة إسرائيل إلى التخلي عن سياسة الاستيطان. ووضح ذلك من خلال الدعوة بعدم بناء المستوطنة الإسرائيلية على جبل أبو غنيم بالقدس الشرقية، حيث إن مصيرها يجب أن يتقرر من خلال المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية.

4. موقف الاتحاد الأوروبي من قضية القدس

أ. الموقف الأوروبي، في مجمله، قريب من المواقف العربية، سواء بالنسبة إلى مشكلة الشرق الأوسط أو إلى قضية القدس. فالموقف الرسمي للاتحاد الأوروبي، هو الالتزام بمقررات الشرعية الدولية، وصوته في المنظمة الدولية مع المعايير الأخلاقية العادلة، ومن ثم، فهو يقف، عند طرح الموضوع للتصويت، ضد الإجراءات الإسرائيلية الرامية إلى تهويد القدس.

ويحاول الاتحاد الأوروبي الاضطلاع بدور فاعل في الشرق الأوسط. ولذلك، عيّن مندوباً دائماً، على غرار ما فعلته واشنطن، إلا أن دور الاتحاد ما زال عديم الفاعلية. وعلى الرغم من المحاولات الأوروبية، الجماعية والفردية، مثل الموقف الفرنسي، لبناء دور أوروبي أو فرنسي فاعل، بالنسبة إلى الصراع العربي ـ الإسرائيلي عموماً، والقضية الفلسطينية وقضية القدس على وجه الخصوص، إلا أن مساعي الاتحاد طالما اصطدمت بالتوجهات الأمريكية، الرامية إلى تهميش الدور الأوروبي في المنطقة بشكل عام، وفي النزاع العربي ـ الإسرائيلي، بكل جوانبه، على وجه الخصوص. في هذا السياق، يتحدد الموقف الرسمي للاتحاد الأوروبي في الآتي:

“إن الوضع النهائي للمدينة، يتحدد في المباحثات النهائية، أي لا يحدده طرف واحد. وقد أكد ذلك الرئيس الفرنسي جاك شيراك Jacques Chirac، خلال زيارته إلى المنطقة، في أكتوبر 1996[2]، وكان قد أكده بيان البندقيـة، الصادر عن مؤتمر القمـة الأوروبي الذي عقد في لوكسـمبورج، في 2 ديسمبر1980، والذي عُدّ، في حينه، أقوى ما صدر عن الموقف الأوروبي، وإِن كان قد ثبت عدم فاعليته”.

ب. الموقف البريطاني

لقد تأكد الموقف البريطاني من قضية القدس، من خلال إعلان وزير خارجيتها في مايو 1996، عن أن القدس العربية تُعد أرضاً محتلة عسكرياً من قِبل إسرائيل، وأنها تملك السلطة بحكم الواقع فقط على غرب القدس. ولقد أشار إلى أن حل القضية، يجب أن يراعي الطموحات الشرعية للأطراف المعنية، وأن يحترم الطبيعة الخاصة للأماكن المقدسة. كما أكد أنه يجب ألا تفرض تسوية على الفلسطينيين، بل يجب أن تحترم الحقوق الفلسطينية الأساسية، وخاصة فيما يتعلق بحق تقرير المصير، كما أن قرار مجلس الأمن الرقم 242، هو أساس حل القضية وتحقيق السلام في المنطقة.

عارضت بريطانيا إسرائيل في بناء المستوطنات، وأكدت مراراً عدم شرعيتها، وفي مارس 1998 قام وزير الخارجية البريطاني روبين كوك Robin Cook بزيارة إلى المنطقة، وأكد خلالها، أن القدس عاصمة لدولتين، ولا يجوز الاستيطان بها. ولذلك قام بزيارة استطلاعية إلى المستوطنة التي يتم إنشاؤها، في جبل أبو غنيم، بهدف تسجيل عدم مشروعية السياسات الاستيطانية الإسرائيلية في القدس. ولقد أدى ذلك الموقف إلى قيام المتظاهرين الإسرائيليين، بمهاجمة موكب وزير الخارجية واختصار زيارته إلى إسرائيل. ولقد أرادت الحكومة الإسرائيلية بذلك اغتيال الوزير البريطاني سياسياً ومعنوياً. ولقد حاول توني بلير احتواء المشكلة من خلال زيارته إلى المنطقة، ووجهت الدعوة للجانبين الفلسطيني والإسرائيلي للاجتماع في لندن. وعلى الرغم من أن هذا الاجتماع عُقد بحضور وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت M. Albright في 6 مايو 1998، إلا أن الاجتماع لم يحقق النجاح كما كان متوقعاً، نظراً للتعنت الإسرائيلي.

ج. الموقف الفرنسي من القضية

يُعَدّ الرئيس فرنسوا ميتران Francois Mitterrand، أول رئيس فرنسي، يقوم بزيارة إسرائيل في مارس 1982. ولقد أكد في الخطاب، الذي ألقاه أمام الكنيست الإسرائيلي، حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وأن يكون له وطن وأرض، يقيم عليها دولته التي يقع اختياره عليها، وفقاً لقرارات الأمم المتحدة، وخاصة قراري مجلس الأمن الرقم 242، والرقم 338. وفي 20 أبريل 1990، أعرب الرئيس ميتران، عن معارضته لتوطين المزيد من اليهود السوفيت في الضفة الغربية المحتلة، لأن ذلك سيزيد من التوتر بالمنطقة، الأمر الذي لا يسهم في تحقيق المصالحة بين العرب وإسرائيل.

في مايو 1995 تولى جاك شيراك Jacques Chirac الرئاسة في فرنسا، وأثناء زيارته إلى القدس العربية في أكتوبر 1996، دعا ممثلة منظمة التحرير الفلسطينية بفرنسا ـ ليلى شهيد ـ إلى مرافقته في الزيارة. وحين حاولت تذكير الرئيس شيراك بأن السلطات الإسرائيلية سترفض، رد قائلاً: إن القدس الشرقية أرض محتلة. ولقد كانت هذه الزيارة، تأكيداً على عودة الدور الفرنسي للمنطقة بشكل جديد، وأصبح التساؤل المطروح آنذاك عن أبعاد هذا الدور وقدرته في التأثير على تشدد حكومة الليكود.

رفضت الحكومة الفرنسية بناء إسرائيل مستوطنة في جبل أبي غنيم، حيث وصفت القرار الإسرائيلي بأنه كارثة تعرقل عملية بناء الثقة المطلوبة بين الطرفين. وعلى الرغم من أن السياسة الفرنسية ظلت تؤكد حق تقرير المصير للفلسطينيين، كما أنها عَدّت كل الإجراءات التي تهدف إلى تغيير الوضع في القدس، باطلة، إلا أن السياسة الفرنسية ستظل محكومة في النهاية بثوابت ومحددات، تحكمها الجغرافيا والمصالح واتجاهات واتساق العلاقات مع الدول الكبرى المؤثرة في المنطقة. خاصة أن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل ترفضان رفضاً قاطعاً أي دور فرنسي أو أوروبي فعال، وتسعيان إلى الحد من الوجود السياسي والاقتصادي لفرنسا في منطقة الشرق الأوسط.