محتويات هذا المقال ☟
- 1 البُعد التاريخي للحرب اللبنانية الاهلية
- 2 الحرب الأهلية الأولى في لبنان
- 2.1 الحرب اللبنانية الاهلية الثانية (1842 ـ 1845)
- 2.2 الحرب اللبنانية الاهلية الثالثة ودور الانتماءات الطبقية
- 2.3 أزمة 1958 والتهيئة لحرب أهلية
- 2.4 الحرب الأهلية في لبنان (1975)
- 2.5 ا
- 2.6 الدور الفلسطيني في الحرب اللبنانية الاهلية
- 2.7 الحرب اللبنانية الاهلية قُبَيْل اتفاق الطائف
- 2.8 اثار الحرب الاهلية اللبنانية
- 2.9 التهجير
شهد لبنان، منذ عام 1975 وحتى عام 1990، الحرب اللبنانية، كان لها أعمق الأثر في حياته، السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وفي إطار هذا السياق، تعددت أسباب هذه الحرب، بين داخلية وإقليمية، مع عدم إغفال البعد الدولي لهذه الأزمة.ويُعدّ لبنان من أكثر أقطار الوطن العربي تعقيداً وتنوعاً، من الناحية الأثنية. فعلى الرغم من أنه أصغرها مساحةً، وأقلّها سكاناً، إلاّ أنه يضم أكبر مجموعة من التكوينات، الطائفية والمذهبية، الموجودة في الوطن العربي. فلبنان لا يعكس أغلبية إنما هو مجموعة من الأقلّيات الطائفية، يبلغ عدد المعترف به منها سبع عشرة طائفة، لا يمثل أي منها، في الوقت الحاضر، أكثر من ثلث السكان. تشمل ثلاث مجموعات إسلامية، والبقية طوائف مسيحية. هذا غير جماعات أثنية أخـرى، لا تصنف وفق الديانة أو الطائفة، ولها وجود فعلي، وإنْ لم يعترف بها، قانوناً، في الكيان السياسي الرسمي.
وفي إطار هذه التركيبة السكانية المعقدة، عكس الواقع التاريخي اللبناني، السياسي والاجتماعي، فترات من التعايش والتوتر والصراع، بين معظَم هذه الأقلّيات. وقد تبدت الفواصل القاطعة في هذا التاريخ في صعود إحداها وهبوطها. ويمكِن القول، إن عمليات التعايش والتوتر والصراع، من ناحية، وعمليتَي الصعود والهبوط، من ناحية أخرى، قد تحددت من خلال أربعة عوامل رئيسية، هي:
التوازن الديموجرافي أو السكاني، لكل طائفة.
التكوينات الاجتماعية ـ الاقتصادية، داخل كل طائفة.
القوى الإقليمية المحيطة بلبنان، في المنطقة.
القوى الدولية الكبرى، خارج المنطقة.
وقد تعرض لبنان، خلال القرنين، التاسع عشر والعشرين، لثلاثة صراعات كبرى:
الأول: في الفترة من 1840 إلى 1860.
الثاني: في عام 1958.
الثالث: الحرب اللبنانية (1975 ـ 1990).
ويشتد تشابه الصراعين، الأول والثالث، في العديد من الملامح والديناميات، وفي الحجم النسبي للدمار، المادي والبشري. وفي هذه الصراعات، كان للعوامل الأربعة المذكورة، الدور نفسه، تفاعلاً وتأثيراً.
ظَلّ لبنان، حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، ولاية تابعة للدولة العثمانية، التي عملت على إثارة الروح الطائفية في البلاد، وهي التي ما زال لبنان يشهد تداعياتها، حتى وقتنا الحالي. وتنفيذاً لهذه السياسية الطائفية، قسم العثمانيون جبل لبنان إلى قسمين. أحدهما مسيحي، في الشمال، والثاني درزي، في الجنوب.
ولم تكتفِ الدولة العثمانية بذلك، بل عملت على إشاعة الفتن، التي أدت إلى الصراع الدموي، الذي بلغ ذروته، عام 1860، بتحوّل الاضطرابات الدامية، بين الموارنة والدروز، إلى مذابح، رهيبة، حملت الدول الأوروبية على التدخل، لدى الدولة العثمانية، لحماية المسيحيين، لتنتهي المسألة إلى وضع نظام جديد، وُقِّع عام 1861، في إستانبول.
نال، بمقتضاه، جبل لبنان استقلالاً ذاتياً، تحت سيادة الدولة العثمانية. وقد عدِّل هذا النظام، عام 1864، واستمر العمل به حتى دخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى. فعطلت هذا النظام السياسي، وأقامت حكماً عسكرياً، يخضع مباشرة لإستانبول.
بيد أنه بأفول الإمبراطورية العثمانية، على أثر انتهاء الحرب العالمية الأولى، واحتلال الجيوش الفرنسية لبنان، عام 1918، انتهى الوجود العثماني، ليحل محله الانتداب الفرنسي، الذي قرره مؤتمر سان ريمو، عام 1920. غير أنه لم يرتدِ الثوب القانوني الدولي، إلاّ بموجب قرار عصبة الأمم، عام 1923، الذي نصت مادته الأولى على أن تضع الدولة المنتدبة، بالاتفاق مع السلطات المحلية، خلال ثلاث سنوات، نظاماً أساسياً، يأخذ في الحسبان حقوق الأهالي ومصالحهم ورغباتهم، ويؤمّن تقدمهم.
ولا يخفى، أن الدستور اللبناني، الذي صيغ في 23 مايو 1926، كان من وضع السلطة الأجنبية الفرنسية. ولم يغيّر من هذا الواقع، تعديله، في تواريخ لاحقة؛ “فهو مجرد تعديل لبعض مواده، أريد به مسايرة الوضع الجديد للبلاد، دون المساس بكيان الدستور نفسه، الذي أريد الإبقاء عليه، وعدم التخلص منه كلية”.
ولم يسلم لبنان من التدخلات الأجنبية، بعد إعلان استقلاله عن فرنسا، خاصة مع استمرار الطائفية والصراعات الدولية، التي تبدت في العديد من الأحداث، من أهمها أزمة 1958، إلى أن تفجرت الشرارة الأولى للحرب اللبنانية الاهلية الأخيرة، عام 1975، فاتحة الباب على مصراعَيه، أمام الصراعات، الداخلية والإقليمية والدولية، في لبنان، إذ أسهم المناخ السائد، آنذاك، على كافة هذه الأصعدة، في تأجيج حدّة هذا الصراع. ففي أعقاب حرب أكتوبر عام 1973، وبعد توقيع اتفاقات فك الاشتباك، بين إسرائيل وكلٍّ من مصر وسورية، كان هناك اتجاه للتوصل إلى تسوية سلمية، عبْر مؤتمر جنيف والأمم المتحدة.
إلاّ أن التوازن، الذي كان قائماً بين العرب وإسرائيل، وقتئذٍ، وإن لم يكُن في مصلحة العرب بصورة تامة ـ لم يكُن مقبولاً من إسرائيل، خاصة في ظِل ثورة النفط، وازدياد عناصر القوة العربية، والتضامن النسبي بين الأقطار العربية، وازدياد دور المقاومة الفلسطينية على الأرض اللبنانية. وكان لبنان مرشحاً، آنئذٍ، بحكم توافر الخبرات الاقتصادية لدى أبنائه، لتأدية دور اقتصادي مهم في المنطقة.
ومن ثَمّ، كان على إسرائيل أن تلعب دوراً في تعديل ميزان القوى، تعديلاً، يقترب، بموجبه، من الحالة التي تراها ملائمة لأهدافها ومصالحها. وهكذا، كان لا بد لها، أن تتجه نحو إجهاض كافة عناصر القوة العربية. فبادر وزير الدفاع الإسرائيلي، آنئذٍ، إلى التصريح بأن إسرائيل، ستردّ على المقاومة، المنطلقة من الأراضي اللبنانية، من خلال عمل ينبع من داخل لبنان. وجاء ردها، بالفعل، من خلال الدور الذي لعبته في إشعال الحرب الأهلية اللبنانية، وساعدها عليه الأوضاع الداخلية اللبنانية.
وقد أدى إشعال هذه الحرب اللبنانية الاهلية، إلى توجيه ضربة إلى أحد مراكز التحضر العربي المتميزة، والقادرة على التعامل مع معطيات العصر الحديث. كما أنه أدى إلى خلق مشكلة جديدة، على المستوى العربي، تتعلق بكيفية معالجة الوضع في لبنان، خاصة أن للبنان أهميته، بالنسبة إلى سورية، إحدى دول المواجَهة الرئيسية مع إسرائيل. ومن ثَمّ، فقد سعت إسرائيل، من خلال إشعال الحرب الأهلية اللبنانية، إلى خلخلة في عناصر القوة العربية، لإضعافها، بقدر الإمكان. وتابعت خطواتها، بعد ذلك، باحتلال جنوبي لبنان، والسيطرة على مياهه، وإنشاء ما يسمى “جيش لبنان الجنوبي”، الموالي لها.
التعريف بأهمية الموقع الإستراتيجي للبنان
يتمتع لبنان بأهمية موقعه، في شرق البحر الأبيض المتوسط. وتحدّه سورية من الشمال والشرق، وفلسطين من الجنوب، والبحر الأبيض المتوسط من الغرب. وتقدر مساحته بحوالي عشرة آلاف وأربعمائة كم2. ويناهز عدد سكانه ثلاثة ملايين نسمة، وهم يزدادون بمعدل 2%، سنوياً، ومعظمهم يعيشون في المدن.
وكان لهذا الموقع دور فاعل في تحديد مسار الحرب اللبنانية، من خلال تدخّل أطراف إقليمية فيه، إلى جانب أثر التضاريس في تحديد مناطق تركّز الأطراف الداخلية للنزاع. ويتميز لبنان بالتضاريس المتجمعة على شكل سلسلتين من الجبال. تفصل الشرقية منهما بين لبنان وسورية.
أمّا سلسلة الجبال الغربية، فتظهر على طول لبنان، حتى منطقة النبطية، شمال نهر الليطاني. وبين هاتين السلسلتين، يمتد غور انهدامي، مشكلاً سهل البقاع، حيث يجري نهر الليطاني، من الشمال إلى الجنوب، حتى منطقة مرجعيون، ثم يتجه إلى الغرب، ليصب في البحر الأبيض المتوسط، شمال صور. وتبرز في السلسلة الشرقية عدة مرتفعات، أهمها جبل الشيخ (2814م)، وطلعة موسى، المشرفة على بعلبك (2622م). وتبرز في السلسلة الغربية القرنة السوداء (3088 م)، وجبل صنين (2628 م) وجبل الكنيسة (2032م)، وجبل الباروك (2200م).
وتخترق لبنان محاور طولية، وأخرى عرضية. وهي محاور محدودة، بسبب التضاريس والعوارض الطبيعية. وهي المسالك، التي لا بدّ للقوات البرية أن تسلكها، في دخولها إلى لبنان. وأهم المحاور، تلك التي تبدأ من الحدود اللبنانية ـ الفلسطينية، وتتجه إلى الشمال، وهي:
أولاً، محور رأس الناقورة ـ صور ـ صيدا ـ بيروت. وهو يحاذي الساحل. وتقلّ فيه المرتفعات والتضاريس، وتقطن فيه نسبة سكانية عالية. وتمكِن حمايته من البحر.
ثانياً، محور بنت جبيل ـ النبطية ـ جزين ـ الباروك ـ حمانا. وهو يمتد عبْر مرتفعات سلسلة الجبال الغربية، حيث تكثر الغابات.
ثالثاً، محور الخالصة ـ مرجعيون ـ القرعون ـ رياق.
رابعاً، محور حاصبيا ـ راشيا الوادي ـ مجدل عنجر.
المحوران الثالث والرابع، يسيران في سهل البقاع، وعلى السفوح المتقابلة للسلسلتين، الشرقية والغربية.
أمّا أهم المحاور الأخرى، فهي ثلاثة: محور: شتوره ـ ضهر البيدر ـ بيروت. ومحور: القرعون ـ جزين ـ صيدا. ومحور: جونيه ـ فاريا ـ بعلبك ـ زحلة. ويُعَدّ نهر الليطاني مانعاً طبيعياً، ضد عبور الآليات في المنطقة، التي تمتد بين القرعون وصور، على البحر، إذ تنحدر أودية عميقة حول النهر، ويصعب عبوره إلاّ على الجسور المنشأة عليه.
البُعد التاريخي للحرب اللبنانية الاهلية
تاريخ الطائفية في لبنان
لم تكُن الحرب اللبنانية الاهلية، التي شهدها لبنان (1975 ـ 1990)، سوى حلقة في سلسلة المواجَهات بين الطوائف اللبنانية، في القرن الماضي. ولفَهْم أبعادها، لا بّد من إلقاء الضوء على الحروب، التي تعرض لها لبنان، والتي تمثّل، الخلفية التاريخية، الممهدة لحربه الأهلية، في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته.
الحرب الأهلية الأولى في لبنان
بعد خروج المصريين من لبنان، إثر تدخّل القوى الكبرى، حدث العديد من المواجهات بين الطائفتين، المارونية والدرزية. وما لبثت أن تحولت إلى صراع تفانٍ، استمر من عام 1845 إلى عام 1860، الذي اشتهر بمذابحه: “حوادث الستين”.
نشطت القوى، الداخلية والخارجية، الموجِّهة لتاريخ لبنان، بعد 3 سبتمبر 1840، وتولّي الأمير بشير الثالث الإمارة اللبنانية. ويمكن حصر هذه القوى في ما يلي:
1. القوى الداخلية
أ. الأمير الحاكم، بشير الثالث.
ب. الجبهة الدرزية، بما فيها من انقسامات، جنبلاطية ويزبكية.
ج. الجبهة المارونية، بما فيها من انقسامات وقوى موجِّهة، (الإكليروس ـ المقاطعجية).
2. السلطة العثمانية
أ. الباب العالي.
ب. ولاة الدولة العثمانية، في دمشق وبيروت، ومن يبعث بهم الباب العالي، للإسهام في توجيه الأمور.
3. الحكومات الأوروبية، وقناصلها في الشام، وسفراؤها في الآستانة، ولا سيما سفراء بريطانيا وفرنسا والنمسا وروسيا وقناصلها.
4. الهيئات التبشيرية: كالمبشرين البروتستانت و”الجزويت”.
فلا غرو، أن أصبحت الإمارة الشهابية ميداناً لسياسات متضاربة، بعضها محلي، وبعضها عالمي، ومجالاً لتيارات، تقدمية ورجعية. فضلاً عن “عدم الثقة” بين مختلف الأطراف. مما زاد المسألة تعقيداً، ودفعها من سيئ إلى أسوأ. في وقت، بدا فيه لبنان عاجزاً تماماً عن اختيار زعيم قوي، قادر على أن يرتفع فوق كل هذه التيارات، وعلى أن يمسك بكافة خيوط المسألة. كل هذه العوامل، دفعت بلبنان نحو طرق وعرة، متعددة، وقادتْه إلى صراع مختلف الوجوه:
أ. صراع طائفي، بين الموارنة والدروز.
ب. صراع بين الفلاحين والمقاطعجية، أو الإقطاعيين.
واشتد التنافس الأوروبي في لبنان، إبان الحرب اللبنانية الاهليةالأولى، في إطار ما عُرف بـ “حوادث الستين”، عام 1860؛ إذ إن الكارثة التي نزلت بلبنان، خلال تلك الفترة، تزامنت مع عهد من التنافس بين الدول الأوروبية. فبالنسبة إلى بريطانيا، أصبحت صاحبة اليد العليا، في إعادة الشام إلى السلطان العثماني، وكانت قد حصلت منه على معاهدة بلطة ليمان، عام 1839، التي فتحت ولايات الدولة العثمانية أمام التجار الإنجليز، الذين خُففت عن تجارتهم الضرائب الجمركية، فتدفّق الإنتاج الإنجليزي إلى داخل هذه الولايات. واستوعبت السوق الشامية كميات متزايدة منه، حتى إن عدد السفن البريطانية، التي تفرغ حمولتها في الموانئ اللبنانية، أصبح أكبر من عدد سفن الدول الأوروبية الأخرى مجتمعة.
ولا شك أن وجود الأمير بشير الثالث في الحكم، وهو الذي تولاّه بتوصية من الإنجليز، كان مفيداً جداً لتنمية هذا التفوق التجاري البريطاني. وساعد بريطانيا على ذلك، وجود رجل في قنصليتها، في بيروت، على قدر كبير من النشاط والدقة، في تتبع مصالحها، هو الكولونيل روز، النافذ في الدوائر الشهابية، والدوائر العثمانية، في الشام.
ناهيك سفيرها لدى الآستانة، السير سترتفورد كاننج (اللورد ريد كليف، فيما بعد)، ذي القوة الدبلوماسية الفاعلة، التي يشد أزرها مكانة بريطانيا العالمية العليا، والتي بلغت حدّاً، دفع بعض معاصريه، أن يطلقوا عليه: “سلطان تركيا غير المتوج”. ولعلّ ما ساعد الدبلوماسية البريطانية على نجاحها، هو سرعتها في اتخاذ القرار. على النقيض من نظيرتها الفرنسية، المتشبثة بالبيروقراطية، المقيِّدة لحركة الدبلوماسي، والتي طالما ضيعت فرصاً، تحتاج إلى قرار حاسم وسريع.
أثار تفوّق بريطانيا في مصر والشام؛ ولكل منهما آمالها، الدينية والاستعمارية، إزاء فرنسا، حفيظة باريس نحو الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، ولا سيما أن كثيراً من أجزاء هذه الإمبراطورية، كانت مستعمرات فرنسية.
وأصبح على فرنسا، أن تبذل مجهوداً شاقاً، لعلها تستطيع أن تعيد بناء إمبراطورية لها فيما وراء البحار. وكان طبيعياً أن يواجَه النشاط الفرنسي بمقاومة بريطانيا ومنافستها، وكذلك روسيا والنمسا؛ إذ كان أمل فيينا، أن تحل محل فرنسا في حماية كاثوليك الدولة العثمانية.
ولم يخفف موقف فرنسا السلبي إزاء وضع الموارنة، إبّان الحكم العثماني ـ المصري، من عاطفتهم الدينية المذهبية تجاه باريس. بل إنهم حينما كانوا في أشد الحاجة إلى السلاح والذخائر، وكان الإنجليز يمدونهم بهما، كانت الكنيسة المارونية رافضة للسلاح الإنجليزي. كما رفض أميرهم حيدر أبي اللمع، بشدة، فكرة طلب الحماية البريطانية.
واستعر الكره بين الإنجليز والموارنة، حين استشعر نصارى جبل لبنان سعْي الدولة الأنجليكانية إلى التمهيد للمبشرين البروتستانت في لبنان، حيث تكاثر المبشرون الإنجليز والأمريكيون، في ثلاثينيات القرن التاسع عشر وأربعينياته، مما أثار رجال الدين الموارنة و”الجزويت”، وكذلك الروم الأرثوذكس. واتخذ البطريرك الماروني إجراءات شديدة، ضد المبشرين البروتستانت.
ومع أن الإنجليز كانوا يسعون لتكون علاقاتهم بالموارنة والدروز، متوازنة، إلا أن العلاقة الخاصة بين نصارى الجبل وفرنسا، كانت تبعد بريطانيا عنهم، وتشد إليها الدروز، الباحثين عن دولة كبرى، يوازنون بها علاقة فرنسا بالموارنة، ويواجهون بها الجبهة المارونية، التي كان زعماؤها يصرحون بأنهم لم يتخلصوا من التفوّق الدرزي فقط، بل إنهم باتوا هم أصحاب البلاد.
وكانت المؤسسات الجزويتية، في “بكفيا” و”بيروت” وغيرهما، تدعو إلى إقامة وطن قومي للموارنة، وتؤكد لهؤلاء، أنهم لو تمسكوا بهذا الهدف، وقاتلوا من أجْله، فإن الدول الأوروبية الكبرى، لن تتخلى عنهم، حتى يحصلوا على استقلالهم، مثلما حدث مع اليونانيين.
وكان خطر هذه التيارات، في نظر السلطات العثمانية، يتعدى الوجود والسيادة العثمانيين على الجبل. بيد أنها رأت، ألاّ تتخذ أي إجراءات مباشرة، لفرْض حُكمها المباشر على الجبل؛ حتى لا تثير ثائرة السلطات الإنجليزية، التي أصبحت متسلطة على عدن والخليج العربي، وحفيظة السلطات الفرنسية، التي أمست مستعمرة الجزائر.
وآثرت أن تضرب نطاقاً حول الإمارة الشهابية، وتزيد من قوة المراقبة العثمانية عليها. ولهذا، عمدت إلى تعديلات إدارية، تحقيقاً لأهدافها، فضمت طرابلس إلى ولاية صيدا، وجعلت بيروت عاصمة لهذه الولاية.
1. الصراع بين الدروز والموارنة
تمثّل الدولة العثمانية، في نظر الدروز، السلطة العليا، صاحبة الحق الشرعي في البلاد، في إطار الحفاظ على امتيازاتهم التقليدية. ولكن هزائمها على يد الجيش المصري، وعدم قدرتها على إخراج المصريين من الشام، إلا بمساعدة الأسطول الإنجليزي، أضعفا مكانتها، لدى الدروز.
واعتقد الدروز أنهم هم أصحاب الفضل الكبير في إخراج المصريين من الشام، بما اضطلعوا به من ثورات، تكبدوا، خلالها، خسائر فادحة، في الأرواح والأموال، وشُرِّد العديد من زعمائهم، ونُفِي بعضهم إلى سنار. ولهذا، كانوا يتوقعون من السلطات العثمانية، ألاّ تكتفي بالوفاء بما سبق أن وعدتهم به، من إعادة الإقطاعيات، التي كان الأمير بشير قد سلبهم إياها، وبإعفائهم من الضرائب، لمدة ثلاث سنوات، بل أصبحوا ينتظرون المكافآت السخية، فضلاً عن استعادتهم لتفوّقهم على بقية طوائف الجبل. وإذا بهم يواجَهون بظروف مختلفة، تتّسم بالخطر.
فبعد عودة الزعماء الدروز من منفاهم، وجدوا أن الأمير بشيراً الثالث مُعْرِض عنهم. ثم شرع يعاملهم معاملة سيئة، وتقاعس، عامداً، عن إعادة ما كان لهم من إقطاعيات. وكان الأمير الشهابي يخطط لتوجيه ضربة إلى الإقطاعيين، أو المقاطعجية، الدروز. لا لأنه كان مارونياً، يكره الدروز وعقيدتهم، وإنما لانتهاجه السياسة عينها، التي انتهجها سلفه الأمير بشير الشهابي الكبير، في القضاء على الإقطاعيين، حتى يخلو بالحكم.
ولكن الأدهى، أن زعماء الدروز، أصبحوا هدفاً لبشير الثالث، وكأنهم على شاكلة طبقة المماليك، الحاكمة في مصر، التي استعصى أمر إصلاحها، وأصبح الخلاص منها يستدعي تحولاً حضارياً؛ إذ دبر الأمير بشير مذبحة لهم، على غرار مذبحة المماليك، على يد محمد علي. ولكن من حُسن حظ الدروز، حينذاك، أن القنصل الفرنسي، كان لا يزال يسعى إلى كسب وُدّهم، نكاية في الأمير بشير الثالث الذي أصبح، في رأيه، أداة طيّعة في يد القنصل البريطاني. فحذر القنصل الفرنسي الزعماء الدروز مما يدبَّر لهم.
أمّا الكنيسة المارونية، فقد اتخذت إجراءات، تؤدي إلى تقويض نفوذ الزعامات الدرزية الإقطاعية، إذ بعث البطريك بمنشور إلى الموارنة، في كل قرية تحت السيطرة الدرزية، أن يختاروا عنهم وكيلاً، يتولى أمورهم، دون الإقطاعي الدرزي.
واستقبل الموارنة هذا المنشور بالابتهاج والحبور، وبادروا إلى التظاهر، أمام دُور الدروز. وانبروا يرددون أن الدروز مجرد أقلية تابعة لهم، وأنهم لن يتورعوا عن طرْدهم من البلاد. وبدا للدروز، أن أيامهم قد ولّت، وأن عليهم أن يكافحوا، لا من أجْل ما كان لهم من امتيازات، ولكن من أجْل الحفاظ على كيانهم المهدّد، خاصة أن الأمير بشيراً الثالث، يعمل على تصدُّع الجبهة الدرزية، من خلال ضرب الزعامات الدرزية بعضها ببعض.
وفضّل الدروز، على الرغم من تمادي الأمير بشير الثالث في اضطهادهم، أن يعرضوا الأمر على السلطات العثمانية، حتى تكون على بيِّنة مما يعانونه ويدبَّر لهم. فبعثوا بشكوى إلى الباب العالي، في يونيه 1841، تضمنت:
أ. أن الأمير بشيراً الكبير، كان قد تحوّل إلى النصرانية. ومع هذا، كان يعامل الدروز معاملة كريمة، على عكس ما يفعله خليفته، بشير الثالث، الذي يضطهدهم، لإرغامهم على التنصّر؛ وهو ما لن يحدُث، وما سيقاومونه بكل إصرار.
ب. اعتراف الدروز بأنهم مسْلمون.
سعى الدروز إلى إبعاد الأمير بشير الثالث عن الحُكم، بل كانوا يسعون إلى التخلص من حُكم البيت الشهابـي كلـه. ولكـن الظروف، لا تسمح لهم بالإقدام على هذا الخطوة الكبيرة، إذ هم لا يزالون في خطواتهم الأولى، لتثبيت أقدامهم في بلادهم.
ومن ناحية أخرى، كان الأمير بشير الثالث مستنداً إلى تأييد القنصل البريطاني، الذي كان هو نفسه أمل الدروز، في موازنة التقارب المتصاعد، بين الموارنة والقنصل الفرنسي. فحاول زعماؤهم إحلال أمير شهابي مسلم، محل الأمير الحاكم. واختاروا الأمير سلمان شهاب، الذي أضير، هو الآخر، بسبب تعاونه السابق مع الزعماء الدروز، على يد الأمير بشير الثالث.
غير أن القنصل الإنجليزي، رأى أن يستمر الأمير بشير الثالث، على سوء إدارته، في الحُكم. وعلى الرغم من محاولة القنصل الفرنسي، دي ميلواز، إقناع البطريرك بضرورة إبعاد بشير الثالث عن الحُكم، أبدى البطريرك الماروني تمسُّكه المؤقت بالأمير الشهابي، للأسباب الرئيسية التالية:
(1) إن حاكِم الجبل، يجب أن يكون مسيحياً.
(2) إن بشيراً الثالث، يُعَدّ، على ضعفه، حائلاً دون تفاهم الدروز مع السلطات العثمانية، حول إسناد المهمة إلى حاكِم تركي.
(3) إن مساوئ الأمير بشير الثالث، ستتضاعف، بمرور الأيام، ليصبح مرفوضاً. فيمكِن، في هذه الحالة، أن يعود الأمير بشير الشهابي الكبير إلى الحُكم.
لم يقتصر التبرّم ببشير الثالث على الدروز، الساخطين على البيت الشهابي، بل تعداهم إلى بعض الإقطاعيين الموارنة، مثل آل الخازن، الذين عمل “أبو طحين”على كسر شوكتهم. فضلاً عن سأم المسؤولين الإنجليز من هذا الأمير، المثير للمشاكل.
2. الحرب اللبنانية الأهلية
أمَا وقد طال انتظار الزعماء الدروز لتحرك عثماني إيجابي، فقد عزموا على أن يحققوا، بالقوة، ما فشلوا في تحقيقه، بالالتماسات والشكاوى. فبادرت قواتهم، بزعامة أولاد بشير جنبلاط، في الثالث عشر من أكتوبر 1841، إلى محاصرة “دير القمر”، إيذاناً ببدء الحرب اللبنانية،الأولى. وعلى الرغم من استعدادات الموارنة وادعاءاتهم بما سيفعلونه بالدروز، عندما تقع الحرب، تحوّل القتال إلى كارثة مروعة، نزلت بهم في دير القمر، إذ دبت فيهم الفوضى، فأصبحوا أهدافاً سهلة للقوات الدرزية.
وما إن سمع البطريرك بما حدث لدير القمر، حتى أغلق الكنائس، وطلب من كل مسيحي، أن يحمل السلاح. وهاجمت القوات المارونية بعض المواقع الدرزية المتفرقة، لينتشر لهيب الحرب اللبنانية الاهلية، بسرعة، في البلاد. وتبادل الطرفان إحراق القرى وسلْب الأموال، والتمثيل بالأسرى والقتلى. ولكن كفة الدروز كانت هي الراجحة، فبعد أن سيطروا على المناطق المارونية في الجنوب، شرعوا يدقون أبواب النصف الشمالي الماروني، عبْر نهر الكلب.
وخلال هذه الحرب اللبنانية،، وقف الأرثوذكس إلى جانب الدروز، لاعتقادهم أن تفوّق الموارنة، سيعرضهم لاضطهاد ماروني، حمْلاً لهم على ترْك عقيدتهم. وحينما اشتد الضغط الدرزي على الموارنة، وثبت لهؤلاء أن الحرب تسير في مصلحة خصومهم، وأن الجبهة المارونية هشة، مفككة؛ إذ كان رجال الدين الموارنة في جانب، والإقطاعيون في جانب آخر، ناهيك بتعدد الخلافات بين الزعامات المارونية ـ سارع الموارنة إلى السلطات العثمانية، والقناصل الأوروبيين، خاصة القنصل الفرنسي.
أسفرت الحرب عن موافقة البطريرك الماروني على إبعاد الأمير بشير الصغير عن الحُكم، على أن يحل محله الأمير بشير الكبير (نوفمبر 1841)، الأمر الذي ترك انطباعاً سيئاً لدى القنصل الإنجليزي عن رجال الدين الموارنة. ولكن، لم يصغِ العثمانيون إلى رغبة البطريرك.
وانتهزوا مِحنته، فقبضوا عليه، لدى مغادرته “دير القمر” إلى بيروت، وأرسلوه إلى الآستانة. بينما كلّف الباب العالي مصطفى باشا، بأن يتولّى مهمة إعادة الأمن إلى نِصابه، والعمل على تحقيق هدف العثمانيين، إنهاء حُكم بيت شهاب.
كانت مهمة مصطفى باشا صعبة، وواجهت ظروفاً معقدة. بل إن جنوده أنفسهم، أضافوا إلى المشكلة تعقيداً آخر؛ إذ إن أوضاعهم الاقتصادية، كانت متردية، فضلاً عمّا أشيع من أن القوات العثمانية، ما جاءت إلا لتشد أزر الدروز، ولتوجِّه الضربات إلى الموارنة.
وكان قد أُشيع، من قبْل، أن سليم باشا، والي صيدا، وزع السلاح على الدروز والموارنة، ليؤجِّج الموقف، حتى يثبِت للعالَم، أن الحُكم التركي، هو الملائم لهذه المنطقة، التي لا يعرف أهلها كيف يتولون أمورهم بأنفسهم. ولكن الأمور في لبنان تفاقمت، حتى استعصى على سلطة واحدة، أن تنفرد بمعالجتها.
3. العلاقة التاريخية بين الموارنة وفرنسا
أسخطت الحرب اللبنانية، الدوائر الفرنسية، الحكومية والشعبية، إذ رأتها حرب إبادة، يشنها المتعصبون ضد الموارنة، أصدقاء فرنسا، وأبناء عمومتها، في العقيدة. وتوالت على الفرنسيين استنجادات الموارنة، وتقارير قنصلهم، تحثهم على عمل إيجابي، ينقذ الموارنة من الإبادة. أما صورة الدروز، لدى الفرنسيين، على اختلاف مستوياتهم، فكانت سيئة، ومشوَّهة.
وحفاظاً على مكانتها بين الموارنة، وحرصاً على كرامتها؛ إذ إن هزيمتهم، توحي بأنها هزيمة فرنسا في الشام ـ عمدت الحكومة الفرنسية إلى إرسال وحدات من بحْريتها إلى السواحل اللبنانية. وما إن وصلت، حتى اجتاحت الموارنة موجة من الفرح. ورُفع العلَم الفرنسي فوق بعض الأديرة. ووزعت القنصلية الفرنسية السلاح عليهم، بكثافة. وبذلك، أعلن الفرنسيون انحيازهم الكامل إلى الموارنة، ففقدوا الدور الذي كان من الممكِن أن يؤدوه في التوفيق بين المتنازعين.
بينما انزعج الدروز والعثمانيون والإنجليز من هذه الإجراءات، ومن صداها بين الموارنة، حتى وصل الضيق ببعض الإنجليز، أن سعوا إلى عزل البطريرك. ولكنهم تجنبوا هذه الخطوة، لِما كان سيترتب عليها من تعقيدات جديدة. وكان طبيعياً، في مواجَهة هذه التطورات، أن يزداد التقارب الدرزي ـ الإنجليزي، الذي انتقل إلى مرحلة جديدة من التخطيط والتنسيق، إذ توصل الطرفان، في سبتمبر 1841، إلى تفاهم، قوامه:
أ. أن يدافع الإنجليز عن مصالح الدروز.
ب. أن يتعلم أبناء الدروز في المعاهد الإنجليزية، في إنجلترا.
ج. أن تطلق حرية المبشِّرين البروتستانت في العمل، في المناطق الدرزية.
وهكذا، عادت الإمارة إلى سياسة المحاور، ولكن بشكل أشد خطراً:
أ. محور درزي ـ إنجليزي.
ب. محور ماروني ـ فرنسي.
أما العثمانيون، فكانوا يحاولون التمسك بالشرعية، مُدَّعين أنهم فوق المحاور. ولكن قدرتهم على التفوق، كانت محدودة، بل كانوا يقدِمون على خطوات كفيلة، لا بتعقيد الموقف أمامهم فحسب، بل بإضعافهم عن حل القضية، بطريقة أو بأخرى.
فبينما كان الجبل يعاني أزماته الطاحنة، وسكانه يتوقعون إعفاءهم من الضرائب، لمدة ثلاث سنوات، كما وعدتهم السلطات العثمانية، إذا بها تفرض الضرائب على الجبل، وتسعى، بأساليبها التقليدية، إلى جمْعها، مما أثار سخط الجماهير الشعبية، التي راحت تقابل العهد المصري، الذي أوسعته هجوماً ونقداً مريراً، بما أصبحت عليه البلاد من فوضى. ولم يكتفِ الناس بتذكر العهد المصري، بل إن منهم من طالب بعودته، إنقاذاً لهم ولبلادهم. حتى قيل إن الناس، كانوا مستعدين لأن يستقبلوا المصريين بأذرع مفتوحة. بل إن الإنجليز اعترفوا، وإنْ بعد وقت طويل، بأن الحكم المصري، كان خيراً للمنطقة، وأنه ما كان ليصيبها ما أصابها، لو استمر هذا الحكم.
رأت السلطات العثمانية، في تلك التطورات، فرصتها لفرض نظام الحكم المباشر على الجبل، على أساس أنه يحُول دون عودة الاقتتال الطائفي. فعقد مصطفى باشا اجتماعاً، حضره زعماء لبنان. استعرض فيه النكبات، التي ألمّت بالبلاد، خلال حكم البيت الشهابي، وأعلن إنهاء حُكم الشهابيين. وتلا فرماناً، يعهد بالحكم إلى عمر باشا النمساوي.
قابل الدروز الإجراءات العثمانية بالترحيب والرضا، وزادهم تهليلاً لها، أن الحاكم الجديد، قد اعتنق الإسلام. بينما امتعض الموارنة، لأن الإكليروس الماروني، كان متمسكاً بأن يحكم الجبل أمير مسيحي، وأن الأمير بشيراً الكبير، هو الملائم لهذا الحكم؛ إذ إنه يستطيع أن يفرض كلمته، على ما كان يعتقده الموارنة، على الإمارة كلها.
تركزت مهمة عمر باشا النمساوي في الأهداف التالية:
أ. القضاء التام على فكرة عودة البيت الشهابي إلى الحُكم.
ب. إقناع الأطراف المتنازعة كافة، بقيمة الحُكم العثماني المباشر، ووضْع البطريرك الماروني أمام الأمر الواقع.
ج. إرضاء الزعامات الدرزية.
د. إرضاء الإقطاعيين الموارنة.
حرص الحاكم الجديد على أن يكسب الدروز إلى جانبه. فأعاد إليهم أموالهم وأراضيهم، وبعض نفوذهم. كما سعى لأن يثبت لكافة الجهات المعنية بأوضاع لبنان، أن حُكمه، أي الحُكم العثماني المباشر، هو المقبول من الأهالي. فحثهم على توقيع عريضة بهذا المعنى، وأنهم يرغبون في تثبيت عمر باشا في الحُكم.
نشط ملاّك الأراضي في جمع التوقيعات. وإزاء معارضة البطريرك الماروني، وإكليروس الكنيسة المارونية، عمد عمر باشا إلى الوعد والوعيد، للحصول على توقيعات الموارنة. حتى إن بطريركهم، شعر بأن حياته، قد أصبحت في خطر. ونصحه القنصل الفرنسي بالحذر مما يدبّره له عمر باشا، ففرّ، عام 1842، إلى معقل منيع في الجبل.
غير أن علاقات عمر باشا الحسنة، بالجانب الدرزي، لم تدم طويلاً؛ فإذا به يستعدي الدروز، إلى جانب عدائه للموارنة. والواقع، أن الظروف والملابسات، التي أدت إلى تصادم الدروز وعمر باشا، لا تزال غامضة. ولعل من أسبابها ما يلي:
أ. لا شك أن العثمانيين كانوا يعملون على التحكم في أمور الطائفتين. ولكن ذلك لا يتأتى لهم، إلاّ بإضعافهما ثم ضرب كلٍّ منهما، الواحدة بعد الأخرى. فسعوا إلى استعار الحرب بينهما. ولكن زعماء الدروز، استذكروا تجربة سابقة، عندما دفعهم العثمانيون إلى مهاجمة الموارنة، عام 1841. وبعد أن انتهت المعارك، تنصّلوا من المؤامرة. فإذا أرادوا تكرار هذا العمل؛ وكان الدروز يودّون تكراره، فعلى العثمانيين، أن يضعوا في يد الـدروز فرمانـاً بذلك، حتى لا يتحمل الدروز، وحدهم، وزر هذا العمل. وما كان العثمانيون ليوافقوا على الطلب الدرزي.
ب. حاول عمر باشا إرغام الدروز على إعادة ما سبق أن نهبوه من الموارنة، خلال الحرب الأهلية الأولى. ولكنهم هدّدوه بأنهم سيفشون سر التواطؤ، بينهم وبين العثمانيين، عام 1841، ضد الموارنة، إذا استمر في هذه السياسة.
ج. أثيرت قضية الهوية الدينية للدروز، إذ كان العثمانيون يرون أنهم مسلمون، بينما كان الدروز يرون أنهم أصحاب عقيدة خاصة. ودار جدل وضغط لتأكيد إسلام الدروز، الأمر الذي جعل هؤلاء يوجسون خيفة من وراء ذلك، فازدادت الهوة عمقاً، بينهم وبين عمر باشا.
ومما يذكر أن الأهداف العثمانية الرئيسية، كانت غير مقبولة، لا لدى الموارنة، ولا لدى الدروز، ولا سيما منها فرض الحكم المباشر، الذي يسلب الطرفين، الدرزي والماروني، الكثير من امتيازاتهما وسلطاتهما، ويحُول دون أن يحقق الموارنة تفوّقهم الواعد، ودون أن يستعيد الدروز تفوّقهم السابق. وهكذا كانت الأطراف الثلاثة، تتنافس في شيء واحد: اليد العليا في أمور البلاد. ومِثل هذا التنافس، في مِثل تلك الظروف، لا يحسمه سوى السلاح.
استخدم عمر باشا الخديعة، وسيلة للقبض على كبار زعماء الدروز، ونجح في ذلك. ولكن أحدهم، وهو يوسف عبدالملك، لم يقع في الفخ، فتولّى قيادة الثورة ضد العثمانيين. ونجح في أن يثير النفوس، بما كان يردّده، وينشره، على أوسع نطاق، من أن العثمانيين ينوون نزع سلاح الجبل، تمهيداً لسَوق الشباب إلى الجندية العثمانية الرهيبة. وازدادت ثورة دروز لبنان حدّة، على أثر انضمام دروز حوران إليهم، بقيادة شبلي العريان (أكتوبر 1842)، الذي عُرف بشدته وصلابته، خلال الثورة الدرزية على الحكم المصري.
واشترط الدروز على العثمانيين، إذا أرادوا تجنّب التصادم:
أ. إطلاق المعتقلين من زعماء الدروز.
ب. عزْل عمر باشا النمساوي.
ج. إعفاء الدروز من الجندية.
د. امتناع السلطات العثمانية عن جمْع السلاح منهم.
وهي مطالب لم يكُن من الممكِن تنفيذ معظَمها؛ إذ رأى فيها العثمانيون تعارضاً مع الخط السياسي العثماني العام.
هكذا، أصبح العثمانيون الخصم المشترك لكلٍّ من الدروز والموارنة. بيد أن الخطر المشترك، لم يمكِنه حمْلهما على التضامن في وجْه الآستانة، على غرار ما فعلوه عام 1840، إذ كانت خلافاتهما قد استحكمت، بل ربما أمسى الخصام الماروني ـ الدرزي أشد من الخصام الماروني ـ العثماني. ولم يكن قادراً على الحدّ من هذا الخصام، سوى قبول الدروز بتولي حاكم مسيحي الإمارة اللبنانية، وهو ما كانوا يرفضونه تماماً.
خاض الدروز المعركة، وحدهم. وشن العثمانيون عليهم حملة عنيفة، ضربت معاقلهم في “المختارة” و”بعقلين” و”جديدة الشوف” وغيرها. وأحرقت ودمرت عدداً من قراهم. وعلى الرغم من ذلك، صمد الدروز لقوات عمر باشا النمساوي، حتى يئس من الوصول إلى نصر حاسم. وشرع الإنجليز ينتقدون، بشدة، إجراءات العنف تلك، في الوقت الذي كان فيه سفراء الدول الكبرى في الآستانة، يتباحثون مع الباب العالي في نظام حُكم للبنان، يتلاءم مع وضْعه، ومع الأهداف الأوروبية. وأخيراً، عزل العثمانيون عمر باشا النمساوي، وسعى الباب العالي وسفراء الدول الأوروبية، إلى تطبيق نظام القائمقاميتَين.
الحرب اللبنانية الاهلية الثانية (1842 ـ 1845)
منذ انسحاب القوات المصرية من الشام، وما عقب ذلك من حرب أهلية، والدول الأوروبية الكبرى دائبة في إيجاد نظام حُكم للبنان، يستعيد الحكم العثماني المباشر، ويحقق رغبتَي الطرفين المقتتلَين، الدروز والموارنة، ويتماشى مع أهداف الدول الكبرى، في المنطقة.
وهكذا، وجدت الدولة العثمانية نفسها أمام تحالف أوروبي، يعمل على فرض حل عليها، وإنْ اختلفت الدول الأوروبية في كيفية هذا الحل، مما أدى إلى ظهور العديد من المشروعات والمشروعات المضادّة، ومن أبرزها ما قدّمه العثمانيون والفرنسيون والنمساويون.
أمّا المسؤولون الإنجليز، فكانوا قد كوَّنوا فكرة معيّنة عن نظام الحُكم، الملائم للبنان وللمصالح البريطانية. ولكنهم سعوا لأن يظهر هذا النظام، وكأنه من وضْع “الجماعة الأوروبية”. وبذلك، تكون القضية اللبنانية، قد أخذت شكلاً دولياً، رسمياً.
وضعت السلطات العثمانية، أمام سفراء الدول الكبرى، مشروعاً، لا يخرج عن الأساليب التقليدية، التي كانت تلجأ إليها الآستانة. إذ جعل لبنان، كلية، تحت الحُكم العثماني المباشر، وأصبح، بموجبه، تابعاً لوالي صيدا. ولكن السفراء الأجانب، رفضوا المشروع العثماني، جملة وتفصيلاً؛ إذ إنهم كانوا ضد عودة الحُكم العثماني المباشر إلى لبنان؛ وربما كان هذا الاتجاه، هو الشيء الوحيد، الذي لم يختلف فيه سفراء الدول الكبرى.
وقدّم الفرنسيون مشروعاً، يُعَدّ، هو الآخر، رجوعاً بأوضاع لبنان إلى ما كانت عليه، قبْل وقوع أحداث 1841. إذ تبنّى هذا المشروع وجهة نظر البطريرك الماروني، إلى حدّ كبير، خاصة رغبته في أن يحكم الجبل كله أمير مسيحي، على نحو ما كان عليه الحال، أيام الأمير الشهابي، بشير الثاني الكبير. غير أن الحكومة البريطانية، رفضت المشروع الفرنسي؛ لأنها كانت ضد عودة الشهابي الكبير، من جهة، ولأن الدروز، أصدقاء بريطانيا، لا يقبَلون أن يتولى عليهم حاكم مسيحي، فضلاً عن معارضتهم الشديدة لعودة الشهابيين إلى الحكم.
وكان الأمير ميترينخ Prince Klemens Wenzel Nepomuk Lother Von Metternich، وزير خارجية ومستشار النمسا، صاحب مشروع مبنيّ على النظرة الواقعية إلى لبنان، قوامه الاعتراف بالحقيقة الطائفية في هذا البلد، إذا أريد التوصل إلى نظام حُكم، يكون مقبولاً من الطرفين المتنازعَين، الموارنة والدروز، في إطار من الاعتراف بالسيادة العثمانية.
فدعا المستشار النمساوي إلى تقسيم الجبل، بإنشاء وحدتَين إداريتَين، قائمقاميتَين. إحداهما درزية، في نصفه الجنوبي، ويحكمها حاكم درزي. والثانية مارونية، تحت حاكم ماروني، في النصف الشمالي من الجبل. وقد حصل هذا المشروع على موافقة الدول الكبرى (15 سبتمبر 1842). وعُدّ ذلك نصراً كبيراً للدبلوماسية الأوروبية على الباب العالي.
كان المشروع النمساوي، في الأساس، مشروعاً بريطانياً؛ إذ عكس وجهة النظر الإنجليزية، على النحو التالي:
1. استبعد المشروع عودة آل شهاب إلى الحُكم. فهو يغاير هوى الفرنسيين والإكليروس الماروني. بينما يماشي وجهة النظر الدرزية، التي يعمل الإنجليز على أخذها في الحسبان.
2. أعطى المشروع الموارنة كياناً قائماً بذاته، في حين أعطى الدروز، كذلك، كياناً قائماً بذاته، فجنّبهم الوقوع تحت حكم أمير مسيحي.
3. اتَّهم جيزو، رئيس الوزارة الفرنسية، الحكومة النمساوية، بأنها أخذت بوجهة النظر الإنجليزية، لتكسب تأييد بريطانيا لها، على السيادة على روما وإيطاليا.
4. استبعد المشروع دور روسيا من المشكلة اللبنانية. لتزداد حسرتها الناجمة عن خروجها من الأزمة العثمانية ـ المصرية (1831 ـ 1840)، خاسرة، مع أنها هي التي بادرت إلى مساعدة الدولة العثمانية، عام 1833؛ إذ إن بريطانيا، قضت على هذه المبادرة، وأغلقت المضايق العثمانية في وجْه السفن الحربية، مما حال دون وصول الأسطول الروسي إلى المياه الدافئة، البحر الأبيض المتوسط. وذلك من خلال فرضها على الآستانة اتفاقية المضايق، في 13 يوليه 1841.
فلما سعت روسيا إلى دور في حل المشكلة اللبنانية، بادعائها المدافعة عن طائفة الروم الأرثوذكس، لم يكن مسعاها فاعلاً. واضطرت إلى قبول مشروع القائمقاميتَين للجبل، من دون ذكر للروم الأرثوذكس. وهذا ما كانت تريده الدول الأوروبية، ولا سيما بريطانيا وفرنسا والنمسا، على أساس أن طائفة الروم الأرثوذكس، هي هدف البعثات التبشيرية، الكاثوليكية والبروتستانتية، على حدّ سواء.
قبلت السلطات العثمانية، على مضض، ما يفرض عليها. ولكنها حاولت، حفاظاً على ماء وجهها، أن تظهر وكأنها صاحبة المشروع، بل منفِّذته.
1. تطبيق نظام القائمقاميتَين، والمشاكل الناجمة عنه
عُهِد بتطبيق نظام القائمقاميتَين إلى أسعد باشا، والي صيدا الجديد. وكان عليه أن يعالج المسائل الرئيسية التالية:
أ. حدود القائمقاميتَين.
ب. اختيار قائمقام درزي، وآخر ماروني.
ج. الجهة التي يتبعها الموارنة في القائمقامية الدرزية، والدروز في القائمقامية النصرانية.
وكان حل المسألة الأولى يسيراً، إذ كان من المتفق عليه، أن يكون طريق بيروت ـ دمشق، حدّاً فاصلاً بين القائمقاميتَين.
أما المسألة الثانية، فلم تخلُ من الصعوبات. إذ كان اختيار قائمقام درزي أشد حرجاً من اختيار القائمقام الماروني، لانقسام الدروز إلى جنبلاطيين ويزبكيين. ورأى أسعد باشا ضرورة الحفاظ على وحدة الجبهة الدرزية، على أساس أنها الأقرب إلى العثمانيين، وأنها قبضتهم في ضرب الموارنة، المسؤولين، من وجهة نظر الآستانة، عن تدويل المشكلة اللبنانية، وفتْح أبواب البلاد أمام التدخل الأجنبي، الذي يمكِن أن يضر بالعالم الإسلامي.
وكان أكثر المرشحين ترجيحاً للمنصب، هو سعيد بك جنبلاط؛ إذ إن القنصل البريطاني، روز، يميل إليه. فضلاً عن أن أسعد باشا يحبّذه، إلا أنه كان يخشى أمرَين، إذا تولى سعيد بك منصب القائمقام:
أ. أن ينفصل اليزبكيون، ويصبحوا أداة في يد خصوم العثمانيين.
ب. أن يزداد تأثير القنصل البريطاني في مرشحه، الزعيم الجنبلاطي، وفي توجيه مقدرات القائمقامية الدرزية. وكانت السلطات العثمانية، تجهد في التقليل من التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية لولاياتها.
ولهذا، استبعد أسعد باشا سعيد بك، مفضّلاً أحمد أرسلان، بعد تزكية زعماء الدروز له، مقابل حفاظه على امتيازاتهم، بمقتضى اتفاق بينهما (ديسمبر 1842).
وسرعان ما أدى الاختلاف في صلاحيات القائمقام، إلى تصادم والي صيدا والقائمقام الجديد. وما لبث أسعد باشا أن قبض على أحمد أرسلان. ولم يطلقه، إلاّ بعد تدخّل قناصل الدول الأوروبية الكبرى.
أما بالنسبة إلى منصب قائمقام الموارنة، فقد اخْتِير له حيدر أبي اللمع، الذي طالما سعى عمر النمساوي إلى تعيينه نائباً له. وواجه القائمقام الجديد معارضة قوية من الإقطاعيين الموارنة، الذين ادّعوا أنه لا يمتلك الصفات الإدارية، التي يتطلبها هذا المنصب.
بيد أن السبب الرئيسي لمعارضة الإقطاعيين، أدروزاً كانوا أم موارنة، أنهم يرون في منصب القائمقام، وهم مُحقون، تهديداً لسلطاتهم وامتيازاتهم. وعلى أي حال، استطاعت جهود أسعد باشا، والقنصل الفرنسي، بوريه، أن تقنع الإقطاعيين الموارنة بتأييد القائمقام، من دون أن تحل المشكلة بينه وبينهم حلاً نهائياً.
وأخيراً، شرع أسعد باشا يعالج المسألة الشائكة، المتعلقة بتحديد تبعية القُرى والمدن المختلطة. ويمكِن تقسيم هذه المشكلة إلى قسمين: الأول، يتعلق بـ “دير القمر” و”بلاد جبيل”. والثاني، وهو الأشد خطراً، يتعلق بالمناطق المختلطة، المتناثرة في القائمقاميتَين.
كانت دير القمر، في ذلك الوقت، تضم خمسة آلاف نسمة، منهم أربعة آلاف ماروني والألف الباقي من الدروز. إلا أنها كانت معقلاً تاريخياً للدروز، وعاصمة لهم، وتقع في قلب منطقتهم. ولذلك، رأوا، يؤيدهم الكولونيل روز، أن إخراج هذه المدينة من دائرة صلاحيات قائمقام الدروز، يُعَدّ تحدياً صارخاً للتقاليد، وللحقوق الشرعية الدرزية.
أما وجهة نظر الموارنة في هذه القضية، فتتمثل في رأي البطريرك الماروني، يؤيده القنصل الفرنسي، أنه لا بدّ من احترام الأغلبية العددية المارونية في المدينة؛ إذ إن الأمر الواقع أقوى من أي حقوق تاريخية. غير أنه إذا كان الموارنة قد أضيروا، في غير مكان، على يد الدروز، خلال الحرب الأهلية الأولى (1841)، فإن موارنة دير القمر، كانوا الأكثر ضِراراً، وإنه يجب حمايتهم من أي تعديات، قد يتعرضون لها، وهم يعيشون في محيط درزي.
وتوالت المشروعات، الفرنسية والإنجليزية، لحل هذه القضية. حتى أمكن التوصل، في سبتمبر 1844، إلى حل وسط، على يد أسعد باشا، والي صيدا، وخليل باشا، قائد الأسطول العثماني، الراسي أمام سواحل لبنان، والمكلف بتسوية مشكلته. ويقضي هذا الحل بما يلي:
أ. تمنح دير القمر حكماً ذاتياً، يتولاه وكيل درزي وآخر ماروني.
ب. تختار كل طائفة وكيلها.
ج. يتبع الوكيل الدرزي القائمقام الدرزي، ويتبع نظيره الماروني القائمقام المسيحي.
أما بالنسبة إلى بلاد جبيل، ذات الأغلبية المسيحية، ومن أهم توابعها، فضلاً عن ميناء جبيل: البترون والفتوح والكورة ـ فقد رأى أسعد باشا، وهو المعروف بتفهمه لمطالب الموارنة، وميله إلى حل مشاكلهم، أنها غير داخلة ضمن القائمقامية المسيحية، مستنداً في ذلك إلى أن أمراء الشهابيين، كانوا يحصلون عليها بالالتزام من والي صيدا.
ومن ثَمّ، يحق للوالي أن يستعيد سيطرته المباشرة عليها. فأثار أسلوب والي صيدا، سخط الموارنة؛ إذ إنه سيفقدهم كتلة بشرية، لها وزنها، ومنطقة اقتصادية مهمة، ومنفذاً بحرياً، ويظهرهم بمظهر المستسلمين للسلطات العثمانية. وتدخّل القناصل في المشكلة، وتشاوروا فيها، حتى توصلوا إلى حل، يميل إلى مصلحة المورانة. وهو منح القائمقام المسيحي بلاد جبيل، على نحو ما كان عليه الحال في عهد الأميرَين الشهابيَّين، يوسف وبشير الثاني الكبير.
كذلك، أُدخل بعض المناطق الساحلية، ذات الأغلبية المارونية، ضمن قائمقامية الموارنة، بإيعاز من الكولونيل الإنجليزي روز، حرصاً على أملاك صديقه، الأمير بشير الثالث، الشاسعة، والواقعة تحت حُكم الدروز، الذين سيدمرونها، لا محالة.
إلا أن تنفيذ تلك الاتفاقات، كان يتطلب حلاً شاملاً لقضية المناطق المختلطة. فضلاً عن التوصل إلى تفاهم حول التعويضات الباهظة، التي يطالب الموارنة بأن يدفعها إليهم الدروز، لِما أقدموا عليه من تعديات عليهم، خلال الحرب اللبنانية الاهلية الأولى.
وحول هذه المشكلات، دار جدال طويل، معقد، بين السلك الدبلوماسي الأوروبي والباب العالي. ونشط الموارنة لدى الحكومات الأوروبية، وخاصة البريطانية والفرنسية. وقدِّمت مشروعات عديدة للتوصل إلى حل، يتقبّله المعنيون.
2. محاولة لحل مشكلة المناطق المختلطة
في محاولة لوضع أساس مقبول لحل مشكلة المناطق المختلطة، توصل الباب العالي، في 2 سبتمبر 1844، إلى الصيغة التالية:
أ. أن تتبع المناطق المختلطة، في القائمقامية الدرزية، القائمقام الدرزي.
ب. أن تتبع المناطق المختلطة، في القائمقامية المسيحية، القائمقام المسيحي.
ج. أن يكون لكل قرية مسيحية، في قائمقامية الدروز، وكيل عنها.
د. أن يكون لكل قرية درزية، في القائمقامية المسيحية، وكيل عنها.
هـ. أن يدفع الدروز تعويضات إلى المسيحيين، عن حوادث 1841.
رحّب القنصل الإنجليزي بتلك التسوية. وأيدها، إلى حدّ ما، الدروز. بينما رفضها، بشدة متفاوتة، قناصل فرنسا وروسيا والنمسا. وعارضها الموارنة، بشدة، بلغت حدّ الدعوة إلى اللجوء إلى القوة، بل إن منهم من رأى ألاّ خلاص للموارنة في بلاد الدروز، إلا بالهجرة إلى بيروت وكسروان.
ووسط هذا التوتر الشديد، أخذ القنصل الفرنسي، يوجين بوجاد، موقفاً إلى جانب المعارضة المارونية، إذ قدَّم مشروعاً، يتعارض مع تسوية سبتمبر 1844، واستهدف استبعاد أي سيطرة درزية على الموارنة، في القائمقامية الدرزية. كما استهدف عودة الشهابيين إلى حُكم “كل لبنان”. وكان بوجاد يرى، أن الباب العالي، الذي وافق على أن تكون مصر وراثية، في أُسرة محمد علي باشا، يمكنه أن يوافق على توارث الشهابيين حُكم لبنان، خاصة أن جرم محمد علي، في نظر بوجاد، يفوق كثيراً جرم بشير الشهابي الثاني الكبير، في حق السلطان.
وسعت الدبلوماسية الفرنسية إلى موافقة الحكومة البريطانية على مشروع بوجاد، فضلاً عن موافقة أسعد باشا وخليل باشا عليه. ولكن، تضافرت عدة عوامل على فشل المشروع الفرنسي:
أ. كان الباب العالي، وهو في صدد إحكام قبضته على ولاياته، يعارض عودة الشهابيين إلى الحُكم، على أساس أن ذلك يشبه منح لبنان حكماً ذاتياً، لن يلبث أن يؤدي إلى الاستقلال.
ب. كانت الحكومة البريطانية غير موافقة على عودة الشهابيين، الذين سيصبحون، من وجهة نظرها، أدوات طيّعة في يد القنصل الفرنسي. إلا أنها كانت توافق على إعادة الوحدة إلى الجبل، على أن تكون تحت حاكم عثماني. وحاول الفرنسيون إقناعها بقيمة التمسك بوحدة الجبل.
وعملوا على إرضائها، باستبعاد عودة الأمير بشير الشهابي الثاني الكبير، مرشحين للإمارة ابنه، الأمير أميناً. ولكن الشهابي المرشح، الذي كان قد اعتنق المذهب الكاثوليكي، ما لبث أن ارتدّ إلى الإسلام؛ وما كان الموارنة ليقبلوا أميراً مسلماً على كل لبنان.
ج. كان الأمير حيدر أبي اللمع، قائمقام الموارنة، ضد عودة الشهابيين إلى الحكم. ولم يُفلح القنصل الفرنسي في إغرائه بالمناصب، ليثنيه عن موقفه.
د. كان بعض الأُسَر المسيحية الإقطاعية القوية، تعارض عودة الأمير بشير الشهابي الثاني الكبير إلى الحُكم، وعلى رأسها آل الخازن، وآل حبيش.
هـ. كان الحزب الدرزي اليزبكي، يؤيد عودة الأُسْرة الشهابية إلى الحكم، ولكنه كان دون نظيره الجنبـلاطي قـوة، المعارض، بشدة، لهذه العودة، والمتمسك بتنفيذ تسويـة 2 سبتمبر 1844. وكان القنصل الإنجليزي، الكولونيل روز، يشد أَزْر الجنبلاطيين في موقفهم.
و. تشبث كلٌّ من الدروز والموارنة بموقفه. ورفض الموارنة أن يخضعوا للقائمقام الدرزي. وتدفقت الأسلحة والأموال إلى الموارنة، وصدرت إليهم التعليمات المشددة بوقف التعامل مع الدروز، وإلاّ تعرّضوا للعقاب.
وهكذا، وصلت الأمور إلى طريق مسدود. وانبرى الطرفان، الدرزي والماروني، يستعدان لحل الخلافات بالقوة.
ولم يكن أي من الجبهتين كتلة واحدة، متماسكة. فقد كان ثمة خلافات داخل كلٍّ منهما. ويمكِن أن نحدد ذلك التفكك، على النحو التالي:
أ. صراع دموي بين أُسْرتَي “الدحداح” و”حبيش”، المارونيتَين.
ب. توزُّع أُسْرة آل الخازن بين أكثر من تكتل داخلي.
ج. نزاع عميق، بين حيدر أبي اللمع والإقطاعيين الدروز.
د. اقتتال الزعامات الدرزية، بين الحين والآخر.
هـ . تحاسد الجنبلاطيين واليزبكيين.
وعلى الرغم من ذلك، كان اندلاع الصراع المسلح، بين الموارنة والدروز، يخفف حدّة الخلافات الداخلية، لتعلو صيحات التضامن والتكاتف، ضد الخطر الأكبر، ولا سيما لدى الدروز.
3. تصادم الموارنة والدروز، ودخول بقية الطوائف في الصراع
عقد زعماء الدروز، في 2 فبراير 1845، مؤتمراً موسعاً، في “المختارة”، خططوا فيه للحرب، حضره وكلاء عن اليزبكيين. بينما استعدت المدن والقرى المارونية لجولة جديدة، واتخذ الموارنة “عبيه” قاعدة عسكرية لهم.
وفي هذا الوقت الحرِج، استدعت السلطات العثمانية أسعد باشا من ولاية صيدا، ربما بإيعاز من الإنجليز، الذين كانوا يتهمونه بالميل إلى جانب الموارنة. بينما ذهب خليل باشا، في رحلة تفتيشية، إلى طرابلس. وبذلك، ابتعد هذان الرجلان، العارفان ببواطن الأمور، عن المنطقة، مما أحدث فراغاً، في هذا الظرف الدقيق، الذي كان يتطلب تدخلاً عسكرياً، لمنع التصادم المنتظر.
فلقد كانا يعتقدان، أنه من الضروري استخدام القوة، لفرض الحل الملائم. ولكن السلطات العثمانية، والحكومات الأوروبية، رفضت استخدام القوة لفرض حل ما، مما أعطى الفرص الواسعة، لأن يلجأ الطرفان المتنازعان، الموارنة والدروز، إلى السلاح، في غياب قوة ردع ملائمة.
بينما المصادر، البريطانية والعثمانية، تتجه إلى تحميل الموارنة مسؤولية البدء بالحرب، وأنهم أعلنوها حرباً صليبية، تهدف، في ما تهدف إليه، إلى إعادة بشير الشهابي الثاني الكبير إلى الحُكم، كانت الأمور قد وصلت إلى حدّ، لا يمكن السيطرة فيه على أي من الطرفين، فالحرب اللبنانية الاهلية واقعة، لا محالة. إذ هاجمت القوات المارونية، في أبريل 1845، وكان جزء منها بقيادة الإكليروس الماروني، بعض القُرى الدرزية، وأحرقتها. فردّت القوات الدرزية، هي الأخرى، بمهاجمة القُرى والمدن المارونية.
وما كاد القتال يبدأ، حتى دخل الروم الأرثوذكس المعركة، إلى جانب الدروز. وشجعهم على ذلك القنصل الروسي، بازيل. فقد كانوا يعتقدون، أن الموارنة، لو كسبوا الحرب، وتسلطوا عليهم، فسيعملون على إرغامهم، بكافة الوسائل، على الدخول في مذهبهم أو في الكاثوليكية. وكذلك، انضم إلى الدروز جماعات، من السُّنة والشيعة.
ولما اشتد القتال، بدا واضحاً، أن كفة الدروز هي الراجحة. وتوالت هزائم الموارنة، في “عبيه” و”دير القمر” و”جزين” و”زحلة” و”حاصبيا”. فبادروا إلى استنجاد القناصل. ولكن وجيهي باشا، والي صيدا، رفض التدخل في الصراع، متهماً الموارنة بأنهم هم المسؤولون عن نشوب القتال وانتشاره، في يوليه 1845.
وإذا كانت السلطات العثمانية راضية عما أصاب هذه المنطقة من فوضى، ليثبت للدول الأوروبية الكبرى، أن هؤلاء الناس، لا يمكنهم أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، وأن الحكم العثماني المباشر، هو الملائم لهم، إلاّ أنه كان لا بدّ لها أن تتدخل، لتوقف المذابح الطائفية، أولاً، ولتفرض سيطرتها الفعلية المباشرة، ثانياً.
ولهذا بعث الباب العالي شكيب أفندي، أحد كبار المسؤولين العثمانيين، لتنفيذ سياسة تؤدي إلى الاستقرار، وأن يكون حاسماً في ما يتخذه من إجراءات، مع مراعاة ما توصل إليه الأطراف المعنيـون مـن حلول، خاصـة ما يتعلق بالقائمقاميتَين. وبـذلك، يتنكر شكيب أفندي لتسويـة 2 سبتمبر 1844.
وقد أعلن المبعوث العثماني، في يوليه 1845، خطته، على النحو التالي:
أ. امتناع القناصل عن التدخل في شؤون البلاد، على أساس أنهم يتحملون جانباً رئيسياً من مسؤولية الاضطرابات الدموية، والعقبات العديدة التي وضعت في طريق الوصول إلى تسوية ما.
ب. الانصراف عن تسوية 2 سبتمبر 1844.
ج. سيطرة القوات العثمانية على الجبل، وتجريدها سكانه من الأسلحة.
د. دفع جزء من التعويضات إلى الموارنة.
هـ. إعادة تنظيم الإدارة والأمور القضائية في الجبل وتطويرها.
ومع أن الدروز والموارنة والقنصل الفرنسي، قابلوا مجيء شكيب أفندي، الذي تدعمه قطع بحرية حربية عثمانية، بحذر شديد، إلاّ أنه مضى في مهمته، فألقى القبض على القائمقامَين، الدرزي والماروني، ووزع التعويضات على بعض المؤسسات الكاثوليكية، ثم قدَّم مشروعه لإدارة الجبل، ذلك المشروع الذي نسب إليه.
ويتضمن مشروع شكيب أفندي القواعد الرئيسية التالية :
أ. أن يستمر نظام القائمقاميتَين.
ب. أن يكون لكل قائمقامية مجلس، على شاكلة المجالس الموجودة في سائر أنحاء الدولة العثمانية، لمعاونة القائمقام.
ج. أن يضم مجلس القائمقامية:
(1) وكيل القائمقام.
(2) قاضياً مسلماً سُنِّياً.
(3) قاضياً درزياً.
(4) قاضياً مارونياً.
(5) قاضياً أرثوذكسياً.
(6) قاضياً كاثوليكياً.
(7) مستشاراً مسلماً سُنِّياً.
(8) مستشاراً درزياً.
(9) مستشاراً مارونياً.
(10) مستشاراً أرثوذكسياً.
(11) مستشاراً كاثوليكياً.
(12) مستشاراً شيعياً.
وقد تحددت مسؤولية كل مجلس، بتوزيع الضرائب المفروضة على البلاد، والنظر في شكاوى الأهالي ودعاواهم. وقد وضعت ترتيبات محددة، للنظر في هذه القضايا.
ويعكس نظام شكيب أفندي الوقائع التالية:
أ. أنه خلق إدارة ذاتية، في قسمَي الجبل، وإنْ أبقى للسلطات العليا العثمانية اليد العليا فيهما.
ب. أنه محاولة لعبور الأزمة الطائفية، من طريق مجلس مختلط، يضم عناصر من مختلف الطوائف، فرض عليها أن تعمل متعاونة فيما بينها.
ج. أنه نظام يرسّخ الطائفية، على الرغم من محاولته التخفيف من حدّة الأزمة الطائفية.
د. أنه لم يحل مشكلة المناطق المختلطة حلاً جذرياً.
هـ. أن هذا النوع من الإدارة كان ضربة قاسية للنظام الإقطاعي، ونفوذ الإقطاعيين.
ومهما كانت عيوب نظام شكيب أفندي، فإنه استطاع أن يعطي للجبل فرصة واسعة من الهدوء، ونوعاً من الاستقرار المؤقت؛ إذ إن كافة الأطراف، كانت تنظر إلى هذا النظام بعين الريبة والشك. وما تقبّلها له إلاّ لإرهاقها ونفاد طاقاتها.
كذلك، ساعدت الظروف الدولية على استقرار نظام شكيب أفندي، فترة طويلة. فبعد مرور عامَين على تطبيقه، شهدت أوروبا سلسلة ثورات (1848)، في فرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا والمجر وبولندا. ولم تلبث حرب القرم أن وقعت (28 مارس 1854 ـ 1 فبراير 1856)، تلك الحرب التي دخلتها فرنسا وإنجلترا إلى جانب الدولة العثمانية، ضد روسيا، فكان طبيعياً أن تخف حدّة التدخل الأوروبي في شؤون الدولة العثمانية، على الأقل ريثما تنتهي تلك الحرب؛ إذ كان من مصلحة بريطانيا وفرنسا، أن تتهيأ للدولة العثمانية، خلال تلك الحرب اللبنانية الاهلية ، أوسع الفرص لتجميع قواها، ضد روسيا، العدو المشترك.
فهدأ نشاط القناصل الإنجليز والفرنسيين وسكنت، إلى حدّ ما، التحريضات الصليبية، التي كان يتبناها العديد من الأجانب. ومن ناحية أخرى، كان الدروز، والمسلمون بصفة عامة، قد رأوا أن الحرب الروسية ـ العثمانية، تتطلب منهم التكاتف مع الدولة العثمانية.
ولكن، بينما كانت قائمقامية الدروز أكثر هدوءاً، خلال حرب القرم وفي أعقابها، كانت الأمور تتطور، داخل القائمقامية المارونية، تطوراً جديداً، أدى إلى ما عُرف بثورة الفلاحين ضد الإقطاعيين (1858)، تلك الثورة التي ستؤدي إلى “حوادث الستين” أو مذابح الستين، بين المسلمين والمسيحيين.
الحرب اللبنانية الاهلية الثالثة ودور الانتماءات الطبقية
ثورة الفلاحين و”حوادث الستين” (1858 ـ 1860)
كانت أحوال الجبل، في القائمقاميتَين، هادئة، في أعقاب تطبيق نظام شكيب أفندي، وتمتُّع القائمقامَين، الماروني والدرزي، بنوع من الحكم الذاتي. ومع أن مشكلة المناطق المختلطة، لم تحَل حلاً جذرياً. إلا أن هذا الحكم الذاتي، أعطى الجبل فترة من الراحة والهدوء، ساعدت على نمو اقتصاده، وأتاحت فرصاً للتأمل في أوضاعه، السياسية والاجتماعية، مما أسفر عن انحسار المشكلة، السياسية والطائفية، إلى حين، وظهور التيارات الاجتماعية والاقتصادية.
وقد تعرضت المنطقة لتطورات اقتصادية مهمة، خلال خمسينيات القرن التاسع عشر. إلا أن هذه التطورات، كانت أكثر وضوحاً في القائمقامية المسيحية، منها في القائمقامية الدرزية؛ إذ كانت الأولى أكثر تقدماً وانفتاحاً، واستطراداً، أكثر تأثراً بالتطورات، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
كان نظام القائمقامية يضع الحُكم في يد القائمقام والديوان (المجلس). وبموت القائمقام الماروني، حيدر أبي اللمع، تطلع إلى المنصب اثنان من الأُسْرة عينها، هما بشير عساف وبشير أحمد. واستطاع ثانيهما أن يفوز بالمنصب، يدعمه القنصل الفرنسي، دو ليسبس. بينما كان القنصل الإنجليزي، مور، يدعم بشير عساف.
شعر بشير أحمد بأن سلطاته، ستظل مقيدة، ما دام الإقطاعيون متمتعين بامتيازاتهم. وشعر هؤلاء، بدورهم، أن هذا النظام، يهدد مكانتهم وسلطاتهم. وبذلك، بدأ صراع بين الطرفين، كان يتبع الطرق السلمية، أول الأمر، عبْر رفْع الشكاوى إلى والي صيدا العثماني.
ولكن بشير أحمد، كان رجلاً قوياً، ولم يكن آل الخازن، كبرى الأُسَر الإقطاعية في كسروان، بأقل منه صلابة، إذ كانوا يدافعون عن مواقع أقدامهم، التي اهتزت، من قبْل، غير مرة. وبمعنى آخر، يمثل الصراع بين القائمقام والإقطاعيين، صورة من صور الانتقال من الحُكم الإقطاعي، إلى الحُكم الفردي المستبد. وكان بشير أحمد، فعلاً، من الحكام الساعين إلى تركيز السلطة في أيديهم، وإلى إشعار الرعية، أنه صاحب اليد العليا في الحكم والإدارة.
وبحثاً عن قوة ضاربة، يستطيع كل من الطرفين استخدامها، لإحراج مركز الآخر، عمد القائمقام والإقطاعيون إلى استخدام الفلاحين. وبدا الإقطاعيون في مكانة أقوى، بسبب كراهية الفلاحين القائمقام، لتشدُّده في جمْع الأموال الأميرية منهم، في وقت كانت فيه البلاد تعاني أزمة اقتصادية، أثقلت كواهلهم، وزادت من تدهور أوضاع الإقطاعيين الاقتصادية، في حين نمت البورجوازية في المدن والموانئ. ولهذا، اتجه الإقطاعيون إلى تعويض خسائرهم المادية، من طريق زيادة الضغط على الفلاحين، بل صادروا دخولهم المحدودة.
وإذا كان الإقطاعيون قادرين، بما كان لديهم من سلطات، على تحريك الفلاحين ضد القائمقام، بشير أحمد. فقد كان القائمقام، بدوره، يستطيع أن يحرك قطاعات، لها قدرتها، ضد الإقطاعيين، مستغلاً ما كان يعانيه الفلاحون من جراء التقاليد الإقطاعية، التي كان يتمسك بها الإقطاعيون، ومن أهمها:
1. تقديم الهدايا والهِبات إلى الإقطاعيين، في المواسم والأعياد.
2. الرسوم الإضافية، التي يجبيها الإقطاعيون من الفلاحين. وهي إن كانت مقبولة، قبْل القرن التاسع عشر، فإنها أصبحت مرفوضة، لعدة تطورات حدثت في ذلك القرن، وأهمها مبدأ المساواة، الذي طبقته الإدارة المصرية، وسارت عليه الدولة العثمانية، بإصدارها خط كلخانه (1839) والخط الهمايوني (1856).
3. أن يكون للإقطاعي، ولأُسْرته، نوع من السيادة على الفلاحين، قد تصل إلى حدّ علاقة السيد بالتابع، وهو ما لم يقبَله الفلاحون، خلال تلك الفترة.
في هذه الظروف، أصبح الفلاحون أدوات في يد القائمقام والإقطاعيين، لتحقيق أهدافهما الخاصة، من دون مراعاة لمصالح الفلاحين، الذين ساءت أوضاعهم الاقتصادية، مما حملهم على إعادة النظر في دورهم.
أدى اعتماد القائمقام والإقطاعيين، في منازعاتهما، على الفلاحين، إلى إشعار هؤلاء بقوّتهم، وبحقوقهم، التي كفلها لهم القانون العثماني: المساواة والحرية الاجتماعية. وهكذا، بدأت الأمور تخرج من أيدي الطرفين المتنازعَين، وبدأت الثورة الاجتماعية تتلظى.
وأسفر الانفتاح الاقتصادي على أوروبا، عن نمو الطبقة البورجوازية، وانتعاش بيروت وبعض المدن الصغيرة. ورأت هذه الطبقة البورجوازية الرأسمالية، المعروفة بعدائها الشديد للإقطاعيين، في نقمة الفلاحين على هؤلاء، فرصة للقضاء على الامتيازات الإقطاعية، فبادرت إلى التعاون مع هؤلاء الناقمين.
ولا شك أن المستوى الثقافي، الذي بلَغته البورجوازية الحديثة، كان من العوامل الجوهرية، التي ساعدت على نمو روح الثورة لدى الفلاحين؛ إذ كانت الثقافة الغربية قد انتشرت بين تلك البورجوازية، ومن أبرز ممثليها، حينذاك، ناصيف اليازجي، وبطرس البستاني، والجمعيات، الأدبية والفكرية، التي أخذت تظهر في المدن الرئيسية.
ومع أنها لم تدعُ إلى مبادئ ثورية، إلا أنها نبّهت الأذهان للقِيم الإنسانية الجديدة، التي تحترم الإنسان، وتقدّس حريته، وتنادي بمبدأ المساواة، على الطريقة الفرنسية.
ومع شعور الفلاحين بقدرتهم على التحرك، دفاعاً عن مطالبهم، تهيّأ المناخ العام، لظهور نوع من القيادات، والتجمعات القيادية، لتتولى مسؤولية ذلك التحرك. ولقد سبق للفلاحين أن اختاروا وكلاء عن كل قرية. فكان ذلك سابقة حذا حذوها الثوار الفلاحون، عام 1858.
فاختارت زحلة شيخ شباب، وشكلت مجلساً بلدياً، وامتنعت عن طاعة الإقطاعيين اللمعيين. ومثلها فعلت غزير. واستشرت الفكرة، حتى أصبحت الحركة في حاجة إلى قائد.
كان الفلاحون قادرين على إفراز قيادة، تحاور الإقطاعيين. كذلك، كانت البورجوازية الصغرى مستعدة لتقديم الزعامة، التي تستطيع أن تقف موقف الند أمام الإقطاعيين، وتحظى، في الوقت عينه، باحترام الفلاحين، كزعامة صالح جرجس صفير، من عجلتون، وحبيب الخوري العقيقي، من كفرذبيان. ولكن الانتماء الطبقي البورجوازي، جعل هذه الزعامة معتدلة، وغير مستعدة لقيادة الثورة الفلاحية إلى أقصى مطالبها، بل آثرت الحلول الوسط.
ومثل هذه الزعامة، يمكِن أن ينجح في اتجاهاته المعتدلة، إذا ما وجد لدى خصومه الإقطاعيين شيئاً من اللين، والقدرة على تفهّم حقيقة الأوضاع الجديدة.
إلا أن الإقطاعيين، شأنهم شأن غيرهم من الأرستقراطية التقليدية، كانوا غير قادرين على إدراك حقيقة التغير الاجتماعي، وتمسكوا بما يرونه حقوقاً موروثة، مما أدى إلى دفْع الحركة الفلاحية إلى التطرف، وإفراز زعامة فلاحية صعبة المراس، لا تعترف للإقطاعيين بأي امتيازات، وتطالب بحقوق الفلاحين القانونية، بل ترى أن الممتلكات الإقطاعية، هي حق من حقوق الشعب، اغتصبها هؤلاء الإقطاعيون.
ولهذا، مهد فشل صالح جرجس صفير وحبيب الخوري العقيقي، في التوصل إلى تسوية معتدلة مع آل الخازن، على الرغم من اتساع نطاق الثورة الفلاحية على الإقطاعيين، إذ شملت “ريفون” و”القليعات” و”عشقوت” و”داريا” و”جعيتا” و”غزير” وغيرها ـ مهد الطريق نحو انتقال زعامة الحركة إلى طانيوس شاهين، من ريفون، وكان معروفاً بشدة عدائه للمشايخ الإقطاعيين.
1. دور الكنيسة المارونية في حل الأزمة
سعت الكنيسة المارونية، أو الإكليروس الماروني، الذي كان على رأسه، حينذاك، البطريرك بولس مسعد، إلى وضع حدّ للأزمة بين الفلاحين والإقطاعيين، من طريق التوصل إلى حل وسط. لقد كان الفلاحون يتطلعون، فعلاً، إلى الإكليروس الماروني، ليكون وسيطاً بينهم وبين الإقطاعيين. ولكن هؤلاء تشبثوا بما اعتادوا من سلطات، ففشلت الوساطة.
وثمة من يرى أن الإكليروس، كان مرتاحاً لتلك الثورة الفلاحية، لأنها ستقضي على زعامات البيوت القديمة، مما يتيح للكنيسة الانفراد بالتوجيه السياسي للمنطقة، فتصبح مقدراتها في يد الإكليروس.
كان رجال الدين الموارنة، أقدر على التفاهم مع الفلاحين، لمقاومة الأُسْر الإقطاعية ومناوأتها لهم. وبدا من الطبيعي تعاطف الإكليروس مع الفلاحين. بل إن وقوف الكنيسة، خلال تلك الأزمة، بين الإقطاعيين والقائمقام، بشير أحمد، يعني أنها تسعى إلى تحطيم الإقطاع، إذ من مصلحتها أن تكون البلاد تحت حكم واحد مسيطر، وليس تحت قوى حاكمة متعددة، تعرّض المنطقة لخلافات، تحدّ من نشاط الإكليروس؛ فالمستقبل للحُكم الأكثر ديموقراطية، والذي يراعي مصالح الفلاحين، ويزيل معوّقات الاتصال المباشر بين الكهنوتيين والشعب.
وليس معنى هذا، أن الكنيسة المارونية، كانت راغبة في ثورة فلاحية. وإنما هي تسعى إلى التوفيق بين الفلاحين والإقطاعيين، بشكل يحفظ للفلاح حقوقه، ويبقي للأُسَر العريقة نوعاً من التفوّق الاجتماعي التقليدي، حتى يمكِن تطويق الأزمة، والحيلولة دون انفجار ثوري، لا يمكِن السيطرة عليه، واستطراداً، الحفاظ على تماسك الجبهة المارونية.
ومع أن وكلاء الفلاحين، كانوا أكثر استجابة لجهود الإكليروس التوفيقية، فإن الإقطاعيين أخذوا على الكنيسة المارونية، أنها لم تعلن انحيازها الكامل إليهم، ناسية أن كثيراً من ممتلكاتها، كانت بفضل هِباتهم، فضلاً عن أياديهم البيضاء عليها؛ إذ طالما اضطلع آل الخازن بدور حُماة الكنيسة. أما وقد وقعوا في ورطة، فعلى الكنيسة أن تنحاز إليهم، اعترافاً بدورهم. ولكن الإكليروس الماروني، كان يدرك أن عصر الإقطاع والإقطاعيين قد ولّى.
وتوالت الاجتماعات، التي عقدها الإكليروس مع وكلاء الفلاحين، ومع الإقطاعيين. وعلى الرغم من أن مطالب الفلاحين كانت متواضعة، فقد رفضها الإقطاعيون. وإثر بعض الحوادث المتفرقة بين الجانبين، أدرك آل الخازن وغيرهم من الإقطاعيين، خطر التكتل الفلاحي الذي يواجههم.
فجمعوا صفوفهم، واتخذوا من “غوسطا”، قاعدة لهم، تمهيداً لشن هجوم على مَعاقِل الفلاحين، وعلى القُرى التي رفضت طاعتهم. وأصبحت المواجهة العسكرية أمراً، لا مفرَّ منه، فبات التطرف من جانب “وكلاء” القُرى هو طابع الحركة الفلاحية. وتمثَّل ذلك في تولِّي طانيوس شاهين قيادة قطاعات مسلحة من الفلاحين، استطاعت أن تطرد آل الخازن من كسروان، وأن تستولي على أراضيهم. فدخلت الأزمة، (أواخر 1858 ـ أوائل 1859)، في طور جديد.
وكان طانيوس شاهين، على الرغم مما نُعِتَ به من عنف وقسوة، على بيِّنة من بعض المبادئ، ذات الطابع الديموقراطي، إذ كان يرى أن الوقت قد حان لأن يكون “الجمهور” هو صاحب الكلمة العليا في البلاد، وأن يرفع الإقطاعيون، نهائياً، يدهم عن الفلاحين.
ومن أهم الوثائق، التي تكشف طبيعة أهداف حركة الفلاحين، رسالة بعث بها بعض القُرى الثائرة إلى البطريرك، بولس مسعد، في 17 يناير 1859، حدد فيها الثوار مطالبهم، التي عكست عدداً من الوقائع، من أهمها:
أ. إن الفكر الديموقراطي، القائم على أساس المشاركة الشعبية، كان واضحاً في أذهان الثوار، وخاصة المطالبة بوضع وكيل، أو وكيلَين، للعمل إلى جانب المأمور، والمساواة والحرية، وإلغاء كافة الرسوم غير القانونية، أو الإقطاعية.
ب. إن الثوار كانوا معتدلين، إذ حافظوا على بعض امتيازات المشايخ. ولكنهم أصروا على أن واحداً فقط من الأُسْرة الإقطاعية، هو “المأمور”. وأنه هو، وحده، يتمتع، بنوع من الامتيازات. والباقون تسري عليهم القوانين، التي وضعتها الدولة.
ج. إن الفلاحين اعترفوا بقيمة الإصلاحات العثمانية.
د. إن هذه الوثيقة، قدِّمت إلى البطريرك الماروني، اعترافاً من زعماء الثوار، بأنه فوق المنازعات القائمة.
ولقد أصبح، فعلاً، دور الكنيسة جوهرياً في حل المشكلة. وأصبح الطريق أمام نجاحه في الوساطة، مفتوحاً، بسبب اعتدال مطالب الفلاحين. ولعل هذا هو سبب تخلِّي الإكليروس عن طانيوس شاهين.
وعلى أي حال، فقد توصلت الكنيسة المارونية إلى اتفاق مع الفلاحين، أدى إلى عودة آل الخازن إلى كسروان، ولكن بعد أن كانت الضربة، التي وجِّهت إلى سلطاتهم الإقطاعية، قوية إلى درجة، تهاوت معها، بسرعة، منذ ذلك التاريخ، بقايا النظام الإقطاعي، لتحل محله البورجوازية الرأسمالية الحديثة.
2. “حوادث الستين” ( 1860 )
أ. دور القوى الكبرى في إثارة الطائفية
ما كادت ثورة الفلاحين تخبو، حتى استعرت نار الفتنة الطائفية، بين الدروز والموارنة؛ إذ تبيَّن للدول الأوروبية، أن الدولة العثمانية أضعف من أن تقف في وجْه الضغوط المتصاعدة، سواء من الخارج أو من الداخل. ولولا بريطانيا وفرنسا، لانهارت على يد روسيا، خلال حرب القرم (1854 ـ 1856). أما السلطات العثمانية، فسارعت إلى إصدار الخط الهمايوني (1856)، عساه يرفع نُظُمها إلى مستوى العصر، فتعامِلها الدول الأوروبية باحترام. إلاّ أن الضغوط الأوروبية، استمرت على ولايات الدولة العثمانية، فضلاً على حكومتها المركزية، وذلك بسبب تصاعد المصالح والأطماع الأوروبية المتضاربة فيها.
فقد كانت فرنسا قد دخلت في عهد جديد، من الآمال التوسعية، منذ ارتقى عرشها نابليون الثالثNapoleon III، الذي كان يعاني معارضة الحزب الإكليريكي، في داخل فرنسا. فسعى إلى أن يتطرف في أعمال، تثبت حرصه على الكاثوليكية، فيكسب تأييد هذا الحزب القوي. لذلك، يرى بعضهم، أنه لو لم يفتعل نابليون الثالث تحريض الموارنة ضد الدروز، لوجد في صراعهما، على الأقل، فرصته، ليظهر في دور المدافع عن حقوق المسيحيين في الشرق. بل إن ثمة مَن اتَّهمه بإثارة مشكلة كبرى في الشرق، أهدر فيها الكثير من دماء المسيحيين، مع أنه كان من الممكن تجنّبها.
ومِثل هذه السياسة الفرنسية، لا ينظر إليه، عادة، من زاويته الاقتصادية فحسب، وإنما إلى كونه تمهيداً منطقياً لاستيلاء الفرنسيين على مصر، كذلك، وهو ما حال دونه المعارضة البريطانية الشديدة. فكان مشروع شق قناة السويس من المشروعات العملاقة، التي حملت كثيراً من مؤيدي السياسة الفرنسية على الاعتقاد، أن، البحر الأبيض المتوسط، سيصبح بحيرة فرنسية، وأن على فرنسا أن تضطلع بدورها الحضاري في الشرق العربي. كان هذا، وفرنسا تنتقل من نصر إلى نصر. فبعد حرب القرم، خاضت حرب الوحدة الإيطالية، إلى جانب الإيطاليين، ضد الإمبراطورية النمساوية، وخرجت منتصرة (1859). وأخذت أقدام فرنسا تتوطد في البحر الأحمر، عند جيبوتي.
استغل نابليون الثالث الفرص المتاحة كافة، للظهور بمظهر البطل، في نظر شعبه، التائق إلى زعيم بطل. فتلقّف العلاقة الخاصة بين الموارنة وفرنسا، القائمة على الفكر الصليبي، والرغبة في أن تعود الشام كلها، يوماً ما، إلى مسيحيي أوروبا. وكان قناصل فرنسا، يرون أن الموارنة، هم مفتاح العودة إلى الشام. وكانت الشواهد، السياسية والعسكرية، ترسّخ هذه الاتجاهات لدى القناصل الفرنسيين، ولدى بعض أعضاء الكنيسة المارونية. فلقد استولت فرنسا على الجزائر، ونفت أميرها، عبدالقادر الجزائري، إلى دمشق، وتقدمت بمشروع شق قناة السويس، وحصلت على موافقة خديوي مصر عليه (1854 ـ 1856).
دفع النشاط الفرنسي، الواسع النطاق، المؤيدين لفرنسا، في لبنان والشام، إلى الإقدام على خطوات مشحونة بالتعصب للمسيحية، مستندين إلى قوة باريس ومساعدتها لهم ومدافعتها عنهم، عند اللزوم. ولقد كانت المؤسسات الدينية، ولا سيما “الجزويت”، أو اليسوعيين، لا تترك فرصة، من دون أن تستغلها في ترسيخ الفكر الصليبي بين الموارنة.
وكان الإكليروس الماروني، قد أصبح بابويَّ التعليم والثقافة. ومن ثَم، كان كثير من رجاله مستعدين لقبول الفكر الصليبي، على أساس أنه حجر الزاوية في تحديد مستقبلهم في المنطقة. وهكذا، كانت الطائفية تزداد عمقاً، حينما أصبح الجبل يتمتع بنوع من الحكم الذاتي.
ومن الناحية الاقتصادية، كان لفرنسا مصالح متصاعدة الأهمية. وزاد من دفعها نحو المنطقة تقدُّمها الاقتصادي، إذ باتت تجني ثمار الثورة الصناعية، التي بدأتها في أعقاب الحروب النابليونية. حقيقة، أن قصب السبق، في الثورة الصناعية، كان لبريطانيا، وأن باريس دخلتها متأخرة عن لندن.
ولكن اقتصاديات فرنسا المتوازنة، وإطلالتها على البحر الأبيض المتوسط، وكونها أكبر دولة في حوضه، ورسوخ إحدى قدمَيها في الجزائر، وتمهيدها للأخرى في مصر والشام ـ كل ذلك، جعل منطقة “لبنان” مجالاً حيوياً للسياسة التجارية، وللتطلعات الاحتكارية الفرنسية.
وأسفرت هذه السياسة عن منافسة قوية، بين فرنسا وبريطانيا، حول خطوط المواصلات العالمية، عبْر المشرق العربي. ودخلت فرنسا طرفاً في مشروعات الخطوط البرية، بين ساحل الشام والعراق، في مواجَهة مشروعات بريطانية مضادّة.
وبنمو الاقتصاد الفرنسي، تزايدت حاجة فرنسا إلى الحرير اللبناني، المتوافر في موانئ، بيروت وصيدا وطرابلس. ولهذا كانت الرأسمالية الفرنسية الصناعية، تلحّ على الحكومة الفرنسية في بذْل قصارى جهدها، من أجل السيطرة على الأسواق الشامية لتجارة الحرير والقطن، أو على الأقل، أن يكون نظام الحُكم في الشام ملائماً للأهداف الفرنسية، السياسية والاقتصادية.
وكانت هذه التطلعات الاقتصادية وراء الدعوات العديدة، التي تردَّدت في الدوائر الفرنسية، إلى إنشاء إمبراطورية عربية، في المشرق العربي، تكون برئاسة الأمير عبدالقادر الجزائري. ولكن، يصعب على فرنسا أن تحقق أهدافها، إلا إذا وطدت نفوذها في الشام، بدعم الموارنة، مادياً وثقافياً وعسكرياً. واستطراداً، كان استمرار تصعيد الخطر الدرزي، بصفة خاصة، والإسلامي، بصفة عامة، يحمل الموارنة على زيادة اعتمادهم على فرنسا، ومن ثم، إتاحة فرص أوسع لها، كي تضع قدَمها في الشام.
وكانت الحكومة الإنجليزية، تقف بالمرصاد للتحركات الفرنسية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في منطقة الشرق الأوسط. فقاومت مشروع الدولة العربية، ومشروع شق قناة السويس، وزادت ارتباطها بالدروز.
ومهْما كانت أوجْه نشاط هاتَين الدولتَين الاستعماريتَين المتنافستَين، فإن اهتزاز الوضع، الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، في منطقة الجبل، كان العامل الرئيسي وراء فتح أبواب التدخل الخارجي. أما العوامل، التي جعلت المنطقة برميل بارود، فأهمها:
(1) توافر السلاح في أيدي أهل الجبل، وتحوُّل بيروت إلى مركز ناشط للاتّجار فيه.
(2) الصراع الطائفي كان قد خبا. ولكن، أمكن الفكر الطائفي إعادة استعاره، بتضخيم الأزمات، واستخدام الفكر الديني في المنازعات المحلية، مما يثير العامة، وإسناد القيادات المحلية إلى المتطرفين، مما يعقد الموقف.
وكانت السلطات الحاكمة، سواء القائمقاميتان أو السلطات العثمانية ـ هي المسؤولة عن تلافي مثل هذا الانفجار المتوقع، بالعمل على اقتلاع جذور الفتنة، قبل أن تتفرع. ولكن كلاًّ من هاتَين السلطتَين، كان يعوزها:
(1) القوة المسلحة، التي تمكّنها من تنفيذ خطتها.
(2) الاحترام اللازم، لكسب ثقة الناس؛ إذ أظهر الصراع بين القائمقام الماروني، بشير أحمد، والإقطاعيين الموارنة، أن القائمقام ضعيف، إزاء تفوّق خصومه.
وكان والي صيدا، خورشيد باشا، محيطاً بما كان يدور في الجبل. وهمَّ، غير مرة، بالتدخل في النزاع، بين الفلاحين والمشايخ، ولكنه خشي أن يتّهمه الأوروبيون بانتهاك الاستقلال الذاتي للجبل، بتدخله في شؤونه. وهكذا، بدا القائمقام ووالي صيدا، السلطتان الشرعيتان، عاجزتَين عن حُكم الموارنة. وعلى العكس من ذلك، كانت قائمقامية الدروز هادئة.
ب. دور السلطة العثمانية في توتر العلاقة بين الدروز والموارنة
تضمنت تقارير القناصل الأوروبيين العديد من الاتهامات، الموجَّهة إلى الموظفين الأتراك، بأنهم مسؤولون عن تزايد الأزمات بين الدروز والموارنة، وبمعاملتهم الموارنة معاملة غير طيبة، كردّ فعل للمشاعر الإسلامية، الساخطة على النشاط التبشيري في البلاد العربية، والتدخل الأوروبي، في مصلحة المسيحيين، في الدولة العثمانية، وتوالي الضغط الاستعماري على هذه الدولة والبلاد الإسلامية.
وكانت السلطات العثمانية ترى الأزمات، بين الفلاحين والإقطاعيين، في القائمقامية المارونية، دليلاً على أن الحُكم العثماني المباشر، هو الحُكم الملائم لهذه المنطقة.
في هذه الظروف، وقعت التصادمات الأولى، بين الموارنة والدروز، قرب بيروت، بينما كانت الجهود تكلَّل بالنجاح، للتوفيق بين الفلاحين الثوار والإقطاعيين الموارنة. وجاء في تقرير للقنصل الإنجليزي، مور، إلى السفير البريطاني، في الآستانة، في 31 مايو 1860: “إن القتال بدأ بهجوم فريق من مسيحيي المتن، على قريتَي “صليما” “وقرنايل”، المختلطتَي السكان، وطردوا سكانهما الدروز. أما الدروز، فأغاروا على قرية بيت مري، وأحرقوا دار الأمير. وفي اليوم التالي، أضرموا النار في عدة قُرى، في المتن وسهل بيروت.
ومن الشائع، أن الجنود الأتراك، اشتركوا في النهب والسلب، والاعتداء على المسيحيين. وقد أحرقت أيضاً دُور الشهابيين … إن كل “المتن”، وهو أكثر أنحاء لبنان ثراء، وأكثرها سكاناً، قد أكلته نار المسيحيين والدروز”.
وإذا كانت المشاعر الطائفية المتأججة، هي المسؤولة عن التصادم الطائفي، فإن الصراع الطبقي، كان مسؤولاً، كذلك، عن انتشار الصراع الطائفي. فحينما تناهت أنباء الأزمة بين الفلاحين والإقطاعيين الموارنة، إلى أسماع الدروز، في “الشوف”، خشوا من ثورة مماثلة، في منطقتهم. وما لبثت العلاقات أن توترت بين الإقطاعيين الدروز ومَن في بلادهم من الموارنة، الذين أصبحوا يتطلعون إلى التخلص من القيود الإقطاعية، وإلى إعلان ثورة فلاحية ضد الاستبداد الإقطاعي الدرزي.
لقد كانت المعارك دموية. واتسع نطاق التخريب والتدمير. وامتدت الأحداث من لبنان إلى دمشق. وجاء من حوران وحدات درزية قوية، لشد أزْر دروز الجبل. فأمسى موقف الموارنة حرِجاً، حتى أصبحت الحوادث، في نظر القناصل، مذابح للمسيحيين، بل إن بعضهم سماها: “مذابح الستين”.
وبينما كان القناصل يحتجون، بشدة، على موقف خورشيد باشا، والي صيدا، السلبي، أحياناً، والمعادي للمسيحيين، أحياناً أخرى، كانت الجبهة المارونية تتدهور بسرعة. بيد أن خورشيد باشا، بادر إلى حث الطرفين على وقف القتال، ونجح في التوصل إلى صلح، وقعه عدد محدود من أعيان الطرفين، في 6 يوليه 1860، ينص على:
(1) وقف القتال، من دون تأخير. وعودة الوئام بين الطائفتَين. وعدم مطالبة أي طرف بتعويضات.
(2) احترام النظام الإداري المطبّق في الجبل. وكذلك، احترام موظفي القائمقاميتَين، حتى يتأتّى لهم القيام بواجبهم.
وهكذا يكون خورشيد باشا، قد حرص على أن يحافظ على الوضع الرسمي القائم، من دون أن يقدِم على حل جذري للقضية؛ إذ إنه لا يستطيع ذلك، فضلاً عن كونه متهماً بالمشاركة في تلك الأحداث، إلى جانب الدروز. ولكن الحكومة العثمانية، كلفت وزير خارجيتها، فؤاد باشا، بأن يسرع، على رأس جيش قوي، إلى السيطرة على الموقف.
وما كان إرسال فؤاد باشا، على عَجَل، إلاّ إحباطاً للحملة، التي اعتزمت الدول الأوروبية إرسالها إلى الشام. وهي خطة تزعمتها فرنسا، وطرحتها، بكل قوة، على المجتمع الأوروبي، الذي كان يرحب بذلك الدور. وعلى الرغم من التباين في مواقف الدول الأوروبية، فإنها كانت متوافقة على ألاّ تعود السيطرة العثمانية المباشرة إلى الجبل، وأنه لا بدّ من إجراء أوروبي ضد المسلمين في الشام.
وأجرت الدول الأوروبية الكبرى مشاوراتها (إنجلترا ـ فرنسا ـ روسيا ـ النمسا ـ بروسيا)، في شأن الحملة العسكرية الفرنسية، لتسكين الأحوال في الشام. وكانت مناورات بريطانيا، خلال هذه المشاورات، متركزة في الحؤول دون حصول فرنسا على أي مكاسب، تتأتّى من جهدها العسكري في الشام. ولذلك، وافقت لندن، للتحكم في عمل الحملة الفرنسية، المزمع إرسالها إلى الشام، على:
(1) أن يكون استدعاؤها، في حالة عجز القوات العثمانية، تحت قيادة فؤاد باشا، عن السيطرة على الموقف.
(2) أن ترسل القوات (الأوروبية) إلى الشام، بناء على اتفاقية دولية، توقعها الدول الأوروبية الكبرى.
(3) ألاّ تبقى القوات (الأوروبية)، التي تستخدم في تسكين الأمور في الشام، أكثر من ستة أشهر، حتى لا تتحول تلك المساعدة العسكرية إلى احتلال فرنسي.
وأدت المفاوضات، في نهاية الأمر، إلى اتفاق، وقعته الدول الكبرى، في شأن تحديد أسلوب عمل القوة الأوروبية (الفرنسية) في الشام، على النحو التالي:
(1) إرسال قوة أوروبية إلى الشام، يكون نصف عديدها من الفرنسيين.
(2) اتفاق قائد الحملة، عقب وصولها إلى الشام، مع القائد العثماني، على أسلوب التحرك والعمل.
(3) تعهد الدول الأوروبية الكبرى (فرنسا ـ روسيا ـ إنجلترا ـ بروسيا ـ النمسا)، بدعم الحملة.
(4) بقاء الحملة في الشام، لا يزيد على ستة أشهر، على أن يقدِّم إليها الباب العالي المساعدات والتسهيلات.
وقد عنى ذلك أن الحملة، التي تقرر إرسالها إلى الشام، ليست حملة فرنسية، من الوجهة الرسمية، وإنما هي حملة أوروبية. وبذلك، أُرضيت فرنسا، بأن أعطيت الفرصة لتتولى هي إعدادها؛ وهو اعتراف ضمني بأن لها مطالب خاصة في الشام، تفُوق ما لغيرها من الدول الأوروبية.
كما أُرضيت بريطانيا بكون الحملة غير مقتصرة على فرنسا، وأن تحركاتها، قُيدت بالتفاهم بين قيادتها والسلطات العسكرية العثمانية، الأمر الذي يحدّ من سلطة القادة الفرنسيين. فضلاً عن أنه أصبح من المستبعد جداً، أن يتمكن الفرنسيون من تحويل مهمة هذه الحملة، إلى قوات احتلال.
وما أن وصلت الحملة الفرنسية إلى بيروت، حتى بدأ قائدها، بوفور، اتصالاته مع فؤاد باشا، في دمشق. وسرعان ما دب الخلاف بين الرجلَين؛ إذ كان بوفور متعالياً، يتصرف وكأنه أصبح صاحب الأمر والنهي في المنطقة، وأن على الجميع أن يطيعوا أوامره، بمن فيهم وزير الخارجية العثمانية نفسه، فؤاد باشا، بينما كان المطلوب أن ينسق عملياته مع الوزير العثماني.
فكان أن بدأ التصادم بينهما، منذ البداية؛ إذ عمل فؤاد باشا على أن يلتزم بوفور حدوده، وأن يقنعه بأنه لا يعمل على أرض فرنسية. فاقترح أن يتحرك القائد الفرنسي في ديار الموارنة فقط، في حين يتحرك الوزير العثماني في ديار الدروز. وكان فؤاد باشا يهدف من وراء ذلك إلى:
(1) إبعاد الجيش الفرنسي عن التصادم مع الدروز، حتى لا تشتعل الحرب الطائفية.
(2) قصر نشاط الجيش الفرنسي على ديار الموارنة.
فردّ بوفور على ذلك، بأن مهمة الحملة، هي تأديب الدروز فقط. وأنه لا بدّ من ملاحقتهم، وهو ما يعني أن الحملة، ستصل إلى “حوران”، وقد تصل إلى مشارف دمشق.
أزمة 1958 والتهيئة لحرب أهلية
اضطرت القوات، الفرنسية والإنجليزية والإسرائيلية، إلى الانسحاب من الأراضي المصرية، نتيجة للضغوطات، الأمريكية والسوفيتية، بعد حرب السويس. وكان ذلك مؤشراً إلى انسحاب الفرنسيين والإنجليز من المنطقة كلها انسحاباً شبه كامل، في مصلحة الأمريكيين، الذين سيباشرون عملية سيطرتهم على الشرق الأوسط، ليحلوا محل الدول المنتدبة أو المستعمرة.
ومهد المناخ السياسي، مع بداية الخمسينيات، الطريق نحو ما عرف بأزمة 1958، وهي التي هددت، آنذاك، الحرب اللبنانية أهلية في لبنان. ففي تلك الفترة، أعلن الرئيس الأمريكي دوايت ديفيد أيزنهاورDwight David Eisenhower ما عرف في العالم العربي بـ “مشروع أيزنهاور”، بحجة “ملء الفراغ”، على أثر العدوان الثلاثي. وأعلنت مصر رفْضها هذه النظرية. أما في لبنان، فأعلن رئيس الجمهورية، كميل شمعون، وحكومته، تأييدهما مشروع أيزنهاور.
وأطلقت حملة سياسية واسعة ضد السياسة الناصرية. وانضوى لبنان، رسمياً إلى المشروع المذكور، في 16 مارس 1957. وبادرت الحكومة اللبنانية، عام 1957، إلى تنظيم انتخابات، تؤمّن أكثرية نيابية، تسمح لرئيس الجمهورية بتعديل الدستور، وتجديد ولايته، التي ستنتهي في نهاية صيف 1958. وأسفرت هذه الانتخابات عن فشل معظَم الزعماء السياسيين، المعارضين لسياسة شمعون، مثل: كمال جنبلاط وأحمد الأسعد وصائب سلام وعبدالله اليافي.
وفي فبراير 1958، أُعلنت الوحدة بين مصر وسورية. وأصبح جمال عبدالناصر رئيساً للجمهورية الجديدة، التي عرفت باسم “الجمهورية العربية المتحدة”. وهلّل لهذه الخطوة فريق واسع من اللبنانيين، ولا سيما المسلمين. وإذا اللبنانيون فريقان؛ واحد مؤيد للسياسة الناصرية وللوحدة العربية، وآخر، بما فيه السلطة، معادٍ لهما.
وترافق هذا الحدث مع تغيرات ديموجرافية في لبنان. إذ أشارت التقديرات، المتعلقة بعدد السكان، عام 1955، إلى أن عدد اللبنانيين المقيمين، يصل إلى 1267279 نسمة، وأن بيروت وضواحيها، تحتضن حوالي نصف مليون نسمة، وطرابلس مائة ألف، وصيدا خمسة وأربعين ألفاً، وزحلة وصور، يضم كل منهما أكثر من خمسة عشر ألف نسمة.
وأصبح التوزيع السكاني الطائفي على الشكل التالي:
- المسلمون
- المسيحيون
- 20%
- السُّنة
- 28%
- الموارنة
- 20%
- الشيعة
- 9%
- الروم الأرثوذكس
- 6%
- الدروز
- 6%
- الروم الكاثوليك
- 3%
- آخرون
- 6%
- الأرمن
- 2%
- آخرون
- 49%
- المجموع
- 51%
وفي 8 مايو 1958، انطلقت شرارة الأزمة في لبنان، على أثر مقتل الصحافي التقدمي، نسيب المتني. ومرة أخرى، كان مصير لبنان، والمنطقة برمّتها، في مهب الريح. وكانت الحكومة اللبنانية تتهم الجمهورية العربية المتحدة، بدعم المعارضة اللبنانية، بالرجال والسلاح.
وفي 11 يونيه 1958، صدر قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 128، وقرر، بناء على طلب الحكومة اللبنانية، إرسال فريق من المراقبين الدوليين إلى لبنان، مهمته التأكد من عدم حصول تسرب غير مشروع للرجال والأسلحة والمعدات الأخرى، عبْر الحدود اللبنانية.
وفي أثر انقلاب عسكري في العراق، في 14 يوليه 1958، أطاح الملكية، وأقام الجمهورية، وأعلن قادتُه تأييدهم للسياسة الناصرية، مما قلب موازين القوى في المنطقة، في مصلحة عبدالناصر والمعارضة اللبنانية ـ سارع الرئيس شمعون، في اليوم نفسه، إلى استنجاد واشنطن، معلناً موافقة حكومته على المساعدة العسكرية السريعة، من دون الرجوع إلى مجلس النواب.
وفي صباح 15 يوليه، أُنزلت قوات البحرية الأمريكية في منطقة الأوزاعي، جنوب بيروت. واستهدف الإنزال الحيلولة دون سيطرة المعارضة المسلحة على البلاد، ووصول قادتِها إلى السلطة، مما كان سيؤدي، حتماً، إلى تغيّر جذري في الخريطة السياسية للمنطقة بأَسْرها. وبالفعل، كان للإنزال الأمريكي أثره في تسلسل الأحداث. واللافت أن إنزالاً مماثلاً للقوات الإنجليزية، حصل في الأردن، في اليوم عينه.
وفي 31 يوليه 1958، انتُخب اللواء فؤاد شهاب، قائد الجيش اللبناني، رئيساً للجمهورية. ثم وضعت الحرب الأهلية أوزارها، تحت شعار “لا غالب، ولا مغلوب”، على أثر استلام اللواء شهاب للسلطة في 23 سبتمبر 1958، وتأليف السيد رشيد كرامي حكومة “قطف ثمار الثورة”.
لم تتمخض هذه الحرب اللبنانية،، في الحقيقة، إلا بضمان تمثيل أفضل للإقطاع السياسي المسلم، ومشاركة أكبر للبورجوازية في إدارة البلاد.
أما فريق المراقبين، التابع للأمم المتحدة، فقد غادر لبنان، في 25 أكتوبر 1958، بعد أن تأكد عودة الهدوء، وانسحاب القوات الأمريكية من الأراضي اللبنانية. وهكذا استتب النظام من جديد، وعادت الحياة الطبيعية إلى مجراها في لبنان، وبدأت مرحلة جديدة.
إن الصراع، الذي اندلع في ربيع 1958، مثّل أحد الأبعاد التاريخية للحرب الأهلية اللبنانية، التي تفجرت عام 1975. كما أنه يُعَدّ حالة نموذجية، تنمّ بكيفية تأثير الطائفية في توجهات السياسة اللبنانية، في علاقاتها بالآخرين، وبالسياسات الداخلية، مدّاً وجزراً.
بيد أنه كان لتعقّد البنية الداخلية اللبنانية، وهشاشتها، والديناميات العربية ـ العربية، تأثير بالغ في علاقات لبنان الدولية، وفي الكيفية التي تصرفت بها الدول الخارجية تجاه ذلك، إضافة إلى الصراع حول السلطة، بين المعارضة والرئيس كميل شمعون، الذي كان يعمل على حدوث الاستقطاب في المجتمع اللبناني.
واتهمت المعارضة الرئيس، بأنه يحاول تدويل الصراع الداخلي، بدعوته الولايات المتحدة الأمريكية إلى التدخل، عسكرياً. وكان ذلك، بالضبط، هو الإستراتيجية العامة لرئيس الجمهورية، ووزير خارجيته، شارل مالك، اللذين عمدا إلى تصوير المشاكل في لبنان، على أنها امتداد لتخاصم الدول العظمى.
وكان لبنان قادراً، في ذروة الحرب الباردة، على الحصول على معونات اقتصادية، وتجهيزات عسكرية، من الدول الكبرى، وذلك باستغلال الاستقطاب، الذي كان يشوب النظام الدولي. وعملت إدارة أيزنهاور، في عامَي 1957 و1958، بتأكيدها خطر الشيوعية، على دفْع شمعون ومالك إلى الاعتقاد، أن في وُسعهما التعويل على دعم واشنطن.
ضاق معظَم اللبنانيين باتِّباع الرئيس شمعون سياسات، إقليمية ودولية، عُدّت استفزازية، ومثيرة للانقسامات. وجاءت الجهود الأنجلو ـ أمريكية، الرامية إلى تعزيز الأمن الغربي، في الشرق الأوسط، من خلال عقْد مواثيق دفاعية، لتبرِز المشاعر المعادية لها في الوطن العربي، ولتعمل، كذلك، على استقطابه ما بين موقفين: موقف العرب، الذين رأوا أن تقدُّم المنطقة ومصيرها، مرتبطان كل الارتباط بالغرب.
وموقف العرب، الذين فضّلوا اتِّباع سياسة مستقلة بين الكتلتين، الغربية والشرقية. وكانت النتيجة، أن أحاطت الحرب الباردة بالعالم العربي بأَسْره من كل جانب، بما فيه لبنان، الذي لم يستطع أن يعزل نفسه عن الأحداث المحيطة به. إن سياسة شمعون المؤيدة للعراق، قادتْه إلى التفكير في الانضمام إلى حلف بغداد، المعقود عام 1955.
وهو حلف عسكري، جمع العراق وتركيا وباكستان وبريطانيا، وأثار ضغينة مصر، وسورية، التي وقفت في صفها. ولم تكن هذه السياسة مناقضة للميثاق الوطني لعام 1943، الداعي إلى الحياد، أو عدم الانحياز، وإلى التعاون مع الدول العربية الشقيقة.
أفسد قيام حلف بغداد العلاقات العربية ـ العربية. وكان إيذاناً بانطلاق السياسات الجماهيرية في الوطن العربي، خاصة في لبنان. إذا انقسم اللبنانيون فئتَين سياسيتَين. أولاهما، رفعت شعار “لبنان الملجأ”، الذي يؤكد الأصل الفينيقي، والطابع التاريخي المتميز للبنانيين.
وهي متحالفة، بقوة، مع الدولة، وتعكس رؤية مسيحية راديكالية (مارونية)، وتتماهى، ثقافياً وسياسياً، بالغرب. وتدعو إلى سياسة خارجية لبنانية أكثر نشاطاً، وإلى حلف إستراتيجي مباشر مع الدول الغربية، بدلاً من التحالف غير المباشر مع العراق وتركيا. إن هذه النظرة المثالية إلى الغرب، أدت إلى آمال مبالغ فيها، إذ افترضت أن الغرب، سيقاتل لحماية “النموذج الغربي الوحيد” في المنطقة العربية.
أما الثانية، أو الرأي الآخر، المناقض تماماً، فهي فئة القوميين العرب. وهم ينظرون إلى مصير لبنان ومستقبله السياسي، في إطار عربي ـ إسلامي. ويعارضون، بإصرار، عضوية لبنان في حلف بغداد، لِئَلاّ يؤدي ذلك إلى تقويض حياد لبنان، في الشؤون العربية ـ العربية، وربطه بالغرب ربطاً أشد. وكانوا يشعرون، كذلك، بروابط عقائدية، تربطهم بأفكار عبدالناصر، الآخذة في الظهور، والمتعلقة بالاستقلال والوحدة وعدم الانحياز.
وإزاء الضغوط، الداخلية والمحلية، رضخت الحكومةاللبنانية، فلم تنضم إلى حلف بغداد. وعلى هذا النحو، يُعَدّ تراجع حكومة شمعون إشارة إلى عدم قدرة الدولة على تنفيذ سياستها، الإقليمية والخارجية، في مواجَهة معارضة قوية، من جانب فئة القوميين العرب. ومنذئذٍ، أصبحت سياسة لبنان الخارجية، محور صراعات اللبنانيين، فقيِّدت بذلك حرية الدولة في العمل. وقد برزت صراعاتهم في:
وجود اختلافات حادّة بين الفئتَين الرئيسيتَين، في شأن مَوقع لبنان السياسي، في المنطقة، وفي العالم. وكان لا بدّ لهذه الفجوة من أن تتسع، بسبب التوترات المتزايدة، الناجمة عن المخاصمة العربية ـ العربية، وتخاصم الدول العظمى.
تأييد كميل شمعون الهاشميين، في بغداد وعمّان، على صراعهم ضد عبدالناصر، منتهكاً، بذلك، مبدأ الحياد، الذي انبثقت منه علاقات لبنان الحسنة بجيرانه العرب، فورطه بشكل أعمق في الحرب الباردة العربية ـ العربية، التي زادها اشتعالاً تنافس الدول العظمى.
حيال ذلك، حاول شمعون أن يتجنّب التهميش، بالانهماك في السياسات الإقليمية، وبتأكيد دور جهاز الدولة الأساسي في رسم السياسة الخارجية وتنفيذها. وكان مصمماً على الحفاظ على توجُّه لبنان نحو الغرب. إذ كان يؤمن بخصوصية هذا البلد، ويحمل فكرة مضخمة عن وزنه، الحضاري والسياسي، مما قاده إلى المبالغة في تقدير أهمية لبنان، بالنسبة إلى الغرب.
وبالنظر إلى وضع شمعون، والرابطة المتينة بين السياسات، الداخلية والخارجية، فإن تدهور العلاقات بين الدول الغربية والقوميين العرب، كان له تأثير في توتر العلاقات بين مصر وسورية، من جهة، ولبنان، من جهة أخرى، وتعميق الانقسامات الداخلية في لبنان نفسه. مثال ذلك تأميم شركة قناة السويس، عام 1956، وما أعقبه من هجوم أنجلو ـ فرنسي ـ إسرائيلي، على مصر.
إن العدوان الثلاثي، قد هز المشرق العربي، وأثار فيه عاصفة من الاحتجاجات الشعبية، الأمر الذي وضع معارضي مصر، من العرب، في موضع الدفاع، وأجبر بعض أعدائها، مثل رئيس وزراء العراق، نوري السعيد، على الوقوف إلى جانب عبدالناصر. لم يكن الأمر كذلك، بالنسبة إلى شمعون. إنه لم يعبأ بالرأي العام اللبناني، ورفض، خلافاً لطلب رئيس الوزراء، عبدالله اليافي، أن يقطع العلاقات الدبلوماسية ببريطانيا وفرنسا، مما عجّل استقالة الحكومة، وتوجيه الاتهامات إليه بخيانة القضية العربية، من قِبل الفئة القومية ـ الإسلامية.
بيد أن شمعون عيّن حكومة محافظة جديدة، برئاسة سامي الصلح، تولّى فيها شارل مالك وزارة الخارجية. إن اختيار مالك، وهو معجب بالغرب، بلا تحفظ، وناقد لاذع للشيوعية، جاء إمعاناً من شمعون في التقرب من التحالف الأمريكي، ولو أدى إلى المواجَهة مع المعارضين، المحليين والإقليميين. يضاف إلى ذلك أن مالكاً، وهو عقائدي ملتزم، طالما رأى أن على لبنان أن يضطلع بدور حيوي في الحرب الباردة.
لقد كان شمعون ومالك يرجوان تسلّم مساعدات أمريكية، اقتصادية وعسكرية، كبيرة الحجم، لتعزيز سلطتهما. بل كانا يأملان، كذلك، الحماية تحت مظلة الولايات المتحدة الأمريكية، ضد قوى القومية العربية المتصاعدة. فمثلاً، خلال الأزمة الأمريكية ـ السورية، عام 1957، استقبل شمعون ومالك المبعوث الأمريكي، لوي هندرسون، من دون استشارة سورية.
وقد حثّ مالك إدارة أيزنهاور على إسقاط النظام السوري، وأخبر هندرسون، أن لبنان، المؤيد للغرب، لا يمكِنه التعايش مع سورية، محايدة أمْ شيوعية الاتجاه. وحين اتحدت مصر وسورية، في فبراير 1958، رفض شمعون، في البداية، الاعتراف بالكيان الجديد، الجمهورية العربية المتحدة.
ساعدت سياسة شمعون المعلنة، في تأييدالغرب، على تفاقم مصاعبه، الداخلية والإقليمية. وكان الرئيس هو ووزير خارجيته، مالك، ورئيس وزرائه، سامي الصلح، من أشد أنصار الغرب، حتى إنهم ربطوا مصالح لبنان بسياسة الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط.
وكان على الدولة اللبنانية أن تختار إمّا صِلة وثيقة بواشنطن، وتتعرض لخطر عدم الاستقرار الداخلي، وللعزلة في المنطقة، وإمّا مهادنة عبدالناصر وقواه القومية، مما يضمن السلام الداخلي. وقد آثر شمعون الخيار الأول، لأسباب، سياسية ومصلحية.
إذ كان يرى في الحرب الباردة، فرصة ذهبية، لوضع لبنان على الخريطة، وتجنّب التهميش. كما أنه كان يرجو التغلب على المعارضة، بجعْل سياسة لبنان الخارجية إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية.
اغتنم شمعون ومالك فرصة الإعلان عن مبدأ أيزنهاور، عام 1957، الرامي إلى إيقاف المدّ الثوري في المنطقة، فطلبا مساعدات، اقتصادية وعسكرية، من واشنطن.
بل إن شارل مالك، أبلغ الرئيس الأمريكي، قبل إقرار الكونجرس مبدأ أيزنهاور، في مارس 1957، ترحيب لبنان بمبدئه، وأنه مستعد لمكافحة الخطر الشيوعي في المنطقة. وادعى، كذلك، أن مصر وسورية، تخضعان للهيمنة السوفيتية. وأضاف مالك، مصرحاً: “إن من الضروري إجراء تغيير سياسي، في سورية ومصر”. وكان لبنان هو القطر العربي الوحيد، باستثناء ليبيا، الذي وافق على مبدأ أيزنهاور، رسمياً.
استنكرت المعارضة موقف شمعون، تجاه الجمهورية العربية المتحدة. واستنكرت، كذلك، سياسته الخارجية، المؤيدة للغرب. كانت المعارضة تعتقد، أن دفْع شمعون لبنان إلى الوقوف مع الغرب، ضد مصر وسورية، لا ينتهك حياد لبنان التقليدي فقط، بل يهدد، كذلك، التوازن الدقيق، القائم بين الطوائف اللبنانية المختلفة. وقد رأى اثنان من زعماء المعارضة، وهما كمال جنبلاط والشيخ نديم الجسر، أن انتفاضة عام 1958، كانت رداً مباشراً على النفوذ الأجنبي، وعلى اعتماد لبنان على الغرب.
وقد مهدت الآراء المتباينة بين المؤمنين بخصوصية لبنان، وأولئك المؤمنين بالقومية العربية، السبيل إلى مواجَهة، يسعى فيها كل منهما إلى الحصول على الدعم الخارجي لتثبيت وضعه. وفي حين كان شمعون ومالك، يخطبان ودّ واشنطن، كانت المعارضة، ترحب بالعون، السياسي والمادي، من مصر وسورية معاً.
وعندما تزايد التوتر، في الأشهر الأولى من عام 1958، حاولت حكومة شمعون أن تشدِّد على الطبيعة الخارجية للأزمة، وأن تقنع واشنطن بالحاجة إلى عمل حاسم. وحين حوصر شمعون ومالك في الداخل، تطلعا إلى الدعم من الخارج. وقد صور النزاع، منذ الابتداء، على أنه صراع بين لبنان، المؤيد للغرب، والقومية العربية الراديكالية، المتحالفة مع الشيوعية الدولية.
ولا شك أن تدخّل الولايات المتحدة الأمريكية، عسكرياً، في لبنان، في يوليه 1958، لم يكن بسبب اعتقاد المسؤولين الأمريكيين أن استقلال لبنان وسيادته، مهددان من الشيوعية الدولية، بل لأهمية لبنان، كحلقة في السلسلة العربية. وقد كان أيزنهاور متردداً في إرسال قوات أمريكية إلى بيروت، قبل الانقلاب العراقي، على الرغم من طلبات شمعون ومالك المتكررة. وكان الرأي، في واشنطن، مجمعاً على أن التدخل المسلح، قد تكون له مضاعفات إقليمية، من شأنها أن تضر بالمصالح الغربية. ولم يكن أيزنهاور، ولا وزير خارجيته، جون فوستر دالاسJohn Foster Dulles، على استعداد للمخاطرة بمواجهة مصر وسورية، في شأن لبنان.
ومع أن الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته، كانا يعتقدان، في البداية، أن المشكلة، في لبنان، ذات أصل شيوعي، غير أن كبار المسؤولين في واشنطن، اعترفوا أنه لم يكن للشيوعية دور جوهري فيها؛ فقد جاء معظَم التأثيرات الخارجية من سورية ومصر.
والواقع، أن الاتحاد السوفيتي (السابق) كان مهمشاً، طوال الأزمة اللبنانية. ولم تكُن لديه القدرات العسكرية، ولا الرغبة في مواجَهة الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى خلاف موقف السوفيت من أزمة السويس، فإن موقفهم من أحداث لبنان، اتسم بضبط النفس، إلى حدّ كبير، وبمحدوديته. وهذه الحقيقة عكست هامشية هذا البلد في الإستراتيجية السوفيتية. وقد أثبتت الأحداث في لبنان، بما لا يدع مجالاً للشك، أن واشنطن كانت هي اللاعب المهيمن في مشكلته. أما دور موسكو، فكان ثانوياً.
إن التدخل العسكري الأمريكي في لبنان، لم يعكس أي التزام إستراتيجي باهتمامات الفئة المؤمنة بخصوصيته، أو اهتمامات جهاز الدولة. لقد استخدمت واشنطن لبنان ساحة لإبراز قوّتها العسكرية، وإظهار إرادتها لحماية مصالحها الإقليمية الحيوية، ولا سيما الإمدادات النفطية، وتأكيد استعدادها لاستخدام القوة، عند الضرورة في لبنان.
الحرب الأهلية في لبنان (1975)
تفجرت الحرب اللبنانية في منتصف السبعينيات، إثر اغتيال النائب معروف سعد، عام 1975، فيما عرف بأحداث صيدا. وعقب حادث عين الرمانة، الذي عكس التصادم الماروني ـ الفلسطيني. بيد أن مناخاً متفجراً سبق، الحرب وأسهم في إشعالها.
أولاً ـ مؤشرات الحرب اللبنانية الاهلية
تباينت الآراء واختلفت في بداية الصراع. فهناك مَن رأى أن وفاة جمال عبدالناصر، في 28 سبتمبر 1970، فتحت الأبواب لاحتمالات القضاء على الوجود الفلسطيني، وضرب التيار الوطني، على أرض لبنان، بعد مذابح الأردن. وثمة مَن قال بأن اغتيال الملك فيصل، في 25 مارس 1975، هو إشارة البدء بالقضاء على هذا التيار.
وبين هذا الرأي وذاك، آراء متعددة، لعل أقربها إلى الصواب، أن أحداث عام 1973 هي البداية، خاصة أن لها جذوراً، تمتد في الماضي، وفروعاً تطاول العام التالي، 1974، حتى وقوع الانفجار مباشرة. ولعل أبرز الأحداث، التي رجّحت اختيار نقطة البداية في هذا العام، هي:
محاولة الجيش اللبناني، في مايو 1973، القضاء على المقاومة الفلسطينية، على أرض لبنان، أو على الأقل، كسر شوكتها. وإزاء فشل الجيش في محاولته، تكوّنت الميليشيات الحزبية، لتضطلع بما عجز الجيش عن القيام به، أو مساعدته، على أقلّ تقدير.
قرار مؤتمر القمة العربية السادسة الرقم 46، في الجزائر، في 28 نوفمبر 1973، أن منظمة التحرير الفلسطينية، هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، واعتراض الأردن على ذلك، وبداية أزمة سياسية حادّة، أثبتت استحالة إقناع الأردن برأي الأغلبية.
تغيّر الدبلوماسية الأمريكية، في إطار إستراتيجية السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.
بداية سلسلة اعتداءات إسرائيلية، ذات طبيعة خاصة، على الفلسطينيين، في لبنان.
اندلاع حرب إعلامية عربية، تركزت، بوجه خاص، في جرائد لبنان. وقد ارتبطت بظاهرة انتشار الخلافات بين الدول العربية، التي بلغت حدّ التهديد باستخدام القوة بين الجيوش العربية، التي يجمعها اتفاق الدفاع المشترك.
هذه هي الأحداث، التي جعلت عام 1973، نقطة انطلاق نحو المذبحة الأهلية، التي شهدها لبنان.
1. التصادم المسلح، بين الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية
وقع تصادم مسلح، بين الجيش اللبناني وقوات المقاومة الفلسطينية، في 2 مايو 1973. تبادل فيه الطرفان الاتهامات. فوزير الدفاع، آنذاك، فؤاد غصن، أعلن أن الحكومة، اعتقلت عدداً من رجال المقاومة، قرب السفارة الأمريكية، وذلك في 30 أبريل 1973. وفي أول مايو، اختطف عدد من الفدائيين رقيباً في الجيش اللبناني. وبعد ذلك بساعات، اختُطف رقيب آخر. وقال وزير الدفاع، إنه في أعقاب هذه الاستفزازات غير المسؤولة، اتخذ الجيش اللبناني إجراءات أمن استثنائية، في بيروت.
وفي مواجَهة ذلك، أعلنت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، في اليوم عينه، بياناً، قالت فيه، إن وحدات من الجيش اللبناني، معزَّزة بالدبابات والمصفحات، تحاصر منطقتَي صبرا وشاتيلا. وقد حاولت اختراقهما، تحت ستار كثيف من النيران ومدفعية الدبابات. وقد استهدف الهجوم بعض مكاتب منظمات اللاجئين ومخيمَيهم.
وفي المساء، اتُّفق على وقْف القتال، إلا أنه، في اليوم التالي، 3 مايو 1973، قصف سلاح الطيران اللبناني مخيمات اللاجئين، في بيروت. ثم تجددت الاشتباكات من جديد، فضرب الجيش مخيم “ضبيه”، الواقع على بعد 10 كم، شمال العاصمة اللبنانية، ثم مخيم “تل الزعتر”، في شرقها.
وقد ذكر الرئيس سليمان فرنجية، في مجلس الوزراء، أن زوجة الزعيم الفلسطيني، “خالد بشرطي”، الذي اغتيل في الأردن، سنة 1970، قد قتلت برصاص مجهول، قرب منزلها، وهي عائدة من القصر الجمهوري.
وذكر أنه تكشّف، خلال الاشتباكات، أن رجلين، ظهر أنهما من عملاء الاستخبارات الأردنية، حاولا اغتيال النائب نجاح واكيم، المعروف بميوله الناصرية. وقد تمكّن النائب ومعاونوه من القبض عليهما، ونقِلا إلى المستشفى للعلاج.
وانتقلت عمليات الجيش اللبناني، في اليوم الثالث، إلى الجنوب، حيث قصفت وحداته، المدعمة بالطائرات، مَواقع المقاومة. وسرعان ما اتُّفق على وقف جديد لإطلاق النار. إلا أن عدة عمليات عسكرية غامضة، استهدفت إثارة الاضطرابات، في الوقت الذي تجري فيه المحادثات بين الطرفين لإنهاء الأزمة.
إذ قام مجهولون بعدة عمليات ضد مَواقع للجيش اللبناني، ومبانٍ حكومية، ومراكز للمقاومة. وقد أذاعت مصادر المقاومة تحذيراً من أن عملاء أردنيين، كانوا يطلقون النار على الجانبين، لاستمرار اشتعال القتال.
وذكرت مصادر المقاومة، أن إذاعات غربية، بدأت توجه بيانات استفزازية، تنسبها إلى المقاومة، وتروّج معلومات كاذبة. فقد أذاعت، مثلاً، أن محاولة جرت لاغتيال ياسر عرفات. كما اتَّهمت الرئيس سليمان فرنجية، بأنه يحاول إضفاء الطابع الطائفي على الأزمة.
وخلال ذلك، أَمكَن التوصل إلى اتفاق بين المقاومة والجيش اللبناني. ولكن القتال تجدد، بعد خمس ساعات فقط من الاتفاق، وعادت الانفجارات تدوي في مَواقع الجانبين. واتَّفق أن تجدد القتال، بينما كان ياسر عرفات مجتمعاً إلى صائب سلام، رئيس وزراء لبنان السابق، وريمون إده، رئيس حزب الكتلة الوطنية.
فبادر إده إلى الاتصال، هاتفياً، بالعماد إسكندر غانم، قائد الجيش، الذي أبلغه أن وحدة متمردة من الجيش اللبناني، ترفض الالتزام بالاتفاق، وهي المسؤولة عن إطلاق النار. وقد طلب ياسر عرفات، من الفور، من قوات المقاومة ضبط النفس، وعدم الرد.
وتطورت الأحداث، إذ استؤنفت الاشتباكات، واشترك الطيران اللبناني في قصف مَواقع المقاومة. ووقعت عمليات نسف، شملت 3 مصارف. وفي 12 مايو 1973، نقلت وكالة الأنباء الفرنسية خبراً من واشنطن، أن وزارة الدفاع الأمريكية، تعتزم إرسال أسلحة خفيفة إلى لبنان، لمساعدته على مواجَهة قوات المقاومة، وأن الأسلحة، ستسلَّم في القواعد الأمريكية، في اليونان وإيطاليا، تجنّباً لتعرّض الطائرات، أو السفن الأمريكية، التي تنقل الأسلحة، لأي حادث. وفي المساء، نفى فؤاد غصن، وزير الدفاع اللبناني، هذا النبأ، وقال إن وزارته لم تقدِّم أي طلب، في هذا الصدد، إلى الحكومة الأمريكية.
وأَمكَن، بجهود عربية، وتدخّل أمين عام الجامعة العربية، احتواء الأزمة، مع منتصف مايو. كما أَمكَن التوصل إلى اتفاق، عرف باتفاق “ملكارت” في 17 مايو 1973، وأهم ما جاء فيه، وفق ما نشرته الخارجية اللبنانية، ضمن ملاحق “الكتاب الأبيض اللبناني”، عن الوثائق الدبلوماسية حول الأزمة اللبنانية ـ الفلسطينية 1975 ـ 1976: “اعتماد الميليشيا، لتأمين حراسة المخيمات”.
وتعني الميليشيا بعض الفلسطينيين، القاطنين في المخيم، وغير المنضوين إلى فصائل المقاومة. كما نص الاتفاق على إخلاء المخيمات من الأسلحة، المتوسطة والثقيلة. وحدَّد مَواقع تمركز المقاومة، في نقاط محددة. الأهم من ذلك، هو قرار تجميد العمليات الفدائية كافة، من الأراضي اللبنانية، استناداً إلى مقررات مجلس الدفاع المشترك.
كما وضع ضوابط للإعلام الفلسطيني، في لبنان. والغريب، أن المقاومة الفلسطينية و”الكتائب”، اتفقتا، في يونيه 1973، في ضوء أحداث مايو المؤسفة، على حدّ تعبير بيانهما المشترك، على أن إسرائيل ليست خطراً على الفلسطينيين، وحدهم، بل على الدول العربية كلها، وخاصة لبنان.
وأكد اتفاق ملكارت حق الشعب الفلسطيني في النضال، لاسترداد أرضه، وضرورة الدفاع عن لبنان وسلامة أراضيه. والمهم أن “الكتائب”، سجلت في البيان المشترك، ضرورة تجنّب الوقوع في الفخ الإسرائيلي، الهادف إلى افتعال الاقتتال بين الإخوة، على الأراضي اللبنانية، تفتيتاً للكيان اللبناني، وتوطئة لإعادة رسم خريطة المنطقة. وأشار البيان إلى أن الاعتداءات الإسرائيلية على جنوبي لبنان، ليست بسبب الوجود الفلسطيني، إنما مصدرها أطماع إسرائيل فيه.
وكانت المفاجأة، أن “الكتائب”، طلبت عدم إذاعة البيان، وقت توقيعه، حتى لا تصدم محازبيها، الذين جرت تعبئتهم، خلال أحداث مايو، ضد الفلسطينيين. ولكن البيان لم يرَ النور، حتى الآن، بل أصبح سراً من الأسرار، في سباق أحداث عام 1973 واصطداماتها.
وأهمية هذا التصادم، على الرغم من أنه انتهى، من دون تغيير جوهري في الموقف، أنه أوضح كثيراً من الحقائق. كما ترتب عليه، كذلك، كثير من السياسات والمواقف. ولعل ما يعنينا منها، أنه وجد في دائرة السلطة الحاكمة في لبنان، مع بدايات الأزمة، قيادات، رفضت الالتزام بما وقّعته السلطة، اتفاق القاهرة في 3 نوفمبر 1969، بين لبنان والمقاومة، بل ادَّعت أنها لم توافق على الاتفاق، على الرغم من أن المجلس النيابي وافق عليه.
2. حلف ماروني، في مواجَهة المقاومة الفلسطينية
منذ اللحظة الأولى للوجود الفلسطيني المسلح، ظهر تناقضه مع مصالح الفئة الحاكمة في لبنان، التي رأت في تناميه خطراً على كل مقومات وجودها. وأسفرت الدعوة إلى إطلاق حرية العمل الفدائي في لبنان، عام 1968، التي كانت تقف خلفها “الحركة الوطنية اللبنانية”، والجماهير العربية المتعاطفة معها، عن نشوء حلف ثلاثي ماروني، من كميل شمعون وبيار الجميل وريمون إده، استهدف:
الوقوف بالمرصاد لتجاوزات الفدائيين الفلسطينيين، لأن ذلك يشكل خطراً، داخلياً وخارجياً، بالنسبة إلى إسرائيل.
الوقوف في وجه التيار الشهابي اللبناني، على أبواب الانتخابات النيابية، في ذلك العام، تحضيراً للانتخابات الرئاسية عام 1970.
وقد رأى فؤاد لحود، رئيس لجنة الدفاع في مجلس النواب اللبناني، في منتصف السبعينيات، أن هدفَي الحلف، حققا له انتصارات واسعة في الانتخابات النيابية. يضاف إلى ذلك، أن الحلف، لاقى تأييداً من الدول العربية، اليمينية، إذ وجدت فيه مناصراً ضد اليسار. ودفع الحلف انتصاراته في الانتخابات، والدعم العربي اليميني، إلى التصلب في مطالبته بالحدّ من انطلاق العمل الفدائي من لبنان.
وساعدت إسرائيل على دعم هذا التيار، بغارتها على مطار بيروت، في 28 ديسمبر 1968، حين هبطت المطار فِرقة، بطائرات عمودية، ودمرت 13 طائرة ركاب ونقل كانت جاثمة على أرض المطار، تابعة لشركة طيران الشرق الأوسط اللبنانية، رداً على عملية الفدائيين الفلسطينيين، في مطار أثينا، في 26 ديسمبر 1968.
وفي 18 فبراير 1969، أعلنت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية قيام قيادة الكفاح المسلح (انظر ملحق بيان اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية حول تشكيل قيادة الكفاح المسلح). وبعد أيام، افتعلت السلطة اللبنانية تصادماً مع المقاومة، بهدف تقييد الوجود العسكري الفلسطيني، في جنوبي لبنان.
إلا أن غضبة الشارع اللبناني، التي تمثلت في مظاهرات، اصطدمت بقوات الأمن، أدت إلى استقالة رئيس الوزراء، ورفض مختلف القيادات السياسية قبول تشكيل الوزارة، مما جعل الأزمة الوزارية تستمر 215 يوماً. وخلال ذلك، استمرت المناوشات التي تحولت، مع شهر أكتوبر، إلى اصطدامات مسلحة، في الجنوب، وعلى طول الحدود مع سورية، وفي المخيمات.
ولكن انحياز فئة كبيرة من الشعب اللبناني إلى جانب العمل الفدائي، إضافة إلى الأزمة الوزارية، كل ذلك جعل حُكم شارل حلو في مواجَهة أزمة متصاعدة. فالجيش لم يستطع حسْم القتال، ومنْع التجول لم يوقف التصادمات.
وتحت ضغوط الأزمة، والضغط العربي، الرسمي والشعبي، طلب لبنان وساطة مصر. وفي 31 نوفمبر 1969، توصل المفاوضون إلى اتفاق سري، عرف باتفاق القاهرة، حق، بموجبه، العمل والإقامة والتنقل للفلسطينيين، المقيمين بلبنان، وقت توقيع الاتفاق. وبمقتضاه، تُنشأ لجان محلية، من الفلسطينيين في المخيمات، لرعاية مصالح اللاجئين، وذلك بالتعاون مع السلطات المحلية، وضمن نطاق السيادة اللبنانية.
مع وجود نقاط للكفاح المسلح داخل المخيمات، تتعاون مع اللجان المحلية على تأمين حُسْن العلاقة بالسلطة. وتتولّى هذه النقاط تنظيم وجود الأسلحة وتحديدها، في المخيمات. والمهم أن الاتفاق انتهى إلى تأكيد الطرفين، أن الكفاح المسلح الفلسطيني، هو في مصلحة لبنان، كما هو في مصلحة الثورة الفلسطينية والعرب جميعهم.
وكان أهم ما انتهت إليه الأزمة الأولى مع المقاومة:
تثبيت مَواقع المقاومة في لبنان، وانطلاق العمل الفدائي منها.
تحديد القوى، التي تتصدى، حتى بالسلاح، للعمل الفدائي الفلسطيني. وهي الحلف الماروني والدول العربية اليمينية، حسب تعبير فؤاد لحود، وإسرائيل.
الوجود الفلسطيني في لبنان، أصبح ورقة في الصراع حول الحُكم في لبنان. واتضح ذلك من أهداف الحلف الماروني.
أزمة حُكم في لبنان، حاول كل القوى إخفاء معالمها. ولعل تصريح ريمون إده، يبرِز هذا الواقع، إذ أعلن، تعليقاً على تصريح لوزير الدفاع، آنذاك، نصري المعلوف، دعا فيه إلى مساواة اللبنانيين في حمل السلاح: “من الآن فصاعداً، كل ضحية تقع من جراء استعمال الأسلحة الحربية، سيضع الرأي العام المسؤولية على عاتق حكامه. وربما ينزعج الحكام من هذا الأمر. ولكن ربما يأتي يوم يوجَّه هذا السلاح نحو صدور الحكام أنفسهم. وعندئذٍ، يذوقون طعم الرصاص، عندما يخرق جلودهم. فإذا لم يشعروا، اليوم، بخطر هذه الأمور، فسيشعرون بذلك غداً، وربما في الآتي القريب”.
وبعد ثلاثة أشهر فقط، أي في فبراير 1970، اقتدت السلطة الأردنية بالسلطة اللبنانية، فافتعلت تصادماً مع المقاومة، انتهى إلى مذابح سبتمبر 1970، والقضاء على الوجود الفلسطيني المسلح في الأردن. وأدى نجاح الأردن في ما فشل فيه لبنان، إلى تركُّز الوجود الفدائي في لبنان.
وإذا كانت أحداث عام 1973 قد كشفت فريقاً في السلطة اللبنانية، رفض الالتزام باتفاق عام 1969 مع المقاومة، فإنها كشفت، كذلك، عجز الجيش اللبناني عن الاضطلاع بالمهمة، التي نجح فيها جيش الأردن، لاختلاف ظروف تركيب كلٍّ من الجيشين وتسليحه. فمن المؤكد أن الجيش اللبناني، استخدم كل قدراته، من طيران إلى مدرعات إلى مدفعية، في القضاء على المقاومة. ولكن التصادم، لم يؤدِّ إلى تحقيق أهدافه، على الرغم من تحقيقه بعض الكسب، من خلال اتفاق ملكارت، بفرض قدر من القيود عليها.
3. تكوين الميليشيات
ما كان للجيش اللبناني أن ينجح في مواجَهة الخطر الإسرائيلي، حتى لو توافر له السلاح. فأنّى له النجاح، وهو جيش بلا وحدة تجمعه! انبثق من معادلة طائفية، فكان انعكاساً لها. ولو استخدم في القضاء على المقاومة الفلسطينية، فسيكون عرضة للانقسام.
وقد أوضح التقرير، المعروف بالتقرير 532، مدى عجز الجيش اللبناني عن النهوض بالمهام المطلوبة منه. وأن إعادة تسليحه وتدريبه، تستغرق سنوات، وهي قد تذهب سدًى، إن لم يلتزم بتنفيذ الأوامر، نظراً إلى التركيب الطائفي لرُتبه وتوزيعاته. ومن ثم، فليس هناك مفرّ من الاعتماد على الميليشيات الخاصة، على أن يكون الجيش عاملاً مساعداً لها.
وقد نوقشت مسألة إعداد الميليشيات، في اجتماعات بين سليمان فرنجية، رئيس الجمهورية، والعماد إسكندر غانم، قائد الجيش،وفي المكتب السياسي لحزب الكتائب، برئاسة بيار الجميل، ثم بين كميل شمعون وبيار الجميل. وقد كشفت المناقشات، أن هناك أربع مشاكل، يحتاج التغلب عليها إلى خطة تحرك وتعبئة، حتى يمكِن إنشاء ميليشيات فاعلة، وهي مشاكل التمويل، وجمْع الشباب، والتسليح، والتدريب. وفعلاً، وضعت خطة متكاملة لذلك.
فنشطت جماعة الكسليك، وهي مجموعة من الرهبان الموارنة، في جمْع التبرعات، تحت شعارات ونداءت متعددة. واستطاعت جمْع 56 مليون ليرة (21 مليون دولار)، خلال عامَي 1973 و1974. وانبرى حزب الكتائب لتعبئة الشباب وتدريبهم العسكري، كونه أكثر الأحزاب اللبنانية قدرة على ذلك، بحكم بنيته التنظيمية. وتولى الجيش اللبناني مسؤولية شراء السلاح، وتحويله إلى الميليشيات التابعة لحزبي “الكتائب” و”الأحرار”، وجماعة “حراس الأرز”.
بعد ذلك، وبالاتفاق مع رئيس الجمهورية، كُلِّف ضباط من الجيش اللبناني، ولا سيما منهم الموارنة، من طريق الإجازة أو الإعارة، بتدريب هذه الميليشيات. بل إن الجيش اللبناني، استخدم الدعم العربي، المالي والعسكري، الذي تقرر له في مجلس الدفاع المشترك، في الفترة من 3 إلى 4 يوليه 1974 (انظر ملحق قرارات مجلس الدفاع المشترك في دورته الخاصة الخامسة عشر)، في مصلحة الميليشيات. وأُعِدَّت دورات تدريب لميليشيا “الكتائب”، في ألمانيا الغربية وإسرائيل والأردن.
والواقع، أن الأدوار لم تكُن محددة تماماً، بمعنى أن من يجمع المال لا علاقة له بشراء السلاح أو التدريب، مثلاً، بل تداخلت الأدوار، ونشط الجميع إليها. وفي هذا الإطار، مثلاً، زار بيار الجميل، رئيس حزب الكتائب سورية، في 26 سبتمبر 1973، حيث اجتمع بالرئيس حافط الأسد، في جلسة مغلقة، ثم اجتمع إلى عبدالحليم خدام، رئيس الوزراء، ووزير الخارجية، وعدداً من قيادات حزب “البعث” السوري. وتناول الاجتماع المغلق، بين الأسد والجميل، وضع المقاومة في لبنان، والتعاون اللبناني ـ السوري. وقال، خلاله، بيار الجميل للأسد، إنه مع “المقاومة التي تريد أن تحرر الأرض، لا مع المقاومة التي تريد أن تشتغل بالسياسة”.
وفي أول فبراير 1974، زار بيار الجميل القاهرة، حيث أجرى مباحثات مع الاتحاد الاشتراكي، عبّر، خلالها، عن وجهة نظره في شأن المقاومة في لبنان. وقد التقى خلال الزيارة بالرئيس أنور السادات، في برج العرب. ثم عاد إلى لبنان، في طائرة مصرية خاصة.
وفي أول أبريل 1974، زار بيار الجميل المملكة العربية السعودية، في طائرة سعودية خاصة. وشملت زيارته “خميس مشيط”، حيث استقبله، في مطارها العسكري، الأمير خالد الفيصل، أمير منطقة عسير، وجميع القادة العسكريين للمدينة العسكرية، التي وصفت، آنذاك، بأنها أحدَث مدينة عسكرية في الشرق الأوسط. وجال الزائر في المدينة العسكرية، وأجرى مباحثات مع أميرها الفيصل. وفي اليوم التالي، زار كلية الطيران الحربي، في جدة، وتفقّد المنشآت والمعدات العسكرية، وشاهد التدريب على عمليات إطلاق صواريخ أرض/جو، الأمريكية.
وفي مايو سنة 1974، وصل بيار الجميل الأردن، في طائرة أردنية خاصة، حيث زار وحدات الجيش الأردني، وشاهد، في أحد المَواقع العسكرية، تدريباً عملياً على المدفعية، ثم عمليات الصاعقة. وشرح قائد المَوقع لضيفه قواعد التدريب، وأن المَوقع مفتوح لتدريب قوات الدول العربية. وسأل بيار الجميل عن إمكان تدريب أفراد، لا صفة رسمية لهم، فأجاب قائد المَوقع: “إن تعليمات جلالة مولانا، أن تُلبى طلباتك جميعها، حتى دون الرجوع إليه”.
ثم التقى بيار الجميل الملك حسيناً، وعرض عليه وجهة نظره في وجود المقاومة في لبنان. أمّا كميل شمعون، فكان يفخر، علناً، بأن ميليشيا “النمور” التابعة لحزب “الأحرار” تتدرب في الأردن. ولا بدّ أن يضاف إلى هذه الأدوار دور المهاجرين اللبنانيين في الخارج، سواء بتقديم الدعم المالي، أو الوساطة في عمليات شراء السلاح.
وقد راوح ثمن كميات السلاح، التي اشترتها “الجبهة اللبنانية” (الوجه السياسي للميليشيات المسيحية)، ما بين 200 إلى 600 مليون دولار. وقيل إن هذه الأموال، جاءت من المصارف المنهوبة، ووكالة الاستخبارات المركزية، وإسرائيل، وألمانيا الغربية، والفاتيكان، وإيران وشاهها. وهناك أدلة، في باريس، على أن جزءاً من مبلغ المليوني دولار، الذي سُرق من شركة “داسو”، من طريق محاسبها، “دي فاتير”، قد دُفع إلى “الجبهة اللبنانية”، بوساطة المرتزقة “جين كاي”.
أما إسرائيل، فكانت ترسل السلاح عبْر ميناء جونيه، في حماية زوارق الدوريات الإسرائيلية. وهو ما أشار إليه دين براون، المبعوث الأمريكي إلى لبنان، في حديث أذيع من واشنطن، في 10 أغسطس 1976، ونُشر في الجرائد اللبنانية، في 23 أغسطس.
هكذا، عملت القوى، الراغبة في القضاء على العمل الفدائي، بكل إمكاناتها، لتحقيق هدفها، على الرغم من الاتفاقات والتعهدات، بعد فشل الجيش اللبناني في أن يحقق لها هذا الهدف. فطفقت تنشئ الميليشيات الخاصة.
4. رفْض لبنان قرارت مؤتمر القمة العربية، في شأن الفلسطينيين
عقد مؤتمر القمة السادس في الجزائر، في الفترة من 26 إلى 28 نوفمبر 1973. وكانت مشكلته الرئيسية تمثيل الشعب الفلسطيني. ووضح للأردن، في ظل نتائج حرب أكتوبر، عدم قبول الدول العربية تمثيله الفلسطينيين. ولذلك، تخلّف الملك حسين عن المؤتمر، بعد أن وافق وزراء الخارجية على توصية، بأن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.
وكما تحفّظ الأردن من القرار، الذي يرى منظمة التحرير الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، كذلك، تحفظ لبنان من القرار الذي يجعل كل الأراضي العربية حقاً إستراتيجياً للعمل الفدائي. وجمع لبنان والأردن عداؤهما لمنظمة التحرير الفلسطينية، وحدد إمكانات التعاون بينهما، في هذا المجال.
وتزامن ذلك كله مع تصعيد إسرائيل عملياتها الانتقامية، ضد الفدائيين الفلسطينيين، في لبنان. ففي 11 أبريل 1973، اقتحمت قوة كوماندوز إسرائيلية بيروت، حيث قتلت عدداً من قيادات المقاومة: محمد يوسف النجار، عضو اللجنة المركزية لمنظمة “فتح”، ومسؤول الشؤون السياسية في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ورئيس اللجنة السياسية الفلسطينية في لبنان.
وكمال ناصر، المتحدث الرسمي باسم قيادة منظمة التحرير؛ وكمال عدوان، عضو اللجنة المركزية لمنظمة “فتح”، والمسؤول، العسكري والتنظيمي، عن القطاع الغربي، الذي يشمل الضفة الغربية وغزة. وأثبت التحقيق الذي أجرته الحكومة اللبنانية، أن لبعض قيادات الجيش اللبناني علاقة بالعملية.
وأعلنت المقاومة، أن العملية تستهدف الوقيعة بينها وبين لبنان. والغريب، أن وزارة الدفاع اللبنانية، نفت ما تضمنه بيان المقاومة، بل نفت اضطلاع إسرائيل بالعملية. وفي الوقت عينه، هاجم 20 مسلحاً منطقة صيدا، حيث نسفوا مستودعات تكرير النفط.
وفي 25 يونيه 1974، دعا إسحاق رابين Yitzhak Rabin، رئيس وزراء إسرائيل، “لبنان، إلى إبعاد جميع المنظمات الفلسطينية عن أراضيه”.
إزاء ذلك كله، استوفت الحرب أسبابها، وزادها سبباً حكومة رشيد الصلح، التي حكمتها توازنات دقيقة جداً، ناهيك ضعف رشيد الصلح نفسه، داخل موازين القوى العامة في السلطة. وأتبعها سبباً تردُّد الزعامات الإسلامية التقليدية في التصدي لـ “الكتائب”، وسعيها إلى إطاحة حكومة الصلح، تغليباً لمصالحها.
ثالثاً ـ الحرب الأهلية اللبنانية
مرت الحرب اللبنانية،بمرحلتين. بدأت بمرحلة حرب المدن، وانتهت بحرب الجبال، وإنْ استمرت حرب المدن، خلال المرحلة الثانية.
بدأت الحرب اللبنانية،في مدينة بيروت، عام 1975، بعمليات خطف عشوائية. ثم ارتبط الخطف برصاص القناصين، الذين انتشروا على سطوح الأبنية العالية، التي تتحكم في مداخل الطرق. ثم رُفِعت المتاريس، من أكياس الرمل والأسلاك الشائكة، في كل مكان. فالخطف العشوائي هو أفضل السبُل لإثارة الخوف، فيصبح كل فرد، مهْما كانت سلبيته، أو بُعده عن المشاركة في الأحداث، عرضة للخطف. ث
م إن انتشاره يخلق الشك بين الناس، فلا يثق أحد بأحد، إلا في دائرة العائلة، التي تتسع لتشمل الحي، ثم الطائفة. وهكذا، يرتبط أمن المواطن بالعائلة والحي والطائفة. ويُحكَم إغلاق الدائرة بالمتاريس والقنص. والقناص لم يكُن مجرد قاتل محترف، وإنما جزء من إستراتيجية حرب المدن، بتحويل الأحياء إلى جبهات قتال. وما أن يتحقق ذلك، حتى تجري عملية تطهير الحي من الرافضين للحرب، كأسلوب للتعبير عن الخلاف في الرأي أو في المصلحة، سواء كانوا من الطائفة نفسها، أو من طائفة أخرى.
فالتطهير يشمل كل رافض لمنهج القتل. وإثر تطهير المنطقة، يوضع لها نظام حُكم، بقوة السلاح، لغة الحرب الوحيدة.
وكشف الواقع، أن “الكتائب” كانت، في بداية الحرب الأهلية، أكثر الأطراف دقة، في التنظيم والتنفيذ، بحُكم تنظيمها الفاشي، وحجم السلاح، وعدد المدرَّبين عليه. ولم تكُن “الحركة الوطنية اللبنانية” في حاجة إلى هذا الأسلوب؛ فهي، بحُكم طبيعتها، بعيدة عن الانغلاق.
ووضح ذلك في بيروت الغربية، التي كانت تحت سيطرتها، حيث لم يتعرض التجمع المسيحي الأرثوذكسي، في حي السريان، أو في منطقة المزرعة، للخطر، باستثناء بعض الحوادث الفردية، التي أمكن السيطرة عليها. بينما لم تتورع “الجبهة اللبنانية” (الجميل ـ شمعون ـ فرنجية) عن القضاء على الموارنة المعارضين لها، أو تهجيرهم من بيوتهم، إنْ كانوا ينتمون إلى عائلات عريقة.
ومع التقسيم الجغرافي، بدأت حرب “الأحياء”. وخلالها، أسفر معظَم اللبنانيين عن طائفيتهم وتعصّبهم البغيض. وعمت الجرائم بلداً، كان أبناؤه يدّعون أنهم أكثر أبناء المنطقة حضارة وتقدماً. فإذا بالقتل الجماعي على الهوية، يصبح أسلوباً للحرب. فِرق من المسلحين تدخل مواقع العمل، وطبقاً لبيانات تحقيق الشخصية، تجمع الخصوم في الحجرات، وتطلق عليهم النيران، وسط توسّل زملائهم، الذين أنقذهم انتماؤهم إلى مذهب القاتل نفسه.
فضلاً عن اغتصاب الفتيات، وتقطيع الجثث وجمعها والرقص حولها. إضافة إلى أن قائد السيارة، مثلاً، استبدل الرصاص بالزمارة، لإفساح الطريق لسيارته. زد على ذلك حواجز المسلحين في الطرقات، وتجريدهم المارين من ملابسهم، ليصبحوا عراة، ومن خلال “عملية الختان”، يمكن تمييز هوية الشخص.
أمّا يوم السبت، 6 ديسمبر 1975، فكان، حقاً، “السبت الأسود”. ذلك أنه على أثر العثور على جثث أربعة قتلى، في منطقة الفنار، قيل إنهم من مرافقي بيار الجميل، زعيم “الكتائب”، سارعت ميليشيا الحزب بإطلاق مقاتليها في اتجاه ساحة الشهداء وباب إدريس، قلب بيروت، حيث اختطفوا العشرات، وقتلوا معظمهم، من الفور، وقطّعوا الآخرين على أبواب مقارّ الحزب. وعمد مقاتلو “الكتائب”، عند حاجز المرفأ، إلى إطلاق النار على عماله، وألقوا جثثهم في البحر.
وبلغ عدد ضحايا “السبت الأسود” 110 قتلى، ونحو 300 مخطوف، علاوة على الجثث التي أُلقيت في البحر. وكان بين الضحايا نحو 30 عاملاً مصرياً. وظهر، بعد ذلك، أن “الكتائب”، كانت قد اختطفت عدداً من المصريين، وسخرتهم لخدمتها، تحت التعذيب، ولم يستطع أحد التدخل لإنقاذهم.
واتّسمت حرب “الأحياء” بالقصف العشوائي، إذ شهدت مدن لبنان تبادل قصف بأسلحة، لم يسبق أن استخدمت في أي حرب أهلية، داخل المدن، مثل الصواريخ ومدفعية الهاون والمدفعية الثقيلة.
وفي المرحلة الثانية، طغى على الحرب طابع حرب الجبال، وإنْ لم تتوقف، خلالها، حرب المدن. وإبّان هذه المرحلة، أباد الموارنة مخيم “ضبيَّه” الفلسطيني، ذا الأغلبية المسيحية
ا
الدور الفلسطيني في الحرب اللبنانية الاهلية
اضطلع الطرف الفلسطيني بدور محوري في الحرب الأهلية اللبنانية، نتيجة رفض الموارنة الوجود الفلسطيني في لبنان، الذي أرسى أُسُسه اتفاق القاهرة، عام 1969. في حين ورط الفلسطينيين تحالفُهم مع اليسار اللبناني، في الحرب الأهلية اللبنانية، التي عَدّها بعضهم حرباً بين اللبنانيين والفلسطينيين. ولذلك، فإن معرفة حقيقة هذا الدور، تستوجب إلقاء الضوء على أسباب الوجود الفلسطيني في لبنان، وموقف الفلسطينيين إزاء الحرب.
أولاً: أسباب الوجود الفلسطيني في لبنان
بدأ نزوح الفلسطينيين إلى لبنان منذ الحرب العربية ـ الإسرائيلية الأولى، عام 1948. وطبقاً لتقديرات وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى “الأونروا”UNRWA: United Nations Relief and Works Agency for Palestine Refugees in the Middle Eastالتي أنشئت في 8 ديسمبر 1949، وبدأت أعمالها في أول مايو 1950، كان عدد النازحين الفلسطينيين في العالم العربي 988 875 شخصاً، منهم 753 106 فلسطينياً في لبنان. وكان فيه إلى جانبهم، كذلك، حوالي خمسة وعشرين ألفاً من النازحين، غير المسجلين لدى الوكالة. وقد تزايدت هذه الأعداد حتى بلغت حوالي أربعمائة ألف فلسطيني. وذلك لعدة أسباب، منها:
- زيادة الولادات على الوفيات.
- زواج الشباب الفلسطيني النازح في سن مبكرة.
- تفتيت الأُسَر الفلسطينية النازحة إلى وحدات صغيرة.
- نزوح أعداد جديدة إلى لبنان، عقب هزيمة 1967.
- تصادم النظام الأردني مع المقاومة الفلسطينية، في سبتمبر 1970.
ومنذ بداية الصراع العربي ـ الإسرائيلي، رأى بعض الجهات اللبنانية في بقاء لبنان خارج دائرته، ضماناً لحياتها ومستقبلها، فحرصت على استمرار ضعف أوضاعه العسكرية، وإبعاده عن المشاركة في جولات الحرب الأربع ضد إسرائيل، في الأعوام 1948، 1956، 1967، 1973.
وقد نجحت تلك الجهات في ذلك نجاحاً كبيراً. لكن وجود المقاومة الفلسطينية في لبنان، أفسد عليها خطتها، وفرض النضال على الساحة اللبنانية، وجذب الشباب الوطني إلى المقاومة، فتخطت القضية الفلسطينية كونها قضية عربية رئيسية، لتصبح قضية داخلية ملحّة، لا يمكِن تجنّبها أو تجاهلها.
ومر الوجود الفلسطيني في لبنان بمرحلتَين متميزتَين، ومتناقضتَين. المرحلة الأولى، هي الفترة بين هزيمة 1948 وقيام الثورة الفلسطينية، في أوائل 1965. والمرحلة الثانية، هي الفترة التي تلت قيام الثورة. فخلال المرحلة الأولى، كان الفلسطيني نازحاً في المخيمات، يفتقر إلى المساعدة الاجتماعية من وكالة الإغاثة، وغيرها من المؤسسات، ويعيش تحت رحمة رجال الأمن اللبنانيين، ولا سيما مضايقات المكتب الثاني (الاستخبارات).
وأما في المرحلة الثانية، فقد كان ثائراً، يحمل سلاحه، دفاعاً عن وجوده وقضيته. ولا شك أن هذا التغير، ترك آثاره في العلاقات بين الفلسطينيين واللبنانيين، على كل المستويات، السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فقد كانت العلاقات، في المرحلة الأولى، علاقات بين مواطنين ونازحين، لكنها أصبحت، في المرحلة الثانية، علاقات بين مواطنين وثوار.
وكانت هزيمة 1967، عاملاً مهماً في تعزيز فكرة الكفاح الشعبي المسلح، في البلاد العربية بوجه عام، وبين الفلسطينيين بشكل خاص. فتصاعد العمل الفدائي، جماهيرياً وتنظيمياً، وأصبح الكيان الفلسطيني حقيقة واقعة، منذ عام 1968، في الأردن، ومنذ عام 1969، في لبنان.
وبادرت المقاومة، فور دخولها لبنان، إلى عمليات فدائية عدة، في الأرض المحتلة، أكسبتها ثقة أهل الجنوب اللبناني. وبدأت علاقات جديدة تتبلور، بين رجال المقاومة وأهل الجنوب. وركزت المقاومة قواعدها، أولاً، في منطقة العرقوب، ثم طورت علاقاتها بالأهالي، فامتدت إلى القطاع الأوسط، فالمخيمات، فالمدن. وتركز العمل الفدائي الفلسطيني، في لبنان، في منطقتَين رئيسيتَين: أولاهما على خطوط وقف إطلاق النار مع إسرائيل، في الجنوب، والثانية في مخيمات النازحين المتناثرة في مناطق لبنان المختلفة.
وإزاء ازدياد العمليات الفدائية، داخل الأرض المحتلة وخارجها، ازدادت حدّة التناقض بين العمل الفدائي ومؤيديه، وإسرائيل ومؤيديها. إذ وجد العمل الفدائي، منذ بدايته في لبنان، تأييداً واسعاً، خاصة في الجنوب، حيث قدَّم الأهالي كثيراً من العون إلى الفدائيين. إلاّ أن بعض الموارنة سارعوا إلى تدبير بعض حوادث القتل والمذابح الجماعية، وشنوا حملة شائعات ضد الفدائيين، واتصلوا مع إسرائيل.
ثانياً: تصاعد العداء ضد الوجود الفلسطيني
وتصاعد النشاط المعادي للعمل الفدائي في جنوبي لبنان، منذ أواخر 1968. وكان من مظاهره تطويق منطقة الجنوب، عسكرياً، وحصار قواعد الفدائيين، ومنع وصول الإمدادات إليهم، واعتقالهم وسجنهم، وملاحقة مناصري العمل الفدائي، وتعذيبهم ومحاكمتهم، أو محاصرة قرى بأسرها، واعتقال شبابها، كما حدث في: عيترون، عيناتا، بيت ليف والخيام وغيرها.
وأمام محاولات الحدّ من العمل الفدائي، في مخيم النازحين الفلسطينيين، “عين الحلوة”، في 22 أبريل 1969، دعت “الحركة الوطنية اللبنانية” الشعب اللبناني إلى التظاهر، تأييداً للعمل الفدائي. فحدث الانفجار الشعبي، الذي أخذ شكل مظاهرات ضخمة، في 23 أبريل 1969، تطورت إلى تصادم مع رجال الأمن وقوات الجيش، وانتهت إلى مجزرة، سقط فيها ثلاثون شخصاً، أطلقت عليهم المدافع الرشاشة، في صيدا وبيروت وطرابلس وبر الياس.
وترجع أسباب هذا الانفجار الشعبي إلى عدد من العوامل، أبرزها:
سخط النازحين الفلسطينيين في مخيماتهم، لِما يلحق بهم، من معاملة سيئة، وتقييد لحركاتهم وحقوقهم الشخصية، على الرغم من تحسن معاملة السلطة لهم، خلال السنتَين الأخيرتين، قبْل هذا الانفجار.
استياء الرأي العام الوطني، بما كان يسمعه عن سوء أوضاع الفلسطينيين. وأسهمت السلطة في ازدياد هذا الاستياء، بعدم إيضاحها الحقائق، مما أعطى فرصة لانتشار الأخبار والشائعات.
عدم كفاءة الوسائل الدفاعية عن البلاد، والافتقار إلى جيش وطني قوي، وعدم إقرار قانون التجنيد الإجباري، أو تحصين قُرى الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية.
وقبِل الفلسطينيون التفاوض مع السلطة اللبنانية، في نهاية الستينيات للتنسيق معها. غير أن بعض إجراءات الأمن، لم تتوقف ضد الفلسطينيين، سواء في مخيماتهم، أو في مناطق العمل الفدائي. وشملت تلك الإجراءات اللبنانيين في مناطق الجنوب. وبلغت ذروتها، في جنوبي لبنان، ضد الفدائيين الفلسطينيين والمواطنين اللبنانيين، في أكتوبر 1969.
وكان الهدف الرئيسي للقوى اللبنانية، قبَيل تصادمات أكتوبر 1969، هو تفجير الموقف الداخلي في لبنان، لأغراض، يتصل بعضها بالصراع حول السلطة، وبعضها الآخر بمحاصرة العمل الفدائي وتطويقه. ويؤكد ذلك تصريحات إيجال آلونYigal Allon، بضمان الوضع القائم في جنوبي لبنان، وتحرُّك الأسطول الأمريكي في مياه البحر الأبيض المتوسط.
وكانت تلك هي الأزمة الثانية، في تاريخ الصراع بين السلطة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية. وأخذت شكل تصادمات مسلحة، في جنوبي لبنان، وعلى الحدود اللبنانية ـ السورية، وفي مخيمات النازحين. وبعد حصار كامل، دام ستة أيام، لمجموعة من الفدائيين، في قريتَي مجدل سلم وشقرا، فجرت قوات الأمن الموقف، في 20 أكتوبر 1969.
وكان ضحيتَه فدائيون فلسطينيون، ومدنيون لبنانيون. وأعلنت السلطة، بعد يومين، أنها لا توافق على تمركز الفدائيين في مناطق الحدود، على أساس أن هذه المناطق المأهولة بالسكان، ومن ثَم، لا يجوز تعريضها لأي خطر، قد يصيب المواطنين الآمنين بأضرار وخسائر في الأرواح، من دون مبرر. وأعلنت السلطة حالة منع التجول، في جميع المدن الرئيسية، يوم 24 أكتوبر.
ولم يؤدِّ ذلك إلى إيقاف القتال، فاضطرت، عقب ضغط، شعبي ورسمي، إلى طلب وساطة مصر. وتمخضت هذه الوساطة باتفاق القاهرة، الذي عقد بين السلطة اللبنانية والمنظمات الفدائية الفلسطينية، في 3 نوفمبر 1969، بهدف تنسيق العلاقات بين لبنان والثورة الفلسطينية. وفيما يلي أهم ما تضمنه الاتفاق:
بالنسبة إلى الوجود الفلسطيني: حق العمل والإقامة والتنقل للفلسطينيين في لبنان. وإنشاء لجان محلية من فلسطينيي المخيمات لرعاية مصالحهم فيها، بالتعاون مع السلطات المحلية. ووجود نقاط للكفاح الفلسطيني المسلح، داخل المخيمات، مهمتها تنظيم وجود الأسلحة وتحديدها. والسماح للفلسطينيين، الموجودين في لبنان، بالمشاركة في الثورة الفلسطينية.
بالنسبة إلى العمل الفدائي: تسهيل العمل الفدائي الفلسطيني، وتنظيم الدخول والخروج والتجول للفدائيين، وإيجاد انضباط وتنسيق وتعاون مشترك، بين الثورة الفلسطينية والجيش اللبناني، وضبط قيادة الكفاح المسلح لتصرفات أفرادها، وعدم تدخّلهم في شؤون لبنان. كما تمارس السلطات اللبنانية، مدنية وعسكرية، صلاحيتها في جميع المناطق اللبنانية، في كل الظروف.
ذاك هو اتفاق القاهرة، الذي يُعَدّ نقطة انعطاف مهمة، في تاريخ العلاقات اللبنانية ـ الفلسطينية. فقد أمكن، في ظله، تأجيل التصادمات المسلحة، بين السلطة اللبنانية والثورة الفلسطينية، أكثر من ثلاث سنوات متتالية. وتعرض جنوبي لبنان، في أواخر 1971 وأوائل 1972، لاعتداءات إسرائيلية متلاحقة، سبقتها تعليقات صحفية، وتهديدات للمسؤولين الإسرائيليين، أمثال حاييم بارليفHaim Bar Lev، وديفيد أليعازرDavid Elazar، رأوا فيها، أن لبنان هو المسؤول عن نشاط المقاومة، داخل الأرض المحتلة.
وبدأ العمل الفدائي، مع أوائل 1972، يتكيف مع الظروف الجديدة، التي كان في مقدمتها انتهاء الوجود العلني لحركة المقاومة الفلسطينية، في الأردن، وتهديدات إسرائيل بالحرب، وتشدد الموقف الأمريكي إزاء قضية الشرق الأوسط. وأدت هذه الظروف إلى ضغوط عربية على حركة المقاومة، وإلى جهود لبنانية رسمية، بهدف تخفيف نشاط المقاومة على الحدود اللبنانية، وعدم إعطاء إسرائيل ذريعة لتنفيذ مخططاتها في جنوبي لبنان.
ونتيجة للهجمات، التي شنتها إسرائيل على الجنوب اللبناني، خلال عام 1972، فقد خَف النشاط الفدائي، في بعض الأحيان، بل تجمد، في أوقات أخرى، استجابة من المقاومة لتلك الضغوط، وحرصاً منها على عدم تصعيد التوتر مع السلطات اللبنانية.
وكانت غارة الكوماندوز الإسرائيليين على بيروت، وقتْلهم ثلاثة من قيادات المقاومة الفلسطينية، إيذاناً بانفجار التصادم، بين السلطة اللبنانية والفلسطينيين، عام 1973. إذ تحركت الجماهير، تدين عجز السلطة عن حماية البلاد، وتخاذلها دون الرد على هذا الهجوم. وكان رد القوى اليمينية على حركة الجماهير، والتفافها حول الثورة، هو المطالبة “بنقل المخيمات من حول العاصمة”.
وفي الوقت الذي كانت الأمة العربية تواجِه فيه تحدياً، وتهديداً بحرب إسرائيلية خاطفة، والمخيمات الفلسطينية في لبنان، تتعرض لهجمات إسرائيلية متوالية، من الجو والبر، بادرت وحدات من الجيش اللبناني إلى محاصرة بعض المناطق والمخيمات الفلسطينية، في مدينة بيروت، ومهاجمة بعضها الآخر، وقصفها وتفتيشها، واعتقال عدد كبير من الفلسطينيين واللبنانيين، بدعوى الحرص على سيادة لبنان.
وحاولت قيادة الجيش التنصل من مسؤوليتها عن تلك الأعمال، التي ارتُكبت ضد الفلسطينيين بدعوىعجزها عن السيطرة على بعض قواتها. وإزاء ما تعرض له مخيمات النازحين ومناطقهم المختلفة، سواء في قلب العاصمة اللبنانية، أو خارجها، ازداد تمسك الفلسطينيين بوجودهم في لبنان.
ولم يكن تدخّل الجيش اللبناني في مظاهرة صيدا، في فبراير 1975، وقمعه للمتظاهرين، من صيادي الأسماك، والأحزاب الوطنية، بإطلاق النار عليهم، وقتل نائب صيدا، معروف سعد ـ إلاّ محاولة للإيقاع بالمقاومة. وآية ذلك، أن الجيش اللبناني، تدخّل في المظاهرة، من دون موافقة رئيس الوزراء اللبناني، رشيد الصلح، الذي هدد بالاستقالة، إذا لم ينسحب الجيش.
ولعل مما ضاعف تدهور الموقف، استمرار الإضراب، في صيدا، وحدوث إضرابات ومظاهرات، في بيروت وطرابلس والبقاع، وحدوث معارك بين الجيش وبعض المسلحين، ومحاولة بعض أجهزة الإعلام إقحام المقاومة الفلسطينية فيها.
ولم يكن بعض قطاعات السلطة حريصة على معالجة الموقف. ففي الوقت الذي التقى فيه المسؤولون ممثلي الهيئات والأحزاب في صيدا، لتسوية الموقف، كانت مصفحات الجيش، تطوّق عدة مناطق في المدينة، وتشتبك معها. فضلاً عن دور تلك القطاعات في تقوية القوى اليمينية، إذ أمدت “الكتائب” بالسلاح والمساعدات المختلفة، وأوجدت “حراس الأرز”، وقدَّمت العون إلى “الرابطة المارونية”.
وبدورها، تحركت القوى اليمينية، ممثلة في رئيس “الكتائب”، بيارالجميل، ورئيس “الأحرار”، كميل شمعون، ورئيس “الكتلة الوطنية”، ريمون إده، لمساندة قطاعات السلطة، المذكورة، ونظمت عدة مظاهرات كبيرة، في بيروت وغيرها، بحجة تأييد الجيش.
وكانت مذبحة عين الرمانة، في 13 أبريل 1975، مؤشراً إلى أن حزب الكتائب، قد أخذ على عاتقه مسؤولية تنفيذ مخطط، لخلق فتنة طائفية في لبنان، تسفر عن تصادم الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية. ففي ذلك التاريخ، هاجمت “الكتائب” مركبة عامة، تُقلّ عدداً من سكان مخيم تل الزعتر، بعد مشاركتهم في الاحتفال بذكرى دير ياسين. وأسفر الهجوم عن قتْل وجرْح أكثر من خمسين شخصاً. ومنذئذٍ، بدأت الاشتباكات بالمدافع الثقيلة، بين رجال المقاومة وحزب الكتائب، في بيروت.
ولم يكن توجيه الاتهام إلى حزب الكتائب مشكوكاً فيه، إذ أكد بعض الشخصيات اللبنانية، الرسمية والشعبية، مسؤولية الحزب عن مجزرة عين الرمانة. ففي بيان، ألقاه رشيد الصلح، رئيس وزراء لبنان، في ذلك الوقت، أمام مجلس النواب اللبناني، مساء 15 مايو 1975، حمّل “الكتائب” كل المسؤولية، والنتائج المترتبة على تلك المجزرة. كما أكد الشيخ حسن خالد، مفتي الجمهورية اللبنانية، أن التسلط والاستفزاز، الكتائبيَّين، هما سبب تلك المجزرة.
وحرص بعض الشخصيات، الرسمية والدينية والشعبية، على وأد الفتنة، ولا سيما رئيس الوزراء وريمون إده، بل كميل شمعون نفسه، والشيخ حسن خالد، والإمام موسى الصدر، والبطريرك خريش، فضلاً عن القوى الوطنية والتقدمية، وعلى رأسها كمال جنبلاط. فاتُّفق، في الأول من يوليه 1975، على وقف إطلاق النار، وإزالة جميع المظاهر المسلحة، وإلقاء القبض على العناصر، التي تعمد إلى الخطف؛ وعدد من النقاط الأخرى. وعلى الأثر، اجتمع ممثلو جميع فصائل المقاومة، والقوى والأحزاب، الوطنية والتقدمية، في لبنان، واتفقوا على ضرورة التمسك بتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار. ووجَّه ممثلو فصائل المقاومة نداء إلى قواعدهم الشعبية، بضرورة الالتزام بمضمونه.
ثالثاً: الوجود الفلسطيني، والتوازن الطائفي في لبنان
تبيّن مما سبق، أن الخلاف بين القوى اللبنانية، حول الوجود الفلسطيني في لبنان، لا يعود إلى بدايات الحرب اللبنانية،، ولكن جذوره تمتد إلى عام 1948، وهو تاريخ النزوح الفلسطيني الأول. حين قدر عدد اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان، بأكثر من مائة ألف لاجئ.
وكانت القوى اليمينية في لبنان، ترفض فتح البلد أمام هؤلاء اللاجئين، بحجة عجز الاقتصاد اللبناني عن استيعابهم، فضلاً عن أن اللاجئين، ومعظَمهم من المسلمين السُّنة، من شأنهم قلب التوازن الديموجرافي بين الجماعات الدينية، ومن ثم، التأثير في مركز المسيحيين، وذلك بتحويلهم إلى أقلّية. فقد كان البنيان السياسي في لبنان يعتمد على التوازن في المصالح بين المسيحيين الموارنة (377.544 نسمة) وبين المسلمين السُّنة (273.125 نسمة) والمسلمين الشيعة (237.107 أشخاص).
ويتحقق التوازن المنشود مع المسلمين بوجود أقلّية مسيحية: اليونان الأرثوذكس (120.858 نسمة)، والأرمن الأرثوذكس (67.139 نسمة)، والكاثوليك (81.764 نسمة)، والبروتستانت (112.641 نسمة).
وفي عام 1952، بلغت نسبة المسيحيين 53.6%، والمسلمين 45.5% من إجمالي السكان. وكان من شأن قبول اللاجئين الفلسطينيين (حوالي 8% من إجمالي السكان في لبنان)، قلب هذا التوازن، ولم يكُن ذلك مرغوباً فيه.
ومنذئذٍ، وأزمة الثقة قائمة بين النظام السياسي في لبنان، والوجود الفلسطيني على أرضه، على الرغم من أن الوجود الفلسطيني، كان طارئاً ومؤقتاً، في آن واحد. فهو طارئ، لأن لبنان، هو أقرب إلى فلسطين من سائر الدول المضيفة للاجئين: مصر، الأردن وسورية. ولذلك، لجأ إليه العدد الأكبر من الفلسطينيين، الذين قدر عددهم، عام 1973، بنحو 281.5 ألفاً، وهو ما يعادل حوالي 9% من إجمالي سكان لبنان. أمّا السمة المؤقتة للوجود الفلسطيني في لبنان، فمردّها إلى أنه ينتهي حالما تسوّى قضية عودة الفلسطينيين إلى ديارهم.
رابعاً: الموقف الفلسطيني في بداية الحرب اللبنانية
تميز الموقف الفلسطيني عن غيره من مواقف أطراف الحرب الأهلية اللبنانية، خاصة الموقف السوري، بأنه موقفُ طرف متفاعل، داخلياً، في الأزمة اللبنانية، أي أنه طرف يؤثّر فيها ويتأثر بها، سواء بسبب وجود الفلسطينيين في لبنان، أو بسبب تمركز المقاومة الفلسطينية المسلحة، بشكل مكثف، في الأراضي اللبنانية. وهو ما أسفر عن خلاف حول الوضع القانوني للمنظمات الفلسطينية في لبنان، أي حول حقوقها وواجباتها، وكذلك حول حقوق الدولة اللبنانية وواجباتها حيال تلك المنظمات.
وكما دعم الوجود الفلسطيني المسلح موقف منظمة التحرير الفلسطينية، فإنه، كذلك، منح القوى اللبنانية المسيحية، أقوى حججها لتبرير بدئها المعركة ضد هذا الوجود، بكل قواها، السياسية والعسكرية، تحت شعار وضع حدّ “للتهديد الفلسطيني لسيادة لبنان”. وكان الرد الفلسطيني على هذا الطرح الطائفي للأزمة، هو اللجوء، أولاً، إلى القوة الذاتية للمقاومة الفلسطينية، والتلاحم مع القوى اللبنانية، الملتفّة حولها، أي اليسار اللبناني، الذي تشكل الجماهير قاعدته الشعبية.
أمّا الوسط اللبناني المعتدل،فالتزم موقف الحياد، الطائفي والطبقي، انتظاراً لحسم المعركة، أو تهدئتها، تدريجاً، تمهيداً لإعادة طرح مسألة التوازن الطائفي، مستقبلاً، وضمن إطار حركة إصلاح دستوري، كانت القوى الوطنية، في جميع الطوائف، تدعو إليها، قبل اندلاع القتال. ولكن تصاعد القتال لم يمكّن الأطراف من إيجاد قاعدة الاستقرار اللازمة، لمعالجة الأزمة سياسياً.
أمام هذا الوضع، رأت منظمة التحرير الفلسطينية نفسها، تواجِه وضعاً شبيهاً بالوضع، الذي تعرضت له في الأردن، عام 1970. فشدة القتال، واقترابه من مَواقع المخيمات الفلسطينية، وارتفاع درجة التعبئة السياسية، لدى جميع الفئات في لبنان، كل ذلك، جعل منظمة التحرير الفلسطينية أمام بديلين، لا يقلّ أحدهما خطراً عن الآخر:
البديل الأول: الدخول في المعركة، كطرف رئيسي، إلى جانب القوى التقدمية، بهدف حسم القتال، في مصلحة هذه القوى، مع تحمّل ما ينطوي عليه هذا البديل من أخطار تدخّل الجيش اللبناني، أو تدخّل قوى أجنبية، من بينها إسرائيل، لتدويل الأزمة، وتوجيه ضربة مشتركة إلى الثورة الفلسطينية والقوى الوطنية في لبنان.
والبديل الثاني: الخروج من المعركة، والاكتفاء بموقف المشاهد، والمدافع عن النفس، عند الضرورة فقط، مع تحمّل ما ينطوي عليه هذا البديل من أخطار فقدان المساندة الجماهيرية، للمقاومة الفلسطينية.
راوحت منظمة التحرير الفلسطينية بين البديلين. فعندما كانت تتعرض لهجمات، كانت تلجأ إلى البديل الأول. وفي الحالات الأخرى، كانت حريصة على دقة تحركاتها، السياسية والعسكرية، موازِنة بين الحفاظ على التزاماتها الثورية، والحفاظ على قواتها الضاربة، ومركزها السياسي.
وأكدت منظمة التحرير الفلسطينية، في المذكرة، التي رفعتها إلى “لجنة الأمن والمصلحة الوطنية”، في 5 أكتوبر 1975، اهتمامها وحرصها على إحلال السلام والاستقرار في لبنان، والحفاظ على استقلاله وسيادته ووحدة أراضيه.
كما أكدت أن الشعب الفلسطيني، الذي عاش نازحاً عن أراضيه، مصمِّم، اليوم، على ألاّ يقبل بديلاً من أرضه، في الوطن الفلسطيني. وأن شعب فلسطين، رفض أن يُمنَح أي جنسية أو هوية وطنية، سوى حق المواطَنة في فلسطين. كما أنه رفض الاندماج في أي مجتمع آخر. وأن هذه الحقائق، تنطبق أدق الانطباق، على هؤلاء الفلسطينيين، الذين لجأوا إلى لبنان.
وأكدت مذكرة منظمة التحرير الفلسطينية، أن الوضع في لبنان، دفع حركة المقاومة الفلسطينية إلى معالجة موضوع التعايش بينها وبين الجماعات اللبنانية، في إطار الأخوّة والتفاهم، وحصر موضوع العلاقة اللبنانية ـ الفلسطينية، في الدولة اللبنانية فقط، وبوساطة مؤسساتها الدستورية. لكن هذا الموقف، ظل نظرياً، عند قياسه بحركة الأحداث، التي فرضت على المقاومة مواقف آنية، وردود فعل، عفوية، أوجدتها ظروف الإشكالات المتواصلة، أو ظروف العلاقات العربية، ومواقف الأطراف من الأزمة.
فمنظمة التحرير الفلسطينية، وقفت من اجتماع وزراء الخارجية العرب موقفاً مماثلاً لموقف سورية، إذ أعلنت “أن هذا الاجتماع هو محاولة لتعريب الأزمة، وجر التناقضات والخلافات العربية إلى الساحة اللبنانية، وأن إرسال قوات عربية، محايدة، للفصل بين المتحاربين، سيؤدي إلى تحييد المقاومة الفلسطينية، وشل فاعلياتها، وفصلها عن جماهيرها الفلسطينية في لبنان”.
من هذه الحقائق، يتضح أن الحرب الأهلية اللبنانية، كان لها آثار، مباشرة وغير مباشرة، في حركة التحرير الفلسطينية، فلسطينياً وعربياً ودولياً:
على الصعيد الفلسطيني، خشيت منظمة التحرير الفلسطينية، من مخطط بعيد المدى، تخفيه الأحداث اللبنانية، ويرمي، في النهاية، إلى القضاء على وجودها العسكري في المنطقة.
على الصعيد العربي، رأت المنظمة، أن ما يجري في لبنان، هو جزء من التطورات، الهادفة إلى تحويل النزاع العربي ـ الإسرائيلي، إلى نزاعات عربية ثانوية، تمهيداً لتجميد هذا النزاع، بعد أن استطاعت القوى، العسكرية والسياسية والاقتصادية، للدول والشعوب العربية، تحقيق انتصارات ملموسة، محلياً ودولياً.
على الصعيد الدولي، كان أحد الأسباب الكامنة وراء الحرب اللبنانية، هو التشكيك في جدوى الفكرة القائلة بدولة فلسطينية ديموقراطية، تجمع المسلمين والمسيحيين واليهود.
خامساً: موقف السلطة اللبنانية من الوجود الفلسطيني، وأثره في الحرب الأهلية
لم تتعاطف السلطة اللبنانية مع الوجود الفلسطيني. ولعل أهم ما واجَه الفلسطينيين في لبنان، أن القوانين اللبنانية، لم تحدد علاقتهم بالدولة، سواء كانوا عمالاً أم مزارعين أم جامعيين. كما لم تختلف طريقة التعامل معهم، في بعض الوزارات، عنها في عام 1949، عندما كان الفلسطينيون نازحين، ليس إلاّ. فضلاً عن عدم التزام لبنان بالمواد، التي تنص على معاملة الفلسطينيين المعاملة نفسها، التي يلقاها مواطنو البلاد العربية. فالعمال الفلسطينيون، لم يتمتعوا بقوانين الضمان الاجتماعي، وتدنّت أجورهم عن أجور العمال اللبنانيين، واتجه معظَمهم إلى الأعمال الشاقة.
وقد لوحظ، قبْل الحرب اللبنانية، محاولات عديدة لشل فاعلية المقاومة الفلسطينية، وتعطيل الاتفاقات المنظِّمة للعلاقات بين لبنان والثورة الفلسطينية، خاصة اتفاق القاهرة لعام 1969. وتبدت هذه المحاولات في العديد من المظاهر، مثل إلقاء القبض على الفدائيين، ومصادرة أسلحتهم، وتقديم بعضهم إلى المحاكمة. ولعل مما يوضح موقف السلطة اللبنانية من المقاومة الفلسطينية، وعدم اهتمامها بإشاعة الثقة والطمأنينة، بين اللبنانيين ورجال المقاومة، أنها لم تسمح بصوت فلسطيني واحد، خلال الحرب، بالتحدث إلى إحدى وسائل الإعلام اللبناني.
الحرب اللبنانية الاهلية قُبَيْل اتفاق الطائف
أولاً ـ الأوضاع السياسية قُبَيْل الطائف
اتسمت هذه المرحلة بفراغ دستوري، من جراء تعذر انتخاب رئيس للجمهورية، والانقسام الطائفي للجيش، وتحوُّله إلى ميليشيات، مسيحية وإسلامية. إذ ترك أمين الجميل الحكم، ولم يكن قد اتُّفق، بعد، على رئيس للجمهورية. فعُيِّنت حكومة عسكرية انتقالية، برئاسة قائد الجيش، العماد ميشال عون. وفي إطار هذا السياق، سيطرت سورية على نصف بيروت والجبل والبقاع والشمال، وثلثَي الجنوب، وسيطرت حكومة العماد عون على جبيل وكسروان والمتن، ونصف بيروت الآخر.
1. حكم ميشال عون (الحكومة الانتقالية)
في 22 سبتمبر 1988، صدرت مراسيم تعيين حكومة عسكرية، برئاسة قائد الجيش العماد ميشال عون، الذي سارع، في 23 سبتمبر 1988، إلى الإفصاح، في تصريح صحفي، عن نيته البقاء في الحكم فترة، تتجاوز الفترة الانتقالية لانتخاب رئيس جديد. وعرض على السوريين التفاهم، واقترح إرسال مندوب (النائب ألبير منصور) لمفاوضتهم. وكان الرد استقالة الوزراء العسكريين المسلمين، في حين تشبث الرئيس الحص ووزراؤه بمهامهم، مما أدى إلى انقسام الحكم.
وهكذا حكم العماد عون المناطق الشرقية من لبنان، لمدة أربعة أشهر (من أكتوبر 1988 إلى فبراير 1989)، من دون حرب.
2. حرب التحرير
نشط العرب إلى مصالحة القيادات المنقسمة: فالمسيحيون، يقودهم الموارنة، يمثّلهم ميشال عون، والمسلمون (شيعة وسُنة)، يرأسهم حسين الحسيني وسليم الحص، رئيسا الحكومة ومجلس النواب. والمجلس النيابي بقي موحَّداً، إلاّ أنه حظر عليه الاجتماع، خشية انتخاب رئيس للجمهورية. فتمسك ميشال عون، بالرئاسة، في حين قرر السوريون ضرورة استرضائهم، بجعلهم يختارون رئيساً للبنان.
وفي 14 فبراير 1989، قصفت الميليشيات مرفأَي بيروت وجونيه، رداً على حصار مرفئها غير الشرعي. ثم قصف العماد عون منطقة الأونسكو، في بيروت الغربية. فبادر السوريون، والميليشيات المتحالفة معهم، إلى قصف وزارة الدفاع اللبنانية، فأصيب مكتب ميشال عون؛ ولم يكن فيه. وفي مساء اليوم عينه، أعلن العماد عون ما سمي “حرب التحرير”.
وفي فبراير 1989، عقد اجتماع “بكركي” الأول، الذي حضره النواب والسياسيون، المقيمون بمنطقة سيطرة الجيش اللبناني و”القوات اللبنانية”. وأجمعوا على التنصل من إعلان “حرب التحرير”، إذ تخوفوا من نتائجها.
3. الوضع الإقليمي
رافق “حرب التحرير” التقاء مصالح، بين حركة “فتح” والعراق. فدعم الفلسطينيون ميشال عون في حربه ضد سورية، بتقديم بعض المال والسلاح، وبعض التسهيلات في المداخلات والتحركات الخارجية، خاصة في فك الحصار، الذي ضرب حول مناطق سيطرته.
فبدت الحرب اللبنانية، في بعض جوانبها، حرباً بين دمشق وبغداد والفلسطينيين، على أرض لبنان وبوساطة اللبنانيين. فشاب هذا الانطباع، على الصعيدين، العربي والدولي، حركة ميشال عون، كما شكك في أهداف “حرب التحرير”، إضافة إلى الشوائب الذاتية الأخرى، النابعة من واقع تلك الحرب، وطريقة إعلانها، ووسائل ممارستها. وبدا أن للمملكة العربية السعودية شأناً مهماً، نتيجة ما ظهر من حيادية مصالحها، بالنسبة إلى لبنان، ومن رعايتها لجميع الأطراف والدول المعنية بالصراع.
وزاد من شأنها صراع كلٍّ من سورية والعراق، في المشرق العربي. فكان من الطبيعي، أن يحوم دور الإنقاذ حولها، ومعها بعض دول المغرب العربي (المغرب والجزائر)، الأوطد علاقة بالغرب، ولا سيما بواشنطن.
ثانياً ـ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية
1. التحضير لمؤتمر الطائف
بدأ التحضير الجدي لإنهاء الأزمة اللبنانية، على قاعدة الوفاق، في مؤتمر القمة العربية، غير العادي، المنعقد، لهذه الغاية، في الدار البيضاء، بين 23 و26 مايو 1989. وكان انعقاد المؤتمر إشارة واضحة إلى أن قرار الحل قد اتُّخذ، وأن الأزمة اللبنانية، في سبيلها إلى الحل، إذ وضعت نتائج المؤتمر ومقرراته الأسُس الرئيسية، شبه النهائية، للحل المطلوب.
بعد استعراض أخطار الوضع اللبناني، أكد قادة العرب أن الأزمة اللبنانية، يجب حلّها في الإطار العربي، تأكيداً لعروبة لبنان، وللمسؤولية العربية حياله. وقرروا تأليف لجنة عليا من ملك المغرب، الحسن الثاني، وخادم الحرمَين الشريفَين، الملك فهد بن عبدالعزيز، ورئيس الجمهورية الجزائرية، الشاذلي بن جديد، كانت صلاحياتها مطلقة، وحددت مهمتها في برنامج عمل دقيق وأهداف واضحة. أمّا الأهداف، فهي:
“مساعدة لبنان على الخروج من مِحنته، وإنهاء معاناته الطويلة، وإعادة الأوضاع الطبيعية إليه، وتحقيق الوفاق الوطني بين أبنائه، ومساندة الشرعية اللبنانية، القائمة على الوفاق، وتعزيز جهود الدولة اللبنانية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وبسط سلطة الدولة كاملة على كافة التراب اللبناني، بهدف حماية أمنها واستقرارها بقواها الذاتية، وبسط سيادة الدولة وسلطتها الفعلية ومؤسساتها المركزية على كافة التراب اللبناني، تمهيداً لإعادة إعمار لبنان، وتمكينه من استئناف دوره الطبيعي ضمن الأُسرة العربية”.
أمّا البرنامج المرسوم، لتنفيذ هذه الأهداف، فهو:
أ. عقد اجتماع للنواب اللبنانيين، داخل لبنان أو خارجه، لوضع صيغة للوفاق والإصلاحات السياسية.
ب. عقد اجتماع للمجلس النيابي اللبناني، لتصديق صيغة الاتفاق والإصلاحات السياسية.
ج. انتخاب رئيس للجمهورية، بعد التصديق على وثيقة الوفاق.
د. تأليف حكومة وفاق وطني، تلتزم بوثيقة الوفاق، وتعمل على وضعها موضع التنفيذ.
هـ . دعم حكومة الوفاق، في اتخاذ الإجراءات، التي تراها ضرورية لممارسة سيادتها الكاملة على الأراضي اللبنانية.
و. إعطاء مهلة ستة أشهر، لإنجاز المهمة.
ورافق ختام المؤتمر تصعيد عسكري وامتعاض سوري من تأليف اللجنة، لأن الرئيس الأسد، خمن أنها ستكون رباعية، حتماً، بوجوده فيها. إلا أن رفض العاهل السعودي المشاركة السورية في اللجنة، لتقديره أن دمشق طرف من أطراف الصراع، عقّد الأمور، وأعطى الانطباع بأن اللجنة في غير مصلحة سورية.
نشطت اللجنة العليا، عبْر مندوبها، الأخضر الإبراهيمي، لوضع الخطوط العريضة لوثيقة الوفاق. وأصدرت بياناً، انتقدت فيه سورية وموقفها، محملة إياها تبعة فشل اللجنة في مهمتها، مقدرة أن فهْمها للسيادة اللبنانية، هو غير الفهْم الذي أقره مؤتمر الدار البيضاء، وهو يتنافى، كذلك، مع فهْم اللجنة للسيادة الوطنية اللبنانية. ولا شك أن موقف اللجنة المعلَن، أزعج دمشق.
ولكن الرئيس الأسد، وفي ظل مؤتمر القمة التاسع لدول عدم الانحياز، الذي عقد في يوغسلافيا، في سبتمبر 1989، توصل إلى تسوية مع الرئيس الجزائري، قضت بتعديل مشروع الوثيقة، أبدلت فيه عبارة “إعادة تجميع القوات السورية” بعبارة “انسحاب الجيش السوري”.
في إطار هذا السياق، عاودت اللجنة عملها. وأصدرت قراراً، في سبتمبر 1989، في شأن دعوة النواب اللبنانيين إلى الاجتماع، في الثلاثين من شهر سبتمبر 1989. وأعلنت وقف إطلاق النار في لبنان، وتأليف لجنة أمنية، برئاسة الأخضر الإبراهيمي، للإشراف على تنفيذه، ورفع الحصار البحري، وفتح مطار بيروت الدولي، والإشراف على وقف إرسال السلاح إلى لبنان؛ إذ تعهد الفرقاء الأساسيون بضمان وقف إطلاق النار، والتقيد به.
وحضر الأخضر الإبراهيمي إلى بيروت، في 17 سبتمبر 1989، وبدأ مهمته، وكان الجزء الأصعب فيها، إقناع العماد عون بالموافقة على مشاركة النواب، المقيمين بالمنطقة الواقعة تحت سيطرته، في المؤتمر المزمع عقده في مدينة الطائف، في المملكة العربية السعودية. فعقد اجتماع عام في قصر الرئاسة، في بعبدا، بين العماد عون والنواب، تقرر، خلاله، أن يذهب النواب إلى الطائف، لأن أغلبيتهم راغبون في إيجاد حل. واتخذ القرار في حضور عون، وعدم معارضته المعلَنة.
2. انعقاد المؤتمر في الطائف
حضر إلى الطائف من مجموع ثلاثة وسبعين نائباً، اثنان وستون، وتغيب أحد عشر، ثمانية لأسباب غير سياسية، وثلاثة عُدُّوا مقاطعين، رافضين، هم: ريمون إده وألبير مخيبر وإميل روحانا صقر. ولم يعد منهم إلى الندوة النيابية، سوى سبعة عشر. ولم يعد من المسيحيين، الذين تحملوا مسؤولية الموافقة على الاتفاق، سوى ثمانية.
اكتمل عدد النواب، مساء 29 سبتمبر. وافتتح المؤتمر، صباح الثلاثين منه، بكلمة خادم الحرمَين الشريفَين، باسم اللجنة الثلاثية العربية العليا، ألقاها وزير خارجية المملكة، الأمير سعود الفيصل، وبكلمة رئيس مجلس النواب اللبناني، السيد حسين الحسيني.
وبدا، منذ اللحظة الأولى، أن محورَي النقاش هما: الإصلاحات السياسية، والسيادة. وتوزع النواب مجموعات، يحمل كلٌّ منها اتجاهاً ورأياً. من بينها:
أ. مجموعة “الشرقية”، وتمحورت حول “الكتائب” و”الموارنة المستقلين” و”الأحرار”، مثّلهم جورج سعادة وبطرس حرب وبيار دكاش.
ب. مجموعة “الغربية”، وتمحورت حول صائب سلام ونزيه البزري.
ج. مجموعة “البقاع والجنوب”، وتمحورت حول حسين الحسيني.
د. مجموعة “سعاة الخير”، الذين يناصرهم بعض الأرمن، وبعض الروم، مثّلهم خاتشيك بابكيان ونصري المعلوف.
هـ. أمّا صوت الطائفة الدرزية، فمثّله توفيق عساف، الذي عرض ما سمي المطالب الدرزية.
و. وكان زاهر الخطيب صوت الميليشيات الحليفة لسورية.
ز. ثم مجموعة الراغبين في تسوية وطنية عامة، تؤمّن المساواة بين المواطنين، وتحفظ سيادة الدولة، وتوقف الحرب، وتمثّلت في العدد الأكبر من النواب، الذين لا مواقف مسبقة لهم، سوى الحرص على الإنقاذ ووقف الحرب.
أكد بعض المؤتمِرين، أن أسباب الحرب اللبنانية، هي داخلية، وأنها حرب أهلية بين اللبنانيين أنفسهم، ومن ثَم، فإن علاجها في الإصلاحات السياسية. في حين ركز بعضهم الآخر في الأسباب الخارجية. ورغب بعضهم الآخر في إظهار الحرب على أنها حرب لبنانية ـ سورية، علاجها في استعادة السيادة الوطنية التامة.
وبدا أن الفرقاء الأساسيين محرَجون، كذلك، بمواقف أطراف وقوى، ليس لها وجود مباشر في المؤتمر، وإنما يثقل ظلها أجواءه. فالطرف المسيحي مثقَل بالإحراج من قِبل العماد عون، والطرف المسلم مثقَل بالإحراج من قِبل السوريين. وانعكست هذه الأثقال والإحراجات على مسار النقاش، تسهيلاً وتعقيداً، تبعاً للمواقف والمَواقع. إلاّ أن التصميم على الإنقاذ، كان هاجساً أساسياً لدى جميع الأطراف وممثليهم، بل هاجس المؤتمِرين كافة.
2. المشروعات المطروحة
لم يكُن مشروع اتفاق الطائف أول مشروع وفاق، يبحثه اللبنانيون، إذ بدأ طرح المشروعات الإصلاحية، منذ بداية الحرب اللبنانية، ورافقه النقاش حول داخلية الصراع أو خارجيته، منذ يومه الأول. فالرافضون للإصلاح، والراغبون في استمرار نظام الهيمنة، والثنائية، كانوا يرون، أن الحرب في لبنان، هي حرب من قِبل غير اللبنانيين، فلسطينيين كانوا أم سوريين. والداعون إلى الإصلاح، والمتحالفون مع الفلسطينيين، أو مع السوريين، كانوا يرون، أن الحرب اللبنانية، هي حرب أهلية، وأن أسباب الصراع داخلية، في أساسها، ترتبت عليها أسباب خارجية.
وتوالت مشروعات الحلول الداخلية، في مجال الإصلاح السياسي، مع كل انفراج في الصراع، أو هدنة. وكثرت الوثائق والثوابت والنقاط. وكانت أولاها الوثيقة الدستورية، التي اتُّفق عليها، في بداية الحرب اللبنانية،، بين الرئيسَين، الأسد وفرنجية. وأهم تعديل فيها، على مستوى الإصلاح الداخلي، كان اقتراح المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، في المجلس النيابي.
تلاها النقاط الأربع عشرة، إلى الثوابت الإسلامية، إلى الوثيقة، التي أقرها المجلس النيابي بالإجماع. وجميعها نصت على مبادئ عامة، هي مرتكزات النظام السياسي في لبنان. ولعل أكثر ما دار النقاش حوله، هو موضوع عروبة لبنان. فالمسيحيون يقرون بالعروبة هوية عامة، لا يترتب عليها أي أمر سياسي معين، سوى ما يترتب على أعضاء جامعة الدول العربية، وبالإجماع، محاذرين أن يتحول الإقرار بالانتماء إلى العروبة، مطالبة بالوحدة السياسية بين لبنان وسورية، أو بين لبنان وأي دولة عربية أخرى.
وإضافة إلى الخوف من الوحدة السياسية، وضياع الهوية، تخوَّف بعض المسيحيين من الخلط بين العروبة والإسلام. فالتسليم بالعروبة، يعني، في رأيهم، القبول بسيطرة المسلمين السياسية، ومن ثَم، العودة إلى التمييز بين مسلم وذمِّي، وتحويل المسيحيين إلى مواطنين ثانويين، لا حقوق سياسية لهم، ويُغلبون على حقوقهم الأخرى، عند كل خلاف.
وقد جمع مشروع الوثيقة، التي عرضت على النواب في الطائف، العديد من نقاط الوفاق، التي حملتها الوثائق السابقة. إلاّ أنه حمل بعض الجديد في الصيغة الداخلية، والكثير في صيغة العلاقات بسورية.
والمشروع، الذي طرح على النواب للنقاش، يلخص مشروعات عديدة، بدأ نقاشها بين بعض المسؤولين اللبنانيين، ثم بينهم وبين المندوبين العرب، فبينهم وبين بعض المعنيين من الأمريكيين.
ومن الذين أسهموا في إعداد المشروعات، وصولاً إلى المشروع النهائي: الرئيس الحسيني والرئيس الحص، ولجنة من النواب المسيحيين، اختارهم البطريرك الماروني، منهم رينيه معوض، وجورج سعادة، وبطرس حرب. وعن اللجنة العربية الأخضر الإبراهيمي ورفيق الحريري، بإشراف الأمير سعود الفيصل، ووزيرا خارجية المغرب والجزائر. وعن سورية عبدالحليم خدام، وعن الولايات المتحدة الأمريكية السيدة أبريل جلاسبي April Glaspie.
وقد سبق المشروع النهائي مشروع، لم توافق عليه سورية، ولا سيما في ما يتعلق بموضوع استعادة سيادة الدولة اللبنانية على أرضها، بقواها الذاتية.
مضمون مشروع الاتفاق وموقف سورية منه:
النص الذي وافقت عليه
النص الذي لم توافق عليه
تقوم … أُلغيت عبارة “في جميع الأماكن، حيث توجد القوات السورية” … في فترة زمنية محددة، أقصاها سنتان. تقرر الحكومة السورية، بالاتفاق مع الحكومة اللبنانية، إعادة تمركز القوات السورية، في منطقة البقاع ومدخل البقاع الغربي، في ضهر البيدر، حتى خط حمانا ـ المديرج ـ عين دارة، وفي نقاط أخرى
تقوم القوات السورية، مشكورة، بمساعدة قوات الشرعية اللبنانية، لبسط سلطة الدولة اللبنانية في جميع الأماكن، حيث توجد القوات السورية، في فترة زمنية محددة، أقصاها ستة أشهر. تتجمع، خلالها، القوات السورية، وتتمركز في منطقة البقاع.
كذلك، يتم التوقيع على اتفاق، يتم، بموجبه، تحديد مركز وحجم ومدة تواجد القوات السورية في البقاع، بين الحكومتَين، السورية واللبنانية، وبرعاية اللجنة الثلاثية العربية العليا.
إن النص الذي حذف في التعديل الأول، يشير إلى رغبة السوريين في مساعدة السلطة الشرعية على بسط سلطتها، في جميع المناطق اللبنانية، وليس في محل وجودها فقط.
أمّا التعديل الثاني، فيعبّر عن رغبة السوريين في الإبقاء على وجودهم، ليس في البقاع فقط، بل في ضهر البيدر، كذلك، وعلى خط حمانا ـ المديرج ـ عين دارة، وفي نقاط أخرى. حجتهم في ذلك حماية قواتهم الموجودة في البقاع.
ويتعلق التعديل الثالث بعدم رغبة السوريين في رعاية اللجنة العربية العليا للاتفاق، الذي سيعقد مع الحكومة اللبنانية، حول عدد القوات السورية، ومدة وجودها في البقاع وضهر البيدر، واستبدال المساعدة بالرعاية، شرط طلبها، ومن قِبل الحكومتَين اللبنانية والسورية.
ويشمل التعديل الرابع، تمديد المدة، التي تضطلع، إبّانها، القوات السورية بمساعدة الدولة اللبنانية على بسط سلطتها، من ستة أشهر إلى سنتين.
ويتضمن التعديل الخامس بتغيير صيغة قرار تجميع القوات السورية، وجعله، على الزاميته في الوقت المحدد، نتيجة قرار مشترك بين حكومتَي البلدَين.
ويستبدل التعديل السادس عبارة “في شتى المجالات” بعبارة “حيث تدعو الحاجة”، مما يؤكد رغبة السوريين في عقد اتفاقات تفصيلية مع لبنان، في شتى المجالات، وليس حيث تدعو الحاجة فقط.
ويعبّر التعديل السابع عن رغبة السوريين في إجراء اتفاق أمني مباشر مع لبنان، من دون تدخّل اللجنة العربية ورعايتها.
اثار الحرب الاهلية اللبنانية
تعود جذور الأزمة الاقتصادية، التي عاناها لبنان، إلى ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية. فهي في جزء منها، ناتجة من اعتبارات هيكلية بنيوية، لأن تركيبة الاقتصاد اللبناني، أصبحت متنافرة مع ظروف المحيط العربي ومعطياته. كما أن تراكم التشوهات، الاقتصادية والاجتماعية، التي انطوى عليها النظام الاقتصادي اللبناني، غدا ثقيل العبء، بخاصة في ضوء التطورات، السياسية والاجتماعية والديموجرافية، التي عرفتها البلاد، طيلة فترة الرخاء الاقتصادي.
هكذا، بدأ الاقتصاد اللبناني يعاني صعوبات عديدة، تمثلت في الإضرابات، وارتفاع نسب الغلاء، وعدم كفاية المرافق العامة (مرافئ، طرقات، وسائل اتصال … إلخ) وقصور مستوى أداء القطاع العام عن اللحاق بالتطور الكبير، الذي شهده القطاع الخاص. ولقد جاءت الفورة النفطية الأولى (1973 ـ 1974)، لتبرز بوضوح مكامن الضعف والوهن في هيكلية الاقتصاد اللبناني.
إذاً، كان الوضع، الاقتصادي والاجتماعي، عشية الحرب، معبأً تعبئة، تنذر الانفجار الكبير، في أي لحظة. ولا شك أن الأوضاع، الاقتصادية والاجتماعية، كان لها دور غير بسيط، في تفجير الحرب اللبنانية، وتأجيج نارها، وتعميق مداها وتوسيعها.
وأسهمت الحرب، بدورها، في تفاقم الأزمة الاقتصادية، إسهاماً مباشراً، من طريق تهديم وسائل الإنتاج (من بنى تحتية ووسطية وفوقية، تشكل مجموع الاستثمار الوطني)، وإعادة توزيع القوى العاملة البشرية، على أُسُس غير اقتصادية؛ وتهجير أعداد كبيرة منها إلى الخارج؛ وانهيار حكم القانون، وتدهور الأوضاع الأمنية؛ وتقسيم السوق الواحدة إلى عدة أسواق؛ واضطراب مختلف مجالات النشاط الاقتصادي، من إنتاج وتوزيع، وتبادل في الداخل ومع الخارج؛ وشلل أو هجرة عدد كبير من المؤسسات الاقتصادية؛ وانهيار الإطار، القانوني والمؤسسي، الذي يحكم النشاط الاقتصادي ويرعاه.
كذلك، أسهمت الحرب في تفاقم الأزمة الاقتصادية إسهاماً غير مباشر، بوساطة بعض إفرازاتها ونتائجها؛ إذ شكلت سبباً مهماً في تفاقم الأزمة الاقتصادية، التي توشك أن تنفجر. إلاّ أنها طمست مكامن الأزمة البنيوية وأسبابها، لتتصدر شواغل الشعب اللبناني. وقد يكون مفيداً، في مجال البحث في الآثار الاقتصادية السلبية المباشرة الحرب اللبنانية،، تفصيل المراحل، التي مرت بها الحرب، على الشكل التالي:
1. المرحلة الأولى والآثار السلبية للحرب الأهلية
تمتد بين بداية الحرب اللبنانية،، في أبريل 1975، والاجتياح الإسرائيلي، في يونيه 1982. وعلى الرغم من تخريب وسائل الإنتاج، خلال حرب السنتين، وانخفاض الناتج المحلي، فإن الدخل الفردي تابع مسيرة ارتفاعه، بسبب ارتفاع حجم تحويلات اللبنانيين، الذين هاجرو بأعداد كبيرة، ومتزايدة، للعمل في الخارج، خاصة في البلدان العربية النفطية، التي شهدت، في هذه الفترة، أوسع مراحل النمو الاقتصادي وأكبرها. فضلاً عن تدفق الأموال السياسية والمشابهة إلى لبنان.
هكذا، تزامنت الحرب اللبنانية، التي مثلت قوة طاردة للعديد من فئات الشعب اللبناني، مع قوى الدفع إلى البلدان العربية، التي حرصت على اطِّراد نموّها. ومع أن مستوى الأسعار، سجل ارتفاعاً ملحوظاً، بالنسبة إلى السابق، إلا أنه بقي، مع مستوى سعر صرف الليرة اللبنانية، ضمن حدود معقولة. يضاف إلى ذلك أن احتياطيات لبنان النقدية الأجنبية، ارتفعت بنسب واضحة، وسجل ميزان المدفوعات فوائض كبيرة، ومتمادية، باستثناء عام 1976، الذي يُعَدّ عام التأقلم والتكيّف، والانتقال من أوضاع السلام إلى أوضاع الحرب.
2. المرحلة الثانية
تبدأ مع الاجتياح الإسرائيلي، في يونيه 1982، وتنتهي مع نهاية سبتمبر 1988. إذ شكل الاجتياح الإسرائيلي للبنان، نقطة تحول أساسية في مسار الاقتصاد اللبناني وأدائه، خلال الحرب. فهو، بما نتج منه من انهيار للركائز والمقومات الاقتصادية، ومن تحولات وتطورات سياسية جذرية، داخلياً وإقليمياً ودولياً ـ شكل أحد أهم الأسباب الكامنة وراء الانهيار الاقتصادي.
فخلال هذه الفترة، عرف لبنان أقسى مظاهر الحرب الأهلية (حرب الضاحية، إعادة انقسام بيروت وتفتت الجيش، حرب شرق صيدا … إلخ)، الأمر الذي أدى إلى تهجير اللبنانيين، داخل وطنهم، على نطاق واسع، وإلى المزيد من تفتيت السوق ووضع العوائق أمام انتقال البضائع والأشخاص. كذلك، عرفت هذه الفترة محاولة عزل لبنان عن محيطه العربي، وربطه بإسرائيل، عبر اتفاق 17 مايو 1983، وانحيازه، في مجال الصراع الدولي. وأخيراً، شهدت هذه المرحلة دخول الدولة اللبنانية، والجيش اللبناني، كطرف في الصراع الداخلي المسلح، على نطاق واسع، لم تعرفه البلاد من قبْل، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع هائل في النفقات الحكومية.
3. المرحلة الثالثة
انحصرت في فترة الحكومتَين، التي امتدت بين سبتمبر 1988، وقيام الشرعية الجديدة، المنبثقة من وثيقة الوفاق الوطني، في نوفمبر 1989. وقد عرفت هذه الفترة المزيد من تقسيم المؤسسات، الشرعية والرسمية، كما عرفت قدراً كبيراً من التهديم والهجرة، الناجمين عن القتال العنيف الذي خاضه ميشال عون، القائد السابق للجيش، تحت شعار ما أسماه “حرب التحرير”.
4. المرحلة الرابعة
امتدت من نوفمبر 1989، إلى أكتوبر 1990، وشهدت إزالة حالة التمرد، والبدء بعملية إعادة توحيد الجيش اللبناني، المنقسم منذ فبراير 1984. وخسر لبنان، خلال هذه الفترة، كذلك، المزيد من وسائل الإنتاج والاستثمارات، وشهد هجرة واسعة للمهارات والمؤسسات، بسبب القتال الدائر بين القائد السابق للجيش و”القوات اللبنانية”.
أمّا السبب الأساسي للأزمة الاقتصادية، التي عاناها لبنان، فيرجع إلى التضخم النقدي. إذ بدأ العجز الكبير، في أواخر عام 1982، وتحديداً مع بداية عام 1983. وكانت نشأته الأولى بسبب ارتفاع النفقات العسكرية، من أجْل تأهيل الجيش، وزيادة عديده وتسليحه، بعد إقحامه في الصراعات الداخلية، ابتداءً بحرب الجبل، خلال صيف 1983.
وإضافة إلى النفقات العسكرية، اتّبع لبنان سياسة إنفاق توسعية، شملت مشروعات تأهيلية، إنشائية، لم يكن لها أولوية اقتصادية أو اجتماعية، بل كانت دوافعها، في الغالب، سياسية وحزبية. الأمر الذي أدى إلى زيادة متضاعفة في حجم الكتلة النقدية. فكان التضخم (بالنظر إلى انخفاض الناتج المحلي)، وارتفعت الأسعار، وانخفض سعر صرف الليرة اللبنانية. ومع ارتفاع الأسعار، وانخفاض سعر صرف الليرة، ارتفع الإنفاق الحكومي و(الخاص)، بخاصة أن جزءاً من هذه النفقات، كان بالعملات الأجنبية، التي ارتفعت أسعارها، بالنسبة إلى العملة اللبنانية، ولا سيما إثر تولّي حكومة الوحدة الوطنية، في ربيع 1984.
وهكذا، قفز العجز المالي للدولة قفزات كبيرة، بسبب ارتفاع النفقات، في البداية، وانخفاض الواردات، فيما بعد. فوصل لبنان، مع بداية عام 1985، إلى أعلى درجة من التضخم. كذلك، أسهم في ارتفاع حدّة التضخم والأسعار، ارتفاع النفقة، الناتج من انخفاض الإنتاجية بشكل عام، ومن تفتيت السوق، والعوائق المصطنعة أمام الأشخاص والبضائع، ومن النفقة الإضافية، المتمثلة في انهيار الخدمات العامة، وزيادة الإتاوات والضرائب غير الشرعية، الناجمة عن نشوء وتسلُّط الوحدات الاقتصادية، التي لا تستند إلى الأهلية والإنتاجية والتنافس، وإنما إلى مجرد قربها من قوى الأمر الواقع.
وبدلاً من أن تعمد السلطات اللبنانية إلى اتّباع سياسات التصحيح، فتستوعب التطورات السلبية، وتخفف من وطأتها وحدّة تفاقمها ـ اتّبعت سياسات زادت الأزمة حدة، إذ لجأت إلى انتهاج سياسات التصعيد. ففي مجال السياسة المالية، والنقدية على وجه الخصوص، مثلاً، عرف لبنان مفارقة عجيبة، إذ كلما كانت الدولة تنجح في تخفيض بعض نفقاتها (كما حدث عندما ألغي الدعم على البنزين مثلاً)، كان يرتفع حجم عجز الخزينة بنسبة مضاعفة، بدل أن ينخفض. والسبب أن توفير بعض المال، نتيجة خفض النفقات، كان يدفع النخبة الحاكمة إلى الإنفاق في مجالات أخرى، مستغلة هذا الوفر في تبرير الإنفاق الإضافي.
وأخيراً، لا بدّ من ذكر العوامل والتطورات الخارجية، السلبية، التي ترافقت وتزامنت مع هذه السلبيات الداخلية، وساعدت على تفاقم الأزمة الاقتصادية، مثل حرب الخليج الأولى، بين العراق وإيران، وانخفاض أسعار النفط، أوائل الثمانينيات، والانكماش الاقتصادي الناتج منه، في الأقطار العربية النفطية، وحرب الخليج الثانية … إلخ.
أ. هروب رأس المال، المحلي والأجنبي
حالت الحرب اللبنانية، دون ممارسة العديد من المؤسسات والهيئات، الوطنية والأجنبية، نشاطها الاستثماري، في بيروت، بصفتها مركزاً رئيسياً لمنطقة الشرق الأوسط كافة. وقد قدِّر، مؤخراً، عدد المؤسسات التي غادرت البلاد بألفَي شركة، منها أربعمائة شركة ومصرف دوليَّين، والأخرى شركات لبنانية أو عربية أو شركات خاصة.
وتوافق التوتر وعدم الاستقرار السياسي، اللذان سادا بيروت، مع عدة تطورات في العديد من دول الشرق الأوسط، ومن ثم، انعكست في جذب الاستثمار. وأبرز هذه التطورات حالة الاستقرار السياسي في العاصمة اليونانية، أثينا، وصدور القانون (89)، الذي يعفي من الضرائب كل شركة أجنبية، يقع مركزها في العاصمة، ولا تمارس أي نشاط تجاري داخلها. فضلاً عن أن موقع اليونان الجغرافي، كحلقة اتصال بين منطقة الشرق الأوسط والقارة الأوروبية، يُعَدّ عنصراً مهماً في جذب العديد من المؤسسات الأجنبية، وبخاصة الأمريكية واليابانية.
وقد تنافست العواصم الخليجية، مثل دبي، والمنامة، وكذلك الكويت، في اجتذاب رؤوس الأموال والأنشطة الاقتصادية الدولية. وكذلك طهران. وبرز الأردن بديلاً من لبنان، فأصدر التشريع الذي يمنح امتيازات واضحة لكلٍّ من الشركات والأفراد، الذين يتخذون عمّان قاعدة لأنشطتهم الاقتصادية، مع إتمام التوزيع خارج البلاد. وسمح التشريع بفتح حسابات غير مقيمة، وإعادة تحويل الأرباح، من دون أي قيود، كما لم يتطلب وجود شريك أردني، مع الإعفاء من ضريبة الدخل، بالنسبة إلى الدخول الأجنبية. فنزح عن بيروت، العديد من المؤسسات الأجنبية، مثل تشيس مانهاتن بنك، وسيتي بنك، ولوكهيد، وشيراتون، وجنرال موتورز، والعديد من الشركات اليابانية.
ب. التحول إلى موانئ البحر المتوسط الأخرى
ولعل من أبرز النتائج الاقتصادية، التي ترتبت على حرب لبنان الأهلية، تحوّل سفن الشحن المختلفة، إلى موانئ متعددة، في كلٍّ من تركيا، وقبرص، واليونان، وإيطاليا، وأسبانيا والبرتغال، خشية أن تفسد شحناتها بعد أن طال انتظارها خارج ميناء بيروت.
ولكن، لم تكن هذه الاختناقات وليدة الحرب الأهلية، وإنما هي ناجمة عن عدم المواءمة بين إمكانات الميناء اللبناني والتزايد في حجم النشاط التجاري. وقد أشار رشيد كرامي، رئيس الـوزراء اللبنانـي، إلى هـذه الحقيقة، في 15 أغسطس 1975، حينما أعلن أن السفن، لا تفرَّغ في ميناء بيروت، إلا من طريق الرشوة والسمسرة. وهدد باتّخاذ إجراءات صارمة، في مواجَهة هذه التصرفات.
وتبلورت الأسباب السابقة مجتمعة، إضافة إلى توقف النشاط السياسي، وإتلاف 60% من الإنتاج الزراعي وإحراق المخزون السلعي أو الاستيلاء عليه، وكذلك تدمير سوقَي سرسق واللعازارية، في تقلّص حجم الدخل القومي، بما يعادل ستة مليارات ليرة، في بداية الأزمة، طبقاً لتقديرات غرفة التجارة والصناعة اللبنانية، التي رأت أن الدخل القومي، قبل الحرب، كان يعادل ثمانية مليارات ليرة، وكان يتوقع أن يصل إلى تسعة مليارات، لولا الأحداث الدامية. إضافة إلى الخسائر، التي تحمّلها الاقتصاد القومي اللبناني، على مدى سنوات الحرب، والتي وصلت إلى مليون ليرة سنوياً.
ج. بعض النتائج الاقتصادية الأخرى
تمثلت أهم النتائج الاقتصادية، التي أفرزتها الحرب الأهلية اللبنانية، في التضخم الكبير، الذي عرفه، أثناءها، الاقتصاد اللبناني. إضافة إلى أن عملية توزيع الدخل والثروة كانت عشوائية، لا تستند إلى أي معايير إنتاجية تنافسية، فضلاً عن أن خسارة أصحاب الرواتب والأجور والأشخاص والمؤسسات (أي المجتمع المدني عامة)، قابلها ربح أصحاب الدخول الكبيرة وأفراد ومؤسسات الاقتصاد الموازي (أي مجتمع الحرب).
قد يكون من أشد نتائج الأزمة الاقتصادية خطراً، تلك السلبيات العديدة، التي أصابت القطاع الخاص في الاقتصاد اللبناني، وهو القطاع الذي شكل، تقليدياً، ركيزته الأولى والأساسية، وسبب ارتفاع مستوى معيشة اللبنانيين. وأهم هذه السلبيات:
(1) انكفاء القطاع الخاص عن طلب التحديث ومواكبة التطورات المستجدة، في المجالات، العلمية والتقنية والمهنية والإدارية، مادياً وبشرياً، على السواء، وذلك بسبب محدودية أفق العمل الناجمة عن الحرب، وضعف قوة الدفع الناجمة عن المضاربة الخارجية، في اتجاه التحديث والتطوير والعصرنة، وانخفاض المنافسة الداخلية، وهبوط المستوى في غير مجال، وضآلة حوافز الربح الناتجة من الأداء والمهارة العالية، وتوافرها في مجالات أخرى، لا تعتمد، بالضرورة، على الاعتبارات الاقتصادية البحتة، إضافة إلى النفقة المتزايدة التي أصبحت عقبة في غير مجال.
وعليه، بات يخشى من الفجوة المتسعة باستمرار، بين مستوى أداء القطاع الخاص في لبنان، حالياً ومستقبلاً، ومستواه في البلدان المنافسة، إقليمياً ودولياً. وهكذا، ضربت الحرب والأزمة الاقتصادية، لبنان، في صميم أفضليته المقارنة، وزعزعت قدرته التنافسية.
(2) إن عدداً كبيراً من كبار رجال الأعمال وأصحاب المشروعات، هجروا لبنان إلى حيث مجالات العمل أكثر اتساعاً، أو هم نقلوا المركز الرئيسي لعملهم إلى الخارج، واقتصر وجودهم في لبنان على الحضور الرمزي. واقتدت بهم النخبة من الطاقة البشرية في لبنان، الأمر الذي أفقد القطاع الخاص مصدر قدرته، المشهود لها بالتكيف مع مختلف الظروف وأصعبها.
(3) أسفرت الحرب عمّا يسمى الاقتصاد الموازي، ونموه وتوسعه، الذي بدأ يفرز قيادات ومؤسسات اقتصادية جديدة، لا تتمتع، بالضرورة، بالأهلية والإنتاجية المرتفعتَين، ولا بالقدرة التنافسية العالية. كما أنها لم تلتزم بقواعد العمل الاقتصادي المتعارف عليها، الأمر الذي زاد من ضعف دور القطاع الخاص، بعد أن طغت على السوق بعض العناصر السلبية المستغلة.
واستفادت مؤسسات قطاع الاقتصاد الموازي وقياداتها من كونها قريبة من مراكز قوى الأمر الواقع، وهو ما شكل نوعاً من “الحماية” الاقتصادية لها، وأعطاها أفضلية تنافسية. فوجد القطاع الخاص نفسه، وهو “التقليدي”، ذو المهارة العالية والنادرة، وذو الإنتاجية المرتفعة، في صراع مع القطاع العام، وهيمنة قيادات ومؤسسات طفيلية. وهكذا، شكلت الاعتبارات السياسية، في سنوات الحرب الأولى، العائق الأكبر، أمام استمرار نمو الاقتصاد اللبناني وتطوره وحُسن أدائه، بينما أصبحت الاعتبارات الاقتصادية، بعد عام 1985 وحتى 1989، العائق الأول والأكبر، أمام الوفاق السياسي، وإنهاء حالة الحرب.
التهجير
أمْلت الحرب الأهلية اللبنانية على اللبنانيين توزُّعهم السكاني، إذ فرض عليهم التهجير والفرز، العرقي والديني، أماكن تمركزهم في لبنان. ومرت عمليات التهجير بمراحل عدة:
1. خلال “حرب السنتين” (1975 ـ 1976)
ترك 589680 شخصاً، 189 بلدة وقرية، مسيحية وإسلامية، أي ما يعادل 21.8% من مجموع السكان.
2. خلال عامَي 1977 و1978
أ. خلال شهر مايو 1977، وعلى أثر اغتيال كمال جنبلاط، أدى رد الفعل الدرزي إلى تهجير 20 ألف مسيحي من قرى الشوف.
ب. في مايو 1977، وفبراير 1978، أدت الغارات الإسرائيلية العنيفة على جنوبي لبنان إلى نزوح حوالي 75 ألف شخص.
ج. في مارس 1978، شن الجيش الإسرائيلي هجوماً كبيراً على منطقة جنوبي لبنان، فاحتل رقعة واسعة منه. وكان من نتائج هذا الهجوم تهجير 175 ألف شخص.
د. خلال شهرَي يونيه وأغسطس 1978، وعلى أثر الاضطرابات الأمنية، التي حدثت في البقاع والشمال، نزح حوالي 25 ألف شخص.
هـ. في سبتمبر وأكتوبر 1978، أدى قصف الجيش السوري بيروت الشرقية، إلى نزوح 250 ألف شخص.
وهكذا، قدِّر عدد المهجَّرين، خلال عامَي 1977 و1978، بنحو 545 ألف شخص.
3. خلال عامَي 1979 و1982
شهدت هذه الحقبة مواجهات عدة، بين الميليشيات أنفسها، وبين اللبنانيين والفلسطينيين، وبين اللبنانيين والجيش السوري. إضافة إلى معركة مدينة زحلة، مما أدى إلى نزوح حوالي 150 ألف شخص.
4. خلال عام 1982
تسبب الاجتياح الإسرائيلي واحتلاله جنوبي لبنان، وجزءاً من الجبل، حتى بيروت الغربية، بنزوح راوح بين المناطق المحتلة ووسط لبنان، وشمل حوالي 400 ألف شخص.
5. خلال عامَي 1983 و1984
تسبب انسحاب الجيش الإسرائيلي من جزء من الأراضي المحتلة، باندلاع “حرب الجبل”، التي شردت 314 168 شخصاً. كما أدت تطوراتها إلى تهجير أكثر من 150 ألف شخص، من بيروت الغربية والضاحية الجنوبية، وحوالي 40 ألف شخص من منطقة الشّحّار الغربي.
أمّا المعارك بين الفلسطينيين أنفسهم، في الشمال، فدفعت خمسين ألف شخص، على الأقل، إلى النزوح. وكذلك، طاول القصف المناطق المحاذية، فأدى إلى نزوح 50 ألف شخص، على الأقل.
6. خلال عامَي 1985 و1986
خلال هذه الفترة، أدى الانسحاب الإسرائيلي الثاني من الجنوب، إلى تهجير مسيحيي إقليم الخروب، وقرى شرق صيدا. وقد بلغ عددهم 230 97 شخصاً، أُضيف إليهم، في نوفمبر 1986، حوالي 8 آلاف شخص من نصارى بلدة مغدوشة وجوارها.
يتبين من مجمل هذه الأرقام، أن عمليات التهجير، تناولت، ما بين 1975 ـ 1987، ثلثَي سكان لبنان. وقد اضطر عشرات الألوف منهم إلى النزوح غير مرة من أمكنة وجودهم.
مَواطن المهجَّرين، وأماكن وجودهم الجديدة
كانت المناطق اللبنانية، في أغلبيتها، مناطق مختلطة، تضم مختلف الجماعات الطائفية. أمّا وجود المهجَّرين، فقد ارتبط بمناطق تميزت بسماتها الطائفية.
1. الطوائف المسيحية
قدر عدد اللبنانيين، الذين نزحوا من أماكن إقامتهم، بحوالي 333 ألف شخص، من المسيحيين في لبنان.
التوزّع الجغرافي لمواطن التهجير
المجموع (بالآلاف) |
نوع التهجير (بالآلاف) |
مَواطن التهجير |
|
جزئي |
كليّ |
||
13 215 19 46 40 |
13 29 18 19 36 |
— 186 1 27 4 |
بيروت جبل لبنان لبنان الشمالي لبنان الجنوبي البقاع |
333 |
115 |
218 |
المجموع |
يتبين من هذا الجدول أن التهجير الكلي، قد بلغ 65.5% من مجموع المهجَّرين، كما أن أغلبيتهم (65%)، انتمت إلى منطقة جبل لبنان، بينما انتمى إلى لبنان الجنوبي، 14% منهم. وقد أجبر هؤلاء الرعايا على النزوح نتيجة الاقتحامات المسلحة المنظمة. أمّا في ما يتعلق بالمناطق الأخرى، وباستثناء بعض القرى، في لبنان الشمالي والبقاع، فقد حدث التهجير نتيجة لاعتداءات مستمرة، الهدف منها، لم يكن التهجير الكامل للقرى، بل إبعاد الأشخاص غير المرغوب فيهم، أو الضغط على المناطق المسيحية الأخرى.
وأسفرت الاعتداءات والضغوطات المسلحة عن تهجير 620 ألف شخص، بصفة دائمة، يتوزعون، بحسب مَواطن تهجيرهم، وفقاً لما يلي:
توزّع المهجَّرين، المسيحيين بحسب مَواطن تهجيرهم
النسبة المئوية |
عدد المهجرين |
مَواطن التهجير |
38,7 % 20,1% 16,1% 20,1% 5,0% |
240 125 100 125 30 |
جبل لبنان، بما فيه إقليم الخروب قرى شرق صيدا ومناطق أخرى من لبنان الجنوبي البقاع بيروت الغربية والضاحية الجنوبية لبنان الشمالي |
100% |
620 |
المجموع |
يُظهر الجدول أن أكبر نسبة من المهجَّرين المسيحيين، انتمت إلى مناطق جبل لبنان (38,7%)، تليها نسبة المهجرين من لبنان الجنوبي وبيروت الغربية والضاحية الجنوبية (20,1%) ثم البقاع (16,1%) وأخيراً، لبنان الشمالي (5,0%).
أمّا بالنسبة إلى أماكن وجود المهجَّرين الجديدة، فتبيَّن أنها على النحو التالي:
أ. في بيروت الشرقية 17,2%.
ب. في فرن الشباك وعين الرمانة 17,4%.
ج. في برج حمود والنبعة وسن الفيل وجسر الباشا 23,2%.
د. في الحازمية والحدث وبعبدا والجمهور 3,8%.
هـ. في الجديدة والبوشرية والمكلس والمنصورية والدكوانة 11,4%.
و. في ضبيه وأنطلياس وجل الديب والزلقا 1,5%.
ز. في باقي بلدات قضاء المتن 11,8%.
ح. في جونيه وجوارها 2,8%.
ط. في بلدات كسروان 4,9%.
ي. في قضاء جبيل 1,4%.
ك. في لبنان الجنوبي 4,6%.
وتوزع معظَم مهجّري إقليم الخروب وشرق صيدا والبقاع الغربي، في مناطق المتن وكسروان وجبيل. والتجأ الباقون إلى مناطق جزين ومرجعيون وبعض قرى الشريط الحدودي.