مشكلة الصحراء الغربية (البوليساريو)
مشكلة الصحراء الغربية (البوليساريو)

سنتعرف على مشكلة الصحراء الغربية (البوليساريو) حيث شهد المغرب العربي خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، الأولى والثانية، تكالب الدول الاستعمارية على المنطقة، كما شهد أيضاً نمواً واضحاً لعمليات النضال والكفاح لشعوب هذه المنطقة؛ بهدف الحصول على استقلالها، ولقد تطور الكفاح وتزايد مع تنامي الأهمية الإستراتيجية للمنطقة، ونمو الفكر السياسي وتبلور المصالح الوطنية. وعلى الرغم من أن المغرب العربي قد بدأ مرحلة كفاحه بصورة مفككة، إلا أنه مع نهاية الحرب العالمية الثانية، كان هناك تعاون عربي وتكاتف، بهدف تحقيق الاستقلال الكامل لكافة الدول العربية.

ولقد أدى اكتشاف المواد ذات الأهمية الاقتصادية في إقليم الصحراء الغربية إلى زيادة حدة النزاع بين الدول الاستعمارية، إلا أنه من خلال عدة اتفاقيات استعمارية، تمكنت أسبانيا من فرض سيطرتها الكاملة على إقليم الصحراء الغربية، ولكن بعد استقلال دول المغرب العربي، تحول الصراع الاستعماري على الصحراء الغربية ليكون بين دول إقليمية أخرى هي المغرب وموريتانيا والجزائر، وأيضاً شعب الصحراء. فبعد أن كانت الصحراء الغربية مستعمرة أسبانية منذ العقد الأول من القرن العشرين وحتى عام 1976، حيث تم الجلاء عنها بموجب الاتفاق الثلاثي بين أسبانيا والمغرب وموريتانيا عام 1975، إلا أنه مع هذا الاتفاق وضح وجود قوى أخرى تطالب باستقلال الإقليم، وهي جبهة البوليساريو التي أعلنت في 27 فبراير 1976 قيام الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية.

زادت الأهمية الجيوبولوتيكية لإقليم الصحراء الغربية، وخاصة بعد اكتشاف المواد الأولية به، ولذلك بعد أن كانت الصحراء الغربية في الماضي هامشية الأهمية من الجانب الاقتصادي، بدأ التنافس الإقليمي عليها، والذي وصل في إحدى مراحله إلى صراع مسلح.

كما أن البعد الإستراتيجي، والذي يتمثل في أهمية موقع الصحراء الحاكم لجنوب المغرب والجزائر ولشمال وغرب موريتانيا، وكذلك طول سواحلها على المحيط الأطلسي، مما زاد من حدة التنافس على الصحراء الغربية، خاصة وأنها تمثل لكل من الأطراف مجالاً حيوياً يدعم العمق الإستراتيجي لها. ولقد بدأت المواجهات العسكرية بين أطراف النزاع مع مغادرة القوات الأسبانية للصحراء الغربية في 26 فبراير 1976، حيث تحولت مشكلة الصحراء الغربية إلى واحدة من أدق وأخطر وأعقد المشكلات التي تهدد دول المغرب العربي كله، ودخلت أطراف إقليمية أخرى إلى دائرة النزاع، تريد أن تجد دوراً في المنطقة، ومع فشل احتواء النزاع عربياً وأفريقياً، تحول إلى الأمم المتحدة التي ما زالت تعمل على إيجاد أسلوب مناسب توافق عليه كافة الأطراف لإنهاء مشكلة الصحراء الغربية، التي ما زالت تترجح بين آمال الوصول إلى حل، والعودة إلى الوراء، لتبدأ من جديد، من نقطة البدء الأولى، مرة أخرى.

إن عوامل الشد والجذب، وتضادّ المصالح للأطراف المعنية، جعلت المشكلة تدور في حلقة مفرغة. فمنذ السبعينيات، والقرارات الدولية، تدعو إلى حسم المشكلة من طريق الاستفتاء، تحت إشراف الأمم المتحدة. ومنذ ذلك التاريخ، لم تنجح الأمم المتحدة، والمساعي، الدولية والإقليمية، الأخرى، من طريق المنظمات الفرعية، أن تصل بالمشكلة إلى حدود النهاية، التي ما زالت بعيدة المنال.

إن خطر المشكلة، ليس موجهاً فقط إلى دولة عربية واحدة؛ ولكنه يهدد كيان تماسك المغرب العربي ككل، بل يخلق غير تيار عربي؛ إذ إن بعض من الدول العربية، ترى أن المطالب المغربية، هي مطالب مشروعة. وبعض آخر، يرى أن الانفصال، المعلن من جانب ما يسمى بجمهورية الصحراء ـ هو أمر مشروع، وغيرهما من التيارات، التي لا تخدم التماسك العربي.

لقد حاولت الأمم المتحدة الوصول إلى حل، يرضي كافة الأطراف، واستمرت المساعي الحميدة من جانبها لفترات طويلة. واضطلع بتلك المحاولات سكرتيروها العامون: كورت فـالدهايم، ثم بيريز دي كويلار، وبطرس غالي، وأخيراً كوفي عنان، الذي كلف بالحل، وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق، جيمس بيكر، الذي توصل، في نهاية عام 1997، إلى اتفاقية هيوستون، من أجل تحديد الهوية لسكان الصحراء.

لقد بدأت مرحلة تحديد الهوية، منذ نهاية عام 1997، في منطقة الصحراء، لتعيين الأفراد، الذين يحق لهم التصويت، في ديسمبر 1998، طبقاً لاتفاقية هيوستون. ولكن هناك ممارسات واتهامات، من بعض الأطراف المعنية، للأطراف الأخرى، بأنها تعرقل عملية تحديد الهوية، الأمر الذي لا يوحي بأن المشكلة في طريقها إلى حل قريب. وقد تحمل الأيام والأشهر المقبلة تطورات جديدة؛ كما عودتنا هذه المشكلة، منذ بدايتها.

مشكلة الصحراء الغربية (البوليساريو)
مشكلة الصحراء الغربية (البوليساريو)

التطور التاريخي لوضع الصحراء الغربية

بنهاية القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر، قامت أوروبا بمحاولات استكشافية استهدفت مناطق عديدة في العالم، وخاصة في أفريقيا، بحثاً عن مناطق يوجد بها مواد أولية وأسواق لترويج بضائعها، إلا أن هذه الحملات سرعان ما تحولت إلى أطماع استعمارية أدت إلى استخدام القوة العسكرية في الاستيلاء على المناطق ذات الأهمية الحيوية ونهب ثرواتها الطبيعية،وكان من نتائج هذه الحملات ظهور مستعمرات جديدة على امتداد المحيط الأطلسي، حيث تسابقت الدول الاستعمارية على تقسيم مناطق النفوذ في شمال وشمال غرب أفريقيا، وكان الاستعمار البرتغالي أول من وصل إلى سواحل الصحراء، وبدأ يتوغل في الجنوب حتى وصل إلى عمق الصحراء الغربية عام 1436، وأطلقوا على إقليم الصحراء الغربية اسم وادي الذهب Roi Doouro

وأقاموا بها عدة مراكز متناثرة، اتخذوا منها نقاط للانطلاق من أجل تجارة الرقيق، ونقلوا، بالفعل، أعداداً كبيرة من رقيق صنهاجة. وقـد شارك الأسبان البرتغاليين، فيما بعد، في إنشاء بعض المراكز الساحلية. غير أن هذه المراكز اندثرت، عندما ظهرت مواقع أخرى أكثر ملاءمة للإقامة والاستقرار، قرب مصاب الأنهار، في غربي أفريقيا؛ ولذلك، لم تجذب المنطقة انتباه الاستعمار الأوروبي، إلاّ في نهاية القرن التاسع عشر، وكانت الصحراء الغربية بحكم موقعها الإستراتيجي منطقة اتصال حيوية بين أفريقيا وأوروبا، ولذلك زادت أهميتها الاقتصادية، ومن خلال التنافس الاستعماري اضطر البرتغاليون إلى التخلي عن الصحراء الغربية لصالح أسبانيا.

وقد شهد أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين صراعات بين الدول الاستعمارية بهدف فرض السيادة على دول شمال أفريقيا، وفي مؤتمر برلين عام 1884 تم تقسيم أفريقيا بين الدول الاستعمارية، ولقد أكد هذا التقسيم سيطرة أسبانيا على الصحراء الغربية، إلا أن موقف القبائل الصحراوية من الاستعمار الأسباني كان متشدداً، حيث زاد الكفاح المسلح، ومع تفاقم الأوضاع والصعوبات التي واجهها الاستعمار الأسباني والفرنسي، تم إجراء العديد من المعاهدات بينهما بهدف ترسيخ نفوذهما في المنطقة، وسيطرت أسبانيا خلال هذه المعاهدات على معظم مناطق إقليم الصحراء الغربية.

ومنذ منتصف القرن العشرين اشتد الكفاح المسلح، حيث تكون جيش التحرير المغربي، وخلاله بدأ تقلص منطقة النفوذ الأسبانية، والتي اقتصرت على إيفني والصحراء الأسبانية ـ سابقاً ـ بقسميها الساقية الحمراء ووادي الذهب، إلا أنها في الوقت ذاته قد عمدت إلى اتخاذ خطوات تدعم فصل الصحراء عن المغرب، وعلى الرغم من أن أسبانيا قد اضطرت إلى التسليم لسكان الصحراء بحق تقرير مصيرهم، إلا أنها ظلت تسعى إلى أن يمنح الإقليم حكماً ذاتياً على أن تستمر محتفظة بسيطرتها الاقتصادية، حيث أدى ذلك إلى زيادة عمق المشكلة وتنامي حدة التوتر بين كل من المغرب وموريتانيا والجزائر، والذي وصل في إحدى مراحله إلى صراع مسلح بسبب أهمية الصحراء الغربية لكل القوى الإقليمية المحيطة بها.

أولاً: الفتح الإسلامي للمغرب الأقصى

قبل الرسالة المحمدية كان العرب الكنعانيون قد دخلوا المغرب منذ عام 480 قبل الميلاد، حيث ازداد امتزاجهم مع سكان هذه المناطق من البربر القدماء، ومع بعث الرسالة المحمدية تم إرساء نظام متكامل وضحت خلاله المعالم الأساسية للأمة العربية الإسلامية، فانطلقت الفتوحات الإسلامية، حيث أنزل المسلمون الهزيمة بالبيزنطيين، وبعد تمام فتح فلسطين تقدم عمرو بن العاص لفتح مصر عام 18هـ/639م ، ودخل رفح والعريش وبئر العبد

ثم انتهى إلى الفرما، وهي ميناء صغير على بحر الروم ـ البحر المتوسط حالياً ـ ثم اتجه للقنطرة ومنها إلى بلبيس، ثم اتجه بعد ذلك إلى رأس الدلتا حيث كان يقع جنوبها حصن بابليون واستولى عليه، ثم قرر عمرو بن العاص بعد ذلك المسير إلى الإسكندرية عاصمة مصر البيزنطية، وبدخوله الإسكندرية وتسليمها في عام 20هـ/641م.

تم نقل عاصمة البلاد من الإسكندرية إلى موقع الفسطاط عند رأس الدلتا، بناءاً على أوامر عمر بن الخطاب. وبعد أن وقع عمرو بن العاص معاهدة الإسكندرية التي اكتمل بها فتح مصر في 16 شوال 21هـ/ 17 سبتمبر 642م، تقدم عمرو بن العاص لفتح برقة، واستمر تقدمه حيث فتح طرابلس عام 23هـ/ 644م.

وبذلك امتدت حدود الدولة الإسلامية غرباً حتى حدود ولاية إفريقية البيزنطية، كما تم ضم إقليم طرابلس إلى ولاية مصر، وتوقفت الفتوحات الإسلامية في المغرب بعض الوقت، حتى استقرت الأوضاع لمعاوية بن أبي سفيان وقيام الخلافة الأموية في دمشق عام 40هـ/ 661م، وبتولي أمر مصر عقبة بن عامر بن قيس عام 44هـ/ 664هـ، تم إعادة فتح برقة وطرابلس (اُنظر خريطة الفتوحات الإسلامية من 22 – 64 هـ)، وخلال الفترة من 50-55هـ/ 670-675م

حيث تولى عقبة بن نافع الفهري فتح المغرب بعد أن ولاه معاوية بن أبي سفيان، وتقدم إلى ولاية أفريقية وأنشأ فيها قاعدة سُميت القيروان ـ أي المعسكر ـ وبذلك أصبحت ولاية أفريقية[1] يسكنها جماعة عربية وجماعات بربرية إسلامية مستعربة، ولم يكن ممكناً لدولة الخلافة أن تتخلى عن هذه الولاية الجديدة والتي أصبحت رابع الأمصار[2] الإسلامية بعد الكوفة والبصرة والفسطاط.

خلال الفترة من عام 62-64هـ/ 681-683م، قام عقبة بن نافع بأكبر حملة قام بها قائد عربي على المغرب، حيث اقتحم مناطق البربر في جبال الأوراس حتى وصل إلى طنجة، وتقدم حتى دخل مدينة نارودانت وعبر نهر السوس وبلغ شاطئ الأطلسي، حيث بلغ نهاية بلاد المغرب. إلا أنه استشهد ومن بقي من جنوده عام 64هـ/ 683م، وكان لاستشهاده وما أبدى من بسالة صدى عظيم في المغرب، فعز الإسلام في نظر من لم يكن قد أسلم من البربر، حيث نشر عقبة بن نافع الإسلام باستشهاده أكثر من نشره إياه في حياته.

وخلال الفترة من عام 69-71هـ/ 688-690م، تمكن زهير بن قيس البلوي من العودة إلى القيروان والانتقام لمقتل عقبة بن نافع، إلا أنه استشهد على يد الروم بالقرب من طرابلس. وخلال الفترة من عام 71-85هـ/ 690-704م، تمكن حسان بن النعمان الغساني من القضاء على الروم في ولاية إفريقية وسواحل المغرب، حيث قام بتدمير قرطاجنة وأنشأ ميناء تونس عام 84هـ/ 703م

والتي كانت ثاني مدينة كبرى ينشئها العرب في المغرب، إلا أنه مع قيام ثورة الكاهنة زعيمة قبيلة جراوة الصهانجة في المغرب الأوسط، والتي تمكنت من هزيمة حسان وأرغمته على التراجع إلى برقة، ولكنه سرعان ما استطاع أن يعيد سيطرته على القيروان ووضع أسس النظام الإداري لولاية المغرب الكبير والتي تبدأ من برقة وحتى طنجة وساحل الأطلسي.

وخلال الفترة من عام 85-92هـ/ 704-711م، تمكن موسى بن نصير من استكمال فتح المغرب، حيث وصل إلى بلاد السوس وأنشأ به ولاية سجلماسة، وبذلك كان فتح المغرب من أعظم الفتوحات الإسلامية التي قام بها عرب الأجيال الأولى، حيث استمرت قرابة سبعون عاماً، بذل فيها العرب جهوداً كبيرة لنشر الإسلام، وانضم برابرة المغرب عن بكرة أبيهم إلى الإسلام، وقسم العرب المغرب إلى أقسام، وجعلوا على رأس كل قسم عائلة من العرب، ونصبوا عليها أميراً، وأُطلق عليهم الأبطال المغاور.

ولقد شيد العرب الفاتحون طرق المواصلات الصحراوية في الساقية الحمراء، والتي مكنت قوافل المسلمين من الانسياب إلى مجاهل أفريقيا، وقامت آنذاك دولة المرابطين، حيث استقطبت الدعوة الإسلامية سكان جميع الصحراء، وتوسع المرابطون واتجهوا شمالاً وأسسوا مملكة ضمت المغرب بأكمله، واتخذوا مراكش عاصمة لهم. (اُنظر خريطة الفتوحات الإسلامية من 69 – 92 هـ)

بانقسام المغرب في عصر الولاة إلى أربع مناطق كبرى، شملت ولاية إفريقية ثلاثة أقاليم، هي: طرابلس وبرقة والقيروان، حيث بدأ عصر الولاة في إفريقية من إنشاء القيروان وحتى قيام دولة الأغالبة عام 184هـ/ 800م. أما بالنسبة للمغرب الأوسط، فلقد استمر حتى عام 164هـ/781م حيث قامت فيه دولة بني رستم الخارجية في النصف الشرقي من المغرب الأوسط.

وفي المغرب الأقصى بدأ عصر الولاة حوالي عام 90هـ/709م، وهي السنة التي قامت فيها دولة الأدارسة (اُنظر خريطة ولايات المغرب العربي). وفي عام 155هـ/772م، قامت دولة بني مدرار في سجلماسة، ويُعد عصر الولاة من أهم عصور تاريخ المغرب الإسلامي، إذ وقعت خلاله صراعات متعددة بين العرب والبلدانيين، وهم عرب الفتح، حيث أنشئوا جاليات عربية مغربية نازعت ولاة بني أمية الحكم، وكذلك بين العرب والبربر، وأيضاً بين أهل السنة والخوارج. ولقد بلغت هذه الصراعات ذروتها في الفتنة الكبرى التي بدأت عام 122هـ/740م، حين اختلطت عناصر السكان بعضها ببعض أثناء المعارك، وبذلت الدولة العباسية كل جهدها، مما أدى في النهاية إلى انتصار أهل السنة، وكانت هذه السنية هي الأساس القوي، الذي قامت عليه عروبة المغرب.

وفي عام 297هـ/909م، نشأت الدولة الفاطمية في المغرب ، حيث حاولت إقامة دولة جديدة ذات تنظيماً واسعاً للدعوة الشيعية الإسماعيلية، مما أدى إلى معارك عديدة بين السنية المالكية والشيعية الإسماعيلية على أرض ولاية إفريقية، انتهت بنزوح الخلافة الفاطمية من المغرب وانتقالها إلى مصر في عام 362هـ/973م. ولقد واجه المغرب بعد ذلك أعقد فترات الاضطراب، حيث أنشأ البربر أول دولة إسلامية لهم بعد أن استعربوا وأسلموا (اُنظر خريطة الدولة البربرية بشمال أفريقيا)، وكانت هذه الدولة هي دولة قبيلة التي استمرت تحكم المغرب الأوسط حتى عام 442هـ/1050م، حيث بدأ تدفق العرب من مصر إلى المغرب مرة أخرى.

وخلال الفترة من 448-541هـ/ 1056-1146م نشأت دولة المرابطين في الصحراء الفاصلة بين المغرب الأقصى وحوض السنغال، وكانت القبائل التي أنشأتها مغربية، ومن أهمها قبائل صنهاجة الصحراء . وبانهيار دولة المرابطين بدأ قيام دولة الموحدين، والتي مرت بأربع مراحل أساسية هي:

المرحلة الأولى: الاستيلاء على مراكش عام 540هـ/1145م.

المرحلة الثانية: الاستيلاء على شمال المغرب عام 542هـ/1147م.

المرحلة الثالثة: فتح المغرب الأوسط والدخول للجزائر عام 548هـ/1153م.

المرحلة الرابعة: السيطرة على ولاية إفريقية ومدينة طرابلس عام 555هـ/1160م.

وبعد أن بدأ الصدع يحدق بالدولة الموحدية، تمكنت الدولة المرينية من بسط سلطانها على شمال المغرب كله حتى سبتة وطنجة ، وانقسم المغرب بذلك إلى أربع دول، هي: دولة الموحدون في جنوب المغرب ومركزهم مراكش، ودولة بني مرين في شمال المغرب الأقصى ومركزهم فاس ، ثم دولة بني زياد في شرقي المغرب الأوسط ومركزهم تلمسان، والدولة الحفصية في ولاية إفريقية. ولم تتوقف الحروب بين دول المغرب الأربع طوال القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، مما أدى إلى إضعاف هذه الدول جميعاً. (اُنظر خريطة الحدود التقريبية للمغرب العربي)

ثانياً: الحملة الصليبية على المغرب العربي

كان ضعف الدولة الأموية في الأندلس، بعد حكم استمر سبعة قرون، من العوامل التي شجعت أوروبا على بدء حملتها الصليبية على الدولة الإسلامية، حيث أدى تفكك أقاليم المغرب، وكذلك سقوط الخلافة الإسلامية في الأندلس إلى انطلاق الاستعمار الأوروبي، حيث كان البرتغاليون هم المستكشفون الأوائل للمغرب، حيث أصبحت سواحل الصحراء المغربية ميداناً للمنافسة بين الأساطيل الأسبانية والبرتغالية ،

وكانت الدول الأوروبية تطمع في فتح المغرب بهدف إقامة المبادلات التجارية، حيث كان للسواحل الصحراوية دوراً مهماً في التجارة مع السودان، لكونها الممرات والمسالك الوحيدة التي كانت تمر خلالها هذه التجارة، فأصبحت بذلك المغرب العربي مفتوحة للتدخلات الخارجية، حيث سعت كل الدول الاستعمارية الأوروبية إلى كسب صداقة المغرب والانفراد به متظاهرة بالدفاع عن سيادة السلطان واستقلال البلاد، إلا أن أسبانيا كانت تهتم أكثر من غيرها بالمغرب، نظراً لما يشكله من تهديد لسواحلها. وبسبب عوامل الضعف والتفكك التي أصابت البلاد المغربية في نهاية القرن الخامس عشر

أصبحت سواحل الصحراء المغربية ميداناً للمنافسة بين الأساطيل الأسبانية والبرتغالية، وتدخلت الكنيسة في العديد من المنازعات وُقِعَت خلالها عدة معاهدات بين الجانبين لتحديد مجال توسعها. ومع فقد البرتغاليون لاهتمامهم بالمنطقة، بدأت تزداد الأطماع التوسعية الأسبانية وغزوها سواحل المغرب الجنوبية، إلا أنه في عام 1524، فقدت أسبانيا السيطرة على قلعة سانتا كروز Santa Cruz[3]، حيث استولى عليها سلطان المغرب.

مع زيادة الاهتمام الفرنسي بسواحل أفريقيا الغربية، خشيت أسبانيا من أن تتمكن فرنسا خلال توسعها الوصول عبر صحراء المغرب إلى الساحل الأطلسي وتنشأ قواعد حربية ومراكز تجارية تؤثر على الأهمية الإستراتيجية والاقتصادية للمناطق التي تسيطر عليها أسبانيا، ولذلك كان هناك إصرار أسباني في الحصول على منطقة الجنوب المغربي طبقاً لاتفاقية عام 1860 بين المغرب وأسبانيا

والتي يتعهد فيها ملك المغرب بالتنازل إلى الأبد لأسبانيا عن الأراضي الكافية لإنشاء مركز لصيد الأسماك بالقرب من سانتا كروز بساحل المحيط الأطلسي. وكذلك بدأ تزايد شعور أسبانيا بالخطر الذي أصبح يهدد مصالحها في جزر كانارياس، وخاصة مع ظهور التجار البريطانيون في المنطقة، وكذلك زاد عدد الرعايا البريطانيين الذين أقاموا في الموانئ المغربية

حيث وصلت نسبتهم في عام 1858م إلى 40% من عدد الأجانب المقيمين في البلاد، ومن ثم زادت أهمية موانئ وسواحل المغرب الغربية بالنسبة لبريطانيا، سواء من الناحية الاقتصادية أو السياسية. أما فرنسا فإن نفوذها السياسي والعسكري بدأ يزداد في الجزائر، وخاصة بعد أن استخدمتها مركزاً للانطلاق منه للقارة الأفريقية، وأمام هذا التوغل والتنامي الاقتصادي البريطاني من الغرب والضغط العسكري والسياسي الفرنسي على المغرب من الشرق، وجدت أسبانيا أنها قد تُجبر على إخلاء قواعدها في شمال المغرب، وخاصة في حجر باديس وأمام الحسيمة وفي سبتة ومليلة. ونظراً لأن هذا الوجود يرجع إلى أواخر القرن الخامس عشر

وكان استمراره ذا تكلفة مادية عالية لأسبانيا، لذلك كان هناك تفكير أسباني في ترك أو بيع هذه القواعد، إلا أن أهمية سبتة الإستراتيجية جعلت أسبانيا تتراجع عن هذا التفكير ، إضافة إلى روح العداء المستحكم مع المغاربة، التي كانت سبباً في العديد من الحوادث الخاصة بالخطوط الملاحية، التي كانت تهَاجَم من كلا الجانبين.

بدأ التوتر يزداد بين الجانبين المغربي والأسباني منذ عام 1858، خاصة بعد أن طالبت أسبانيا المغرب بتعويضات عن إحدى السفن التي هاجمها بعض المغاربة في مناطق الريف، مع أن المغرب استجابت للمطالب الأسبانية، إلا أنها حرّكت أسطولها إلى طنجة، كما عزّزت قواعدها العسكرية في شمال المغرب، حيث تم احتواء الأزمة في أغسطس 1859. إلا أن زيادة حدة الحوادث حول سبتة، أدت إلى إنشاء أسبانيا مراكز عسكرية جديدة أمام سبتة وفي داخل الأراضي المغربية

مما زاد من حدة التوتر ومعدل هجوم المغاربة على القوات الأسبانية. وأصبح الموقف يمهد إلى صدام بين الجانبين، مستنداً إلى المقومات المعنوية والدينية، واتخذ من شكل الحرب والجهاد بين الصليب والهلال إطاراً عاماً له. وأعدت أسبانيا قواتها، وكاد الموقف يتحول إلى صراع مسلح بين بريطانيا وأسبانيا، خاصة بعد أن حرّكت بريطانيا أسطولها لمنع أسبانيا من احتلال طنجة

بينما وجدت فرنسا أن مصلحتها الحيوية تحتم عليها عدم التدخل ضد أسبانيا. ولقد أدى ذلك إلى تنامي شعور معادٍ لدى أسبانيا ضد المغاربة، وأصبح هناك شبه تأييد من الرأي العام الأوروبي لعمليات أسبانيا العسكرية في الأراضي المغربية.

وبعد أن أعدت أسبانيا قواتها، التي بلغت حوالي 44 ألف مقاتل، ودعمتها بحوالي أربعة عشر سفن حربية، قامت بمهاجمة شمال المغرب، وتمكنت القوات الأسبانية من خلال هذه الهجوم القضاء على مقاومة المغاربة أمام سبتة، كما حاصر الأسطول الأسباني السواحل المغربية ودمر ما تبقى من الأسطول المغربي. ومع توقف الصراع المسلح أصرت أسبانيا خلال عملية الصلح في 16 مارس 1860 على أن تدفع المغرب غرامة مالية قدرها 11 مليون ريال

وكذلك اشترطت على توسيع أراضي القواعد الأسبانية في سبتة ومليلة، والتنازل عن جزء من الأراضي المغربية بالقرب من إيفني، وتم التوقيع على معاهدة بين أسبانيا والمغرب في 20 نوفمبر 1861، ووصل المغرب بهذه المعاهدة إلى نقطة تحول خطيرة، حيث أصبح من الصعب العودة إلى سياسة الانعزال، حيث بدأ زيادة النشاط التجاري والسياسي لكل من أسبانيا وبريطانيا وفرنسا في المنطقة، كما بدأ يتضح اهتمام أوروبا بالصحراء الغربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر

من خلال رحلات المستكشفون الفرنسيون وتوغلهم في أفريقيا الوسطى عام 1871 ، حيث فكر الأوربيون في عبور الصحراء الكبرى للاتصال بالأسواق الأفريقية والحصول على المواد الخام الاستوائية منها، ورغم فشل كل المحاولات التي قام بها المستكشفون، إلا أنها كانت تدل على رغبة جامحة في التغلب على الصحراء والوصول إلى عمق أفريقيا، حيث ظهرت بعض مشروعات إنشاء خطوط سكك حديدية عبر الصحراء، وظهر المغرب الأقصى في ذاك الوقت على أنه يفوق في أهميته الصحراء الغربية، خاصة وأنه كان يسيطر على جزء هام من تجارة القارة الأفريقية.

وفي عام 1883، أسست الشركة الأفريقية للمستعمرات ، وتمكنت من امتلاك حوالي 500 كم على الساحل، ما بين رأس بوجادور في الشمال حتى الرأس الأبيض في الجنوب، وبنت فيها مركزين تجاريين، كما تعهدت القبائل، التي باعت الأراضي لأسبانيا، بعدم السماح لإقامة أي مراكز تجارية أخرى باستثناء ما أقامته أسبانيا. وخلال هذه المرحلة كانت هناك محاولات متتابعة للشركات الأسبانية، للاستقرار في المنطقة التي امتلكتها، إلا أنها لم تتمكن من ذلك.

وفي 26 ديسمبر 1884م، اتبعت الحكومة الأسبانية أسلوباً جديداً لإضفاء الشرعية على سياستها تجاه المنطقة، وإحكام قبضتها على الصحراء، حيث أعلنت رسمياً عن فرض حمايتها على الشاطئ الغربي الأفريقي بين خطي العرض 20ه و27ه، أي المنطقة المحصورة بين الرأس الأبيض وحتى رأس بوجادور، وبذلك التحديد تكون أسبانيا قد اقتصرت في حمايتها على هذه المنطقة، ولم تشمل أي مناطق شمالها تلافياً الاقتراب من “المخزن وخوفاً من بريطانيا.

كذلك ابتعدت عن جنوب المنطقة حيث كان الفرنسيون قد بدأوا في الوجود هناك. وفي إطار تأكيد السيادة الأسبانية على المنطقة، صدر مرسوم أسباني ملكي في 6 أبريل 1887م يحدد عمق المساحة التي امتلكتها أسبانيا بحوالي 150 ميلاً داخل الصحراء، وكان ذلك بسبب عجز الشركات الأسبانية التجارية من التغلغل في الصحراء الغربية، وكذلك عجزت عن إقامة علاقات ودية تعاونية مع الشيخ ماء العينين[5]، الذي وضحت أهميته ومكانته من عام 1890.

وبدأت كل من فرنسا وأسبانيا في التفكير الجدي حول إنهاء خلافاتهما، حتى يمكنهما مواجهة الأطماع البريطانية، الخاصة بمطالبة “المخزن” المغربي بساحل طرفاية. ولذلك بدأت المفاوضات في العاصمة الفرنسية باريس، بين كل من أسبانيا وفرنسا، بشأن غينيا والصحراء الغربية، ونتج عن هذه المفاوضات اتفاق باريس في 26 يونيه 1900، حيث جرى خلاله اقتسام الصحراء الغربية

(اُنظر ملحق اتفاقية تحديد الممتلكات الفرنسية والإسبانية في أفريقيا الغربية، في ساحل الصحراء وساحل غينيا، الموقعة في باريس، بتاريخ 26 يونيه 1900)، وبموجب هذا الاتفاق سيطرت أسبانيا على وادي الذهب، وعملت فرنسا بعد ذلك على التقرب من بريطانيا، حيث استمرت المباحثات بينهما قرابة العامين، وفي 8 أبريل 1904 جرى توقيع اتفاق بين الجانبين هدف إلى إنهاء النزاعات الاستعمارية بما يحقق تعزيز الموقف الفرنسي في المغرب ويطمئن بريطانيا على موقفها في مصر

وكذلك تعهد الجانبان الفرنسي والبريطاني على مساعدة أسبانيا في توسيع نفوذها في المناطق شمال وادي الذهب . وفي 3 أكتوبر 1904 اتفق كل من فرنسا وأسبانيا سراً على تحديد مناطق النفوذ الأسبانية والفرنسية ، حيث انفتح المجال أمامهما لفرض سيطرتهما الكاملة على المغرب، ولم تواجه فرنسا أية معارضة إلا من ألمانيا، والتي عملت على ألا تسيطر فرنسا على مساحات كبيرة من المغرب.

وتضمن ذلك الاتفاق، كثيراً من الفقرات السِّرِّية، التي لم تعرف نصوصها، إلاّ بعد سنوات، وعلى وجه التحديد في 8 نوفمبر 1911 عندما نشرتها جريدة “لو ماتان” الفرنسية. وكانت هذه الفقرات، تتكون من إحدى عشرة فقرة سِرية، يمكن إيجازها على النحو الآتي:

ثالثاً: ردود الفعل المغربية تجاه السياسة الاستعمارية ومحاولات فرض السيطرة

مع تزايد حدة الموقف بين فرنسا وألمانيا، عُقد مؤتمر الجزيرة الخضراء في 16 يناير 1906، وحضره معظم الدول الأوروبية . ورغم أنه خلال المؤتمر تم التأكيد على سيادة المغرب واستقلال السلطان، إلا أن الحقيقة كانت فقد المغرب لاستقلاله والجزء الأكبر من سيادته

وتم الاعتراف لأسبانيا وفرنسا بوضع خاص في المغرب، وأصبح المخزن يواجه الأطماع التوسعية لفرنسا وأسبانيا على حدوده الشرقية والشمالية والجنوبية، وكان لفرض أوروبا لقرارات مؤتمر الجزيرة على المغرب تأثيراً واضحاً على الرأي العام، حيث كانت قرارات المؤتمر إجحافاً بحقوق البلاد ، وإذا كان المولى عبدالعزيز قد حاول أن يخفف من وطأة قرارات المؤتمر، إلا أنه فشل في الوقت الذي كانت ثورات الروجي والريسولي تهدد سلطانه وحكمه سياسياً وعسكرياً، وأدى ذلك إلى خروج كثير من المناطق عن طاعته، وأصبحت شبه مستقلة، وكذلك خرج العديد من الأسر الإقطاعية عن سلطان المخزن

وبدأ المغاربة ينظرون إلى كل أجنبي في البلاد على أنه عميل ودخيل يمهد إلى ضياع استقلال البلاد، مما أدى إلى زيادة حوادث قتل الأجانب خاصة الفرنسيين، وسرعان ما قررت الحكومة الفرنسية في 23 مارس 1907 احتلال مدينة وجدة، وكذلك عمدت إلى زيادة سلطاتها في شرق المغرب وإبعاد المغرب عن إقليم موريتانيا ، ولم تعارض الدول الأوروبية احتلال فرنسا لوجدة، إلا أن هذه العملية أثارت المغاربة

وأثارت المخزن نفسه، وحاول السلطان عبدالعزيز أن يحتوي الموقف وأن يصل إلى تفاهم مع الفرنسيين، لكن التهديد الفرنسي أجبره على الخضوع لفرنسا، إلا أن هذا الموقف أدى إلى إثارة روح المقاومة المغربية وبدأت الاضطرابات تظهر جنوب البلاد، كما وقفت قبائل الجنوب في مواجهة سلطان البلاد.

تجمعت القبائل حول مراكش، ووجهت إنذارها إلى المولى عبدالحفيظ نائب السلطان في المدينة، تطالبه بطرد الأجانب. وهددت هذه القبائل بالعصيان والخروج على طاعة المخزن في فاس. وكانت المفاوضات بين القبائل الثائرة والمولى عبدالحفيظ، هي التي هيأت الأوضاع لتولي المولى عبدالحفيظ زعامة الثورة، والوصول إلى عرش السلطنة.

وكان الشيخ ماء العينين قد حضر إلى المغرب من موريتانيا، وأخذ في المناداة بالجهاد ضد الاحتلال الفرنسي، مما ساعد على انتشار روح الثورة في كل أنحاء البلاد، حتى وصلت إلى الدار البيضاء. وباقتراب رجال القبائل من المدينة، طالبوا رفع خط السكك الحديدية وإيقاف أعمال البناء في الميناء، ومغادرة الأجانب للمدينة فوراً، وحينما تباطأ العمال في تنفيذ هذه المطالب، خرّب رجال القبائل خط السكك الحديدية يوم 30 يوليه 1907م

كما وقع اشتباك بين الجانبين قتل فيه ثمانية أجانب، منهم خمسة فرنسيون. واتخذت فرنسا من هذه الأعمال ذريعة لتدخلها العسكري، حيث قررت تحريك قوتها البحرية إلى الدار البيضاء واحتلالها، بالاشتراك مع أسبانيا. وقد أدى ذلك إلى زيادة حدة التوتر والاصطدام، بين القوات الفرنسية والمغاربة، بمشاركة من جنود المخزن.

مع زيادة حدة الصراع المسلح بين الجانبين، وجدت القوات الفرنسية والأسبانية نفسها محاصرة في الدار البيضاء، خاصة وأن القبائل المحيطة بالمدينة بدأت تستعد للجهاد، ولذلك قامت القوات الفرنسية بتوسيع دائرة الصراع، وتمكنت من احتلال قلعة مديونة. ومع زيادة حدة الصراع، ووضوح عجز المولى عبدالعزيز في مواجهة الضغط الاستعماري الأوروبي، إضافة إلي الصعوبات التي واجهته

والتي تمثلت في ضعف إمكانياته المالية وموافقته على قرارات مؤتمر الجزيرة، وكذلك قيام فرنسا باحتلال وجدة والدار البيضاء والشاوية. ولقد أدت هذه التطورات إلي فقد المولى عبدالعزيز السيطرة على الحكم . كما أعلن المولى عبدالحفيظ نفسه سلطاناً على المغرب، لكي يجاهد من أجل الاحتفاظ باستقلال البلاد[6]، حيث تم تولية المولى عبدالحفيظ السلطة في 16 أغسطس 1907 وبموافقة أعيان وعلماء وأشراف مدينة مراكش.

وقد أظهر المولى عبدالحفيظ موافقته مع سياسة الجهاد والنضال، استناداً على الزعامات العربية الموجودة في جنوب المغرب. وبدأ الصراع بين الأخوين، واعتمد خلاله المولى عبدالعزيز على فرنسا، التي قدمت له كل العون والنصح حتى يتمكن من الاحتفاظ بعرشه.

ولذلك اضطر إلى الموافقة على المطالب الفرنسية، سواء من حيث تعديل الحدود أم التعاون مع القوات الفرنسية، لإنشاء قوات تسيطر على مدينتي فاس وطنجة. وفقد بذلك المولى عبدالعزيز ما تبقى من سلطة وسمعة داخل البلاد، حيث أخذ أنصاره في الابتعاد عنه، واندلعت الثورة في مدينة فاس نفسها في أواخر شهر ديسمبر 1907.

وانتشرت بذلك الثورة في كافة الأراضي المغربية، بسبب توغل النفوذ الفرنسي العسكري والسياسي والاقتصادي في البلاد. كما كان لاضطراب الأوضاع المالية وانتشار الفوضى وعجز المولى عبدالعزيز، من العوامل التي حتّمت اختيار حاكمٍ جديدٍ. فقد اجتمع أشراف مدينة فاس في 3 يناير 1908 في المسجد الكبير، مع رؤساء القبائل المجاورة

وأعلنوا أن المولى عبدالعزيز لم يمتثل لقواعد الشرع، عند استيلاء الفرنسيين بالاستيلاء على عدة مدن، من دون أن يؤدي مهامه الأساسية وهي الدفاع عن استقلال البلاد. ولذلك أُعلن في الاجتماع عزل المولى عبدالعزيز، ومبايعة المولى عبدالحفيظ ، على أن يسعى إلى مقاومة معاهدة الجزيرة، التي توافق الأمة عليها. وكذلك عليه أن يعمل على استرجاع ما تم استقطاعه من الأراضي المغربية.

كما اشترطوا عليه أنه إذا دعت الضرورة إلى إقامة وحدة، فليكن ذلك مع كافة الممالك المسلمة المستقلة، وإذا وجب مفاوضة الأجانب في أمور سلمية أو تجارية، فلا يتم عقد أية اتفاقات معهم، إلا بعد موافقة الأمة. وبذلك كانت بيعة فاس للمولى عبدالحفيظ مشتملة على شروط متعلقة باستقلال المغرب وسلامة أراضيه. كما شملت على تقييد السلطة دستورياً، والخضوع لمبدأ الشورى.

وقد أكدت هذه البيعة رفض الاعتراف بقرارات مؤتمر الجزيرة، كما أوضحت الأسلوب الواجب اتباعه مع الدول العربية والإسلامية، بدلاً من أن يدور المغرب بمفرده في فلك السياسة الأوروبية. ولذلك عمل المولى عبدالحفيظ، منذ توليه السلطة، على الاحتفاظ بشخصية خاصة متميزة حيال الدول العربية المجاورة

وكذلك الدول الإسلامية، وكان ذلك يمثل انتشار وقوة حركة الجامعة الإسلامية في المغرب الأقصى في ذلك الوقت ، كما نظر العلماء والفقهاء وعامة الشعب إلى سياسة المولى عبدالحفيظ، على أنها يمكن أن تخلص المغرب من الأخطار التي تهدده، وفي الوقت ذاته تتميز باتجاه وحدوي أصيل.

اتصل أهل مدينة فاس بالقبائل المحيطة بمدينتهم، لإعلان ولائهم للمولى عبدالحفيظ، كما شكلوا لجنة ثورية من العلماء والوجهاء للإشراف على حركة الجهاد، التي تم إعلانها، كما كونوا قوة عسكرية تقدمت شرقاً في اتجاه مدينة تازا لمواجهة القوات الفرنسية. ونجح بذلك المولى عبدالحفيظ في دخول مدينة فاس، عاصمة المغرب الشمالية في 6 يونيه 1908

رغم المقاومة المسلحة التي أبداها المولى عبدالعزيز والمساعدات الفرنسية التي قُدمت إليه. وقد كانت الثورة التي تزعمها المولى عبدالحفيظ بمثابة مواجهة مباشرة، ضد التدخل الأجنبي في المغرب، خاصة التدخل الفرنسي، ومع ذلك تباينت المواقف الفرنسية تجاه أحداث المغرب، حيث عدّ بعض الناس الانقسام الداخلي في المغرب ذريعة لزيادة التدخل الفرنسي، بينما اعتبرها البعض تهديداً للمصالح الفرنسية، خاصة أن حركة المولى عبدالحفيظ تعارض بقوة قرارات مؤتمر الجزيرة

وإذا كان بعض الفرنسيين طالبوا مواجهة حركة مولى عبدالحفيظ، وزيادة حجم القوات الفرنسية في الدار البيضاء ووجدة، إلا أن عناصر أخرى قد عمدت إلي تأييد المولى عبدالحفيظ وحركته بصفته سلطاناً شرعياً، كذلك حاولت قطاعات أخرى استغلال هذا الانقسام الداخلي في عمليات تهريب الأسلحة والذخائر إلى الحركة الثورية. ويتضح بذلك وجود انقسام في الرأي الفرنسي بشأن المغرب، ولذلك أعلنت فرنسا حيادها تجاه الصراع الداخلي، ولكنها أصرت على ضرورة تطبيق قرارات مؤتمر الجزيرة

خاصة فيما يتعلق بتنظيم وتشكيل القوات اللازمة لتحقيق الاستقرار والأمن والنظام في الإقليم. وكذلك كان الموقف لكل من بريطانيا وأسبانيا، حيث أعلنتا أنه إذا كان المولى عبدالعزيز هو صاحب الحق الشرعي في الحكم، فإن ذلك لا يمنعهما من التعامل مع المولى عبدالحفيظ على أساس أنه صاحب الحق الفعلي، في ممارسة الحكم.

بعد أن نجح المولى عبدالحفيظ في الوصول للسلطة، والسيطرة على مقاليد الحكم، كان عليه أن يسعى لتحقيق مطالب الرأي العام المغربي. ولذلك كان عليه أن يكون ثورياً وشعبياً ويستمر في جهاده، حتى يتمكن من تحقيق المهمة التي ألقيت على عاتقه.

إلا أن الإمكانيات المادية التي توفرت لديه كانت محدودة، ولا تمكنه من تنفيذ البرنامج الذي كلفه به الرأي العام في المغرب . أما من الناحية السياسية، فقد أصبح يمثل عرش المغرب وبشكل يجبره على احترام الحقوق والتمسك بها واحترام تعهداته والوفاء بها. وقد حاول المولى عبدالحفيظ أن يكسب تأييد الدول الأوروبية، وكذلك دعم الرأي العام العالمي لحركته، إلا أنه وجد رفضاً قاطعاً من بريطانيا وأسبانيا وفرنسا، حيث استندوا إلى عدم رغبتهم في التدخل لاحتواء المشكلات والنزعات الداخلية، وأمام الضغوط الخارجية وانعدام الموارد الداخلية

اضطر المولى عبدالحفيظ إلى بدء مفوضات دبلوماسية مع فرنسا للوصول إلى اعتراف بشرعية حكمه، وفي الوقت ذاته إرضاء الأماني القومية لإجلاء القوات الأجنبية الموجودة بالمغرب. إلا أن هذه الجهود الدبلوماسية قد فشلت بسبب الشروط المجحفة التي كانت تفرضها فرنسا عليه، حيث كانت هذه الشروط إجبار للمولى عبدالحفيظ على الاختيار إما بالاستسلام أو الجهاد، ونظراً للإمكانيات المحدودة للمقاومة وعدم وجود تأييد أو دعم خارجي خاصة من ألمانيا، اضطر المولى عبدالحفيظ إلى التعهد بتأمين سلامة الرعايا الأجانب

كذلك اعترف بالمعاهدات التي عُقدت بين أسلافه وبين الدول الأوروبية، كما اعترف بميثاق الجزيرة ، وقد توسطت ألمانيا في المفاوضات على أساس قيام المغرب بتعويض فرنسا وأسبانيا مالياً عن عملياتهم الحربية، وكذلك تعويض الرعايا الأجانب عن خسائرهم، وبقبول المولى عبدالحفيظ بهذه الشروط، اعترفت الدول الأوروبية في نهاية ديسمبر 1908 بالمولى عبدالحفيظ سلطاناً على المغرب.

واضطر المولى عبدالحفيظ إلى الدخول في مفاوضات مع فرنسا، لإجلاء القوات الفرنسية من بعض المدن المغربية، خاصة من مدينتي الشاوية ووجدة، وكذلك لتسوية الديون المالية، واستمرت هذه المفاوضات خلال شهري فبراير ومارس 1909، واقترحت فرنسا سحب قواتها من المغرب تدريجياً، ولكن على أساس احتفاظها ببعض المراكز حول مدينة الدار البيضاء، وكذلك احتفاظها بالقوات شبه العسكرية ـ قوات القوم ـ التي أعدتها فرنسا ويقودها ضباط فرنسيون

كذلك أصرت فرنسا على ضرورة عدم تدخل المخزن وتأييده للزعيم ماء العينين وقادة الصحراء وموريتانيا، الذين أعلنوا جهادهم ضد القوات الفرنسية في الجنوب ، وكذلك طلبت فرنسا تعيين مفوضين سامين، أحدهما فرنسي والآخر مغربي، لمنطقة الحدود الجزائرية. وتحت الضغط الفرنسي وافق المغرب عل الاتفاقية، التي وُقعت في مارس 1910. وبعد التوقيع على هذه الاتفاقية أصرت أسبانيا على أن تدخل في مفاوضات مع المغرب، انتهت في 17 نوفمبر 1910، ومن خلالها تم تعيين مفوض مغربي يتعاون مع مفوض أسباني للسيطرة على القوات المغربية

التي تم تشكيلها ويقودها ضباط أسبانيون، كما تعهد السلطان بتسليم سانتا كروز إلي أسبانيا. وهكذا كانت هذه الاتفاقيات، التي تمت بين الدول الاستعمارية بعضها البعض، وكذلك بينها وبين المغرب، بمثابة وسائل ضغط استعمارية أدت إلي زيادة النفوذ الأجنبي في البلاد، ودفعت بالمغرب إلى الثورة، في الوقت الذي تمكنت الدول الاستعمارية من السيطرة الكاملة على المغرب.

ازداد تفاقم الأوضاع في المغرب، حين عجز المولى عبدالحفيظ عن المقاومة نتيجة لاشتداد الأزمة المالية، وكذلك سيطرة البعثة العسكرية الفرنسية على القوات المغربية ، إضافة إلى السياسة المالية التي اتبعها المولى عبدالحفيظ، ودفعت البلاد إلى الثورة ضد الاستعمار وضد السلطان، حيث شكلت قبائل بني مطير والشراردة حلفاً ضد المخزن في عام 1911. وعلى الرغم من المحاولات التي قام بها المولى عبدالحفيظ لاحتواء هذه القبائل

إلا أن العديد من القبائل كانت قد انضمت إلى الثورة، ووضح عجز المولى عبدالحفيظ في السيطرة على الموقف، خاصة وأنه كان يعتمد على ضباط فرنسيين لقيادة قواته، مما كان يثير روح الثورة والجهاد في نفوس المغاربة. وقد أدى تطور القتال بين الجانبين إلى تمكن الثوار من إتمام حصارهم لمدينة فاس ـ العاصمة ـ كما دخلوا مدينة مكناس، وأعلنوا المولى زين سلطاناً على المغرب.

وكانت هذه الأحداث بمثابة فرصة مناسبة لفرنسا للتدخل ومساعدة المخزن، والمحافظة على سيادة السلطان. ولذلك تحركت القوات الفرنسية صوب العاصمة بعد أن استنجد المولى عبدالحفيظ بها، وتمكنت من دخول مدينة فاس يوم 21 مايو 1911، ووجدت أسبانيا أن هذه الأحداث مناسبة، فاختلقت بعض الحوادث بالقرب من مدينة العرائش حيث تمكنت يوم 9 يونيه 1911 من دخول مدينتي القصر الكبير والعرائش.

ازداد الموقف الأوروبي توتراً بسبب التدخل الفرنسي العسكري في المغرب الأقصى، خاصة مع زحف القوات الفرنسية على فاس ونزول القوات الأسبانية في العرائش، مما كان يؤكد تقسيم المغرب إلى مناطق نفوذ. وكانت ألمانيا، في الوقت ذاته، تبدي اهتمامها بالإقليم الجنوبي من المغرب، الذي يضم وادي السوس.

ولذلك حركت ألمانيا إحدى قطعها البحرية نحو ميناء أغادير لحماية مصالحها، ووضح بذلك أن ألمانيا تحاول السيطرة على جنوب المغرب، كخطوة أولى ونتيجة طبيعية لدخول القوات الفرنسية إلى فاس . وقد أدت هذه التطورات إلى توتر العلاقات الدولية، وظهرت خلالها بوادر صدام مسلح عالمي، إلا أنه أمكن إجراء مفاوضات في برلين يوم 9 يوليه 1911

استمرت حتى بداية نوفمبر، اتفقت خلالها فرنسا وألمانيا على عدم عرقلة ألمانيا لمشروع الحماية الفرنسية. وقد أدى هذا الاتفاق إلى اضطرار المولى عبدالحفيظ التوقيع على معاهدة 30 مارس 1912 مع فرنسا ، وهي المعاهدة التي أثبتت سيادة فرنسا على المغرب، وحولتها إلى محمية فرنسية. وقد أحدث هذا التوقيع توتراً شاملاً داخل البلاد، حيث عُدّ استسلاماً وخيانة من السلطان ضد البلاد والإسلام.

مع رفض المخزن للحماية الفرنسية، وكذلك رفض المولى عبدالحفيظ التعاون مع الفرنسيين، تم تنصيب مولاي يوسف خلفاً له في 14 أغسطس 1912 . وكانت الفترة التالية لإعلان الحماية الفرنسية على المغرب الأقصى، هي فترة كفاح مسلح قامت بها العناصر الوطنية في جميع أنحاء المغرب، وحين أُعلنت الحرب العالمية الأولى عام 1914، كانت فرنسا قد تمكنت من فرض سيطرتها على البلاد، سواء في الجزائر أو المغرب ، ورغم أن فرنسا لجأت إلى التهدئة

إلا أن رجال الجامعة الإسلامية قد نشطوا مع بداية الحرب العالمية الأولى، وتمكنت بعض العناصر الألمانية من الاتصال بقادة المغرب الأقصى. كما اتصلوا بالسلطان السابق المولى عبدالعزيز، وكذلك بالمولى عبدالحفيظ، كما اتصلوا بهبة الله ابن ماء العينين. إلا أن فرنسا تمكنت من السيطرة على الأوضاع، وشهدت السنوات التالية لنهاية الحرب العالمية الأولى عمليات تصفية للنفوذ والمصالح الألمانية في المغرب، لصالح فرنسا.

سعت أسبانيا إلى مد سيطرتها صوب الداخل، حيث كانت تحتل بعض النقاط والموانئ الساحلية، إلا أنها كانت غير قادرة على مد سلطاتها الفعلية على مناطق قبائل الريف المعروفة باسم الأمازيغ[7]، ولقد شعر الأمير عبدالكريم الخطابي، وهو زعيم أكبر وأشهر قبائل الريف ـ قبيلة بنو رياغل ـ بالأهمية الاقتصادية للمناطق التي تسكنها قبائل الأمازيغ، واختار عبدالكريم أسبانيا دولة يتعاون معها لصالح الطرفين، مع تمسكه بحريته وسيادته، إلا أن الخلافات التي دبت بين الطرفين أدت إلى أن تفرض أسبانيا سيطرتها الفعلية على الإقليم

من خلال الحملات العسكرية، حيث تقدمت القوات الأسبانية في شهر أغسطس 1920 تجاه مناطق الريف، ولكنها وجدت مقاومة عنيفة من قبائل الريف. وبوفاة الشيخ عبدالكريم الخطابي، خلفه في قيادة القبيلة والثورة ابنه محمد عبدالكريم، الذي استمر في تدعيم قواته وسلطته، ومد نطاق دولته الثورية في منطقة الجبال . ولم يتراجع الأمير محمد عبدالكريم في استخدام الشدة والحزم ضد بعض القبائل الجبلية ـ الريفية ـ خاصة من تعاون منهم مع الأسبان. وهكذا أصبح محمد عبدالكريم الخطابي رئيساً لدولة وزعيماً لشعب، وقائداً لثورة. وأعلن هدفه في تحرير الريف والجبال

كما أعلن موافقته على ترك سبتة ومليلة لسيطرة الأسبان . ومع تزايد حدة القتال بين أسبانيا وثورة محمد عبدالكريم، أخذ الصراع يتسع لتشارك فيه القوات الفرنسية ضد ثورة الريف، وبذلك تضاربت المصالح والاتجاهات بين القوى الوطنية والقوى الاستعمارية في المنطقة، ووضح صعوبة التفاهم بين فرنسا وبين قادة الريف. كما أن فرنسا لم تقبل استمرار محمد عبدالكريم الخطابي في ثورته، وتهديد نفوذها في شمال أفريقيا. ومع شعور فرنسا بخطورة ثورة الريف عليها، وعلى مستعمراتها في شمال أفريقيا، قررت سرعة القضاء عليها، وحاول الأمير محمد عبدالله الخطابي أن يتوصل إلى اتفاق مع فرنسا للاعتراف باستقلال الريف، إلا أن محاولته باءت بالفشل، فبدأ الريفيون هجومهم على فرنسا منذ منتصف عام 1925.

وعلى الرغم من العمليات العسكرية البطولية التي خاضها الريفيون، إلا أن الفرنسيين اغتنموا فرصة توقف العمليات خلال فصل الشتاء، وتمكنوا من استمالة القبائل الموالية للأمير محمد عبدالكريم، حيث بدأت بعض هذه القبائل في الانفضاض من حوله. ولذلك لجأ الأمير محمد عبدالكريم إلى المفاوضات والصلح مع كل من فرنسا وأسبانيا، في أبريل 1926 ، إلا أن هذه المفاوضات فشلت على الرغم من استعداد الأمير محمد عبدالكريم للتنازل والانسحاب.

وبدأت القوات الفرنسية والأسبانية هجومهما، وطلب محمد عبدالكريم وقف العمليات واستسلم للقوات الفرنسية، واستمر الزحف الأسباني حتى استُكمل احتلال الريف بأكمله. وفي صيف 1926 نشأت حركة الجامعة المغربية في الرباط، كذلك تأسس اتحاد الطلبة، وفي 27 أبريل من العام نفسه، تقرر دمج الحركتين تحت مسمى “حزب الاستقلال”. وأخذ طابع الحركة اتجاهاً تقدمياً ديموقراطياً، إلا أنه لم ينفصل عن المبادئ الروحية الإسلامية . وفي عام 1932 أصبح للحركة العديد من المؤيدين

ورفضت فرنسا بحث فكرة التفاوض مع الوطنيين، الذين يقودهم حزب الاستقلال، مع أن مطالبهم في بداية الحركة كانت تتمثل في تنفيذ معاهدة الحماية المعلنة عام 1912 . وبدأ العمل الوطني يأخذ طابعه الجماهيري بعد أن رفضت فرنسا قيام السلطان محمد الخامس بالصلاة في جامعة القرويين، التي كانت معقلاً من معاقل الحركة الوطنية التي كانت تأخذ النضال السياسي أسلوباً لها، ولكن هذا الأسلوب كان دائماً ما يشوبه الاضطرابات الدامية، بسبب النهج الاستعماري الفرنسي الذي كانت تتبعه فرنسا لإبعاد البربر عن المسلمين من خلال القوانين التي كانت تصدرها لتأكيد الفصل بين السلطات .

بدأت الاضطرابات تنتشر في البلاد منذ عام 1937، حيث بدأ ينتشر إصدار الصحافة المغربية، وتشكيل الأحزاب الوطنية المناهضة للاستعمار، ومنها كان حزب الإصلاح برئاسة عبدالخالق الطريس، وحزب الوحدة والاستقلال برئاسة محمد المكي الناصري، واللجنة التنفيذية برئاسة أحمد بلافريج. وكانت الحرب العالمية الثانية، التي شهدت انهيار فرنسا أمام ألمانيا

حيث نزلت القوات الأمريكية في مراكش عام 1942، وما تبع ذلك من ترحيب السلطان محمد الخامس بالرئيس الأمريكي روزفلت ، مما أدى إلى المطالبة بالاستقلال التام. وفي 11 يناير 1944، انعقد المؤتمر الوطني، الذي جعل الاستقلال هدفه الأول، كما أعلن ولاءه للأسرة الحاكمة، حيث طالب بتطبيق نظام الملكية الدستورية، وبمنح الحريات الديمقراطية لأفراد الشعب

كما استبدل الحزب بلقب السلطان لقب الملك، الذي سُمي منذ ذلك التاريخ “الملك محمد الخامس” . وتبدد الأمل في نفوس الوطنيين في المغرب بسبب عدم تمكن الحلفاء من تخفيف قبضة فرنسا على بلادهم، حيث اجتمعت الأحزاب الوطنية المغربية يوم 11 يناير 1944، وأعلنت ميثاقها، الذي تضمن أهداف المغرب الآتية:

1. المطالبة بالاستقلال التام ووحدة الأراضي المغربية.

2. إقرار الملكية الدستورية كنظام للحكم.

3. التعاون بين الملك والشعب على تحرير البلاد وتحقيق الإصلاح.

وبذلك يكون قرار الوطنيين في المغرب، أن نظام الحماية لا يمكن أن يحقق طموحهم، وأن الاستقلال هو السبيل الوحيد. وزاد نشاط محمد الخامس، كذلك زادت حدة الاضطرابات الداخلية قام خلالها الفرنسيون بمذبحة كبيرة في الدار البيضاء، قُتل فيها أكثر من أربعة آلاف مواطن مغربي، واعتقل زعماء الأحزاب وأعلنوا حلها، كما اعتقل الملك محمد الخامس وأفراد أسرته، وأُبعد إلى مدغشقر. ومع استمرار الأحوال المضطربة في المغرب، وتحت ضغط الرأي العام الدولي، تراجعت فرنسا عن موقفها وأعادت الملك إلى عرشه بعد عامين من الصراع المرير، وعاد الملك بعد أن صدر تصريح مشترك بينه وبين فرنسا في 6 نوفمبر 1955، اعترفت فيه فرنسا باستقلال مراكش.

وفي 2 مارس 1956 جرى التوقيع على اتفاقية تضمنت إلغاء الحماية والاعتراف باستقلال مراكش ووحدة الأراضي المغربية (اُنظر ملحق وثيقة الاستقلال الموقعة بتاريخ 2 مارس 1956، البيان المشترك بين المغرب وفرنسا). كذلك صدر في 6 أبريل 1956 بيان أسباني مغربي مماثل، استعاد خلاله المغرب حريته السياسية (اُنظر ملحق بيان استقلال المغرب بتاريخ 6 أبريل 1956، صادر من أسبانيا والمغرب)، واتخذت مراكش “المغرب” اسماً رسمياً للدولة.

رابعاً: رد فعل سكان الصحراء الغربية تجاه الاستعمار

بعد إعلان استقلال المغرب، حدد حزب الاستقلال الأراضي التي ما زالت تحت الاحتلال بالآتي:

1. أراضٍ استمرت أسبانيا تسيطر عليها، تمثلت في مدينتي مليلة وسبتة في الشمال على البحر المتوسط، والجزر الجعفرية بمحاذاة الحسيمة وإقليم طرفاية، وهو يقع داخل الصحراء الغربية جنوب المنطقة، التي كانت تحت النفوذ الفرنسي، وإقليم إيفني، وإقليم الساقية الحمراء، ووادي الذهب جنوب طرفاية.

2. أراضٍ استمرت فرنسا تسيطر عليها، وهي موريتانيا، التي تمتد من وادي الذهب إلى حدود السنغال، وأراضٍ في التخوم الشرقية ضمتها فرنسا إلى الجزائر وقت الاحتلال، وكذلك جزء تحت الحكم الدولي وهي طنجة التي كانت خاضعة لإدارة مختلطة تكونها مجموعة من الدول الغربية. (اُنظر شكل أماكن الاستعمار الفرنسي والأسباني)

وقد طالبت الحركة الوطنية، بعد توقيع معاهدتي الاستقلال مع فرنسا وأسبانيا، باستكمال استقلال المغرب، وكان رد فعل السلطات الاستعمارية سريعاً، حيث عقدت كل من فرنسا وأسبانيا اتفاقاً يتعلق بإقرار الحدود بين منطقتي الصحراء الغربية، التي تقع تحت نفوذ كل منها، وعملتا على فصل الصحراء عن المغرب وعن أفريقيا الغربية. إلا أنه مع عدم استكمال استقلال المغرب

توجهت عدة وحدات من جيش التحرير خلال عام 1956 إلى الصحراء الغربية، وانضمت إليها القبائل الصحراوية، وبذلك أصبح هذا الجيش يتكون من عناصر تنتمي لمختلف مناطق المغرب، من الريف والأطلسي وتافيلات والشاوية ودكالة والساقية الحمراء، ووادي الذهب وغيرها، مكوناً بذلك صورة من الإجماع الشعبي على استمرار الكفاح لإتمام التحرير والوحدة.

وقد استقرت هذه القوات في باستيك، وأقا، وطاطا، وأصبحت هذه المناطق مراكز لتدريب الجيش، وتنظيم العمليات العسكرية، ونقط انطلاق القوات لخوض المعارك ضد الاستعمار، خاصة الأسباني .

لم يرغب جيش التحرير بدء عمليات الكفاح المسلح ضد الاستعمار الأسباني، في كل من مناطق أُيت باعمران والصحراء الغربية، بل فضل، أولاً، تحييد أسبانيا أثناء مواجهته القوات الفرنسية في صحراء تندوف وموريتانيا، لهذا طلب جيش التحرير من سكان إيفني وأيت باعمران إيجاد نوع من الهدنة مع أسبانيا، حتى يتم تحرير المناطق الأخرى، خاصة وأن أسبانيا كانت لا تعارض تحركات جيش التحرير بسبب تأزم العلاقات الفرنسية الأسبانية. كما أن أسبانيا فتحت مناطقها لأفراد المقاومة اللاجئين إليها، خوفاً من القمع الفرنسي.

إلا أنه بعد تركيز الجيش وتجمعه، ووضوح قوته، بدأ توسيع دائرة المعارك لتشمل القوات الأسبانية والفرنسية، كذلك بدأت العمليات في كل من أيت باعمران ووادي الذهب والساقية الحمراء، خاصة بعد أن غيّرت أسبانيا مواقفها السياسية تجاه جيش التحرير، حيث بدأت تحد من تحركات وحداته، كما سمحت للجيش الفرنسي بشن عمليات عسكرية داخل مناطق نفوذها.

خامساً: معارك جيش التحرير ضد الوجود الفرنسي بالصحراء الغربية

بدأ جيش التحرير عملياته بالتوغل داخل الأراضي المستعمرة، ومهاجمة مراكز القوات الفرنسية في الصحراء الشرقية، التي كانت مسرح العمليات الأولى. فقد هاجمت قوات جيش التحرير في يونيه 1956 مركز أم العشار الفرنسي ـ ويبعد 130 كم من شمال تندوف ـ ودُمر المركز وقُتل قائده. وكانت هذه العملية بمثابة فتح جبهة جديدة ضد القوات الفرنسية بغرض تشتيت جهودها

كما كان ذلك مساندة للثورة الجزائرية، حيث عزّزت فرنسا قواتها في تندوف، في الوقت الذي كانت فرنسا تركز جهودها ضد الثورة الجزائرية. وفي أكتوبر 1956 توترت الأوضاع في الجنوب، حين تحركت القوات البرية الفرنسية صوب الجنوب من مختلف مناطق المغرب، فخرجت المظاهرات الشعبية، وأعلن إضراب شامل في أغادير، وحاصرت قبائل الجنوب الطرق، التي تمر منها القوات الفرنسية وشلت الحركة.

وفي 12 يناير 1957 نفّذ جيش التحرير هجمات متعددة داخل موريتانيا، نتج عنها خسائر بشرية في الجانبين، وعلى الرغم من عدم تمكن جيش التحرير من تحقيق مهمته، إلا أنه كسب تأييداً سياسياً، خاصة من الحكومة الموريتانية. ولأن العمليات العسكرية لجيش التحرير، كانت تتسم بطابع التحدي وتتخذ الأسلوب الانتحاري، فقد أدى إلى ذلك إلى اتخاذ فرنسا عدة إجراءات ضد جيش التحرير، منها إدماج مدينة تندوف بالمناطق التي تحتلها بالجزائر

كذلك سارعت فرنسا للاتفاق مع أسبانيا على سرعة القضاء على مراكز جيش التحرير في الصحراء الغربية. وظهرت بوادر هذا الاتفاق خلال المعارك التي دارت شمال موريتانيا، حيث توغلت القوات الجوية والبرية الفرنسية داخل وادي الذهب، لتتبع جيش التحرير. كما اعترضت القوات الأسبانية وحدات جيش التحرير عند عودتها من شمال موريتانيا وسحبت أسلحتهم.

ويعد هذا الموقف بداية لتوتر العلاقات بين جيش التحرير والجيش الأسباني، وبداية للتحالف الفرنسي الأسباني، الذي عجّل بانفجار العلاقات بين جيش التحرير والأسبان. فقد اتفق الجانبان الفرنسي والأسباني على خطة عمل مشتركة لمواجهة جيش التحرير وصد هجماته، وعقدت اتفاقية تضمنت الآتي :

1. منع تسرب أفراد جيش التحرير إلى داخل الصحراء الغربية.

2. فرض حصار اقتصادي في الحدود بين الشمال المستقل، والمنطقة التي تحتلها أسبانيا.

3. الدفاع المشترك عن الصحراء، والعمل على عدم دمجها في المغرب.

4. استغلال مشترك للمعادن الموجودة بالصحراء الغربية والشرقية.

5. تعزيز قوات الجيش الأسباني بقوات فرنسية لمواجهة تحركات جيش التحرير.

واستمرت حملات الجيش الفرنسي جنوب وادي الذهب، بهدف تدمير جيش التحرير، الذي اضطر إلى تجميع قواته في عدة مراكز شمال الصحراء الغربية. وعلى الرغم من الصعوبات التي واجهها، فإنه لم يتوقف عن مهاجمة القوات الفرنسية، حتى أمكنه معاودة هجوم مركز أم لعشار في 6 أغسطس 1957، رغم قوة الحراسة على هذا المركز، وكان الهجوم رداً عملياً لدحض الادعاء الفرنسي، بعدم وجود خطر يهدد المنطقة.

سادساً: معارك جيش التحرير ضد الوجود الأسباني بالصحراء الغربية

بعد أن أخفقت الاتصالات مع أسبانيا، وتمادت القوات الاستعمارية في استخدام قواتها العسكرية، تحمّل جيش التحرير مسؤوليته في استكمال تحرير الأراضي المغربية، بمشاركة فعالة لمواطني باعمران. وكانت أسبانيا قد بدأت بحشد قواتها، بداية من سبتمبر 1957، في كل من مناطق الداخلة والعيون وطرفاية وإيفني.

كما شنت القوات الأسبانية هجوماً على قبيلة أصبويا بأيت باعمران، وفرضت قيوداً على القبائل، ومنعت دخولهم أو خروجهم إلى هذه المناطق. كما تركّز الهجوم الأسباني على مركز حزب الاستقلال بمدينة العيون في 11 سبتمبر 1957، حيث اعتقلوا العديد من أفراد القبائل ومزّقوا العلم المغربي، فثارت الجماهير المغربية، يتزعمها الشيخ الأغطف ابن الشيخ ماء العينين.

وخلال هذه الثورة الشعبية بدأ الكفاح المسلح منطلقاً من آيات باعمران اعتماداً على المتطوعين، وهاجمت وحدات جيش التحرير يوم 13 نوفمبر 1957 ثمانية عشر مركزاً أسبانياً، وحققت العديد من الانتصارات، رغم اختلال ميزان القوى لصالح القوات الأسبانية. ونتج عن ذلك تنسيق بين القوات الفرنسية والأسبانية، لتنفيذ خطة ـ عملية الإعمار ـ للاشتراك في تطهير الصحراء من جيش التحرير. وتمكنت القوتان، الفرنسية والأسبانية، من هزيمة جيش التحرير وإجباره على التراجع لإعادة تنظيم قواته عسكرياً وسياسياً، حيث تمكن بعد ذلك من شن هجمات متعددة ضد القوات الفرنسية على الحدود الشرقية، واستطاع أن يفرض وجوده في منطقة تندوف.

وقد واجه جيش التحرير المغربي الهجمات الاستعمارية الموسعة، على الرغم من ضعف إمكانياته، متشبثاً بالمبادئ التي التزم بها، حيث كان مطلبه الأساسي الاستقلال ووحدة الأراضي المغربية. وقد ثبت خلال هذه المرحلة مدى ارتباط الشمال المغربي بجنوبه، ومدى التماسك بين قبائل الصحراء وحركات المقاومة، ومع تضافر جهود القوات الفرنسية والأسبانية، أمكن إيقاف أعمال قتال جيش التحرير

كما شرعت فرنسا في إنشاء ما سُمي بالمنطقة المشتركة للأقاليم الصحراوية. إلا أنه في 23 نوفمبر 1957، نشب قتال واسع النطاق بين القوات الأسبانية وقوات جيش التحرير على قطاع إيفني جنوب مراكش. وفي أول ديسمبر دعمت أسبانيا قواتها البحرية في المياه المغربية، وتوجهت مباشرة إلى إيفني، وأعلنت أسبانيا في تصريح لها أنها تعتزم استمرار فرض سيطرتها على الساقية الحمراء ووادي الذهب، وفي أوائل عام 1958 أعلنت أسبانيا أنها قررت ضم إيفني إلى جزر الخالدات الأسبانية .

وفي 10 يناير 1958 صدر قانون أسباني لإنشاء إقليم الصحراء منفصلاً عن إيفني، على أن يتولى إدارة إقليم الصحراء المقيم العام التابع لرئاسة الحكومة، كما أصبح الإقليم ممثلاً في البرلمان الأسباني بثلاث نواب، وبهذا القانون تكون أسبانيا قد أعلنت دمج إقليم الصحراء الغربية ضمن الأراضي الأسبانية، ولذلك تجدد كفاح جيش التحرير المغربي، حتى تمكن من تحرير معظم الصحراء الغربية وطرد القوات الأسبانية منها، وتمكن من السيطرة على كافة مناطقها باستثناء المنطقة الساحلية ومنطقة الداخلة ـ العاصمة ـإلا أنه من خلال التنسيق العسكري الفرنسي ـ الأسباني أمكن استرداد الأراضي المحررة، ولتخفيف حدة التوتر دعت أسبانيا المغرب لمفاوضات مباشرة لإنهاء الصراع المسلح

وأسفرت هذه المفاوضات عن تنازل أسبانيا للمغرب عن منطقة طرفاية والمنطقة المحيطة بسيدي إيفني في إطار معاهدة سنترا والتي تم التوقيع عليها بين المغرب وأسبانيا في 8 مارس 1958، في حين تمسكت فرنسا بموريتانيا. ولقد هدفت أسبانيا من هذه المعاهدة إيقاف المقاومة الشعبية المغربية ضد الوجود الأسباني، وكذلك إحراج فرنسا المسيطرة على الطرف الآخر من الصحراء وموريتانيا.

وظلت أسبانيا تتمسك بمنطقتي إيفني والصحراء الغربية، كما كانت المغرب تطالب بهما. ولكن في الوقت ذاته انشغل المغرب بالمطالبة بإقليم موريتانيا نفسه، إذ كان المغرب يرى أنه من خلال ضم موريتانيا، يمكنه ضم الصحراء الغربية.

الأهمية الجيوبولوتيكية للصحراء الغربية

على إثر الصراع المسلح بين القوات الأسبانية وقوات جيش التحرير خلال الفترة 1956-1958، فضلت أسبانيا تسليم إقليم طرفاية للإدارة المغربية لتضع بذلك حداً لحرب التحرير، وتضمن في الوقت نفسه وجودها على باقي ما كان يسمى بالصحراء الأسبانية[1]، وكان يطلق كلمة الصحراء على أراضي الساقية الحمراء ووادي الذهب من قِبَل الاستعمار الأسباني، حيث أراد من خلال هذه التسمية التقليل من أهمية هذه المنطقة حتى لا تكون محط اهتمام للدول العربية المحيطة بها.

أولاً: الموقع والمساحة والتقسيم الإداري

كان مصطلح “الصحراء الغربية” يتوافق مع الموقع الجغرافي للمنطقة، ويناسب التعبير الدبلوماسي الذي تركز على الحياد والموضوعية، وهو، تاريخياً، أصلح منه الآن؛ لأنه أطلق اعتباراً لموقع المنطقة من مركز السلطة العالمية التي كانت مهيمنة حينئذ، وهي الإمبراطورية الرومانية، ثم الإمبراطورية الإسلامية، ولقد تغير الاسم الذي أطلق على الصحراء الغربية عبر التاريخ ـ مع ما حولها من دول شمال أفريقيا ـ فلقد كان اسمها بلاد البربر The Coast of Barbaric، وأطلق عليها الجغرافيون بلاد المغرب أو جزيرة المغرب

وقبل ذلك كان الاسم أفريقيا الصغرى والسلسلة الأطلسية وبلاد الليبو Lebu والمشوشين Mashuasha وتماحو Tamahu وتحنو Tehnu وكهاكا Kahaka، وظهرت هذه الأسماء في النقوش الفرعونية التي تعود للفترة ما بين 1700 – 1300 ق.م، ولقد أطلق الرومان على مكانها اسم الجيتوليين، والنوميديين، والموريين أي المغاربة.

تقع الصحراء الغربية في الشمال الغربي لأفريقيا، يحدها شمالاً المغرب، وغرباً المحيط الأطلسي، وجنوباً موريتانيا، وشرقاً الجزائر، وتبلغ مساحتها حوالي 266 ألف كم2، ويبلغ طول ساحلها 1062 كم (اُنظر خريطة الحدود التقريبية للمغرب العربي)، بينما حدودها البرية تصل إلى 2045 كم، منها مع موريتانيا 1570 كم، ومع المغرب والجزائر 475كم. ولقد تم إقرار هذه الحدود في إطار سلسلة من المعاهدات بين الدول الاستعمارية.

وبالنسبة للموقع الجغرافي تحدد المنطقة بخطَي الطول 8° و20°، وبخطَي العرض 28° و20°، ويمر خط الطول 16° على مدينة الداخلة، في حين يُشكل خط الطول 12° الجزء الأوسط من حدود الصحراء مع موريتانيا، وبذلك تكون الحدود الطبيعية لمنطقة الصحراء الغربية من الشمال المغرب الشمالي، ومن الجنوب رأس كانسادور ـ الكويرة، ومن الغرب المحيط الأطلسي، ومن الشرق صحراء تندوف في الجزائر.

تتكون الصحراء الغربية من ثلاثة أقاليم إدارية هي: (اُنظر خريطة التقسيم الإداري والجغرافي)

1. منطقة سمارة، وتبلغ مساحتها حوالي 56 ألف كم2.

2. منطقة العيون، وتبلغ مساحتها حوالي 26 ألف كم2.

3. منطقة الداخلة، وتبلغ مساحتها حوالي 184 ألف كم2.

أما التقسيم الجغرافي للصحراء الغربية، فيجملها قسمين، هما:

1. الساقية الحمراء، وهي وادي مهم يمتد في أقصى الطرف الشمالي من حدود الإقليم، وينحدر إلى ساحل المحيط الأطلسي، ويشمل المنطقة الممتدة من رأس جوبي وحتى رأس بوجادور، حيث تبلغ مساحتها حوالي 82 ألف كم2.

2. وادي الذهب، ويشمل المنطقة الممتدة من جنوب الساقية الحمراء من رأس بوجادور وحتى رأس بلانكو ، وتبلغ مساحتها حوالي 184 ألف كم2.

ثانياً: جغرافية الأرض ومصادر المياه والمناخ

طبيعة الأرض في إقليم الصحراء الغربية جرداء مرتفعة نحو الشرق والشمال الشرقي، حيث تتكون من سهول ساحلية ترتفع تدريجياً كلما اتجهنا للداخل، حتى تشكل هضاب يصل متوسط ارتفاعها إلى ألف قدم فوق سطح البحر، ويزداد الارتفاع ليشكل سلسلة جبلية يصل ارتفاعها إلى 600 م عند الحدود الموريتانية ، ولا يوجد في إقليم الصحراء أنهار دائمة الجريان، ومعدل هطول الأمطار حوالي 0.6 ملم سنوياً، ونظراً لمحدودية الموارد المائية، فإن الزراعة في الإقليم من النوع الذي يفي باحتياجات السكان فقط، على الرغم من اكتشاف بعض مصادر المياه منذ عام 1964، وعلى الرغم من أن المناخ الصحراوي يسود الإقليم، إلا أن تيار كناي البارد الذي يهب صيفاً من الشمال يساعد على تلطيف درجة الحرارة،

خاصة أن تأثيرها يمتد إلى المناطق الداخلية، ومع زيادة الجفاف أدى ذلك إلى تناقص تدريجي، وبمعدلات مرتفعة، في تعداد السكان، الذين اتجهوا إلى رعي الماشية، ولا تزال البداوة أساس الحياة في إقليم الصحراء الغربية، حيث ينتقل جزء كبير من القبائل صيفاً بين المناطق الداخلية المرتفعة، وشتاءً في سهول الجنوب، ويعتمدوا في تنقلاتهم الطويلة على بعض الواحات الصغيرة المنتشرة على طول مجاري الوديان. أما في المناطق الساحلية فيوجد بعض الواحات السكنية، التي يمارس أهلها الزراعة.

يتسم مناخ الصحراء الغربية بالحرارة العالية والجفاف، ففي الصيف تراوح درجات الحرارة ما بين 40° –46° مئوية، أما في الشتاء فتكون درجة الحرارة ما بين 10° – 15° مئوية، كما يتَّسم برياح عنيفة وعواصف رملية تسبب زحفاً مستمراً للرمال، وتصحراً متفاقماً، وطبقات مائية جوفية محدودة المخزون والتجديد، تحاصرها الأملاح (نسبة ملوحة ما بين 2-9 جرام) وشبكة هيدروجرافية محدودة المياه باستثناء وادي الساقية الحمراء الذي أُنشئ عليه سد بارتفاع 15 م يُعَدّ مصدراً أساسياً لتوفير المياه

والصحراء الغربية ذات غطاء نباتي فقير، ولا يوفر النظام البيئي الهش سوى مجال محدود من المحاصيل الزراعية، وخاصة في المنخفضات، وأهمها الكرارة، ومجاري المياه، ومناطق الواحات، ونطاقات الصدوع.

ثالثاً: المدن والموانئ في إقليم الصحراء الغربية

إثر السيطرة الاستعمارية على منطقة الصحراء الغربية، تم إنشاء بعض المرافق الحضارية. فلم يكن لدى السكان أي اهتمام بالتمدن إلا بعد أن زاد نشاط الاستعمار الأسباني في بداية الخمسينيات، حيث أصبح العمل في المرافق، التي أنشأها المستعمر الأسباني يجذب السكان، بسبب ما يوفره من ماديات.

وقد تمكّن الاستعمار من تغيير نمط الحياة، إما من خلال إغراء العديد من القبائل برفاهية الحياة المدنية، أو من خلال الضغط على التجمعات القبلية، ولذلك زادت هجرة السكان من المناطق الصحراوية إلى مراكز التجمعات الحضارية. وترتب على هجرة السكان إلى المراكز الحضارية

واكتشاف المعادن في الستينيات، وضع اجتماعي جديد تمثل في ظهور المدن الكبيرة وإن كان السكان الأصليون متمركزون في مناطق محددة منها. وكذلك نشأت بعض المدن والقرى في مناطق التعدين، أو بالقرب من المراكز العسكرية الإستراتيجية. وبعد أن كانت مدينة السّمارة هي الوحيدة في المنطقة، أصبح هناك العديد من المدن والمراكز الحضارية في إقليم الصحراء الغربية.

وتعد مدينة العيون أهم مدن الصحراء الغربية، وهي تمثل العاصمة الإدارية للاستعمار الأسباني، وتسيطر على الإقليم الشمالي. وهي عاصمة الإقليم الشمالي ـ الساقية الحمراء. أما مدينة الداخلة، فهي أول ميناء يُقام في المنطقة، ويوجد بها مناطق مهمة لصيد الأسماك، اكتسبت أهميتها بسبب هجرة الأسماك إليها من شمال وغرب المحيط الأطلسي.

أما مدينة السمارة فتقع في قلب الصحراء، وتكتسب صبغة بدوية لوجودها في منطقة البدو، كذلك لها أهمية إستراتيجية لموقعها وسط الصحراء . كما يوجد العديد من المدن المهمة في الصحراء الغربية، منها القويرة وبير الحلو ومحبس وقلته وأم غالا وبوكراع. (اُنظر خريطة المدن ومراكز التوطن الرئيسية)

رابعاً: تعداد السكان

يبلغ عدد سكان إقليم الصحراء حوالي 76 ألف نسمة، وهو التقدير الدولي الذي تعترف به المغرب. أما جبهة البوليساريو فتُقدر عدد السكان بحوالي 375 ألف نسمة يدينون بالإسلام، إضافة إلى ما يزيد عن 200 ألف نسمة من مواطني الدول المجاورة وجزر الكناري، التي تبعد حوالي 150 كم من شاطئ الصحراء في مياه المحيط الأطلسي، كذلك تؤكد جبهة البوليساريو أنه يوجد حوالي 700 ألف نسمة من اللاجئين الصحراويين، في كل من الجزائر والمغرب وموريتانيا، وعدد من الدول الأفريقية المجاورة .

بينما حددت الموسوعة الجغرافية الإيطالية ـ داغو سنتيني ـ عدد سكان الصحراء الغربية، نقلاً عن المصادر الأسبانية عام 1966، بحوالي 23793 نسمة، يوجد منهم في مدينة العيون، عاصمة إقليم الساقية الحمراء، حوالي 18542 نسمة، بينما يوجد في مدينة الداخلة حوالي 5251 نسمة، دون الأخذ في الاعتبار السكان المقيمين خارج هاتين المدينتين.

ويرجع سبب عدم القدرة على تحديد عدد السكان في الصحراء الغربية، وتباين التقديرات المعلنة، إلى نمط الحياة الرعوية التي يعيشها معظم سكان الإقليم، وتنقلهم المستمر بين المراعي المختلفة، إضافة إلى تعمد أطراف النزاع إلى الإعلان عن العدد، الذي يمكن من خلاله تحقيق سياستها وأهدافها. ويعاني سكان إقليم الصحراء الغربية منذ الثلاثينيات من كثرة الأوبئة واستيطانها، بسبب عدم التوعية الصحية وسوء التغذية، وتصل نسبة الوفيات بين الأطفال إلى 6%، وتنخفض نسبة النمو السكاني، وكذلك مستوى المعيشة، ويصل متوسط عمر السكان إلى 40 سنة تقريباً، كما تصل نسبة الوفيات بين الكبار إلى 40%.

هناك اختلاف كبير حول أصول السكان، حيث يسود اعتقاد بأنهم من الجنس الآري، ورأي آخر يقول بأنهم من الغاليين والرومان والوندال النازحين من الشمال، واعتقاد ثالث بأنهم نزحوا بعد انفجار سد مأرب في اليمن، وعقب هزيمة الكنعانيين في معركة طالوت وجالوت بفلسطين

ولكن بعض الدلائل المؤكدة تثبت أن أول سكان بلاد البربر (الصحراء الغربية) كانوا خمس قبائل من السبئيين وما زالوا يحملون أسماءهم (صنهاجة، مصمودة، زناتة، غمارة، هوارة) ومنهم خرجت العديد من سلالات البرابرة، التي امتزجت وكونت البنية الأساسية لسكان الصحراء الغربية الحاليين، ورغم ذلك لا يجب إغفال التعريف الموضوعي بعروبتهم، نظراً لتعاظم الإرث البيولوجي العربي فيهم، ولهيمنة التراث العربي الإسلامي وتقاليده وطقوسه ونظمه عليهم.

وقد أثرت طبيعة السكان، وحياتهم الرعوية، وتنقلاتهم الموسمية من منطقة إلى أخرى؛ إضافة إلى قلة عددهم ـ في إمكان تنظيم حركات سياسية شعبية؛ إذ لم تظهر هذه الحركات إلى الوجود، إلاّ في فترة متأخرة. أما قبل ذلك، فكان الأمر يقتصر على تعبير بعض الشخصيات القبلية عن رغبتهم في الانضمام إلى المغرب. بينما كان بعض القبائل الأخرى تطالب بالانضمام إلى موريتانيا.

يتكون سكان الصحراء من جماعات، تنتمي إلى البلدَين المذكورَين؛ إلى جانب نسبة بسيطة من العِرق الزنجي الخالص، تسكن حوض السنغال. ويدين الجميع بالإسلام. وتسود اللغة العربية، بلهجة الحسانية؛ وهي إحدى اللهجات المحلية، الشائعة في شمالي أفريقيا. غير أن المدارس، التي أقامتها أسبانيا في الصحراء، ومعظمها لم تتجاوز المرحلة الابتدائية ـ نشرت اللغة الأسبانية بين المتعلمين؛ ما ترك أثره في ثقافة القيادات السياسية، التي تتكلّم اللغة الأسبانية، في تعاملها مع العالم الخارجي.

خامساً: الحالة الاجتماعية والتقسيم القبلي للصحراء

يتأثر الوضع الاجتماعي في الصحراء الغربية بطبيعة المنطقة الصحراوية، وكونها جزءاً من القارة الأفريقية المتخلفة، وكونها كانت إلى وقت قريب تحت استعمار أسباني فاشستي متخلف، إلا أن النسق الاجتماعي بالصحراء الغربية يعتمد أساساً على نظام قبلي حاد، تنعزل فيه كل قبيلة عن الأخرى، وتخضع كل منها لرئيس يختاره كبراؤها لاستشارته، ويحتكمون إليه لحل خلافاتهم، وتعتمد معيشتهم كثيراً على اللحوم والفواكه المجففة التي تستورد من الشمال، ويمتاز زيهم بِكونه لونين أساسيين الأبيض والأزرق، الأبيض للشرفاء والأزرق للعامة، أما العمامة واللثام اللذان اشتهروا بهما فهما عادة عربية استقدمها المهاجرون الأوائل معهم من الجزيرة العربية، ولكن الوضع الاجتماعي للصحراء الغربية أخذ في التغير، بصفة عامة، بعد جهود التطوير والنهضة العمرانية والثقافية التي أثرت على العادات والتقاليد والأعراف القديمة، وإقحام المنطقة في أجواء العصر الحديث.

تُعد حدود الصحراء الغربية الحالية مع جيرانها حدوداً وهمية، غير محددة بظواهر طبيعية واضحة، إلا أن هذه الحدود رسمت وحددت باتفاقيات ومعاهدات بين الدول الاستعمارية، ولذلك عدلت عدة مرات. والمجتمع الصحراوي مجتمع قبلي، مقسّم إلى قبائل تتمايز مكانة ووظيفة، وتتكون القبائل الصحراوية، مثلها مثل مختلف القبائل المغربية، من عنصرين أساسيين، هما: عرب وبربر

أما من حيث الأصل والنسب فينقسمون إلى ثلاث طبقات قديمة منحدرة من المرابطين من صنهاجة، وطبقة منحدرة من الأفراد القادمين مع الفتوحات الإسلامية، وطبقة ثالثة منحدرة من بني حسان ـ عرب معقل ـ الذين دخلوا هذه البلاد في نهاية القرن الثامن الهجري.

ومن هذه الطبقات تتكون ثلاثة أقسام اجتماعية هي:

1. الزوايا: وهم مكلفون بالوظيفة الدينية في المجتمع، من حيث التعلم والتعليم والقضاء والفتوى، إضافة إلى ذلك فلهم دور اقتصادي حيوي، حيث يعملون بالزراعة وتربية الماشية والتجارة وحفر الآبار، كذلك لهم دور سياسي مهم داخل المجتمع الصحراوي.

2. مجموعة المحاربين: وهي تحتكر استخدام السلاح, وتفرض سيطرتها ونفوذها داخل المجتمع بقوة السلاح، وهم بنو حسان، ويعملون أساساً بالصيد وحماية المجموعات المستضعفة التي تخضع لهم، وكذلك فهم يشكلون السلطة السياسية والعسكرية.

3. مجموعة الفئات التابعة: وهم يعملون بالصناعة والأعمال الحرفية، كما يقومون بالرعي.

وتشكل المجموعتان الأولى والثانية جناحين لمجموعة اجتماعية واحدة، هي المجموعة الأرستقراطية أصحاب القلم والسيف، والعلاقة بين هذه الطبقة والطبقة المستضعفة علاقة استغلال مفروض بواسطة العنف، الذي يمارسه المحاربون. ويُعد الشمال المغربي منطلق أغلب المهاجرين إلى المناطق الصحراوية، ولذلك تأثرت الحياة الاجتماعية في الصحراء الغربية بالحياة الاجتماعية في الشمال، ولا تُعد الأسرة هي الوحدة الاجتماعية الأساسية في مجتمع الصحراء، بل تتكون الأسرة من مجموعة اجتماعية ـ أفخاذ ـ ومجموعة هذه الأفخاذ تسمى “عشيرة”، وقد تمتد إلى مسافات تعبر الحاجز الجغرافي للصحراء الغربية في المغرب والجزائر وموريتانيا.

ولذلك يرتبط سكان الصحراء الغربية بصلات قربى مع سكان الدول الثلاث، وتشكل ثلاث قبائل كبرى المجتمع الصحراوي، وتبقى قبائل البربر، ذات الأصل الصنهاجي، هي أول من سكن الصحراء الغربية، وإضافة إلى البربر فإن عرب بني معقل قد استقروا بالساقية الحمراء

كما اختلط عرب بني حسان بالصنهاجيين، وكذلك بقبيلة أولاد بني السبع. ولقد اختلطت هذه القبائل مع بعضها البعض، مما أدى إلى صعوبة تصنيفها من حيث الأصول البشرية والتاريخية . ويمكن تقسيم القبائل الصحراوية إلى أربع مجموعات هي:

1. قبيلة الرقيبات: التي يبلغ عددها حوالي 35 ألف نسمة، يوجد منهم حوالي 20 ألف نسمة في الساقية الحمراء، وحوالي 15 ألف نسمة رحل يقطنون وادي الذهب الأوسط والشرقي وشرق تندوف وشمال غرب موريتانيا، وتنقسم الرقيبات الموجودة في الصحراء الغربية إلى جُزءين رئيسيين هما:

أ. رقيبات الساحل، ويتفرع منها الأفخاذ الآتية:

(1) أولاد موسى، ويتميزون بغلبة التأثير العربي على البربري.

(2) السواعد، وأولاد داوود.

(3) المؤذنين، وينحدرون مباشرة من الولي سيدي أحمد الرقيبي.

(4) أولاد الشيخ، وهم القبيلة الرئيسية في صحراء تيرس وأدرار.

(5) أولاد طالب وأولاد التهالات، وهما ينحدران من ذرية سيدي أحمد الرقيبي.

ب. رقيبات الشرق أو القاسم، وتشمل الأفخاذ الآتية:

(1) البيهات، وهم رحل يتنقلون بين الساقية الحمراء وأقصى جنوب وادي الذهب وودي درعة.

(2) أهل إبراهيم وداوود، والفقرة.

وتعمل قبائل الرقيبات بالزراعة والتجارة، وتمتلك قطعان كبيرة من الجمال ينتقلون بها نحو الشمال ونحو السودان. ويتركز انتشار قبيلة الرقيبات في الساقية الحمراء وجبال زمور. كما يوجد أفرع منها في موريتانيا، وقد وصل انتشارهم حتى النيجر. (اُنظر خريطة توزيع المجموعات القبلية)

2. قبائل تكنة: وهي تتكون من اثنتي عشرة قبيلة، يمكن تقسيمهم إلى جدعين رئيسيين هما:

أ. جدع بربري: آيت عثمان، وآيت بلا، وتعود أصولهم إلى البربر القدماء الذين سكنوا الصحراء الأفريقية.

ب. جدع عربي: أيت الجمال، وتعود جذورهم إلى عرب معقل الذين وصلوا إلى الصحراء الغربية في القرن الثالث عشر الميلادي.

وقبيلة تكنة كثيرة الترحال، ينتقلون بصفة مستمرة بين الداخلة حتى تاكوينت، وهي مسافة تصل إلى حوالي ألف كم، وتعمل قبائل تكنة بالتجارة، إضافة إلى الرعي، وهم يمتلكون قطعان كبيرة من الأغنام. ومن أهم قبائل تكنة الزرقيون وأيت الحس.

3. القبائل الصغرى: وهذه القبائل لا تنتسب إلى الرقيبات أو إلى تكنة، كما لا يُعرف تاريخ استقرارها في الصحراء الغربية، إلا أنه يغلب عليها الأصل العربي، ويصل تعداد هذه القبائل إلى حوالي سبعة آلاف نسمة، ويقطن معظمهم في وادي الذهب. وأهم هذه القبائل الصغرى:

أ. أولاد دليم: ويسكنون المناطق الساحلية الجنوبية، خاصة حول عاصمة إقليم وادي الذهب، وينضم إلى قبائل أولاد دليم قبائل الشناكلة والمناصيير، وتعمل هذه القبائل أساساً بالصيد البحري وتربية الماشية.

ب. العروسيون: وتعيش هذه القبيلة جنوب مدينة العيون، خاصة في المناطق الفاصلة بين الساقية الحمراء ووادي الذهب، ويعود أصل هذه القبيلة إلى الشيخ أحمد العمروسي الذي عاش في مراكش وكان كثير الترحال بين مراكش والساقية الحمراء، وتعمل هذه القبيلة بالزراعة إضافة إلى تربية الأغنام والماشية.

ج. أولاد تدرارين: ويرجع نسب هذه القبيلة إلى أحد الصحابة الذين قدموا مع عقبة بن نافع أثناء فتحه للمغرب، وهم يقطنون منطقة بوجادور، ويعمل أفراد هذه القبيلة بالزراعة أساساً.

د. قبيلة فيلالة: وهي من قبائل الصحراء الغربية المشهورة بالعلم والصلاح، وتقطن منطقة الساقية الحمراء، ويعمل أفراد هذه القبيلة بالزراعة وتربية الأغنام والماشية.

هـ. آل الشيخ ماء العينين: وهي من أكثر القبائل عراقة في النسب، والأصالة في العلم، كما أنها حملت راية الجهاد في الصحراء ، ويرجع نسب هذه القبيلة إلى علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ ويتفرع عن هذه القبيلة فرعان، أحدهما في إدرار والثاني في موريتانيا.

4. الحواطيون: وهم لا يشكلون قبيلة بل طبقة، تدخل في تبعيات قبائل الرقيبات والتكنة وباقي قبائل الصحراء الغربية الأخرى، ويعمل أفراد هذه القبيلة بالصناعة وتربية الأغنام.

سادساً: الأهمية الإستراتيجية للصحراء الغربية

1. تكتسب الصحراء الغربية أهميتها الإستراتيجية من أهمية الوطن العربي، سواء بجناحيه في المشرق العربي أو المغرب العربي، خاصة أن المغرب العربي يمس بطرفيه أهم ممر مائي دولي في العالم، وهو قناة السويس، وعلى الطرف الآخر يوجد مضيق جبل طارق، وكلاهما مدخل حيوي ومهم للبحر المتوسط. وإذا كان الوطن العربي يمثل مركز الاتصال الجوي والبري والبحري للعالم

فإن الموارد الهائلة الموجودة في معظم صحاري الوطن العربي تزيد من أهميته، وإذا كانت الصحراء الغربية تمثل البعد الأقصى لها، إلا أنها، في الوقت ذاته، تُعد منطقة الاتصال بين أفريقيا والعرب، خاصة وأن حدود الصحراء الغربية البرية مع جيرانها تصل إلى ألفي كم، وبذلك تكوّن بوابة أفريقيا الغربية، وهذا ما عرفته جيداً الدول الاستعمارية.

2. يشكل موقع الصحراء الغربية أهمية إستراتيجية للقوى الكبرى، فهو مواجه لجزر كناريا، التي تسيطر عليها أسبانيا، وكذلك تزداد الأهمية الإستراتيجية للموقع لقربه من مضيق جبل طارق والبحر المتوسط والتسهيلات، التي يمكن أن يقدّمها للتحركات البحرية في المنطقة، خاصة مع قرب الموقع من الثروات النفطية في المنطقة

وكذلك أماكن تواجد الفوسفات. ولذلك تسعى الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، لإقامة علاقات متنوعة مع العديد من دول المغرب العربي، حتى يمكنها الاستفادة من الإمكانيات والموارد الموجودة بالمنطقة.

3. اكتسبت الصحراء أهميتها الإستراتيجية من اتصالها المباشر بالمستعمرات الأوروبية في القارة الأفريقية سابقاً، وزاد من هذه الأهمية التنافس الاستعماري الذي سعى إلى السيطرة على مصادر الموارد الأولية، وضمان أسواق تصريف منتجاتها، وفي فترة ما بعد الاستقلال اكتسبت منطقة الصحراء الغربية أهمية خاصة لدى الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة في الجزء المواجه مباشرة للسواحل الشرقية للأمريكتين.

كما أن خروج الصحراء الغربية من حيز السيطرة والنفوذ الغربي،ووصول قوى مناوئة لها في السواحل المشاطئة مع المحيط الأطلسي، يُعد تهديداً مباشراً لأمن الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم تحتل الصحراء الغربية أسبقية خاصة في أولويات العلاقات الدولية، سواء في إطار بعدها الإقليمي العربي أو بعدها الأفريقي.

4. تكتسب الصحراء الغربية أهمية إستراتيجية على المستوى الإقليمي، من خلال موقعها بين المملكة المغربية والجمهورية الجزائرية والجمهورية الموريتانية؛ حيث تمثل عمقاً وامتداداً طبيعياً لكلاً من المملكة المغربية والجمهورية الموريتانية؛ فهي تشكل عمقاً إستراتيجياً للمملكة المغربية في اتجاه الجنوب، كما تحقق لها جزءاً من ادعائها ومطالبتها بالإقليم الموريتاني، خاصة بعد أن أسست المملكة المغربية وزارة شؤون موريتانيا والصحراء، عقب استقلالها عام 1956.

أما للجمهورية الموريتانية، فإن الصحراء تشكل لها عمقاً إستراتيجياً في اتجاه الشمال، نظراً لما تمثله الصحراء الغربية من حدود فاصلة وتباعد بين حدودها الأصلية عن حدود المملكة المغربية، وادعائها بالحق التاريخي في الأراضي الموريتانية. وأما للجمهورية الجزائرية، فإن وجود إقليم تندوف الجزائري، الذي يقع في أقصى جنوب غرب الجمهورية الجزائرية بالقرب من إقليم الصحراء الغربية، فيوجد به خام الحديد بكميات كبيرة، ولذلك تمثل الصحراء الغربية أهمية إستراتيجية للجزائر، لما تحققه من تكلفة تصدير الحديد عبر المحيط الأطلسي.

5. يُعد اكتشاف اليورانيوم في الطبقات الفوسفاتية، من العوامل التي أدت إلى زيادة النشاط الاستعماري الهادف إلى إخضاع إقليم الصحراء الغربية لنفوذه، وإذا كان الشمال الأفريقي يضم العديد من الدول، التي تناهض الوجود الاستعماري وتهدده بالزوال، فإن عملية المواجهة بين الجانبين أكسب الصحراء الغربية أهمية إستراتيجية، خاصة من جانب القوى الاستعمارية، التي تعمل على محاصرة التيار الوطني ومنع انتشاره حتى يمكنها الاستحواذ على الثروات والمواد الأولية في الصحراء الغربية، ولذلك فإن المشاكل الإقليمية التي تثار بين أنظمة الحكم في المنطقة، غالباً ما تشعلها القوى الاستعمارية لتنفيذ أهدافها، مما أسهم في زيادة حدة المشاكل الإقليمية، وإضفاء الطابع الدولي عليها.

سابعاً: الأهمية الاقتصادية للصحراء الغربية

لم يكن للصحراء الغربية في الماضي أهمية اقتصادية تُذكر، إلا أنه خلال فترة زمنية قريبة سابقة، اكتُشفت مواد أولية ذات أهمية اقتصادية. ولذلك زادت أهمية الإقليم، ما أدى إلى تشبث الاستعمار به، كما بدأت مطالبة دول الجوار بحقوقها في الإقليم. وتتمثل أهم موارد الصحراء الغربية في الآتي:

1. الفوسفات

أ. ويعتبر المورد الرئيسي لمنطقة الصحراء الغربية، ويرجع اكتشافه إلى باحث أسباني ـ مانويل مايبا ـ عام 1947، حيث تم إجراء مسح طبوغرافي للصحراء الغربية عثر خلاله على طبقات من الفوسفات بنسبة عالية بين خطي عرض 26ه – 27ه، وخط الطول30/ 13ه – 00/ 13ه غرباً، أي بين نهري بوكراع وإيفتي. ولقد تأجلت عملية استخراجه بسبب أعمال القتال التي كانت قائمة بين الثوار والمستعمر الأسباني والفرنسي، ومنذ أن تسلمت المغرب إقليم طرفاية أمكن البدء في استخراجه منذ عام 1958، وتطلعت كثير من الشركات الأجنبية لعمليات الاستغلال

خاصة وأنه ينتج بكميات تجارية ضخمة، وبالتالي فإن من يسيطر على مناطق استخراج فوسفات الصحراء الغربية يكون هو المتحكم في الإنتاج والتصدي العالمي، خاصة وأن الاحتياطي العالمي للفوسفات يقدر بحوالي 38 مليار طن، يشكل الاحتياطي الأفريقي منها حوالي 18 مليار طن، وفي آسيا 4 مليار طن، والولايات المتحدة 10 مليار طن، وأمريكا الجنوبية حوالي مليار طن، أما احتياطي الصحراء الغربية فيصل إلى حوالي 2 مليار طن

ويمتد على مساحة 1200 كم2، لم يُستغل منه بعد إلا منجم بوكراع بمسافة 700 كم2، ويعتبر الفوسفات الموجود في الصحراء الغربية من أجود الأنواع في العالم، حيث يتواجد بنسبة 65-80%. ولقد عانت دول المغرب كثيراً بسبب التنافس على تصديره. (اُنظر خريطة الأهمية الاقتصادية للصحراء الغربية)

ب. منحت الحكومة الأسبانية حق استغلال الفوسفات منذ عام 1967 إلى شركة دولية تتكون من بعض الشركات الأمريكية والفرنسية والألمانية والأسبانية، بنسبة 25% للمصالح الأمريكية، و20% للمصالح الفرنسية والألمانية، و55% للحكومة الأسبانية. إلا أنها ألغت هذا الامتياز وعمدت إلى إنشاء الشركة العالمية الأسبانية التي تدار حكومياً

برأس مال قدره 3.5 مليون دولار، تقوم بنقل الفوسفات إلى ميناء العيون على شريط متحرك ينقل ألفي طن فوسفات في الساعة لمسافة 60كم بين بوكراع والعيون، كذلك تم بناء ميناء بحري للتصدير بطاقة نقل 200 طن متري يومياً، وبطاقة سنوية تراوح بين 9-13 مليون طن، وبدأ التشغيل عام 1972، غير أن الحكومة الأسبانية، تعاقدت مع بعض الشركات الأوروبية، لمسـاعدتها على استخراج الفوسفات وتسويقه.

كما عبّدت بعض الطرق الصحراوية، مما ساعد على ظهور بعض المراكز العمرانية، بسبب التقدم في عمليات الاستغلال. ومن أشهر تلك المراكز مدينة أبو كراع، التي تُعَدّ المركز الرئيسي لإنتاج الفوسفات. لكن حركة البوليساريو قامت ببعض عمليات التدمير لمواقع الشريط المتحرك

مما أدى إلى تعثر عمليات الاستخراج، حتى أمكن التوصل إلى حل سياسي لأسبانيا، تخلصت خلاله من الإشراف على عمليات الاستخراج والنقل، لكنها ضمنت الحفاظ على مصالحها الاقتصادية في استغلال المناجم.

2. النفط

أصدرت أسبانيا عام 1958 قانوناً يحدد المناطق المسموح فيها للشركات بالتنقيب عن البترول، خاصة وأنه كانت هناك احتمالات بوجود آبار بترولية في المنطقة. وبالفعل قامت بعض شركات عالمية بعمليات استكشاف وتنقيب، استطاعت خلالها تغطية نفقات عملياتها الكشفية.

ففي عام 1961 قامت تسع شركات أمريكية وثلاث شركات أسبانية بأعمال الكشف والتنقيب، وساعدها على ذلك تشجيع الحكومة الأسبانية من خلال إلغاء القيود الاقتصادية المفروضة، التي كانت تعترض توظيف رؤوس الأموال الأجنبية. بيد أن نفقات التنقيب الباهظة، والمقدّرة بخمسة آلاف مليون بيزيتا، فضلاً عن أسباب سياسية وأمنية

أدت إلى انسحاب معظم هذه الشركات ولم يتبق حتى عام 1963 إلا شركة أمريكية واحدة، اتحدت مع شركة أسبانية وكونت شركة مشتركة لاستخراج النفط تحت إشراف الحكومة الأسبانية. وفي عام 1969 بدأ ظهور النفط في المناطق البحرية، على عمق 3446 متراً، وكذلك بدأ ظهوره في مدخل الوادي شمال مدينة العيون.

يوجد مخزون كبير من الغاز والنفط في سواحل الصحراء الغربية، ولقد قام المغرب بتوقيع اتفاقيات للتنقيب عن النفط مع بعض الشركات في أول أكتوبر 2001، وكان أهم هذه الاتفاقيات مع شركتي توتال فاينال إلف الفرنسية وكير مالك جي كورب الأمريكية، إلا أن جبهة البوليساريو اعترضت على ذلك

ما أدى إلى لجوء المغرب إلى الأمم المتحدة وطلب المشورة القانونية، حيث صدرت فتوى قانونية من المستشار القانوني للأمم المتحدة “هانس كوريل”، حصلت بموجبها المغرب على الحق القانوني في القيام بعمليات التنقيب من النفط في الصحراء الغربية، بشرط ألا يستغل المغرب النفط تجارياً دون موافقة السكان المحليين.

كما أعلن مجلس الأمن الدولي، في وقت لاحق، أن فتوى المستشار القانوني للأمم المتحدة غير ملزمة لأي جهة من الجهات، ما يعني استمرار الجدل حول أحقية استغلال النفط ما لم يتضح الوضع في الصحراء الغربية بين الأطراف المتنازعة، وخاصة المغرب والبوليساريو، ولذلك أعلنت شركة توتال انسحابها من الصحراء الغربية أواخر عام 2005، كما أعلنت شركة كير ماك جي التخلي عن أنشطتها التنقيبية في سواحل الصحراء الغربية بنهاية أبريل 2006 بعد تعرضها لضغوط من الرأي العام الأمريكي.

مازالت الإمكانات الهيدروكربونية للصحراء الغربية محل دراسة وتقييم، ولكن وجود ثلاثة أحواض رسوبية في الصحراء الغربية تمتلك المؤهلات الجيولوجية والتركيبية التي تضعها في مصاف الأحواض البترولية، مؤكد وهي حوض تندوف وحوض العيون ـ طرفاية (الساحلي) وحوض موريتانيا ـ السنغال (الساحلي)، ورغم تعثر الاتفاق على الاستغلال التجاري للنفط المُكتشف، إلا أنه يوجد إصرار على الاستمرار في عمليات البحث والتنقيب، فلقد شهدت الأحواض الساحلية مرحلة جديدة غير مسبوقة من النشاط الاستكشافي مع بداية القرن الحالي وخاصة في المنطقة البحرية منها، ويرجع ذلك للآتي:

1. النتائج الإيجابية التي أسفرت عنها العمليات الاستكشافية في موريتانيا المجاورة.

2. وضع الأمم المتحدة لملف الصحراء الغربية ضمن أولوياتها، رغم التعثر المتكرر لجهودها، وضعف الآمال في وضع حد لِلحالة الضبابية التي ظلت تكتنف المستقبل السياسي للمنطقة.

3. الأزمات المتلاحقة في مناطق إنتاج البترول التقليدية (الشرق الأوسط ـ فنزويلا ـ نيجيريا).

4. الارتفاع المطرد في أسعار البترول في السنوات الأخيرة.

5. قرب سواحل الصحراء الغربية من سوق الاستهلاك الواسع (الولايات المتحدة الأمريكية ـ الدول الغربية).

3. الحديد

يبلغ احتياطي الحديد في إقليم الصحراء الغربية حوالي 700 مليون طن، حيث اكتشف منجم في أزميلة وغراشة، وتقدر إمكانية رفع كميات الحديد المستخرج من باطن الأرض في المنطقة إلى حوالي 600 مليون طن، في حين تقدر نسبة الحديد في التربة بحوالي 65%. وتشير عمليات المسح الجيولوجي إلى إمكانات التوصل إلى نتائج كبيرة أخرى .

4. اليورانيوم

يوجد اليورانيوم في منطقة سمارة، حيث فُرضت عليه حراسة مشددة، وكانت السلطات الأسبانية قد منعت الاقتراب من منطقة التنقيب.

5. الزراعة والثروة الحيوانية

يُعد الاستقرار الزراعي في إقليم الصحراء الغربية محدداً للغاية؛ فالمنطقة جدباء في معظمها، لا ينمو بها إلا كميات محدودة من الذرة والشعير، ولا يتعدى ذلك الاستهلاك المحلي المحدود. ولكن، في الوقت ذاته، تُعد منطقة الصحراء الغربية ذات ثروة حيوانية ضخمة معتمدة في ذلك على الواحات والمناطق السهلية، التي تُربى فيها الماشية.

تُعد الثروة الحيوانية إحدى أهم الثروات التي توفر مصدر عيش للسكان الذين ألفوها منذ قرون عديدة رغم شح البيئة وجفافها المتفاقم، ففي المنطقة الشمالية (كليميم ـ السمارة) يبلغ عدد الماعز (380 ألف) رأس تليها الأبقار (320 ألف) رأس ثم الجمال (32.6 ألف) رأس، في حين لا يوجد سوى (1443) رأس من الأبقار، أما في المنطقة الوسطى (العيون ـ الساقية الحمراء) فيبلغ عدد الجمال (89.5 ألف) رأس أما الماعز فيبلغ عددها (193 ألف) رأس يليها الأغنام (120.3 ألف) رأس

أما الأبقار فلا يوجد منها سوى (44 ألف) رأس فقط. وتُعد هذه الثروة أهم المصادر الاقتصادية التي اعتمد عليها سكان الصحراء الغربية منذ قرون عديدة رغم شح البيئة وجفافها المتفاقم، ويزيد من احتياج اللحوم والألبان في المرحلة الحالية الانفجار الديموجرافي الذي تشهده العديد من مدن الصحراء الغربية، بسبب تنامي نسبة التحضر وزيادة الهجرة الوافدة من الشمال الغربي.

6. الثروة السمكية

تذخر سواحل الصحراء الغربية بالثروة السمكية، حيث يُعد الساحل الغربي للقارة الأفريقية، بصفة عامة، من أغنى مصائد الأسماك. وكذلك لطبيعة صخورها وانخفاض الكثافة السكانية بها. وتوجد أهم مراكز صيد الأسماك في مدينة العيون. كما تُعد الثروة السمكية مصدراً مهماً لعدة شركات أوروبية تعتمد عليه، حيث أُبرمت العديد من الاتفاقيات مع دول أجنبية بممارسة صيد الأسماك في المنطقة، قرابة سواحل الصحراء الغربية.

ونظراً لأهمية المصايد الاقتصادية على سواحل الصحراء الغربية، دخل الاتحاد الأوروبي، وخاصة إسبانيا في مفاوضات معقدة مع المغرب، لإقناعه بتجديد اتفاقية الصيد، التي تسمح لسفن الاتحاد الأوروبية بالصيد في السواحل المغربية، وتوجد أهم موانئ الصيد في العيون والطنطان، وبوجدور وطرفاية، حيث تضم العديد من التجهيزات المرتبطة بعمليات الصيد والتصنيع وتبريد وتخزين المنتجات البحرية، ويبلغ إنتاج موانئ العيون والطرفاية وبوجدور من الأسماك حوالي 309.2 ألف طن سنوياً، كما يوجد بها حوالي 400 وحدة صيد، وحوالي 7000 عامل.

7. السياحة

تمتلك الصحراء الغربية إمكانات سياحية هامة ومتنوعة، تدعمها المناظر الصحراوية والسواحل الممتدة على مسافة مئات الكيلومترات، والتي تضم مواقع سياحية واستجمام بحري، بالإضافة إلى توافر الظروف الملائمة لسياحة المغامرة والاستكشاف، ومن أهم المناطق السياحية ذات الشهرة العالمية في الصحراء الغربية واحة لمسيد، وبحيرة نايلة، وخليج خنيفيس، وشلالات أم بدعة، ووادي تافودار، ورغم هذه الإمكانات السياحية الهامة؛ إلا أن المنطقة تعاني من نقص في البُنى الأساسية السياحية وخاصة الفنادق وموانئ الاستجمام البحري والمخيمات.

8. التجارة

يُعَدّ قطاع التجارة من أكثر القطاعات جذباً للقوى العاملة، إذ هو النشاط التقليدي الذي يمارسه سكان الصحراء الغربية، فلقد كانت المنطقة تُشكل معبراً أساسياً للقوافل التجارية من المغرب إلى كلٍ من موريتانيا ومالي والسنغال والنيجر، ورغم اختلاف الظروف الحالية عن السابق، إلا أن الصحراويين ما زالوا يمارسون النشاط التجاري الموسع

وتعد مدينة العيون مركزاً تجارياً رئيسياً بتعداد سكانها البالغ حوالي 136.7 ألف نسمة يعمل منهم بالقطاع التجاري ما بين 21 – 25% من إجمالي السكان، وخلال بنيتها الأساسية (مطار ـ ميناء ـ ملتقى شبكة طرق كبيرة) ولذلك تقوم المنطقة بدور تجاري رئيسي بين أوروبا وشمال أفريقيا وبين الدول الأفريقية جنوبي الصحراء الغربية.

مشكلة الصحراء الغربية
مشكلة الصحراء الغربية

9. الظروف الاجتماعية

إن الخدمات، التعليمية والاجتماعية والصحية، لسكان الصحراء، محدودة للغاية. ومعظـم خطط التنمية، تدور حول حفر آبار جديدة؛ أو شق بعض الطرق؛ أو بناء المدارس، التي لا تتعدى اثنتَين وسبعين مدرسة ابتدائية، إلى جانب مدرستَين ثانويتَين. يقوم عليها نحو مائة مدرس، ولا يتعدى عدد تلاميذها الثلاثة آلاف، في المرحلة الابتدائية، والسبعمائة في المرحلة الثانوية، طبقاً لتعداد السبعينيات.

ولم يزد ما أنفقته أسبانيا، في خطط التنمية، الاقتصادية أو الاجتماعية، في السبعينات، على خمسمائة مليون بيزيتا، سنوياً. وهو مبلغ زهيد، إذا ما قورن بالعائدات المالية الضخمة، التي جنتها أسبانيا، في ذلك الوقت، من الثروة المعدنية وغيرها. ولا شك أن العامل الاقتصادي، هو حافز أسبانيا إلى التشبث بإقليم الصحراء. بيد أنه ليس العامل الأوحد، ولا الرئيسي، في المطالبة بالصحراء، من قِبل الدول العربية المجاورة، التي تستند إلى العوامل، التاريخية والجغرافية والبشرية.

النزاع حول الصحراء الغربية وتباين مواقف أطراف النزاع

شهدت السنوات الأولى من عهد الاستقلال، تعاون بين السلطة الحاكمة في المغرب (الملك)، وبين حزب الاستقلال، الذي كان قد حدد برنامجه وأهدافه في إقامة المغرب الكبير، على أن يمتد حتى حوض السنغال، ولذلك يطالب بسيادة المغرب على هذه المناطق. ولنشر هذه الدعوة أصدر الحزب “مجلة الصحراء”، التي كانت تنشر العديد من البحوث، التي تؤكد الصلات الوثيقة بين هذه المناطق والمغرب العربي اجتماعياً وتاريخياً وثقافياً، وقد وصلت هذه المطالبات إلى صدام مسلح، خاصة بعد أن هاجمت القوات المغربية غير النظامية سيدي إيفني، في أوائل 1958.

وكذلك استمرت في مهاجمة طرفاية والساقية الحمراء ووادي الذهب والمناطق الشمالية بموريتانيا. وانضمت إلى هذه العمليات قبيلة الرقيبات، وهي من أكبر القبائل في إقليم الصحراء الغربية ومن أكثرها ولاءً للمغرب ، إلا أن القوات الفرنسية والأسبانية تمكنت من إيقاف هذه الهجمات، وطردت القوات المغربية غير النظامية خارج وادي الذهب

وغيرها من المناطق، التي كانت ما تزال تحت الإدارة الأسبانية. وقد وجدت الإدارة الأسبانية أنه من الحكمة، عدم تصعيد المواجهات بينها وبين القوات المغربية غير النظامية، حرصاً على علاقتها مع الدول العربية الأخرى. وترتب على ذلك، بالفعل، تنازل أسبانيا عن منطقة طرفاية إلى المغرب، في أبريل 1958، على أثر المحادثات

التي جرت بين المغرب وأسبانيا. إلا أن وجود أسبانيا استمر في المناطق الأخرى جنوب المغرب، في سيدي إيفني والصحراء الأسبانية ـ الصحراء المغربية ـ التي أصبحت من المطالب المغربية. وبدأت أسبانيا في التنازل عن المناطق ذات الأهمية الاقتصادية المحدودة للمغرب، على أن تتغاضى المغرب عن مطالبتها بالمناطق ذات الموارد الاقتصادية. فبعد أن تنازلت أسبانيا عن طرفاية عام 1958، تنازلت أيضاً عن سيدي إيفني في عام 1969، وفي الوقت ذاته عمدت إلى اتخاذ خطوات تدعم فصل الصحراء عن المغرب، وذلك بمنحها شخصية محلية. كما أسست مجلساً محلياً لإدارة الإقليم.

وفي 17 نوفمبر 1957 نشأت حركة مقاومة مسلحة لتحرير الصحراء، حيث شنت جبهة البوليساريو عمليات عسكرية ضد المغرب وأسبانيا. ومع تأكيد أسبانيا استمرار سيادتها على إقليم الصحراء، بدأ يتضح الخلاف والتوتر بين المغرب والجزائر وموريتانيا، وتعددت محاولات توفيق وجهات النظر بين الدول الثلاث، إلا أن حدة الخلاف زادت، ووصلت في إحدى مراحله إلى صراعات مسلحة.

وعلى الرغم من تعدد المحاولات لاحتواء هذا الصراع، كان يوجد تباين كبير في مواقف أطراف النزاع، ما أدى إلى استمرار المشكلة حتى الآن.

أولاً: أثر العلاقات الأسبانية ـ المغربية في مشكلة الصحراء الغربية

تأثرت العلاقات الأسبانية ـ المغربية، إلى حدٍّ كبير، بالعلاقات الأسبانية ـ العربية عامة. فقد رغبت أسبانيا، بعد الحرب العالمية الثانية، في إيجاد تقارب بينها وبين الدول العربية، خاصة بعد نشوء جامعة الدول العربية. وكان الجنرال فرانكو يستهدف من هذا التقارب، إخراج أسبانيا من عزلتها السياسية؛ إذ إن نظامها في الحكم المطلق، لم يكن من ذلك النوع، الذي يقّربها من الدول الغربية.

فبادر، في أبريل 1952، إلى إرسال وزير خارجيته، ألبيرت أرتاخو، إلى دول الشرق العربي، حيث نجح في مسعاه؛ لأن أسبانيا كانت، في ذلك الوقت، لا تزال تتمتع بمنزلة رفيعة، في بلدان أمريكا اللاتينية. وكان تأييد هذه الدول للحكومات العربية، في الأمم المتحدة، مهماً جداً، للنزاع العربي ـ الإسرائيلي. وتمخضت مهمة أرتاخو عن ميلاد عهد جديد مـن الصداقة العربية ـ الأسبانية، تردد صداها في تصريح عبدالرحمن عزام، الأمين العام لجامعة الدول العربية، الذي جاء فيه، أن الأسبان والعرب، هم كالإخوة.

وترك هذا التقارب أثره في العلاقات الأسبانية ـ المغربية؛ إذ إن أسبانيا، لم تكن مستمسكة بنفوذها في شمال المغرب. وإنما كانت تنتظر فقط، أن تسبقها فرنسا في الجلاء عن المنطقة، لكونها الدولة الرئيسية الحامية للمغرب؛ بل كانت مدريد تشجع، سِراً، الوطنيين المغاربة؛ كما اعترضت على خلع فرنسا السلطان محمد الخامس.

ومـع ذلك، فقد كانت أسبانيا تميز بين المحمية، التي تفرض وجودها فيها، قبل اتفاقية التقسيم مع فرنسا، عام 1912، وقد تركتها للمغرب، عند إعلان استقلاله، في مارس 1956؛ وبين مناطق، كانت تستعمرها منذ زمن أبعد، ولمّا تزل تستمسك بها؛ وهي: سبتة ومليلة، في شمالي المغرب، وسيدي أفني، وسط الساحل الجنوبي المغربي، ثم طرفاية وإقليم الصحراء، في الجنوب.

وشهدت السنوات الأولى من عهد الاستقلال، تعاون القصر الملكي في المغرب، مع حزب الاستقلال، الذي كان ينادي بالمغرب التاريخي، أو “المغرب الكبير”، الذي يمتد إلى حـوض السنغال؛ وضرورة عودة مناطقه السليبة إلى أصحاب السيادة الشرعيين.

ولنشر دعوته، أصدر مجلة خاصة، أسماها “الصحراء”، نشرت العديد من الأبحاث، التي تثبت الصِلات، الاجتماعية والتاريخية والثقافية، لتلك المناطق بالمغرب واستحالت المطالبة بتلك المناطق، تصادماً مسلحاً، حينما بدأت قوات مغربية، غير نظامية، بمهاجمة سيدي أفني، في ديسمبر 1957؛ وأغارت على طرفاية والساقية الحمراء ووادي الذهب، والمناطق الشمالية من موريتانيا.

وظاهرت تلك العمليات قبيلة الرقيبات، أعظم القبائل قوة، في إقليم الصحراء، ومن أكثرها ولاءً للمغرب.

سارعت القوات الفرنسية، في الجزائر وموريتانيا، إلى مساندة القوات الأسبانية، في يناير 1958، ومعاونتها على قمع تلك الحركات، وطرد القوات المغربية، غير النظامية، خارج ريودي أورو، وغيـرها من المقاطعات، الخاضعة للإدارة الأسبانية غير أن الحكومة الأسبانية، ارتأت عدم تصعيد النزاع بينهـا وبين المغرب، خوفاً علـى علاقاتها بالدول العربية الأخرى.

فأضافت إلى تنازلها للمغرب عن مناطق نفوذها الشمالية، التي كانت قد ضمت إليها، بموجب الاتفاق الأسباني ـ الفرنسي، المُوقع بمدريد في 27 نوفمبر عام 1912 ـ تنازلات أخرى، شملت بعض مناطق نفوذها جنوب المغرب. فتخلت، في أبريل 1958، عن منطقة طرفاية، على أثر المحادثات، التي جرت بين المغرب وأسبانيا، في البرتغال.

دأبت الحكومة المغربية على المطالبة بالمناطق الأخرى، في سيدي أفني والصحراء الأسبانية. ووافقت ميل أسبانيا إلى التنازل عن المقاطعات الفقيرة، في مقابل تغـاضي المغرب عن مطالبته بالمقاطعات الغنية الأخرى. فتنازلت مدريد، عام 1958، عن طرفاية، وعام 1969، عن سيدي أفني.

وقابلتها الرباط بإغفال منطقتَي سبتة ومليلة، الغنيتَين بالفوسفات، واللتَين يكثر فيهما الأسبان، مركزة اهتمامها في الأقسام الجنوبية، التي نجحت في ضمها، باستثناء منطقة الصحراء، بمقاطعتَيها الشهيرتَين، ريودى أورو والساقية الحمراء؛ ثم انبرت، في الستينيات، تطالب بضم موريتانيا إليها، المتضمن، استطراداً، ضم تلك الصحراء.

ولا شك أن المغرب، استهدف في صراعه مع الجزائر، حول الحدود، إيجاد حلقة اتصال جغرافية، بينه وبين موريتانيا، التي يفصله عنها إقليم الصحراء؛ إلاّ أن النزاع على الحدود، سُوّي على أساس استمرار الوضع، القائم منذ الاستعمار، أي استمرار اتصال الحدود الجزائرية بالصحراء.

واللافت أن أسبانيا، عمدت، على الرغم من تخلّيها للمغرب عن بعض مناطق نفوذها، إلى اتخاذ خطوات، تدعم فصل الصحراء عن المغرب؛ وذلك بمنحها شخصية محلية، من طريق تكوين مجلس عمومي، قوامه اثنان وأربعون عضواً. فتبنى بعضهم فكرة الاتحاد مع المغرب.

بينما ارتأى الآخرون الاستقلال. وطالبوا، الحكومة الأسبانية، في يوليه 1973، بإيجاد جهاز إداري، من أبناء الصحراء، وتهيئة الظروف الملائمة، ليضطلع ذلك الجهاز بالإدارة الذاتية، كمرحلة أولى نحو الاستقلال.

وقد وجه الجنرال فرانكو، في يونيه 1974، بياناً إلى سكان الصحراء، جاء فيه:

· تأكيد أن الشعب الصحراوي، هو، وحده، الذي يملك إرادته. ولذلك، فإن أسبانيا ستدافع عن تلك الإرادة.

· ضمان أسبانيا وحدة إقليم الصحراء؛ وإمعانها في تحقيق التطور، الاقتصادي والاجتماعي، وازدهار الدين الإسلامي؛ وإعلانها أن ثروات الصحراء هي من حق أبنائها.

· تطبيق تقرير المصير، حينما يكون شعب الصحراء في وضع، يمكنه من تحمّل تبعاته والتزاماته. وتمهيداً لذلك، ستسن أسبانيا نظاماً خاصاً بالصحراء، يضمن مشاركتها، تدريجياً، في تسيير شؤونها، ويفضي إلى تحمّل مسؤولياتها، في نطاق من التكامل.

ومع تأكيد هذه الحقوق، تضمن البيان ما يفيد استمرار السيادة الأسبانية. ويعني ذلك أن أسبانيا، هي التي تمثل إقليم الصحراء، في الشؤون الخارجية، وتتولى شؤون الدفاع. وقد ترتب على الموقف الأسباني توتر في العلاقات المغربية ـ الأسبانية. وإزاء توتر الموقف بين موريتانيا والمغرب والجزائر، من ناحية، وأسبانيا، من ناحية أخرى، شكلت مسألة الصحراء، وضعاً متأزماً، تبنّاه كثير من المنظمات، الدولية والإقليمية، كالجامعة العربية، ومنظمـة الوحدة الأفريقية، والأمم المتحدة، التي اعتمدت في كثير من القرارات، التي أصـدرتها في شأن مسألة الصحراء، على قرارات تلك المنظمات.

ثانياً: موقف أطراف النزاع حول إقليم الصحراء الغربية

يُعد المغرب الكبير مطلباً إقليمياً مغربياً، تجسدت أهميته عندما نشر علال الفاسي[1] عام 1955 خريطة تحدد هذه الأمة[2]، وتضم في حدودها كولمب بشار في الجزائر والصويرة وتوات وتندوف الجزائرية والصحراء الغربية والأراضي الموريتانية. وتمتد حدود هذه الأمة إلى نهري النيجر والسنغال في الجنوب. وأكد أن هذه الحدود تم فرضها منذ عهد دولة المرابطين، التي كانت تمتد من السنغال إلى قشتالة ومن برقة إلى الأطلسي (اُنظر شكل الحدود المغربية “المغرب الكبير”).

وكان الملك محمد الخامس قد اعتمد في حكمه على فكرة المغرب الكبير، خاصة وأن جميع التيارات السياسية في المملكة المغربية كانت تجمع على هذه الفكرة وتدعمها، سواء كانت هذه التيارات مؤيدة للنظام أو معارضة له. وعندما انتهت الحماية الأوروبية على المغرب العربي، واسترجع الملك سلطاته، تمسك الملك محمد الخامس وأقطاب حزب الاستقلال بفكرة أن موريتانيا والصحراء الغربية جزء من المملكة المغربية. وعمل الملك محمد الخامس على ربط مستقبله السياسي بتلك الفكرة التاريخية

بهدف إضفاء الشرعية وتدعيم النظام الملكي المستند إلى أساس روحي وتقليدي وتنظيمي؛ فالمملكة المغربية لأسباب سياسية لم يكن بمقدورها الاعتماد على فرنسا ضد أسبانيا، ولأسباب اقتصادية لم يكن باستطاعتها التخلي عن الأراضي الموريتانية لاسترجاع تندوف، ولا التخلي عن سبتة ومليلة للحصول على الصحراء الغربية. ولذلك أصدرت الحكومة المغربية الكتاب الأبيض في 4 نوفمبر 1960، الذي طالبت فيه بكل من الساقية الحمراء ووادي الذهب وإيفني والأراضي الموريتانية، إضافة إلى تمسك المغرب بإجراء مفاوضات مع أسبانيا حول الصحراء الغربية.

1. المطالبة المغربية بموريتانيا

بعد أن تحقق للمغرب استقلاله، بدأ في المطالبة بحقه في عدة أقاليم، وكذلك بدأ في محاولة الإعلان عن فكرة المغرب الكبير. وقد شهدت هذه المطالب متغيرات داخلية، وتأثيرات خارجية حدت من قدرة الحكومة المغربية في تنفيذ هذه المطالب، وإن لم تتخل عنها كهدف سياسي في المدى البعيد.

وأثار المغرب مسألة الصحراء الغربية على أساس أنها تمثل جزءاً من الكيان الموريتاني؛ فالصحراء تمثل جغرافيا الجزء الشمالي الغربي لموريتانيا، كما تمثل الجزء الجنوبي للمغرب. وعندما بدأ حزب الاستقلال كفاحه في المغرب، بهدف التحرير من السيطرة الأسبانية والفرنسية، كانت أيديولوجيته العسكرية تؤكد على الهدف السياسي، المتمثل في فكرة المغرب العربي الكبير، والتي كانت أساساً لمطالبه الإقليمية . وتمثلت قمة هذه المطالب في موريتانيا، وكان حزب الاستقلال قد أعلن مطالبه باسترداد موريتانيا في يوليه 1957، استناداً إلى حجج مختلفة في معرض مطالبة المملكة المغربية بموريتانيا، في مواجهة التهديدات الفرنسية بإنشاء جمهورية صحراوية باقتطاع الجزء الجنوبي من المغرب والجزائر وموريتانيا. وتمثلت الأسانيد التي قامت عليها المطالبة المغربية بموريتانيا في الآتي:

أ. الأسانيد والحجج التاريخية

(1) منذ عدة قرون امتدت سيطرة وسيادة ملوك المغرب الروحية والزمانية حتى نهر السنغال، كما تُعد القبائل المنتشرة في شمال أفريقيا حتى السودان، هي قبائل صنهاجية تنحدر من سلالة واحدة في عهد المرابطين، الذين استقروا في الصحراء.

(2) تلا عهد المرابطين سيادة العلويين، حيث أُرسلت البعوث إلى مناطق قادان عام 1665، وإلى إدرار عام 1678، وإلى تاكنت عام 1730، وكان طريق تحركها خلال الساقية الحمراء.

(3) في بداية القرن التاسع عشر كان بالصحراء الغربية الولي محمد الفاضل، الذي اقتسم أولاده بعد وفاته نفوذه الديني في الصحراء، فتولى أمر شنقيط ـ وموريتانيا ـ والساقية الحمراء، ابنه الشيخ ماء العينين، حيث أنشأ سمارة، وعندما حاولت الجيوش الفرنسية احتلال موريتانيا، طلبت القبائل الصحراوية مساعدة المولى عبدالعزيز، الذي أخذ يطالب بهذه المناطق لكونها من مملكته.

وكذلك طلب أمير الترارزة مساعدة المولى عبدالحفيظ، الذي سارع بإرسال قواته إلى موريتانيا وشارك ضمن هذه القوات الشيخ ماء العينين، واستمر القتال حتى عام 1924 .

ب. الأسانيد والحجج القانونية

(1) مارس المغرب سلطاته الفعلية على جميع أنحاء موريتانيا، ويشكل الجزء الشمالي الغربي منها الصحراء الغربية، وفي الوقت ذاته هي أحد أقاليم جنوب المغرب، وكانت كافة القوانين الصادرة من السلطان هي في الوقت ذاته النصوص القانونية، التي كان يلتزم بها الأمراء في إدارة الحكم في الإقليم الموريتاني.

(2) حددت المعاهدة الفرنسية ـ الإنجليزية في عام 1890، الحدود الشرقية لموريتانيا المتعلقة باقتسام الصحراء بين الطرفين، حيث يشمل الجزء الفرنسي شمال خط ساي باردة حتى تشاد، بينما تسيطر بريطانيا على الجنوب. كما حددت المعاهدة أن الأقاليم، التي تتبع لسيادة السلطان المغربي، تكون خارج نطاق النفوذ الفرنسي.

(3) تضمنت معاهدة الجزيرة الخضراء عام 1906 تحديد كافة الأراضي المغربية، وأكد المؤتمر، الذي أعلنت فيه المعاهدة وبصفة علنية، سيادة المغرب وحدوده. وكان واضحاً لدى مندوبي الدول الثلاث، التي وقعت على المعاهدة، أن المغرب يمتد حتى نهر السنغال.

(4) تبادل الرسائل الملحقة بالاتفاقية الفرنسية ـ الألمانية، الموقعة في 4 نوفمبر 1911، يؤخذ منه أن المغرب يشمل كافة الأقاليم، التي تقع بين أفريقيا الغربية الفرنسية ـ سابقاً ـ ووادي الذهب.

(5) الاتفاقية الفرنسية الأسبانية الموقعة في 27 يونيه 1900، حددت بصورة مصطنعة مناطق النفوذ الفرنسي والأسباني وادي الذهب والساقية الحمراء وتندوف، وهذه الاتفاقية لم يشارك فيها المغرب، ولم يوافق عليها، ولذلك فهي غير ملزمة له.

مع تصاعد الضغوط المغربية على فرنسا، لجأت الإدارة الفرنسية لاتخاذ إجراءات شكلية دون الخلل بمصالحها في موريتانيا أو المغرب، وكذلك منع قيام مواجهة فرنسية ـ مغربية، حيث مهدت إلى تشكيل لجنة مشتركة لترسيم الحدود. إلا أنه بعد المواجهات العسكرية، بين جيش التحرير المغربي والقوات الفرنسية في 21 مايو 1958، ألغت فرنسا تشكيل اللجنة المشتركة، وعملت على اتخاذ خطوات جادة نحو إنشاء كيان موريتاني مستقل

. وكانت موريتانيا في عام 1957 جزءاً مما يسمى “الأقاليم الجنوبية” لفرنسا، والتي كانت تضم أجزاء من الجزائر ومالي والنيجر وتشاد ووادلي وإيندي وتبيستي .

وقد حددت فرنسا أسس انسحابها من مناطق نفوذها الاستعماري في أفريقيا، ولذلك أُجري استفتاء بين شعوب هذه الأقاليم التابعة للاتحاد الفرنسي، كي يختاروا بين البقاء ضمن نظام جديد، يتميز بالمرونة ويعرف باسم المجموعة الفرنسية، وبين الاستقلال التام. وكان هذا الاستفتاء في نهاية عام 1958. واختارت موريتانيا، مثلها مثل جميع أقاليم غرب ووسط أفريقيا، البقاء ضمن المجموعة الفرنسية .

ومع قيام عدة جمهوريات أفريقية جديدة، طالب شعب موريتانيا بضرورة الاستقلال التام. وفي 19 أكتوبر 1960 وقّع اتفاق فرنسي ـ موريتاني، يقضي بنقل السلطات إلى الوطنيين عند إعلان الاستقلال الكامل في 28 نوفمبر 1960. وقد نظر العديد من الدول الأفريقية إلى موريتانيا على أنها من الدول، التي تدور في فلك الغرب، لذلك وقفت هذه الدول إلى جانب المغرب وأيدته في مطالبه تجاه موريتانيا.

عارضت موريتانيا مطالب المغرب، واتهمته بأنه يخفي مطامعه في الثروات الموريتانية، خلف الادعاءات التاريخية. وقد انضمت مجموعة الدول الأفريقية التقدمية، التي اجتمعت في مؤتمر الدار البيضاء، إلى المغرب معلنة تأييدها مطالبته بموريتانيا. وأصدر المغرب كتاباً أبيض في أكتوبر 1960، أكد فيه حقوقه التاريخية على بلاد شنقيط.

وتمثل الرد الموريتاني في إصدار الكتاب الأخضر، حيث شرحت موريتانيا موقفها، وأكدت أنها لم تخضع للمغرب في أي وقت، ولم يُدخل أحد من المؤرخين أو الجغرافيين موريتانيا داخل حدود المغرب. كما أكدت أن الخرائط المغربية لم تمتد جنوباً حتى تضم موريتانيا. وكان بين البلدين صحراء كبيرة تمتد إلى مسافة 1500 كم، تزيد من صعوبة الاتصال بينهما إلا عن طريق القوافل في الشتاء.

أما عن طلب الشيخ ماء العينين المساعدة من سلطان المغرب، فهي ليست دليلاً على الخضوع، فضلاً عن أن المغرب لم يرسل قواته لمساعدة موريتانيا، وأن معونة المولى عبدالعزيز لم تزد عن سبعين بندقية. ومع تزايد حدة النزاع، عُرض الموضوع على الأمم المتحدة قبيل إعلان استقلال موريتانيا. وانقسمت الدول العربية على نفسها، كما ناشدت بعض الدول الأفريقية المغرب أن يسحب طلبه، ويؤيد استقلال موريتانيا. وتقدم المغرب بمشروع للاتحاد بين البلدين، إلا أن موريتانيا رفضت هذا المشروع، وقُبلت موريتانيا عضواً في الأمم المتحدة، في 27 أكتوبر 1961 .

2. الحرب الجزائرية ـ المغربية “سبتمبر ـ أكتوبر 1963”

تعود نزاعات الحدود بين الجزائر والمغرب، إلى عهود الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا. ففي عام 1845 وقّعت معاهدة لالامارينا بين المغرب وفرنسا، التي نصت على تحديد تفصيلي للحدود الإقليمية السياسية، بين الجزائر والمغرب، بداية من سواحل البحر المتوسط، حتى منطقة ثنية الساسي؛ وكذلك حددت القبائل التابعة لكل بلد. أما فيما يتعلق بمنطقة الصحراء، التي يشترك في حدودها كل من المغرب والجزائر، فقد اقتصرت المعاهدة على الإشارة إلى ممارسة سلطات البلدين، لكافة اختصاصات السيادة كل على رعاياه في تلك الصحراء. وبذلك عدت مناطق إيشي، وفجيج تابعة للمغرب، وما عداها من القرى المحيطة تابعة للجزائر.

أما الأقاليم جنوب تلك المناطق، فقد أعلنت المعاهدة أنها مناطق خالية من السكان، وأن تحديد حدود لها عملية عديمة الجدوى ، ولذلك بسطت فرنسا سلطتها على مناطق الجنوب الصحراوية. وفي عام 1899 احتلت القوات الفرنسية واحات توت وتندوف، وبذلك وضح أهمية عقد اتفاقية هدنة جديدة لترسيم الحدود، بين المغرب والجزائر، حيث رسّم الاستعمار الفرنسي عام 1912 حدوداً جديدة تمكنه من التوسع الإقليمي، فوضع خط فارينيه كحدود بين ثينة الساسي ومنطقة كولمب بيشار، واعترف سلطان المغرب في عام 1928 بهذا الخط كحدود إدارية، بين الجزائر والمغرب.

بعد استقلال المغرب عام 1956، رفضت حكومته الاعتراف بأي من اتفاقيات ترسيم الحدود المبرمة بينها وبين فرنسا، عدا اتفاقية لالامارينا. واتهمت الحكومة المغربية فرنسا بانتهاك هذه الاتفاقية بضمها منطقة كولمب بيشار، دون أن تستشير مسبقاً سكانها. وكانت حدة المطالب المغربية قد زادت بشأن حقوقها في مناطق الصحراء، منذ عام 1955، حيث جرى إعداد خريطة للأراضي، التي ترى المغرب ضرورة ضمها. وكانت هذه الخريطة تضم بشار والساورة في الجزائر، كما تضم كل من موريتانيا ووادي الذهب، وكانت تصل إلى نهر السنغال في الجنوب، وتشاد في الشرق، عبر كل صحراء الجزائر.

وحاول المغرب الاستناد إلى حقوق تاريخية، إذ كانت السلطة الإدارية الفعلية للحكومة المغربية، تصل إلى القرى على السفوح الجنوبية الشرقية لسلسلة جبال ما وراء الأطلسي، وفي خط مواز والى الشمال الغربي لوادي درعة، ومن قرب فجيج وبشار حتى نقطة التقاء حدود المغرب مع حدود الجزائر ، ومع حدودموريتانيا. أما المنطقة جنوب شرق هذه القرى، والممتدة بطول وادي درعة الأعلى، فكانت فرنسا تسيطر عليها، وكانت قوات جيش التحرير الوطني الجزائري، وقوات جيش تحرير موريتانيا، تواجه القوات الفرنسية فيها. وقد طالبت المغرب بهذه الأقاليم كلها، وتقدمت بمطالبها إلى حكومة الثورة الجزائرية، في الوقت الذي كانت الجزائر تواجه فيه بعض الصعوبات من أجل التطبيق الاشتراكي، كما أنها لم تكن قد أتمت عملية إعادة بناء الإطار العام للدولة، أو إعداد قواتها.

ومن ثم ظهرت خطورة الموقف، الذي واجهته الجزائر، عندما تحركت بعض وحدات من القوات الملكية المغربية تجاه الجنوب، إلى منطقة حاس البيضا في سبتمبر 1963. وأخذت أعدادها تتزايد وتتوغل خلف الحدود الجزائرية، حتى وصلت إلى مسافة 50 كم، واستمر القتال في مناطق بونو، وحاس بيضا، وتنجوب، وحاس بفير. (اُنظر شكل الحرب الجزائرية ـ المغربية)

ورأت المغرب أن عملية حاس بيضا وتنجوب اعتداء على الأراضي المغربية، وعلى الرغم من بدء التفاوض بين الجانبين، إلا أن الاشتباكات تجددت في 14 أكتوبر 1963، واستخدمت فيها الأسلحة الثقيلة، حين دخل النزاع مرحلة جديدة جعلت كلا الطرفين يعلن التعبئة العامة. واستطاعت القوات المغربية الاستيلاء على مواقع حاس البيضا وتنجوب. ومع تزايد تدهور الموقف بين الدولتين، قرر الأمين العام لجامعة الدول العربية عقد دورة غير عادية لمجلس الجامعة في 19 أكتوبر 1963، حيث صدر بالإجماع القرار الرقم 1934/40 الذي دعا حكومتي الجزائر والمغرب إلى وقف إطلاق النار فوراً، كما صدر أيضاً القرار الرقم 1935/40 في 20 أكتوبر 1963 الذي أكد على:

أ. دعوة الحكومتين إلى سحب قواتهما إلى مراكزهما السابقة، على بدء الاشتباك المسلح.

ب. تشكيل لجنة وساطة من الدول الأعضاء الراغبة في ذلك، للعمل على فض النزاع.

ج. وقف الحملات الدعائية ضماناً لخلق جو العمل المناسب للجنة.

د. دعوة حكومتي البلدين إلى تقديم كافة التسهيلات اللازمة للجنة الوساطة، حتى يمكنها تقدير مهمتها على أكمل وجه.

وقد تشكلت لجنة الوساطة من الجزائر والمغرب ومصر وليبيا وتونس ولبنان، وأصدرت قراراتها بوقف إطلاق النار وسحب قوات الطرفين إلى ما وراء الحدود، وإثبات تعهد الجزائر بعدم وضع قواتها في حاس البيضا وتنجوب، بعد انسحاب القوات المغربية منها .

وتلى ذلك عقد مؤتمر قمة “باماكو” يومي 28-29 أكتوبر 1963 ، الذي حضره رؤساء الجزائر والمغرب وإثيوبيا ومالي. وأسفر المؤتمر عن الآتي:

أ. إيقاف القتال في الثاني من نوفمبر 1963.

ب. تحديد منطقة منزوعة السلاح بواسطة لجنة رباعية، من ممثلي الدول الأربع المشتركة في المؤتمر.

ج. تعيين مراقبين من الدولتين، لضمان حياد هذه المنطقة وسلامتها.

د. تشكيل لجنة تحكيم يتولى وزراء خارجية دول المنطقة اختيارها، وتكون مهمتها تحديد المسؤولية عن بدء العمليات الحربية بين البلدين، ودراسة مشكلة الحدود، وتقديم المقترحات للطرفين.

وعلى الرغم من أن الدولتين أبدتا استعدادهما لتنفيذ هذه القرارات، إلا أن المغرب رفضت الانسحاب من حاس البيضا وتنجوب، وطالبت بإجراء استفتاء فيهما، وهو إجراء رفضته الجزائر. ولم يتوقف القتال إلا في 4 نوفمبر 1963. وقرر مجلس وزراء منظمة الوحدة الأفريقية في 15 نوفمبر 1963، تشكيل لجنة خاصة بالتحكيم تكون مهمتها تحديد المسؤولية عن بدء العمليات الحربية بين البلدين، ودراسة مشاكل الحدود بينهما. وقد انعقدت لجنة التحكيم خلال الفترة من 24-28 يناير 1964، حيث تم التوصل إلى تحديد مناطق منزوعة السلاح بين الطرفين، مما أمكن عقد اتفاق في 19 فبراير 1964 تضمن عودة قوات البلدين إلى مواقعها الأصلية، قبل بدء الاشتباكات .

وعُدت كل من أراضي حاس بيلا وأم العشار من المناطق، التي لا يوجد بها قوات، أراضٍ فاصلة بين الجانبين . وقد انعكست آثار هذا الصراع المسلح المحدود على الصحراء الغربية، حيث ولدت شعوراً خفياً بالعداء بين النظامين، ومحاولة كلتا الدولتين الاستعداد لدحض مخططات التوسع أو الكسب السياسي، إذ إن المغرب عملت على تحييد الجزائر، إزاء مشكلة الصحراء الغربية كحد أدنى. إلا أنه في الوقت ذاته كان للموقف الجزائري أثره على تراجع المغرب، إزاء مطالبها بموريتانيا.

في عام 1964 قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة مطالبة أسبانيا بمنح إقليمي إيفني والصحراء الأسبانية ـ الغربية ـ حق تقرير المصير، والبدء في مفاوضات بشأن السيادة على هذين الإقليمين ، إلا أن أسبانيا لم تلتزم بذلك. وفي عام 1966 صدر قرار جديد من الجمعية العامة للأمم المتحدة يطالب الحكومة الأسبانية بضرورة التشاور والتباحث، مع حكومتي المغرب وموريتانيا والأطراف المعنية الأخرى، لاتخاذ الإجراءات والترتيبات اللازمة لإجراء استفتاء تشرف عليه الأمم المتحدة، يُسمح من خلاله لسكان الصحراء بممارسة حقهم في تقرير المصير. وعلى الرغم من إنشاء أسبانيا الجمعية العامة للصحراء، إلا أنه في عام 1968 ألحت الأمم المتحدة على أسبانيا بضرورة تطبيق مبادئ حق تقرير المصير. ومع تجدد الصدامات المسلحة في إقليم الصحراء عام 1970، قررت الأمم المتحدة ضرورة تطبيق قرارها السابق.

3. مرحلة التقارب الثلاثي: المغرب، الجزائر، موريتانيا

شهدت بداية السبعينيات تحركاً دبلوماسياً واسعاً، من قبل الدول العربية الثلاث ـ الجزائر والمغرب وموريتانيا ـ مهدت له عوامل مختلفة، ساعدت على التقارب وتحديد العامل الأساسي لمشكلة الصحراء الغربية، المتمثل في ضرورة تصفية الاستعمار الأسباني، كمطلب أساسي للدول المتنازعة، متجاوزة في ذلك عن المشاكل التي كانت سبباً في النزاعات بينهما، وكذلك الحد من الجدل القائم حول العائدات الاقتصادية من إقليم الصحراء الغربية وثرواتها الضخمة. وقد تمثلت العوامل، التي أدت للتقارب الثلاثي في الآتي:

أ. الدور الذي مارسته الأمم المتحدة ومقررات تصفية الاستعمار، أدى إلى إجماع الدول الثلاث على مبدأ حق تقرير المصير لإقليم الصحراء، واقترانه بتشكيل لجنة خاصة لتنظيم استفتاء في الصحراء برعاية الأمم المتحدة، بغية تمكين قبائل الصحراء الأسبانية ـ الغربية ـ من ممارسة حقهم في تقرير المصير والاستقلال.

ب. سعي أسبانيا إلى استثمار موارد الصحراء، متجاهلة قرارات الأمم المتحدة، ما أكد أهمية الحوار بين الدول الثلاث لمواجهة التحدي الأسباني، خاصة بعد أن أجرت أسبانيا اتصالاتها بالمغرب لمساومته حول المشاركة في استغلال موارد الصحراء، شرط أن يتخلى عن المطالبة بالصحراء. إلا أن المغرب رفض هذا العرض، وعمد إلى إثارة المشكلة والتعاون مع الجزائر وموريتانيا حيالها. لذلك عمدت أسبانيا إلى دعوة الشركات العالمية للتنقيب، عن موارد الصحراء.

ج. الاعتراف المغربي بموريتانيا وسيادتها واستقلالها، كان بمثابة تأييدٍ وسندٍ لمسعى الحوار الثلاثي، حول مسألة تصفية الاستعمار. فقد نجح الرئيس الجزائري هواري بومدين خلال انعقاد المؤتمر الإسلامي في الرباط عام 1969 من الوصول إلى اعتراف المغرب بموريتانيا، حيث أمكن عقد اجتماع ثلاثي لرؤساء الدول الثلاث ـ بومدين ومختار ولد داده والحسن الثاني ـ لبحث أوجه التعاون بين دولهم، حيال المشاكل الإقليمية والاقتصادية.

د. الثورة الشعبية التي اندلعت في 17 يونيه 1970، ضد الوجود الأسباني في الصحراء الغربية، والرد العنيف الذي جوبهت به من قبل القوات الأسبانية، سقط عدد من الشهداء واعتقل المئات من المواطنين، والقيادات الوطنية، وأصبحت أسبانيا بذلك في مواجهة كل من المغرب والجزائر وموريتانيا، إضافة إلى الرفض الشعبي للوجود الأسباني.

مهدت هذه العوامل الوصول إلى صيغة اتفاق حول هدف عام، تمثل في تصفية الاستعمار الأسباني؛ لذلك بدأت اللقاءات بين الدول الثلاث ونتج عنها، في اجتماع تلمسان بين الملك الحسن والرئيس هواري بومدين في 27 مايو 1970، إنهاء المشاكل الحدودية بين البلدين. كما أكد اللقاء على أهمية تحرير الصحراء الغربية من الاستعمار الأسباني، وأهمية وفعالية قرارات الأمم المتحدة بشان حق تقرير المصير لسكان الصحراء الغربية. وتلا ذلك زيادة المغرب تعاونها مع موريتانيا، حيث عُقدت اتفاقية ثقافية بين البلدين ـ معاهدة الدار البيضاء في 8 يونيه 1970 ـ تهدف إلى التعاون الوثيق بينهما للتعجيل بتحرير الصحراء، التي تحتلها أسبانيا، إضافة إلى مساندة موريتانيا لحقوق المغرب في المناطق، التي تحتلها أسبانيا على ساحل البحر الأبيض المتوسط.

أسفر تقارب وجهات النظر للدول الثلاث، عن عقد مؤتمر نواذيبو في 14 سبتمبر 1970، وقد سادت العلاقات التعاونية بين الدول الثلاث خلال هذا المؤتمر، وهدفت إلى تبني إستراتيجية إنهاء الاستعمار الأسباني في الصحراء الغربية، خاصة بعد أن أتمت أسبانيا إنشاء الشريط المتحرك من مناجم الفوسفات في بوكراع، إلى مدينة العيون الساحلية، ما أدى إلى توتر الأوضاع الداخلية في الصحراء الغربية. وتمثلت قرارات هذا المؤتمر في الآتي:

أ. إنشاء لجنة تنسيق ثلاثية مهمتها متابعة عملية إنهاء الاستعمار الأسباني، لإقليم الصحراء الغربية.

ب. تعزيز وإنماء التعاون الاقتصادي بين منظمة الدول المشاطئة لنهر السنغال، ودول المغرب العربي.

ج. تنسيق الجهود بين الدول الثلاث، والعمل على توحيد وجهات النظر والآراء حيال المشاكل المطروحة، والعمل على إنهاء الوجود الاستعماري من القارة الأفريقية.

وكان الاتفاق العام في وجهات النظر حول مبدأ حق تقرير المصير، وإنهاء السيطرة الاستعمارية الأسبانية في الصحراء الغربية، وفي الوقت نفسه تلافى المؤثرات، التي قد تنتج عن ردود فعل بعض الدول الأفريقية المجاورة، خاصة السنغال، التي كانت مركز الوجود الفرنسي. لذلك رأت الدول الثلاث أهمية التعاون الاقتصادي والسياسي للدول المشاطئة لنهر السنغال، حتى يمكن التغلب على الحساسيات، التي قد تنعكس على هذه الدول، إضافة إلى كسب تأييدها، سواء في المحافل الدولية، أو داخل منظمة الوحدة الأفريقية.

4. موقف المملكة المغربية من مشكلة الصحراء الغربية

في إطار الجهود المغربية بشأن الحق المغربي في الصحراء، أصدرت وزارة الدولة للشؤون الخارجية العديد من المذكرات، الخاصة بموضوع الصحراء الغربية، موضحة التطور التاريخي المعاصر، الذي اتسم بالآتي:

أ. منذ استقلال المغرب، وهي لم تكف عن المطالبة باستعادة جميع المناطق التي ظلت بعيدة عن سيادتها للاعتبارات القانونية، التي شملت مناطق سيادة، كما هو الحال لمدينتي سبتة ومليلة، وكذلك ما سمي بمناطق حماية، وأيضاً المحاولات الأسبانية للتمسك بمنطقتي الساقية الحمراء ووادي الذهب، من خلال إقامة دولة في الصحراء الغربية تريد في إطارها استمرار السيطرة على عدة مناطق من المغرب. ورأت المغرب أن الاحتلال الأسباني لهذه المناطق لم يغير مصيرها المشترك طول قرون متعاقبة، وإذا كانت فرنسا وأسبانيا قد أعلنتا في أكتوبر 1904 تصريحاً مشتركاً، كما أبرمتا اتفاقية سرية ـ لم تشارك فيها المغرب ـ لتحديد مناطق نفوذهما وتقسيم المغرب، إلا أن القبائل وسكان هذه المناطق قاوموا التغلغل الاستعماري .

ب. أكد الموقف المغربي أن الساقية الحمراء ووادي الذهب، كانا يشكلان جزءاً من مجموعة صحراوية، كانت بكاملها جزءاً من الأراضي المغربي، حيث كانت العلاقات بين الصحراء وسهول سومي ومراكش تقوم على التعاون في كافة المجالات. ففي المجال السياسي فإن عدداً من القبائل المغربية انحدرت من الصحراء الغربية، خاصة دولة المرابطين التي تنتمي إلى قبيلة صنهاجة الصحراوية، وكان ملوك مراكش يستعينون ببعض رجال هذه القبائل في شغل المناصب الإدارية والقضائية والسياسية. كما أن الملوك العلوين تدخلوا عدة مرات لحماية القبائل الصحراوية، من التغلغل والاستعمار الأسباني، خاصة في منطقتي وادي الذهب والساقية الحمراء. وفي المجال الاقتصادي، كان هناك اهتمام واضح بالصحراء الغربية، حيث أُنشئت مدينة سمارة في نهاية القرن التاسع عشر، تحت إشراف السلطان عبدالعزيز شقيق الملك الحسن الثاني .

ج. إن الحقيقة التاريخية ـ من وجهة نظر المغرب ـ التي تجعل الصحراء الغربية جزءاً لا يتجزأ من المغرب، هي نصوص المعاهدات، التي أبرمتها الدول الاستعمارية نفسها وكانت تستشهد بها، وكان منها معاهدة الجزيرة الخضراء المبرمة عام 1906، والتي أكدت على استقلال جلالة السلطان ووحدة ولاياته وحريته الاقتصادية؛ وكذلك الاتفاقية الفرنسية ـ الأسبانية عام 1912، التي بموجبها تمكنت أسبانيا من فرض سيطرتها على منطقتي الساقية الحمراء ووادي الذهب، وكانا يُحكمان باسم السلطان المقيم في تطوان. كذلك التصريح المشترك الأسباني ـ المغربي، الذي من خلاله اعترفت أسبانيا باستقلال المغرب وسيادته التامة ووحدة أراضيه، التي تضمنها معاهدات دولية سابقة.

د. إذا كانت الحكومة الأسبانية في 7 أبريل 1956 قد أعلنت التصريح المشترك، واعترفت خلاله باستقلال المغرب ووحدة أراضيه، فإنها، وتنفيذاً لذلك، أعادت للمغرب المنطقة التي كانت تحتلها في شمال البلاد، باستثناء سبتة ومليلة. وفي عام 1958 سلمت أسبانيا طرفاية، وهو من أقاليم الجنوب، كما سلمت عام 1969 إيفني؛ لأن إقليمي طرفاية وإيفني كانا يخضعان للنظام نفسه، الذي يخضع له إقليمي الساقية الحمراء ووادي الذهب، وهما أساس النزاع, والذي بسببه لجأت المغرب إلى الأمم المتحدة، حيث وافقت لجنة تصفية الاستعمار في 16 أكتوبر 1964 على أول قرار يصدر بشأن إقليم الصحراء، حيث طلبت الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 1975 من الحكومة الأسبانية، بدء مفاوضات لإنهاء مشكلة السيادة على إقليم الصحراء الغربية.

هـ. بعد أن رفضت الحكومة الأسبانية تنفيذ قرارات الأمم المتحدة، أعلنت الحكومة المغربية موافقتها على الاقتراح الأسباني القاضي بتطبيق مبدأ تقرير المصير في إطار الضمانات الآتية:

(1) انسحاب القوات الأسبانية، من وادي الذهب والساقية الحمراء.

(2) السماح بوجود قوات شرطة تحددها الأمم المتحدة، للمحافظة على الأمن العام.

(3) انسحاب الإدارة الأسبانية، من كافة المناطق الموجودة فيها.

(4) عودة اللاجئين والمنفيين المنحدرين من المنطقتين المذكورتين، على أن يُستشار السكان، في ظروف تحددها الأمم المتحدة.

وعلى الرغم من أن أسبانيا رفضت في ديسمبر 1966، قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، الخاص بالسماح لسكان الصحراء الغربية بمباشرة حقهم في تقرير المصير بكامل الحرية، تحت إشراف الأمم المتحدة، إلا أنها في عام 1967 وافقت على قرار الجمعية العامة. وفي عام 1969، وخلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، أعلن مندوب المغرب رفضه الشديد للتدابير العسكرية والسياسية والاقتصادية، التي اتخذتها السلطات الأسبانية لتعزيز سيطرتها على أقاليم الصحراء الغربية.

و. خلال انعقاد دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1973، ادعت الحكومة الأسبانية وجود مطالب موجهة إليها من الجمعية الصحراوية، وهو ما عارضته المغرب. وفي هذه الدورة أيضاً صادقت الجمعية العامة على القرارات السابقة، ولم تشارك أسبانيا في التصويت، معلنة أنها ستمضي قدماً في تنفيذ سياستها تجاه الصحراء.

ز. على الرغم من رفض المغرب سياسة الأمر الواقع، واتخاذه العديد من الخطوات لدى المنظمات الدولية، سواء في الأمم المتحدة أو منظمة الوحدة الأفريقية أو الجامعة العربية أو الأمانة العامة للمؤتمر الإسلامي، إلا أن أسبانيا عملت على تعزيز وجودها وسيطرتها في الساقية الحمراء ووادي الذهب. وكان من ذلك تعريض السكان للقمع والضغط الاستعماري، ما أدى إلى هجرة العديد من السكان. وإزاء هذه التصرفات خاطب المغرب الإدارة الأسبانية في 4 يوليه 1974، مستنكراً الأعمال الانفرادية، التي تقوم بها أسبانيا في الإقليم .

ح. كان هناك حرصٌ مغربيٌ، سواء على المستوى الحكومي أو الأحزاب الوطنية، عند طرحها مشكلة الصحراء الغربية وتحريرها من الاستعمار الأسباني، كما كان هناك سعي دائم للتوفيق بين المصلحة الحيوية للمغرب، وبين المصلحة الحيوية لكل من الجزائر وموريتانيا، وكذلك المصلحة الحيوية لسكان الصحراء. إلا أن وجهة النظر المغربية كانت ترى تبايناً في الموقف الجزائري، الذي كان يطالب المحافل الدولية منذ عام 1974 بمواجهة الموقف المغربي الرافض لتنفيذ القرارات الدولية.

ط. رأت المغرب أن الموقف الجزائري من المشكلة، له أبعاد وانعكاسات سلبية على الموقف العربي ككل، وقد استندت المغرب في تكوين هذا الرأي على أهداف مساندة الأحزاب اليسارية الجزائرية، المناوئة لكل تكتل عربي، في ضوء أسباب سياسية إستراتيجية تربط بين الحزب الشيوعي الفرنسي والجزائر، بهدف إبعادها عن الوطن العربي، حتى تكون حلقة الوصل بين فرنسا والعالم الثالث. أما التقارب الليبي الجزائري، فإن الرؤية المغربية ترى أنه تحالف مرحلي بهدف إنجاح المخطط الجزائري، الرامي إلى احتكار المواصلات مع أفريقيا الغربية.

ويتبنى الموقف المغربي سياسة عامة حيال الصحراء الغربية، تعمل على مراعاة المصالح الحيوية لكافة الدول المعنية بالمشكلة، وقد بني الموقف المغربي على الأسس والاعتبارات التالية:

أ. لم يرث الاستعمار الأوروبي السيادة المغربية من دولة سابقة ـ الأتراك في الجزائر ـ أو من رؤساء القبائل ـ عموم أفريقيا ـ أو لم تخلق من العدم ـ أستراليا ـ ولكن استمرت السيادة المغربية رغم تفويض الإدارة لدولة، أو مجموعة دول أوروبية. وقد وضح الفرق بين السيادة الواحدة، والإدارة المفوضة، من خلال مؤتمر الجزيرة الخضراء وما تلاها من اتفاقيات ثنائية، حيث كان الفرنسيون يسيطرون على الدار البيضاء، والأسبان موجودون في إقليم طرفاية، والبلجيكيون في طنجة، إلا أن القوى الاستعمارية كانت تعترف بالسيادة المغربية المتمثلة في حقوق السلطان .

ب. لم تكن الدولة المغربية دولة استعمارية، نشأت في حدود خططها المستعمر، بل هي دولة تاريخية تكونت عبر قرون، حيث تبلور الوعي الوطني المغربي أثناء صراع مرير ضد الأسبان شمالاً، وضد العثمانيين في الشرق، بهدف الدفاع عن الحدود المعروفة لدى السلطان والشعب، وكان الشعور بأهمية حماية هذه الحدود لا يقل رسوخاً عن الوعي بالدفاع عن استقلال البلاد.

ج. كانت الحماية تفويضاً مؤقتاً للدول الاستعمارية، وفي الوقت ذاته كان هذا التفويض محدوداً في إطار السلطة الإدارية. وقد انتهت هذه الحماية واستُرجعت كافة السلطات الإدارية. ولذلك فإن وجهة النظر المغربية ترى أنه باستقلال المغرب لم تنشأ سيادة جديدة، بل استرجعت الدولة المغربية المناطق التي كانت تديرها القوى الاستعمارية، من خلال عملية تفاوضية تمت بين المغرب ودول الحماية، حيث تم استرجاع الجزء الأكبر من المنطقة الشمالية، التي كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي، وكذلك استُرجعت طنجة، التي كانت خاضعة للإدارة الدولية، ثم طرفاية وسيدي إيفني من أسبانيا. وقد تم ذلك في إطار مؤتمر الجزيرة الخضراء.

د. حكمت المطالب المغربية مبادئ أساسية، اعتمدت على مبدأ ضمان وحدة الأراضي المغربية، وقد رأى المغرب أن هذا المبدأ قد طبق في العديد من دول العالم. ولذلك يرى المغرب أن من حقه المطالبة بإنهاء الوجود الاستعماري في المناطق الصحراوية، التي تعد جزءاً من الأراضي المغربية، استناداً لمبدأ وحدة الأراضي، الذي تضمنته كافة المواثيق الدولية. وإذا كانت مبادئ منظمة الوحدة الأفريقية تحتم المحافظة على الحدود الموروثة، وإنهاء السلطة الاستعمارية من خلال استفتاء شعبي، كحق لتقرير المصير، فإن المغرب يرفض قوانين هذين المبدأين، حيث يرى المغرب أن الحماية الفرنسية في المغرب لم تقم برسم حدود دولية، سواء كانت مع الجزائر أو مع أسبانيا، وإنما هي خطوط تقسيم إداري، وكذلك تستند المغرب إلى قانون الجنسية، الذي أصدرته إدارة الحماية عام 1921، والذي ينص على عدم فقد الجنسية المغربية. ولذلك لا يجوز إجراء استفتاء في مناطق تُعد مغربية أساساً .

وضعت الحركة الوطنية مسألة استرجاع الصحراء هدفاً، من أهم أهدافها. واعتمدت الحركة الوطنية على مقتضيات القانون الدولي، لإثبات مشروعية مطالبته بالأجزاء المغتصبة من الحدود الطبيعية والتاريخية، خاصة أن الحركة الوطنية المغربية كان لها وجودها في الأقاليم الجنوبية، التي كانت تحت السيطرة الأسبانية منذ عام 1946، حين بدأ حزبا الإصلاح الوطني والاستقلال يوسعان نشاطهما إلىمدن الجنوب ـ طرفاية، العيون، الداخلة، سمارة ـ وظهر هذا الوجود كمعارضة علنية بإعلان أسبانيا عن مخططاتها لتقسيم هذه الأقاليم إلى ثلاث مناطق، خلال الفترة 1947-1950. وبدأت خلال هذه المرحلة العمليات العسكرية في هذه المناطق، واستمرت قرابة الست سنوات. وبعد إعلان استقلال المغرب، والتوقيع على اتفاقيات الاعتراف بهذا الاستقلال من أسبانيا وفرنسا، عملت الدولتان سريعاً على إيقاف محاولة استرجاع المناطق، التي استقطعت من المغرب، حيث عقدت كل منهما اتفاقاً يتعلق بإقرار الحدود بين منطقتي الصحراء الغربية، التي تقع تحت نفوذ كل منهما. وبدأت كل منهما في العمل على فصل الصحراء عن المغرب، ولكن مع تصاعد حدة الأحداث في يناير 1957، التي تطورت إلى صراع مسلح بين الحركات الوطنية في إقليم الصحراء والقوات الأسبانية، وبعد اشتباكات عنيفة، تم تحرير مستعمرة إيفني، وسمارة، وصار مطلب استكمال وحدة الأراضي المغربية ينال تأييد كافة الشعب وفصائل الحركة الوطنية. وانتقل العمل السياسي المغربي إلى عمل عسكري شبه منظم مدعم من مناطق شمال المغرب، حيث تأسس جيش التحرير الجنوبي في يناير 1957 .

ولمواجهة هذه التطورات، أعلنت أسبانيا عن عزمها تسليم إقليم طرفايا للمغرب، وعد المغرب استرجاع طرفاية مكسباً سياسياً يمكن أن يُستند إليه، عند مطالبتها بباقي المستعمرات الأسبانية. إلا أن أسبانيا اشترطت أن يكون تخليها عن طرفاية للمغرب في مقابل عدم مطالبته بمدينتي سبتة ومليلة ، كما منعت دخول ولي العهد الحسن الثاني إلى طرفاية. وأدى ذلك إلى تصعيد الحركة الوطنية ضد أسبانيا، وأصبحت قضية النضال والكفاح ضد الوجود الأسباني في الجنوب، هي القضية الرئيسية التي لها الأهمية. وفي شهر أكتوبر 1957، أثار الوفد المغربي بالأمم المتحدة، ولأول مرة، مشكلة الصحراء الغربية، بما فيها موريتانيا وإيفني ووادي الذهب، أمام لجنة الوصاية التابعة للأمم المتحدة، حيث طالب بفتح مفاوضات لإنهاء الاحتلال الأسباني، خاصة أن المغرب قد قرر رسمياً، منذ إيقاف عمليات جيش التحرير، الاعتماد على المفاوضات كوسيلة أساسية لاستكمال وحدة الأراضي المغربية. وفي فبراير 1958 أكد ملك المغرب، محمد الخامس، على مواصلة السعي من أجل استرجاع الصحراء الغربية، ولذلك تابعت الحكومة المغربية سياستها في المطالبة باسترجاع أراضيها المحتلة، حيث أنشأت قسماً في وزارة الداخلية لشؤون موريتانيا والصحراء، كان رد فعل لإنشاء “وزارة الصحراء” في الحكومة الفرنسية. وفي سبتمبر 1958 عُقد مؤتمر لموريتانيا والصحراء في الرباط، حضره ولي العهد المغربي، ورئيس المجلس الاستشاري الوطني ـ المهدي بن بركة ـ و200 ممثل عن إقليمي موريتانيا والصحراء. وكان هدف المؤتمر هو تشكيل وفد مغربي إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، للمشاركة في الحملة الدبلوماسية التي كان يقوم بها المغرب في المحافل الدولية.

لم تتوقف الحكومة المغربية عن التفاوض مع أسبانيا وفرنسا، وبتنسيق بينها وبين قيادة جيش التحرير في الجنوب. وأبدت أسبانيا استعدادها للتخلي عن الأجزاء الجنوبية، وقد تطلب هذا الموقف من جيش التحرير إيقاف العمل المسلح، إلا أن أسبانيا ظلت تسعى للحصول على مكاسب بديلة مقابل ما تقدمه من تنازلات. وقابل المغرب الموقف الأسباني بتمسكه بكل أقاليمه الجنوبية، وهي: طرفاية، إيفني، الساقية الحمراء، ووادي الذهب، لذلك كان لجوء المغرب إلى المحافل الدولية بهدف الضغط على أسبانيا لقبول المفاوضات، وإذا كانت المفاوضات المغربية ـ الأسبانية قد دخلت مرحلة جديدة، انتهت بتوقيع معاهدة سنترا في أول أبريل 1958، وخلالها استرجعت المغرب إقليم طرفاية، إلا أن هذه المعاهدة لم تهدف إلى ترسيم الحدود؛ كما أن أسبانيا بدأت تعمل على إبقاء سيطرتها الاستعمارية على الصحراء، حيث عملت على طمأنة الدول الغربية حتى تغير موقفهم في الأمم المتحدة، وذلك بإعلانها استعدادها لإنهاء وجودها في هذه المنطقة. وفي يوليه 1974، بعثت أسبانيا إلى الأمم المتحدة بوثيقة توضح فيها كيفية إنهاء تسوية الاحتلال، من خلال الآتي:

أ. سيكون السكان الصحراويون تحت الحماية الأسبانية، وبعد فترة تراوح بين خمس وعشر سنوات، وبعد أن تصل المنطقة إلى مستوى يؤهلها إلى إدارة شؤونها، يتم منحها الاستقلال التام.

ب. تحتفظ أسبانيا لنفسها بحق التمثيل الخارجي للدولة الصحراوية وحمايتها العسكرية، ووضع البنيات الإدارية الخاصة بها.

ج. ينظم استفتاء من طرف السلطات الأسبانية، لتكريس هذه السياسة.

رفض المغرب هذه السياسة المشوهة لمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، والذي سيؤدي إلى وضعية استعمارية جديدة. ولمواجهة هذه السياسة الاستعمارية الجديدة، التي بدأت أسبانيا في ممارستها، أخذت المغرب في تغيير مواقفها تجاه مشكلة الصحراء الغربية، حيث طالبت بعرضها على محكمة العدل الدولية.

5. طرح المشكلة ـ القضية ـ أمام محكمة العدل الدولية

وفقاً لميثاق الأمم المتحدة، يحق للجمعية العامة أو مجلس الأمن، أن تطلب من محكمة العدل الدولية تقديم الفتوى، بشأن المشاكل القانونية، بناء على طلبها، ومن ثم، فإن طلب الفتوى لا بد أن يخضع لموافقة الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولقد كان سبب لجوء المغرب إلى محكمة العدل الدولية هو تدهور الأوضاع العسكرية في شمال غرب أفريقيا، بسبب عزم أسبانيا على إجراء استفتاء من جانب واحد؛ لتقرير مصير إقليم الصحراء الغربية. وأعلن الملك الحسن الثاني في 17 سبتمبر 1974 قراره بمطالبة الجمعية العامة للأمم المتحدة برفع النزاع القانوني الأسباني ـ المغربي، حول إقليم الصحراء الغربية، إلى محكمة العدل الدولية . وعلى رغم أن هذا الموقف واجه كثيراً من الصعوبات، تقدمت في النهاية ستة وثلاثون دولة عربية وأفريقية، بما فيهم المملكة المغربية والجمهورية الموريتانية، إلى الجمعية العامة، بمشروع قرار لطرح النزاع على محكمة العدل الدولية . وأصدرت الجمعية العامة، في 13 ديسمبر 1974، قرارها الرقم 3292، تدعو فيه محكمة العدل الدولية تقديم رأيها في سؤالين محددين هما :

أ. هل كانت الصحراء الغربية ـ وادي الذهب والساقية الحمراء ـ أرضاً خلاء بدون سكان؟

ب. إذا كان الجواب على السؤال الأول سلباً، فما هي العلاقات القانونية لهذا الإقليم مع المملكة المغربية والجمهورية الموريتانية؟

وتمكن المغرب بهذا الموقف من منع أسبانيا من إجراء الاستفتاء، الذي كانت تعزم على إجرائه، خاصة بعد أن طلب الأمين العام للأمم المتحدة من السلطة الأسبانية تأجيل هذا الاستفتاء، إلى أن تقرر الجمعية العامة للأمم المتحدة السياسة، التي يجب اتباعها حيال إقليم الصحراء الغربية، على ضوء الرأي الاستشاري، الذي ستصدره محكمة العدل الدولية. وبدأت مناقشات المحكمة في 25 مارس 1975، وانتهت في 30 يوليه 1975، وخلال هذه المرحلة، التي استغرقتها إجراءات محكمة العدل الدولية، تم الاستماع إلى مرافعات كل من المغرب وموريتانيا وأسبانيا، كما اطلعت المحكمة على بيانات ووثائق من دول أخرى. وفي 16 أكتوبر 1975، أودعت المحكمة لدى الجمعية العامة للأمم المتحدة مذكرات في شكل رأي استشاري، يؤكد، بصفة قاطعة، النقاط التالية بشأن المطلب المغربي :

أ. رفضت المحكمة وجهة النظر الأسبانية، لأن النظر في النزاع من اختصاصها، مؤكدة بذلك موقف المغرب، الذي يؤكد أن النزاع بين أسبانيا والمغرب حيال الصحراء الغربية ذو صبغة قانونية[3].

ب. استناداً من المحكمة إلى مرافعات كل من المغرب وموريتانيا، رفضت المحكمة الزعم الأسباني بأن الإقليم الصحراوي كان أرضاً خلاء بدون سكان أثناء الاحتلال، كما أنه لم يكن هناك فراغ من السلطة.

ج. أكدت المحكمة على وجود علاقات بين إقليم الصحراء وكل من المغرب وموريتانيا، وهذه العلاقات كانت في إطار قانوني وأيضاً علاقات بيعة.

اعتبر المغرب أن الأحكام، التي أصدرتها محكمة العدل الدولية، ما هي إلا تأكيد على أن الصحراء الغربية جزء من الإقليم، الذي تمارس عليه سيادة ملوك المغرب، وأن سكان هذا الإقليم كانوا، وما زالوا مغاربة. وتأكد المغرب من شرعية مطلبه، كما أن المعلومات، التي اعتمدت عليها المحكمة تؤكد أنه كان يوجد خلال فترة الاستعمار الأسباني للصحراء روابط قانونية للولاء ـ البيعة ـ بين سلطان المغرب وبعض القبائل في إقليم الصحراء الغربية، وقد استنتجت المحكمة من المعلومات والوثائق، التي حصلت عليها أنه لا توجد روابط سيادية ترابية بين إقليم الصحراء الغربية من جهة وبين المملكة المغربية وموريتانيا من جهة أخرى. ولذلك فإن المحكمة لم تلاحظ وجود روابط قانونية من شأنها أن تعدل تطبيق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الرقم 1514، والخاص بتصفية الاستعمار في إقليم الصحراء الغربية، وتطبيق مبدأ تقرير المصير، وفقاً لإرادة سكان الإقليم، إلا أن المحكمة قد اعترفت، ضمنياً، بسيادة المغرب على إقليم الصحراء، عندما أقرت بوجود روابط الولاء الشخصي بين القبائل الصحراوية والسلطان (اُنظر ملحق وثيقة تجديد البيعة). خاصة أن هذه البيعة قد تمت بالتراضي بين شعب الصحراء والدولة العلوية، ولا يجوز التنازل عنها، كما أن هذه البيعة لم تنقض من قبل ولاة، بل بفعل قوة استعمارية[4].

6. المسيرة الخضراء

كان لصدور الرأي الاستشاري من محكمة العدل الدولية، العديد من ردود الأفعال المختلفة، فقد أعلن الملك الحسن الثاني، في 16 أكتوبر 1975، عن الإعداد للمسيرة الخضراء . وفي 5 نوفمبر، وجه جلالة الملك، من قصر البلدية بأكدير، خطاباً للشعب المغربي أعلن فيه عن انطلاق المسيرة. وبدأت المسيرة في 6 نوفمبر 1975 من طرفايا، وشارك فيها ثلاثمائة وخمسون ألفاً من المغاربة ، إضافة إلى مشاركة كل من سفراء المملكة العربية السعودية، والأردن، وقطر، والإمارات، وسلطنة عمان، والسودان، والجابون، ووفد من السنغال، والأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي. لقد تسلح المتطوعون في المسيرة بالقرآن، ولم يُحمل خلالها أي سلاح، تأكيداً على أنها مسيرة سلمية، وانطلقت المسيرة بقدر كبير من الانتظام والدقة ، وعبرت المسيرة الخضراء حدود الصحراء، وكان يحيط بها ردود فعل عالمية وإقليمية متباينة، فأعلنت الجزائر رفضها للمسيرة، واعتبرتها خرقاً للمواثيق والأعراف الدولية، أما أسبانيا فقد عارضت المسيرة، وطلبت عقد اجتماع لمجلس الأمن لمواجهة هذه المسيرة، كما أعلنت، من خلال مندوبها في مجلس الأمن، أن المسيرة الخضراء ليست مسيرة سلمية، بل هي زحف عسكري مسلح، ولذلك فقد حركت أسطولها البحري إلى المياه الإقليمية المغربية؛ لإجبار المغرب العدول عن تنفيذ المسيرة، كما أعلنت أنها قامت بإعداد حقول ألغام في الصحراء الغربية. وقد أثار هذا التصرف الأسباني ردود فعل عالمية، وأدى نجاح المسيرة الخضراء، على المستوى الشعبي والإقليمي والعالمي، إلى إعادة التوازن في الموقف الأسباني تجاه المشكلة، فبعد أن توغلت المسيرة لمسافة 15 كم داخل إقليم الصحراء الغربية، بدأت الاتصالات بين أسبانيا والمغرب، ظهر خلالها تغير واضح في الموقف الأسباني، ولذلك أصدر العاهل المغربي أوامره بعودة المتطوعين في المسيرة إلى طرفايا مؤقتاً، حتى يتم التوصل إلى حل سلمي للمشكلة.

7. اتفاقية مدريد الثلاثية

تحت الضغوط الدولية، التي واجهتها أسبانيا، تم إجراء عدة اتصالات بين حكومتي المغرب وأسبانيا، ففي 11 نوفمبر 1975، بدأت المفاوضات بين المغرب وموريتانيا وأسبانيا، ووقعت اتفاقية مدريد الثلاثية، في 14 نوفمبر 1975 (اُنظر ملحق اتفاقية مدريد الثلاثية، 14 نوفمبر 1975)، ومن خلالها، قسمت الصحراء بين المملكة المغربية والجمهورية الموريتانية (اُنظر خريطة تقسيم الصحراء الغربية). لقد اعتبرت اتفاقية مدريد الثلاثية انتصاراً دبلوماسياً لكل من المغرب وموريتانيا، لأنها أدت إلى استرجاع الصحراء الغربية من دون الدخول في صراع عسكري ضد أسبانيا، وكذلك فإن الاتفاقية جاءت مطابقة لوجهة النظر المغربية، فنصت على أن الأطراف الموافقة عليها تخطر الأمين العام للأمم المتحدة، بما هو مقرر في الوثيقة، وكان هذا، وفقاً للرؤية المغربية، إنهاء للنزاع القائم حول الصحراء الغربية، وكان هناك ارتياح عام لدى الأطراف الثلاثة الموقعة على الاتفاقية، إذ أمكن تحاشي المواجهة العسكرية بين المغرب وأسبانيا، وكذلك تحوشي إجراء استفتاء في الإقليم الصحراوي في أثناء وجود الإدارة الأسبانية، مما كان سيحقق الأهداف الأسبانية وخلق كيان مستقل يرتبط بها عفوياً .

لقد رأى المغرب أن اتفاقية مدريد كانت تطبيقاً للرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، كما أن هذا الاتفاق، الذي توصل إليه، ووافق عليه سكان الإقليم ، في الإطار الذي كانوا دائماً يعبرون به عن آرائهم, كانت الأمم المتحدة تقيده شرعياً في كل وثائقها، وبما أن رؤية المغرب كانت متفقة مع رؤية موريتانيا في اقتسام الصحراء بينهما، فإن هذه الموافقة كانت تطبيقاً لرأي محكمة العدل الدولية، لا لرأيها الخاص، وطالما أن المحكمة أقرت بحقوق مشتركة مغربية موريتانية في الصحراء، فلقد وجب على المغرب احترام هذه الحقوق. وعلى رغم أن الاتفاق ينهي الوجود العسكري الأسباني في توقيت أقصاه 28 فبراير 1976، على أن يوضع حتى هذا التاريخ تحت إدارة ثلاثية. فإن القوات المغربية لم تلبث أن دخلت الصحراء الغربية، واحتلت مدينة سمارة في 27 نوفمبر 1975، ثم دخلت مدينة العيون في 11 ديسمبر من العام نفسه. أما القوات الموريتانية فقد دخلت هي الأخرى مدينتي داخلة وفيلا سيسينروس، بعد عدة معارك عنيفة بين القوات الموريتانية وأعضاء جبهة البوليساريو، وبدأت المظاهرات الشعبية في مدينة بير لحلو في أنفاريتي، وسرعان ما عمت كل المناطق المحررة. وأما الجزائر فقد أدانت سياسة الأمر الواقع بشأن الصحراء الغربية، ولم تعترف بالاتفاق الثلاثي، وقامت بحشد قواتها على الحدود المغربية، وأعلنت ليبيا تأييدها للموقف الجزائري .

8. تجدد اشتباكات الحدود المغربية ـ الجزائرية

تصاعدت حدة الأحداث في بداية عام 1976، بين المغرب والجزائر، كما دخلت موريتانيا طرفاً فاعلاً في النزاع، وكذلك دخلت دول أخرى على الصعيد الإقليمي لمشكلة الصحراء الغربية، إضافة إلى جبهة البوليساريو، التي أعلنت عن إسقاطها طائرة مقاتلة مغربية في 21 يناير 1976. وفي 25 يناير 1976، اضطرت القوات الموريتانية إلى الانسحاب من منطقة تبين بن تيلي، بعد اشتباكات عنيفة مع قوات البوليساريو. وبدأت كل من المغرب وموريتانيا توجيه الاتهامات غير المباشرة للجزائر، بمساندة جبهة البوليساريو، كما بدأت اتصالات عربية بأطراف النزاع لاحتوائه، إلا أن هذه الاتصالات أخفقت، ففي 27-28 يناير 1976، تمت اشتباكات مسلحة بين القوات الجزائرية والمغربية في منطقة المغلا ـ تقع على مسافة 3 كم من الحدود الجزائرية ـ المغربية، وقد نتج عن هذه الاشتباكات احتلال القوات المغربية للمغلا، إلا أن القتال توقف يوم 3 فبراير 1976، بعد أن قامت مصر بالوساطة بين الأطراف المتصارعة. وقد حددت الجزائر موقفها من الصراع في الآتي :

أ. مساندة حركات التحرر.

ب. أن النضال في الصحراء الغربية هو نضال بين نظام إقطاعي استبدادي وحليف للاستعمار، وبين شعب عربي يناضل من أجل بقائه واستقلاله.

ج. أن أي مفاوضات يجب أن تكون بين جبهة البوليساريو الممثل الوحيد للشعب الصحراوي، وبين كل من المغرب وموريتانيا.

د. أن أي وساطة في قضية الصحراء، لا يكون لها معنى، ما لم يكن هدفها التوصل إلى إنقاذ الشعب الصحراوي، وحماية وجوده.

9. الانسحاب الأسباني وردود الفعل المحلية والإقليمية

أتمت أسبانيا انسحابها من الصحراء الغربية في 26 فبراير 1976، وفقاً للاتفاق الثلاثي، الذي تم توقيعه بين المغرب وموريتانيا وأسبانيا، خلال شهر نوفمبر 1975، وفي التوقيت ذاته، عقدت الجماعة الصحراوية اجتماعاً استثنائياً بمدينة العيون، في 26 فبراير 1976، وافقت خلاله الجماعة الصحراوية، بالإجماع، على الاتفاق الثلاثي، الذي وضع حداً للوجود الأسباني في الصحراء الغربية، ووجهت الجماعة الصحراوية مصادقتها على الاتفاقية، إلى كل من ملك المغرب والرئيس الموريتاني وملك أسبانيا، وكذلك إلى المنظمات الدولية. ولكن، وفي تطوير آخر سريع، أعلنت جبهة البوليساريو، في 27 فبراير 1976، عن قيام الجمهورية العربية الصحراوية الديموقراطية على الأراضي، التي تسيطر عليها، وإثر ذلك، هددت المملكة المغربية بقطع العلاقات الدبلوماسية مع كل من يعترف بها، وعندما اعترفت الجزائر بها، أعلنت المملكة المغربية وموريتانيا قطع علاقاتهما الدبلوماسية مع الجزائر، كما اتهم المغرب العقيد معمر القذافي بدعمه الدائم لجبهة البوليساريو. ونتيجة للاتفاق، الذي تم بين موريتانيا وجبهة البوليساريو، في أغسطس 1979، واعترفت فيه موريتانيا بالجمهورية العربية الصحراوية الديموقراطية، انسحبت القوات الموريتانية من الصحراء الغربية، فاعتبرت المغرب ذلك تهديداً مباشراً لها ، ولذلك أعلنت الحكومة المغربية أن القطاع الموريتاني في الصحراء قطاع مغربي، واستولت عليه القوات المغربية . ونتيجة لهذا الإجراء، تعرضت المملكة المغربية لضغوط دولية، وهجوم سياسي، على المستوى الإقليمي والدولي. استمر الملك الحسن في تصعيده للحملة، التي تؤكد حق المغرب في الصحراء، فأعلن تصميمه على الاحتفاظ بالصحراء الغربية، وأنه سيعمل على مواجهة أي احتمال لهجوم عسكري قد تقوم به الجزائر، إلا أن هذه التحذيرات لم تجد سوى إصرار جبهة البوليساريو على موقفها، فأعلنت في 6 مارس 1976 عن تشكيل حكومة صحراوية برئاسة محمد الأمين أحمد، واعترفت الجزائر في اليوم نفسه بجمهورية الصحراء العربية الديموقراطية، أما جامعة الدول العربية، فقد أعلنت أن مشكلة الصحراء معقدة، وإيجاد مخرج سياسي لها يحتاج إلى وقت، ولقد أعلن ذلك أمين عام جامعة الدول العربية، بعد حوالي أسبوعين من المساعي التوفيقية بين الجزائر وكل من المغرب وموريتانيا. وعلى رغم تعدد المساعي العربية لاحتواء الأزمة، فإن جبهة البوليساريو كانت قد بدأت فعلاً بعمليات عسكرية، في كل من المغرب وموريتانيا، ضد أهداف عسكرية .

شعر المغرب بالثقل الاقتصادي والعسكري والسياسي، نتيجة لهجمات جبهة البوليساريو المتزايدة، ولذلك اضطر المغرب إلى تغيير إستراتيجيته من الحالة الدفاعية إلى حالة هجومية، فقام بمهاجمة قوات البوليساريو حتى لا تتمكن من مهاجمة القوات المغربية، وخلال هذه العمليات، دُمرت عدة قواعد لقوات البوليساريو، كما شكلت منظمة الأوزاريو ؛ لنقل الهجوم إلى عمق الأراضي الجزائرية، بهدف إرباك خطوط إمداد البوليساريو، وكان النجاح السياسي لمنظمة البوليساريو، من خلال إعلان لجنة الحكماء الأفريقيين، في ديسمبر 1979، اعترافها بحق تقرير المصير للشعب الصحراوي، وطالبت المغرب بسحب قواته من الصحراء المتنازع عليها، وطالبت، بعد ذلك، بتشكيل قوة أفريقية لحفظ النظام في الصحراء، إلى حين تقرير المصير، وسبق ذلك قرارات أخرى في مؤتمر القمة الأفريقي وقمة عدم الانحياز، وكذلك في لجنة تصفية الاستعمار بالأمم المتحدة. وفي مواجهة ذلك، أعلن الملك الحسن الثاني في يونيه 1981، خلال مؤتمر قمة نيروبي الأفريقية، عن قبول المملكة المغربية تنظيم استفتاء في الصحراء الغربية. وبذلك انتهجت الحكومة المغربية سياسة جديدة، هدفت إلى تهدئة الصراع في المنطقة، وفي تطور آخر للمشكلة، أيدت القمة الأفريقية، المنعقدة في أديس أبابا عام 1984، قبول الجمهورية العربية الصحراوية الديموقراطية عضواً في منظمة الوحدة الأفريقية، وهذا ما دفع المملكة المغربية إلى إعلان انسحابها من منظمة الوحدة الأفريقية .

10. موقف موريتانيا من مشكلة الصحراء الغربية

قامت بأول ترسيم للحدود بين موريتانيا والصحراء الأسبانية، سابقاً، كل من فرنسا وأسبانيا، في نوفمبر 1900، وتم تأكيده في معاهدة أكتوبر عام 1904، حين قام الطرفان بتحديد حدود اصطناعية هندسية في خطوط مستقيمة، تتوافق مع خطوط الطول والعرض، وكان الحد الجنوبي للنفوذ الأسباني موازياً لرأس بلانكو، ويقسمه إلى جزأين، ويمتد خط الحدود بعد ذلك إلى داخل مناجم الجل للملح ضمن موريتانيا، ثم تمتد الحدود بعد ذلك باتجاه شمال شرقي حتى تقاطع خط طول 12ه غرباً مع مدار السرطان، ثم يمتد نحو الشمال بشكل مستقيم موازٍ لخط طول 12ه غرباً حتى تقاطعه مع خط عرض 27ه شمالاً، ثم تتجه الحدود شمالاً، وبخط مستقيم حتى التقاء نقطة الحدود مع الجزائر، عند خط طول 45/8ه غرباً (اُنظر خريطة حدود موريتانيا والصحراء الغربية).

وبحصول موريتانيا على استقلالها في 28 نوفمبر 1960، شهدت السياسة الخارجية لموريتانيا تغيرات مستمرة؛ بسبب الملابسات والضغوط، التي أحاطت بها، فقد اعتبرت موريتانيا من الدول الدائرة في فلك الغرب، بصفة عامة، وفرنسا بصفة خاصة، ونتج عن ذلك أن معظم الدول العربية أيدت المطالب المغربية على موريتانيا في بداية استقلالها ، حيث كانت مشكلة الصحراء الغربية من العوامل، التي أحدثت تغيرات هامة في سياسة موريتانيا الخارجية

ولذلك بدأت موريتانيا خطواتها الأولى نحو الحكم الذاتي والاستقلال، وهي تواجه الدعوى المغربية باستكمال سيادته على الأراضي المغربية بالمفهوم التاريخي. وباستيلاء المغرب على إقليم طرفاية عام 1958، اقتربت الحدود المغربية من موريتانيا، إلا أنه لم يكن هناك حدود مشتركة، بل ظلت الصحراء الأسبانية ـ الغربية ـ تفصل بين الدولتين.

خلال الفترة من 3-5 سبتمبر 1958، عُقد مؤتمر موريتانيا والصحراء في الرباط، أعلن فيه الولاء للملك محمد الخامس، وكذلك تم اعتبار موريتانيا والصحراء جزء لا يتجزأ من المغرب، كما بدأت المغرب عرض الحجج القانونية والدبلوماسية والتاريخية، التي يستند إليها في مطالبه. وانحصر تفسير موريتانيا لهذه المطالب، في المطامع المغربية تجاه الثروات الموريتانية، واتسمت هذه الفترة بأن المغرب جعل مطالبه على موريتانياً محوراً لسياسته الخارجية. وردت موريتانيا على الدعوى المغربية بأنها لم تكن خاضعة يوماً للمغرب، فالمؤرخون، الذين تعرضوا لحدود المغرب جغرافياً وسياسياً

لم يدخلوا موريتانيا داخل تلك الحدود، كما أن موريتانيا لم تكن يوماً تعرف بالمغرب ولا تدخل تحت اسمه، وإنما هي معروفة، منذ زمن بعيد، باسم بلاد الشنقيط ، بينما كان المغرب الأقصى يعرف باسم مراكش، كما أن موريتانيا تفصلها عن المغرب صحراء كبيرة فاصلة تمتد ألف وخمسمائة كيلومتر، مما يصعب معه الاتصال بينهما. وبعرض هذه المشكلة على الأمم المتحدة قبيل استقلال موريتانيا، انقسم الرأي بين مؤيد للدعاوى المغربية ومعارض لها ، إلا أن موريتانيا انضمت إلى الأمم المتحدة، في 19 أبريل 1961، وبذلك ازدادت المشكلة تعقيداً بالنسبة إلى المغرب، بعد أن أصبح لموريتانيا كيان سياسي وقانوني، ولذلك اعترف المغرب بموريتانيا عام 1970.

استأثرت مشكلة الصحراء الغربية باهتمام موريتانيا، على رغم المشاكل، التي تعرضت لها منذ استقلالها، وما من شك في أن مستقبل الصحراء، يهمها أهمية بالغة؛ إذ إن الميناء الموريتاني، بورت أتبين، يتاخم الحدود الموريتانية مع الصحراء الأسبانية؛ كما أن الخط الحديدي الموريتاني، القـادم إلى بورت أتبين، يجاور الحدود القائمة بين موريتانيا والصحراء. وكانت موريتانيا، من ناحية أخرى، تخشى أن تتنازل أسبانيا للمغرب، عن الصحراء، مقابل أن يتوقف المغرب عن مطالبته بمدينتَي سبتة ومليلة ـ الخاضعتين لأسبانيا

ومن ثَم، ما فتئت السلطات الموريتانية، تؤكد أن أهالي الصحراء الأسبانية، من البدو، هم امتداد للقبائل الموريتانية. كما أن العلاقات، العرقيـة والثقافية، قوية بينهم وبين معظم القبائل الموريتانية في الجنوب؛ لذلك، كانت موريتانيا تطالب بضم جزء منها، إِنْ لم يكن كلها، أو على الأقل بحق تقرير المصير لسكانها. إلا أنها فضلت عدم مجابهة أسبانيا بمطالبها في الصحراء، ولذلك ظلت هذه المشكلة محل صراع بين أسبانيا والمغرب حتى بداية الستينيات، حين اتخذت مشكلة الصحراء إطاراً تنافسياً بين المغرب وموريتانيا داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومع زيادة حدة النزاع، طالبت الأمم المتحدة، في 20 ديسمبر 1966 القوة الحاكمة، وبالتعاون مع الحكومة المغربية والموريتانية، باتخاذ الإجراءات اللازمة لتنظيم استفتاء، يتم تحت إشراف الأمم المتحدة، حتى يمكن للسكان المحليين ممارسة حقهم في تقرير المصير . وتأجل إعلان الاستفتاء حول تقرير مصير شعب الصحراء

حتى يتم الاتفاق مع أسبانيا على تسليم السلطة ، ولم تستطع الحكومة المغربية، في هذه الظروف، تجاهل موريتانيا بشأن مطالبها هي الأخرى في مسألة الصحراء؛ ولذلك ساومت الحكومة المغربية أسبانيا، حتى عام 1970، على أن تتنازل أسبانيا عن الصحراء بكاملها للمغرب، في مقابل احتفاظها لأسبانيا بامتيازات اقتصادية وعسكرية، إلا أن أسبانيا رأت أن لا تنفرد المغرب بالصحراء في حالة خروجها منها، بل تشاركها موريتانيا في ذلك .

بقبول المغرب لمبدأ تقرير المصير للشعب الصحراوي، على أساس تخييرهم بين البقاء تحت الاحتلال الأسباني، أو العودة إلى الوطن المغربي، قدمت موريتانيا مذكرة للأمم المتحدة في 20 أغسطس 1974، أوضحت فيها أن تقرير المصير ينبغي أن يشمل اختياراً ثالثاً، وهو عودة الصحراويين إلى الوطن الموريتاني. وفي الوقت ذاته أدركت موريتانيا صعوبة مواقفها في مواجهة كل من المغرب والجزائر، ولذلك رأت ضرورة تنسيق خططها وأهدافها مع المغرب، فوافقت على عرض النزاع ـ القضية ـ على محكمة العدل الدولية، وبذلك استطاع الملك الحسن الثاني كسب الوقت اللازم للقيام بخطوات دبلوماسية وتنسيق الجهود بين سكان الصحراء، وكذلك مع موريتانيا، فوضعت الخطوط العريضة لتقسيم الصحراء بين المغرب وموريتانيا، خلال اتفاق بين المختار ولد داده والحكومة المغربية، في ديسمبر 1974.

لكن العديد من الدول لم تتوقع أن تنتهي مشكلة الصحراء بتسليم السلطة إلى كل من المغرب وموريتانيا، من دون إجراء استفتاء حول تقرير المصير، ووضح ذلك من معارضة معظم أعضاء منظمة الوحدة الأفريقية لهذا التقسيم، وطالبوا بحق تقرير المصير. وفي أكتوبر 1975 أصدرت محكمة العدل الدولية رأيها الاستشاري بشأن إقليم الصحراء، والذي أكد أنه كان يحتوي على منطقتي نفوذ، إحداهما موريتانية والأخرى مغربية، وكان هذا الرأي حجة لكل من المغرب وموريتانيا كي تواصلا جهودهما لتجنب فكرة الاستفتاء، والاتفاق مع أسبانيا مباشرة، على تسليمهم السلطة، ومع إقدام أسبانيا على تسليم السلطة في الصحراء، إلى كل من المغرب وموريتانيا

في 27 نوفمبر 1976، وافقتا على اتفاقية التقسيم، التي بمقتضاها، تحصل موريتانيا على الثلث الجنوبي للصحراء، وادي الذهب، إلا أن هذه المنطقة كانت تضم حوالي 15-20 ألف نسمة، كما أن هذه الاتفاقية قد تعرضت لانتقادات شديدة في منظمة الوحدة الأفريقية .

لقد كان واضحاً أن المشكلات، التي نجمت عن ضم الصحراء، قد أثرت على موريتانيا، فأثارت المشاعر والحماسة الوطنية بتوحيد الأراضي الموريتانية، كما حققت موريتانيا العديد من المزايا الاقتصادية، إضافة إلى تقليل مسافة السكك الحديدية، التي تربط بين مناجم الحديد في الداخل وحتى نواذييبو، إلا أن موريتانيا، بضمها هذا الجزء، قد واجهت أعباء عسكرية كبيرة ، فخصصت حوالي 25% من ميزانيتها العامة لأغراض الدفاع، وهذا أثر على خطط التنمية

خاصة أن الاستعمار الأسباني قد عمد إلى إغفال النواحي الثقافية والتعليمية والصحية في هذه المناطق، كما لم تكن هناك سياسة لاستثمار ثروات إقليم الصحراء، ولذلك وجب على موريتانيا بذل الجهود لدمج الصحراء في الوطن الموريتاني. لكن بعد قيام الجمهورية العربية الصحراوية، دفعت اتفاقية سلام بينها وبين موريتانيا في أغسطس 1979، اعترفت فيها موريتانيا بالحقوق الوطنية لشعب الصحراء، وتعهدت بإعادة منطقة تبريز، وهي القطاع الذي كانت تسيطر عليه موريتانيا منذ عام 1975، كما أعلنت موريتانيا إلغاء الاتفاقية الخاصة بالصحراء، والتي كانت قد وقعتها مع المغرب، وأعلنت تخليها عن المطالبة بأي حق في الصحراء الغربية .

11. موقف الجزائر من مشكلة الصحراء الغربية

تستند وجهة النظر الجزائرية إلى القرارات، التي أصدرتها لجنة تصفية الاستعمار التابعة للأمم المتحدة، والتي تمثلت في أن تضمن الجمعية العامة حقوق شعب الصحراء، وأن السلطة الحاكمة مسؤولة عن توجيه شعب الصحراء إلى الاستقلال، وممارسة حقه في تقرير المصير، من خلال استفتاء تنظمه السلطة الحاكمة، أسبانيا، بالمشاورة مع المغرب وموريتانيا والجزائر، على أن يتم هذا الاستفتاء تحت مراقبة وإشراف هيئة الأمم المتحدة

وحين أخطرت الحكومة الأسبانية الجمعية العامة للأمم المتحدة، أنها سوف تقرر إجراء استفتاء تقرير المصير، خلال النصف الأول من عام 1975، كان رد فعل كل من المغرب وموريتانيا بمطالبتهما بالصحراء، باعتبارها جزءاً من أراضيهما، إلا أن الجزائر اعترضت على أي إجراء سيتخذ خارج هيئة الأمم المتحدة .

وإزاء الاتفاق الثلاثي، الذي تم توقيعه بين موريتانيا والمغرب وأسبانيا، في نوفمبر 1975، رأت الجزائر أن هذا الإجراء يعد إنكاراً للالتزامات الرسمية من قِبَل أسبانيا تجاه شعب الصحراء، كما يعد خرقاً للاتفاقات، التي وقعت عليها كل من المغرب وموريتانيا، والخاصة بموافقتهما على قرارات الأمم المتحدة، حيث رأت الجزائر أنهما تجاهلتا وجود شعب الصحراء.

إثر توقيع الاتفاقية الثلاثية في مدريد، تغير الموقف الجزائري تجاه المشكلة، فرأت وجود عواقب خطيرة ستؤثر على مصير الشعب الصحراوي ووحدته القومية، مما سينعكس سلباً على الأمن والاستقرار في المنطقة، وكان من آثار هذا الاتفاق كذلك تخلي أسبانيا عن مسؤولياتها، وهذا ما اعتبرته الجزائر مخالفاً للقرارات، التي أصدرتها الأمم المتحدة بشأن الصحراء الغربية، وكانت مساعي الجزائر تتوافق مع الموقف الدولي الممثل في الأمم المتحدة، ومجموعة دول عدم الانحياز، والموقف الإقليمي، من خلال منظمة الوحدة الأفريقية.

ومنذ 20 ديسمبر 1966 تعددت قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكذلك قرارات منظمة الوحدة الأفريقية، وكانت تؤيدها وتوافق عليها الجزائر ، وبدأت عملية التشاور بين المغرب وموريتانيا والجزائر، في عام 1969؛ لتنفيذ قرارات الأمم المتحدة، كما عُقد لقاء قمة بين رؤساء الدول الثلاث، في 14 سبتمبر 1970 ـ قمة نواديبو ـ أكدوا فيه إصرارهم على إنهاء الوجود الاستعماري الأسباني في الصحراء، وأسسوا لجنة تنسيق ثلاثية كُلفت بمتابعة إجراءات تصفية الاستعمارالأسباني في الصحراء

وكذلك اجتمع زعماء الدول الثلاث، يوم 24 يونيه 1973 في مدينة أغادير بالمملكة المغربية، وأكدوا تمسكهم بحق تقرير مصير شعب الصحراء، وضرورة العمل على تطبيق هذا المبدأ، في إطار يضمن لسكان الصحراء التعبير عن إرادتهم، طبقاً لقرارات الأمم المتحدة .

على الرغم من عدم وجود مطالب إقليمية للجزائر في الصحراء، كانت تعترض على ضمها إلى المغرب، وذلك لأن وجود دولة مستقلة صغيرة، تقع بينها وبين المحيط الأطلسي، يجعل مرور مواردها أكثر سهولة مما لو أُلحقت بالمغرب، خاصة أن الخلافات الإيديولوجية بين البلدين قد تؤثر سلباً على إمكانيات التعاون بين النظم السياسية القائمة، ولذلك أيدت الجزائر جبهة تحرير الصحراء

وتمسكت بتطبيق حق تقرير المصير لسكان إقليم الصحراء، بالإضافة إلى أنها ترفض الموافقة على أي حل لا تشارك في الإعداد له، بصفتها طرفاً من الأطراف المعنية وذات مصلحة. وفي مارس 1975، أجرت الجزائر اتصالات مع المغرب، وتوصلتا إلى اتفاق يقضي بموافقة المغرب على اتفاق ترسيم الحدود فيما بينهما، والموقع عام 1972، وبذلك تكون المغرب قد تخلت عن مطالبها الإقليمية في الأراضي الجزائرية، مقابل أن تعلن الجزائر عدم وجود أهداف إقليمية لها في الصحراء الغربية ، ولكن بعد أن أعلن في 14 نوفمبر 1975 عن توصل كل من المغرب وموريتانيا وأسبانيا إلى اتفاق ـ إعلان مبادئ ـ على تحويل السلطات إلى المغرب وموريتانيا، اعتبرته الجزائر انتهاكاً لقرارات مجلس الأمن، ومعيباً للمعطيات الأساسية التالية:

أ. أن مسار تصفية الاستعمار في الصحراء الغربية، كما حددته الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ عام 1965، أكدته محكمة العدل الدولية، وتقرير بعثة الأمم المتحدة عن إقليم الصحراء، وأثبت ذلك صحته.

ب. بما أن الصحراء الغربية بلد غير مستقل، فإن أسبانيا هي الدولة الحاكمة والمسؤولة أمام الأمم المتحدة عنه، ولا يحق لها أن تحيل مسؤولياتها إلى غير شعب الصحراء صاحب السيادة، وإن الأمم المتحدة هي التي تتولى الحفاظ على هذه السيادة.

ج. لا تقر الحكومة الجزائرية شرعية اتفاقية مدريد، بل تعتبرها باطلة وغير مقبولة، لأن حكومات أسبانيا والمغرب وموريتانيا لا يحق لها التصرف إطلاقاً في التراب الصحراوي وفي مستقبل شعبه .

أدت الاشتباكات المسلحة بين الجزائر والمغرب، في أوائل عام 1976، والتي تمت بالقرب من الحدود الجزائرية بين وحدة عسكرية مغربية والقوات الجزائرية، إلى احتلال القوات المغربية لمدينة المغلا، وبعد احتواء حدة هذا الصراع، صعدت الجزائر من تأييدها المادي والعسكري لجبهة البوليساريو، خاصة بعد إعلان تقسيم الصحراء الغربية بصورة رسمية بين المغرب وموريتانيا، والتجأ زعماء الحركة، ومن بينهم العديد من أعضاء مجلس الصحراء المحلي، إلى الجزائر

حيث أعلنوا اعتراضهم على هذه الاتفاقية. وعلى رغم المعارضة الشديدة، التي أبداها زعماء جبهة البوليساريو، فإن المغرب بدأ في تنفيذ الاتفاقية بقوات مسلحة متفوقة، وذلك بإحلال قواته تدريجياً محل القوات الأسبانية.

 

ترى الحكومة الجزائرية أن المغرب له مطامع بإنشاء إمبراطورية كبرى، من خلال ضمها أجزاء من الجزائر ومالي، إضافة إلى الصحراء الغربية، والجمهورية الموريتانية، حتى تصل إلى مصب نهر السنغال، كما أن الحكومة المغربية تتستر خلف مبدأ السلامة الإقليمية حتى تحقق هدفها ببناء المغرب الكبير في إطار الحدود، التي يطالب بها، لذلك فإن عملية ضم الصحراء ما هي إلا خطوة أولى لتنفيذ هذا المخطط المغربي. وتحلل الحكومة الجزائرية سياسة المملكة المغربية تجاه مشكلة الصحراء الغربية كالآتي :

أ. سياسة التوسع على حساب الشعوب الأخرى.

ب. إعطاء تفسيرات خاصة لمبدأي تصفية الاستعمار وتقرير المصير، ويتمثل ذلك في مطالبتها بتطبيق مبدأ الوحدة الإقليمية، الذي يترتب عليه إلحاق الصحراء الغربية بالوطن المغربي.

ج. عدم الاعتراف بجبهة البوليساريو واعتبارها حركة غير شرعية، لا تمثل سكان الصحراء الغربية.

د. عدم الاعتراف بالحدود الموروثة عن الاستعمار، كما تنص مبادئ منظمة الوحدة الأفريقية.

نشطت الدبلوماسية الجزائرية، وتركزت على محاولة إقناع المجتمع الدولي بضرورة العدول عن التسوية، التي تم التوصل إليها، وتطبيق مبدأ حق تقرير المصير على الشعب الصحراوي، من خلال تكثيف الحملات الدبلوماسية لدى الدول والمنظمات؛ لدفعها إلى الاعتراف بالجمهورية العربية الصحراوية الديموقراطية، وكذلك التركيز العسكري على موريتانيا، من خلال تكثيف عمليات جبهة البوليساريو، في محاولة لإرغامها على العدول عن موقفها.

وإزاء الضغوط الجزائرية وهجمات قوات جبهة البوليساريو، وبسبب سوء الأوضاع الداخلية أيضاً، اضطرت موريتانيا إلى توقيع اتفاقية مع جبهة البوليساريو في 5 أغسطس 1979، تنازلت بموجبها موريتانيا عن مطالبها بالصحراء الغربية. وبانسحاب القوات الموريتانية من الصحراء، قامت القوات المغربية بالدخول إلى الجزء الخاص بالجمهورية الموريتانية، وبهذا أصبحت الصحراء الغربية كلها تحت السيطرة المغربية

وهذا ما دفع الجزائر إلى توسيع الحملة الدبلوماسية، التي تشنها على المملكة المغربية، خاصة أن الحضور الدبلوماسي المغربي في القارة الأفريقية ضعيف، فاستغلت الجزائر هذا الضعف لصالحها، وذلك بفرض رؤيتها على الساحة الأفريقية.