الأكراد والمشكلة الكردية .. حقائق جغرافية وتاريخية هامة
الاكراد والمشكلة الكردية

 الأكراد شعب من الشعوب الإسلامية، متميز في العرق واللغة عن جيرانه. وارتبط بهم بعاملَي الدين والتاريخ المشترك. وجاءت القوى الدولية، التي مزقت شمْل الإمبراطورية العثمانية، لتمزق الشعب الكردي ووطنه، بين خمس دول، هي: تركيا والعراق وإيران وسورية وأرمينيا.وتتسم قضية الشعب الكردي بقدر كبير من التعقيد، إذ تتداخل فيها الأبعاد، الاقتصادية والسياسية والعِرقية. فضلاً عن تعدد الأطراف والموضوعات، المتعلقة بهذه القضية، على نحو جعلها إحدى الأوراق الضاغطة، التي يستخدمها أطراف الصراع في هذه المنطقة.

ويُعَدّ الوجود الكردي، في كلٍّ من إيران وتركيا والعراق، مشكلة كبرى. أما في كلٍّ من سورية وأرمينيا، فهو وجود هامشي، إلى درجة لا تجعله يمثل مشكلة.

وقد عجزت تلك الدول عن إيجاد آلية سياسية، تستوعب الأكراد وتفاوتت أساليب التعامل معهم، بين إنكار تام للتمايز، كما هو الحال في تركيا وإيران، والاعتراف لهم بنوع من الحكم الذاتي، كما في العراق. وتحولت المشكلة الكردية إلى صراع مسلح، في كلٍّ من تركيا والعراق، على مدى سنوات طويلة، راح ضحيته مئات الألوف من الأرواح وعانى الشعب الكردي، خلاله، معاناة بالغة، فشُردت الأُسر الكردية، وهُجرت من مدنها وقراها، وضُربت بالغازات السامة.

وتكبدت بغداد وأنقرة خسائر مادية وبشرية كبيرة، واستُنزفت مواردهما، وحُرمتا من الاستقرار والأمن. ولم تتوصل الدولتان إلى حل جذري للمشكلة الكردية، فرأى العراق حلها بقانون الحكم الذاتي، ورأت تركيا الخيار العسكري حلاً لمشكلة الأكراد في بلادها.ولا تزال هذه المشكلة تراوح مكانها، من دون حل، بسبب المصالح الإقليمية والدولية.

الاكراد والمشكلة الكردية
الاكراد والمشكلة الكردية

الأكراد والمشكلة الكردية ..حقائق جغرافية وتاريخية

أولاً: كردستان

تتكون كلمة كردستان من مقطعين: “كُـرد أو “كورد”، أي الأكراد، و”إستان” أو “سِتان”،أي أرض أو منطقة أو بلد، إقليم، باللغة الفارسية. ولذا فإن كردستان، أو كوردستان، تعني “بلاد الأكراد”.

وهذا التعبير غير معترف به دولياً، أو قانونياً، ولا يستعمل في الخرائط، ولا يكتب في الأطالس الجغرافية”.

1. الموقع

لم تشكل كردستان بلداً مستقلاً، ذا حدود سياسية معينة، في يوم ما، على الرغم من أنه يسكنها شعب متجانس، عِرقاً.

إن تعيين حدود كردستان، التي يطالب بها الأكراد، يُعد مشكلة سياسية، شديدة الحساسية، لأنها، اليوم، جزء من أربع دول في الشرق الأوسط، هي: تركيا وإيران والعراق وسورية. ويعُد كل دولة من هذه الدول الجزء الواقع فيها، من كردستان، جزءأً من ترابها القومي، لا مجال للمساومة به.

ولقد اختلف الباحثون، قديماً، في تحديد كردستان، جغرافياً. فقصد بها اليونانيون والسريانيون، البلاد التي يسكنها الكاردوخيون، وتقع في الجبال بين ديار بكر ونصيبين وزاخو.

وأطلق الكتاب العرب عليها اسم “إقليم الجبال”، ويقصدون بها المنطقة الواقعة شمال غربي إيران حتى أورمية، ممتدة من سهل العراق حتى الصحراء الإيرانية الكبرى، مشتملة على منطقة جنوب شرقي آذربيجان. وقد سمى المؤرخون العرب هذه المنطقة، فيما بعد، “العراق العجمي” أو عراق العجم، تمييزاً له عن العراق العربي، أو عراق العرب، وهو منطقة السهول.

وظهرت كلمة “كردستان”، كمصطلح جغرافي، أول مرة، في القرن الثاني عشر الميلادي، في عهد السلاجقة، عندما فصل السلطان السلجوقي سنجار (المتوفى عام 552هـ/1157م ) القسم الغربي من إقليم الجبال، وجعله ولاية تحت حكم قريبه سليمان شاه، وأطلق عليه اسم كردستان. وكانت هذه الولاية، تشتمل على الأراضي الممتدة بين آذربيجان ولورستان (مناطق سِنّا، دينور، همدان، كرمنشاه … إلخ)

إضافة إلى المناطق الواقعة غرب جبال زاجروس، مثل شهرِزور وكوي سنجق. واستخدم هذا المصطلح في المؤلفات، في العصر السلجوقي، كذلك، أول مرة، في كتاب “نزهت القلوب”، الذي ألّفه، بالفارسية عبد الله المستوفي القزويني، عام740هـ (بين أعوام 1335م ـ 1340م)، إذ يقول: ” تتألف كردستان من 16 ولاية. وهي ذات مناخ معتدل. وتتاخم ولايات العراق العربي وخوزستان والعراق العجمي وآذربيجان وديار بكر”.

وقد حدد الأمير شرف خان البدليسي بلاد كردستان، في كتابه “شرفنامه” الذي ألّفه عام 1586، بالحدود التالية:

“ويبتدئ حدّ بلاد الكرد (كردستان) من ساحل بحر هرمز (الخليج الفارسي)، المتفرع من المحيط، على خط مستقيم، ممدود من هناك إلى آخر ولايَتي ملطية و مرعش. فيكّون الجانب الشمالي لهذا الخط ولايات فارس، والعراق العجمي، وآذربيجان، وأرمينية الصغرى وأرمينية الكبرى. ويقع في جنوبه العراق العربي، وولايتا الموصل وديار بكر”.

وكتب الرحالة التركي، أوليا جلبي في كتابه “سياحت نامه” (توفي في حدود 1093هـ/1682م)، بعد تجواله في جميع أرجاء كردستان، يقول: “إن ولايات أرضروم ووان وحكاري وديار بكر والجزيرة والعمادية والموصل وشهرِ زور وأردلان، تؤلِّف بمجموعها كردستان، التي يستغرق قطعها 17يوماً”.

ويبدو أن هذا المصطلح، قد عمم، فيما بعد، حتى شمل جميع الإمارات الإقطاعية الكردية، في تركيا وإيران.

أما في العصر الحديث، فقد حدد أدموندز (C.J. Edmonds)، كردستان، على النحو التالي: “تتبع الحدود، في الشمال، الخط الممتد من إريفان وأرضروم وآذربيجان. ثم تمتد، في قوس، خلال مرعش، نحو حلب. وتمتد، غرباً، مع سفوح الجبال، حتى نهر دجلة. ثم تتجه شرقي مجرى النهر.

ثم تسير إلى الشمال، قليلاً من جبال حمرين، حتى الحدود العراقية – الإيرانية قرب مندلي. وفي إيران، أي الجهة الشرقية، فتمتد حدود الأكراد في إتجاه جنوبي شرقي، تبدأ من إريفان (يريفان في أرمينيا)، ومشتملة على ماكو وجزء من كوي ورضائية (على بحيرة أورمية) ومهاباد (سابلاخ أو صاوجبلاق) وصاقز وسِنّا، حتى كرمنشاه. ويكوّن الطريق الممتد من كرمنشاه إلى كرند، ثم إلى مندلي، حدّاً فاصلاً بين الأكراد الحقيقيين وأقربائهم اللور (اللاخ)، الذين يُعَدون، أحياناً، من الكرد”.

ولئن كان تحديد إقليم كردستان، صعباً، فإنه، في الإمكان تحديد المنطقة، التي يقيم بها الأكراد، بكثافة، مع الأخذ في الحسبان، أنه لا يمكن عَدّ أي أرض، يقيم بها مجموعة من الأكراد، جزءاً من كردستان، فقد تعرضوا لهجرات وعمليات تهجير واسعة، منذ القرن الماضي وحتى الآن. فهم يشغلون 19 ولاية من الولايات التركية، البالغ عددها 90 ولاية، وهذه الولايات، تقع في شرقي تركيا وجنوبيها الشرقي وهي: أرزنجان ـ أرضروم ـ قارص ـ ملاطية ـ تونجالي ـ ألازيغ ـ بينجول ـ موش ـ آغري (قرا كوسه) ـ باطمان ـ آدي يمان ـ ديار بكر ـ سعرت (سيرت) ـ بيتليس ـ (بدليس) ـ وان ـ أورفا ـ ماردين ـ حكّاري (جولامريك) ـ شرناخ. كما يوجد عدد كبير منهم في ولايتَي سيواس وأنقرة، وفي مستوطنات قرب أضنة.

أما في إيران، فالأكراد يحتلون، بصورة مطلقة، شمالي غربي إيران، في ولايات: آذربيجان الغربية، إلى الشرق من بحيرة أورمية (رضائية) ومناطق ماكو، قطور، شاه بور. وفي جنوب البحيرة، منطقة مهاباد (أو صابلا) وولاية كردستان (أردلان)، وعاصمتها سِنّا أو سننداج. ومناطق بوكان، صاقز، سردشت، بانه، بيجار (جروس)، مريوان، هورامان. وولاية كرمنشاه وقصر شيرين. وهناك مناطق كردية معزولة في خراسان وفارس وكرمان.

وفي العراق، يتركز الأكراد في الألوية الشمالية والشمالية الشرقية: لواء السليمانية ولواء أربيل ولواء كركوك ولواء الموصل، ومحافظة دهوك. وكذلك في منطقتَي خانقين ومندلي، من لواء ديالي (دياله) حيث يجاورون أكراد إيران، إلى الغرب من جبال زاجروس.

ولواء السليمانية لواء كردي بحت. وكذلك لواء أربيل، عدا عشيرة طي العربية، الساكنة في ناحية تكريت، وأُسر تركمانية في أربيل. أما لواءا كركوك والموصل، فيكاد يكون نصف سكانهما من الأكراد.

وفي سورية، يقيم الكرد بالشمال والشمال الشرقي، حيث يجاورون الأكراد في تركيا، ويشكلون حزاماً، عمقه 30 كم، وطوله 250 كم، في إقليم الجزيرة السورية (محافظة الحسكة)، وفي منطقتَي عين العرب (كوبانية) وعفرين (جبل الأكراد)، قرب حلب. ويسكن في دمشق نحو مائة ألف كردي، في حيِّ الصالحية. وفي حلب، بضعة آلاف منهم.

وفي أرمينيا، حول العاصمة يريفان، ونخجوان.

وفي آذربيجان، في منطقة قرا باغ.

كما يعيش الأكراد خارج الأقطار المذكورة، إذ توجد قبائل كردية في جورجيا وباكستان وبلوجستان وأفغانستان. أما اللور، الذين يعدّهم بعض الباحثين الأكراد من الشعب الكردي، فيشغلون ولاية لورستان، في إيران. كذلك ينتشر اللوريون في لواءَي العمارة والكوت، في العراق.

2. الجغرافية والطبيعة

كردستان منطقة جبلية، ذات حدود طبيعية، تقع بين درجتَي العرض 34° و39° ودرجتَي الطول 37° و46°.

تحدها من الغرب جبال طوروس والهضبة العليا لما بين النهرين، الجزيرة وجبال ماردين السفلى. أما في شرقيها، فتقع سلسلة الجبال الكردية، وذلك في الرقعة المحصورة بين بحيرتَي أورمية ووان. وفي الجنوبي الغربي، تقع جبال زاجروس.

وتبدأ حدود هذا الأقليم الجبلي، الواقع جنوبي جبال آغري (أو أرارات) في أرمينيا، من منتصف المسافة ما بين جنوب غرب بحر قزوين وجنوب شرق البحر الأسود، ممتدة داخل آذربيجان الإيرانية وجمهورية أرمينيا، وقسم كبير من شرقي الأناضول التركي. وتنحدر، جنوباً، حتى مشارف شبه الجزيرة العربية العليا، فشمالي العراق وشمالي شرقه، فالقسم الغربي من إيران. وتنتهي في الجنوب، بخط وهمي، يمتد من مندلي العراقية إلى كرمنشاه الإيرانية (اُنظر خريطة منطقة الأكراد “كردستان”).

والمساحة الكلية لكردستان تقدّر بنحو 409650 كم2. يقع منها 194400 كم2 في تركيا، و124950 كم2 في إيران، و 72 ألف كم2 في العراق، و18300 كم2 في سورية. ويبلغ طول كردستان، إذا قيست من الشمال إلى الجنوب ألف كم. أما معدل العرض، فهو 200 كم، في الجزء الجنوبي، ثم يتزايد، شمالاً، حتى يبلغ 750 كم.

إن أعلى جبال كردستان، هو جبل آغري الكبير (أو أرارات الكبير)، ويبلغ ارتفاعه 5258م. ثم جبل رَشكو، في منطفة جيلو ـ داغ، وارتفاعه 4168م. وآغري الصغير (أو أرارات الصغير)، وارتفاعه 3925م.

وعموماً، فإن كردستان برمّتها مرتفعة ارتفاعاً ملحوظاً، إذ يراوح ارتفاعها بين ألف و 1500م فوق مستوى سطح البحر. بل هناك مدن تقع على ارتفاع كبير، مثل بيجار، التي تعلو 1920م. وفي المقابل، ثمة مدن تقع على ارتفاع أقلّ، مثل أربيل، البالغ ارتفاعها 430م فوق سطح البحر، وتقع على تخوم الصحراء العراقية.

3. المناخ

يسود سهول كردستان مناخ شبه استوائي. ومعدل الأمطار، يراوح، سنوياً، بين 200 و400مم. أما الأراضي المنخفضة، المنحصرة بين سلاسل الجبال، فيراوح معدل الأمطار السنوي فيها بين 700 وألفي مم، وقد يصل، أحياناً، إلى ثلاثة آلاف مم. وهذه الأراضي، تغطيها الغابات، عادة. ويجري خلالها عدد من الأنهار والجداول. أما المناخ في وديان كردستان الوسطى، فهو قارّي، إلى حدّ ما، وقد يكون قاحلاً، إذ يراوح المعدل السنوي للمطر بين 300 و500مم.

ويبلغ الفرق بين درجتَي الحرارة، الدنيا والقصوى، 80 ْ مئوية، إذ تنخفض الحرارة في قرا كوسه، الواقعة في شمالي كردستان، إلى 30° ـ 35° تحت الصفر. وترتفع درجة الحرارة، في الصيف، في كردستان الجنوبية، إلى 35° ـ 45° ، في كرمنشاه، وإلى 40° ـ 45° في خانقين.

4. الأنهار

ينبع من جبال كردستان أربعة أنهار كبيرة:

أ. نهر آراس: يجري في إقليم بينجول، في تركيا، ويصب في بحر قزوين. ويبلغ طوله 920 كم.

ب. نهر دجلة: ينبع من بحيرة جولجوك (Golcuk)، في أواسط طوروس الجنوبية الشرقية، شمال مدينة ديار بكر، في تركيا ويصب في الخليج العربي.

ج. نهر الفرات: وينبع فرعه المسمى قرا صو، من دوملو تبه، شمال أرضروم. وينبع فرعه المسمى نهر مراد، من آلا داغ، الواقعة بين بحيرة وان وجبال آغري، في تركيا. ويلتقي الفرعان في شمالي غربي مدينة ألازيغ، ليكوِّنا نهر الفرات، الذي يخترق الأراضي، السورية والعراقية، ليصب في الخليج العربي.

د. نهر قيزيل أوزان: ينبع من جنوب غرب مدينة ديوان دَرَه، في إيران. ويجري في إقليمَي زنجان وميانه، ثم في جنوب مدينة رَشت، حيث يسمى سفيد رود، ليصب في بحر قزوين.

ومن أنهار كردستان، كذلك، الزاب الكبير، الذي يجري في تركيا والعراق. والزاب الصغير. وكلاهما يصب في نهر دجلة. وعموماً فإن المناطق الكردية، تمتلك مصادر وفيرة للمياه.

إن أكثر الأنهار والمياه، تنبع من المرتفعات الشمالية، كالفرات وفرعَيه، ودجلة وروافده. وهناك نهيرات عديدة، يصب بعضها في بحيرة وان، وبعضها الآخر في بحيرة أورمية، الواقعة في إيران، شرق البحيرة الأولى.

5. البحيرات

تقع في الجزء الشمالي الغربي من إقليم كردستان بحيرتان، هما: وان (Van)، ومساحتها 3765 كم2 وهي شديدة الملوحة، وأورمية، ومساحتها ستة آلاف كم2.

وتوجد بحيرة خامزار جولجوك (Golcuk) شمال دياربكر، عند منبع دجلة. وبحيرة زيفار في منطقة سِـنّا، قرب مه ريوان، في إيران.

6. الثروة المعدنية

يوجد النفط في منطقتَي، كركوك في العراق، وشاه آباد في إيران. كما يوجد الحديد في ديفريك في تركيا، والنحاس في إرجان في تركيا.

7. الزراعة

تحيط بكردستان الجبال الشامخة، من كل الجهات، سوى القسم الجنوبي الغربي. وأكثر الجهات صلاحاً للزراعة، هو القسم الجنوبي والجنوب الشرقي، حيث حوضي نهر دجلة ونهر الفرات وروافدهما، مثل الزاب الكبير والزاب الصغير ونهر الخابور.

وأعلى الجبال في كردستان، هي تلك الواقعة في الشمال الشرقي. وهي مكسوّة بالغابات الكثيفة، ومحاطة بأودية خصيبة. ولذا، فهي آهلة بالسكان، صيفاً وشتاءً، وحافلة بالقرى والمدن، بخلاف سلسلة الجبال، الفاصلة بين الحدود التركية والإيرانية، فإنها جرداء، لا غابات فيها، ولا كلأ، إذ تتكون من صخور بركانية صلدة، ذات أخاديد وهُوىً سحقية، مما يجعل اقتحامها مستحيلاً على أشد الجيوش بأساً.

ثانياً: أصل الأكراد

الأكراد شعب من الشعوب الإسلامية. ينتمي في أصله إلى أمة من الأمم العريقة، في منطقة الشرق الأوسط. ولا يزال هناك نقاش حول أصلهم، وإن كان أغلب الباحثين متفقين على أنهم ينتمون إلى المجموعة الآرية، الهندو ـ أوروبية، وأنهم أحفاد الميديين. وأصل تسميتهم بـ “كرد”، مختلف فيه، كذلك فهناك نظريتان:

الأولى، ترجع كلمة كرد إلى كلمة كوتو (kutu)، التي تربط الأكراد بشعب كوتو (kutu)، وهو من الأقوام التي عاشت في مملكة جوتيام (Gutium)، الواقعة على الضفة الشرقية لنهر دجلة وبين نهر الزاب ونهر ديالي. ويرى بعض الباحثين أن كلمة كوتو مأخوذة من الكلمة الأشورية Kurtu، وقد تطورت إلى شكلها الحالي، بانصهار حرف الراء (R) بعد الواو القصيرة (U)، أي أن كورتو أصبحت جوتو Gutu.ومثل هذا الانصهار، هو قاعدة لغوية، في أغلب اللغات الهندو ـ آرية.

وأما النظرية الثانية، فترجع التسمية إلى كلمة كيرتي Kyrtii أو سيرتي Cyrtii فتربط الأكراد بالكيرتي، وهم قوم كانوا يعيشون، أصلاً، في المنطقة الجبلية في غرب بحيرة وان. ثم انتشروا انتشاراً واسعاً في بلاد إيران وميديا، وبقية المناطق التي يقطن فيها الأكراد، اليوم. ويعتقد الباحثون أن كلمة كيرتي قد تطورت إلى كلمة كورتو Qurtu أو كاردو Kurrdu أولاً، ومن ثَم، إلى كلمة كورت Kurt، ثم إلى كاردوخي Kardouchi التي ذكرها، للمرة الأولى، القائد اليوناني زنفون (Xenephon).

ومن الباحثين من أرجع كلمة كرد إلى أصل فارسي، ويقصد بها إحدى صفاتهم، البسالة والشجاعة.

وينقسم الأكراد إلى أربعة شعوب رئيسية، هم: الكُرمانج والكوران (الجوران) واللور والكلهور.

وعلى العموم، فإن أصل الأكراد واسمهم من الموضوعات، التي لم يثبت فيها العلماء على رأي واحد حتى الآن.

1. عدد الأكراد ومناطقهم الحالية

لا توجد إحصاءات دقيقة لعدد الأكراد، اليوم، في الدول التي يتبعون لها، لأن بعض هذه الدول لا تعترف بالوجود الكردي على أراضيها، فلا تشير إحصاءاتها إليهم. كما أنهم يتعرضون لعمليات تهجير، وإعادة توطين في غير مواطنهم.

أما عددهم، فتقديراته تتفاوت تفاوتاً كبيراً. إذ قدر تقرير اللجنة، التي شكلتها عصبة الأمم، المنشور في 16 يوليه 1925، عدد الأكراد بثلاثة ملايين ومائتي ألف نسمة. وهم موزعون كالتالي:

أ. في تركيا مليون ونصف المليون نسمة.

ب. وفي إيران سبعمائة ألف نسمة.

ج. وفي العراق نصف مليون نسمة.

د. وهناك نصف مليون، موزعون في سورية وأرمينيا وغيرهما.

وقدر بعض الباحثين، ومنهم نيكيتين (Nikitine) وبروك (Brouk) وعبدالرحمن قاسملو وشريف الوانلي وأدموندز (Edmunds)- عدد الأكراد، في الستينيات (أُنظر جدول أعداد الأكراد وتقسيمهم في الستينيات)

ويقدر بعض الباحثين عدد الأكراد، اليوم، بأكثر من خمسة وعشرين مليون نسمة، ويعيش في تركيا نحو من نصف الشعب الكردي. ويتوزعون في دول المنطقة، كالتالي:

أ. في تركيا 13 مليون نسمة، أي 20% من سكانها.

ب. في إيران ستة ملايين نسمة، أي 10% من سكانها.

ج. في العراق أربعة ملايين ونصف المليون نسمة، أي 23 % من سكانه.

د. مليون واحد في سورية، أي 9% من سكانها.

هـ. هناك نصف مليون موزعون في أرمينيا وآذربيجان.

و. سبعمائة ألف نسمة في أوروبا الغربية، منهم أربعمائة ألف في ألمانيا، وحدها.

ويشترك مع الأكراد، في الموطن، مجموعة من الأجناس والقوميات الأخرى، مثل العرب والتركمان والآذريين والأشوريين والأرمن.

المتغيرات في المجتمع الكردي في بداية الألفية الثالثة، استناداً إلى تقديرات 2006

زادت أعداد المواطنين من أصول كردية، بنسبة كبيرة في الدول القاطنين فيها، وعلى سبيل المثال:

أ. فإن الأكراد في تركيا يقدر عددهم بحوالي 15 مليون كردى تقريباً، تمثل نسبة حوالي 20% من إجمالي الشعب التركي.. وهناك تقديرات تصل بأعداد الأكراد إلى نسبة تقارب حوالي 30%من الشعب التركي.

ب. يصل أعداد الأكراد في سورية إلى حوالي 1.5 مليون كردى، تمثل نسبة 9.7% من إجمالي الشعب السوري (برغم اعتبار الحكومة السورية أن حوالي 142465 كردياً من مواليد سورية لا تنطبق عليهم شروط المواطنة، ولا يحق لهم امتلاك جواز سفر سوري).(وهناك مصادر أخرى تشير إلى أن نسبة الأكراد فى سورية حوالي 4 % فقط).

ج. يمثل أكراد أرمينيا حوالي1.3% من تعداد السكان، وهم بذلك من الأقليات، ويصل عددهم إلى حوالي 39 ألف مواطن كردى.(وهناك مصادر أخرى تصل بأعدادهم إلى نصف مليون نسمة).

د. يمثل أكراد العراق نسبة حوالي 18 – 20% من الشعب العراقي، ويصل تعدادهم إلى حوالي 5.4 مليون نسمة.

هـ. يصل أعداد الأكراد في إيران إلى حوالي 6.2 مليون نسمة تمثل نسبة حوالي 7% من الشعب الإيراني.

و. على ذلك فإن إجمالي أعداد الأكراد التقريبية مع مطلع الألفية الثالثة هو حوالي 28.14 مليون نسمة موزعين على خمسة دول، وتجمعهم منطقة شبه متكاملة، ولكنها مقطعه الأوصال، حيث تخضع كل منها لسيطرة الدولة المقيم فيها الأكراد.

2. اللغة والأدب

تنتمي اللغة الكردية إلى مجموعة اللغات الإيرانية، التي تمثل فرعاً من أُسرة اللغات الهندو ـ أوروبية. وهو الذي يضم الفارسية والأفغانية والطاجيكية. وتضم اللغة الكردية ألفاظاً كثيرة، من العربية والفارسية وبعض المفردات التركية.

وتنقسم إلى لهجتَين رئيسيتَين، هما: الكُرمانجية والبهلوانية. ويتفرع منهما العديد من اللهجات المحلية. فتنقسم الكُرمانجية إلى الكرمانجية الشمالية، أو البهدينانية، والكُرمانجية الجنوبية، أو السورانية.

وتنقسم البهلوانية إلى الكوراني (الجوراني Gurani)، والزازا أو الديميلي.

وتتفرع عن اللهجات الأربع الأخيرة عشرات اللهجات، التي يسود كل منها في منطقة، أو قبيلة، أو قرية.

أ. تسود اللهجة الكرمانجية الشمالية، أو البهدينانية، في شرقي تركيا وجنوبيها الشرقي، وقسم من لواء الموصل، في العراق وشمال أورمية، في إيران، وفي أرمينيا وسورية. ويتكلم بها نحو نصف الشعب الكردي. ولذا، فهي اللهجة المشتركة بين الأكراد.

ب. اللهجةالسورانية، ويتكلمها حوالي ستة ملايين من الأكراد، القاطنين في العراق وإيران.

ج. تسود لهجة الزازا (ظاظا) في المنطقة المحيطة بولاية تونجالي (درسيم)، في تركيا. ويقدر عدد المتكلمين بها نحو 4.5 ملايين نسمة.

د. لهجة الكوراني، تسود في كرمنشاه، في إيران.

وهناك اختلاف بين هذه اللهجات إلى درجة تجعل التفاهم بين الأكراد صعباً .. بل إن اللهجات الكردية في الدولة الواحدة، هي مختلفة كذلك. ففي العراق مثلاً تختلف لهجات الأكراد باختلاف المناطق الثلاث، التي تؤلف كردستان العراق. وهي شمال الموصل في الشمال، وأربيل في الوسط، والسليمانية في الجنوب. فيجد الكردي البارزاني، القاطن في أقصى شمالي شرقي العراق، صعوبة في التفاهم مع أبناء لواء السليمانية، أو ديالي الشرقية، في أقصى جنوبي كردستان العراقية.

ومن هنا تنشأ الخلافات والصراعات القبلية وتبرز الخلافات الكردية/ الكردية في العديد من المناطق، نتيجة لاختلاف اللغة أساساً وهى:

أ. خلافات تسود في مناطق أربيل والسليمانية والتي تستخدم اللغة السورانية، مع بعض مناطق إيران الكردية المتاخمة، التي يتداول سكانها لغات أخرى.

ب. خلافات تسود في مناطق دهوك، ووسط أكراد سورية وأكراد تركيا، والذين يستخدمون اللغة الكرمانجية، تجاه بعض المناطق الأخرى.

ج. خلافات تنتشر بين أكراد تركيا وبعض أكراد سورية، (على الحدود الشمالية العراقية) من جانب، وبين أكراد العراق من جانب آخر حيث تسود اللغة “الظاظانية” والتي تقتصر عليهم في مواجهة باقي مناطق الأكراد.

د. خلافات مع أكراد إيران الذين يستخدمون “الفيليه” دون أكراد الدول المجاورة.

وسبب ذلك، أن كردستان بلاد جبلية، يحجز بعضها عن بعض سلاسل جبلية وعرة جداً، وأنهار عديدة، فضلاً عن حدود الدول، التي اقتسمتها. ولا ترتبط كردستان بخطوط مواصلات حديثة، تسهل اتصال الأكراد بعضهم ببعض. ولم تتألف منها وحدة سياسية.

وكانت اللهجة الكرمانجية هي السائدة في الأدب الكردي، حتى الحرب العالمية الأولى. ولكن بعد حظر استعمال اللغة الكردية، في كلٍّ من تركيا وسورية، أخذت لهجة السوراني تسود الأدب الكردي، الذي تسارع نموّه في العراق، بعد الاعتراف بوجود الأكراد، دستورياً.

وتكتب اللغة الكردية بالحروف العربية، في العراق وإيران. وتستعمل الحروف اللاتينية، في تركيا وسورية. أما في الاتحاد السوفيتي السابق (أرمينيا وآذربيجان)، فتستخدم الأبجدية الروسية، السيريلية.

إن عدم وجود حروف موحدة للكتابة باللغة الكردية، يؤثر تأثيراً سلبياً في تطورها، ويقف عقبة أمام توحيد اللغة الأدبية الكردية.

واللغة الكردية معترف بها، رسمياً، في العراق وأرمينيا (السوفيتية سابقاً). ويجري التدريس بها في المدارس الكردية. ولكنها ممنوعة في كلٍّ من تركيا وإيران وسورية، حيث يُمنع إصدار المطبوعات بها.

وللأكراد أدب شعبي غني، يتداوله الناس شفهياً. يحفل بأساطير وقصص وقصائد وأغانٍ، تحكي خلاصة تجارب الشعب الكردي وماضيه، بأمجاده وبطولاته وأحزانه ومآسيه.

ومن أبرز مَن كتب باللغة الكردية:

أ. علي الحريري، ولد عام 1009م، في بلدة حرير، الكائنة في أربيل، وله ديوان شعر.

ب. أحمد خاني (1650 ـ 1706)، وهو شاعر مشهور، من عشيرة خانيان، وصاحب ملحمة “زين ومم” الشهيرة. وهي شعر قصصي ألَّفه في مدينة بايزيد، عام 1591. وله كتاب في اللغتين، العربية والكردية، يسمى “نو بهار”. توفي عام 1652.

ج. الشاعر الوجداني مولوي (1815 ـ 1892م).

ومن شعراء الأكراد، في القرن العشرين: بيره مرد (1867 ـ 1950) وأحمد مختار (1897 ـ 1935) وبيِكَس (1905 ـ 1948).

ويُعَدّ هزار أشهر الأدباء الأكراد في إيران، وقدري جان في سورية، وشامو في الاتحاد السوفيتي السابق. وعبد الله كوران (توفي 1962) في العراق.

3. ديانة الأكراد ومذاهبهم

يعتنق الأكراد الدين الإسلامي. وأغلبهم من السُّنة، على المذهب الشافعي. وقليل منهم من الشيعة في إيران، في كرمنشاه ولورستان، وفي تركيا، في تونجالي (أو درسيم).

وهناك اليزيديون، في قضاء شيحان في الموصل، وفي جبل سنجار، غرب الموصل، وكذلك، في ديار بكر، في تركيا، وهم الذين يعبدون الشيطان، من بقايا الديانة الزرادشتية، بعدما خالطها تأثير، مسيحي وإسلامي.

ومن الأكراد علويون، وأتباع “العلي إللهي”، (الذين يؤلِّهون عليَّ بن أبي طالب)، وطائفة أهل الحق، ومنهم مسيحيون ويهود، كذلك.

والطرق الصوفية لها تأثير كبير في حياة الأكراد السُّنة، مثل الطريقة النقشبندية والطريقة القادرية. ولشيوخها نفوذ قوي بين الأتباع، خاصة في الأرياف. ويطلقون على العالم الديني لقب “مُلاّ”. وهؤلاء المشايخ يضطلعون بدور إيجابي، في حركات الأكراد وثوراتهم.

4. بعض خصائص الشعب الكردي

يتميز الشعب الكردي بالشجاعة والبسالة، حتى إن كلمة “كرد”، بالفارسية تعني الباسل والشجاع. وهم محاربون أشاوس، ذوو أنفة، لا يهابون التضحية بأنفسهم، في سبيل ما يعتقدون. نفوسهم تواقة إلى الحرية، لا تستكين للظلم والجور؛ إذ “العالم ملكٌ للشجاع”، كما يقول المثل الكردي. ولأن الطبيعة القاسية لا ترحم الكردي، فهو، كذلك لا يرحم خصمه، فالأخذ بالثأر والميل إلى الانتقام، يسيطران عليه. وكما تغلب على الأكراد الخشونة والقسوة، فإنهم يميلون إلى العزلة ويسيطر على نظامهم الاجتماعي النظام القبلي، العشائري، الإقطاعي، نتيجة لطبيعة بلادهم الجبلية الوعرة.

ولاء الكردي لقبيلته، أولاً، وقبل كل شيء. ولهذا، تكثر بينهم العداوات الناجمة عمّا ينشأ بين الزعماء من صراع. وشيخ القبيلة الإقطاعي “البيك” أو “الآغا”، سيد مطاع في أتباعه، لا ترَد له كلمة، وهو من كبار الملاك. ولقد قاد هؤلاء الشيوخ الثورات والحركات السياسية الكردية، على مدى تاريخهم.

يعمل الأكراد، أساساً، في الرعي والزراعة. ومع انتشار التعليم، ظهر بينهم مَن يقوم بأعمال حضارية راقية، مما أدى إلى تخفيف وطأة النظام القبلي الكردي.

لهم عادات وتقاليد مشتركة، يحافظون عليها، ويتعصبون لها. وتنتشر بينهم عادة أخذ الثأر. وهم متمسكون بواجباتهم الدينية، خاصة في القرى.

يحتفلون بيوم “النيروز” في 31 مارس. ويعدونه عيداً لرأس السنة لهم. كما هو الحال عند الإيرانيين.

يتسمى كثير من قادة الأكراد ومشايخهم بأسماء قبائلهم: الطالباني، بابان أو الباباني. أو بأسماء بلادهم: البارزاني نسبة إلى بارزان، سعيد بيران، من قرية بيران، شمدينان، نسبة إلى شمدينان. أو بأسماء الطرق الصوفية، التي ينتسبون إليها: النقشبندي، القادري، الخالدي.

تاريخ الأكراد حتى معاهدة سيفر (Sèvres) عام 1920

أولاً: موجز تاريخ الأكراد، حتى معاهدة سيفر (Sèvres) عام 1920

1. لمحة تاريخية

عاش الأكراد، طوال تاريخهم، تحت السيطرة الأجنبية، التي بدأت في القرن الخامس قبل الميلاد، حينما استطاع الإمبراطور الأخميني، سيروس، أن يدمّر، عام 550 ق. م، المملكة المسماة ميديا، التي يعُدها المؤرخون الوطن الأصلي للأكراد.

ثم خضعوا لحكم الإسكندر الكبير، الذي قضى على الأخمينيين، عام 330 ق.م. ثم خضعوا للأرمن (الأرسانيين)، خلال القرنين، الثاني والأول قبل الميلاد، ثم للدولة الرومانية حتى القرن الثالث الميلادي، ثم للأرمن الذين اختلطوا بالأكراد.

وتعاقب على حكْمهم الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية. وحكمهم الأرمن، مرات عديدة. وأخيراً، خضعت كردستان للدولة البيزنطية، التي اقتسمتها مع الإمبراطورية الساسانية، بين القرنين، الثالث والسابع، الميلاديين، إلى أن جاء الفتح العربي الإسلامي، في عام 18هـ / 640م، في عهد الخليفة الراشد، عمر بن الخطاب. وقضى المسلمون على الإمبراطوريتَين البيزنطية والساسانية معاً، فدخل الأكراد في الإسلام، وكانوا عوناً لأمتهم الإسلامية، في العصور التالية.

وفي الواقع، إن القبائل الكردية، لم تكن خاضعة لتلك الدول خضوعاً حقيقياً، بل كانت تعيش في شبه استقلال، معتصمة بجبال كردستان الوعرة. وظهرت إمارات كردية مستقلة، خلال فترات الحكم الإسلامي تحت حكم بعض الأُسر الكردية. ولم يسيطر أي من هذه الإمارات، بمفردها، سيطرة تامة على كردستان. ولم يحتفظ أي منها باستقلالها الحقيقي. وكثيراً ما كان يحتدم الصراع بين الأُسر الكردية الحاكمة.

وكانت الدولة الأيوبية إمارة كردية إسلامية، أسسها صلاح الدين الأيوبي، عام 1171م، وبسطت سيطرتها على مصر والشام وبلاد الرافدين. وخاضت حروباً مظفرة ضد الصليبيين في فلسطين، حتى تمكن صلاح الدين من القضاء على الدويلات الصليبية في بلاد الشام، مسجلاً أمجد الفصول في تاريخ الإسلام.

وينتمي صلاح الدين يوسف الأيوبي (توفي عام 589هـ / 1193م) إلى قبيلة راوند الكردية، التي استوطنت منطقة ديفين، الواقعة في إقليم يرفان (إريفان). ودام حكم الأيوبيين 81 سنة (1169م ـ1250م). وظل الأكراد، منذ ذلك الحين حتى الغزو المغولي، يضطلعون بدور مهم في خدمة الحكام غير الأكراد، بسبب ميزاتهم الحربية البارزة.

وخضع الأكراد، بعد ذلك، لحكم السلاجقة الأتراك، في عام 1051م، وخدموا في الجيوش السلجوقية، وتعرضت القبائل الكردية لفتن من الحكام المحليين، جعلتها تدخل في صراع بعضها مع بعض، وظلت هذه السمة بارزة في حياة المجتمع الكردي، إلى اليوم.

وجاء الغزو المغولي، عام 1231م، لينشر الدمار والهلاك في ديار الإسلام، ومنها كردستان. وتلا ذلك غزو القائد المغولي، تيمورلنك (تيمور الأعرج)، عام 1402م، فخضعت له بلاد الأكراد وسائر بلاد الأناضول. وألحقت هذه الغزوات الضرر الكبير ببلاد الأكراد وأشاعت الخراب فيها.

ومع مطلع القرن العاشر الهجري، السادس عشر الميلادي، اقتسمت العالم الإسلامي الدولة الصفوية الشيعية، الحاكمة في إيران، والدولة العثمانية السُّنية، الحاكمة في الأناضول.

دخل الأكراد في طاعة السلطان سليم الأول، بفضل مساعي الحكيم الكردي، مُلاّ إدريس البدليسي، وهو من أهالي تبطيس، مستشار السلطان الذي أرسله إلى أمراء كردستان لما له من النفوذ بينهم واعتراف بفضله وعلمه. فانضم هؤلاء إلى السلطان العثماني. واستطاع الأكراد والأتراك قهر قوات الصفويين، بقيادة إسماعيل شاه الصفوي (1502 ـ 1518) في معركة جالديران، الواقعة إلى الشمال الشرقي من بحيرة أرومية، في 23 أغسطس 1514 (920 هـ). ودعموا المذهب السُّني في وجْه المذهب الشيعي.

وكان من نتائج هذه المعركة اقتسام بلاد الأكراد، بين الدولتَين، الصفوية والعثمانية، وخضع القسم الأكبر منها للحكم العثماني. وجُدّد ذلك التقسيم في معاهدة، عقدت عام 1639م (1048 هـ)، بين الشاه عباس وبين السلطان العثماني مراد الرابع. وكانت لتلك المعاهدة أثرها في كل مجريات التاريخ الكردي، فيما بعد.

وبعد عام 1514م أصدر السلطان العثماني أوامره، إلى الحكيم الكردي، إدريس البدليسي، الذي يعمل مستشاره في الشؤون الكردية، أن يشكل الإقطاعات الكردية. وسعياً إلى توطيد الحدود التركية الجديدة، عمد المستشار الكردي إعادة توطين القبائل الكردية على امتداد الحدود، وأعفاها من الالتزامات كافة.

وتكللت جهود إدريس البدليسي بإصدار السلطان سليم الأول مرسوماً (فرمان)، يقضي بترك الإدارة في كردستان للأمراء، الذين يتوارثونها، وليس عليهم إلا أن يقدِّموا جيوشاً مستقلة، بإدارتهم، إلى الدولة، حينما تكون في حرب مع إحدى الدول الكبيرة. وعليهم أن يدفعوا إلى خزينة الدولة مبلغاً من المال، كل سنة.

وقد حدد ذلك الفرمان الحكومات الكردية بحكومات: أربيل وكركوك والسليمانية، وحصن كيف، وجزيرة ابن عمر، وحكاري وصاصون، والعمادية، وبيتليس. وكانت تلك الحكومات تسمى: إمارة بابان، إمارة سوران، إمارة بهدينان، إمارة بوتان. وكان هناك 16 إمارة معترفاً بها.

واعترف الفرمان لرؤساء هذه الحكومات، الذين أطلق عليهم لقب “دَرَه بيك” أي سيد الوادي، بحقوق وامتيازات متوارثة في أراضيهم ومناطق نفوذهم. كما أن الحكومة العثمانية، لم تكن تتدخل في شؤونهم الداخلية. ولقد أفلح الملا إدريس، بخطته هذه، في ضمان حماية الحدود التركية الشرقية، ضد أي غزو إيراني.

وشهدت الحقبة الواقعة بين عام 1514 والنصف الثاني من القرن التاسع عشر، نشوء مشيخات كردية، تتمتع بقدر من الاستقلال، في نطاق الإمبراطورية العثمانية، حتى إن بعضها أقام صِلات مع الشاه الإيراني والسلطان العثماني، في آن واحد.

وظل هذا الوضع حتى دخلت الإمارات الكردية تحت الحكم العثماني المباشر منذ عام 1847م.

ومع الوقت، تناست الحكومة العثمانية المتعاقبة اتفاقية الحكم الذاتي تلك وأزالت أكثر الحكومات الكردية، ولم يبقَ منها، في نهاية القرن السابع عشر، سوى حكومة اليزيديين، في سنجار، والمليين في ديار بكر، والزازا (ظاظا) في درسيم، وقد أصبحت تسمى “سنجق بك”.

وأعادت الدولة العثمانية، في عهد السلطان محمود الثاني، تنظيم أمور ولاياتها، فجعلت المنطقة الكردية ضمن ثلاث ولايات، هي: بغداد وديار بكر وأرضروم.

ولم تكن الإقطاعات والمشيخات الكردية متحدة، على الرغم مما تتمتع به من استقلال محدود، بل كانت في حروب مستمرة، الأمر الذي اضطرها إلى طلب المساعدة من شاه إيران، أحياناً، ومن السلطان العثماني، أحياناً أخرى.

2. أهم الإمارات الكردية

أ. الشداديون

أولى الأُسر الكردية، شبه المستقلة، التي ذكرها التاريخ، هي أُسرة بَنِي شداد. ومؤسسها محمد بن شداد بن قرطق، عام 340هـ / 951م. وحكمت مناطق كردستان، الشمالية الشرقية، واستمرت حتى عام570هـ / 1174م، حينما سقطت في يد الكرج.

ب. إمارة بَنِي حسنويه

أسّسها حسنويه بن الحسين البزركاني، رئيس إحدى القبائل الكردية، عام 348هـ / 959م، واستمرت نصف قرن حتى عام 406 هـ / 1015م تقريباً. وذاع صيت ذلك الأمير، وضم الجزء الأكبر من كردستان، الذي يشمل همدان ودينور ونهاوند وقلعة سرماج. وهاب البويهيون جانبه. وتولى، بعده، ابنه بدرالدين بن حسنويه، الذي قوي نفوذه، ومنحه الخليفة العباسي لقب “ناصر الدولة و الدين”. وقد قتل على يد رجاله، عام 405هـ ، وخلفه ابنه، ثم حفيده، حتى تخلص منهم البويهيون، عام 406هـ/1015م.

ج. المروانيون

عُرفت، في الفترة عينها، الأُسرة المروانية، التي أسّسها أبو عبدالله حسين بك دوستك، من أمراء أكراد العشيرة الحميدية، في آمد (ديار بكر)، الذي استولى على أرمينيا وأرجيش ثم على عدد من المدن. وضيّق عليه الحمدانيون، بينما كان يحاول الاستيلاء على الموصل، وقتل عام 380هـ .

وشملت هذه الإمارة بعض بلاد أرمينيا ومناطق موش وأرجيش وأورفة. واشتهر من حكام المروانيين الأمير أبو نصر أحمد، الذي تولى الحكم من قِبل الخليفة العباسي في بغداد، وذاع صيته في عصره، لعدله وقدرته. وحكم مدة 51 سنة. وقضى السلاجقة على هذه الإمارة، عام 489هـ / 1096م.

د. الشهرمانيون

خلفت الأُسرةَ المروانية الأُسرةُ الشهرمانية، التي حكمت ديار بكر وأرضروم، من سنة 1100م إلى سنة 1207م.

ثم قضى السلاجقة الأتراك على هذه الإمارة الكردية. ومن بعدهم، جاء الغزو المغولي الكاسح، الذي استمر حتى عام 1400م.

هـ. مملكة أردلان

كانت تمتد على طرفَي الحدود العراقية – الإيرانية (في لواء السليمانية، اليوم)، من جبال قرا داغ وأودية شهر زور وأصقاع أردلان (كردستان الإيرانية، في الوقت الحاضر)، التي كانت تقطن فيها قبائل الكلهور الكردية القديمة.

وكانت أُسرة بَنِي أردلان تحكم هذه المنطقة، منذ القرن الثاني عشر الميلادي، وعاصرت الحكم المغولي. واضطرتها الدولة الجلائرية في العراق إلى التخلي عن القسم الشمالي الشرقي من الإمارة. وفي القرن الخامس عشر استعاد الحاكم الأردلاني القسم الشمالي من بلاده، فأصبح نهر الزاب الكبير، من جديد، الحدود الشمالية لمملكته.

ودخلت هذه الإمارة تحت الحكم العثماني، بعد انتصار السلطان العثماني سليم الأول على الصفويين، في معركة جالديران، عام 1514. وبقيت أمور الحكم الفعلية في أيدي الأكراد. ولكن العثمانيين غزو إمارة أردلان، بوساطة والي حلب، عام 1538، وجعلوها ولاية عثمانية لفترة من الزمن.

وفي عام 1600، تبدل الوضع، فخضعت أردلان للشاه عباس. فتولى حكم الإمارة أحمد خان الأردلاني، بوصفه ملكاً من التابعين لشاه إيران. وطلب الشاه عباس من أحمد خان، عام 1605، إخضاع القبائل الكردية، في بيتليس والعمادية ورواندوز، لحكم الشاه. وبذلك استعاد الأمير الكردي ممتلكات أردلان القديمة. وانتهى حكم الأُسرة الأردلانية بغزو القائد العثماني، خسرو باشا، الذي قضى عليها، بعد معركة جرت في عام 1629.

و. إمارة بابان

بعد أفول الإمارة الأردلانية، ظهر في بلاد البشدر شخص، اسمه أحمد الفقيه، الذي أسس الأسرة البابانية. وعرفت قبيلة بشدر بنظامها الاجتماعي، الذي يقسمها إلى زعماء وعوام. وخلف أحمد الفقيه ابنه ماوند، الذي توسع نفوذه في شهر بازار وما جاورها. بيد أن المؤسس الحقيقي لأُسرة بابان، هو سليمان بك بن ماوند بن أحمد الفقيه. ففي النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي، كان سليمان بك الشخصية البارزة في شهرزور، وحل محل الأردلانيين في حكم المنطقة، عام 1694.

فاستعان الأمير الأردلاني بالإيرانيين، فأرسلوا جيشاً، دمر خصمهم الباباني، الذي اضطر إلى اللجوء إلى استانبول، حيث استقبل بحفاوة بالغة، ومنح سنجق بابان. إلا أن موته أدى إلى خلافات بين أبنائه، فتمزقت إمارته على أيدي الزنكية وقبائل أخرى.

واستطاع بكر بك، أحد أبناء سليمان بك، أن يستأثر بالسلطة، و يوسع رقعة إمارته، فشملت المنطقة الممتدة بين نهرَي سيروان والزاب الصغير، والهضاب الكائنة شرق طريق كفري ـ ألتون كوبري. وصار يضاهي حكام أردلان، الذين تفصلهم جبال هورامان.

وهاجم العثمانيون بكر بك بن سليمان بك بابان، في عام 1715م، فقتل في إحدى المعارك. وبذلك، رجعت المناطق البابانية إلى النفوذ العثماني المباشر، حتى ظهور خانه باشا بن بكر الباباني، عام 1730، الذي امتد نفوذه من كركوك حتى همدان، وحكم أردلان أربع سنين.

واكتسحت جيوش الإيرانيين، في عهد نادر شاه، كردستان الجنوبية، واستمر الحكم الإيراني من عام 1730 حتى عام 1743. وظهر من البابانيين مَن تعاون مع الإيرانيين، إذ سمحوا للأكراد بحكم شهر زور فقط. وهكذا نشأ ميل الأسرة البابانية إلى التعاون مع إيران، التي قدمت العون إلى البابابيين، ضد الولاة العثمانيين، في بغداد.

ثم تولى سليمان باشا إمارة بابان، أربع عشرة سنة متقطعة. وتوسعت مطامحه إلى أردلان، فغزاها، عام 1763، إلا أن الجيوش العثمانية، سحقت جيشه. ثم اغتيل عام 1765، وجرى صراع حول السلطة بين أبنائه الثلاثة، الذين خلفوه، وكان ولاؤهم يتذبذب بين الدولتَين، الإيرانية والعثمانية.

وعيّن عبد الرحمن باشا على إمارة بابان، ما بين عامَي 1789 و 1811. وأسدى خدمات جليلة إلى الدولة العثمانية، في تعقب الثائرين عليها، 1792، وفي تأديب اليزيديين، في سنجار عامَي 1794 و 1799. وأخضع الثائرين، في العمادية، وفي الفرات، عام 1805م.

وعلى أثر اختلافه مع والي بغداد العثماني، إلتجأ إلى إيران. ثم عاد إلى السليمانية، واشتبك مع العثمانيين، فدُحرت قواته من قِبل والي بغداد، سليمان الصغير، عام 1808، عند مدينة كفري، ثم عزله والي بغداد، عام 1811. وتوفي عام 1813.

في عام 1812، عادت العائلة البابانية إلى الثورة، إذ خرج أحمد باشا الباباني على العثمانيين، وانتصر في معارك عدة، وتقدم إلى أطراف بغداد، وكاد يستولي عليها، وأوشك أن يقضي على القوى العثمانية قضاءً مبرماً. لولا أن عاجلته المنية.

وتولى حكم إمارة بابان محمود بن سليمان باشا، واستمر حكمه عامَين. وعام 1816، عُيِّن عبدالله باشا، شقيق عبد الرحمن باشا، حاكماً على السليمانية، من قبل والي بغداد، سعيد باشا، وتداول الحكم مع محمود باشا. وتدخلت إيران، بحملاتها العسكرية، غير مرة، في كردستان الجنوبية. وكان حكم البابان على السليمانية عاملاً مهماً من عوامل استمرار الحرب بين الدولتَين العثمانية والإيرانية.

وفي عام 1850م، دخل القائد التركي، إسماعيل باشا، السليمانية، بقوة من الجيش، قضت على حكم البابانيين، الذي استمر مدة قرن ونصف القرن.

ز. الإمارة السورانية

إمارة صغيرة، نشأت في منطقة رواندوز، في القرن الثاني عشر الميلادي. أسسها رجل صالح، قدم من بغداد، واتخذ من قرية جوديان مقراً له. وكان له ابن، يدعى عيسى، ضم إليه بعض أراضي البابان، ونقل عاصمته إلى بلدة حرير. ضم السلطان سليمان القانوني هذه الإمارة إلى أربيل، بعد أن قتل أميرها، “المير عزالدين شير”، ونصّب عليها أميراً يزيدياً، عام 1534.

ولكن السورانيين استرجعوا إمارتهم، بعد عودة السلطان إلى استانبول. وحافظوا على استقلالهم، حتى عام 1730، حينما ألحقها البابانيون بإمارتهم، وصارت تابعة لهم.

وحينما دَب الضعف في أمراء البابان، في نهاية القرن الثامن عشر، بسبب الصراع الإيراني ـ العثماني، استعادت الإمارة السورانية وجودها، في مقرها الجديد في رواندوز، وصار لها عام 1810 كيان واضح، حين كان يحكمها مصطفى بك أوغوز، الذي تزوج من فتاة بابانية البابانيين لكي يعزز مركز إمارته.

وخلفه، عام 1826، ابنه محمد، الملقب “مير كور”، أي الأمير الأعمى، وأخضع لحكمه شيروان، وقبائل برادوست، في الشمال، وقلّل من نفوذ قبائل السورجية، وطرد الحاكم الباباني من حرير، واحتلها. وأقره والي بغداد، داود باشا، على حكمه. وأصبحت دهوك وزاخو من توابع إمارته العظيمة، واستولى على أربيل وألتون كوبري.

وقد اضطر والي بغداد، علي رضا باشا، في عام 1833، إلى الاعتراف به، ورفع مرتبته إلى “باشا”، إذ رأى فيه القوة الجديدة، التي يمكن استخدامها ضد الإمارة البابانية، ومقاومة أي زحف إيراني على العراق.

واشتهر الأمير مير كور بتنظيم الإدارة في إمارته، واستتب الأمر له فيها. وكان على جانب كبير من التقوى والصلاح، والتمسك بالشرع الحنيف، فحقق بين الناس العدالة، في دائرة الشريعة الإسلامية.

وهكذا أصبحت الإمارة السورانية، في منتصف القرن التاسع عشر، أقوى إمارة من إمارات كردستان قاطبة. ولم يبقَ أمام مير كور، للسيطرة على كردستان الجنوبية (العراقية) كلها، سوى القضاء على الإمارة البابانية، في السليمانية. وكان نمو الإمارة السورانية السريع، يثير وجل سليمان بابان وخوفه، فلجأ إلى الإيرانيين، على عادة البابانيين، وتعاون معهم على إرسال حملة عسكرية مشتركة، ضد مير كور، مما حدا أمير رواندوز على طلب النجدة من والي بغداد العثماني، فاستجيب طلبه، في الحال، مما اضطر الإيرانيين والبابانيين إلى أن إيقاف القتال.

ولم يلبث مير كور أن تعرض للخطر، من جانب العثمانيين، عندما قرروا القضاء على الإمارات الكردية، في أواخر القرن التاسع عشر. وبدأوا بانتزاع منطقة الشيخان، اليزيدية، من حكمه، ثم ثبتوا سلطانهم المباشر على نصيبين وماردين. وعلى الرغم من محاولة الإيرانيين دفع مير كور إلى إعلان الولاء لشاه إيران، إلا إنه لم يستجِب لهم، لاعتقاده أن في ذلك خيانة للمذهب السُّني، ولخليفة المسلمين.

وكان موقف مير كور يتدهور بسرعة، فسقطت ألتون كوبري وأربيل وحرير وكوي سنجق، في يد القوات العثمانية، بقيادة والي بغداد. وتقدمت القوات العثمانية في اتجاه رواندوز، وتخلى أعوان مير كور عنه، عندما صدر مرسوم (فرمان) سلطاني بعزله. وأدرك أن الأمور تتطور، بسرعة، ضده، فاستسلم، ونقل إلى استانبول، ثم قتل، عام 1838.

وعيَّن والي بغداد شقيق مير كور، المدعو “رسول”، حاكماً على رواندوز. وعندما حاول استعادة الحكم الذاتي الذي كان يتمتع به أخوه، تصدى له والي بغداد، بحملة عسكرية، فر على أثرها إلى إيران، عام 1846. وكان رسول هذا آخر حكام رواندوز، من الأمراء السورانيين.

وقد مهد سقوط الإمارة السورانية لسقوط إمارات كردية صغيرة، مثل الإمارة البهدينانية في العمادية، والإمارة البوتانية في جزيرة ابن عمر، ونور الله في حكاري.

ح. الإمارة البهدينانية

نشأت هذه الإمارة في مدينة العمادية، الواقعة على قمة جبل مرتفع، وسط سهل فسيح، مما جعلها قلعة حصينة، منيعة. حكمتها أسرة بهدينان، التي حظيت بتقدير السلطان العثماني، سليمان القانوني، فمنح حاكمها، حسن باشا، ولاية الموصل، عام 1600.

وكثيراً ما اضطر حكام العمادية إلى تبديل ولائهم، بين العثمانيين والإيرانيين. فخضع الأمير حسن باشا للشاه، تجنباً لسيطرة الأردلانيين، في أواخر القرن السادس عشر.

ولم تسلم هذه الإمارة من الصراع الداخلي بين أبناء الأسرة الحاكمة. وهو الطابع المميز لتاريخ كردستان كله.

وكان أعظم أمراء العمادية، هو بهرام باشا، الذي حكم مدة طويلة، وتوفي عام 1767. وخلفه ابنه إسماعيل، واستمر حكمه عشرين سنة. وبعد موته، عام 1787 شب الصراع بين أعضاء الأُسرة، وانتهى إلى توليِّ مراد بك، مبعوث الأمير الباباني، تنفيذاً لأمر والي بغداد، شؤون الإمارة.

ثم تمكن هذا الوالي من القضاء على إمارة العمادية، عام 1839، التي استمرت تابعة لولاية الموصل، حتى عام 1849، وألحقت، بعدها، بولاية (وان)، ثم أعيدت، ثانية، لتتبع ولاية الموصل، في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.

ط. إمارة كريم خان زند، في إيران

إثر فترة من الحروب الطاحنة، أنشئت في إيران مملكة كردية مستقلة، هي المملكة الزندية، بقيادة كريم خان زند، في الفترة ما بين 1752 و 1795. وكان عهد كريم خان (1752م – 1779م) فصلاً مهماً من فصول التاريخ الكردي، إذ أعلن الاستقلال الكردي، وصار حاكماً لإيران كلها، تماماً مثل صلاح الدين الأيوبي، الذي حكم أمماً أخرى.

وكتب القنصل الفرنسي في بغداد، في رسالة بعث بها إلى باريس، عام 1763، يقول: “يبدو أن البلاد قد استعادت عظمتها وازدهارها تحت زعامة كريم خان، ذي التصرفات الحكيمة والنفوذ الشخصي. فقد حل الأمان والطمأنينة محل الفوضى المريعة والاقتتال المستمر، وقد استؤنفت التجارة، وأخذت القوافل التجارية تذهب إلى إيران وتعود منها، وأن خمسة وعشرين ألفاً من العائلات الإيرانية، التي كانت قد لجأت إلى العراق، أخذت، الآن، تعود لوطنها بالتدريج”.

ووصف الرحالة الإنجليزي، مالكولم، القائد كريم خان بقوله: “عاش حياة سعيدة، ثم مات موتة أبٍ، تحفّ به أُسرته”.

ي. إمارة بوتان

في عام 1821، تولى الأمير بدرخان إمارة الجزيرة وإقليم بوتان. وسعى إلى تخليص إمارته، وكردستان، كلها من الحكم التركي، وتوحيد إماراتها. وعزا الهزائم، اللاحقة بالأكراد، في انتفاضاتهم، إلى سببين:

(1) عدم اتحاد القوى الكردية حول فكرة وطنية واحدة.

(2) عدم وجود معامل للأسلحة والذخيرة، في كردستان.

لذا، بادر الأمير إلى العمل على لمّ الشعب، وتنظيم الصفوف بين القوى المختلفة. فأرسل إلى زعماء الكرد، المجاورين له، داعياً إياهم إلى الإتحاد، والعمل على إنقاذ كردستان. وبعث المبعوثين، لبث الدعوة إلى فكرة الوحدة. واستجاب الزعماء الأكراد لدعوته، من كل مناطق كردستان.

هذا في الجانب، السياسي والتنظيمي. أما في الجانب العسكري، فقد أنشأ في مدينة الجزيرة معملاً للأسلحة، وآخر للبارود.

وشرع يرسل الطلاب في بعثات إلى أوروبا، للتخصص بتجهيز الأسلحة والذخائر والمعدات الحربية. كما أخذ يبني السفن، لتسييرها في بحيرة وان.

ولما امتنع النساطرة المسيحيون، في إمارة بوتان، عن دفع الضرائب إلى الأمير بدرخان، بعث عليهم قوة عسكرية تؤدبهم. مما أثار هذا حفيظة الدول الأوروبية، خاصة بريطانيا وفرنسا، فاحتجت لدى الباب العالي، في استانبول، الذي أرسل، بدوره، مندوبين، لِثَنْيه بالوسائل السياسية، عمّا عزم عليه من توحيد كردستان. ولكن ذلك لم يجد نفعاً.

فأوعز الباب العالي إلى المشير حافظ باشا، أن يرسل مندوباً من عنده، يجيد اللغة الكردية، إلى الأمير، يستوضحه نياته نحو الخليفة العثماني، ويدعوه، باسم الخليفة، إلى القدوم إلى إستانبول. ولما رفض الأمير بدرخان استجابة الدعوة، بعثت الدولة العثمانية عليه قوة عسكرية كبيرة، تمكن من القضاء عليها. وقطع علاقته بالدولة العثمانية، وأعلن استقلاله، وسك نقوداً باسمه، عام 1258هـ، كتب على أحد وجهَيها: “أمير بوتان بدرخان”، وعلى الآخر: “سنة 1258هـ”.

وسيّر الباب العالي حملة أخرى، تحت قيادة عثمان باشا، ووقعت معركة قرب أورمية، بين الجيش العثماني وجيش الأمير بدرخان. وبعد انضمام قائد ميسرة الجيش الكردي، عزالدين شير، إلى العثمانيين، تمكنوا من احتلال الجزيرة، وهي مقر الإمارة. ثم حوصر الأمير في قلعة “أروخ”، ثمانية أشهر، وبعد أن نفدت مؤنه، استسلم للقوات العثمانية، فقضي على حركته.

في سنة 1877، وقعت الحرب الروسية ـ العثمانية، فجند العثمانيون كثيراً من المتطوعين الأكراد، وأُسندت قيادة قسم كبير منهم إلى أولاد الأمير بدرخان. ومنهم حسين كنعان باشا وعثمان باشا. فانتهز هذان القائدان الفرصة، واتفقا مع الضباط على التوجه نحو كردستان، لتحقيق ما فشل فيه والدهما من استقلال كردستان. فسافر الأميران الكرديان، سراً، إلى الجزيرة، عام 1879، واستوليا على مقاليد الأمور فيها، وأعلنا استقلال إمارة بوتان، التي امتدت إلى جولمريك وزاخو والعمادية ونصيبين، في بعض الأحيان.

وأُعلن أكبرهما، عثمان باشا، أميراً وذُكر اسمه في خطب الجمعة. وتغلبا على الحملات العسكرية العثمانية الموجَّهة ضدهما. فعمد الباب العالي إلى سياسة المهادنة، إذ أمر السلطان عبد الحميد بإطلاق كل المعتقلين من عائلة بدرخان، وبعث إلى الأميرَين يدعوهما إلى حقن دماء المسلمين، واستعداده لاستجابة مطالبهم، بالوسائل السلمية. وتظاهر العثمانيون بمنح كردستان امتيازات خاصة، في الإدارة الداخلية. فدخل الأميران في مفاوضات مع السلطات العثمانية، في شأن الصلح، وتحقيق مطالب الكرد.

وأحيطا بمظاهر الحفاوة، في خلال الاجتماعات. وصدرت تصريحات من المفاوضين العثمانيين، حول مطالب الأكراد وتحقيقها، في الجزيرة وفي كردستان كلها. وحيال ذلك اطمأن الأميران الكرديان، وأخذا يخففان من عدد الحراس، المرافقين لهما، عند حضور الاجتماعات. وذات يوم، أطبقت القوات العثمانية على الأميرَين وحرسهما. وأرسلت الأميرَين إلى استانبول، حيث أودعا السجن فترة من الزمن، ثم أُطلقا وفرضت عليهما الإقامة الجبرية بالآستانة.

وفي عام 1889، غادر كل من أمين عالي بك ومدحت بك، من أولاد الأمير بدرخان، الآستانة، سراً، ووصلا إلى طرابزون، حيث شرعا يتصلان مع رجال كردستان، بوساطة رجل، يدعى مصطفى نوري أفندي الشاملي. وجرى الاتفاق على أن تحتشد قوة مسلحة كبيرة، بقيادة بعض رؤساء الأكراد، في جويزلك، في منتصف الطريق بين أرضروم وطرابزون، وتكون في انتظار الأميرَين.

وفعلاً، وصلت القوة الكردية إلى المكان المذكور، وسافر الأميران، سراً، من طرابزون، غير أن مصطفى نوري أفندي الشاملي، الذي كان الوسيط بين الأميرَين والقوات الكردية، أبلغ الأمر إلى الديوان السلطاني، الذي لم يتوانَ في إرسال قوات عسكرية، من أرضروم وأرزنجان إلى الجهات والطرق، التي يتوقع مرور الأميرَين منها.

ووجد الأميران نفسيهما، مع القوة الكردية، على غرة، بين قوّتَين عثمانيتَين في جنوب مدينة أبيورت، وعلما أنهما وقعا في كمين. فجرت معركة، انجلت عن هزيمة الأكراد وهروبهم إلى جبال أرغني ومعدن واعتصموا بها. وبعد قتال، استمر فترة من الوقت، ومع وصول إمدادات عثمانية، استسلم الأميران الكرديان.

3. أهم الثورات الكردية في العصر العثماني

شهدت منطقة كردستان، في العهد العثماني، العديد من الانتفاضات والثورات المحلية، الناجمة، في الغالب، عن إلغاء الامتيازات والإقطاعيات الممنوحة للأغا أو الإقطاعيين الأكراد. أو هي نشبت لرفع الظلم والجور، الحاصلين من القوات العثمانية، ومن جمع الضرائب والتكاليف الباهظة، التي أثقلت كاهل الشعب الكردي. أو هي اندلعت، طلباً للاستقلال. وتعاقبت الثورات، طوال القرن التاسع عشر الميلادي. ومنها:

أ. كانت أعظم انتفاضات هذه الفترة، تلك التي اندلعت أثناء الحرب الروسية ـ العثمانية، في القرم (1853 ـ 1856) تحت قيادة يزدان شير، في منطقتَي حكاري وبوتان.

بعَيد اندلاعها، استطاعت تحرير كل المنطقة، الممتدة بين بحيرة وان وبغداد. ومن أبرز خصائص تلك الانتفاضة، أنها لقيت تأييداً واسعاً من فئات الشعب، على نقيض ما حدث في الانتفاضة، التي قادها بدرخان. وقدم السكان المسيحيون العون إليها، بل أسهموا في القتال. وما أن حل يناير 1855، حتى بلغ تعداد قوات يزدان شير ثلاثين ألفاً، ثم ارتفع، في فبراير، إلى ستين ألفاً، ثم بلغ مائة ألف، من بينهم يونانيون وعرب.

وحاول القائد الكردي، أن يتعاون مع الجيش الروسي على محاربة العثمانيين، إلا إنه لم يفلح.

ودامت الانتفاضة عامين. ثم أرسلت بريطانيا قواتها، لمعاونة العثمانيين، من طريق مبعوثها، نمرود، ونجحت في إقناع يزدان شير بالصلح مع السلطان، فركن إلى الوعود، التي قطعت له، وسافر إلى القسطنطينية، وبسفره انتهت الانتفاضة. إلا أنها تركت آثاراً عميقة في المراحل التالية لنضال الأكراد. وما فتيء اسم يزدان شير، يُرَدَّد، بالتمجيد، في الفلكلور الكردي، حتى اليوم.

ب. في عام 1834، ثار أمير بدليس الشهير، شريف خان، ضد العثمانيين، حينما أرادوا إلغاء امتيازات إمارته، وكان مصير هذه الثورة الفشل.

ج. وثار في كردستان الشيخ عبيدالله (النهري) النقشبندي، من شمدينان، عام 1880، أثناء انشغال الدولة العثمانية بحربها مع روسيا. وكان الشيخ يهدف إلى تشكيل دولة كردية مستقلة، تشمل الجزء الجنوبي من ولاية وان، والجزء الشمالي من ولاية الموصل، على أن تكون تحت الإدارة العثمانية. وكان له نفوذ ديني واسع على مريديه وأتباعه، فأوقد فيهم الحماس، حتى اندفعوا إلى بلاد أورمية، حيث ارتكبوا مذابح ضد الشيعة.

وقد أفلح عبيدالله في بسط نفوذه على منطقة واسعة، بين بحيرة أورمية وبحيرة وان. واتخذ إصلاحات من شأنها القضاء على السلب والنهب، وتشجيع الزراعة والأعمال البناءة، واتَّبع سياسة ودية تجاه الأرمن والنساطرة.

وفي عام 1883، بعثت عليه الحكومة العثمانية حملة عسكرية، بالتعاون مع القوات الإيرانية، اضطرته إلى التسليم. ثم نُفي إلى الحجاز، ومكث في مكة حتى توفي فيها.

د. في أواخر القرن الثامن عشر بادر زعيم الملليين، وهم قبيلة خليط من التركمان والأكراد، تقطن في ما بين ماردين وديار بكر، تيمور باشا، إلى جمع العُصاة وقُطاع الطرق حوله، وهدد وُلاة ديار بكر، وأخل بالأمن. فجهزت الدولة العثمانية حملة عسكرية، قوامها ثلاثون ألف فارس، اتجهت إلى ماردين، حيث قضت عليه

وفرقت شمل عصابته، عام 1791. إلا أن حفيد تيمور باشا، تيماوي بك، ثبت لضربات الصدر الأعظم، رشيد باشا، الذي وجّه إليه حملات عسكرية، للقضاء على الإمارات الكردية. وخلفه ابنه محمود، الذي احتفظ بنفوذه بين قبائل الملليين، في ديار بكر. وترك لخلفه، ابنه إبراهيم باشا، اتحاداً قبائلياً قوياً، في أيام السلطان عبد الحميد.

ومع إعلان الدستور العثماني، وإطاحة السلطان عبدالحميد، عام 1908، لجأ إبراهيم باشا التيماوي، متزعماً قبيلة المللية، إلى أعمال العصيان، في تلك المنطقة. وجمع المغامرين، الذين التفوا حوله، فبسط نفوذه على المنطقة، حتى لقب بملك كردستان غير المتوج، مما اضطر الحكومة العثمانية إلى توجيه حملة تأديبية ضده، فقبضت عليه، ونفته إلى سيواس. وبعد فترة وجيزة، استطاع الهرب، والعودة إلى موطن قبيلته، في “يران شهر”.

وانتهز فرصة إعادة تكوين الحكومة العثمانية التشكيلات العسكرية الحميدية، فانخرط مع أتباعه فيها، وحصل على رتبة “مير ميران”، رئيس الرؤساء، مما هيأ له بسط نفوذه في الجزيرة وديار بكر، وأخضع القبائل الكردية المجاورة، وسيطر على المنطقة الممتدة بين ماردين والرها وأورفا وقراجه داغ. وبعثت عليه الدولة العثمانية حملة كبيرة، بعد عام 1908، وقبضت عليه وأعدمته.

هـ. وفي عام 1913، ثار الأكراد في ولاية بدليس، بقيادة الملا سليم، وشهاب الدين، وعلي، وانتهت ثورتهم بالفشل. ولجأ الملا سليم إلى القنصلية الروسية، في بدليس، حيث بقي مختبأ، إلى أن أعلنت الدولة العثمانية الحرب على روسيا، في الحرب العالمية الأولى، 1914. فاقتحم الجنود العثمانيون القنصلية، وقبضوا على الملا سليم، وشنقوه في أحد شوارع بدليس.

ومن جهة أخرى، عمدت الحكومة التركية، بحجة التراجع أمام القوات الروسية الزاحفة، إلى ترحيل سبعمائة ألف كردي من مواطنهم. وقد هلك كثير من هؤلاء قبل أن تنتهي فترة الإخلاء الإجباري هذه. وفي غمار الحرب العالمية الأولى، دمِّر العديد من القرى الكردية، وهلك العديد من قطعان ماشية الأكراد. وقتل آلاف من السكان المسالمين على يد القوات العثمانية، لا في كردستان تركيا فحسب، بل في كردستان إيران، كذلك.

4. سبب فشل الثورات الكردية

حملت الثورات الكردية عناصر فشلها، لأنها لم تكن مستندة إلى إيمان منبثق من تبلور الوعي، الثقافي والسياسي، بين الأكراد، كما كان ينقصها التعاون. وقد كان أغلب قادة تلك الثورات من زعماء القبائل. وكانت قبائلهم تأتمر بأوامرهم. وكان التعاون بين رؤساء القبائل ضعيفاً بل منعدماً. ومعظمهم كانوا يتمسكون بمصالحهم الذاتية، نتيجة سيادة النظام الإقطاعي. لذلك، كان كل زعيم كردي، يهتم بمصالحه الخاصة، غير معني بدعوات الزعماء الوطنيين.

وآية ذلك، أن أغلب تلك الثورات، قد أخمدت بمعاونة رؤساء أكراد، مناوئين للزعماء الثائرين، بدوافع شخصية، أو بوحي من الحكومة العثمانية.

5. الألوية الحميدية الكردية

عقب الانتفاضات، التي جرت في أواخر القرن التاسع عشر، أخذ الباب العالي ينتهج سياسة أكثر مرونة، تجاه الأكراد. فأسست الدولة العثمانية، عام 1892، مدارس للقبائل، عرفت باسم “عشيرت مكتبلري”، ضمت إليها أبناء القبائل، العربية والكردية، وأبناء الأعيان، بهدف ربط هذا الجيل من الشباب، واستطراداً قبائلهم، بالدولة، وتنشئته على الولاء لها.

وفي عام 1885، أنشأ السلطان عبدالحميد (1878 ـ 1908) كتائب محاربة، من أبناء العشائر الكردية، أطلق عليها اسم ألوية الخيالة الحميدية “حميدية آلاي لري”، ليستخدمها في حروب الدولة العثمانية مع الروس. وأنيطت بهذا الجيش الكردي، غير النظامي، مسؤولية توطيد النظام، وتقوية نفوذ الحكومة في كردستان. وفي الوقت نفسه، كانت تلك الألوية عاملاً مهماً في المحافظة على امتيازات الزعماء الأكراد، وسلطان رؤساء العشائر الكردية.

اضطلعت هذه التشكيلات بدورٍ مهمٍ في حماية الحدود العثمانية، مع روسيا وإيران، وشاركت في المعارك التركية ضد روسيا القيصرية. كما تورطت في الحوادث الدامية، الناجمة عن ثورة الأرمن، عامَي 1894 و 1895، حين ساعدت التشكيلات الكردية الدولة العثمانية على ارتكاب مذابح جماعية ضد الأرمن، في منطقتَي صاصون وحكاري، وتدمير قراهم ومدنهم.

ولكن العثمانيين لم يثقوا كثيراً بتلك الكتائب. فقد نص نظام الكتائب الحميدية، الصادر عام 1895، على منع أفرادها من ارتداء البزات العسكرية، وحمل السلاح، خارج فترات التدريب. ويمكن استدعاؤهم، خارج فترات التدريب، كذلك، إلى المحاكم الاعتيادية.

وبعد إعلان الدستور العثماني،عام 1908، أعيد تنظيم التشكيلات العسكرية الكردية، فاندمجت في أربع فِرق ولواء واحد، وكلها من قوات الخيالة الخفيفة. ثم ألغيت، بعد سنة من إعلان الحرب العالمية الأولى.

ثانياً: الحركة الوطنية الكردية، في النصف الأول من القرن العشرين

1. الوعي السياسي

بدأت الحركة الوطنية الكردية، في المجال السياسي، في عاصمة الدولة العثمانية، إستانبول، بعد خلع السلطان عبد الحميد الثاني، وصدور الدستور العثماني، وتولّي حزب الاتحاد والترقي أمور الحكم، في 23 يوليه 1908.

وعلى غرار النشاط القومي للمثقفين والضباط العرب في الآستانة، لإحياء القومية العربية، والمطالبة بالحكم الذاتي، كردّ فعل على الاتجاهات القومية التركية، ونتيجة للاتجاهات القومية، التي انتشرت بين الشعوب، في القرن التاسع عشر الميلادي – بادر عدد من النواب الأكراد في مجلس المبعوثان، إلى المطالبة بحق الأكراد في الحرية والإخاء والمساواة. وظهرت جمعيات كردية ثقافية، عام 1908، وصدرت صحف كردية، لتنمية الوعي بين الأكراد، وتعريف العالم بالقضية الكردية.

وكانت التنظيمات السياسية الكردية الأولى، تقف موقفاً إيجابياً من حكومة الاتحاد والترقي. فسمحت لها بالنشاط الثقافي، على أنها فروع لحزب تركيا الفتاة.

وقبْل ذلك، أصدر الأمير مدحت بدرخان جريدة كردية، عام 1315هـ/1898م، باسم “كردستان”، لتعريف الأمم والدول بالقضية، وتنمية وعي الأكراد أنفسهم بقضيتهم. وصارت هذه الجريدة لسان حال المثقفين الأكراد. وعلى أثر مرض صاحبها، ورئيس تحريرها، واصل شقيقه، عبدالرحمن بدرخان، إصدارها من القاهرة، ثم من جنيف، ثم من فولكستون .

وبعد إعلان الدستور العثماني، عام 1908، عادت الجريدة الكردية إلى الصدور من استانبول، برئاسة الأمير ثريا بدرخان، ثم صدرت من القاهرة، في أثناء الحرب العالمية الأولى.

تأسست أول جمعية سياسية كردية، في الآستانة، عام 1908، تحت اسم “كردستان تعالي جمعيتي”، أي جمعية تقدم كردستان، على يد مجموعة من الأكراد البارزين، مثل: الأمير أمين عالي بدرخان، والفريق شريف باشا، والسيد عبد القادر (الذي شنقه الكماليون، فيما بعد، في ديار بكر)، والداماد (الصهر) أحمد ذو الكفل باشا. وأصدروا، كذلك، جريدة “الترقي والمساعدة الكردية المتبادلة”.

وفي الوقت عينه، تأسست جمعية أدبية، فكرية، كردية، في الآستانة، باسم “جمعية نشر المعارف الكردية”. ووفقت، عام 1910، في فتح مدرسة كردية، في إستانبول، من أجل تعليم أبناء الأكراد في الآستانة.

وتأسست جمعية “كرد تعاون وترقي جمعيتي”، أي جمعية التعاون والتقدم الكردية، عام 1908.

أقفلت هذه الجمعيات، والمدرسة الكردية، من قِبل حكومة الاتحاد والترقي، عام 1909، بعد إمعان الحكومة في سياسة تتريك شعوب الدولة العثمانية. فاضطرت جمعية تقدم كردستان إلى ممارسة نشاطها خفية.

وفي عام 1910، تأسست جمعية للطلبة الأكراد، في الآستانة، باسم ” كرد هيوي طلبه جمعيتي”، أي جمعية الأمل للطلبة الأكراد، على يد عمر جميل أفندي وقدري جميل باشا، من أعيان ديار بكر، وفؤاد تمو بك الوانلي، ومحمود سليم، وزكي بك، من طلبة مدرسة الزراعة في إستانبول، وذلك بإيعاز من خليل خيالي الموطكي (موتكي) وتشجيعه. وأصدرت الجمعية عام 1913، جريدة “روزا كورد”، أي يوم الكرد، ناطقة باسمها. وتغير اسمها، بعد العدد الرابع، إلى “هه تاوي كورد”، أي شمس أو يوم الكرد. وواصلت هذه الجمعية نشاطها، حتى دخول إستانبول الحرب العالمية الأولى، فتعطلت أعمالها، بسبب سفر جميع أعضائها إلى ميادين الحرب.

بعد انتهاء الحرب عام 1918، عاودت جمعية “هيفي” أو “هيوي” نشاطها، حتى دخول مصطفى كمال أتاتورك إستانبول، عام 1922.

في الوقت عينه، كان يصدر عدد من مثقفي الأكراد، في الآستانة، جريدة كردية، باسم “زين”، أي الحياة.

وكانت قد تشكلت بعد الهدنة، عام 1918، في إستانبول، جمعية سياسية، باسم “جمعية استقلال الكرد”. وضمت بين أعضائها جميع الأمراء والزعماء الأكراد. ثم انشق عنها بعض الأمراء، وأسسوا جمعية أخرى، باسم “كردستان اجتماعي تشكيلاتي جمعيتي”، أي جمعية التشكيلات الاجتماعية لكردستان. وتأسست جمعية أخرى، باسم “جمعية الشعب الكردي”، ومركزها القاهرة.

وأعاد نخبة من رجالات الأكراد، في الآستانة، تشكيل “جمعية تقدم كردستان”، عام 1918، وافتتحوا نوادي كردية، في عدد من مدن شرقي تركيا، مثل موش وبيتليس.

وواصل كثير من هذه الجمعيات نشاطها، في الآستانة، وعبْر فروعها في كردستان، حتى دخلت الحكومة التركية، بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، إستانبول، فانتقلت إلى بلاد أخرى، حيث واصلت نشاطها.

واقتصرت مطالب تلك الجمعيات والمنظمات على الحكم الذاتي لكردستان، وتقليص الضرائب المجباة، ونشوء إدارات محلية، وبناء مدارس، تدرَّس فيها اللغة الكردية، وأن يكون جميع الموظفين والضباط، العاملين في كردستان، من الأكراد.

ولم يكن لهذه الجمعيات أي تأثير في كردستان، الغارقة في الجهل، والبعيدة عن مراكز النشاط السياسي.

وأدى نشوب الحرب العالمية الأولى، عام 1914، إلى توقف كل هذه الأنشطة. وعندما أعلنت الدولة العثمانية الجهاد المقدس، أسهم فيه الأكراد بكل قواهم، من رجال وأموال. وتكبدوا خسائر كبيرة على يد القوات الأرمنية، التي انضوت تحت لواء الجيش الروسي، وانتقمت من الأكراد، في منطقة “بايزيد” و”الشكرد” و”وان”، وثأرت بما لحق بالأرمن، من قبْل، على يد الأكراد.

ورفض قادة جمعية تقدم كردستان أي أعمال ضد الأتراك، عندما طالب الشباب الكردي، من أعضاء الجمعية 1919م، باتخاذ قرار، حول إعلان استقلال كردستان، وطرد جميع القوات الأجنبية منها، بما فيها التركية ووقف سيد عبدالقادر ضد هذا الاقتراح، لأنه لا يليق بالحركة الكردية، في رأيه، الوقوف ضد الأتراك، في مثل هذا الظرف العصيب.

2. تقرير مصير الأكراد، في معاهدة سيفر (Sevres)، عام 1920 (أُنظر ملحق نصوص المواد الثلاث المتعلقة بالأكراد في معاهدة سيفر (Sèvres)، في 10 أغسطس 1920)

عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، بانتصار الحلفاء، وهزيمة الدولة العثمانية، شعر فريق من الزعماء الأكراد بأن الحلفاء المنتصرين، يبيِّتون للأكراد سوءاً، إذ عزموا على إنشاء دولة أرمنية، تمتد حدودها من ساحل بحر قزوين حتى ساحل البحر الأسود، وتنحدر، غرباً، إلى البحر المتوسط، فتشمل ولايات: طرابزون وأرضروم ووان وبيتليس وديار بكر، وهي المناطق، التي يؤلف الأكراد أغلب سكانها.

ولذلك، نشط الحزب الوطني الكردي، في إستانبول، الذي يرأسه الأمير عبدالقادر شمدينان، مع أبناء بدرخان بجهود جبارة، لإقناع الحلفاء بتوحيد المناطق الكردية، ومنحها حكماً ذاتياً.

كما أخذ الجنرال شريف باشا السليماني، المقيم في باريس، على عاتقه تمثيل الجماعات السياسية الكردية، في مؤتمر الصلح، في باريس، في 22 مارس 1919، وفي أول مارس 1920. وقدم مذكرتَين إلى ذلك المؤتمر، ضمّنهما مطالب الأكراد، وحقهم في استقلال بلادهم ووحدتها السياسية، وأرفق بهما خريطة لكردستان كلها.

الأكراد
الأكراد

وكان شريف باشا، قد توصل إلى اتفاق مع رئيس الوفد الأرمني، بوغوص بوبار باشا، ينص على أن تكون البلاد الكردية مستقلة عن الدولة الأرمنية، المزمع إنشاؤها. ونتيجة لهذا الاتفاق، تقدَّما إلى مؤتمر الصلح، ببيان مشترك، يحددان فيه حقوق أمَّتَيهما. وقد وافق المؤتمر، مبدئياً، على هذا البيان.

وفرض ممثلو الحلفاء على الحكومة العثمانية المنهزمة معاهدة سيفر (Sèvres)، في 10 أغسطس 1920. وكان من مقتضاها تأليف حكومة أرمنية في ولايات طرابزون وأرضروم ووان وبيتليس (بدليس) (المواد 8- 93). وأشارت إلى إنشاء نوع من الحكم الذاتي للأكراد، القاطنين في منطقة، تصوروا حدودها في شرق الفرات وجنوبي بلاد أرمينيا، تحدها تركيا وسورية والعراق.

وشُرط الحكم الذاتي، باستفتاء أهالي المنطقة الكردية، المشار إليها. في ما إذا كانوا يريدون الانفصال عن الأتراك أم لا؟ ثم تُعرض نتيجة الاستفتاء على مجلس عصبة الأمم، لمناقشتها، وإصدار قراره في ضوئها، ذلك، حول الاستقلال الكردي. فإذا قررت عصبة الأمم جدارة الأكراد بالاستقلال، يبلغ القرار إلى الحكومة التركية، التي عليها أن تذعن له. فإذا بلغ الأمر إلى هذا الحدّ، لا يمانع الحلفاء، حينئذٍ، في انضمام أكراد الموصل إلى أكراد هذه الحكومة المستقلة استقلالاً ذاتياً.

على أن معاهدة سيفر، ولدت ميتة، فلم يكتب لها التنفيذ، إذ مزقتها انتصارات تركيا الحديثة، بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، الذي دحر اليونانيين، وحرر الأناضول، وتفاهم مع الفرنسيين والإيطاليين. ثم عقد معاهدة لوزان، في 24 يوليه 1923، التي قضت على كل أمل في أن يكون للأكراد دولة مستقلة، أو اعتراف دولي.

وقد انتهى موضوع الأكراد إلى استبدال نصوص حول وجوب احترام الحقوق، الثقافية والدينية، للأقليات، بحقوقهم القومية والحكم الذاتي. وهكذا، خرج الأكراد من الحرب العالمية الأولى، وهم موزعون بين أربع دول: تركيا والعراق وإيران وسورية، إلى جانب أقليات كبيرة في جمهورية أرمينيا، التي كانت تابعة للاتحاد السوفيتي.

الأكراد في العراق حتى حكم الأخوين عارف

أولاً: دولة العراق الجديدة، وقضية الموصل

احتل الإنجليز العراق، عام 1917، بعد طرد القوات العثمانية منه، ووضع تحت الانتداب الإنجليزي، في 3 مارس 1920. وأقر مؤتمر القاهرة، الذي أنهى جلساته في 9 أبريل 1921، المشروع الجديد لإنشاء دولة عربية في العراق، برئاسة الشريف فيصل بن الحسين. ونودي بالشريف فيصل ملكاً على العراق في 11 يوليه 1921م، وتوِّج على عرش العراق، في 23 أغسطس 1921.

وفي نهاية الحرب العالمية الأولى، كانت القوات التركية لا تزال محتفظة بمنطقتَي الموصل والسليمانية. بينما ترابط القوات البريطانية في جنوب الموصل. وعلى أثر توقيع معاهدة الهدنة، في مندروس، أو مودروس (Mondros, Moudros)، بين الحلفاء والدولة العثمانية المنهزمة، في أول نوفمبر 1918. انسحب القائد التركي بقواته من الموصل، إلى داخل الأراضي التركية، بموجب نصوص المعاهدة المذكورة.

وكانت بريطانيا وتركيا تعلمان أهمية الموصل النفطية. وحاول الأتراك الاحتفاظ بها، وضمها إلى تركيا الحديثة. فأقر المجلس الوطني التركي، في “الميثاق الوطني”، في 13 سبتمبر 1919، في مادته الأولى، ما يلي:

“إذا اقتضت الضرورة، يقرر مصير أجزاء الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تسكنها أكثرية عربية، والتي كانت، حين عقد الهدنة في 20 أكتوبر 1918، تحت احتلال القوات المعادية، وفقاً لتصويت سكانها الحر.

أما تلك الأجزاء (سواء كانت داخل خط الهدنة المذكورة، أو خارجه)، التي تسكنها أكثرية عثمانية مسلمة، متحدة في الدين والجنس والهدف، ومشربة بعواطف الاحترام المتبادل، وبالتضحية، وتحترم احتراماً كلياً متبادلاً الحقوق، القومية والاجتماعية، والظروف المحيطة بها، فتؤلف جزءاً من الوطن، لا ينفصل عنه لأي سبب، منطقي أو قانوني”.

وبعد انتصار الأتراك على اليونانيين، وطردهم من غربي الأناضول وإزمير، أعلن مصطفى كمال، فيما يتعلق بمشكلة الموصل، أن الميثاق الوطني هو الحد الأدنى لحقوق تركيا. وأعلن عصمت إينونو، رئيس الوفد التركي إلى مؤتمر لوزان، عام 1923، بإصرار، أن سكان الموصل، هم من الترك المسلمين، بدليل أنهم انتخبوا عنهم نواباً في المجلس الوطني الكبير. وعقدت معاهدة لوزان، التي عالجت كافة الأمور بين تركيا والحلفاء، ورسمت الحدود التركية مع جيرانها (بلغاريا واليونان وسورية وروسيا وأرمينيا).

إلا أنها أبقت الحدود التركية، الجنوبية والجنوبية الشرقية، من دون تسوية. فقد نصت المادة الثالثة على ما يلي: “ستتم تسوية الحدود الفاصلة بين تركيا والعراق، بطريقة دولية، بين الحكومتَين البريطانية والتركية، في غضون تسعة أشهر. وإن لم تتوصل الحكومتان إلى اتفاق، خلال المدة المعينة، تحال القضية إلى مجلس عصبة الأمم”.

وعقد مؤتمر، في إستانبول، لبحث مشكلة الموصل، في 19 مايو 1924. وأعلن رئيس الوفد التركي، قائلاً: إن الترك والأكراد أبناء وطن واحد. وإنه من المستحيل اقتطاعهم من وطنهم، من أجل بضعة آلاف من الأشوريين. وكرر الحجة التركية القائلة إن الأكراد في ولاية الموصل، قد “انتخبوا عنهم نواباً في المجلس الوطني الكبير”.

ولم ينجح مؤتمر استانبول، فعاد الطرفان، التركي والبريطاني، إلى مجلس عصبة الأمم. وحاول الأتراك، عام 1924، الاستيلاء على الموصل، بالقوة، ولكنهم انسحبوا منها، في العام نفسه.

وأُحيلت مسألة الحدود إلى مجلس عصبة الأمم، فقرر، في 30 سبتمبر 1924، تشكيل لجنة دولية، من ثلاثة أعضاء، للتحقيق في مشكلة الموصل، وتقديم تقريرها حول الحدود. وكان أعضاء اللجنة، هم: الكولونيل البلجيكي باوليس، والكونت تيكيلي، وهو رئيس وزراء المجر السابق، وفيرسن، الوزير السويدي المفوض، الذي تولى رئاسة اللجنة. وقد قررت اللجنة إجراء بالتحريات في المنطقة، فوصلت إلى الموصل، في يناير 1925.

وقدمت اللجنة تقريرها إلى مجلس عصبة الأمم. واقترحت تركيا إجراء استفتاء، يبيّن إرادة السكان. غير أن بريطانيا، عارضت الاقتراح، لأن الأمر يتعلق بخط الحدود، وليس بمنطقة من المناطق. وتقدم الجانبان بأرقام مختلفة عن القوميات القاطنة في الموصل.

وقد عَدَّ الإنجليز الأكراد آريين، لا تربطهم بالأتراك رابطة. أما الأتراك، فأعلنوا أنه لا يوجد فرق بين الأكراد والأتراك، وأن الأمّتَين، قد عاشتا، بود، جنباً إلى جنب، طيلة قرون عديدة.

وتوصلت اللجنة إلى استنتاجات تختلف عن ذلك كلياً “ليس الأكراد عرباً، ولا ترْكاً، ولا فرْساً. إلا أنهم قريبون من الفرْس أكثر من الآخرين. وهم يختلفون، ويجب تمييزهم عن الأتراك. وهم بعيدون عن العرب، ويختلفون عنهم أكثر”.

ثم يمضي التقرير، قائلاً: “وفي حالة اعتماد النواحي العنصرية، وحدها، أساساً للاستنتاج، فإنها تقودنا إلى القول بوجوب إنشاء دولة كردية مستقلة. فالأكراد يشكلون خمسة أثمان السكان. وإذا صار الاتجاه إلى هذا الحل، فإن اليزيديين، وهم عنصر مشابه للأكراد، يجب أن يدخلوا ضمن عددهم، فتكون نسبة الأكراد، حينذاك، سبعة أثمان السكان”.

وهذا يعني أن الوثائق الرسمية لعصبة الأمم، تعترف بوجود الأكراد كأمة مستقلة، وكذلك، بحقهم في إنشاء دولة كردية مستقلة. قرر مجلس عصبة الأمم، في 16 ديسمبر 1925، ضم الموصل إلى الأراضي العراقية.

ولقد قبِلت تركيا، آخر الأمر، بخط بروكسل، الذي عَّين حدودها الجنوبية، بموجب القرار، الصادر عن لجنة عصبة الأمم، في بروكسل، عام 1924.

وبذلك فصلت كردستان العراق عن كردستان تركيا. ودخل جزء من أراضي كردستان ضمن حدود الدولة العراقية.

وفي 13 يناير 1926، أبرمت الحكومتان، العراقية والتركية المعاهدة التي نظمت الحدود بينهما. وجاء في المادة 12 من المعاهدة المذكورة ما يلي:

“على السلطات التركية، والسلطات العراقية، الامتناع عن كل مخابرة ذات صبغة رسمية، أو سياسية، مع رؤساء العشائر أو شيوخها، أو غيرهم من أفرادها، من رعايا الدولة الأخرى، الموجودين، فعلاً، في أراضيهما، وعليها ألاّ تجيز، في منطقة الحدود، تشكيلات للدعاية، ولا اجتماعات، موجّهة ضد أي من الدولتَين”.

وما أن حصلت بريطانيا على امتيازاتها النفطية، حتى فقدت كل اهتمام بإنشاء دولة كردية. ولم يكن في نية البريطانيين حسم القضية الكردية، بل أرادوا إبقاءها ورقة ضغط في أيديهم، للضغط على الحكومة العراقية الجديدة. فتعبّر بريطانيا عن موافقتها على استقلال الأكراد، في “حالة جريان الأمور في العراق مجرى، لم تستشر في شأنه، وتوافق عليه”.

وفي يونيه 1930، انتهى الانتداب البريطاني على العراق، وأصبح دولة مستقلة.

ثانياً: الثورات الكردية في العراق

حدثت عدة ثورات كردية، ضد الدولة العراقية الناشئة. وكانت أسبابها مزيجاً من الشعور الوطني والشكاوى المحلية، وتسببها حكومات موجَّهة توجيهاً خاطئاً، لا تأبه بالاستجابة لمطالب الأكراد القومية.

وتلاشت مطالبهم بمرور الزمن حتى اقتصرت على استخدام اللغة الكردية، في المدارس والدوائر الحكومية، وهو حق من حقوقهم، التي قررتها عصبة الأمم، واعترفت بها الحكومة العراقية، في حينه.

ومع أن الحكومة العراقية، كانت تؤكد، بين الحين والآخر، التزامها باحترام تلك الحقوق المبدئية، إلا أنها كانت تتهرب، باستمرار، من تطبيقها. وكانت تتهم من يطالب بتطبيقها من الأكراد بالروح الانفصالية.

1. ثورات الشيخ محمود البرزنجي

تولى الشيخ محمود الحفيد البرزنجي، الذي ينتمي إلى أُسرة مشهورة في السليمانية، زعامة أسرته، وأدى دوراً خطيراً في تاريخ العراق، في سنوات الحرب العالمية الأولى وما بعدها (1917 – 1930). وكان للشيخ محمود الحفيد نفوذ ديني واسع بين الأكراد، وله سطوة وجبروت، أشاعا الرعب بين الناس في السليمانية.

ساعده العثمانيون بدعم مالي، لإزعاج الإنجليز في الشمال العراقي، عام 1918. وحينما وقعت الدولة العثمانية اتفاقية الهدنة، في (موندروس) سلمته لواء السليمانية. ليحكمه باسمها وبقي الفوج العثماني المرابط هناك، تحت إمرته وفي تصرفه.

ولكن الشيخ البرزنجي، الطامع إلى السلطان والزعامة، تنكر للمعسكر الخاسر، واتجه إلى الإنجليز، وطلب منهم ألاّ يستثنوا كردستان الجنوبية من قائمة الأقوام المحررة. وسلم إليهم لواء السليمانية في نوفمبر 1918، وأسلم إليهم، كذلك، جنود الفوج العثماني وضباطه، أسرى. وكافأه الإنجليز على ذلك، بتعيينه حاكماً (حكمدار) في لواء السليمانية. وعينت إنجلترا الرائد نوئيل (Noel)، والرائد دانليس، مستشارَين له.

واجتمع الحاكم البريطاني في العراق، ولسن (Wilson)، في ديسمبر 1918، بالشيخ محمود، وزعماء القبائل الكردية في لواء السليمانية. ووجد أنهم غير متفقين على نوع الحكم، الذي ينشدونه للمنطقة الكردية: فقد أعرب فريق منهم عن رغبته في حكومة كردية مستقلة. وطالب فريق آخر بإلحاق منطقتهم بالعراق. كما وجد أن بعض الأكراد غير راغبين في حكومة، يرأسها الشيخ محمود الحفيد.

وبقي الشيخ البرزنجي يحكم لواء السليمانية، بوصف-ه ممثلاً لل-حكومة البريطانية. وتوسع نفوذه، وأخذ يتصل بالحركة المناوئة للبريطانيين، في شرناخ. وبدا للإنجليز ضرورة التخلص منه. ففي منتصف مارس 1919، عيِّن الميجور سون حاكماً سياسياً في السليمانية، لتقليص نفوذ الشيخ محمود، وإرجاعه إلى الوضع الذي يتلاءم مع مؤهلاته.

ورداً على ذلك، بادر الشيخ محمود، في 20 مايو 1919، إلى انقلاب في السليمانية، بوساطة فرقة عسكرية كردية، تسمى “الشبانة”، تسانده القبائل الكردية في إيران، مثل الهورامان ومريوان. واعتقل الضباط الإنجليز في بيوتهم، وتولى السلطة المطلقة، وقطع الخطوط السلكية مع كركوك.

كما استولى على قافلة، تحمل مالاً وأسلحة، كانت متجهة من كفري إلى السليمانية، واستولى على حلبجة في 26 مايو 1919.

ولكن البريطانيين سيروا إليه حملة عسكرية، في 19 يونيه 1919، وأحاطت بالشيخ وقواته، في دربندِ بازيان قرب السليمانية، وتمكنت من أسره وهو جريح، مع جماعة من أتباعه، وأرسلتهم إلى بغداد. وتقدمت القوة البريطانية حتى دخلت السليمانية، من دون قتال. وحكم على الشيخ البرزنجي بالإعدام، ثم خفِّف الحكم، من قِبل القائد البريطاني، إلى السجن عشر سنوات، والنفي إلى الهند.

من جهة أخرى، بدأ الحاكم البريطاني العام في العراق، ينفّذ لائحة الانتداب البريطاني على العراق، بإيجاد وضع خاص للأكراد، يتيح لهم التطلع إلى حكم ذاتي، قبْل أن يجري استفتاء الشعب العراقي في إقامة حكومة وطنية مركزية، في العراق يرأسها الملك فيصل بن الحسين. فقد نصت المادة السادسة عشرة من اللائحة المذكورة، على أنه “لا يوجد في هذا الانتداب ما يمنع المنتدَب من تأسيس حكومة مستقلة، إدارياً، في المقاطعات الكردية، كما يلوح له”.

وحينما نُظم استفتاء للشعب العراقي، عام 1921، في تنصيب الأمير فيصل بن الحسين، ملكاً على العراق، رفض الأكراد، في لواء السليمانية، الاشتراك في الاستفتاء. وأعلن الشيخ قادر، شقيق الشيخ محمود، المنفي، مطالبته بحكم ذاتي مستقل، ورفض فكرة الانضمام إلى العراق.

واستغلت تركيا هذا الوضع، للضغط على بريطانيا، في مسألة الموصل، التي لم تُحل، بعد. فحشدت قواتها العسكرية، وعززتها بقوات غير نظامية. وعلى أثر الاشتباك المسلح، بين الإنجليز وقوات الشيخ القادر، تقدمت القوات التركية داخل الحدود العراقية، والتقت مع القوات الكردية، في منطقة “بشدر”، الواقعة شمال السيلمانية. واحتل الأتراك كوي سنجق، وهددوا مدينة عقرة، واندفعوا في اتجاه العمادية.

ولكن سرعان ما تقدمت القوات البريطانية، وطردت القوات التركية.

وهكذا، لم يجد البريطانيون بدّاً من الاستعانة بصديقهم، وعدوّهم القديم، المنفي إلى الهند، الشيخ محمود. فسمحوا له بالعودة إلى السليمانية، فرجع إلى موطنه، في 14 سبتمبر 1922. واختاره الإنجليز رئيساً للمجلس المحلي المنتخب، ثم حاكماً عاماً .

وبدأ الشيخ ينظم قواته، ويوسع نفوذه في لواء السليمانية، بقسوة بالغة. وأخذ يتجه صوب كركوك، مهدداً باحتلالها وضمها إلى حكومته.

وكانت بريطانيا تعلم مسبقاً بما سيقدم عليه الشيخ محمود، وتريد بذلك الضغط على حكومة الملك فيصل، لكي توقع المعاهدة العراقية – البريطانية الأولى، التي وقعت، فعلاً، في 12 أكتوبر 1922.

وبادر الشيخ البرزنجي إلى إعلان نفسه “ملكاً” على كردستان، في نوفمبر 1922، بعد أن تبيّن له أن الإنجليز سوف يتخلون عنه، بعد ما استنفدوا أغراضهم منه.

وحينما بعثت عليه بريطانيا حملة عسكرية، واحتلت السليمانية، في 4 مارس 1923، تمكن من استردادها، وحررها من الإنجليز، في 11 يونيه 1923.

وعلى أثر خلوّ معاهدة لوزان في يوليه 1923، من فكرة إعطاء حق تقرير المصير للأكراد، الوارد في معاهدة سيفر – وأصدرت الحكومة العراقية بياناً، بضغط من البريطانيين، تعترف فيه بحق الأكراد، القاطنين ضمن حدود العراق، في تأسيس حكومة كردية، ضمن حدود العراق.

غير أن الأكراد، لم يهتموا بهذا البيان، وسرعان ما تبيَّن أن الحكومة البريطانية، لم تكن جادة في ضغوطها، إذ ضمت السليمانية إلى العراق، واستعيض ببيان لمجلس الوزراء العراقي، في 11 يوليه 1923، يبدي فيه نياته الحسنة تجاه الأكراد. وجاء فيه:

أ. إن الحكومة العراقية، لا تنوي تعيين موظفين عراقيين، في الأقضية الكردية، عدا الموظفين الفنيين.

ب. إن الحكومة العراقية، لا تنوي إجبار سكان الأقضية على استعمال اللغة العربية، في مراسلاتهم الرسمية.

ج. إن حقوق السكان والطوائف، الدينية والمدنية، في الأقضية المذكورة، ستؤمن تأميناً صحيحاً.

ورافق هذا البيان حشود عسكرية عراقية، للقضاء على حكم الشيخ محمود. وتمكن الجيش العراقي من احتلال السليمانية في 19 يوليه 1924. بيد أن الشيخ البرزنجي، أجبر الجيش العراقي على التخلي عن المدينة، فبعثت عليه حملة عسكرية أخرى، استطاعت أن تقضي على نفوذه، وعلى أتباعه وتجبره على الانسحاب إلى الجبال. وعيّنت الحكومة العراقية أحد الأكراد متصرفاً للواء السليمانية، تابعاً للحكومة المركزية. فاستتب الأمن، إلى حين، في تلك المنطقة.

واتخذ الشيخ محمود من مقاطعته الشاسعة، في شرقي السليمانية، مقراً لحرب العصابات، في اللواء. وفي أكتوبر 1926، عقد اتفاقاً مع الحكومة العراقية، يغادر، بموجبه، العراق، مع أُسرته، ويمتنع عن التدخل في الشؤون السياسية، مقابل رد أملاكه إليه، واتخذ إيران مقاماً.

وفي فبراير 1929، قدم ستة من النواب الأكراد في المجلس النيابي، عريضة، إلى رئيس الوزراء في العراق، طلبوا فيها:

أ. زيادة نفقات المعارف، في كردستان.

ب. تأليف وحدة إدارية كردية، تضم ألوية السليمانية وأربيل وكركوك ولواءً آخر جديداً، يجمع الأقضية الكردية في لواء الموصل، على أن يتولى أمر هذه الوحدة الإدارية مفتش كردي عام، يكون الصلة بين منطقة كردستان والحكومة المركزية.

ج. زيادة نفقات الخدمات العامة، في المنطقة الكردية.

وقد وافقت الحكومة العراقية، والمندوب السامي البريطاني، على المطلبَين الأول والثالث. ورُفض المطلب الثاني. واتُّفق على سَن قانون اللغات المحلية، الذي جعل اللغة الكردية لغة رسمية، في الأقضية، التي يكون فيها الكرد أكثرية السكان.

وكان مقرّراً، أن تجري انتخابات، في صيف 1930. ولكن أهل السليمانية رفضوا الاشتراك فيها، واندلعت مظاهرات حاشدة، في 6 سبتمبر 1930، فوقعت اصطدامات بين الأهالي والشرطة والجيش، فقتل 45 شخصاً، وجرح 200 شخص.

وهكذا، عادت الأحداث الدموية إلى المنطقة، من جديد تسلل الشيخ محمود من إيران، في خريف 1930، إلى حدود لواء السليمانية، وأعلن الثورة، وقدم طلباً إلى المندوب السامي البريطاني في بغداد، بأن تترك الحكومة العراقية جميع منطقة كردستان، ما بين خانقين وزاخو، وتتولى حكومة كردية، تكون تحت انتداب الإنجليز، ريثما تُصدر عصبة الأمم قرارها الأخير، في شأن استقلال العراق.

ووجّهت الحكومة العراقية حملة عسكرية، للقضاء على الثورة. واستمرت في قتال مع قوات الشيخ محمود، حتى مارس 1931. وانتهت بأن سلم الشيخ محمود نفسه للحكومة، في 13 مايو 1931. وفرضت عليه الإقامة الجبرية في المناطق الجنوبية، وظل مقيماً بها، حتى نشوب الثورة، عام 1941، فتركت له حكومة رشيد عالي الكيلاني حرية الإقامة بالمكان الذي يريد، فاختار العودة إلى السليمانية.

وبذلك، انتهت ثورات الشيخ محمود، التي استمرت من عام 1918 حتى عام 1931، لتبدأ شخصية كردية أخرى الثورة، من جديد.

2. ثورة البارزاني الأولى

في منتصف القرن التاسع عشر، ظهرت أُسرة تنتمي إلى رجل دين، يدعى محمداً، من شيوخ الطريقة النقشبندية، واتخذت اسم البارزاني، نسبة إلى قرية بارزان[1]. وحل محل الشيخ محمد، بعد وفاته، ابنه عبدالرحيم، ووسع دائرة نفوذه. وأنجب الشيخ عبدالرحيم خمسة أبناء، هم الشيخ عبدالسلام، والشيخ أحمد، والملا مصطفى، والشيخ صديق، ومحمد بابو. وسيطرت هذه الأُسرة على منطقة بارزان وما حولها، من القبائل الكردية.

وصار الشيخ عبدالسلام مرجعاً لبارزان، بعد وفاة والده. ورفض إرسال متطوعين من أتباعه إلى الجيش العثماني، في الحرب العالمية الأولى. وامتنع عن دفع الضرائب إلى الدولة العثمانية، وتمرد عليها في مدينة عقرة، فوجَّهت إليه حملة عسكرية، أَسَرَته، وأعدم في الموصل، بعد محاكمته. وتولى الأمور في بارزان، من بعده، شقيقه الشيخ أحمد، فبرز على المسرح السياسي، في زمن الاحتلال البريطاني. وقدم إليه الإنجليز العون، المادي والمعنوي، لبسط سيطرته على المنطقة الشرقية من كردستان.

بدأ الشيخ أحمد بن عبدالرحيم البارزاني بالتمرد على الحكومة العراقية، حين حاولت، في أكتوبر 1931، نشر مخافر للشرطة في منطقة بارزان، منعاً لاعتداءات البارزانيين المتكررة على القرى الكردية. ووقع تصادم دموي بين الشرطة والجيش، من جهة، وأعوان أحمد البارزاني، من جهة أخرى، في نوفمبر 1931، ثم توسعت الأعمال العسكرية

فيما بعد، حتى 22 يونيه 1932، حين قصفت الطائرات البريطانية القرى في منطقة بارزان فدمرت 1365 بيتاً واحتل الجيش العراقي زيتا في جوار الخاد كواندة وطوقت القوات الحكومية الشيخ أحمد البارزاني فاضطر إلى تسليم نفسه لقوات الحدود التركية.

ومع أن الحركة البارزانية الأولى، تعَد منتهية، منذ 5 يوليه 1932، إلا أن ذيولها استمرت نحو سنة كاملة، لم تنقطع الاضطرابات، خلالها، في المنطقة. ذلك أن الحكومة التركية، اكتفت بإبعاد الشيخ أحمد البارزاني إلى أرضروم، أما أخواه، الملا مصطفى، والشيخ صديق، وأولو بك، وخليل خوشوي، التابعان لهما، فقد ظلوا قرب الحدود، يعبرونها إلى الأراضي العراقية، فيعبثون بالأمن.

وفي 13 مايو 1933، أصدرت الحكومة العراقية قانون العفو العام عن جميع البارزانيين. وفي 29 يونيه 1933، سلم الملا مصطفى، والشيخ صديق، وأولو بك، أنفسهم مع مائتين من أتباعهم، في شيروان مازن، ولحق بهم الشيخ أحمد البارزاني.

ولم تهدأ منطقة بارزان، إذ تواصلت أعمال العصيان، التي انبرى لها، خليل خوشوي، أحد أعوان البارزانيين، وهرب الملا مصطفى، وتزعم العصيان، من جديد. فوجّهت الحكومة العراقية إليه حملة عسكرية، في فبراير 1936، وقتلت خليل خوشوي، والتجأ الملا مصطفى البارزاني إلى الجبال .

وبعد انقلاب الفريق بكر صدقي، عام 1936، قبل الملا البارزاني الإقامة الجبرية بلواء السليمانية، بعيداً عن منطقته.

3. ثورة البارزاني الثانية

وحينما نشبت الحرب العالمية الثانية، هرب الملا مصطفى من محل إقامته الجبرية بالسليمانية، وعاد إلى بارزان، في يوليه 1943، وعمد إلى الانتفاضة، وأخذ يهدد سلامة الأهالي، من جديد، ويقطع المواصلات، حتى استفحل أمره.

وأرادت الحكومة العراقية معالجة القضية، بالوسائل السياسية، فعيَّنت ماجد مصطفى، وهو كردي، في منصب وزير في الحكومة، وكلفته بالتفاوض مع البارزاني. ونجح ماجد مصطفى في مهمته، وانتهت بتسليم الملا مصطفى نفسه للجيش العراقي، في 7 يناير عام 1944. وجيء به إلى بغداد، وشُرط عليه أن يسلم أتباعه أسلحتهم، ومقابل ذلك، يُعاد أخوه أحمد البارزاني إلى منطقة بارزان، وتزوَّد المنطقة المواد الغذائية والملابس.

ولتحسين الإدارة المدنية، عيِّن سبعة ضباط ارتباط، من الأكراد العاملين، في الجيش العراقي، لإدارة منطقة بارزان، بصورة مؤقتة، بإشراف وزير الدولة، ماجد مصطفى وإدارته.

ولكن هذه الإدارة، أخذت تعمل لمصلحة الملا مصطفى البارزاني، وتسعى إلى تحويل الحركة، من حركة عصيان إقطاعي إلى حركة قومية كردية، ضد الحكومة العراقية. ولما أحيل الضباط الأكراد السبعة إلى التقاعد، التحقوا بخدمة الملا مصطفى البارزاني، مما أدى إلى استفحال أمره، وأصبح أقوى شخصية في المنطقة الكردية بأسْرها.

وزاد نفوذ البارزاني بين القبائل والعشائر الكردية، وقدم الضباط الأكراد، الذين التحقوا به، خدمات عسكرية عظيمة، في فنون القتال، وتأسيس مراكز عسكرية محصنة، تشرف على الطرق الرئيسية، المؤدية إلى منطقة بارزان. وفقدت الحكومة العراقية، هيبتها، واستُهين بها.

وقدم إليه الإنجليز بعض العون، المادي والعسكري. وكانت له اتصالات مستمرة مع الاتحاد السوفيتي (السابق).

وباشر الملا مصطفى البارزاني عصيانه، في أغسطس 1945، عندما أمرت الحكومة قواتها باحتلال منطقة التمرد، والقبض على العُصاة وإعادة الطمأنينة والأمن للمنطقة.

وكانت قوة البارزانيين حوالي 2500 مسلح، مزودين بالبنادق الحديثة، وكانوا يسيطرون على منطقة واسعة، تمتد من روست حتى العمادية، ومن سر عقرة حتى نهاية برادوست. ويقودهم سبعة من ضباط الجيش السابقين، وكان على مقربة منهم الجيش الروسي، الذي قدم إليهم العون، المادي والمعنوي.

وخلال حشد الجيش، طلب الملا مصطفى من جمعية “الكومه له”، أي اللجنة أو العصبة، الكردية، في إيران، عوناً عسكرياً عاجلاً، فأمدته بأربعمائة مسلح، من طريق منطقة برادوست، المحاذية للحدود الإيرانية.

ووقع القتال بين قوات الحكومة والبارزانيين، في 25 أغسطس 1945، في بادليان، على مقربة من بله، وكان قتالاً شرساً وقاسياً على الطرفَين. ولم تسفر المعركة عن نتائج حاسمة، حتى 4 سبتمبر 1945، حينما حقق الجيش العراقي بعض النجاح، باحتلال بعض المواقع البارزانية.

وبعد قتال عنيف، متقطع لعدة أسابيع، تمكن الجيش، والقوات غير النظامية، من هزيمة البارزانيين، ودخلوا قرية بارزان، في 5 أكتوبر 1945، وطاردوا فلول البارزانيين إلى (كاني رش)، في اتجاه الحدود الإيرانية، في 9 أكتوبر 1945.

ودخل الملا مصطفى البارزاني منطقة آذربيجان الإيرانية التي كانت تحت الاحتلال الروسي، أثناء الحرب العالمية الأولى، ووصل أخوه أحمد إلى إيران. وبقي الملا، سنة ونصف السنة، في آذربيجان، تحت ظل الحكومة الكردية، التي أسسها الروس في صاوجبلاق الإيرانية، برئاسة جعفر بيشواري.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، عام 1945، اضطر الروس إلى الانسحاب من إيران، بعد أن ثبتوا أركان حكومة جمهورية مهاباد الكردية، التي ضمت حكومة بيشواري، ونصب القاضي محمد رئيساً لها.

ولكن هذه الجمهورية، انهارت أمام القوات الإيرانية، واشتبك البارزانيون مع القوات الإيرانية، التي تعقبتهم حتى الحدود العراقية، حيث وجدوا القوات العراقية أمامهم، فاستسلم لها القسم الأكبر منهم. ودخلت قوافلهم، مع أُسَرهم، إلى العراق، في أبريل 1947، وبينهم أحمد البارزاني وأربعة من الضباط الأكراد. وقد حوكم الضباط وأعدموا. أما الملا مصطفى البارزاني، فقد رفض الاستسلام، وتسرب عبر الحدود العراقية، وبدأ يناوئ الحكومة.

وبناء على تجدد العصيان البارزاني، أُعلنت الأحكام العرفية في قضاءَي رواندوز وزيبار، وسائر المناطق المتاخمة للحدود العراقية – الإيرانية. وتجمعت قوات البارزاني في شمال شيروان مازن، وفي 20 مايو 1947، باغتت القوات العسكرية العراقية قوات الملا مصطفى البارزاني، في هوبا، عند السفوح الشمالية لجبل بوتين.

وحينما تأكد من عدم قدرته على المقاومة، هرب إلى تركيا، ومنها دخل إلى إيران، ثانية، حيث يمَّم صوب الاتحاد السوفيتي، والتجأ إلى الروس. وبذلك، هدأت الأحوال في منطقة كردستان العراقية، لأكثر من إحدى عشرة سنة.

وفي الاتحاد السوفيتي، منح الملا مصطفى حق اللجوء السياسي، وتدرب على الفنون العسكرية، إذ اشترك في بعض التدريبات العسكرية، وأعطي رتبة (جنرال) شرف.

وفي الاتحاد السوفييتي، كذلك، أسَّس الملا مصطفى البارزاني، الحزب الديموقراطي الكردستاني، الذي عرف، فيما بعد، باسم “البارتي”، وارتبط الحزب بالشيوعية والتيارات الماركسية. وبوساطة العناصر الشيوعية في العراق، أسَّس له فروعاً في المنطقة الكردية العراقية. ونشط الحزب في إصدار المنشورات, وأصدر مجلة حزبية. واكتشفت السلطات العراقية أمره، فاعتقلت معظم أعضاء لجنته المركزية، فتفرق أعضاؤه.

وشهدت الفترة من عام 1947 إلى عام 1958، ركوداً في الحركة الكردية.

الأكراد عقب تحرير الكويت عام 1991

عقب انتصار العراق في الحرب العراقية – الإيرانية، سعت إيران إلى دفع الفصائل الكردية إلى توحيد جبهتها، مرة أخرى، بهدف استخدامها ضد صدام حسين. لذلك، عقد في كولون، في ألمانيا، في يناير 1990، مؤتمر كردي، يهدف إلى توحيد الجهود، والعودة إلى النضال، في سبيل تحقيق الحكم الذاتي لمنطقة كردستان. وكان التنسيق الرئيسي بين الحزبَين الكبيرَين: الديموقراطي الكردستاني، بقيادة مسعود البارزاني، والوطني الكردستاني، برئاسة جلال الطالباني.

بعد هزيمة العراق في حرب تحرير الكويت، انطلقت انتفاضة كردية شاملة، في مارس 1991، تطالب بالحصول على حكم ذاتي. وشهدت مدن السليمانية، ودهوك، وأربيل، موجة عنف شديدة، بين الثوار الأكراد والسلطات الأمنية الحكومية.

وكان رد الفعل المركزي العراقي شديداً، بتدخل القوات المسلحة، بشقَّيها، البري والجوي، لإنهاء هذه الانتفاضة. ونجحت، فعلاً، في تكبيد الأكراد خسائر كبيرة. واستفاد الأكراد من تحالفاتهم الغربية، التي اتخذتهم ورقة للضغط على الحكومة العراقية. إذ تقدمت دول التحالف، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، إلى مجلس الأمن بمشروع لاستصدار القرار 688، في 5 أبريل 1991، بتشكيل قوة لتوفير الحماية للأكراد، ولإعادة الاستقرار، وإنهاء القمع، الذي يتعرض له الأكراد، في شمالي العراق.

وتكونت هذه القوة من وحدات، أمريكية وبريطانية وفرنسية، وتحدد لها ثلاثة أشهر، لتنفيذ مهمتها. وانسحبت في نهاية يوليه 1991، تاركة مجموعات من المراقبين. ومع انسحابها، أُعلن إنشاء منطقة أمنية كردية، يحدها خط العرض 36 درجة شمالاً، ويحظر على الطائرات العسكرية العراقية الطيران فوقها، كما يمنع بقاء أي قوات عسكرية، أو قوات أمن خاصة عراقية فيها

ومنذ تلك اللحظة ، وجد الأكراد أنفسهم يخطون أولى خطواتهم، نحو تحقيق الحكم الذاتي لإقليم كردستان، وخلق وطن كردي مستقر، تتوافر فيه ضمانات حقوق الإنسان، والعمل السياسي الديموقراطي، الذي يضطلع به الأكراد أنفسهم، بما يساعد على نضج التجربة الكردية، التي طال كفاحها من أجْل الاعتراف بقومية كردستان.

وكانت الأمم المتحدة، ودول التحالف الرئيسية، تساير هذا الخط، ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، التي رأت في الأكراد ورقة رابحة يمكن من خلالها، تحقيق سياستها في مواجَهة العراق، وإيران، كذلك. لذلك، عملت، منذ اللحظات الأولى، في تجنيد الأكراد، بمستوياتهم المختلفة، في مصلحة النفوذ الأمريكي في المنطقة.

ولم يكن وضع الأكراد، بدءاً من يولـيه 1991، هو الوضع المثالي، بالنسبة إلى الأكراد أنفسهم، أو إلى دول الجوار. وظهر العديد من المتغيرات، التي أثرت في الموقف الكردي – الكردي، وأشعلته، إلى جانب تأثيرها في المواقف المختلفة لدول الجوار، والتي كان لكلٍّ منها موقف مستقل أو بالتنسيق مع سواها، في مواجَهة الموقف الجديد. بيد أن جميع القوى، الإقليمية والعالمية، تبنّت موقفاً رئيسياً، وهو عدم السماح بنشوء دولة كردية مستقلة، في هذه المنطقة.

أولاً: مواقف القوى الكردية من قضية الحكم الذاتي

على الرغم من الكفاح الكردي المتواصل، فترات طويلة، على مراحل سياسية واجتماعية متباينة، إلا أن الأكراد، لم يكونوا مهيئين، على أي مستوى، للاستفادة من الموقف المفاجئ، الناجم عن انكسار العراق في الحرب، والذي آذن بتحقيق الحكم الذاتي. لذلك، فإن خطواتهم في مسيرة هذا الحكم، اتصفت بالعشوائية، ومحاولة حصد المكاسب العشائرية، على حساب كردستان نفسها.

نظراً إلى وجود حزبَين كبيرَين، فقد بدأ التنافس بينهما، منذ اللحظة الأولى. وما لبث أن استحال صراعاً، أعاد إلى الذاكرة صراعاتهما القديمة، منذ السبعينيات، إذ تطور من صراع مبادئ إلى صراع مسلّح.

وزاد من حدّة هذا الصراع، أن توجهات الحزبَين مختلفة، بل إن انتماءاتهما وتحالفاتهما مختلفة، كذلك. وتخضع، باستمرار، للتوجهات القَبلية والعشائرية.

ونظراً إلى افتقاد بنية أساسية ملائمة، والافتقار إلى موارد مالية، لإدارة منطقة الحكم الذاتي الجديدة، فضلاً عن الحصار الاقتصادي، الذي فرضته الحكومة العراقية على إقليم كردستان، اعتمد الأكراد اعتماداً كلياً على المساعدات الخارجية. ويلفت، في هذا الاتجاه، تصريح مسعود البارزاني، في يونيه 1993، “أن جهود شهرَين في محاولة جمع مساعدات مالية، مـن الولايات المتحدة الأمريكية، أو دول أوروبية أو خليجية، قد فشلت. وصار أكراد العراق أمام خيارين. إما أن يعودوا لاجئين من جديد، في إيران أو تركيا أو غيرهما، أو أن يستسلموا للرئيس العراقي صدام حسين”.

ومع تفاهم القوى الإقليمية على عدم السماح بإنشاء دولة كردية، فقد عانى أكراد العراق عدم اعتراف أي دولة بوضعهم الجديد، وخصوصاً دول الجوار التي تمثل أهمية خاصة للأكراد. بل كان العكس تماماً، إذ لجأت دول الجوار إلى شبه مقاطعة، سياسية واقتصادية، عدا “المساعدات المحسوبة”، التي تقدمها إلى الأكراد، وخصوصاً من إيران وتركيا وسورية، في مقابل أهداف محددة يحققونها لها، ومن ثم، فإن حجم المساعدات يتقرر بمدى تحقيق الأهداف.

حيال الفراغ السياسي، والمصاعب الجمة، انقسم الأكراد، وتعددت زعاماتهم، وظهرت حركات وتنظيمات كردية جديدة، كالحركة الإسلامية الكردية، التي مثلت تجمعات إسلامية مختلفة، وتزعمها الملا عثمان عبدالعزيز، الذي حصل في انتخابات الرئاسة في كردستان على 4% من مجموع الأصوات. وحاولت أداء دور أكبر، على الساحة الكردية، وحالفت الحزب الكردستاني ضد الحزب الوطني. وقد تبنّت إيران هذه الحركة.

كانت تحالفات أبرز أحزاب المنطقة الكردية، خلال فترة الثمانينيات وأوائل التسعينيات كالآتي:

1. الحزب الديموقراطي الكردستاني: كان يعتمد، في الدعم الخارجي، “إقليمياً، على إيران، ودولياً، على الولايات المتحدة الأمريكية، وينفّذ أهداف إيران في العراق.

2. الاتحاد الوطني الكردستاني: كان حليفاً للنظام العراقي، ودائم الاتصال به. وكان جلال الطالباني، رئيس الحزب، هو الراعي الرئيسي للمفاوضات الكردية مع الحكومة، وكان يتلقى مساعداته من العراق.

إلا أنه في الفترة، من نهاية عام 1993 وحتى منتصف عام 1994، حدث انقلاب تام في توجهات الحزبَين، بسبب التدخل الإيراني. إذ اكتشفت إيران أن هناك تنسيقاً وتفاهماً بين الحزبين الديموقراطيَّين الكردستانيَّين في العراق وإيران، هاجم على أثرهما الحزب الكردستاني الإيراني أهدافاً داخل إيران، بنجاح. وقد احتمى العديد من مقاتلي الحزب داخل معسكرات تابعة للحزب الديموقراطي العراقي، في شمالي العراق. لذلك قصفت مدفعية إيران وسلاحه الجوي تلك المعسكرات.

ولم تكتفِ طهران بذلك، بل عمدت إلى التحالف مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، فأمدته بالأسلحة والمعدات، ليهاجم هو نفسه معاقل الحزب الديموقراطي. وفعلاً، اشتعل الصراع في شمالي العراق، بين الحزبَين، في أبريل 1994. وتكبد كلاهما خسائر كبيرة، ولم يتوقف إلا بتدخل قوات التحالف الدولي. (أُنظر ملحق النص الكامل للاتفاق بين الحزب الديموقراطي والاتحاد الوطني)

ومنذ تلك اللحظة تغيرت توجهات الحزبَين.

1. إذ تحالف الحزب الديموقراطي الكردستاني مع الحكومة العراقية. ونادى بأن الحوار مع النظام العراقي، هو الطريق إلى حل المشكلات الكردية. واتجه إلى الحصول على الدعم من “العراق الأم”.

2. أما الاتحاد الوطني الكردستاني، فأكد أن حل المشكلة الكردية، لن يتحقق، إلا بإشراف أمريكي – أوروبي. واتجه إلى التحالف مع إيران، التي تدعمه بالإمكانيات المادية والسلاح، في سبيل تحقيق أهدافها.

3. وتحالف الحزب الإسلامي الكردستاني، والذي سبق إنشاؤه بدعم إيراني، مع الحزب الديموقراطي، في معاركه ضد الاتحاد الوطني. ثم اتخذ الحياد بين الحزبَين. وقد أدى ذلك إلى فتور شديد بين الحزب وإيران، التي كانت تسعى، من خلاله، إلى تحقيق أهدافها تحقيقاً كاملاً.

ثانياً: الصراع الكردي ـ الكردي، عام 1996

كانت هذه الجولة من الصراع، هي الأشد عنفاً، بين الفصائل الكردية، خلال تاريخها الطويل. وهي تدخل في نطاق “الحرب بالوكالة”، أو “الحرب الاقتصادية” وكل منهما لها مبرراتها.

فتسمية الحرب بالوكالة، تأتي من منطلق، أن كّلاً من الحزبَين المتحاربَين، كان يقف وراءه، ويتدخل في نهجه دولة لها مصالح في إرهاق دولة أخرى. فالحزب الوطني، كان يقف وراءه إيران، تسانده بإمكانات عسكرية ومادية. والحزب الديموقراطي، كان العراق يسانده، ويتدخل بقواته لمصلحته.

أما تسميتها بالحرب الاقتصادية، فلأنها اشتعلت في توقيت متزامن مع قرب الاتفاق على قرار الأمم المتحدة، “النفط مقابل الغذاء”. وهو اتفاق ذو علاقة قوية بالمنطقة الكردية، إذ يخصص نسبة من عائد النفط إلى الأكراد، مما يتطلب أن تضطلع هيئة كردية عليا بالتصرف في هذه المخصصات، وكلا الحزبَين يريد أن يكون هو هذه الهيئة.

ناهيك، أن النفط المصدَّر، سيمر في خطوط، تعبُر المنطقة الكردية من العراق إلى تركيا، وتتطلب تأميناً في مرحلة إصلاحها، مع ضمان عدم تعطيلها، بعد ذلك. ويرغب العراق في أن تكون الخطوط تحت سيطرته، بوساطة حلفاء من الأكراد وترغب إيران، خلافاً للرغبة العراقية، في أن تكون هي المسيطرة على الخطوط، للضغط على العراق.

وقد اشتعل الصراع، في نطاق تحالفات 1994، التي لم يطرأ عليها أي تغيير، في هذا الوقت، وبدأ، منذ أوائل عام 1996، بحشود إيرانية، على طول الحدود الشمالية الغربية لإيران، في مواجهة كردستان العراق، إذ كانت تدفع، من وقت إلى آخر، قوات من الحرس الثوري الإيراني، وأخرى من كتائب “بدر” التابعة للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، إلى مهاجمة معاقل الحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني، الموجودة في شمالي العراق، في مناطق سيطرة الحزب الديموقراطي الكردستاني العراقي.

وقد توغلت هذه القوات إلى مسافات تصل إلى 50 كم، داخل الأراضي العراقية، منتهكة سيادة العراق. وكان مسعود البارزاني، رئيس الحزب الديموقراطي، يتولى إعلان هذه الإتهامات. وكانت إيران تقابلها بالصمت، عدا تصريحات قليلة، بأنها تقصف مَواقع الحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني، “الخارجة عن القانون”، انتقاماً من غاراتها على أهداف حيوية إيرانية.

في الوقت عينه، تصاعدت اتهامات الحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني للاتحاد الوطني الكردستاني العراقي، بتقديمه تسهيلات إلى القوات الإيرانية، وتوفير طرق المرور لها وتعرّفها أهدافها (قواعد الحزب الإيراني المتهِم)، في منطقة أربيل، و منطقة كوي سنجق.

وبدءاً من يوليه 1996، بدأت الاشتباكات العنيفة بين الحزبَين العراقيَّين تتجدد. ودعمت إيران قوات الطالباني دعماً كثيفاً،، حتى إن مصادر صحافية ذكرت، أن “ألفي جندي إيراني، يعبُرون الحدود العراقية، لمطاردة المتمردين الأكراد في كردستان”.

كما اتهم الحزب الديموقراطي الكردستاني العراقي، إيران، بتقديم دعم مدفعي للاتحاد الوطني، واستخدام طائرات عمودية، لنقل قواته إلى خلف خطوط الحزب. وفي خلال أغسطس، سارت المعارك في غير مصلحة الحزب الديموقراطي، حليف بغداد، مما يشير إلى الخطر الذي سيسفر عنه نجاح إيران في السيطرة على شمالي العراق، من خلال حليفها، جلال الطالباني.

لذلك، كان قرار العراق خطيراً، ومفاجئاً. فبدل أن يزيد دعمه لمسعود البارزاني، قرر الدخول “سافراً” في هذا الصراع. وكانت وجهة نظره تتحدد في الآتي:

1. أن شمالي العراق جزء من الوطن العراقي. ولا يوجد نص، في قرارات مجلس الأمن، على تقسيم العراق، أو فصل هذا الشمال عن الجنوب، فهذا الجزء خاضع، إذاً، للسيطرة العراقية.

2. إن الموقف خطير، ولا يحتمل أنصاف الحلول، ولا بدّ من التدخل الحاسم لمصلحة وحدة العراق.

3. إن قوات التحالف والأمم المتحدة، ستكون في اختبار، وخصوصاً أن التخطيط للعملية، سيكون مفاجئاً، وسريعاً، لتدمير القوة المعادية، ثم الانسحاب، مع الإعلان المسبق عن عدم استمرار القوات العراقية في الشمال، ولكنها تنفّذ مهمة محددة، ثم تنسحب.

4. إن استعراض القوة، هو من أجل تأكيد قوة العراق، القادر على التحرك من أجل تحقيق ذاته. وأنه استعاد عافيته، بعد حرب الخليج الثانية، على الرغم من الحظر الدولي.

وفي 31 أغسطس 1996، اجتاح الجيش العراقي مدينة أربيل الكردية، التي كان قد استولى عليها جلال الطالباني، وأعاد رفع العلم العراقي عليها. ثم عمدت القوات العراقية إلى القبض على الكثير من الأكراد، العاملون لمصلحة جهات أجنبية.

كما أوقعت هزائم متكررة بقوات جلال الطالباني، خلال أيام القتال الثلاثة (31 أغسطس – 2 سبتمبر) التي اجتاحت فيها القوات العراقية المنطقة، مما سهّل على مسعود البارزاني استعادة سيطرته على الموقف، بعد ذلك. أما على المستوى السـياسي، فإن وزارة الخارجية العراقية، أعلنت، منذ اللحظة الأولى، أن القوات العراقية في مهمة محددة، سوف تنسحب بعدها، ولن يستمر وجودها في المنطقة.

ولم تكن هذه الحركات العسكرية المفاجئة، تمر بسهولة أمام أعين قوات التحالف الدولي، لذلك، فقد رفعت القوات الأمريكية في الخليج درجة استعدادها إلى الحالة القصوى، في اليوم عينه. ووجهت إنذاراً إلى القوات العراقية بعدها مباشرة، أعلن التليفزيون العراقي انسحاب القوات من شمالي العراق .

وكان لا بد لقوات التحالف أن تثبت ذاتها، وتعاقب العراق على قراره. وفي هذا المجال، اتخذت أربعة إجراءات:

1. في 3 سبتمبر، وجهت الولايات المتحدة الأمريكية ضربة صاروخية، بقوة 27 صاروخاً، من نوع “توما هوك”، ضد مراكز الدفاع الجوي، ومنصات الصواريخ، جنوب بغداد.

2. في 4 سبتمبر، تكررت الضربة، بقوة 17 صاروخاً، ضد المنشآت نفسها، إضافة إلى منشآت عسكرية أخرى.

3. في 5 سبتمبر أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية، بصفتها قائدة التحالف الدولي، توسيع مجال الحظر الجوي، ليمتد إلى خط العرض 33°، بدلاً من 32° (الخط السابق).

4. وخلال الفترة عينها، أعلن مجلس الأمن استمرار الحظر على العراق، ووجهت الولايات المتحدة الأمريكية طلباً إلى رعاياها، بمغادرته، مما أوحى ببدء اتساع رقعة القتال. ولذلك، فإن الرئيس صدام حسين، عقد اجتماعاً طارئاً بالقادة العسكريين، من أجل تهدئة الموقف، مع الاستعداد لأي تطورات قادمة.

وقد أتاح هذا المناخ، الفرصة للحزب الديموقراطي الكردستاني، لاستعادة السيطرة على المدن الرئيسية، والأجزاء التي فقدها في جولته الأولى مع الاتحاد الوطني. إذ نجح، في 5 سبتمبر، في الاستيلاء على مدينتَين كرديتَين. ثم استعاد السيطرة على مدينة السليمانية، في 9 سبتمبر مما أدى إلى نزوح حوالي 75 ألف كردي إلى إيـران. وفي عقب ذلك، أدى مسعود البارزاني دور زعيم كردستان، وأصدر عفواً عن جلال الطلباني، وكل الأكراد المناوئين.

وفي 12 سبتمبر، حدث تطور آخر، بإطلاق بطارية صواريخ عراقية ثلاثة من صواريخها، على إحدى الطائرات الأمريكية، في منطقة الحظر الجديدة. ولكن أمكن استيعاب الموقف، سياسياً، بإعلان بغداد وقف هجماتها الصاروخية. ومع ذلك، فقد وصلت طلائع قوات أمريكية إلى منطقة الحدود، بين العراق والكويت، في 20 سبتمبر 1996.

أما الموقف في الشمال، فلم يتوقف عند هذا الحدَ، على الرغم من الهدنة غير المعلنة، لالتقاط الأنفاس، إذ سرعان ما اشتعلت المعارك من جديد، بين الحزبَين الكرديَين، وكانت هذه الجولة في مصلحة جلال الطالباني، الذي تلقّى مساعدات كبيرة من إيران، بينما كان الدعم العراقي للبارزاني شبه متوقف، بسبب الإجراءات الأمريكية المضادّة. لذلك، استعاد الاتحاد الوطني معظم المناطق، التي سبق أن فقدها في معاركه السابقة.

ومع بدء استعادة التوازن بين قوى الأكراد، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية تلقي بثقلها، لإيقاف القتال. وحضر بيليترو، مساعد وزير الخا

رجية الأمريكية إلى المنطقة، واجتمع، في تركيا، مع قطبَي النزاع، اللذين أعلنا استعدادهما لوقف القتال. ووُقِّع اتفاق إيقاف النيران، فعلاً في 31 أكتوبر 1996. وتضمن تشكيل حكومه كردية جديدة، لتولي مسؤوليات كردستان، ونص على عقد اجتماع مشترك، لفض النزاعات بين الجناحَين الكرديَّين، كل خمسة عشر يوماً، في أنقرة في حضور مندوبي الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وتركيا.

(أنظر ملحق النص الكامل للاتفاق الذي تم التوصل إليه في 31 أكتوبر 1996 بين حزبَي مسعود البرازاني (الحزب الديموقراطي) وجلال الطالباني (الاتحاد الوطني) وممثلين عن التركمان في شمال العراق إضافة إلى ممثلين عن الحكومات الأمريكية والتركية والبريطانية)

ولم يكن لهذا الاتفاق أن ينهي صراع الفصائل الكردية، إذ سرعان ما تجدد، في أوائل شهر ديسمبر.

وفي مبادرة منها، وتحسباً لتكرار الحكومة العراقية هجومها، الذي شنته في نهاية أغسطس، فقد أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية، في 4 ديسمبر 1996، ترحيل المنشقِّين الأكراد “وهم الأكراد، الذين كانت تعدهم لتنفيذ مهام خاصة في المنطقة، سواء في اتجاه العراق أو إيران”. وقد نقلوا، أولاً، إلى أنقرة، ثم إلى إحدى جزر المحيط الهادي، لتأهيلهم قبْل نقلهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

ثالثاً: الموقف العربي من تطورات المسألة الكردية في العراق

يتحدد الموقف العربي، بصفة عامة، في النقاط الآتية:

أ. التمسك بوحدة العراق، ورفض أي نوع من تقسيمه، فيدرالياً أو كونفيدرالياً، مع الاعتراف بحق الأكراد في حياة آمنة، ضمن الوطن العراقي الواحد.

ب. يرى العديد من الدول العربية، المهتمة بالقضية، وفي مقدمتها مصر والسعودية وسورية، ودولة الإمارات، أن دخول الجيش العراقي إلى شمالي العراق في سبتمبر 1996 هو دخول شرعي إلى جزء من أراضيه، ولا يمثل هذا أي انتهاك للقوانين الدولية، وفي الوقت عينه، انتقد أو تحفظ كل الدول العربية من الضربة الصاروخية الأمريكية للعراق .

ج. تمثل الخلافات العربية ـ العربية مناخاً ملائماً لمزايدة فصائل الأكراد المختلفة للمزايدة للحصول على المعونات من شتى الأطراف، ويرجع ذلك إلى افتقاد أكراد العراق حماية عربية، ترعى مصالحهم، في هذه المرحلة الحساسة، إلى أن يستعيد العراق وضعه في النطاق العربي.

لسورية موقف خاص من أكراد العراق، إذ توجد على أراضيها أقلية كردية، كما أن حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، تأسس في دمشق عام 1975، بدعم سوري. وهي، كدولة حدودية، يلجأ إليها بعض الفارِّين من فئات الأكراد الأخرى للاحتماء بأراضيها. لذلك، فاهتمام سورية بقضايا الأكراد، يمثل عاملاً رئيسياً في القضية.

أما موقف العراق نفسه تجاه قضية الأكراد، فيتمثل في تنفيذ استراتيجية النفس الطويل، ريثما تنهتي الأزمة العراقية، فيلتفت إلى الشمال، ويخضعه، بأي صورة، للسلطة المركزية. وترى بغداد، أن صيغة بيان 11 مارس 1970، الخاصة بالحكم الذاتي، هي المثلى، وهي التي أُقرت، عام 1991، بعد المتغيرات الناجمة عن حرب الخليج الثانية.

رابعاً: مواقف الأطراف الإقليمية من الصراع

أدى الموقف غير المسبوق، في شمالي العراق، إلى فراغ، سياسي وإداري، خطير، في منطقة تعاني متاعبها حكومات الدول المجاورة، منذ زمن طويل. لذلك، وفي عقب انتهاء حرب الخليج الثانية، سعت تركيا وإيران وسورية إلى التنسيق فيما بينها بهدف الحفاظ على وحدة أراضيها وسلامتها الإقليمية، والحيلولة دون تعاون الفئات الكردية الفاعلة، سياسياً وعسكرياً، ومنع قيام أي دولة كردية مستقلة. وقد تجسّد هذا التنسيق، رسـمياً في اجتماع الأطراف الثلاثة، في نوفمبر 1992.

ولم يُدعَ العراق إلى هذا المؤتمر، فسارع إلى الإعلان أن الاجتماع، يمثل تدخلاً في شؤونه الداخلية. كذلك، لم تُدعَ إليه الأحزاب الكردية، مما دفع تلك الأحزاب إلى التوجس من أن هذا المؤتمر، يهدف إلى إجهاض تجربة الحكم الذاتي الكردي، الوليدة، في شمالي العراق.

وقد تكرر الاجتماع، بصفة دورية، على مستوى وزراء الخارجية، أو مستوى الخبراء. وكان مضمون البيانات، الصادرة عن الاجتماعات، يتلخص في الآتي:

1. تأكيد الالتزام بوحدة أراضي العراق.

2. عدم التدخل في شؤون العراق الداخلية.

3. بحث الوضع في شمالي العراق، حؤولاً دون الفوضى في هذه المنطقة الحساسة، التي تمثل تهديداً للأمن والاستقرار الإقليميَّين.

ومع ذلك، لم تؤد هذه الاجتماعات إلى حلول عملية للمشكلة الكردية، في شمالي العراق. وكان هناك اجتهادات، نبعت من تركيا بضرورة وجود دور أمريكي – بريطاني.

كان رد أكراد العراق على انعقاد مؤتمرات التنسيق، ينحصر في نقطتين:

أ. دعوة هذه الدول إلى حل مشكلات مواطنيها من الأكراد، أولاً.

ب. عدم نية أكراد العراق التدخل في الشؤون الداخلية للدول المجاورة.

وهناك عدة عوامل مهمة في تعامل الأطراف الإقليمية مع أكراد العراق، أو منطقة كردستان العراقية:

· إن الدول المجاورة لم تعترف بحق الأكراد في الحكم الذاتي. وكان هناك قطيعة تامة بين الأكراد والمؤسسات الرسمية لهذه الدول، في جميع المجالات، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، “عدا موضوعات التآمر أو الحرب بالوكالة ، وتقديم المساعدات المحدودة”.

· إن الحزبَين الكرديَّين الرئيسيَّين، تحملا عواقب أنشطة الأحزاب الكردية المناوئة، سواء في إيران أو تركيا، والتي كانت، دائماً، تنطلق من كردستان العراق، كما أن الصراع بين الحزبَين الرئيسيَّين، كان له أبعاد تنافسية، تفرض علية، دائماً، من إيران أو تركيا أو الحلفاء الغربيِّين.

· إن جميع أحزاب المعارضة العراقية، والتي تتلقى مساعدات من دول، عربية أو أجنبية، رفضت أي صيغة فيدرالية لأكراد العراق، على أساس أن هذا سيكون نوعاً من تقسيم العراق، واكتفت بإعلانها احترام آمال وتطلعات الأكراد إلى حكم ذاتي.

· إن كلاً من إيران وتركيا، أعلنت أن لها الحق في ملاحقة مواطنيها، من الأكراد المنشقِّين، في داخل كردستان العراق.

ويذكر أن الاتحاد السوفيتي، الذي كان له في السابق، دور رئيسي في القضية الكردية، فقدَ تأثيره، بدءاً من عام 1991، عقب نهاية حرب الخليج الثانية، نظراً إلى المتغيرات الحادّة التي تعرض لها، وفرطت عقده، في دول مختلفة، كل منها كان لها مشاكلها، التي تشغلها عن القضية الكردية.

1. الموقف التركي

في خلال الثمانينيات، كان التعاون التركي – العراقي متكاملاً، لاحتواء حركة الأكراد، إذ كان هناك أهداف مشتركة، في المجال الاقتصادي، أهمها أنابيب النفط، يراد تحقيقها، بكفاءة.

في عقب حرب الخليج الثانية، تغير الموقف السياسي التركي، نتيجة المتغيرات المتعلقة بتركيا نفسها، وأهمها:

· الالتزام السياسي التركي تجاه قوات التحالف بالحفاظ على الوضع الراهن في العراق، واستكمال حصاره من اتجاه الشمال. وهكذا حرمت تركيا من عوائد نقل النفط العراقي عبر الأنابيب، التي تمر في أراضيها، على الرغم من المقررات التعويضية، التي لا تتلاءم مع العائد الحقيقي.

· تخوف الحكومة التركية من انعكاس أثر الحكم الذاتي لأكراد العراق، على أكراد تركيا نفسها، مما قد يحدث قلاقل داخلية فيها.

وأثار هاجس تركيا، خوفها من زيادة نشاط حزب العمال الكردستاني التركي، واتخاذه من كردستان العراق قاعدة له، مع إمكان تجنيده لعناصر جديدة، أو التحالف مع الأحزاب الكردية العراقية، مما يؤثر في الوضع، السياسي والأمني، في تركيا. ولإزالة هذا التخوف، فإن تركيا سمحت لنفسها، في كثير من الأوقات، بدفع قواتها المسلحة إلى داخل الحدود العراقية، محاولة تدمير قواعد هذا الحزب. كما تحالفت، في أوقات أخرى، مع الأحزاب الكردية العراقية، ولاسيما الحزب الديموقراطي الكردستاني، لقتال عناصر حزب العمال التركي.

رغبة تركيا في الظهور بمظهر “راعي أكراد العراق”، في إطار ما أسمته، منذ عام 1994، “التعامل مع الواقع الكردي”. وتهدف تركيا من هذا التعامل إلى:

أ. مقاومة أي اتجاه لاستقلال الأكراد، أو إعلان دولة منفصلة.

ب. ضمان عدم تأثيرهم في أكراد تركيا. وفي الوقت عينه، الإيحاء لهؤلاء أنها ترعى أشقاءهم في العراق، وبذلك تحتوي ردود فعلهم.

ج. ضمان عدم إثارة العراق للمشاكل الحدودية، أو حقه التاريخي في أراضٍ تركية .

د. الحصول على دعم ملائم من دول الاتحاد الأوروبي، من خلال دعمها لأكراد العراق.

هـ. تخوف تركيا من تدفّق مهاجرين أكراد إلى داخل أراضيها، في حالة عدم وجود استقرار شمالي العراق، وهي الحالة التي تنجم عن ثلاثة عوامل:

(1) فراغ السلطة، أو الصراع بين الأكراد أنفسهم.

(2) محاولة الحكومة العراقية إعادة ضم شمالي العراق، بالقوة، مما يثير حرباً جديدة في المنطقة .

(3) حدوث مجاعات، أو أوبئة.

وهكذا، انبثقت فكرة عملية توفير الراحة لحماية أكراد العراق، التي تبنّتها الحكومة التركية Provide Comfort Operation.

بناء على ذلك، تحددت الإستراتيجية التركية تجاه أكراد العراق، منذ عام 1991 وحتى الآن، في ثلاثة مبادئ:

أ. عدم السماح بدعم أكراد العراق لأي حركات قومية كردية، في تركيا .

ب. عدم السماح، بل مقاومة إنشاء حزب العمال الكردستاني التركي، قواعد له في كردستان العراق، وتدمير أي قواعد ينجح في إنشائها.

ج. ضمان عدم مقاومة أي أعمال عسكرية تركية، داخل أراضي العراق لتدمير قواعد حزب العمال.

وقد تفهم الطرفان، الكردي والتركي، هذه الإستراتيجية. كما تفهمها النظام العراقي. لذلك، فإن النزاعات “السياسية”، العراقية – الكردية – التركية، خلال الست سنوات الماضية، تُعَدّ محدودة جداً، إذ قيست بحجم انتهاكات حدود العراق، أو العمليات العسكرية التركية، داخل كردستان العراق، التي لا تجد أي مقاومة، نظامية أو شعبية.

ومنذ عام 1991، في إثر حرب الخليج الثانية، حدثت عدة تطورات، نوجزها في الآتي:

أ. كان أول إجراء، اتخذه الحزبان الكرديان الرئيسيان، بعد حصول الأكراد على الحكم الذاتي، هو توجيه تحذير إلى تركيا، أنه في حالة دخول الجيش التركي إلى كردستان، فإنهم سيتصدون له.

ب. رأت تركيا أن تستقطب أكراد العراق. لذلك، بدأت سلسلة مفاوضات معهم، في ضوء استراتيجيتها تجاه تلك المنطقة، بهدف تأمين تعايش مستقر في شمالي العراق، يجمع العرب والأكراد والتركمان (تهتم تركيا برعاية الأقلية التركمانية في العراق، كالتزام، أدبي وعِرقي، في آن معاً، واستغلالها في تنفيذ السياسة التركية في العراق) .

ج. عندما تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية، بصفتها قائدة التحالف الدولي لتحرير الكويت، في ذلك الوقت، للتوسط بين أكراد العراق وتركيا، في عقب الإنذارات الكردية، كان شرطها الرئيسي، الذي يجب أن يقبَله الطرف الكردي، هو عدم دعم الحركات الانفصالية الكردية في تركيا. وقد قبِل أكراد العراق هذا الشرط، إذ إن تركيا، تمثل لهم خط الاتصال الرئيسي مع الغرب، للحصول على الحماية والدعم الدوليَّين، علاوة على رغبة الأكراد، أن تكون تركيا هي حلقة الوصل، لمزيد من تقاربهم مع الولايات المتحدة الأمريكية.

د. سارت الأمور، عقب المفاوضات، مسيرة حسنة، إلى درجة أن “جلال الطالباني زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني العراقـي، فاجأ الجميع بالحديث عن إمكانية دخول أكراد العراق في ترتيب فيدرالي مع تركيا”. إلا أن هذا الاقتراح لاقى معارضة لسبَبين :

(1) عدم رغبة تركيا في إضافة أعباء أقليات إلى أعبائها، إذ لو أضيف أكراد العراق إلى أكراد تركيا، فسيمثلون 75% من حجم أكراد المنطقة، وسيكون لهم مطالب حادّة، بعد ذلك.

(2) اتجاه معظم القوى إلى التحذير من تقسيم العراق، بينما يعني انضمام الأكراد إلى تركيا، اقتطاع جزء من العراق.

ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أن الطالباني، طالب أن تكون تركيا ضامنة لحصول الأكراد على اتفاق حكم ذاتي لهم، من الحكومة العراقية.

هـ. ولم تكن المطالب الكردية سوى نوع من التقرب والتحالف مع تركيا، لمواجهة المتغيرات الجديدة، في عقب حرب الخليج الثانية. واستمرت المزايدات بين الطالباني ومسعود البارزاني، لاستقطاب تركيا، من أجل مزيد مـن الدعم لأكراد العراق. وبالغ الزعيمان في إثارة موضوعات، منها “تفضيل تركيا، لتوافر الديموقراطية فيها”، و”أحقية تركيا التاريخية في إقليم الموصل”.

و. وقد اتخذت تركيا، تجاه ذلك، موقفاً متزناً، طبقاً لإستراتيجيتها، ولم تستجب لهذه الأقاويل.

ز. خصصت تركيا دعماً لأكراد العراق (13.5 مليون دولار)، في شهر أغسطس 1993.

ح. فرضت تركيا قيوداً شديدة على أي إمدادات (التسليح، أساساً) تمر بأراضيها إلى أكراد العراق.

ي. تتخذ أنقرة إجراءات أمنية، ضد تنقلات الأكراد، عند حدوث أي أزمة، تحسباً لانتقال أعضاء حزب العمال الكردستاني إلى تركيا، ضمن الفارين من أكراد العراق. وحاولت إقامة منطقة آمنة، داخل حدود العراق. وقوبل ذلك بالرفض. إلا أن إحدى صحف تركيا، ذكرت، في 22 أكتوبر 1997، أن تركيا أقامت فعلاً منطقة أمنية، بعمق عشرة كيلومترات، يوجد فيها حوالي ثمانية آلاف جندي تركي. “إلا أن هذا التصريح، لم يتأكد بعد”.

2. حزب العمال الكردستاني التركي، وموقفه من أكراد العراق

في عقب حرب تحرير الكويت، وبدءاً من صيف 1991، انتقل نشاط حزب العمال الكردستاني التركي (PKK)، ليتخذ من كردستان العراق قواعد آمنة له. وكان ذلك مثار تخوف رسمي لتركيا، وأدى إلى تحالفات تركية مع أحزاب الأكراد، لقتاله (بالوكالة عنها). كما أدى إلى مبادرة تركيا إلى عدة حملات عسكرية، لتدمير قواعده، في شمالي العراق.

منذ عام 1992، سعى حزب العمال الكردستاني التركي، إلى توسيع نشاطه شمالي العراق، والوقوف جنباً إلى جنب مع الحزبَين الكرديَّين العراقيَّين. ولكن ذلك قوبل بجفاء منهما ، ورفض للفكرة من الأساس، على الرغم من معارضتهما للإجراءات التركية، في محاولة القضاء عليه، النابعة من حرصهما على إحياء القومية الكردية، وحتى لا يكون موقفهما حرجاً أمام الشعب الكردي، في تركيا وفي العراق. وقد أسس حزب العمال فرعاً له، شمالي العراق، باسم “حزب التحرير الكردي”.

يرى أكراد العراق، أن حزب العمال الكردستاني التركي، يؤثر فيهم تأثيراً مباشراً، في المجالات الآتية:

أ. تدخله في الشؤون الداخلية لكردستان العراق، وعدم احترامه للاتفاقيات مع أكرادها.

ب. استخدام العنف في حل مشاكله مع الأحزاب الكردية العراقية.

ج. قيامه بأعمال استفزازية، تؤدي إلى تدخّل القوات المسلحة التركية في شمالي العراق، مما يؤثر في الأمن الكردي العراقي.

د. تأثيره في العلاقات بين أكراد العراق، وتركيا، التي تضغط، بدورها، على أكراد العراق، للحد من أنشطة حزب العمال، التي تعدها أنشطة “إرهابية”.

الأكراد في تركيا

أولاً: الأكراد في تركيا، من عهد أتاتورك حتى الحرب العالمية الثانية

قبلت الحكومة العثمانية في استانبول، مرغمة، معاهدة سيفر (Sèvres)، التي عقدت في 10 أغسطس عام 1920. ولكن الحكومة الوطنية، التي شكلها مصطفى كمال أتاتورك، في الأناضول، عام 1919، رفضت الاعتراف بها، وبادرت إلى حركة وطنية، من شرقي تركيا، لتحرير الوطن التركي.

حرص مصطفى كمال أتاتورك على ضمان انضمام الأكراد إليه، في حركته الوطنية. فأخذ، بعد مؤتمر أرضروم، عام 1919، يؤثر في زعماء الأكراد، ويطلب منهم إرجاء القضية الكردية ريثما يكتمل تحرير البلاد التركية كلها من المحتلين، وينعقد الصلح. وذلك لا يكون إلا باتحاد العنصرَين، التركي والكردي، أصحاب البلاد، كما نص الميثاق الوطني، الصادر عام 1920. وكان أتاتورك قطع لهم الوعود الصريحة، بأن تعترف تركيا للكرد، ولكردستان، بالاستقلال بمساحة أكبر وأوسع مما ورد في معاهدة سيفر. وكان عدد النواب الأكراد، الذين يمثلون كردستان في المجلس الوطني الكبير، في أنقرة، 72 نائباً.

وفي بدايات الحركة الكمالية، في الأناضول، لم يظهر الكماليون أي بادرة سوء نحو الأكراد، بل قدموا العون للأكراد في تركستان الجنوبية (العراق)، للضغط على الإنجليز، وإجبارهم على التخلي عن الموصل.

إزاء ذلك، لم يتخلَّ الأكراد عن الترك، إخوتهم في الإسلام، في وقت الشدة، ومواجهة العدو الأجنبي. خاصة أن قسماً كبيراً من جنوبي كردستان، كان تحت احتلال الإنجليز، كما أن الفرنسيين، كانوا يحتلون السواحل. وأما شمالي كردستان فكان تحت احتلال الروس.

ورفض قادة جمعية تقدم الكرد، اللجوء إلى أي عمل ضد الأتراك، عندما طالب الشباب الكردي، من أعضاء الجمعية، عام 1919م، باتخاذ قرار حول إعلان استقلال كردستان، وطرد جميع القوات الأجنبية منها، بما فيها التركية. ووقف سيد عبد القادر ضد هذا الاقتراح، إذ رأى أنه لا يليق بالحركة الكردية الوقوف ضد الأتراك، في مثل هذا الظرف العصيب.

وكان رؤساء الحلفاء، في باريس، يؤكدون للجنرال شريف باشا، رئيس الوفد الكردي إلى مؤتمر الصلح، في العاصمة الفرنسية (عام 1919- 1920)، أن إخلاد الكرد إلى السكينة والهدوء، هو ضروري، لتحقيق آمالهم القومية.

وقد نشر قائد القوات الإنجليزية في كردستان، حينذاك، الجنرال ماك اندرو، منشوراً باللغة الكردية، ورد فيه ما يأتي:

“بما أن مصير الأراضي العثمانية ذات الأكثرية الكردية،، سيتقرر في مؤتمر الصلح، الذي سوف يحقق الأماني القومية الكردية، والحقوق الطبيعية للكرد وكردستان، فإن هذه الحالة توجب على الأكراد التزام السكينة والهدوء، وعليهم أن يطمئنوا إلى عدالة إنجلترا، التي ستحافظ على حقوقهم”.

ومن ناحية أخرى، منع رئيس الاستخبارات الإنجليزية في حلب، العقيد بل، إصدار منشور، أراد نشره الأمير الكردي، ثريا بدرخان، سكرتير جمعية الاستقلال الكردي، في حلب لكشف نيات مصطفى كمال إزاء الكرد، قائلاً: “إن أكبر خدمة، وأعظم فائدة، تقدم إلى الشعب الكردي، الآن، هي دعوته إلى الإخلاد إلى الهدوء والسكينة”.

وكذلك حضر هذا القائد الإنجليزي إلى ملاطية، في الأناضول، حينما شعر أن الأمير الكردي جلادت بدرخان، والأمير كامران بدرخان، وأكرم جميل باشا زاده، مندوبي جمعية تقدم كردستان، يحشدون في جبال كاخته قوات كردية، لرد هجمة مصطفى كمال باشا، التي يريد أن يشنها بغتة، ومن دون سبب معلوم، على الوطنيين الأكراد. فأرسل الرائد إدوارد و.س. نويل Noel إلى المندوبين الأكراد المذكورين، يبلغهم، باسم حكومته، وجوب تفريق القوى الكردية، حالاً، وأن أقلّ مقاومة مسلحة تعرض القضية الكردية للأخطار الشديدة، بعد أن حازت قبول الدول الأوروبية.

وأخلد الأكراد للسكون، خاصة بعد تعهّد الدول الحليفة، بأن الأتراك، إذا لم ينفذوا معاهدة سيفر (Sèvres)، سوف يحرمون من الآستانة، كذلك.

وهكذا أضاع الحلفاء، وخاصة الإنجليز، على الأكراد فرصة تحقيق آمالهم الاستقلالية.

وفي عام 1922، طلب مصطفى كمال من النواب الأكراد، في المجلس الوطني التركي، في أنقرة، الرد على الاستفسار، الذي وصله من رئيس الوفد التركي، عصمت باشا، إلى مؤتمر لوزان، حول رغبة الأكراد في البقاء ضمن الدولة التركية الجديدة. فردّ النائب الكردي عن أرضروم في المجلس، حسين عوني بك، عام 1922، قائلاً :” إن هذه البلاد هي للأكراد والأتراك. وإن حق التحدث من فوق هذه المنصة، هو للأُمتَين، الكردية والتركية”.

وأيده في ذلك النواب الأكراد في المجلس الوطني الكبير. وقوبل ذلك بالترحيب والاستحسان من أتاتورك. وبناء على هذا الجواب من النواب الأكراد، أعلن عصمت باشا، الكردي الأصل، مندوب تركيا في مؤتمر لوزان، أن “تركيا هي للشعبَين، التركي والكردي، المتساويَين أمام الدولة، ويتمتعان بحقوق قومية متساوية”.

وحينما وجد المشاركون في مؤتمر لوزان، أن النواب الأكراد، لا يريدون انفصال كردستان عن تركيا، وأن حكومة تركيا وعدت بتلبية مطالب الأكراد القومية، وافقوا على غض النظر عن أي فكرة لاستقلال كردستان ،وحذفوا ذكر الأكراد من الوثائق الرسمية للمؤتمر.

وهكذا وقعت معاهدة لوزان، في23 يوليه 1923، بين الحلفاء وحكومة أنقرة الوطنية. وبهذه المعاهدة ألغيت معاهدة سيفر. وقدم الإنجليز والأتراك تنازلات بعضهما إلى بعض، في خصوص المسألة الكردية. ولم يذكر فيها شيء عن استقلال الأكراد، سوى ما جاء في المواد (38) و (39) و (44) من الفصل الثالث:

إذ نصت المادة (38) على أن تتعهد الحكومة التركية بمنح جميع السكان الحماية التامة والكاملة، لحياتهم وحريتهم، من دون تمييز في العِرق والقومية واللغة والدين.

ونصت المادة (39) من معاهدة لوزان على أنه ” لن تصدر أي مضايقات في شأن الممارسة الحرة لكل مواطن تركي لأية لغة كانت، إن كان ذلك في العلاقات الخاصة أم في العلاقات التجارية، أم في حقل الدين والصحافة، أم في المؤلفات والمطبوعات، من مختلف الأنواع أم في الاجتماعات العامة.

وتنص المادة (44) على أن تعهدات تركيا هذه، هي تعهدات دولية، لا يجوز نقْضها، في حال من الأحوال ، وإلا فيكون لكل دولة من الدول الموقعة معاهدة لوزان، والدول المؤلفة منها عصبة الأمم، الحق في الإشراف على تنفيذ تركيا هذه التعهدات، بدقة، والتدخل ضدها، لحملها على تنفيذ ما تعهدت به أمام العالم.

وهكذا، أضاعت معاهدة لوزان كل الحقوق القومية للأكراد في تركيا.وكانت معاهدة لوزان خطوة إلى الوراء، مقارنة بمعاهدة سيفر (Sèvres).

وعلى الرغم من معاهدة لوزان، وقبَيل حل مشكلة الموصل، في عام 1925، نجد تسامحاً، في بعض التصريحات الكردية. فقد صرح فتحي بك، رئيس الوفد التركي إلى مؤتمر استانبول، الذي انعقد لحل مشكلة الموصل، عام 1924، قائلاً: “إن هذا الوطن، يخص الأُمتَين الكردية والتركية، فقط”. وكان ذلك مما يخدم الحكومة التركية، في مسألة الموصل، آنذاك.

1. ثورة الشيخ سعيد بيران، عام 1925

حينما وقعت معاهدة لوزان، لم يبقَ في تركيا من الشعوب سوى الأكراد والأتراك. ورأى الكماليون بعد قيام الجمهورية، أنه لا مكان لشعب غير الشعب التركي ، ويجب تتريك كل القوميات الأخرى، التي تضمها هذه الجمهورية، وصهرها في المجتمع التركي. ورفضوا الاعتراف بوجود شعب آخر غير الأتراك، وأطلقوا على الأكراد اسم ” أتراك الجبال” ، وألغوا اللغة الكردية في المدارس والمعاهد، وحرّموا التحدث بها في الشوارع والمجالس، فضلاً عن تحريمها في المصالح الحكومية وأمام المحاكم، على الرغم من تعهداتهم السابقة، في معاهدة لوزان.

سعى الأكراد، من جانبهم، إلى إظهار رفضهم لعدم الاعتراف بحقوقهم من جانب الحكومة التركية. فبادر الفريق خالد بك الجبرانلي، الذي كان قائداً في الألوية الحميدية، إلى تنظيم لجنة استقلال كردستان (آزادي) السرية ، وأرسل مندوبين عنها إلى جميع أنحاء كردستان، لإنشاء فروع وتشكيلات عامة لها، ولتوزيع أسلحة وذخائر حربية. ودخل في هذا التنظيم الشيخ سعيد الكردي، من قرية بيران، وهو من المشايخ ذوي النفوذ الديني لدى مريديه وأتباعه.

وتقرر أن تبدأ الثورة، صباح 21 مارس 1925، وهو يوم الاحتفال بعيد النيروز، أو رأس السنة عند الأكراد. ولكن وصلت قوة تركية إلى قرية بيران، حيث يقيم الشيخ سعيد الكردي، في 7 مارس 1925، فنشب القتال بينها وبين أتباع الشيخ سعيد، لسبب بسيط تافه، فانفجرت الثورة في كل أنحاء كردستان. وكان من أبرز شعاراتها ” إقامة كردستان مستقلة، في ظل الحماية التركية، وإعادة حكم السلطان”.

وبادر الفريق خالد الجِبرانلي، ومن معه من الضباط الأكراد، الذين كانوا خارج المكان، الذي انفجرت فيه الأحداث، إلى التوجه إلى المكان المذكور، للإشراف على الثورة، وإدارة دفة القتال. ولكن قبض عليهم، قبْل وصولهم إلى مكان الثورة، وأعدموا من دون محاكمة. وبذلك، حرمت الثورة من اشتراك المخططين لها، والعارفين بالفنون الحربية. فقادها من لا خبرة لهم بها ولا بأسرارها.

وتوسعت الثورة، وانتشرت في مناطق شاسعة من البلاد. ولكن الأكراد صرفوا همهم نحو السيطرة على المدن الكبيرة، في الوقت الذي كانت القوات التركية تصل إلى المنطقة ، وتصل إليها الإمدادات من كل ولايات تركيا.

وبعد سلسة من المعارك، أخمدت الثورة. وقدِّم الشيخ سعيد ورفاقه إلى المحاكمة، وسيقوا إلى محاكم عسكرية، عرفت باسم “محاكم الاستقلال”، ثم شنقوا، وتركوا معلقين على أعواد المشانق، عِبرة لمن يعتبر. وفر قسم من المقاتلين إلى رؤوس الجبال، أو إلى الدول المجاورة، سورية والعراق وإيران.

وأعلن رئيس المحكمة، الذي حكم بالإعدام على ثلاثة وخمسين زعيماً من زعماء الثورة، أثناء المحاكمة، في 28 يونيه 1925، قائلاً: ” لقد اتخذ بعضكم إساءة استعمال السلطة الحكومية، والدفاع عن الخلافة، ذريعة للثورة. ولكنكم كنتم متفقين جميعاً على إقامة كردستان المستقلة”.

وقد استخدمت الحكومة التركية 35 ألف جندي و12 طائرة حربية، لإخماد الثورة، التي شكلت خطراً على الجمهورية التركية الناشئة. وجرى حشد ثمانين ألف جندي تركي في كردستان. ودمرت القوات التركية، بعدها، 206 قرى كردية، وأُحرق 8758 منزلاً، وقُتل 15200 شخص. وقالت، يومها، جريدة “وقت” التركية: “ليس هناك مسألة كردية، حين تظهر الحِراب التركية”.

وتكبّد كلٌّ من الأكراد والأتراك، خسائر فادحة، من جراء هذه الثورة.

وكان من نتائجها صدور قانون الحفاظ على الأمن أو (تقرير سكون قانوني)، الذي جرى، بموجبه، تشتيت آلاف الأُسر الكردية وتهجيرها ، ودمِّر كثير من القرى الكردية ، ونُفي زعماؤها ورؤساؤها إلى مختلف الولايات التركية.

واختلفت الآراء حول ثورة الشيخ سعيد. فقد قيل إن الشيخ، ورفاقه، كانوا يسعون إلى إعادة الخلافة، التي ألغاها مصطفى كمال آتاتورك، عام 1923، لا إلى الاستقلال الكردي. وقالت الجرائد التركية، آنذاك، إن الجمعيات الكردية، دبرت الثورة تحت ستار الدين، لتصل إلى غايتها الوحيدة، وهي إنشاء كردستان مستقلة، في الولايات الشرقية من تركيا.

2. تأسيس جمعية خويبون (الاستقلال)

على أثر ما نزل بالأكراد، وما حل ببلادهم عقب ثورة 1925، من الخراب والتشريد ، عقدوا مؤتمراً، عام 1927، شهدته جميع الفئات الكردية ومندبو الجمعيات ورؤساء العشائر ووجوه البلاد والمراكز ، وذلك لاتخاذ القرارات السريعة، لجمع الفصائل الكردية المشتتة، واستجماع القوى، لمواصلة نضالهم ضد تركيا. وعقد المؤتمر داخل الحدود التركية، ودامت جلساته مدة شهر ونصف الشهر. واتخذ قرارات منها:

أ. حل الجمعيات الكردية القائمة، وتأسيس قيادة موحدة للفصائل الكردية، تجمعها باسم جمعية “خويبون” (أي الاستقلال).

ب. تدريب المقاتلين الأكراد على وسائل الحرب الحديثة، وتنظيم قوات وفق أساليب عسكرية متطورة، وإنشاء مركز عام ومقر للقيادة العليا للثورة، في جبال كردستان، في تركيا.

ج. إقامة علاقات قوية بالحكومات، الإيرانية والعراقية والسورية.

وافتتحت جمعية “خويبون” عدة فروع لها، في كردستان وخارجها. وتولى الفريق إحسان نوري باشا تأسيس منظمة عسكرية كردية، في منطقة جبل أرارات (آغري)، في كردستان التركية، تمكنت من إرسال مجموعات قتالية، حالت دون نفي الحكومة التركية السكان الأكراد من مواطنهم.

وقد نجحت جمعية “خويبون”، عام 1930، في تنظيم انتفاضة مسلحة في إقليم أرارات (جبال آغري)، بقيادة الفريق إحسان نوري باشا. وكان السبب المباشر لاشتعالها، اتخاذ الحكومة التركية الاجراءات اللازمة لتتريك الأكراد، والأقليات الأخرى. وقد سمحت الحكومة الإيرانية للقوات التركية باستخدام الأراضي الإيرانية لمهاجمة مؤخرة المقاتلين الأكراد.

وبعد حرب طويلة، قضي على الانتفاضة، بوساطة القوات والمدفعية والطائرات. واستناداً إلى إحصاءات غير رسمية، فإن 165 قرية و6816 بيتاً، قد دمرت.

وبدا للحكومة التركية أنها قضت على الحركة الكردية. فأكد عصمت إينونو، رئيس الوزراء التركي، في خطبة، ألقاها في 30 أغسطس 1930، عدم أحقية الأكراد في الاعتراف بهم: “ليس في هذه البلاد جماعة لها الحق بادعاء كيان قومي ووطني، غير الجماعة التركية”.

وقال وزير العدل التركي، محمود أسعد أورامش، في خطبة له في سبتمبر 1930: “هذه هي عقيدتي ونظريتي: ليعلم الصديق والعدو، حتى الجبال أن سيد هذه البلاد هو التركي.

فمن لم يكن من الدم التركي، ليس له في الوطن التركي سوى حق واحد، هو أن يكون خادماً وعبداً . نحن في بلاد أكثر حرية من جميع بلاد العالم. هذه هي تركيا. ولهذا، أنا لا أخفي عواطفي وأحاسيسي عن أحد”.

وبعد القضاء على انتفاضة 1930، فقدت جمعية “خويبون” نفوذها، تدريجاً. وفي أثناء ذلك، سوِّيت النزاعات ما بين الحكومة التركية والإنجليز والفرنسيين، في المسائل العالقة، والتي تمس المسألة الكردية.

بعد انتفاضة 1930، أمعنت الحكومة التركية في سياستها، الرامية إلى صهر السكان الأكراد، واندماجهم في المجتمع التركي. وأصدرت قانوناً يجيز لها فرض الأحكام العرفية، واستدعاء القوات إلى المناطق الكردية، في الأقاليم الشرقية من تركيا.

الاكراد والمشكلة الكردية
الاكراد والمشكلة الكردية

وصدر قانون، في مايو 1937، رحِّل، بموجبه، مئات الألوف من الأكراد من مناطقهم إلى مناطق أخرى، لا يكونون فيها سوى 5% من السكان. وينص ذلك القانون على: ” أن أولئك الذين ليست لغتهم التركية، يحرَمون من إعادة بناء قراهم، أو تشكيل منظمات، حِرفية أو كتابية أو طبقية، ويمنح وزير الداخلية حل هذه المنظمات. وهذا القانون ينافي ما جاء في معاهدة لوزان، من احترام حقوق الأقليات. وشرعت الحكومة التركية، بعد ذلك تنفذ حملة فكرية، لصهر الأكراد وتتريكهم.

3. انتفاضة درسيم (1936-1937)

بعد تردي الأوضاع، الاقتصادية والمعيشية، للسكان الأكراد، شهد عام 1937، انتفاضة في إقليم درسيم، الذي حوِّل إلى ولاية باسم تونجالي، في شكل عصيان كبير، تزعمه سيد رضا، وهو شيخ من شيوخ الطريقة النقشبندية.

فقد شكلت الحكومة دائرة التفتيش العامة الرابعة في الولاية. وأصدر المفتش العام، الجنرال ألب دوغان، أمراً بفرض حالة الحصار على ولايات تونجالي وأليازيغ وبين جول، وطلب من الأكراد تسليم 20 ألف بندقية، وإلاّ فسينالهم عقاب شديد. وأرسل زعيم الأكراد، سيد رضا، رسالة إلى ألب دوغان، يطلب إلغاء قراره والاعتراف بحقوق السكان الأكراد. ورداً على ذلك، أرسل الجنرال ألب دوغان فرقة من المشاة، وفوجاً من الدرك، على سكان درسيم، وكانت هذه القوات مدعومة بعشر طائرات من سلاح الجو التركي. وتوقفت العمليات في شتاء 1936، بسبب الثلوج والأمطار والبرد القارس.

واستؤنفت الحملة، بعد تحسّن الجو، في الربيع. واستدرج الجنرال ألب دوغان نجل الشيخ سيد رضا، لإجراء مفاوضات، ثم قتله، بوحشية. عندئذ، هبت العشائر الكردية في وجه القوات التركية، التي أحرقت الغابات المحيطة بدرسيم، لإرغام الثوار الأكراد على الخروج من الملاجئ الجبلية، ووجهت مدفعيتها صوب مواقع الشيخ سيد رضا، وفصيله.

وتمكن الجنرال ألب دوغان، بحيلة إجراء مفاوضات مع سيد رضا، أن يقبض عليه، في 5 سبتمبر 1937، وقدِّم هو ورفاقه، للمحاكمة، في 10 نوفمبر 1937، وحكمت المحكمة بإعدام أحد عشر من قادة الانتفاضة. ونفِّذ الحكم في 18 نوفمبر 1937.

وشرعت الحكومة تنكل بالسكان الأكراد. وقال وزير الداخلية التركي، وقتها، جلال بك، إن القضية الكردية لا وجود لها، بعد اليوم. وإن العصاة جرى تلقيحهم بلقاح الحضارة، من طريق القوة ” في إشارة إلى الرأي التركي القائل بأن الأكراد، ما هم إلإ أتراك الجبال، الذين تخلّفوا حضارياً.

كانت العمليات العسكرية ضد الأكراد، في درسيم، قوية وعنيفة، إلى درجة أن الحركة القومية الكردية، ظلت، بعدها، ساكنة على مدى نصف قرن تقريباً.

ولقد عزا بعض المؤرخين هذه الثورة إلى إجراءات القمع، التي مارستها الحكومة ضد زعماء القبائل، في تلك المنطقة.

كما أرجعها بعضهم إلى نشر قانون، هدفه تحقيق تتريك الأقليات غير التركية، واندماجها في الشعب التركي.

وقيل إن هذا العصيان، كان مدعوماً من الاتحاد السوفيتي، وإنه زود الثوار، في درسيم ، بالسلاح والمال.

وفي يونيه عام 1937، عقد “ميثاق سعد آباد” بين تركيا وإيران والعراق وأفغانستان، تحت إشراف بريطانيا. وكان هذا الميثاق موجَّهاً، بصورة رئيسية، ضد الحركات الكردية. فتقول إحدى موادّه :إن كلاً من الأطراف الموقعة، تتعهد باتخاذ التدابير اللازمة للحيلولة دون قيام أي نشاط لعصابات مسلحة، أو جمعيات، أو منظمات، تهدف إلى إطاحة المؤسسات الحالية، التي تتحمل مسؤولية المحافظة على النظام والأمن، في أي جزء من حدود الأطراف الأخرى”، ولقد انتهى أثر ذلك الميثاق بنشوب الحرب العالمية الثانية.

ثانياً: المسألة الكردية، في تركيا، بعد الحرب العالمية الثانية

استكانت الحركة الكردية المسلحة، خلال فترة الحرب العالمية الثانية، حتى أن جريدة “صون بوستا” (Son Posta) التركية ، قالت، في 11 أبريل نيسان 1946:

“لا وجود في تركيا قَط لأقلية كردية، ولا مستوطنة ولا مرتحلة طلباً للرعي، ولا هي ذات وعي قومي، ولا هي من دونه”.

ثالثاً: المسألة الكردية، في تركيا، في فترة تعدد الأحزاب، حتى عام 1980

ظلت المناطق الكردية، في شرقي تركيا، في العهد الجمهوري، تعاني التخلف، في مجالات، الزراعة والصناعة والتعليم، ويطلق عليها “المناطق المحرومة”. ولم تَجِد الحكومة التركية وسيلة لإخماد الثورات والانتفاضات الكردية، غير القمع العسكري، والتهجير والنفي والتعذيب، والتمادي في حرمان الأكراد حقهم في التحدث بلغتهم، أو إصدار جريدة أو مجلة باللغة الكردية.

وكان العسف والقسوة والوحشية، تزداد في فترات الانقلابات العسكرية، التي شهدتها تركيا الحديثة، في أعوام 1960 و1971 و1980 على التوالي. ولم يطرح أي حلول سلمية لهذه المعضلة، التي لا تعترف بها الحكومة، أصلاً .

لم تسمح الدساتير التركية، في أعوام 1924 و1961 و1981، للأقليات القومية في تركيا، بتأسيس أحزاب سياسية. مما ولّد في نفوس الأكراد شهوة الانتقام، والتطلع إلى التحرر، ورد العنف بالعنف.

وظلت المناطق الكردية مغلقة، حتى أوائل الستينيات، حين بدأ التململ بين الأكراد، فأسسوا الجمعيات والأحزاب السرية، التي كانت تأخذ، في مسيرتها، بالمناهج الشيوعية الماركسية، اللينية أو الماوية، والاشتراكية، وأخذت تعمل بطريقة سرية، وأحياناً، متضامنة مع حزب العمال التركي اليساري، الذي حظرته السلطات، فيما بعد.

وفي أعقاب الانقلاب العسكري، عام 1960، بقيادة جمال جورسيل، أصدرت لجنة الاتحاد الوطني القانون الرقم 105، في 17 أكتوبر 1961 الذي جرى، بمقتضاه، تهجير العائلات الكردية غير المرغوب فيها، وبصورة قسرية، إلى مناطق أخرى في تركيا.

استمرت الحكومات التركية في سياسة صهر الأكراد، بعد أن منعتهم من فتح مدارس لهم، أو إصدار المطبوعات الكردية، واستخدمت محطات الإذاعة، التي أنشئت في أرضروم وديار بكر ووان، لبثّ اللغة والثقافة التركيتين بين الأكراد. وأغفلت اللغة الكردية وثقافتها.

من جانب آخر، أَولى قادة الحركة القومية الكردية في تركيا، ثقافة الشعب الكردي، اهتماماً كبيراً. فنشطوا نشر نتاجهم الأدبي باللغة التركية. فترجمت ملاحم الشعب الكردي مثل ملحمة “ميم و زين” للشاعر الكردي أحمد الخاني (1591 – 1652) باللغة التركية، عام 1968. ولكنها صودرت، ولم تصل إلى القراء.

نشأت منظمات سرية كردية، في كردستان تناضل من أجل الاعتراف بحقوق الأكراد القومية. فأُسِّس الحزب الديموقراطي الكردستاني، في تركيا في أواسط الستينيات، وحزب تحرير الأكراد، في تركيا، ورابطة الحرية، ومنظمة مقاتلي كردستان.

إلى جانب المنظمات الكردية السرية، أخذت تتشكل، في السيتينيات، منظمات شبابية، علنية، مستترة بالمؤسسات والمنظمات، الاجتماعية والثقافية، اليسارية التركية. ففي أغسطس 1969، أنشأت مجموعة من الشباب الأكراد مراكز ثقافية، في شرقي تركيا، ضمن تنظيمات حزب العمال التركي، وبارتباط وثيق معه. وبلغ عدد المنتسبين إلى هذه المراكز عشرين ألف عضو. وعملت على تطوير اللغة الكردية، والفلكلور الكردي، وتاريخ الأكراد وأدبهم، ونشطت في نشره.

أرسلت الحكومة التركية وحدات من قوات الكوماندوز والدرك، في أوائل السبعينيات، لشن هجمات على الأكراد، في مناطق: حكاري وماردين وسلوان وباطمان وبيسميلي وديار بكر وملازكرت وتوتاك وتيكمان وكار يازي وكيفي.

ورافق هذه الهجمات اعتقالات بين صفوف الأكراد، والتنكيل بالسكان. وفي أوائل أبريل 1970 حاصرت قوة مسلحة من الكوماندوز مدينة سلوان، بحجة مصادرة السلاح، فلجأ الأهالي إلى العصيان ضد السلطات المحلية. وقد اعتقل أكثر من ثلاثة آلاف كردي في تلك الأحداث، إضافة إلى تفتيش البيوت وتعذيب الرجال.

وبعد انقلاب عام 1971 أُعلنت الأحكام العرفية، وحالة الطواريء، في 26 أبريل 1971. وفي أثناء الحملات، التي شملت مناطق البلاد الرئيسية، اعتقل عدد كبير من قيادات الأكراد البارزين، من أمثال: كمال بورقاي وموسى عنتر وطارق زياد إيكنجي ومهدي زانا ومحمد أمين بوز أرسلان ويسف إيكنجي وناجي قوتلاي وجانب إيلدير وغيرهم.

وفي أغسطس 1972 حكمت المحكمة العسكرية في ديار بكر، على عالم الاجتماع البارز، إسماعيل بيشيكجي، بالسجن لمدة 13 عاماً، بتهمة نشاطه في الدعاية الشيوعية والكردية، في محاضراته، في جامعة أرضروم.

نتيجة مساعي حزب الشعب الجمهوري، الذي يسيطر عليه اليساريون، أقرّ البرلمان التركي، في ربيع 1974، قانون العفو، الذي أُطلق، بمقتضاه، المعتقلون من السجون، بمن فيهم عدد كبير من الشخصيات الكردية البارزة، من ذوي الاتجاهات اليسارية. وفي ظل تغاضي حزب الشعب الجمهوري، بقيادة بولنت أجيفيت، عن أنشطة الحركات السياسية الكردية داخل أروقة الأحزاب اليسارية ، تأسس الحزب الاشتراكي الكردستاني ، ومنظمة “طريق الحرية” (Ozgürlük Yolu)، ومنظمة “شمس الوطن” (روزا ولات).

غير أن أكثر الأحزاب نفوذاً، في تلك المرحلة، كان الحزب الديموقراطي الكردستاني، الذي وحّد التنظيمات الكردية السرية . وفي عام 1974، طرح برنامجه، الذي تمثلت فيه التوجهات الماركسية للحركات الكردية . وكان من أهم بنوده ما يلي:

1. أن ينال الشعب الكردي حق تقرير مصيره بنفسه. ويرى الحزب أنه يمكن تحقيق هذا الهدف من طريق الثورة الوطنية والديموقراطية والنضال الشعبي. ولهذا، قرر الحزب إنشاء قوات المقاومة المسلحة (المادة الثانية).

2. يترتب على الحزب الديموقراطي الكردستاني، في تركيا، بعد تشكيل الجيش الشعبي، تطهير المناطق الكردية من القوات المسلحة التركية، وإقامة سلطة شعبية ديموقراطية في كردستان التركية. ولكي يقرر الحزب مصيره، بصورة مستقلة فإنه ينشئ جبهة معادية للإمبريالية والفاشية والإقطاعية. وتضم هذه الجبهة جميع فئات الشعب الكردي، وكل القوى الديمقوراطية الوطنية.

3. يرى الحزب أن القوى الأساسية للشعب الكردي، هي جماهير الفلاحين، ويعتمد عليهم في أنشطته، ولكنه يسترشد بأيديولوجية الطبقة العاملة (المادة الرابعة).

4. يرى الحزب، أن العدو الرئيسي لجميع الشعوب المناضلة في سبيل التحرر، القومي والوطني، هو الإمبريالية، التي أبرمت معاهدات، سياسية وعسكرية، مختلفة مع الحكومة التركية.

5. يجب رسم حدود كردستان التركية حسب العوامل، العرقية والجغرافية والاقتصادية والتاريخية (المادة السابعة).

6. ستكون اللغة الكردية لغة رسمية في كردستان التركية (المادة الثانية).

7. المجموعات العِرقية، غير الكردية، في كردستان التركية، ستوفَّر لها الظروف لتطوير ثقافتها ولغتها (المادة الثانية والعشرون).

إذ كان الحزب الديموقراطي الكردستاني، يعمل في السر، فإنه لم يتمتع بنفوذ كبير بين الجماهير، ولم يكن لديه قوة، مادية وعسكرية، كافية لتحقيق أهداف الكراد في حق تقرير المصير.

في عام 1975، شكلت الشبيبة الكردية، في كلٍّ من استانبول وأنقرة، جمعيات ثقافية علنية، باسم “نوادي الثقافة الثورية الديموقراطية” (Devrimci Demokratik Kültür Dernekleri)، انضم إليها عدد كبير من الأعضاء السابقين في المراكز الثقافية في شرقي تركيا. وأظهرت نشاطاً ملحوظاً في المناطق الكردية، مثل: ديار بكر وقزلتبه وديرابك ومازي داغ والجزيرة وحكاري وغيرها.

كما عملت في كردستان التركية، وبصورة علنية، جمعية النساء الثورية الديموقراطية، ومجموعة المعلم الديموقراطي، ومنظمات أخرى، تزيد على عشر جمعيات ومنظمات كردية، صغيرة ومتنوعة ، ذات صبغات سياسية مختلفة.

أواخر ديسمبر 1978، وقعت حوادث دموية في مدينة قهرامان مرعش، في جنوبي شرقي تركيا، راح ضحيتها أكثر من مائة شخص، وجرح المئات، نتيجة للصراع بين السُّنة الذين مثلتهم ميليشيات الحزب التركي القومي، اليميني المتطرف، أتباع ألب أرسلان توركش، وبين العلويين، الذين كان أغلبهم من الأكراد. ومن الفور، أعلنت الحكومة حالة الطوارئ، لمدة شهرين في ثلاث عشرة ولاية من ولايات تركيا، التي تسكنها أغلبية كردية.

في مارس 1979، أصدرت القيادة العسكرية، في ظروف حالة الطوارئ قرارات تمنع صدور وبيع أكثر من عشرين جريدة يسارية، ومنها المطبوعات الكردية، الصادرة باللغتين، التركية والكردية، مثل: “روزكاري”، و”روزا ولات”، و”الشباب الديموقراطي الثوري” (Devrimci Dimokrat Gençlik)، وغيرها.

في النصف الأول من أبريل 1979، زار العراق قائد الأركان العامة للجيش التركي، الجنرال كنعان أفران، وأجرى مباحثات للتنسيق بين البَلدين في مقاومة الحركات الكردية.

تطورات القضية الكردية

أولاً: تطورات القضية الكردية في ضوء المصالحة الكردية ـ الكردية في واشنطن

في منتصف سبتمبر 1998م التقى مسعود البارزاني زعيم الحزب الديموقراطي الكردستاني وجلال الطالباني زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني، في واشنطن،واجتمعا مع وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت،ومستشار الأمن القومي الأمريكي صموئيل بيرجر.

وأعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية جيمس روبن،أن أولبرايت أعربت للزعيمين الكرديين عن استمرار اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بأوضاع الأكراد،وجميع سكان شمال العراق.والوزيرة الأمريكية عدت الزعيمين الكرديين ممثلين لأصوات ملايين الأكراد في العراق.وتناولت المباحثات الوضع في العراق والمناخ الأمني والسياسي السائد في كردستان العراق،والاحتياجات الأمنية وبرامج المساعدات الإنسانية لسكان المنطقة.

وتستخدم واشنطن الورقة الكردية في صراعها ضد العراق منذ انتهاء حرب الخليج الثانية في مارس 1991م، وتقدم الدعم للمنطقة الكردية تحت غطاء الأمم المتحدة.وتمنع أي نشاط للقوات العراقية في شمال العراق.وتدعم إذاعة (العراق الحر) التي تبث إرسالها من براغ،وتساهم في برامجها عناصر كردية.

ومن هنا جاء اجتماع واشنطن بعد تأزم الوضع بين بغداد وواشنطن،وتصعيده نتيجة لإعلان العراق إيقافه التعاون مع فرق التفتيش الدولية، وطالب مجلس الأمن التراجع عن قراره الرقم 1194، الصادر في 9 سبتمبر 1998م، ويقضي بتجميد المراجعة الدورية لرفع الحظر عن العراق.

وتوصل الطرفان الكرديان العراقيان إلى مصالحة برعاية أمريكية،أنهت هذه المصالحة أربع سنوات من الصراع المسلح على السلطة في المناطق الكردية،البعيدة عن سيطرة الحكومة المركزية العراقية.ووقع الطرفان اتفاقهما في 17سبتمبر 1998م.

وقد سبق أن توصل طرفا النزاع الكردي إلى اتفاق لوقف الصراع بينهما في مايو 1994م برعاية تركيا.إلا إنه سرعان ما تجددت الاشتباكات بينهما ثانية.إضافة إلى تكرر اشتباكات مماثلة بين قوات الحركة الإسلامية الكردية لأكراد العراق وقوات الاتحاد الوطني الكردستاني.ولهذا فإن احتمال عودة الحزبين الكرديين إلى الصراع ثانية وتجدده بينهما لازال قائماً، وخاصة أن التباين في وجهات النظر في المسائل المشتركة بينهما لم تحل جذرياً.وأهم هذه المسائل هي:

1. الموارد المالية المحصلة من الجمارك في المنطقة العراقية الشمالية.

2. البرلمان الوطني الكردستاني والعلاقات مع الحكومة المركزية في بغداد،ومع المعارضة العراقية.

3. العلاقات مع كل من إيران وتركيا،التي يحتفظ كل طرف بعلاقات جيدة مع إحداها دون الأخرى.

ويهدف اتفاق واشنطن إذا نفذ، إلى:

1. عودة الإدارة الكردية الموحدة لممارسة عملها في شمال العراق.

2. تشكيل حكومة موحدة تسعى لإجراء انتخابات برلمانية في صيف 1999م.

3. تقاسم العائدات المالية من الجمارك وغيرها من موارد دخل المنطقة بين الحزبين الكرديين.

وقد وضع جدول زمني لتنفيذ الاتفاق الذي جاء حلاً وسطاً لمشاكل الحزبين.

وقد اتضح من تصريحات الزعيمين الكرديين أن اتفاقهما ليس ضد مصلحة أية دولة في المنطقة بل هو اتفاق سياسي يهدف إلى تحقيق السلام والاستقرار في شمال العراق، وسوف يساعد كل جيران العراق على السلام. كما أكدا على وحدة أراضي العراق.

وقد نفت الحكومة الأمريكية بدورها على لسان نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي ديفيد ويلش،أن يكون هدف الاتفاق هو إقامة دولة كردستان المنفصلة عن العراق، بل يهدف إلى الحيلولة دون تكرار انتهاكات لحقوق الإنسان في شمال العراق.

ثانياً: تطورات المسألة الكردية على الصعيد التركي

صعدت تركيا من ضغطها على سورية لإبعاد عبدالله (أوج آلان) Ocalan زعيم حزب العمال الكردستاني PPK من أراضيها، وإلغاء قواعد الحزب من سهل البقاع اللبناني الخاضع للحماية السورية.

ولجأت تركيا إلى الضغط العسكري، فحشدت قواتها على الحدود السورية، وبدأت حملة من التصريحات الملتهبة والتهديد بالحرب.

وتوسطت بين الطرفين السوري والتركي عدة دول لئلا يتفاقم الوضع إلى حرب، وأهمها الوساطة المصرية التي قام بها الرئيس المصري حسني مبارك، عقدت بين الطرفين اتفاقية لتسوية المسائل الأمنية على الحدود في 20 أكتوبر 1998م. واضطر زعيم الحزب العمال الكردستاني إلى ترك الأراضي السورية.

فرحل (عبدالله أوج آلان) سراً إلى روسيا في أواخر أكتوبر 1998. وبقي بها مدة شهر. وانتقلت القيادة العسكرية للحزب إلى شقيقه عثمان أوج آلان، الذي سعى للانتقال إلى إيران.

ثم غادر روسيا على متن طائرة روسية في طريقه إلى دولة ما، في 13 نوفمبر 1998. وتوقفت الطائرة في روما، فقبضت عليه قوات الأمن الإيطالية، وأودع السجن. وطلب الزعيم الكردي من إيطاليا منحه حق اللجوء السياسي. وتقدمت ألمانيا بطلب تسليم أوج آلان إليها على أساس أنه مطلوب في قضايا العنف في ألمانيا. وطالبت به أيضاً تركيا لمحاكمة بتهمة قتل ثلاثين ألف شخص من مدنيين وعسكريين، وتشكيل منظمة إرهابية لتقسيم تركيا.

ثم تراجعت ألمانيا عن طلبها بتسليم أوج آلان خشية حدوث اضطرابات بين الأتراك والأكراد المقيمين في ألمانيا، وحتى لا تتعرض علاقاتها مع تركيا للتوتر.

ورفضت إيطاليا الطلب التركي بتسليم أوج آلان بحجة أن تركيا تطبق قانون الإعدام. واحتجت تركيا وتصاعدت الأزمة بينهما، وأوقفت تركيا الاستيراد من إيطاليا.

وأطلقت السلطات الإيطالية عبدالله أوج آلان في 20 نوفمبر 1998م، وسمحت له بالإقامة المشروطة في منزل داخل روما.

وطرح عبدالله أوج آلان من روما اقتراحاً من سبع نقاط للحكم الذاتي للأكراد في تركيا، دون المساس بوحدة أراضي تركيا وسلامتها. وطلب أوج آلان من الدول الأوربية اقتراحه للسلام مع تركيا. وكانت النقاط السبع التي جاءت في اقتراحه هي:

1. وقف العمليات العسكرية ضد القرى الكردية.

2. عودة اللاجئين إلى قراهم.

3. إقامة حكم ذاتي في المنطقة الكردية دون المساس بوحدة أراضي تركيا وسلامتها.

4. الاعتراف بحق الأكراد في كل الحريات الديموقراطية التي يتمتع بها المواطنون الأتراك.

5. الاعتراف بالهوية واللغة والثقافة الكردية.

6. التعددية والحرية الدينية.

ولما وجدت تركيا أنه لا فائدة من مطالبتها إيطاليا بتسليم الزعيم الكردي بسبب المعارضة الأوروبية لتسليمه وتضامن دول أوروبا مع الموقف الإيطالي، وفشل الدبلوماسية التركية في إقناع الحكومات الغربية بوجهة نظرها، خففت من طلبها، وقالت أنها تريد أن يحاكم أوج آلان ويعاقب على جرائمه حتى لو في خارج تركيا.

وبعد فترة غادر أوج آلان روما إلى جهة غير معلومة، ويقال أنه بقي مدة شهر في روسيا بطريقة غير مشروعة.ثم حاول الدخول إلى هولندا التي رفضت أن تسمح لطائرته بالهبوط في مطاراتها. ثم أخذ يتجول بين البلاد الأوروبية من دون الحصول على مأوى. ثم استقر به المقام إلى الهبوط في مطار عسكري يوناني وتزودت طائرته بالوقود ثم أقلعت إلى نيروبي.

وألقت الأزمة بظلالها على الاتحاد الأوروبي، الذي لم يتخذ في قمته المنعقدة في 11 -12 ديسمبر 1998م أي خطوات إيجابية بشأن قبول انضمام تركيا الكامل إلى عضوية الاتحاد.

وكانت دول الاتحاد الأوروبي قد أعربت لتركيا عن رفضها للسياسة التي تعالج بها تركيا المسألة الكردية في أراضيها.

وكان الاتحاد في اجتماع القمة الذي عقد في 12 – 14سبتمبر1997م، أظهر انزعاجه من تدفق آلاف المهاجرين الأكراد إلى أوروبا بطريقة غير مشروعة وتعرض حياة هؤلاء المهاجرين للخطر، من خلال عبورهم بالقوارب من بحر مرمرة إلى الشواطيء اليونانية والإيطالية.

وانتقد الاتحاد الأوروبي (في مارس 1994م) أيضاً قرار البرلمان التركي رفع الحصانة عن النواب الأكراد في المجلس الوطني التركي، وتقديمهم للمحاكمة بتهمة الدعوة للانفصال، ودعا تركيا إلى الاعتراف بالحقوق الخاصة، وبالذات الثقافية، للشعب الكردي. وكل هذه الانتقادات أثارت ردود فعل قوية من جانب تركيا، واعتبرتها في حكم المساندة للإرهاب.

وفي تطور مثير أعلن رئيس الوزراء التركي بولنت أجيفيت في الاثنين 16 فبراير 1999م أن عناصر الاستخبارات التركية قد تمكنت من جلب زعيم حزب العمال الكردستاني إلى البلاد وأنه موجود في تركيا منذ الساعة الثالثة من صباح اليوم، وهو تحت الحراسة المشددة. ولم يفصح أجيفيت لحظة إذاعته النبأ عن الطريقة التي جلب بها أوج آلان إلى تركيا وكيفية اعتقاله. وقال أن أوج آلان ورفاقه لم يلقوا بالاً لقانون العفو والندم الذي أصدره المجلس الوطني التركي (البرلمان).

واتضح فيما بعد أن المخابرات التركية، بالتعاون مع استخبارت أجنبية، ويشار إلى الأمريكية والإسرائيلية، قد رصدت تحركات أوج آلان بين إيطاليا وهولندا واليونان ورفض الدول السماح له بدخولها. واستمر رصد تحركاته على مدى 12 يوماً حتى علم أن مختبيء بالسفارة اليونانية في كينيا. وقد أدخله الدبلوماسيون اليونانيين إلى نيروبي بطريقة غير مشروعة، في يوم 3 فبراير1999م، وهو يحمل جواز سفر قبرصي مزور.

وأخرج من السفارة بحيلة ثم ألقت المخابرات التركية القبض عليه وهو في طريقه إلى مطار نيروبي وحمل في طائرة خاصة إلى تركيا مكتوف اليدين ومعصوب العينين، وأودع السجن في جزيرة (إمرالي) النائية، غير مؤهولة في بحر مرمرة، إلى الجنوب من استانبول. وشددت الحراسة على الجزيرة ومنع الصحفيين من الاقتراب منها.

وقد أثار القبض على أوج آلان موجات من الغضب الكردي في أنحاء أوروبا، وتظاهر الأكراد المقيمين في الدول الأوروبية ضد الحكومة التركية ومن ساندها في 21 مدينة أوروبية وكذلك في كندا وأستراليا. وهوجمت السفارات اليونانية، والسفارة الإسرائيلية في ألمانيا للاعتقاد السائد بأن المخابرات الإسرائيلية الموساد ساعدت الأتراك في القبض على الزعيم الكردي.

وأدت عملية القبض على أوج آلان إلى زيادة التوتر في العلاقات اليونانية التركية. واحتجت كينيا على اليونان لأنها لم تكن تعلم بوجود أوج آلان في أراضيها. وطردت السفير اليوناني. كما استقال عدد من الوزراء اليونانيين بسبب هذه القضية والتستر على الزعيم الكردي مما يخالف الأعراف الدبلوماسية.

نتج عن عملية القبض على أوج آلان، كذلك، تقدم بولنت أجاويد في الانتخابات التركية، التي جرت يوم 18أبريل 1999م، وحصل على أكثر من 22% من مقاعد البرلمان بينما كانت نسبته في السابق هي 7%.

وأجرت السلطات التركية تحقيقاتها مع الزعيم الكردي في التهم المنسوبة إليه، وأهمها تشكيل منظمة إرهابية تسعى لتقسيم الجمهورية التركية ومسؤوليته عن مقتل ثلاثين ألف شخص من المدنيين والعسكريين في عمليات إرهابية شنتها عناصر منظمته. وعقوبة هذه التهم هي الإعدام. وقد ناشدت الدول الغربية ومنظمات حقوق الإنسان تركيا تقديم كل الضمانات لمحاكمة أوج آلان محاكمة عادلة.

وسيق عبدالله أوج آلان إلى محكمة أمن الدولة العليا في يوم 31 مايو1999م، وانتقلت بهيئاتها من أنقرة إلى جزيرة إمرالي. ووجه الإدعاء العام تهمة “الخيانة العظمى والسعي لتقسيم تركيا” لأوج آلان، وطالبت النيابة، بمقتضى المادة 125 من القانون الجزائي، إنزال عقوبة الإعدام بزعيم حزب العمال الكردستاني.

ووضع أوج آلان، في أثناء المحاكمة، في قفص زجاجي محصن ضد الرصاص، وشهد المحاكمة أمهات وأقارب الذين قتلوا في عمليات الحزب الكردستاني من المدنيين والعسكريين، مما أثار جوا مشبعاً بالعواطف والانفعالات في قاعة المحكمة.

وبقي الصحفيون ورجال الإعلام الذين قدموا من مختلف البقاع لتغطية المحاكمة، خارج الجزيرة، وأُعِدّ لهم مقر للمتابعة في بلدة مودانيا على شاطيء بحر مرمرة. ولم يتقدم أوج آلان في أثناء المحاكمة بأي دفاع عن الأعمال التي ارتكبها حزبه، وإنما وجه نداء للسلام خلال المحاكمة وعرض نفسه في خدمة الدولة لتسوية النزاع الكردي المسلح مع القوات التركية إذا أبقي على قيد الحياة.

واحتجت الدول الغربية ومنظمات حقوق الإنسان على وجود قاض عسكري بين قضاة المحكمة الثلاثة. وقررت المحكمة إرجاء جلساتها إلى 23 يونيه 1999م، لإفساح المجال أمام محامي أوج آلان لتحضير دفاعه.

واضطرت الحكومة المشكلة، حديثاً، برئاسة أجاويد أن تقدم للبرلمان مشروعاً بإلغاء مهمة القاضي العسكري في محكمة أمن الدولة العليا. وصوّت البرلمان التركي لصالح إلغاء وظيفة القاضي العسكري.

ورفضت السلطات التركية استقبال أعضاء لجنة مجلس الشيوخ الإيطالي، كان من المقرر أن يزوروا أنقرة في أوائل يونيه 1999م، لحثّ الحكومة التركية على عدم إصدار حكم بالإعدام على الزعيم الكردي.

وانتهت المحاكمة في 24 يونيه 1999م، وصدر في 29 يونيه 1999م، قرار بإعدامه.

من جانب آخر، لم تتوقف عمليات الحزب الكردستاني ضد القوات التركية باعتقال أوج آلان. فقد اشتبكت عناصر من الحزب مع الجيش التركي في عمليات خاطفة في جنوب شرقي الأناضول. وأعلن الجناح المسلح من الحزب، في بيان صحفي، أن إعدام عبدالله أوج آلان سوف يشكل انتحاراً للدولة التركية. وحذر من النتائج الوخيمة التي سوف تترتب على إعدامه، بقوله إن كل عمل يتم دفاعاً عن الشرف الوطني وعزة الشعب الكردي سيكون مشروعاً.