التطور السياسي ل امارة الكويت ومشكلاتها الحدودية (1914 ـ 1961)
امارة الكويت

بدأت أزمة الحدود، بين الدولة العثمانية وامارة الكويت، منذ عام 1902، واستمرت إلى أن سُوِّيت “مؤقتاً” في الاتفاق البريطاني ـ العثماني، في شأن الخليج، عام 1913، وإن بقيت آثارها حتى وقتنا الحالي. وقد عملت الدولة العثمانية على إثارة هذه الأزمة، خلال عام 1902، كجزء من صراعها مع الشيخ مبارك، فضلاً عن أن لإثارة هذه المسألة جانباً آخر، يتصل بوضع يد الدولة العثمانية، بتشجيع من ألمانيا، على منطقة، تصلح نهاية لخط سكة حديد برلين ـ بغداد، وهي منطقة خور عبدالله، كبديل من خليج “كاظمة” )خليج الكويت(

وبدأت الأزمة باحتلال العثمانيين بوبيان، وأم قصر، وصفوان، ومناطق أخرى مجاورة لخور الصبية. وكلها توفر المخارج المؤمنة لخور عبدالله، الذي يصلح نهاية لخط سكة حديد بغداد. ولم تكتفِ الدولة العثمانية بذلك، وإنما بدأت تمارس سيادة على هذه المناطق، فأنشأت مركزاً للبريد في جزيرة بوبيان، تحرسه قوة عسكرية، وإن كانت رمزية. وادَّعت أن هذه المناطق جميعاً، لا تدخل في حدود امارة الكويت

وبذلك، حصرت الصراع بينها وبين الشيخ مبارك، بل علاقتها كلها بامارة الكويت، في مجرد مشكلة حدودية، تحل ببعض التنازلات، هنا وهناك، وفي ذلك ما فيه من إقرار بطبيعة علاقتها بالكويت. وبدت وكأنها عجزت عن امتلاك الكويت، فلجأت إلى تقطيع أوصالها، وترتب على ذلك، إقرار ضمني باستقلالها، مقتطعاً منها المناطق التي احتلتها.

وقد احتج الشيخ مبارك، وادّعى، هو الآخر، أن هذه المناطق داخلة ضمن حدود الكويت، بل أرسل قوة عسكرية صغيرة، لاحتلال “حكايجة”، في أقصى شمالي خليج الكويت، القريبة من خور الصبية. وهدّأت بريطانيا من روعه، وأيّدته، وأبلغته أن الاحتلال العثماني لا يهضم حقوقه.

ثم احتج سفيرها لدى إستانبول، نيكولاس أوكونور، وصرح بأن بلاده ستساند الشيخ، تنفيذاً لتعهدها له، واتفاقيته معها، ولأن العثمانيين بهذا الإجراء، خرقوا حالة “الوضع الراهن”. ولكن يبدو أن بريطانيا اكتفت بالاحتجاج، وأنها لم تكن جادّة في تنفيذ تعهدها، إذ إن العثمانيين ظلوا مسيطرين على هذه المناطق سيطرة فعلية. ومن الواضح أن بريطانيا، قد علقت الأزمة إلى مرحلة، تسوَّى فيها مشكلة الحدود الكويتية، مع بقية المسألة برمتها، وهو ما حدث عام 1913.

وفي عام 1904، أجرت بريطانيا أول مسح شامل لحدود امارة الكويت وسواحلها، من الجهراء، والسواحل الشمالية، إلى صفوان وأم قصر، على الحدود الشمالية مع العراق العثماني. وفي أبريل 1905، جال الوكيل السياسي البريطاني في الكويت، النقيب نوكس، في جنوبي الكويت، ووصل إلى حفار، على الحدود بين امارة الكويت ووسط شبه الجزيرة العربية.

وكذلك، أجريت عملية مسح بري لخليج الكويت، وجاء خط الحدود البريطاني يسير من: خور الصبية، ليمر جنوب أم قصر وصفوان، متجهاً إلى جبل “سنام”، ومنه إلى وادي الباطن. لكن الشيخ مباركاً رفض الخط البريطاني، ورأى أنه يحرم بلاده من المناطق، التي اقتطعتها الدولة العثمانية، أم قصر وصفوان، فضلاً عن أنه لا يتضمن شيئاً عن حدود الكويت البحرية، التي كان يرى أنها تشمل جميع الجزر والسواحل، الممتدة من جزيرة فيلكا حتى شط العرب.

وحاول الشيخ مبارك ضرب العثمانيين بالإنجليز. فكتب، في 13 يوليه 1905، رسالة إلى المقيم السياسي البريطاني في الخليج، الرائد برسي كوكس، يذكر فيها “أنه من المؤكد، أن جزيرة بوبيان، إنما تعود ملكيتها لي. وأن الموقع العثماني، الذي أقيم هناك، قد أقيم بقوة واقتدار”. وأنه غير قادر على مقاومة الحكومة العثمانية، لكن إذا ما وافقت الحكومة البريطانية على أخذ موقع الجزيرة، لتقيم فيه محطة للفحم، فإنه على استعداد لإزالة الموقع العثماني.

امير امارة الكويت
امير امارة الكويت

ولكن الحكومة البريطانية، تجاهلت طلبه، ورأت أن تصدر تعليماتها، من طريق حكومة الهند، إلى وكيلها السياسي في الكويت، النقيب ستيوارت جورج نوكس، بالتفاوض مع الشيخ، لاستئجار جزيرة وربة، في محاولة لسد الطريق أمام أي قوة أخرى، لبناء قاعدة أو ميناء في خور عبدالله، في مدخل شط العرب إلى البصرة. ويبدو أن ذلك لم يتحقق، فلا هي أقامت موقعاً للفحم في جزيرة بوبيان ـ وقد أقامته في الشويخ، فيما بعد ـ ولا هي استأجرت جزيرة وربة. فالحكومة البريطانية، لم تشأ تصعيد الموقف مع العثمانيين حينئذٍ، لغير ما ضرورة ملحّة. فاكتفت بالمحاولات، التي كان يجريها سفيرها لدى إستانبول، نيكولاس أوكونور،  ليضغط بها على العثمانيين، لسحب حاميتهم من جزيرة بوبيان.

التطور السياسي ل امارة الكويت ومشكلاتها الحدودية (1914 ـ 1931)

1. الكويت والحرب العالمية الأولى

بعد نشوب الحرب العالمية الأولى، في 28 يوليه 1914، سقطت رموز التبعية للدولة العثمانية، عن مناطق واسعة، من تلك التي كانت تابعة لها، قبْل دخول الدولة الحرب إلى جانب دول الوسط. فقد حدث ذلك في امارةالكويت، كما حدث في مصر، وإن كان، بالنسبة إلى الأولى، لم يقتصر الأمر على مجرد إسقاط الرموز، وإنما امتد إلى الإسهام في إسقاط الوجود العثماني في العراق نفسه، حسبما وَرَدَ في الكتاب، الذي وجّهه المقدم نوكس Knox، القائم بأعمال المقيم السياسي البريطاني في الخليج (أُنظر وثيقة مستخرج من خطاب المقيم السياسي البريطاني في الخليج إلى سعادة السير مبارك الصباح، شيخ امارة الكويت، مشتملاً على تعهدات محددة له من الحكومة البريطانية في 3 نوفمبر 1914)، في 3 نوفمبر 1914، إلى الشيخ مبارك بن صباح الثاني.

ونص هذا الكتاب على، أن يهاجم شيخ الكويت أم قصر، وصفوان، وبوبيان. وأن يعتمد على غيره من الشيوخ، الذين يمكن الاعتماد عليهم، لتحرير البصرة من السيطرة العثمانية، أو اتخاذ الترتيبات اللازمة، لمنع وصول الإمدادات العثمانية إليها، ريثما تصل القوات البريطانية القادمة من الهند. وبالفعل، استطاع أمير الكويت مهاجمة هذه المراكز، وضمها إلى إمارته، واعترفت بريطانيا بملكية الكويت لهذه المراكز.

وقد تضمن هذا الكتاب :

أ. اعتراف الحكومة البريطانية بأن تكون مشيخة امارة الكويت، حكومة مستقلة، تحت الحماية البريطانية.

ب. إعطاء وعد بتحقيق مصالح شيخ الكويت، عثمانية، ولا تسلم لها أبداً.

والواقع أن الشيخ مباركاً، بما له من بُعد نظر سياسي، استطاع أن يتعاون مع الحلفاء، ضد العثمانيين والألمان، أثناء الحرب العالمية الأولى، فتمكن من الحصول على تأييد بريطانيا ودعمها السياسي. بل إن الشيخ جابر الثاني بن مبارك، الحاكم الثامن لإمارة الكويت (1915 ـ 1917)، سار على نهج أبيه، فأعلن رسمياً وقوف الكويت إلى جانب بريطانيا والحلفاء ضد الدولة العثمانية وحلفائها.

والواقع أن ما ترتب على الحرب، من سقوط الإمبراطورية العثمانية، وظهور العراق الحديث، تحت الانتداب البريطاني، قد غير من الخريطة السياسية للمنطقة، في ما يمكن رصده، سواء بالنسبة إلى العراق أو امارة الكويت .

بالنسبة إلى العراق ، فللمرة الأولى في التاريخ الحديث، يظهر على الخريطة السياسية في المنطقة، كيان سياسي، تحت  اسم العراق، وتطابق الكيانان الجغرافي والسياسي.

أما بالنسبة إلى امارةالكويت، فإن ” ظل السيادة العثمانية”، الذي كان قائماً، حتى قيام الحرب العالمية الأولى، قد انزاح تماماً، خاصة بعد تسليم الدولة العثمانية، سواء في المادة 132 من معاهدة سيفر، في 10 أغسطس 1920، أو تسليم الجمهورية التركية، في المادة 16 من معاهدة لوزان، عام 1923، بالتنازل عن كل حقوقها في البلاد العربية .

فضلاً عن ذلك، فإن فرض الانتداب البريطاني على العراق، وفرض الحماية البريطانية على الكويت، قد وضعا البلدين، أول مرة، تحت سيطرة قوة دولية واحدة. وليس هناك أقوى من اعتراف هذه القوة بالوجود المتمايز للكيانَين السياسيَّين، العراقي والكويتي. كذا ليس أفضل من سعيها لتخطيط الحدود بينهما، على أساس أنه ليس لها مصلحة في فرض أوضاع خاطئة، يمكن أن تتسبب بعدم الاستقرار بين الشعوب التي تحكمها .

2. تطور العلاقات الكويتية ـ النجدية (السعودية)، والخلافات الحدودية بينهما خلال الفترة (1914 ـ 1931)

الواقع، أن الحدود الكويتية ـ النجدية (السعودية)، قد خُططت في مشروع اتفاقية 29 يوليه 1913، بين بريطانيا والدولة العثمانية، والتي حال نشوب الحرب العالمية الأولى، دون التصديق عليها. وفي عام 1915، اعترفت بريطانيا بأن نجْداً والأحساء دولة مستقلة .

وقد اختلفت سياسة امارة الكويت، حيث نجْد والأحساء، في عهد الشيخ سالم بن مبارك، الحاكم التاسع ل امارة الكويت (1917 ـ1921)، عن سياسة عهدَي والده، وأخيه جابر.

وكان سالم بن مبارك، في عهد أبيه، قد قاد قوة كويتية، في ديسمبر 1915، لمساعدة عبدالعزيز آل سعود، المحاصَر في الهفوف، من قِبل العجمان واستطاعت القوة الكويتية فك الحصار عن الهفوف، وهزيمة العجمان. وكان عبدالعزيز يأمل، بعد هزيمة العجمان، أن يلاحقهم ويُنزل بهم أشد أنواع العقاب، ويطاردهم حيث يذهبون.

غير أن الشيخ سالماً، بتوجيه سابق من والده مبارك، قد منح العجمان، بعد هزيمتهم، مأوى في أراضي الكويت، فلم يتمكن عبدالعزيز من ملاحقتهم. وقد كانت هذه الحادثة، هي بداية النزاع، بين الكويت، سلعبدالعزيز آل سعود، ذلك النزاع الذي كان من نتائجه موقعة الجهراء، في 10 أكتوبر 1920، بين الكويت والإخوان[4]، بقيادة زعيمهم فيصل بن سلطان الدويش.

أ. موقعة الجهراء )10 أكتوبر 1920)

تُعَدّ موقعة الجهراء معْلماً في تاريخ امارة الكويت الحديث، إذ برهنت على صلابة موقف الشيخ سالم ابن مبارك في الدفاع عن أراضي الكويت كافة. فقد جمع فيصل بن الدويش، زعيم الإخوان، قواته ليهاجم الكويت، ببدء حصار الجهراء. وعندما تيقن الشيخ سالم، من نية الهجوم التي كانت مبيتة لدهم مدينة الكويت نفسها، شرع يخطط للدفاع عنها، وذلك بأن طلب من أهلها جميعاً المعاونة على بناء سور جديد، لحمايتها من هجمات الإخوان، وقوات عبدالعزيز. وأُنجز بناء السور في شهري

قد وقع ما كان في حسبان الشيخ سالم، حين بدأت جماعات الإخوان تتحرك، بقيادة فيصل بن الدويش، متجهة صوب الكويت، شمالاً. ورأى الشيخ سالم، أن خط الدفاع الأول عن الكويت، لا بدّ أن يكون في الجهراء، فتوجّه إليها مع العديد من سكان مدينة الكويت. وفي العاشر من أكتوبر 1920، وقع الهجوم المرتقب، وكانت المعركة، في بدايتها، في غير مصلحة امارة الكويت.

واضطر الشيخ سالم إلى اللجوء إلى القصر الأحمر، والتحصن به، ضد هجمات جيش فيصل بن الدويش، الذي كان يفوق الكويتيين عدداً. ولا ريب، أن وقوف الشيخ سالم في الجهراء، للدفاع عنها من القصر الأحمر، كان أمراً له أهميته العسكرية، لأن إرهاق جيش الدويش حول الجهراء، قد كفى مدينة الكويت شرّه

أما أثر هذه المعركة في امارة الكويت، فكان بعيد المدى، فقد وقف أهلها صفاً واحداً لمواجهة غزو أراضيهم. وعلى الصعيد الدولي، فإن القتال الكويتي ـ السعودي، أجبر بريطانيا على أن تنفذ وعودها، طبقاً لاتفاقية 1899 مع الكويت، إذ إن الطائرات البريطانية، المرابطة في العراق، المحتل من قِبل بريطانيا، ألقت المنشورات المحذرة للغزاة، وعمدت السفن الحربية البريطانية إلى المرابطة في ميناء الكويت، على مرأى من الغزاة، كنوع من الإنذار لهم. إضافة إلى أن هذه الغزوة، قد عجلت بعقد مؤتمر لاحق، في العقير، عام 1922.

ومن العوامل الأخرى، التي عجلت، كذلك، بمؤتمر العقير، ضرورة تسوية المشكلات الحدودية، التي أُثيرت بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، خاصة بعد زوال الإمبراطورية العثمانية، ومنها مشكلة الحدود بين العراق ونجْد، إذ كانت بريطانيا تُعنى بشؤون العراق، كذلك، في إطار نظام الانتداب. وفي هذا السياق، عُقد مؤتمر العقير، وعلى جدول أعماله مسائل الحدود بين العراق ونجْد، وبين نجد والكويت، وبين العراق وامارة الكويت

ب. مؤتمر العقير (27 نوفمبر ـ 2 ديسمبر 1922)

أدت العوامل السابقة، ولا سيما غزوة الجهراء، إلى عقد مؤتمر العقير (أُنظر وثيقة نص اتفاقية العقير في شأن تعين الحدود، بين امارةالكويت ونجد وإعادة النظر في الحدود، بين نجد والعراق في 2 ديسمبر 1922)، الذي يُعَدّ أهم مؤتمر عُقد في منطقة الخليج، في أعقاب الحرب العالمية الأولى. إذ إنه قرر السيادة الإقليمية للوحدات السياسية في المنطقة، ووضع أسس الحدود السياسية بين كل من العراق ونجْد والكويت.

وقد ترأس المؤتمر السير(أُنظر وثيقة مستخرج من خطاب المقيم السياسي البريطاني في الخليج إلى سعادة السير مبارك الصباح،شيخ الكويت مشتملاً على تعهدات محددة له من الحكومة البريطانية في 3 نوفمبر 1914) برسي كوكس، المندوب السامي البريطاني في العراق. ومثّل نجد السلطان عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود نفسه.

ومثّل العراق صبيح نشأت، وزير الأشغال. بينما مثّل الكويت الوكيل السياسي البريطاني فيها، الرائد جيمس كارميشيل مور “G.James Carmichale More”. وكانت الحجة البريطانية لتبرير هذا التجاهل للتمثيل الكويتي، هي أن الكويت محمية بريطانية، تتولى عنها بريطانيا الشؤون الخارجية كافة. وكان الهدف الأساسي من انعقاد المؤتمر، هو تحديد الحدود بين الكويت ونجْد والعراق.

كانت اتفاقية 1913، قد حددت حدود الكويت على النحو التالي:

“خط الحدود يبدأ على الساحل عند مصب خور الزبير، في الشمال الغربي، ويعبر تماماً جنوب أم قصر، وصفوان، وجبل سنام. وتترك لولاية البصرة هذه المحلات وآبارها. وعند الوصول إلى الباطن، تتبعه حتى الجنوب الغربي، تاركة آبار الصفاة والحبرة والهبة والوربة وأنطه، حتى تصل إلى البحر، بالقرب من جبل منيفة. وهذا الخط مشار إليه باللون الأخضر، في الخريطة (انظر خريطة الكويت بالاتفاقية البريطانية ـ العثمانية) و(خريطة امارة الكويت بالاتفاقية البريطانية ـ العثمانية “إنجليزي” ) الملحقة بهذه الاتفاقية”.

وإذا كانت حدود امارة الكويت، هي تلك التي حددتها اتفاقية عام 1913، بين بريطانيا والدولة العثمانية. فإن معاهدة المحمرة، التي عقدت في مدينة بوشهر، في 5 مايو 1922، هي التي أوضحت معالم الحدود بين نجد (السعودية) والعراق، ووافق عليها السلطان عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، سلطان نجْد وملحقاتها، آنذاك.

إلاّ أنه عاد لينقضها بعد قليل، في العام نفسه، قبل عقد مؤتمر العقير في 2 ديسمبر 1922. فقد رفض هذه الحدود لأنها أضافت إلى العراق ما ليس له، ولأنها أبقت، كذلك، حدود الكويت مع نجد والأحساء، كما كانت عليه في اتفاقية 1913. كما كان يعدها ضد طموحاته، الرامية إلى اقتطاع جزء كبير من أراضي امارة الكويت. وشرع السلطان عبدالعزيز يحاول فرض إعادة النظر في حدوده، مع كلٍّ من الكويت والعراق، معتمداً على الإخوان، كأداة للضغط، في سبيل تحقيق أهدافه وطموحاته.

وإزاء التوتر في المنطقة، وتعدد الغزوات، والغزوات المضادّة، ورغبة في إرضاء السلطان عبدالعزيز آل سعود، ألغت بريطانيا اتفاقية عام 1913، ويقتضي هذا، ضرورة بذل جهود أخرى للتوصل إلى تحديد وتعيين وتخطيط حدود مستقرة، بين الوحدات السياسية في المنطقة، وهو ما تبلور في عقد مؤتمر العقير في 12 ربيع الثاني 1341 هـ، الموافق 2 ديسمبر 1922، والذي يُعَدّ مكملاً لمعاهدة المحمرة .

قد جرت مفاوضات العقير، في الفترة من 27 نوفمبر حتى 2 ديسمبر 1922، في ميناء العقير، السعودي، الواقع إلى الجنوب من الخُبر. وانتهت أعمال المؤتمر إلى توقيع بروتوكولات متممة لمعاهدة المحمرة، وسميت ” معاهدة المحمرة وبروتوكولات العقير” .

وعند بدء أولى جلسات المؤتمر، بدا أن السير برسي كوكس، كان حريصاً على رسم الحدود بين الدول المعنية، لأسباب مختلفة، فكان يريد أن:

(1) يبرز العراق، كدولة ذات كيان، وذات حدود واضحة، لكي تستطيع، ممثلة في ملكها فيصل بن الحسين، أن توقّع اتفاقات نفط وغيرها مع بريطانيا.

(2) تتوقف نجْد، عن اعتداءاتها، على حدود جيرانها، في الشمال والشمال الشرقي والشمال الغربي، أي على حدود العراق والكويت وشرق الأردن.

(3) تكون الكويت دولة حدود، تفصل بين العراق، ونجْد، وبذلك، تمنع بريطانيا الاحتكاك بينهما.

وإزاء اختلال توازن القوى، على المستوى الإقليمي، في مصلحة السلطان عبدالعزيز آل سعود، إذ أصبح أكبر حاكم في شبه الجزيرة العربية والخليج العربي، فقد استمر في مطالبه، التي حظيت برضا بريطاني، على الرغم من التظاهر البريطاني، أثناء جلسات المؤتمر، بالحياد والمثالية، خصوصاً وأنه كان هناك جلسات خاصة، بين السلطان عبدالعزيز، والسير برسي كوكس.

وقد نجحت الدبلوماسية البريطانية، ممثلة في السير برسي كوكس، في تمرير اتفاق حول الحدود، بين نجْد والعراق، ونجْد والكويت. إذ استغل كوكس دهاءه في استثمار الخلافات الأساسية، التي كان محورها مطالب السلطان عبدالعزيز آل سعود ورغبته، فعمد إلى فتح خريطة شبه الجزيرة العربية، ورسم بالقلم الأحمر، خطاً للحدود، يبدأ من الخليج العربي إلى جبل عنيزة، الواقع بالقرب من حدود إمارة شرق الأردن.

وبذلك أعطى العراق مساحة كبيرة من الأرض، التي تطالب بها نجْد، وأعطى نجْداً ثلثَي أراضي إمارة الكويت. وإلى الجنوب والغرب من إمارة الكويت، رسم منطقتَي حياد. سمِّيت الأولى منطقة الكويت المحايدة، والثانية منطقة العراق المحايدة.

وقد عُينت الحدود، رسمياً، بموجب هذه الاتفاقية، فبدأت الحدود الكويتية مع نجْد، من نقطة على شاطئ الخليج العربي، تقع جنوب رأس القليعة، وتمتد غرباً، بإمتداد قوس دائرة، قطرها 40 ميلاً، ومركزها بلدة الكويت، حتى تقاطع خط الدائرة مع خط العرض 29 ْ شمالاً.

ثم تسير الحدود من نقطة التقاطع هذه، في خط شبه مستقيم، طوله نحو 90 كم، يتجه نحو الشمال الغربي، حتى نقطة تقاطع وادي العوجة ووادي الباطن، وذلك في موقع الرقعي، الذي يُعَد ملتقى حدود ثلاث دول، هي: الكويت، السعودية والعراق. (انظر خريطة الكويت بالاتفاقية البريطانية ـ العثمانية) و(خريطة الكويت بالاتفاقية البريطانية ـ العثمانية “إنجليزي”).

وبالنسبة إلى المنطقة المحايدة، بين امارة الكويت ونجْد )السعودية(، فقد أوضحت الاتفاقية، أن هذه المنطقة، تقع إلى الجنوب من الحدود المذكورة مع الكويت. وتبدأ من نقطة على ساحل الخليج تقع شمال رأس مشعاب، وتمتد بامتداد خط مستقيم، يتجه غرباً، مع مسار أحد خطوط العرض (شمال خط العرض 28 ْ) على حافة منخفض الشق، ويبلغ طوله 70 كم.

ثم يتجه خط الحدود في اتجاه الشمال الغربي، متتبعاً وادي الشق، حتى يلتقي بنقطة الحدود الكويتية ـ السعودية، عند تقاطعها وخط العرض 29 ْ شمالاً، ويقدَّر طوله بنحو 90 كم. وتبلغ مساحة المنطقة المحايدة 5770 كم2. واتفق على أن يكون للدولتَين فيها حقوق اقتصادية مشتركة، متساوية. ولذلك، فإن الدولتَين تتقاسمان دخْل نفط حقل الوفرة البري، وحقل الخفجي البحري، منذ ظهور النفط في هذه المنطقة. (أُنظر خريطة منطقة رأس الخليج العربي).

وثمة العديد من الملاحظات حول اتفاقية الحدود بين الكويت ونجْد، التي أُقرت في مؤتمر العقير، ووقعتها الأطراف المعنية، في 2 ديسمبر 1922، تتلخص في الآتي :

(1) حسرت اتفاقية العقير الحدود الكويتية الجنوبية نحو مائة وستين ميلاً (أي حوالي 256كم). فجاءت التسوية كلها على حساب تقليص حدود الكويت، والاعتراف بضم الكثير من القبائل، التي كانت تابعة لها إلى نجْد.

(2) رسمت تلك الاتفاقية منطقتَين محايدتَين. الأولى بين السعودية والكويت، من جهة الجنوب، وسمِّيت منطقة الكويت المحايدة. والأخرى بين العراق والسعودية، في الشمال، وسمِّيت منطقة العراق المحايدة. وكان الهدف من إقامة هاتَين المنطقتَين، هو تسهيل انتقال القبائل البدوية، التابعة للأطراف المعنية، في تلك البلاد، لارتياد الماء ورعي الأغنام.

(3) أثارت مسألة تمثيل الكويت في المؤتمر الاستنكار، إذ مثّل الكويت، في مؤتمر، يحدد إقليمها برسم حدوده، ممثل بريطاني. وهو ما عَبّر عنه حاكم الكويت، صراحة، للسير برسي كوكس، وإنْ قبِل، في نهاية الأمر، توقيع الاتفاقية، كأمر واقع.

(4) ادَّعى السير برسي كوكس، في تبريره لاقتطاع ثلثَي مساحة الكويت، وضمها إلى نجْد، أن سلطة امارة الكويت على الصحراء، قد أصبحت أضعف مما كانت عليه في عهد الشيخ مبارك، يوم وُضعَت الاتفاقية البريطانية ـ العثمانية، في عام 1913، وأن هذا قد أوجب عليه إعادة تخطيط الحدود، بين الكويت ونجْد، على أساس جديد.

(5) واجهت عملية تخطيط الحدود بين كلٍّ من الكويت ونجد والعراق، صعوبات بالغة، إذ تفتقر طبيعة الأرض إلى معالم، يمكن خط الحدود أن يرتكز عليها. كما أن مفهوم الحدود السياسية، كان جديداً في تلك المناطق، وكانت القبائل ترتاد الصحراء، الممتدة بين البلدان الثلاثة، للرعي، وكانت علاقات التبعية، تعتمد على العلاقات القائمة بين رؤساء القبائل وحكام تلك البلاد. وعلى هذا تُرِكَت الآبار مشاعاً بين القبائل، والمناطق التي تختلط فيها القبائل، أصبحت محايدة. وهكذا، انبثقت فكرة المناطق المحايدة، بين الكويت وجيرانها.

(6) عُدَّت اتفاقية العقير، على الرغم مما أَحاط بها، مهمة جداً، إذ أنها أوجدت، للمرة الأولى في تاريخ المنطقة، عملية تخطيط الحدود على أرض الواقع، أو ما يسمى ترسيم الحدود على الأرض، وربطته بمفهوم السيادة الوطنية، مستهدفة بذلك تحقيق موضوعية لرسم تلك الحدود.

(7) حددت الاتفاقية تحديداً حاسماً، تبعية الجزر الآتية للكويت: وربة، وبوبيان، في الشمال. ومسكان، وفيلكا، وعوهه، في الوسط. وكُبر، وقاروة، وأم المرادم، في الجنوب. وقد أصدرت السلطات الكويتية، بين عامَي 1948 و1965، عدة بلاغات وأحكام، تتعلق بموضوع المياه الإقليمية الكويتية، التي حُدِّدَتْ بستة أميال بحرية، بغرض تحديد الامتيازات النفطية (أُنظر خريطة السعودية في اتفاقية العقير). وحددت المياه الإقليمية للجزر بثلاثة أميال بحرية. وحددت المياه الإقليمية للمنطقة المحايدة، بين الكويت والمملكة العربية السعودية، بستة أميال .

(8) أشارت اتفاقية العقير، إلى أن هناك اتفاقية أخرى ستليها، في شأن الحدود في المنطقة المحايدة. وهو ما يعني أن التسوية في خصوصها، كانت مؤقتة، كي يتسنى للكويت ونجْد، استغلال مواردها بالتساوي، إلى أن توضع التسوية النهائية للحدود.

(9) لم ترسم اتفاقية العقير، ولم تخطط نظاماً معيناً لإدارة المنطقة، وإن ابتدعت سابقة، صارت مثالاً ناجحاً لتخطيط الحدود، في الحالات المماثلة. وربما يعود السبب في ذلك إلى أن تلك المساحة الشاسعة، لم تكن مأهولة بالسكان، وقتذاك، إذ لم يكن النفط، بعد، قد اكتشف فيها، فلم تكن هناك حاجة عملية إلى ضبط إدارة المنطقة، والتدقيق في علاقات الكويت ونجْد بها.

وبقي الحال أشبه بنظام السيادة المشتركة، حتى تفجرت المشاكل، مع تزايد عمليات الكشف عن النفط، وظهرت الحاجة الماسة إلى وضع نظام دقيق لإدارة المنطقة المحايدة. وهو ما تمكن الجانبان من التوصل إليه، في يوليه 1965.

وقد جرى بين امارة الكويت والمملكة العربية السعودية اتفاق آخر، عام 1969، قسمت بموجبه، هذه المنطقة بين الدولتَين، إدارياً، وذلك بخط مستقيم، يوازي خط حدود المنطقة المحايدة السابق )أُنظر خريطة منطقة رأس الخليج العربي( ، ويقع إلى الشمال منه، ويساويه في الطول. في حين بقي من خط الحدود الثاني، الذي يساير وادي الشق، ما مسافته 50 كم فقط.

وانتقلت، بموجب هذه الاتفاقية، حدود امارة الكويت جنوباً، كما انتقلت حدود المملكة العربية السعودية شمالاً، إلى جنوب حقل الوفرة. ولكن الاتفاقية، لم تغّير من الحقوق الاقتصادية، أي أن الاستغلال الاقتصادي للمنطقة المحايدة، ما زال مناصفة بين البلديَن، طبقاً لاتفاق يوليه.

لم يقتصر الشعور بالظلم، في شأن الاتفاق الذي تمخض به مؤتمر العقير، على الشيخ أحمد الجابر الصباح أمير الكويت، بل شمل الأطراف الممثلة في المؤتمر. وأثيرت الشكوك حول موافقة السلطان عبدالعزيز آل سعود، على الحدود النجدية ـ الكويتية، خاصة أن المؤتمر، لم يؤدِّ إلى حل المشاكل، ومنع الغزوات، إذ عاد الإخلال بالأمن، بعد توقيع الاتفاقية بأربعة أشهر فقط. وفي محاولة أخرى، للتوفيق بين الأطراف المعنية، وجهت بريطانيا الدعوة لحضور مؤتمر، يعقد في امارة الكويت. في 17 ديسمبر 1923، عُرِفَ بمؤتمر الكويت الثاني

ج. مشكلة التبادل التجاري )المسابلة( بين الكويت ونجد:

كانت امارة الكويت مركزاً مهماً للتبادل التجاري، يأتيها التجار من الأقطار المجاورة كافة، كالعراق وسورية ونجْد. وكان أغلب القادمين إلى الكويت للتجارة، هم أهالي نجْد واستمر ازدهار سوق الكويت، حتى عام 1921، حين عزم السلطان عبدالعزيز آل سعود، على منع رعاياه من التجارة مع الكويت، لهدفَين أساسيَّين:

أولهما: رغبته في تحويل مواطنيه إلى موانئ بلاده، كالقطيف والعقير والجبيل.

ثانيهما: رغبته في استيفاء رسوم جمركية من أهالي نجْد، الذين يستوردون حاجاتهم من الكويت، من دون رسوم، لعدم وجود مراكز جمركية بين البلدين، وكتب عبدالعزيز آل سعود، إلى الشيخ أحمد الجابر، يخبره بعزمه منع رعاياه من التجارة مع الكويت، متعللاً باضطراره إلى ذلك، وأنه لا يستطيع الرجوع عن قراره، إلاّ في حالة قبول الشيخ أحد اقتراحات ثلاثة:

(1) إقامة موظفين سعوديين بالكويت، لجباية الرسوم الجمركية على البضائع، الخارجة منها إلى نجْد.

(2) دفع شيخ امارة الكويت ما يقابل قيمة الرسوم، التي تفرض على التجارة.

(3) تعيين موظفين، من قِبل شيخ الكويت، لتحصيل الرسوم، وتسليمها لسلطان نجْد وملحقاتها

(4) وقد رفض الشيخ أحمد الجابر الاقتراحات الثلاثة. كما رآها الوكيل السياسي البريطاني في الكويت، مخالفة لتعهدات بريطانيا لشيوخ الكويت .

وعلى الرغم من اتفاق العقير، عام 1922، الذي يُعَدّ اتفاق سلام، شن عبدالعزيز آل سعود، سلطان نجْد وملحقاتها، عام 1923، حرباً اقتصادية على الكويت، إذ فرض عليها حصاراً، استمر حتى عام 1937. ولم يفلح كل المحاولات المبذولة لتسوية المسألة بطريقة ودية، بل أحكم عبدالعزيز آل سعود حصاره الاقتصادي، واتّبع سياسة قاسية على الحدود مع الكويت .

وفي نطاق اهتمام الحكومة البريطانية بتسوية المسألة، اجتمع كبار المسؤولين في كلٍّ من وزارة الخارجية، ووزارة المستعمرات، ومكتب الهند، في 12 أغسطس 1931، لدراسة المسائل المعلقة، بين نجْد والكويت، وفي مقدمتها مشكلة التبادل التجاري.

وتعددت الاجتماعات، وطُرحت صيغ عديدة للتسوية، لم يلقَ أي منها نجاحاً. وانتهت المفاوضات باقتراح السلطان عبدالعزيز آل سعود، اختيار محكّمين، من الكـويت ونجْد، من بينـهم عدد من كبـار التجـار، ليحـاولوا التـوصل إلى اتفـاقية مرْضية للطـرفين. وقد سـاعدت مساندة الملك عبدالعزيز، ملك المملكة العربية السـعودية للشيخ جابر الأحمد، أمير الكويت، خلال تعرضه لأزمة المجلس التشريعي، عام 1938، التي عُرفت بأزمة المجلس، على تقارب البلدَين، وعلى عقد معاهدة صداقة وتجارة بينهما، في 20 أبريل 1942

3. تطور العلاقات الكويتية ـ العراقية، والخلافات الحدودية بينهما خلال الفترة (1914 ـ1931)

ترتبط امارة الكويت والعراق بروابط قوية، ذات أصول تاريخية. فإلى جانب صِلات القربى والنسب والجوار والدين واللغة المشتركة، هناك الصّلات التاريخية الوثيقة. وكانت الكويت تعتمد على العراق في كثير من أمورها الحيوية، إذ كانت تستورد منه الماء والغذاء، فضلاً عن وجود ممتلكات زراعية واسعة لشيوخها في البصرة والفاو وغيرهما، تدر دخلاً كبيراً على الأُسرة الحاكمة.

وطوال حكم العثمانيين، لم يكن للعراق وحدة سياسية بهذا الاسم، بل كان يتكون من عدة ولايات، يحمل كلُّ منها اسماً مستقلاً، ولم تتحد، إلاّ في عهد الملك فيصل بن الشريف حسين، فظهر اسم العراق. وفي الوقت نفسه، كانت الكويت وحدة سياسية (إمارة واحدة). أي كانت السيادة العثمانية على الكويت سيادة اسمية فقط، بينما كان العراق تحت السيادة العثمانية الكاملة. أمّا علاقة الكويت بالبصرة أو بغداد، فلم تظهر أنها علاقة تبعية لهما. وإنما كانت قنوات اتصال بينها وبين الإدارة العثمانية فيهما.

أ. موقف بريطانيا من العلاقات الكويتية ـ العراقية:

يظهر الدور البريطاني في العلاقات الكويتية ـ العراقية في إطار أوسع، هو العلاقات بين الكويت والعراق ونجْد. ذلك أن بريطانيا كانت تتخوف من العلاقات والروابط القوية، بين امارة الكويت والعراق، التي تجعل الأولى، تعتمد على الثانية، في كثير من حاجاتها الحيوية، اعتماداً، لا تستطيع معه الاستغناء عنها.

ولذا، بذلت بريطانيا جهوداً واسعة، لإبعاد التأثير العراقي عن الكويت، خوفاً على مركزها فيها. وتمثّل ذلك في العمل على تعطيل الخطوط البرقية، وإزالة مكتب البريد العراقي، المقام في الكويت، وإلحاقه بحكومة الهند. كما قررت بريطانيا، أن تستمر الكويت تحت الحماية البريطانية، وصرفت النظر عن الرأي الداعي إلى ضمها إلى الإدارة البريطانية في العراق

كما أصرّت على أن تكون الاتصالات كافة من طريقها. وأحكمت إشرافها على جميع الأمور في علاقة البلدَين. وإزاء حرص بريطانيا على منع أي اتصال مباشر بين الكويت والعراق، كان لزاماً عليها التدخل لحل المشاكل بينهما، التي تمثلت في إعفاء مَزارع الشيخ مبارك، في البصرة، من الضريبة، وفي نقل مياه شط العرب إلى الكويت، وفي مشكلة التهريب.

 امارة الكويت
امارة الكويت

ب. موقف بريطانيا من تثبيت الحدود الكويتية ـ العراقية

كان من أهم القضايا، التي عُني بها الشيخ أحمد الجابر الصباح، أمير الكويت، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، هي تثبيت الحدود مع جيرانه.

وبعد أن نجحت بريطانيا، في مؤتمر العقير، في تثبيت الحدود بين العراق ونجْد من جهة، وتعيين الحدود الكويتية مع نجد وتخطيطها، والتصديق على اتفاقية العقير، الموقعة بين أمير الكويت، وسلطان نجْد وملحقاتها، آنذاك، عبدالعزيز آل سعود، من جهة أخرى، لم يتبقَّ سوى مسألة تسوية الحدود بين امارة الكويت والعراق. فتحوّل الشيخ أحمد الجابر نحو المطالبة بتثبيت حدود بلاده مع العراق، الذي تبوأ عرشه الملك فيصل بن الحسين بن علي، في أغسطس 1921. (انظر وثيقة نص اتفاقية العقير في شأن تعين الحدود، بين امارة الكويت ونجد وإعادة النظر في الحدود، بين نجد والعراق في 2 ديسمبر 1922)

ووجّه حاكم الكويت رسالة، مؤرخة في أول أبريل 1923، إلى الوكيل السياسي البريطاني في الكويت، الرائد مور، هذا نصها )أُنظر وثيقة نص رسالة الشيخ أحمد جابر الصباح، أمير الكويت إلى الوكيل السياسي البريطاني في الكويت، في أول أبريل 1923، يستفسر فيها عن شكل الحدود، بين الكويت والعراق(.

“بعد التحيـة. أعـرف، الآن، أنه قد ثُبتت الحدود بين نجْد والكويت، كما ورد في الاتفاقية، إلاّ إنني ما زلت لا أعرف شكل الحدود بين العراق والكويت. وسأكون مسروراً، لو زودتني هذه المعلومات لأطّلع عليها”.

وواصل الشيخ أحمد الجابر سعيه في هذا السبيل، فبعث برسالة أخرى إلى الوكيل السياسي البريطاني في الكويت، مؤرخة، في 4 أبريل 1923 (أُنظر وثيقة نص رسالة الشيخ أحمد جابر الصباح، أمير الكويت إلى الوكيل السياسي البريطاني في الكويت في 4 إبريل 1923، يطالب فيها بالحدود نفسها، التي طالب بها الشيخ سالم بن مبارك الصباح)، يشرح فيها حدود امارة الكويت، التي يطالب بها، وهي:

من نقطة التقاء وادي العوجة مع الباطن، وشرقاً، إلى جنوب آبار صفوان وجبل سنام، وأم قصر، وإلى سواحل جزيرتَي بوبيان ووربة، وعلى طول الساحل إلى الحدود الحالية للكويت ونجْد. ومن ضمن هذه المنطقة الجزر التالية: مسكان وفيلكا وعوهه، وكُبر، وقاروة، وأم المرادم.

وبادر الوكيل السياسي البريطاني في الكويت، الرائد مور، إلى إبلاغ المندوب السامي البريطاني في العراق، السير برسي كوكس، مطالب شيخ الكويت، في رسالة بعثها إليه في اليوم عينه، 4 أبريل 1923(أُنظر وثيقة نص مذكرة الوكيل السياسي البريطاني في الكويت إلى المندوب السامي البريطاني في العراق في 4 إبريل 1923، يستفسره عن الحدود، بين الكويت والعراق)، أشار فيها إلى أنه لا يعرف شكل الحدود بين الكويت والعراق، وأن شيخ الكويت، يطالب بالجزء الشمالي من الخط الأخضر، على الخريطة، المرفقة بمسوّدة الاتفاقية البريطانية ـ العثمانية، الموقعة في 29 يوليه 1913.

وجاء رد كوكس، في 19 أبريل 1923، على شكل خطاب، أرسله إلى الوكيل السياسي البريطاني في الكويت (أنُظر وثيقة رسالة المندوب السامي البريطاني، السير برسي كوكس، إلى الوكيل السياسي البريطاني في الكويت، الرائد ” مور” في 19 أبريل 1923 في شأن تبليغ أمير الكويت اعتراف الحكومة البريطانية بالحدود الكويتية ـ العراقية).

(1) وتضمن الإشارة إلى الرسائل المتبادلة في شأن تحديد الحدود بين امارة الكويت والعراق، ومطالب شيخ الكويت في خصوصها. وانتهى إلى القول: “يمكن إخبار الشيخ بأن طلبه حول الحدود والجزر، المشار إليها أعلاه، معترف به، من قِبَل حكومة صاحب الجلالة”. وكان قرار الحكومة البريطانية هذا، الذي عبّر عنه مندوبها السامي في العراق، هو أول توضيح رسمي للحدود الكويتية ـ العراقية، بعد تشكيل الدولة الحديثة في العراق.

(2) وورث العراق عن بريطانيا، بعد انتهاء فترة الانتداب البريطاني عليه (1921ـ 1932)، التزاماتها تجاه شيوخ الكويت، التي وعدت بها بريطانيا شيخ الكويت، في رسالة المقيم السياسي البريطاني في الخليج، في 3 نوفمبر 1914(أُنظر وثيقة مستخرج من خطاب المقيم السياسي البريطاني في الخليج إلى سعادة السير مبارك الصباح، شيخ الكويت مشتملاً على تعهدات محددة له من الحكومة البريطانية في 3 نوفمبر 1914)، إلى الشيخ مبارك الصباح، مقابل المجهود الكبير، الذي بذله في طرد القوات العثمانية من أراضي الكويت وجنوبي العراق، في البصرة، خلال الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) ولهذا السبب تُبُودلت الرسائل بين وزارة الخارجية البريطانية ورئيس وزراء العراق، نوري السعيد، على أساس أن الكويت كيان سياسي، ودولي، مستقل. وقد أكد أحد محاضر وزارة الخارجية البريطانية، المؤرخ في 6 نوفمبر 1929 استقلالية دولة الكويت وأن شيخ الكويت، يرتبط بعلاقات تعاهديه، مع حكومة صاحب الجلالة[15]. ومعترف به، كحاكم مستقل.

أزمة الحدود العراقية ـ الكويتية من استقلال الكويت حتى انضمامها إلى الأمم المتحدة

المبحث الأول

استقلال الكويت وأزمة الحدود العراقية ـ الكويتية (1961)

أولاً: بريطانيا واستقلال الكويت

ما لا شك فيه أن الحركات التحررية، التي ظهرت في بعض دول الخليج العربي، في الخمسينيات والستينيات، ولّدَتْ قناعة لدى بريطانيا، مفادها أن المعاهدات التي عقدتها مع إمارات الخليج، منذ القرن التاسع عشر، أصبحت عاجزة عن المحافظة على الأمن في الخليج، أو استمرار سيطرة لندن عليه.

وأدركت أن علاقاتها أمست لا تنشأ، كما كان عليه الحال من قبْل، بينها وبين الحكام فقط، بل مع أطراف أخرى ظهرت في الخليج، تتمثل في أبنائه، وفي تيار القومية العربية، الزاحف إلى هذه المنطقة.

وهكذا، تزعزعت مقولة اللورد جورج ناثانيل كيرزون، حاكم الهند ونائب الملكة فيها، عام 1903، عن منطقة الخليج، “إن سلطان الحكومة البريطانية، ينبغي أن يكون هو الأقوى”. كما أصبح هارولد ديكسون، الوكيل السياسي البريطاني في الكويت، يعترف، علناً، بتأثير التيارات القومية في الكويت، ومنطقة الخليج العربي بأسْرها، في النفوذ البريطاني، حتى أصبح الشعار السائد في امارة الكويت، أن “الجزيرة للعرب”، و”الكويت للكويتيين”.

وفي ذلك إشارة واضحة إلى ضرورة التخلص من النفوذ البريطاني. ولقد أرجع ديكسون قوة المدّ القومي العربي في دول الخليج، والكويت على وجه الخصوص، إلى محاولات شعب مصر للتحرر، وإلى قضية فلسطين، والثورة في الجزائر، والعدوان الثلاثي على مصر، عام 1956، والوحدة بين مصر وسورية، التي أيّدتها شعوب الخليج، وطالبت بعض الدول العربية بالانضمام إليها.

وإزاء هذه التطورات الداخلية، والمتغيرات الإقليمية، بدأت المطالبة الكويتية بالاستقلال، منذ أواخر الخمسينيات. وفي مطلع عام 1961، كثّف الشيخ عبدالله السالم الصباح، أمير امارة الكويت، ضغوطه لتأمين الاستقلال الدائم. مما يوضح تأثير المد القومي في الضمير الشعبي العام في الكويت، بما هيأها، مجتمعاً ونظام حكم لإعلان استقلالها.

ولقد أخذت بريطانيا المطالبة الكويتية بشكل جدي، إذ أعدَّ إدوارد هيث Edward Richard George Heath، المسؤول عن مكتب الشؤون الخارجية في الحكومة البريطانية، آنذاك، مذكرة سِرية، تدارستها الحكومة البريطانية، في 6 أبريل 1961، في شأن ما يجب عمله تجاه مطالب أمير الكويت.

وجاء في المذكرة: “إن العلاقات بين امارة الكويت والمملكة المتحدة، تستند إلى الاتفاقية الخاصة، لعام 1899. وإن الاتفاقية، في حدّ ذاتها، لا تعني أن الكويت تحت الحماية البريطانية”، لكن موضوع الحماية، أشير إليه في 3 نوفمبر 1914، ضمن رسالة من المقيم السياسي البريطاني في الخليج، لدى اندلاع الحرب العالمية الأولى، حملت اعتراف الحكومة البريطانية بأن مشيخة الكويت، هي حكومة مستقلة، تحت الحماية البريطانية.

وقد جرى تأكيد ذلك، في رسالة غير منشورة، في 21 أكتوبر 1958، من الوكيل السياسي البريطاني في الكويت إلى أميرها، تقول: “إننا سوف نظل مستعدين، كما كنا في الماضي، لتوفير أي دعم، قد يكون ضرورياً، في ما يتعلق بعلاقات الكويت بالدول الأخرى. وجرت الإشارة، في البرلمان البريطاني، في 4 فبراير 1959، إلى أن مشيخة الكويت، هي دولة مستقلة، تلتزم حكومة صاحبة الجلالة بحمايتها.

وينتقل إدوارد هيث، في الجزء الثاني من مذكرته، إلى مناقشات، جرت في مجلس الوزراء، في نوفمبر 1958، وصدر، بعدها، بيان، في مارس 1960، يشير إلى أن الكويت، أصبحت مسؤولة تماماً عن إدارة علاقاتها الدولية. وقد أنهى ذلك الإعلان مفعول اتفاقية عام 1899.

ويشير هيث إلى أن وزير خارجية بريطانيا، اقترح، في مايو 1960، نتيجة لهذا الإعلان، أنه “إذا أثار أمير الكويت موضوع إعادة النظر في الاتفاقية الخاصة (1899)، فإنني أرى منح المقيم السياسي في الخليج، أو الوكيل السياسي في امارة الكويت، صلاحية الإجابة بنفسه، وتأكيد، أن حكومة صاحبة الجلالة، ستكون مستعدة لدراسة هذا الأمر”.

ويشير هيث، في الجزء الثالث من مذكرته، إلى أن أمير الكويت، أثار هذا الموضوع بالفعل، وهو يرغب في الحصول على الاستقلال التام. وأبلغ ذلك إلى المقيم السياسي البريطاني في الخليج، في 4 يناير 1961. وذكر الشيخ عبدالله السالم، أمير الكويت “أن الظروف شهدت تغيرات أساسية، عمّا كانت عليه، عندما وضعت اتفاقية عام 1899، وأنه لم يبقَ من تلك الاتفاقية، إلاّ علاقات الصداقة القوية، التي تربط بين البلدين”.

ولذا، فإنه يرغب في عقد اتفاقية مع حكومة صاحبة الجلالة، الآن، تستبدل اتفاقية عام 1899، تؤكد هذه الصداقة، واستعداد بريطانيا لمساعدة الكويت.

وحدد هيث، في مذكرته، مجموعة من النقاط، التي يجب على الحكومة البريطانية أن تأخذها في الحسبان، وهي:

1. تفاقية1899، لا تتفق مع مسؤولية الكويت عن شؤون علاقاتها الدولية.

2. إن استمرار الوصول إلى موارد النفط الكويتية، وبالأسعار الأفضل، هو أمر حيوي، بالنسبة إلى المصالح البريطانية. وإن هذه المصالح، سوف تتعرض للخطر، إذا خسرت الكويت استقلالها.

فمن الواضح، أنه بينما تنمو الشخصية الدولية للكويت، فإنها سوف ترغب، بوسائل شتى، في إظهار أنها باتت لا تعتمد علينا. لكن يجب أن نستغل الفرص، التي يوفرها لنا دورنا في الحماية، وذلك حتى نضمن، قدر الإمكان، ألاّ ترفض الكويت، وتفشل ترتيباتنا المالية، وتظل حاملة بشكل جيّد للجنيه الإسترليني.

3. إن الاتفاقية الجديدة، بين المملكة المتحدة والكويت، التي ذكرت، أن حكومة بريطانيا ملتزمة بمساعدة الكويت على صيانة استقلالها، سوف تُعَرض طرفَي الاتفاقية لهجوم، على أساس أنها تمثّل “علاقة إمبريالية”، ولا تتفق مع التطورات، الجارية في أماكن أخرى من العالم المعاصر. وقد يزيد ذلك من ضغوط القوميين العرب على امارة الكويت، لإدانة الحماية البريطانية، أو على الأقل، جعل الكويت أقلّ اعتماداً على بريطانيا في سياستها، النفطية والمالية.

4. من الأفضل للجانبَين عقد اتفاقية جديدة، بدل اتفاقية 1899، تتجنب إثارة الاعتراضات، الواردة في الفقرة السابقة.

5. في حال قبول الحكومة البريطانية، إنهاء اتفاقية 1899، وقبولها إصرار الأمير على الحصول على بعض التأكيدات، أن الإنهاء، لا يقلّل من التزام بريطانيا بحماية الكويتيين، فهناك ثلاث صيغ، يمكِن مناقشتها مع أمير الكويت، لتوقيع اتفاقية دولية مُلزمة، يتعين تسجيلها لدى هيئة الأمم المتحدة. وهذه الصيغ هي:

أ. تبادل مذكرات بين المقيم السياسي البريطاني، وأمير امارة الكويت، تُبطل، ببساطة، مفعول اتفاقية 1899، مرفقة بتأكيد شفهي حول اعتراف حكومة صاحبة الجلالة، باستمرار التزامها بمساعدة الكويت على صيانة استقلالها، وأن تُنشَر وتسجَّل المذكرات المتبادلة، لدى الأمم المتحدة.

أمّا التأكيد الشفهي، الذي يمكِن تسجيله في المذكرة، فلا يُنشَر، ولا يسجَّل في الأمم المتحدة. واقترح هيث، أن الحكومة، إذا سُئلت في البرلمان، عمّا إذا كانت المذكرات تؤثر في التزاماتنا القائمة، أن تجيب بالنفي.

ب. تبادل مذكرات، تشير إلى إبطال مفعول اتفاقية 1899، مع تأكيد أن هذا الإبطال، لا يؤثر في الالتزام البريطاني المستمر بمساعدة الكويت على صيانة استقلالها. والهدف من ذلك إيضاح أن الالتزام البريطاني قائم ومستمر، من دون أن يحدد زمن معيّن لصلاحية هذا الالتزام.

ج. عقد معاهدة، بعيداً عن الصيغ الرسمية، تضمن الالتزامات البريطانية نفسها، ويكون لها الأثر القانوني عينه، كما في البند (2)، لكنها تكون خاضعة للتصديق في البرلمان.

واقترح هيث، في مذكرته كذلك، ضرورة عرض بريطانيا لاتفاقات بديلة مع الكويت، في مجالَي الصداقة والتجارة، بعد الاتفاق على إنهاء مفعول اتفاقية 1899، بأي صيغة من الصيغ الثلاث المقترحة.

ولقد تضافرت مجموعة من العوامل والمعايير، الوطنية والإقليمية والدولية، أدت، جميعها، إلى جعل استقلال الكويت ضرورة لا غنى عنها. وهو أمر سلمت به بريطانيا، بهدوء، لأنها أمست غير قادرة على الحفاظ على وضعها الخاص في الكويت، خاصة بعد أن دخلت دول أخرى حلبة الصراع حول الخليج، والمنطقة، وثرواتها، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي.

ومن ثم، جاءت الحصيلة النهائية، لتفاعل جميع العوامل سالفة الذكر، في ضرورة استقلال الكويت، وإنهاء الحماية البريطانية عليها، إذ أُعلن، صباح 19 يونيه 1961، في كل من لندن والكويت، تبادل رسائل بين أمير الكويت، الشيخ عبدالله السالم الصباح، والسير وليم هنري توكير لويس (1961 – 1966) Sir William Henry Tucker Luce ،المقيم السياسي البريطاني في الخليج، انطوت على إعلان استقلال الكويت، وإنهاء اتفاقية 23 يناير 1899، على أساس أنها تتعارض وسيادة امارة الكويت(أُنظر مذكرة السير وليم لوس، المقيم السياسي البريطاني في الخليج إلى الشيخ عبدالله السالم الصباح، حاكم الكويت في 19 يونيه 1961 التي تنص على إلغاء اتفاقية 23 يناير 1899 (اتفاقية الحماية البريطانية على الكويت).

و (وثيقة مذكرة الشيخ عبدالله السالم الصباح، حاكم الكويت رداً على مذكرة السير وليم لوس، المقيم السياسي البريطاني في الخليج في 19 يونيه 1961 التي تنص على إلغاء اتفاقية 23 يناير 1899 (اتفاقية الحماية البريطانية على الكويت))، واستبدال معاهدة جديدة بها، تُبنى على الصداقة والتعاون بينهما.

أذاعت الحكومة الكويتية في اليوم عينه (19 يونيه)، البيان الكويتي، حول إلغاء معاهدة 23 يناير 1899.(أُنظر وثيقة البيان الكويتي المعلن في 19 يونيه 1961، بإلغاء اتفاقية 23 يناير 1899 (اتفاقية الحماية البريطانية على الكويت)) وتُعرف المعاهدة الجديدة، بين الكويت وبريطانيا، باتفاقية “التشاور”، بينما وصفها العراق باتفاقية “المساعدة”.

هكذا، وبتبادل الرسائل، في 19 يونيه 1961، بين حاكم الكويت، والمقيم السياسي البريطاني في الخليج، نيابة عن حكومة صاحبة الجلالة، الملكة اليزابيث الثانية Elizabeth II ، ملكة بريطانيا، حصلت الكويت على استقلالها التام. وفي اليوم التالي، 20 يونيه 1960، ألقى أمير امارة الكويتخطاباً، عبْر الإذاعة، هنأ فيه الشعب الكويتي بالاستقلال، ثم قال: “ولا يفوتني، هنا، أن أنوّه بالروح الطيّبة، التي سادت المباحثات.

وأن أسجل للجانب البريطاني، الصديق، ما تحلى به من رحابة الصدر، وحُسن التفهم للأمور، والرغبة الصادقة في التفاهم، مما جعل الوصول إلى الغاية المنشودة، في سهولة ويسر، مؤكداً ومضموناً، منذ البداية”.

في 21 يونيه 1961، أُرسلت اتفاقية التشاور إلى نيويورك، لتسجيلها في الأمم المتحدة، كاتفاقية ومعاهدة بين الكويت وبريطانيا. وبدأت الكويت، من الفور، تمارس سيادتها، فطلبت، في 23 يونيه 1961، الانضمام إلى كلٍّ من جامعة الدول العربية، والأمم المتحدة.

ثانياً: الدوافع والعوامل البريطانية، لإنهاء الحماية على الكويت

حمل بريطانيا على إنهاء حمايتها للكويت، بعد 62 عاماً، مجموعة من المتغيرات، الاقتصادية والإستراتيجية والنفسية، التي من أجْلها عُقدت معاهدة الحماية في 23 يناير 1899.

1. دوافع الاقتصادية

تلخص أهم العوامل الاقتصادية، التي دفعت بريطانيا إلى قبول استقلال الكويت، فيما يلي:

أ. انعدام الأهمية الاقتصادية لاحتكار صيد اللؤلؤ من الخليج، نتيجة لازدياد قيمة اللؤلؤ الصناعي.

ب. تراجع أهمية احتكار بريطانيا لتصدير السلاح، بدخول أطراف أكثر منها قوة وقدرة إلى السوق.

ج. ظهور النفط كان من أهم العوامل، التي أدّت إلى سرعة إعلان بريطانيا استقلال الكويت، وعدم تمسكها بها. فلقد أدركت لندن أهمية التغيرات، التي طرأت على دول الخليج، ومنها الكويت. وأصبح لزاماً عليها أن تغيّر أسلوب تعاملها مع حكام تلك الدول.

فعملت على أن تكون الشركات البريطانية حائزة عقوداً احتكارية، وامتيازات، في هذا المجال، لفترات مستقبلية طويلة. مما يحقق أهدافها تحقيقاً أفضل مما لو كانت موجودة وجوداً مباشراً، ويؤمن سيطرتها على المنطقة، خاصة أن حركات التحرر الوطني رافضة لهذا الوجود، أي أن بريطانيا، فضّلت أن تمارس أسلوب الاستعمار غير المباشر، أو الاستعمار الاقتصادي.

2. العوامل الإستراتيجية

وقد تمثلت فيما يلي:

أ. فقْد الخليج، إثر استقلال باكستان في 14 أغسطس 1947، والهند في 15 أغسطس 1947، أهميته التقليدية، المنبثقة من كونه خط الدفاع الأمامي، بالنسبة إلى إمبراطورية بريطانيا السابقة في الهند.

ب. قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، الرقم 1514، في 14 ديسمبر 1960، بإعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة، وذلك نتيجة للعدوان الثلاثي على مصر، عام 1956. (أُنظر وثيقة قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 1514، في 14 ديسمبر 1960 بإعلان منح الاستقلال للبلاد والشعوب المستعمرة)

ج. ازدياد النفوذ الدولي المنافس لبريطانيا، في الخليج العربي، من قِبَل ألمانيا والاتحاد السوفيتي وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، نظراً إلى تدهور مركز بريطانيا، وعدم قدرتها على تحمل مسؤوليتها في المنطقة، أو حمايتها.

د. ازدياد حركات التحرر الوطني المناهضة للوجود البريطاني في المنطقة.

3. الدوافع النفسية

وأهمها:

أ. الاقتناع بأن اتفاقية عام 1899، تتعارض مع مسؤولية الكويت عن شؤون علاقاتها الدولية.

ب. رغبة بريطانيا في الحفاظ على علاقات الود والصداقة، ضماناً لمصالحها، مع الأسرة الحاكمة في الكويت.

ج. رغبة بريطانيا في عدم إثارة المشاعر العدائية العربية تجاهها، في المنطقة.

وهكذا، حاولت بريطانيا، قدر جهدها، أن تجد طريقة تموّه بها وجودها الاستعماري. فمنذ عام 1961، أخذت تمنح بعض إمارات الخليج مظهر الدول المستقلة، للحفاظ على مصالحها في المنطقة، تحت هذا الستار، وقد كانت البداية في 19 يونيه 1961، بإعلان استقلال الكويت.

ثالثاً: موقف العراق من استقلال الكويت

عقب إعلان ما توصلت إليه الحكومتان، الكويتية والبريطانية، بادر كثير من الدول العربية إلى تأييد تلك الخطوة. إلاّ أن العراق اتخذ موقفاً مختلفاً. فقد أرسل عبدالكريم قاسم، رئيس الحكومة العراقية، برقية تهنئة، في 20 يونيه 1961 (أُنظر وثيقة برقية عبدالكريم قاسم، رئيس وزراء العراق إلى الشيخ عبدالله السالم الصباح، حاكم امارة الكويت في 20 يونيه 1961 يهنئه فيها باستقلال الكويت) إلى شيخ الكويت، صيغت بطريقة لم يتم فيها الإشارة إلى استقلال الكويت، وإنما عمد إلى إثارة “المطالب التاريخية” للعراق في الكويت.

إذ تضمنت البرقية ترحيب العراق بإلغاء اتفاقية 1899، على أساس أنها اتفاقية غير شرعية، عُقدت من دون علم الدولة العثمانية، التي كانت امارة الكويت تابعة لها، وأن الذي عقد هذه ا لاتفاقية، هو الشيخ مبارك بن صباح، قائم مقام الكويت، التابع لولاية البصرة. وفي نهاية البرقية، حذر عبدالكريم قاسم شيخ الكويت، من تقبّل استعمار جديد.

ولم يلبث أن اتضح الموقف العراقي، حين عقد عبدالكريم قاسم مؤتمراً صحفياً، في مقره الدائم، في وزارة الدفاع، يوم الأحد 25 يونيه 1961، طالب فيه بضم الكويت إلى العراق، على أساس أنها مقاطعة تابعة للبصرة، بل إنها تشكل جزءاً متكاملاً مع العراق، وبعدم وجود حدود بين البلدَين. وطلب من شيخ الكويت، أن يعاون على إعادة الأمور إلى مجراها الطبيعي.

وأعلن أن الجمهورية العراقية، قررت “حماية الشعب العراقي في الكويت”، وأنه في صدد إصدار مرسوم جمهوري بتعيين شيخ الكويت قائمقاماً لقضاء الكويت، الذي سوف يتبع لواء البصرة. وأكد أن لدى الحكومة العراقية من الوثائق التاريخية، ما يثبت تبعية الكويت للبصرة، وأن العراق سيطالب بحقوقه في كل شبر من الأراضي، التي انتزعها المستعمر. وكان هذا تلميحاً إلى المطالبة بمناطق أخرى، جنوب الكويت، كالأحساء، وقطر. كما صرح بأن الجمهورية العراقية، لن تتنازل، قيد أنملة، عن أي قطعة من أرض الكويت، مؤكداً أنه عندما يصرح بذلك، فإن له القدرة التامة على تنفيذ ما يقوله.

وقبْل هذا المؤتمر الصحفي، كان مجلس الوزراء العراقي، قد عقد عدة جلسات، بحث خلالها مسألة الكويت، والطريقة التي يجب اتّباعها، لإعادتها إلى الوطن الأم. وظهر في مجلس الوزراء رأيان:

الأول: ويمثله العسكريون، وعلى رأسهم عبدالكريم قاسم. وكانوا يرون أن الكويت لن تعود، إلاّ من طريق الحل العسكري، باحتلال الكويت، وإعلان ضمها إلى العراق.

الثاني: ويمثله المدنيون، ويؤكدون ضرورة اتّباع السُبل الدبلوماسية، لضم الكويت. وكان من أشد أنصار هذا الرأي، وزير الخارجية العراقي، هاشم جواد، إذ أوضح أن السُبل الدبلوماسية، هي أسهل الوسائل وأضمنها لعودة الكويت، ولا حاجة إلى التدخل العسكري. كما أكد أنه يستطيع أن يحصل على تأييد 70% من دول العالم. وبعد مناقشات طويلة، اقتنع الوزراء العسكريون بوجهة نظر وزير الخارجية. وكذلك اقتنع عبدالكريم قاسم. ولهذا، عُقد المؤتمر الصحفي، من دون أي تحرك عسكري.

وفي 26 يونيه، استدعت وزارة الخارجية العراقية الممثلين الدبلوماسيين لدى بغداد، وسلمت إليهم مذكرة رسمية، تؤكد فيها، أن الكويت جزء لا يتجزأ من العراق.(أُنظر وثيقة مذكرة الحكومة العراقية التي وزعت على سفراء الدول، العربية والأجنبية، لدى بغداد في 26 يونيه 1961، والتي طالب فيها عبدالكريم قاسم بضم الكويت)

كما وزّعت مذكرات رسمية، من طريق سفارتها في القاهرة، على الدول الأعضاء في الجامعة العربية، تؤكد فيها، أن المعاهدة التي أبرمتها بريطانيا مع الكويت، في 19 يونيه 1961، لا تستند إلى أُسُس سليمة، وأن بريطانيا تعمل على المحافظة على نفوذها، تحت غطاء منح الاستقلال الشكلي امارة الكويت، الذي تعمدت فيه فصل الكويت عن العراق.

وبعد أن طالب العراق بضم الكويت، هدّد عبدالكريم قاسم بقطع العلاقات الدبلوماسية بأي دولة، تعترف باستقلال الكويت، أو تتبادل معها التمثيل الدبلوماسي.

وعلى الرغم من ردود الفعل، الرافضة للدعاوى العراقية من قِبَل الدول العربية، ومن قِبَل دول أخرى، كبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، فإن العراق استمر في دعواه، مطالباً بضم الكويت إلى العراق، ومعلناً قرب القضاء على الاستعمار وأعوانه في الكويت، وقرب استرداد “القضاء العربي السليب”.

بل إنه أخذ يهدد بأنه سوف يشعل “حرباً ضروساً في الشرق الأوسط، إذا لم تضم امارة الكويت إلى العراق”. وتحولت أقوال عبدالكريم قاسم إلى أفعال وسلوك عدائي، حينما استولت القوات العراقية على 10 سفن كويتية، أثناء رسوّها في ميناء البصرة العراقي. كما أصدرت الحكومة العراقية قراراً بتجميد أموال الكويتيين في المصارف العراقية.

بل نفّذ العراق تهديده بإعادة النظر في علاقاته الدبلوماسية بالدول، التي تعترف بالكويت، وتنشئ علاقات دبلوماسية بها. فقطع علاقاته بلبنان، والولايات المتحدة الأمريكية، وإيران، والأردن، واليابان، وتونس. كما رفض مبدأ الاستفتاء في الكويت، مدعياً أن أغلبية سكانها من الباكستانيين والإيرانيين والأجانب، مؤيدين للشيخ عبدالله السالم.

رابعاً: الادعاءات العراقية بأحقيته في تبعية الكويت له

فشل العراق، خلال الفترة من 19 يونيه 1961 إلى 8 فبراير 1963، في أن يقنع المجتمع الدولي بادعاءاته في شأن الكويت. ومن دراسة التصريحات والبيانات والخطب العراقية العديدة، التي نشرت، خلال هذه الأزمة، يتضح أن المطالب العراقية، استندت، إلى جانب الادعاءات التاريخية، إلى بعض المبررات، ومن بينها:

1. رغبة العراق في توصيل المياه العذبة إلى الكويت. ومن ثَم، شدّد هجومه على حكام الكويت، لاستخدامهم محطات تحلية مياه الخليج، للحصول على مياه الشرب، مما حقّق للشركات الأجنبية مكاسب طائلة، نتيجة بيع آلات التقطير، بينما نقْل المياه من شط العرب إلى الكويت، هو أقلّ نفقة وأكثر نفعاً، من وجهة نظر العراق.

2. محاولة العراق، أن يقنع العالم العربي، بأنه يحمل اتجاهات تقدمية، من بينها أن من واجبه إنقاذ الشعوب العربية، وفي مقدمتها شعب الكويت من مستغلّي مواردها.

3. ترديد العراق، أن كلمة “الكويت”، كلمة لا تستخدم إلاّ في العراق، ولا تزال تطلق على الكثير من المواقع فيه، مثل “كوت العمارة”، و “كوت الزين”، وغيرهما.

4. تبرير العراق دعوته إلى ضم الكويت، بأنه لا يمكِن التفريق بين أهالي الكويت، والبصرة، والزبير، بحكم الصِّلات اليومية، والمصاهرات القائمة بينهم، وأنه إذا ما اجتمع أهالي البصرة والكويت، فلا يستطيع أحد أن يفرق بينهما. وعلى الرغم من تركيز عبدالكريم قاسم في تلك الروابط، إلاّ أنه أعلن رفضه لمبدأ الاستفتاء الشعبي في الكويت، متعللاً أن أغلبية سكان امارة الكويت من العناصر الوافدة.

5. ركز العراق، في تبريره للدعوة إلى ضم الكويت، في أن أهالي الكويت، يرغبون، بل يطالبون، بالعودة إلى وطنهم الأصلي العراق.

وعلى الرغم من أن الأزمة، التي أثارها عبدالكريم قاسم، لم تتجاوز البُعد الإعلامي، فإن هناك مَن يرى أنه كان يفكر، فعلاً، في غزو الكويت، ولم يحُل دون ذلك سوى المشكلات الداخلية العديدة، التي أخذ يواجهها. إذ اندلعت الثورة الكردية، في الشمال، واتخذت شكلاً أقرب ما يكون إلى الحرب الأهلية، مما لم يترك له فرصة للاعتداء على الكويت.

خامساً: دوافع عبدالكريم قاسم

على الرغم من مضيّ عدة عقود على وقوع تلك الأزمة، إلاّ أنه لم تتكشف، حتى وقتنا الحاضر، الدوافع الرئيسية، المحركة لعبدالكريم قاسم، للمطالبة بضم الكويت، على الرغم من إدراكه استحالة تنفيذ ذلك، بحكم المعارضة، العربية والدولية، فضلاً عن معارضة الشعب الكويتي، الذي حصل على استقلاله، وهو يتشبث به.

ومع ذلك، فقد ركز كثير من الباحثين في الدافع الاقتصادي، وأن الثروة النفطية الضخمة، التي تفجرت في الكويت، أغرت العراق بمحاولة ضمها إليه، أو على الأقل، الاستفادة من القروض والمنح، التي يمكن أن تقدمها الكويت له. لذا، فالدافع الاقتصادي قد يكون سبباً رئيسياً في نشوب العديد من الأزمات.

كما ترتبط الأزمة، التي افتعلها عبدالكريم قاسم بحالته النفسية، وهي ظاهرة وضحت في العديد من تصرفاته السياسية، حتى أصبح يُعَدّ واحداً من أكثر الشخصيات غموضاً في السياسة العربية المعاصرة.

واللافت للنظر، أن سياسة العراق خلال تلك الأزمة، قد تناقضت مع سياسته إزاء الكويت، قبْل الأزمة، إذ كان يعامل الكويت كدولة مستقلة، حتى قبل أن تلغي اتفاقية 1899 مع بريطانيا. وظهر ذلك واضحاً في جوازات السفر، وإجراءات الجمارك بين البلدَين، وفي كتب التاريخ والجغرافيا، في معاهد التعليم العراقية، وهي تشير إلى تاريخ الدول المجاورة للعراق، ومنها الكويت، وإلى الخرائط الجغرافية، التي تضمنت خط الحدود الفاصل بين البلدَين.

وقد اختلفت الآراء في أسباب مسلك رئيس الوزراء العراقي، عبدالكريم قاسم، وحكومته، تجاه الكويت، والتي تمثلت في الآتي:

1. هناك فريق، يرجع السبب إلى الظروف والعوامل الداخلية، التي كان يمر بها العراق وحكومته، في تلك الفترة. ومن هذه العوامل، تزايد الصراع العلني، بين بغداد والأكراد، الذي أدى إلى قيام عبدالكريم قاسم، باستقدام الملاّ مصطفى البرازاني، من الاتحاد السوفيتي، في 5 أكتوبر 1958، إلى العراق، بعد أن ظل لاجئاً سياسياً، لمدة 11 سنة، لتهدئة الأوضاع.

إلاّ أن ذلك لم يكن كافياً لإنهاء هذا الصراع. فقد كان الأكراد يحاولون الحصول على ما أسموه بمعاملة أعدل، وكان استياؤهم راجعاً إلى مماطلة الحكومة المركزية، وعدم استعدادها لمنحهم الاستقلال الذاتي، الذي وعدتهم به، والمذكور في مواد الدستور العراقي المؤقت، الصادر في خريف 1958.

كما أن إخفاق مشروع الإصلاح الزراعي، وحظر زراعة الطُّبًّاق في المنطقة الكردية، وقوانين الضرائب الجديدة، ونقْل الموظفين الأكراد إلى مناطق أخرى في العراق، كانت من العوامل التي ساعدت على إثارة الأكراد، ودفعتهم إلى ثورة في الشمال، أُبيد فيها فصائل عراقية عن آخرها، بين الجبال والتلال، واستولى الثوار على مناطق كاملة، بمدنها وقراها، وفصلوها عن بقية مناطق العراق.

وقد تزامنت هذه الأحداث مع التحرك العراقي، نحو المطالبة بضم الكويت. فأراد عبدالكريم قاسم إيجاد حل سريع لتغطية الموقف المتدهور في الشمال، والذي أصبح حديث الشعب العراقي كله.

وكان الحل، في رأيه، هو فتح “جبهة التغطية”، لتحويل أنظار الشعب العراقي إلى الخارج، بما يؤدي إلى تماسك الجبهة الداخلية، فأصدر الأوامر إلى بعض القوات الموالية له، بالتحرك صوب حدود الكويت، والاحتشاد قربها. ورافق هذا الأمر تهديدات وإنذارات من عبدالكريم قاسم، ووزير خارجيته، هاشم جواد، لشغل الرأي العام العراقي، بإثارة المشاعر القومية، وتوجيهها نحو النزعة التوسعية الإقليمية.

2. وثمة فريق ثانٍ، يرى أن عبدالكريم قاسم، كان مدفوعاً إلى التهديد بغزو الكويت من جانب بريطانيا، حتى تقضي على المعارضة، التي أثيرت في شأن اتفاقية المساعدة (التشاور)، التي وقعتها مع الكويت، في 19 يونيه 1961.

ويدللون على ذلك، بسرعة الإنزال البريطاني للقوات في الكويت، إذ إن الأمر كان مدبراً، وأن السلطات العسكرية البريطانية، كانت على علم مسبق بهذه الأزمة، وأرادت بريطانيا أن تتخذ منها مثالاً لردع أي حاكم من حكام الخليج، إذا ما فكر في المطالبة بالاستقلال، تحت تهديد العراق، أو إيران، أو المملكة العربية السعودية. كما تضمن، بذلك، سكوت امارة الكويت عن المطالبة بسحب أرصدتها المجمدة، بعد استقلالها عن بريطانيا.

3. فضلاً عن فريق ثالث، يرجع السبب إلى طموحات عبدالكريم قاسم وأطماعه في ثروة الكويت ونفطها. وإذا لم يستطع تنفيذ مشروعه في الحصول على ثروة الكويت، فعلى الأقل، يمكنه الاستفادة من القروض الكويتية، التي يمكن أن تقدمها الكويت، نتيجة ضغطه عليها. وعلى كلٍّ، فقد كان قاسم يأمل أنه لدى دعوته إلى ضم الكويت، ستقوم ثورة شعبية فيها، تتولى عملية الاندماج بين الدولتَين.

4. إضافة إلى فريق رابع، يرى أن الهدف الحقيقي للعراق، لم يكن ضم الكويت، ولكن منعها من الارتباط بالمملكة العربية السعودية، أو الوصول إلى عقد أي اتحاد معها.

وأيّاً ما كان الأمر، فإن دعوة عبدالكريم قاسم، إلى ضم الكويت إلى العراق، لم يكتب لها النجاح، لأنها قامت على دعاوى تاريخية، تخفي وراءها دوافع مصلحية، تُحِل مبدأ الضم محل منطق الوحدة، فعدّها كثير من المؤرخين دعوة توسعية، على أساس إقليمي، مجرد من المفهوم الوحدوي، بوجهته القومية الصحيحة.

سادساً: الموقف العراقي من الدول المؤيدة للكويت

بعد أن هدّد عبدالكريم قاسم بقطع العلاقات الدبلوماسية بأي دولة، تعترف باستقلال الكويت، أو تتبادل معها التمثيل الدبلوماسي، ونفّذ تهديده، بالفعل، حيال بعض الدول العربية والأجنبية، إذا به ينسحب من جامعة الدول العربية، على إثر قبولها عضوية امارة الكويت، في 20 يوليه 1961، وانضمامها إلى معاهدة الدفاع المشترك. وقد عمدت السلطات العراقية إلى عدة إجراءات.

منها، تعديل الخريطة السياسية للعراق، لتضم الكويت، ومنع قبول تأشيرات السفر إلى العراق، الصادرة عن حكومة الكويت. وتبع ذلك استمرار سحبها لجميع البعثات الدبلوماسية من العواصم، العربية والأجنبية، التي استقبلت بعثات دبلوماسية كويتية. وأخذت القائمة تتسع، يوماً بعد يوم، مما وضع العراق في عزلة، عربية ودولية، شديدة.

وفي الحقيقة، أن كل ما نجح فيه العراق، خلال تلك الفترة، هو تأجيل قبول الكويت في الأمم المتحدة، من خلال مساعدة سوفيتية. وكانت وجهة نظر حكومة موسكو، في طلب هذا التأجيل، أن ذلك من شأنه مساعدة الدول العربية على السعي إلى إيجاد تسوية لخلافاتها. وقد استند العراق، في طلبه من الأمم المتحدة رفض انتساب الكويت إلى المنظمة الدولية، إلى حجج ثلاث:

1. إن الكويت ليست دولة، ولم تكن كذلك، في يوم من الأيام.

2. إنها ظلت دائماً، من الناحية، القانونية والتاريخية، جزءاً لا يتجزأ من العراق.

3. إن الكويت لا تعدو أن تكون مستعمرة بريطانية، مما لا يؤهلها للانضمام إلى المنظمة الدولية.

سابعاً: موقف الأحزاب العراقية من المطالبة بضم الكويت

كان موقف الأحزاب العراقية متبايناً، إزاء قضية ضم الكويت إلى العراق. فقد أيد الحزب الوطني الديموقراطي مطالبة عبدالكريم قاسم بضم الكويت إلى العراق، على أساس أنها جزء من العراق، فصلها الاستعمار البريطاني عنه، وأقام فيها كياناً شكلياً، لخدمة مصالحه. وعليه، فإن الكويت لا تستوفي مقومات الدولة، وإنها مرتبطة، اجتماعياً واقتصادياً، بالعراق، من طريق البصرة.

غير أن الحزب لم يؤيد ضمها، من دون موافقة الدول العربية الأخرى، ورأى في تهديد عبدالكريم قاسم، بقطع العلاقات الدبلوماسية بأي دولة تعترف بالكويت، سياسة غير مجدية، بل متهورة، لأنها تؤدي إلى عزل العراق، عربياً ودولياً.

أمّا الحزب الشيوعي، فكان يعارض الطريقة التي حاول عبدالكريم قاسم اتّباعها، لضم الكويت، ويؤكد أن المسألة الأساسية، آنذاك، هي مسألة تحرير امارة الكويتمن الاستعمار، وهي جزء من قضية العرب الكبرى، قضية التحرر العربي، وإن كانت أكثر مساساً بالعراق، نظراً إلى العلاقات الخاصة، التاريخية والاجتماعية والاقتصادية.

ولهذا، رأى أنه ينبغي التركيز في هذا الهدف الرئيسي، والمباشر، الذي من شأنه أن يجمع تحت لوائه كل القوى العربية، المعادية للاستعمار، ولا يدع مجالاً لدسائس الاستعمار ضد هذه القضية العادلة، وضد التضامن العربي.

ولم يصدِر حزب البعث العربي الاشتراكي، في العراق، بياناً حول الموضوع. وقد فسّر موقفه علي صالح السعدي، نائب أمين سر الحزب، بقوله: “إن أسلوب عبدالكريم قاسم الدعائي، في المطالبة بالكويت، جعل القوى والأحزاب القومية، ترى في دعوته هذه، أنها مجرد ضم إقليمي، لأن الوحدة لا تتحقق إلاّ بالأسلوب الشعبي، وبالاستناد إلى الجماهير.

كما استنكرت الأحزاب والقوى القومية الأخرى، مطالبة عبدالكريم قاسم بالكويت، بكون دوافعها إقليمية وشخصية، يراد بها بعث الروح في حكمه الموشك على الانهيار. وأصدرت حركة القوميين العرب بياناً، في 10 يوليه 1961، في هذا الشأن، جاء فيه: “إن لهذه الدعوة، في جوهرها، دوافع إقليمية وشخصية، كان النضال العربي قد لفظها، منذ زمن طويل، وأن هذا الادعاء لا يمت إلى دعوة الوحدة العربية بصِلة”.

أمّا الرابطة القومية في العراق، فإنها أصدرت بياناً، أكدت فيه “إن عبدالكريم قاسم، في دعوته هذه، قد نفّذ رغبة الاستعمار الإنجليزي، وعبّر عن أمانيه وأطماعه أصدق تعبير، عند مناداته بضم الكويت، جبراً، وبالقوة، إلى العراق، حتى يمكننا أن نقول إن السفير البريطاني في بغداد، قد لقنه حتى الكلمات، التي قالها في المؤتمر الصحفي، الذي عقده في وزارة الدفاع.

وأضاف بيان الرابطة القومية، أن الآثار المترتبة على ذلك، هي:

1. عودة القوات البريطانية إلى الخليج العربي، ووقوفها في وجه تيار التحرر العربي في المنطقة.

2. تخوف جميع أمراء الخليج ومشايخه من المطالبة بالاستقلال والسيادة، ذلك لأن تخليهم عن الاستعمار، سيؤدي، في النهاية، إلى ابتلاعهم، بالقوة، من قِبل أي دولة عربية مجاورة.

3. تجديد الخلافات، وتوسيع شُقة الخلاف بين الدول العربية، نتيجة لهذه المشكلة.

4. محاولة عبدالكريم قاسم، أن يشغل، بدعوته، شعب العراق عن جرائمه في الداخل.

ثامناً: رد فعل الكويت على الادعاءات العراقية

كان لقرار عبدالكريم قاسم، وحكومته، ضم الكويت إلى العراق، رد فعل سريع في الكويت، تجلّت مظاهره في الآتي:

1. في 26 يونيه 1961، أصدرت حكومة الكويت بياناً، ردت فيه على ما ورد في المؤتمر، وأعلنت فيه استنكارها قرار عبدالكريم قاسم، وتصميمها على الدفاع عن أراضيها وكيانها، كدولة عربية مستقلة. وجاء في البيان: “أوردت بعض وكالات الأنباء، كما أذاعت محطة الإذاعة من بغداد، تقارير عن المؤتمر الصحافي، الذي عقده اللواء عبدالكريم قاسم في 25 يونيه 1961، والذي طالب فيه امارة الكويت، فإذا صحت هذه التقارير فإن حكومة الكويت تعلن أن الكويت دولة عربية مستقلة، ذات سيادة كاملة، معترف بها دولياً.

وإن حكومة الكويت، ومن ورائها شعب الكويت بأسْره، مصممة على الدفاع عن استقلال الكويت وحمايته. وإن حكومة الكويت، إذ تعلن ذلك، لواثقة تماماً، أن جميع الدول الصديقة، المحبة للسلام، ولا سيما الدول العربية الشقيقة، ستساندها في المحافظة على استقلالها”.

وقد شفعت حكومة الكويت بيانها بإعلان حالة الطوارئ، ووضعت قواتها على الحدود المتاخمة للعراق، على أثر تحرك القوات العراقية، قرب الحدود الكويتية، حيث احتشدت، مع اتخاذها استعدادات واسعة. (أُنظر وثيقة بيان الحكومة الكويتية في 26 يونيه رداً على ما ورد في المؤتمر الصحفي، الذي عقدة رئيس الوزراء العراقي، عبدالكريم قاسم في 25 يونيه 1961)

2. في الوقت نفسه، دخلت حكومة الكويت في مشاورات سرية عاجلة مع بريطانيا، لبحث الموقف الناشىء عن قرار عبدالكريم قاسم. وقد جرت هذه المشاورات بين الشيخ عبدالله السالم الصباح، والسير جون ريتشموند، ممثل بريطانيا في الكويت.

3. أكدت الحكومة الكويتية، في بيان آخر، أصدرته في 29 يونيه 1961: “أن الادعاءات العراقية، لا ترتكز على أي أساس من الصحة التاريخية. وإن دلت على شيء، فقد دلت على مغالطات في التاريخ والواقع. كما أسفرت عن مطامع إقليمية غير مشروعة.

4. وفي يوم 30 يونيه 1961، صدر بيان عن مجلس الكويت الأعلى، يشرح فيه للشعب الكويتي، أسباب طلب الكويت المعونة العسكرية من المملكة العربية السعودية وبريطانيا، جاء فيه: “إن أمير الكويت أبرق إلى الملك سعود، ملك المملكة العربية السعودية، يخبره بالتهديد العراقي بضم الكويت، وعن الغزو المتوقع من العراق، وإن الملك سعود استجاب، من الفور، وأمر بإرسال قوات عسكرية لمساعدة الكويت استناداً على اتفاقية الدفاع المشترك، التي سبق عقدها بين البلدين في يوليه 1947”.

ومضى البيـان يقـول: “إنه بالنظر إلى الموقف الذي وضعنا قاسم فيه ـ مجبرين، لا مختارين ـ فإن أمير الكويت، طلب المساعدة العسكرية من حكومة المملكة المتحدة، التي لبت الطلب، على الفور، وأرسلت قواتها لمساعدة جيش الكويت في دفاعه عن الوطن، وإن هذه القوات ستنسحب، حالما تنتهي الأزمة”.

5. يرجع سبب وصول القوات البريطانية إلى الكويت، بهذه السرعة، إلى الخطاب، الذي سلمه الشيخ عبدالله السالم الصباح إلى السير جون ريتشموند، ممثل بريطانيا في امارة الكويت، طالباً فيه معاونة الحكومة البريطانية، وإلى المشاورات العاجلة بينهما، لبحث الإجراءات، التي يجب اتخاذها لمواجهة قرار حكومة العراق، خاصة بعد إغلاق الكويت حدودها معه، والتي ترتب عليها، وصول قوات المظلات البريطانية، الموجودة في قاعدة البحرين، إلى امارة الكويت.

كما أرجأت القوات البريطانية، ووحدات الأسطول البريطاني، رحيلها عن الكويت، بعض الوقت، إذ إن قرار عبدالكريم قاسم، جاء في اللحظة عينها، التي كان فيها الأسطول البريطاني يتأهب للجلاء عن الكويت، على أثر إعلان استقلالها.

6. أصدرت الحكومة الكويتية كتاباً بعنوان: “حقيقة الأزمة بين الكويت والعراق”. أوردت فيه مجموعة من الوثائق الرسمية، الصادرة عن حكومة العراق نفسها، في أوقات مختلفة، وبعضها يحمل توقيع عبدالكريم قاسم، وأخرى تحمل توقيع وزير خارجيته، هاشم جواد. ومثال ذلك، رسالته إلى شيخ امارة الكويت، في 19 ديسمبر 1958، (أُنظر وثيقة نص رسالة وزير خارجية العراق، هاشم جواد إلى الشيخ عبدالله السالم الصباح، أمير الكويت في 29 ديسمبر 1958، يطلب فيها فتح قنصلية عراقية في الكويت) يطلب فيها فتح قنصلية عراقية في الكويت.

وكلها مراسلات تنطوي على اعتراف ضمني باستقلال امارة الكويت، إلى جانب مراسلات أخرى، تضمنت رغبة العراق في توسيع مجالات التعاون، الاقتصادي والثقافي، بين البلدَين، وبيانات مشتركة بينهما. كما أن العراق أيّد طلب الكويت الانضمام إلى عدة منظمات، دولية وعربية، استكمالاً لشخصيتها الدولية.

7. أحاط الشيخ عبدالله السالم الصباح، كذلك، الدول العربية عِلماً، بموقف عبدالكريم قاسم من استقلال الكويت. وكذلك، أُعلمت جامعة الدول العربية، والأمم المتحدة، بالتهديد العراقي.

وقد لجأت الكويت إلى ذلك، لأن المسؤولين الكويتيين وجموع الشعب، أُخذوا على حين غرة من أمرهم، عندما أعلن العراق أن استقلال الكويت مزيف، ووجدوا أنفسهم غير قادرين، وغير مستعدين، على الإطلاق، لمواجهة القوة العسكرية العراقية المتحفزة، والتهديدات العلنية الواضحة.

وفي حقيقة الأمر، أن الكويت، كانت تملك جيشاً صغيراً، يراوح قوامه بين ألفين وثلاثة آلاف جندي فقط، إضافة إلى 12 طائرة، أربعة منها عمودية. في حين كان لدى العراق جيش، قوامه أكثر من 60 ألف جندي، ومعدات وأسلحة وطائرات مقاتلة سوفيتية حديثة. وفي ظل هذه الأوضاع، أصبح هدف الكويت الرئيسي، والأساسي، هو الدفاع عن النفس، أمام التهديدات العراقية

السياسة الامريكية في الخليج العربي (امارة الكويت)

المبحث الأول

سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الخليج العربي

أولاً: “مبدأ نيكسون”

حتى بداية السبعينيات، لم يكن للولايات المتحدة الأمريكية سياسة خارجية متكاملة، في ما يتعلق بمنطقة الخليج العربي. ودفع رحيل البريطانيين، عام 1971، الرئيس الأمريكي، ريتشارد نيكسون Richard Milhous Nixon ـ (1969 ـ 1974)، وهنري كيسنجر Henry Alfred Kissinger، وزير الخارجية، إلى الاهتمام المباشر، والشامل، بمنطقة الخليج. إلاّ أن واشنطن لم تتوصل، سريعاً، إلى سياسة موحَّدة، متكاملة، إلاّ بعد حظر النفط العربي، في حرب أكتوبر 1973.

وكان أول تصريح رسمي، في صدد الخطط الأمريكية لمرحلة ما بعد فيتنام، ما أعلنه الرئيس نيكسون، في جزيرة جوام Guam ، في المحيط الهادي، في يوليه 1969، حول عزم بلاده على اتّباع سياسة جديدة، ترتكز على دعم الأنظمة المؤيدة للولايات المتحدة الأمريكية، لتأخذ على عاتقها دوراً رئيسياً في قمع المتمردين، وتخفيف العبء عن واشنطن، أي المشاركة الإقليمية، والحدّ من الدور الأمريكي المباشر.

وهو ما يتطلب تزويد الدول الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية، درعاً واقية، وتقديم المساعدات، العسكرية والاقتصادية، المطلوبة. كما ذكر نيكسون أن بلاده، لن تقدر، بل هي غير راغبة في تقديم الرجال والمال والسلاح، للحفاظ على الوضع القائم في العالم. وذكَّر الآخرين بمسؤولياتهم، الدولية والإقليمية.

مما يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية، لن تستمر في دور الشرطي العالمي، لأنه أدى إلى تخبطها في أزمات، اقتصادية وسياسية وأخلاقية.

وكان الدور الجديد الذي رسمه نيكسون ـ كيسنجر للولايات المتحدة الأمريكية، يرتكز على ابتعادها عن التدخل المباشر، من دون أن يؤدي ذلك إلى تغيّر إستراتيجيتها، المرتكزة على ضمان تفوق واشنطن وحماية مصالحها الاقتصادية. وهو يفترض دعمها، عسكرياً واقتصادياً، للأنظمة الحليفة، لكي تتمكن من القيام بدور الحامي لمصالحها.

وكانت ترجمة هذه السياسة، التي سميت “مبدأ نيكسون” (Nixon Doctrine)، في الخليج العربي، إعطاء إيران الدور العسكري الأساسي للحفاظ على الأمن، أي أداء الدور، الذي كانت تؤديه بريطانيا. وفي ضوء ذلك، سُلِّمت الجُزُر، الواقعة في مدخل الخليج العربي، والتابعة لإمارتَي رأس الخيمة والشارقة (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى) إلى إيران، لحماية مضيق هرمز، وتحقيق طموحات الشاه التوسعية.

وأعلن الرئيس ريتشارد نيكسون مبدأه، في خطابه أمام الكونجرس، في 18 فبراير 1970. وبطبيعة الحال، فإن ذلك المبدأ، لم يقتصر على منطقة الخليج، وإنما احتوى على العناصر الرئيسية في السياسة الأمريكية، القائمة على أن الولايات المتحدة الأمريكية، لن تستطيع تحمل مسؤولية الدفاع عن كل الشعوب الحرة في العالم، وإنما ستكتفي بتقديم المساعدات لها، ولن يكون تدخّلها، إلاّ إذا دعت الضرورة القصوى إلى ذلك

وهكذا حل مبدأ نيكسون محل “مبدأ أيزنهاور Eisenhower Doctrine” ، المتعلق بالشرق الأوسط، والمُعلن في 5 يناير 1957، والقائم على استعداد الولايات المتحدة الأمريكية للتدخل المباشر، بطلب من دول المنطقة.

ومع ذلك، يُلاحظ أن مبدأ نيكسون، لم يتعرض لتقليص الوجود البحري الأمريكي، الذي استمر قائماً، في القواعد العسكرية، في المحيط الهندي والخليج العربي. ومن ثَم، يَعُدّه كثير من الباحثين “مبدأ مياه زرقاء”(Blue Water Doctrine)، من الناحية العسكرية. وتأكد ذلك، حين صحب إعلان ذلك المبدأ تحوّل واضح في أولويات الدفاع الأمريكية، من القوات البرية إلى القوات الجوية والبحرية.

وعلى الرغم من أن الرئيس ريتشارد نيكسون، لم يحدد، صراحة، الدول أو الدولة، التي ستعتمد عليها الولايات المتحدة الأمريكية في حماية مصالحها الحيوية، في الخليج، إذ اكتفى بالقول: “إن أمن الخليج يقوم، أساساً، على مسؤولية دوله، وإن الولايات المتحدة الأمريكية، ستقتصر على منح أو بيع السلاح اللازم لتلك الدول، وإمدادها بالخبرات الفنية والتدريب اللازم؛ ولن تتدخل، إلاّ في حالة حدوث خطر أو هجوم، يكون أكبر من طاقة تلك الدول على مواجهته”،إلاّ أنه كان من الواضح أن واشنطن، كانت ترى إمكانية اشتراك كلٍّ من المملكة العربية السعودية وإيران، في الحفاظ على الأمن والاستقرار، في منطقة الخليج، ومن ثَمّ، تلجأ هاتان الدولتان إليها، من أجل الدعم والسلاح.

غير أن الولايات المتحدة الأمريكية، لم تلبث أن ركّزت اعتمادها على إيران، التي بدت أنها الأقوى في الهيمنة، السياسية والعسكرية، خاصة بعد التفوق، الذي أحرزته البحرية الإيرانية، التي استطاعت الحصول على مدمرات وطرادات وفرقاطات حربية وقوة جوية، في الوقت الذي لم يكن لدى المملكة العربية السعودية كاسحة ألغام واحدة.

ناهيك أن المملكة العربية السعودية، كانت موضع شك من قِبل السياسة الأمريكية، في أن تبادر إلى تحويل الأسلحة والمعدات، التي تُقدّم إليها، إلى الدول العربية المواجِهة لإسرائيل. لذلك، اختارت الولايات المتحدة الأمريكية إيران، التي كان موقعها على الحدود الجنوبية للاتحاد السوفيتي، يعطي المبرر الكافي لتسليحها، على أساس أنها مهددة تهديداً مستمراً، فضلاً عن الصفاء بينها وبين إسرائيل، فلن تجد الولايات المتحدة الأمريكية معارضة من جماعات الضغط الصهيونية في تسليحها.

ولتلك الأسباب جميعها، اتجهت السياسة الأمريكية نحو طهران. واستغلت طموح الشاه إلى الهيمنة، السياسية والعسكرية، على الخليج، إذ طالما كرر، في تصريحاته، أن قواته أصبحت تفوق قوة بريطانيا، التي كانت في الخليج، أضعاف المرات. وهكذا، بدأ شاه إيران، على نحو ما ذكره أحد الباحثين، يتحول من وضعيته، كإمبراطور، إلى وكيل، بل شرطي، لخدمة المصالح الأمريكية في المنطقة.

إلى جانب التفوق العسكري، الذي أحرزته إيران في منطقة الخليج، فإنها كانت، في الوقت نفسه، حريصة على تحقيق تفوّق، سياسي واقتصادي وبشري، في المنطقة. وعلى الرغم من تنازلها عن مطالبها في البحرين، إلاّ أنه كان هناك وسائل أخرى، لتأكيد تفوّقها في الخليج، أفضل من الإلحاح في المطالبة بأراضي الغير. ومن تلك الوسائل تشجيعها الهجرة الإيرانية إلى الكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين، وكلها تعاني عجزاً واضحاً في العمالة.

وإضافة إلى ما أسهمت به إيران في تغيير نمط التركيبة الديموجرافية، في كثير من كيانات دول الخليج، فقد وضح تفوّقها الاقتصادي في المنطقة، كما تمكنت، بعد سيطرتها على جزر الخليج الثلاث، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، من التحكم في مضيق هرمز.

وظهر تفوّقها السياسي واضحاً، حين استجاب كل رؤساء الخليج وحكامه الدعوة لحضور المهرجانات الصاخبة، التي أقامها الشاه محمد رضا بهلوي، في 14 أكتوبر 1971، في مناسبة مرور ألفين وخمسمائة عام على قيام الحكم الإمبراطوري في إيران، إذ أقام احتفالا ضخماً بين أطلال مدينة برسيبوليس القديمة Persepolis ، عاصمة الأخمينيين. وفيها توّج نفسه شاهنشاه إيران وإمبراطورها.

وقد تركت تلك الاحتفالات أعمق الأثر في حكام الخليج، حتى إن الشيخ راشد بن سعيد المكتوم، حاكم دبي، آنذاك، لم يخفِ إيمانه بضرورة التطلع إلى طهران، لكونها مركز القوة الحقيقية في المنطقة.

ومن الطبيعي أن يجد طموح الشاه ترحيباً كافياً، من الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت تدرك أهمية إيران، كقوة إقليمية، في تنفيذ سياستها. وأصبح من الواضح، أن الشاه هو المرشح الأوفر حظاً للاضطلاع بمهمة تأمين المصالح الأمريكية، خاصة أن المملكة العربية السعودية، بمواردها البشرية المحدودة، كانت لا تستطيع الاضطلاع بتلك المهمة، بينما العراق لا يزال يسعى من أجل استقراره الداخلي، تشغله باستمرار مشاكله مع الأكراد، في الشمال، وصراعه المزمن مع إيران، حول حقوق السيادة على شط العرب

ناهيك بادّعائه مواصلة الصراع مع إسرائيل، والأهم من ذلك كله صداقته وتعاونه الواضح مع الاتحاد السوفيتي، فضلاً عن توجهاته الأيديولوجية البعثية، المغايرة، بطبيعة الحال، للسياسة الأمريكية. أمّا بالنسبة إلى مصر، فإنه على الرغم من طرد الرئيس محمد أنور السادات الخبراء السوفيت، في 18 يوليه 1972، وتلويحه بالصداقة الأمريكية، فإنه كان مشغولاً بالإعداد للحرب، من أجل استعادة سيناء.

واستطراداً، لم يكن مؤهلاً، بين دول المنطقة، للاضطلاع بمهمة إقرار الأمن والوكالة عن الولايات المتحدة الأمريكية في حماية مصالحها، سوى إيران، بحكم ما تمتلكه من طاقات بشرية وإمكانات، تؤهلها لأداء ذلك الدور.

كان منطقياً، إذاً، أن يقع اختيار الولايات المتحدة الأمريكية على إيران، لممارسة دور الشرطي الإقليمي. إذ إنه إلى جانب المعايير الموضوعية السابقة، كان الشاه حليفاً موثوقاً به، كما كان صديقاً شخصياً للرئيس نيكسون، والأهم من ذلك، أن بلاده تشكل حلقة أساسية في حلقات الحرب الباردة، بين المعسكرَين الكبيرَين.

وقد بدأت الاتصالات الأمريكية مع إيران، تتخذ شكلاً عملياً، خلال زيارة الرئيس، ريتشارد نيكسون، ووزير خارجيته، هنري كيسنجر، إلى طهران، وهما في طريق العودة من موسكو، بعد اجتماعهما مع ليونيد بريجينيف Leonid Llich Brezhnev، في 26 مايو 1972[2].

وخلال المباحثات الأمريكية ـ الإيرانية، أكّد الشاه أن السوفيت لا يزالون مستمرين في محاولاتهم الوصول إلى المياه الدافئة في الخليج، كما أنهم يطمعون في نفط إيران. وأبدى استعداده للاضطلاع بحماية المنطقة، وحماية المصالح الأمريكية فيها، شريطة أن يكون شريكاً، وليس تابعاً، مُظهراً استياءه وضِيقه الشديدَيْن من بعض أشكال التدخل الأمريكي في شؤون بلاده، منذ الانقلاب المضاد، في أغسطس 1953، الذي أطاح حكومة الجبهة الوطنية

التي كان يتزعمها الدكتور محمد مصدق، والتي عمدت إلى تأميم النفط الإيراني. ولذلك، طلب الشاه من الرئيس الأمريكي، أن تسحب وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ( CIA) كل الرسميين، الذين عُيِّنوا خبراء ومستشارين، في الوزارات والجيش الإيراني، بعد عام 1953. كما طلب أن يكون كل الاتصالات، في المستقبل، بين طهران وواشنطن، من خلال قناة مباشرة، تصل بين مجلس الأمن القومي الأمريكي والشاه، في قصره، في نيافاران (Niavaran).

وعلى الرغم من أن الرئيس نيكسون استجاب لمطالب الشاه، إلاّ أن تلك الاستجابة، أدّت، فيما بعد، إلى نتائج عكسية. إذ إنه في خلال الشهور الأخيرة لنظام الشاه، لم يكن في مقدور وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، أن تحصل على المعلومات الكافية، التي كانت في حاجة إليها، والتي يمكنها أن تتيح لواشنطن التوصل إلى تصور دقيق لما كان يحدث في إيران، وربما ساعدتها على إنقاذ عرش الشاه.

وعلى أي الأحوال، فقد استغلّت الولايات المتحدة الأمريكية طموح الشاه، وتفوّق بلاده، البشري والعسكري، لكي يملأ الفراغ، الناجم عن الانسحاب البريطاني من الخليج، إذ إلى جانب المعايير الأمنية الإقليمية، كانت تعمل على دعم إيران، لمنع بروز العراق، كقوة مهيمنة على المنطقة. وقد قبِل الشاه أداء تلك المهمة، لأنها تنسجم مع طموحاته، من جهة، وتدر عليه الأموال، من جهة أخرى، لتمويل ثورته البيضاء، التي كان قد أعلنها في الوقت، الذي لم تكن فيه موارده النفطية، قد وصلت إلى حدّ، يمكنه من التغلب على ما يترتب على تلك الثورة، من متاعب اقتصادية.

وقد بدأ النشاط الإيراني العسكري يظهر واضحاً، في الخليج، على أثر استيلاء إيران على جزر الخليج الثلاث (طُنب الصغرى، طُنب الكبرى، وأبو موسى)، في نوفمبر 1971، بإيعاز أمريكي وتواطؤ بريطاني. كما مضى الشاه يعمل على توثيق علاقته بالولايات المتحدة الأمريكية، مما أثار حفيظة العراق، الذي كان يَعُدّ الخليج مجالاً لنفوذه، فبدأ سباق التسلح بين العراق وإيران. وفي حين اعتمدت طهران على واشنطن، اعتمدت بغداد على موسكو، خاصة بعد توقيعهما معاهدة الصداقة والتعاون، في 9 أبريل 1972. ومن ثَم، أخذت الحرب الباردة تشق طريقها إلى الخليج.

ولعله من المفيد الإشارة إلى أن التفاهم بين الشاه والرئيس نيكسون، أسفر عن اشتراك القوات الإيرانية في تنفيذ مهمة شاقة، هي قمع الحركة اليسارية في إقليم ظُفار، التابع لسلطنة عُمان، في نهاية عام 1973.

وكانت هذا الحركة قد استعرت، قبل عدة سنوات، وتلقت تأييداً ودعماً من الاتحاد السوفيتي، وبعض الأنظمة اليسارية الأخرى، من خلال جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية. وعندما استولى السلطان قابوس بن سعيد على السلطة في عُمان، في 23 يوليه 1970، بدأ هجماته على الثوار، في يناير 1972، بعد أن دعم قواته المسلحة بضباط وطيارين بريطانيين وباكستانيين وأردنيين.

وما لبثت كفته أن رجحت، على أثر مشاركة القوات الإيرانية، التي تجاوز عددها عشرة آلاف مقاتل، في قمع تلك الحركة. ولم ينكر الشاه، وقتئذٍ، وجود قواته في ظُفار، واشتراكها في القتال، تأييداً لحكم السلطان، بل كان يسعده أن يدرك العالم، أنه قد أصبح يؤدي المهمة الموكولة إليه، على خير وجه.

وأعلن أن إيران صارت حامية للمصالح الدولية في المنطقة، وفي مقدمتها نفط الخليج. وكان واضحاً أن دور الشاه في قمع الحركة اليسارية في ظفار، إنما ينبع من حرصه على مضيق هرمز، وعدم هيمنة أي أنظمة معادية عليه، من جهة، ومن ثَمّ، حماية الأنظمة المعتدلة، والمصالح الغربية، من جهة أخرى.

بوادر الأزمة العراقية ـ الكويتية وتطورها (1988 ـ 1990)

التمهيد العراقي للأزمة مع الكويت

أولاً: إحياء الإعلان القومي العراقي

كان تولّي الرئيس صدام حسين مقاليد الحكم في العراق، في رأي كافة المراقبين السياسيين، والمهتمين بشؤون الخليج ـ إيذاناً بمرحلة جديدة في المواقف العراقية، تجاه امارة الكويت بخاصة، والعلاقات العراقية ـ الخليجية بعامة. نمّت بذلك تصريحاته المتزنة، أثناء زيارته طهران، وهو لمّا يزل نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة، في مايو 1975، حين سُئل عن موقف العراق من قضية الحدود مع الكويت، فأجاب: “إن العراق، قرّر التنازل عن قراره السابق، برفض ترسيم الحدود مع الكويت. وأصبح قراره، الآن، يتبنّى منطقاً قومياً، يقضي بإنهاء هذه المشكلة، على أساس لا غالب، ولا مغلوب…

ويتضح من هذا التصريح حرص صدام حسين على حُسن الجوار، وإدراكه للقضايا القومية، التي تخدم البلدَين. ودأب على موقفه، بعد أن أصبح الرجل الأول في العراق، واستطاع أن يُنحِّي الرئيس أحمد حسن البكر، وتولى السلطة، في 16 يوليه 1979.

ثم صدرت عنه خُطب وأقوال وأحاديث صحفية، عقب توليه الرئاسة مباشرة، وهي كلها ضد الظلم والبغي. فيعلن في احتفالات الثورة، في 17 يوليه 1979، في خطاب جماهيري، نقلته جميع وكالات الأنباء: “إن واجبنا هو إحقاق الحق، ومعاداة الظلم. سأناضل لأكون راية بين الرايات، وليس الراية الوحيدة، وقائداً بين القادة، وليس القائد الأوحد…”

كان لهذه التصريحات الرسمية أثر طيب في علاقات العراق بدول الخليج، أدت إلى مساندتها إياه، أثناء حربه ضد إيران؛ وذلك من طريق تقديم مساعدات مالية، تجاوزت 38 مليار دولار. قدمت منها المملكة العربية السعودية 26 ملياراً من الدولارات. بينما قدمت امارة الكويت12 ملياراً، ومبالغ أخرى، راوحت بين المليارين والخمسة مليارات، من كلٍّ من قطَر ودولة الإمارات العربية المتحدة، إلى جانب التسهيلات، البرية والجوية والنفطية، التي شملت خدمات الطرق والموانئ والقروض النفطية

لقد استجاب قادة دول الخليج لصدام حسين، إلى أبعد مدى. فتبيّن أثر تصريحاته المتزنة، كإعلانه احترام الجوار، وسيادة كل دولة على أراضيها. وخطا خطوات أخرى على طريق تحسين علاقاته بجيرانه. وحرص، في كل مناسبة، أن يدلي بأقوال، تزيل الشك، وتبدد القلق لدى الآخرين.

ولم يكتفِ الرئيس العراقي بالخطب أو الأحاديث الصحفية؛ وإنما اتخذ خطوات عملية، نحو توثيق العلاقات العراقية ـ العربية. فأعلن، في 8 فبراير 1980، في اجتماع جماهيري، ما أطلق عليه “الإعلان القومي”، الذي عدَّه ميثاقاً قومياً، يلتزم العراق بنقاطه، ويجعله دستوراً لمعاملاته، العربية والدولية

. وضمّنه من المبادئ، ما يجعله صالحاً ليكون أساساً لعلاقات تضامن حقيقي. وصرّح، لدى إعلانه هذا الميثاق بقوله: “إن هذا الإعلان القومي، يشكل أساساً صالحاً لإِقامة تضامن حقيقي، ولحل المشكلات مع بعض “الجيران”، وينظمها على أُسُس المصالح المشتركة، مع احترام “الجيرة”.

وفي 28 مايو 1990، وفي مناسبة انعقاد القِمة العربية الاستثنائية، في بغداد، أعادت الجرائد العراقية نشر الإعلان القومي (الميثاق)، في أعدادها الصادرة صبيحة انعقاد القِمة.

وتتلخّص نقاط الإعلان في ما يلي: (أنظر وثيقة نص الإعلان القومي العراقي الذي أعلنه الرئيس صدام حسين، في مهرجان شعبي في 8 فبراير 1980، كميثاق للتعامل بين الأنظمة العربية)

1. رفض وجود الجيوش الأجنبية في الوطن العربي، ومنحها القواعد والتسهيلات.

2. تحريم اللجوء إلى القوة، في المنازعات بين الدول العربية.

3. تضامن الأقطار العربية كلها ضد أي طرف، يعتدي على أحدها أو يتدخّل في شؤونه.

4. التزام العرب بالأعراف والقوانين الدولية، بالنسبة إلى استخدام المياه والأجواء والأقاليم، من قِبل دولة، أي دولة، ليست في حالة حرب ضد أي قطر عربي.

5. استعداد العراق للالتزام بهذه المبادئ، تجاه أي قطر عربي، أو أي طرف يلتزم به، وهو مستعدّ لمناقشته.

ثانياً: توطيد العلاقات العراقية ـ السعودية

في عام 1989، أراد الرئيس صدام حسين، أن يعد نفسه للخطوات القادمة، التي كان يخطط لها، فتقرّب إلى المملكة العربية السعودية. وكذلك إلى امارة الكويت. وعمل على توطيد العلاقات بهما.

ففي أوائل عام 1989، زار المملكة العربية السعودية، حيث عَرَض على الملك فهد بن عبدالعزيز، مشروع اتفاقية، في شأن عدم الاعتداء بين البلدَين. وأبدى الملك فهد ما مفاده، أنه فوجئ بمشروع هذه الاتفاقية، وسأله، بصراحة: “هل توقيع مثل هذه الاتفاقية ضروري؟”.

ورد الرئيس العراقي بما فحواه: “إن توقيع هذه الاتفاقية، إنْ لم يكن ضرورياً، فقد يكون ملائماً؛ لأن أطرافاً كثيرة، تسعى، بالدس والوقيعة، وتحاول أن تصور العراق، الخارج من الحرب ضد إيران منتصراً، على أنه يضمر نيات عدائية لإخوانه وأشقائه”.

وقال الملك فهد، إنه “على استعداد لتوقيع الاتفاقية، وإنْ كان يشعر أن العلاقات، التي يربطها الدم، هي أقوى من تلك التي توقَّع بالحبر”. وانتهت الزيارة، بعد أن وجَّه صدام حسين الدعوة إلى خادم الحرمَين الشريفَين، لزيارة العراق.

وفي الساعة 12 من ظهر يوم السبت، 18 شعبان 1409 هـ، الموافق 25 مارس 1989م، غادر خادم الحرمَين الشريفَين، مطار الملك خالد الدولي، في الرياض، متوجهاً إلى بغداد، تلبية لهذه الدعوة.

وواصل العراق، قيادة وإعلاماً، إشادته بهذه العلاقات. وتقديراً من الرئيس العراقي، لخادم الحرمَين الشريفَين، في مجال دعم العراق في حربها ضد إيران، أصدر المرسوم الجمهوري العراقي الرقم 166، في مساء 25 مارس 1989، الذي يقضي بمنح الملك أعلى وسام عراقي، وهو وسام الرافدَين، من الدرجة الأولى، ومن النوع المدني.

(أُنظر وثيقة مرسوم جمهوري صادر عن الرئيس العراقي، صدام حسين، بمنح خادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبدالعزيز، وسام الرافدين من الدرجة الأولى، ومن النوع المدني، في 25 مارس 1989)

كما قلّد خادم الحرمَين الشريفَين، الرئيس العراقي، قلادة الملك عبدالعزيز، عقب حفلة العشاء، التي أقامها صدام حسين تكريماً لضيفه. (أُنظر صورة الرئيس صدام، والملك فهد) و(صورة الملك فهد، والرئيس صدام)

وظُهر يوم 27 مارس 1989م، الموافق 20 شعبان 1409هـ، وقبل مغادرة العاهل السعودي بغداد، متوجهاً إلى القاهرة، وقّع القائدان، في قصر “صقر القادسية”، في بغداد، اتفاقيتَين:

الأولى: عدم التدخل في الشؤون الداخلية، ورفض استخدام القوة بين المملكة العربية السعودية والعراق. (أُنظر وثيقة نص اتفاقية عدم التدخل في الشؤون الداخلية، وعدم استخدام القوة بين المملكة العربية السعودية والجمهورية العراقية الموقعة في بغداد، في20 شعبان 1409هـ، الموافق 27 مارس 1989م)

والثانية: التعاون الأمني بين البلدين.

وعقب توقيع الاتفاقيتَين، قال الرئيس صدام حسين.

“ورغم أن هاتَين الوثيقتَين، لا تأتيان بجديد على جوهر التعامل الأخوي، القائم فعلاً بين العراق والمملكة العربية السعودية. إلاّ أنهما يضعان في هذا الميدان، الذي حدث فيه تأكيد المبادئ والتعاون، يضعان هذا المسار وذلك التعاون في إطار موثق، لتؤشِر هاتان الوثيقتان إلى الأجيال القادمة مستوى العلاقة ونوعها بين المملكة العربية السعودية والعراق”. واستطرد قائلاً: “والوثيقتان تنطويان على مبادئ وأُسُس لمفهوم عدم التدخل في الشؤون الداخلية بين البلدين الشقيقين.

كما تنطويان على مبادئ وأُسُس وتفسير لمعنى عدم استخدام القوة والجيوش بين الدولتَين، على الإطلاق”. وأضاف: “وعلى الرغم من أن هذا لم يحصل في تاريخهما، إلاّ أن تأكيد هذه المبادئ له معنى، في إطار المفهوم القومي، والمفاهيم الإسلامية ومبادئها، التي تجمع بين الشعبَين الشقيقَين”. وأضاف الرئيس صدام: “أملنا بالله كبير، أن تمتد هذه الروح من التعاون، لتشمل العرب جميعاً، والمسلمين كافة، بل الإنسانية جمعاء”.

وبعد أن أكمل الرئيس صدام حسين إلقاء كلمته، ارتجل خادم الحرمَين الشريفَين كلمة، شكر فيها للرئيس صدام ما جاء في خطابه. وأضاف قائلاً: “إن الاتفاقيتَين، هي مبادئ تنطلق من روح أخوية. ومن المؤكد أنهما سوف تكونان فاتحة خير، ودليلاً على حُسن النيات بين الأمة العربية والأمة الإسلامية، وبين جميع دول العالم؛ لما فيهما من فوائد. فلنترك الأمر لكي يوضحه من كلف بذلك، وبطريقة تحتاج إلى شيء من التفصيل”.

واستطرد قائلاً: “إن الوثيقتَين، ليستا سِريتَين، وليس لهما أي خلفية، إلاّ محاولة المصلحة العامة، وما قدره هذان البلدان الشقيقان من فوائد، تكون لمصلحة البلدَين والأمتَين، العربية والإسلامية”. (أُنظر وثيقة نص كلمة خادم الحرمَين الشريفَين التي ألقاها بعد توقيع الاتفاقية بين المملكة العربية السعودية والعراق في 27 مارس 1989)

وبعد أن وُقِّعت الاتفاقيتان، غادر خادم الحرمَين الشريفَين، بغداد، متوجهاً إلى القاهرة. وقد بعث جلالته ببرقية إلى الرئيس العراقي، صدام حسين، شكر له فيها وللشعب العراقي الحفاوة البالغة التي قوبل بها، والتي تعكس أصالة الشعب العراقي. (أُنظر وثيقة نص برقية خادم الحرمَين الشريفَين، الملك فهد بن عبدالعزيز إلى الرئيس العراقي، صدام حسين في 27 مارس 1989 عقب مغادرة جلالته بغداد)

وفي 29 مارس 1989، أعرب الرئيس العراقي عن تقديره لخادم الحرمَين الشريفَين، لما يقدِّمه على صعيد العمل الإسلامي، من إنجازات، تتسم بالاهتمام والمتابعة والرعاية، ولا سيما مشروعات توسعة الحرمَين الشريفَين، في مكة المكرّمة والمدينة المنوّرة.

واقتدى المسؤولون العراقيون، على اختلاف مستوياتهم، بالرئيس صدام حسين. فأسهبوا في الإشادة، ومدح دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، لوقوفها مع العراق، حتى الثاني من أغسطس 1990.

وقد علّق الرئيس المصري، حسني مبارك، على هاتَين الاتفاقيتَين، في خطاب له، في الاجتماع المشترك لمجلسَي الشعب والشورى، عُقد يوم الخميس، 24 يناير 1991، قائلاً: “وقد كان صدام حسين على أحسن العلاقات مع المملكة العربية السعودية. بل إنه طلب، فجأة، من خادم الحرمَين الشريفَين، الملك فهد بن عبدالعزيز، في إحدى زياراته للعراق، توقيع معاهدة عدم اعتداء بين البلدَين”.

واستطرد قائلاً: “أنا ذهلت لما سمعتها. وسألت الملك فهد: إيه الحكاية؟ قال لي: ده فاجأني بها. فاستغربت. وتساءل الملك فهد، حينئذ، عن الدواعي لعقد هذه المعاهدة، خاصة أن اتفاق الدفاع المشترك بين الدول العربية، يفي بالغرض. أما أن كل واحد، يعمل اتفاق عدم اعتداء، بيننا وبين بعض.

ده إحنا قاعدين مخونين بعض. كلنا يعني في الحالة دي، لازم أمضي اتفاقية عدم اعتداء مع كل اللي حواليه كلهم، وفيه عدم ثقة، إذاً، أو فيه شيء بيدبّر. ومع ذلك فقد استجاب له ووقع المعاهدة، وهو في غاية الاستغراب”. وتابع الرئيس مبارك قائلاً: “وأثبتت الأحداث، بعد ذلك، أنه كان يسعى إلى خداع العاهل السعودي، في الوقت الذي يضمر فيه العدوان على الكويت”.

وقبل الغزو العراقي ل امارة الكويت، بأربعة أشهر، وبالتحديد في 17 مارس 1990، زار الرئيس العراقي، لساعات، منطقة حفر الباطن، في المملكة العربية السعودية، حيث قابل الملك فهداً، أثناء رحلة صيد في المنطقة. واستعرضا موضوع زيادة الكويت حصتها المقررة من النفط، طبقاً لقرارات “الأوبك”، مما يؤدي إلى خفض أسعار النفط، واستطراداً، يؤثر في اقتصاد العراق، في وقت يتعرض فيه لضغوط من كل جانب.

ووعده الملك فهد بتدخله لدى أمير الكويت، لإقناعه بالالتزام بحصة “الأوبك” المقررة. ثم تطرق الرئيس صدام حسين إلى الموقف الأمريكي من العراق، وأبدى أن الولايات المتحدة الأمريكية، تضمر شراً للعراق. وعلّق الملك على ذلك بقوله، إنه يعرف الرئيس بوش شخصياً، المزهو، الآن، بانتصار الولايات المتحدة الأمريكية، في معركتها، العقائدية والإستراتيجية، ضد الاتحاد السوفيتي المنهار. وهو في هذا الوضع، سيكون آخر من يرغب في تحويل الأنظار عن انتصاره في أوروبا، إلى جهة أخرى، في الشرق الأوسط.

ثالثاً: توطيد العلاقات العراقية ـ الكويتية

في الساعة الثامنة والنصف، من صباح السبت، 23 سبتمبر 1989، غادر مطار الكويت الدولي الشيخ جابر الأحمد الصباح، متجهاً إلى بغداد، في زيارة رسمية إلى الجمهورية العراقية، تلبية لدعوة من الرئيس العراقي. وجرى لأمير الكويت استقبال رسمي كبير، وكان الرئيس صدام حسين على رأس المستقبلين، معانقاً، ومرحباً، ومهنئاً بسلامة الوصول.

ووصف الرئيس العراقي أمير امارة الكويت، بأنه رجل شجاع، قومي، مؤمِن بعروبته ودينه. كما وصف شعب الكويت، بأنه شعب عربي أصيل. وقال إن العراق يعتز بموقف الكويت. وحدد طبيعة العلاقة، التي تربط بين شعبَي الكويت والعراق، بقوله: “إننا إخوة، وكأننا عائلة واحدة، ولكن بدولتَين مستقلتَين”.

وأعرب طه ياسين رمضان عن ترحيب العراق، رئيساً وحكومة وشعباً، بزيارة أمير الكويت، مشيداً بمواقف الكويت القومية المسؤولة، وبالعلاقات الأخوية المصيرية، التي تربط بين البلدَين الشقيقَين.

وقبل بدء زيارة الشيخ جابر إلى العراق، حفلت الجرائد العراقية بمقالات الترحيب بالأمير، والإشادة بالمواقف الكويتية القومية. وقد قالت جريدة “القادسية”، في مقال افتتاحي لها: “إن بغداد، ستبقى مناراً، ومزاراً لأشقائها. يجدون عندها الحُب ومشاعر الانتماء الأصيل إلى الأمة العربية والوطن الكبير”. وفي مقال افتتاحي آخر، وصفت الجريدة عينها زيارة أمير امارة الكويت إلى العراق، بأنها زيارة الشعب العربي الكويتي شقيقه الشعب العربي العراقي.

كما رحبت جريدة “الثورة” العراقية بزيارة الأمير إلى العراق، مؤكدة أن هذه الزيارة، ستسهم في تعزيز العلاقات الأخوية المتينة وتطويرها، بين العراق والكويت، في مختلف المجالات، بما يخدم مصلحة البلدَين والشعبَين، ويعزّز السلم والأمن والاستقرار، في المنطقة عموماً.

ودأب العراق، في غير مناسبة، على تأكيد أن مصلحة الكويت وأمنها يُعَدّان من صميم مصلحة العراق وأمنه. وأن السنوات الثماني، خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية، برهنت على صلابة العلاقات الوطيدة، القائمة بين العراق والكويت.

وفي المساء، عقدت جولة المباحثات الأولى، بين الشيخ جابر الأحمد الصباح والرئيس صدام حسين. وتركزت المباحثات في العلاقات الثنائية بين البلدَين الشقيقَين، في مختلف مجالاتها، والأوضاع العربية الراهنة، على مختلف الصُّعُد، خاصة تطورات الأوضاع في لبنان، والقضية الفلسطينية، ودعم الانتفاضة الفلسطينية، والأوضاع في الخليج.

وبعد انتهاء جلسة المباحثات الأولى، أقام الرئيس صدام حسين مأدبة عشاء، تكريماً لأمير الكويت. وتبادل الزعيمان العربيان، خلال الحفلة، الأوسمة؛ فقلّد الرئيس العراقي أمير دولة الكويت وسام الرافدَين، من الدرجة الأولى، ومن النوع المدني، بعد أن تلا رئيس ديوان رئاسة الجمهورية، المرسوم الجمهوري، الذي صدر في هذا الشأن.

(أُنظر وثيقة مرسوم جمهوري صادر عن الرئيس العراقي، صدام حسين بمنح الشيخ جابر الأحمد الصباح، أمير الكويت وسام الرافدين، من الدرجة الأولى، ومن النوع المدني في 23 سبتمبر 1989) ثم قلّد أمير الكويت الرئيس العراقي قلادة مبارك الكبير، وهي من أرفع القلادات. (أُنظر صورة أمير الكويت، وصدام حسين)

وفي اليوم التالي، 24 سبتمبر 1989، عقد أمير الكويت جولة المباحثات الثانية مع الرئيس العراقي. وكانت استكمالاً لجلسة المباحثات الرسمية الأولى. وقد تناولت المباحثات تطوير العلاقات بين البلدَين في الميادين كافة، إضافة إلى استعراض التطورات الراهنة، على الساحة العربية.

وفي نهاية الزيارة، وفي صباح 25 سبتمبر 1989، زار الرئيس صدام حسين الشيخ جابر الأحمد، في مقرِّ إقامته، وقدَّم إليه هدية تذكارية، هي قطعتا سلاح من إنتاج هيئة التصنيع العسكري العراقية. ثم اصطحبه إلى المطار، حيث جرى توديع أمير الكويت، رسمياً.

ويتضح مما سبق، أنه كان تمهيداً لِما يضمره صدام نحو الكويت، كي يفاجئ الجميع بافتعاله الأزمة معها، فتبدل الثناء هجاءً، وتحولت البطولة خيانةً، في أقلّ من عام واحد.

في ذلك الوقت، كان سعر النفط آخذاً في الارتفاع، بعد أن وصل إلى أدنى حدٍّ له، في أكتوبر 1988، فارتفع، في نهاية العام نفسه، إلى 14 دولاراً/برميل الواحد. واطّرد ارتفاعه، خلال عامَي 1988 و1989، حين بلغ 18.84 دولاراً/ برميل، وازداد اطّراده حتى يناير 1990، حينما وصل سعر البرميل 19.98 دولار/ برميل. وتوقف تصاعد السعر، بعدما بدأت الكويت والإمارات تزيدان الإنتاج، مما سبب تدنّيه، فبلغ 14.02 دولار/ برميل، حتى يونيه 1990، أي بانخفاض 30% عن سعر “الإشارة”، مما سبب نقصاً لدخل النفط في عدد من البلدان.

لقد عَدَّ الرئيس صدام حسين، مبادرة امارة الكويت إلى زيادة إنتاجها النفطي، استفزازية، بل خيانة. وهي أدت إلى انخفاض أسعار النفط العالمي، وإلى خسارة العراق، الذي يعتمد في 90% من وارداته على النفط، لحوالي 7 مليارات دولار، سنوياً، أي ما يوازي فوائد الديون السنوية، التي ينبغي له دفعها. لقد أصبح العراق، إذاً، مهدداً بالاختناق الفعلي.

رابعاً: مجلس التعاون العربي

1. فكرة إنشاء مجلس التعاون العربي، والتمهيد لها

ظهرت فكرة إنشاء مجلس التعاون العربي، أول مرة، في عمّان، وبدأت مناقشتها في صيف 1988. ثم انتقلت إلى بغداد، التي وجدتها ملائمة لها، بعد أن رُفِضَتْ من مجلس تعاون دول الخليج العربية. ثم وصلت إلى القاهرة. ويرى بعض المحللين الإستراتيجيين، أن هذا المجلس كان خطوة غير موفقة للأسباب التالية:

أ. عدم وجود تواصل جغرافي بين أعضائه.

ب. ظهور الفكرة، بشكل من الأشكال، كأنها نوع من رد الفعل؛ إذ أعقبت نشأة مجلس تعاون دول الخليج العربية.

ج. أهداف أطراف المجلس، ليست متجانسة، بل كانت أقرب إلى الاختلاف منها إلى التوافق أو التجانس. فكان ظاهراً، أن هدف الأردن، هو مواجَهة أزمته الاقتصادية ونتائجها السياسية المحتملة. كما كان هدف العراق مواجَهة ظروفه، الاقتصادية والاجتماعية وآثارها، الناجمة من حربه ضد إيران، واستقطاب مصر إلى جانبه، وتحييدها في أي صراع محتمل، يكون العراق أحد طرفيه.

أمّا هدف مصر، فكان كسر طوق العزلة، والدخول إلى العمل العربي من أي باب، قد يؤدي إلى اجتياز مشكلاتها المستعصية، بعد أن عُزِلَتْ عن العالم العربي، منذ اتفاقية كامب ديفيد. أمّا اليمن، الذي انضم إلى المجلس في اللحظة الأخيرة، قبل إعلان نشوئه، فقد كان يبحث عن داع إلى الاقتراب من القلب العربي، إضافة إلى أنه كان يبحث عن مطالب أمنية واقتصادية وسياسية.

2. الدوافع الحقيقية من إنشاء مجلس التعاون العربي

في 20 أغسطس 1988، كانت الحرب العراقية ـ الإيرانية قد انتهت، بموافقة إيران على قرار مجلس الأمن، وقف إطلاق النار. وخرج صدام حسين منها زعيماً، في نظر بعض الجماهير العربية. فسعى، بعدها، إلى تثبيت فكرة “الزعامة الإقليمية”.

وكان عليه أن يتلقف هذه الفكرة، للحدّ من دور مصر العربي في المنطقة. فكان أمامه حلاّن:

أ. إمّا عزلها، وهذا ما لم يكن يستطيعه، بعد أن عادت إلى الجامعة العربية، لتمارس دورها في المنطقة العربية.

ب. أو استيعابها في دوافعه إلى السيطرة على منطقة الخليج، أو في أقل تقدير، تحييدها، فانبثقت فكرة إنشاء مجلس للتعاون العربي، يضم كلاًّ من العراق والأردن ومصر، كسبيل إلى استقطاب مصر أو تحييدها.

بدأت الفكرة، كما رواها الرئيس حسني مبارك[1]، أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية، بعرض الملك حسين، ملك الأردن، على الرئيس حسني مبارك، إنشاء “فيلق عربي”، يشترك فيه مصر والأردن، تحت مقولة “إن الخليج في خطر”. وكان رد الرئيس حسني مبارك على الفكرة، أنه لا يشجعها؛ لأن مثل هذا الجيش، يمكن أن يؤدي إلى مشاكل كثيرة.

وبعد ستة أشهر من طرح فكرة الملك حسين، تلقى الرئيس حسني مبارك رسالة مكتوبة، من ملك الأردن، تتضمن تفاصيل مشروع “الفيلق العربي”، الذي اقترح الملك حسين إنشاءه، من قَبْل! ورداً على هذه الرسالة، أرسل الرئيس حسني مبارك إلى الملك حسين، يسأله عدة أسئلة محددة:

أ. ما هو الهدف من إنشاء الفيلق العربي؟

ب. هل وافق رؤساء دول الخليج على فكرة الفيلق؟

ج. ما هو الموقف السوري؟ وهل يُسعد سورية إنشاء مثل هذا الفيلق؟

د. ما هو موقف العراق، وهو، الآن، في حرب ضد إيران؟

وجاءت إجابة الملك حسين من عمّان، تقول: “إن الهدف من إقامة الفيلق العربي، هو مساعدة دول الخليج، عسكرياً. وقد وافق زعماء هذه الدول على المشروع، وكذلك العراق وسورية.

وفي أول جولة للرئيس حسني مبارك، في دول الخليج، بعد استلامه رد عمّان، طرح سؤالاً واحداً على زعماء تلك الدول: “هل توافقون على قيام الفيلق العربي، الذي اقترحه الملك حسين؟”. وكانت الإجابة واحدة، وإنْ كان بعضها مباشراً، والآخر حيِيّاً: “لسنا في حاجة، الآن، يا سيادة الرئيس، إلى مثل هذا الإجراء”! هكذا، رفضت جميع دول الخليج الفكرة. ويقول الرئيس مبارك: “قلت للملك حسين، إنني لم أجد أحداً موافقاً. والمفاجأة أنه لم ينزعج، حينما قلت له، إن الرؤساء أجابوني بعدم الموافقة.

وبعد ستة أشهر أخرى، جدد الملك حسين مساعيه. وكانت، هذه المرة، من أجْل إنشاء مجلس للتعاون. في البداية، لم يتحمس الرئيس حسني مبارك للعرض. وعاد الملك حسين، يركز، بإلحاح واضح، على فكرة المجلس.

ووافق الرئيس حسني مبارك عليها، بشرط أن يكون مجلساً للتعاون الاقتصادي. فقد كان الملك حسين، هو الوحيد الذي كان يطرح الفكرة، التي رشح لها مصر والعراق والأردن، حتى إن الرئيس العراقي، صدام حسين، لم يفاتح الرئيس حسني مبارك في موضوع إنشاء مجلس التعاون، إلاّ يوم توقيع الاتفاق في شأنه! حتى لا يفهم أنه وراء هذه الفكرة.

وقبل توقيع الاتفاق، طرح الملك حسين فكرة ضم اليمن، حينما قال للرئيس حسني مبارك: “لماذا لا نضم اليمن إلينا؟ إن علي عبدالله صالح، رجل طيب، يا فخامة الرئيس”. وكان رد الرئيس حسني مبارك: “أعتقد أن اشتراك اليمن في مثل هذا التجمع، سوف يزعج المملكة العربية السعودية. فهل أخذت رأي الملك فهد؟”. فكان رد الملك حسين: “حقيقة، لم يحدث. ولكنني سوف أفعل”.

ورجا الرئيس مبارك الملك حسين، أن يشرح للملك فهد بن عبدالعزيز، في أول زيارة له إلى المملكة العربية السعودية، أن مجلس التعاون العربي، لم يُنشأ كرد فعل للنشاط المتزايد، لمجلس تعاون دول الخليج العربية. كما أن انضمام اليمن، في اللحظة الأخيرة إليه، ليس عملاً موجّهاً ضد المملكة العربية السعودية.

وسافر الملك حسين إلى المملكة العربية السعودية، والتقى الملك فهداً. لكن خادم الحرمَين الشريفَين، تجنب، لأسباب رآها، أن تقترب مناقشاته مع الملك الأردني من هذا الموضوع. إذ إنه في اليوم المقرر لمغادرة الملك حسين المملكة العربية السعودية، طلب من الملك فهد تحديد فرصة لقاء، لأمر مهم، يريد أن يحدثه فيه، قبل أن يغادر المملكة. وكان الملك فهد، في هذا اليوم، مقيداً بحضور حفلة تخريج دفعة جديدة من الطيارين السعوديين، فدعا الملك حسيناً إلى حضورها؛ لأنه يعرف شغفه بالطيران.

واقترح الملك فهد، أنه بعد انتهاء حفلة تخريج الطيارين، يستطيع الملك حسين، أن يتحدث في أي موضوع يشاء، وهما في الطريق إلى المطار.

وانتهت حفلة تخريج الطيارين، وركب الملكان في سيارة واحدة. وأبدى الملك حسين ملاحظة، قال فيها: “إنه كان لديه ما يريد أن يحدث الملك فيه. ولكن الجو، الآن، غير مناسب”. ورد الملك فهد، أن “هناك فرصة للقاء قادم بينهما، يبحثان فيه، على مهل، كل ما يعن لأي منهما”.

وفي اتصال بين الملك حسين والرئيس حسني مبارك، قال الملك الأردني، إنه لم يستطع مصارحة الملك فهد بموضوع مجلس التعاون، لأن خادم الحرمَين الشريفَين، كان مشغولاً.

ورأى الرئيس حسني مبارك، ألاّ يترك الأمر عند هذا الحد، فقرر إرسال وزير خارجيته، الدكتور عصمت عبدالمجيد، إلى المملكة العربية السعودية، حاملاً رسالة منه، شارحاً موضوع انضمام اليمن إلى مجلس التعاون العربي.

وعرض الدكتور عصمت عبدالمجيد الرسالة على الملك، الذي لم يكن مقتنعاً. وكان في كلامه ما يوحي بالإشارة إلى أنه لا يرى أن مصر مسؤولة عن انضمام اليمن، وإنما هو يضع المسؤولية على غيرها. وأكد، في نهاية اللقاء، أن مصر لم ولن تشارك في عمل، يشكل محوراً ضد أحد؛ وأنه مطمئن اطمئناناً تاماً بتحركات الرئيس حسني مبارك.

وفي بغداد، بدأت خطوات التنفيـذ. وفي البداية، طرح الملك حسين مسودة اتفاقية تأسيس المجلس، على الرئيس حسني مبارك، والتي تضمنت، ضمن نقاطها، نقطتَين أساسيتَين:

أ. اتفاقية دفاع مشترك، يصبح، بموجبها، أي عضو في المجلس مشاركاً في أي حرب، سواء كانت هجومية أو دفاعية، يشترك فيها أو يقدِم عليها أي طرف من أطراف المجلس.

ب. إدماج جميع أجهزة الاستخبارات، العامة والعسكرية، وأجهزة الأمن القومي، في جهاز واحد، تحت قيادة مجلس التعاون.

ومن الفور، قرر الرئيس حسني مبارك رفض مسودة هذه الاتفاقية.

وعند الموعد المحدد لتوقيع تأسيس المجلس، في 16 فبراير 1989، عاد القادة الثلاثة (الملك حسين، صدام حسين، علي عبدالله صالح)، يحاولون، من جديد، طرح فكرة اتفاقيتَي الدفاع المشترك وإدماج أجهزة الاستخبارات. وفي تلك الليلة، استمر الحوار حتى بعد منتصف الليل، وحاول الملك حسين، جاهداً، تمرير الاتفاقيتَين، ولم ينجح، لرفض الرئيس حسني مبارك القاطع لهذه الفكرة.

ونتيجة لإصرار الرئيس حسني مبارك على موقفه، وافق الزعماء الثلاثة على أن يكون مجلس التعاون في إطار اقتصادي فقط، فوُقِّعت وثيقة تأسيسه، في قصر المؤتمرات، في بغداد، يوم الخميس، 11 رجب 1409هـ، الموافق 16 فبراير 1989م، من دون إدراج فكرتَي الدفاع المشترك وإدماج أجهزة الاستخبارات والأمن القومي في جهاز واحد. وفي 19 فبراير 1989، أعلن إنشاء مجلس التعاون العربي.

وفي 15 يونيه 1989، في قصر المنتزه، في مدينة الإسكندرية، كان، لقاء آخر، ومحاولة أخرى، يقول عنها الرئيس حسني مبارك: “جاءوا للإسكندرية في شهر يونيه 1989، حاملين نفس النقطتَين. وهنا، بدأت الوساوس تساورني، خاصة عندما طلب منّي علي صالح الجلوس معاً، لنناقش الموضوع. فقلت له إن مثل هذا الأمر مستحيل، بل أضفت أن الاتفاقية الدفاعية، تضرك أنت، قبْل أي طرف آخر، وتفسد علاقتك مع المملكة العربية السعودية، وتوقف مساعداتها لك.

وفي اليوم التالي جاءوا بوثيقتَين للتوقيع، إحداهما تتضمن البندَين، والأخرى خالية منهما. وصممت على موقفي. وحاول صدام حسين أن يصل إلى حل وسط. فرفضت، وقلت له: إن مثل هذه الاتفاقية، يرفضها البرلمان، والرأي العام، في مصر.

وقد تستطيع أنت تمريرها في العراق، لكن هنا، الرأي العام له وضعه”. وأضاف الرئيس حسني مبارك: “والواضح أنه كان يسعى لهذا الاتفاق، حيث تكون للدول الأربع قوات في العراق، يستخدمها في الغزو. وهذا ما أكده غزوه للكويت. ولهذا، رفضنا، وإنْ كانت الصورة لم، تكن بهذا الموضوع”.

وبدا واضحاً، أن مصر تريد أن تحصر مجلس التعاون العربي كله، في إطار المنافع الاقتصادية، فلا يتجاوزها. أمّا بالنسبة إلى الأمن، العسكري والسياسي، فإن رؤاها كانت تناقض رؤية بقية الشركاء.

هكذا، يتضح أن إنشاء مجلس التعاون العربي، هو، في الأساس، إنشاء مجلس تعاون عسكري، يخدم نيات الرئيس العراقي المستقبلية. وقد وصفه الرئيس حسني مبارك، في خطابه، يوم الخميس، 27 سبتمبر 1990، في الإسكندرية، أمام ضباط وجنود الفرقة الثالثة المشاة الآلية وجنودها، المتوجهين إلى المملكة العربية السعودية بأنه مجلس تآمر عربي، إذ قال: “ده ليلة ما روحنا نمضي في بغداد، طلبوا اجتماع، الساعة الواحدة، علشان النقطتَين دول (الدفاع المشترك، وإدماج أجهزة الاستخبارات).

وفهمت، طبعاً، في النهاية، أن همّه دول الركيزتَين بتاع مجلس التآمر… مجلس التعاون… مهو مجلس تآمر فعلاً. أنا كنت حاسس بهم. وأنا بأقولها بصراحة. عمل إيه مجلس التعاون. دي مقصود بها، في النهاية، التآمر على امارة الكويت. ومن الكويت، كان حا يخش على الخليج العربي. واحد عاوز يسيطر على البترول، علشان، بعد كده، يمسك مصر من رقبتها…”

جيش امارة الكويت
جيش امارة الكويت

خامساً. التمهيد العراقي، العسكري والسياسي، لغزو الكويت

حينما شعر صدام حسين، أن حربه ضد إيران، لم تحقق له الأهداف التي سعى إليها، يوم أعلن، في 17 سبتمبر 1980، إلغاء اتفاقية الجزائر (6 مارس 1975)، وبدء الاجتياح العسكري العراقي الأراضي الإيرانية، في الساعة 1400، من يوم 22 سبتمبر 1980 ـ وجد نفسه مرغماً، أن يظل، لثماني سنوات كاملة، مشغولاً بهذه الحرب، ما استدعى تأجيل خطوات جدية، لتنفيذ المشروع القومي العراقي.

وعقب قبول إيران قرار مجلس الأمن، الرقم 598، الصادر في 20 يوليه 1987، التقط صدام أنفاسه، وطفق يعد العدة للمشروع القومي العراقي، مرة أخرى. واستغل مجلس قيادة الثورة العراقية، كل دقيقة، منذ ذلك الوقت؛ فعقد اجتماعاً في أواخر يوليه 1988، وضع خلاله الخطوط العريضة لملامح “يوم النداء”، الذي يسفر، في النهاية، عن ضم الكويت إلى العراق. وتوالت الاجتماعات، التي انبثق منها:

اللجنة العسكرية: بقيادة الرئيس العراقي، صدام حسين. وتنحصر مهمتها في إعداد القوات المسلحة العراقية، وتعويض النقص في عدد الجنود؛ وتزويدها مزيداً من الدبابات، التي تستطيع السيطرة على امارة الكويت، كونها السلاح الفعال، نظراً إلى الطبيعة الجغرافية بين العراق والكويت.

اللجنة السياسية: تداول الإشراف عليها عدد غير معروف، من قادة البعث العراقي. وكانت مهمتها:

1. إثارة النزاع القديم، المتعلق بمسألة الحدود.

2. تجديد المطالبة بتأجير جزيرة بوبيان، لتحقيق مشاركة القوات البحرية العراقية، المحدودة، العدد، وذات الأسلحة الأقل تطوراً، في الخليج العربي.

واتفق أعضاء اللجنتَين، أن يظل المشروع طي الكتمان، فلا يطلع عليه سوى عدد محدود من قادة مجلس الثورة. كما اتفقوا، كذلك، على أن تنجز كل لجنة المهام المكلفة، بشكل متوازن مع عمل الأخرى. وحُدد أواخر يوليه وأوائل أغسطس 1990، موعداً للتنفيذ. واختِير اسم حركي لعملية الغزو: “يوم النداء”.

1. أعمال اللجنة العسكرية

أ. عملت على زيادة عدد الدبابات، في القوات البرية، إلى 5530 دبابة، إلى جانب 1500 عربة قتال مدرعة، و500 مدفع هاوتزر ذاتي الحركة، و200 راجمة صواريخ متعددة الفوهات، و3 آلاف قطعة مدفعية متعددة العيارات. الأمر الذي أدى إلى تراكم الديون، حتى بلغت 500 مليون دولار.

ب. شراء ما يقرب من 73 طائرة، مقاتلة ومقاتلة قاذفة، من نوع “سوخوى” (SU-25)، خلال الفترة من أغسطس 1988 حتى يوليه 1990، مع اكتمال تدريب الطيارين العراقيين على استخدامها. إضافة إلى 16 طائرة أخرى، من نوع “سوخوى” (SU-24).

ج. عملت اللجنة على تطوير القوات الجوية. فأقنعت فرنسا ببيع العراق نظام الصاروخ الإلكتروني المعقد، من نوع (AS-530)؛ وهو صاروخ جو/جو، متعدد المهام. واضطلع الخبراء الفرنسيون بتركيبه على طائرات الميراج، من نوع (F-1) التي تملك منها بغداد 64 طائرة:

(1) 40 طائرة، من نوع (F1-EQ5) المزودة صواريخ “إكسوست EXOCET ” الفرنسية. وهو إجمالي ما تملكه القوات الجوية العراقية من هذا النوع، حتى أواخر 1990.

(2) 24 طائرة، من نوع (F1-EQ5-200) ابتاعها العراق لتركيب صاروخ جو/جو الجديد (AS-530) عليها.

د. تطوير طائرات الاستطلاع العراقية، من نوع “أليوشن 67” السوفيتية، مقابل امتلاك المملكة العربية السعودية، طائرات الإنذار المبكر الأمريكية، من نوع “أواكس”.

كما أدت مفاوضات العراق مع شركة “طومسون” الفرنسية، المتخصصة في صناعة السلاح، إلى إمداده بأنظمة رادار متقدمة، من نوع “تايجر TIGER ” الهدف منها التشويش على طائرات الأواكس السعودية؛ إذ إن نظام الرادار (TIGER) هو الأحدث، ويتمتع بمقدرة فائقة، تعززها تعقيدات إلكترونية عالية التقنية، رفض الفرنسيون الإفصاح عنها، واشترطوا أن يضطلع خبراء الشركة بصيانتها وتركيبها، من دون مشاركة من العراقيين.

هـ. تنشيط العمل في برنامج تطوير صواريخ أرض/أرض، الإستراتيجية.

و. وفي 6 فبراير 1990، أعلن سمير السعدي، وكيل وزارة الصناعة والتصنيع الحربي، العراقية، أن لدى العراق الآن، قمرَين صناعيَّين، جاهزَين للإطلاق، صمِّما وصنِّعا بأيدٍ عراقية.

وسبق أن أعلن العراق، في 7 ديسمبر 1989، أنه أطلق، بنجاح، صاروخاً، إلى الفضاء، أُطلق عليه اسم “العابد”، يبلغ طوله 15 متراً، ووزنه 48 طناً، ويتكون من ثلاث مراحل، ويشكل المرحلة الأولى من برنامج الفضاء العراقي. وسيحمل قمراً صناعياً للأبحاث العلمية إلى الفضاء.

ز. وضعت اللجنة العسكرية، بقيادة صدام حسين، في حسبانها، تعويض النقص في عدد القوات البرية العراقية وتسليحها، من خلال:

(1) إعداد 8 فِرق، مدرعة ومشاة آلية، يكتمل تدريبها في أوائل 1990.

(2) إعداد 42 فِرقة مشاة.

(3) زيادة فِرق الحرس الجمهوري، لتصبح 8 فِرق، مدرعة ومشاة ومشاة آلية.

ونظراً إلى النفقات الباهظة التي استدعتها الإعدادات العسكرية، ازدادت ديون العراق تراكماً. وللتغلب على ذلك، لجأ إلى تأجيل دفعها، من خلال:

أ. زيادة الحصة النفطية للدول المصدرة للسلاح، مع منحها تخفيضاً، يقل عن سعر النفط العالمي، آنذاك، خاصة بولندا، التي اعتمد عليها، كلية، في تسليح قواته البرية. وهو ما أكدته، مؤخراً، جريدة “جازيت” البولندية، الناطقة باسم حزب “تضامن”.

ب. إغفال الديون المستحقة عليه للدول العربية، والبالغة 40 مليار دولار، منها 14 ملياراً للكويت فقط، بنسبة 35% من إجمالي الديون العربية؛ تليها دولة الإمارات، ثم المملكة العربية السعودية، وقطَر، والبحرين، وسلطنة عُمان، بالترتيب.

ج. وقف إعمار المدن العراقية، التي دمرتها الصواريخ الإيرانية، أثناء ما عرف، آنئذٍ، بحرب المدن، انتظاراً لما ستثيره اللجنة السياسية المشكلة للحرب، ومدى الحاجة إلى الأموال لإعمار هذه المدن.

د. حيال تهديد فرنسا بالتوقف عن صيانة المعدات العسكرية المتطورة، رداً على توقف العراق عن دفع أقساط ديونه العسكرية، استطاع صدام حسين، خلال شهرَي أبريل ومايو 1990، التوصل إلى اتفاق على إعادة جدولة الديون الفرنسية كاملة، مما اتاح له، صيانة عتاده العسكري الإستراتيجي، قُبيَل “يوم النداء” بأسابيع قليلة. أمّا في شأن ألمانيا الغربية، والتي بلغت الديون العراقية المستحقة لها 3 مليارات دولار، فإن المفاوضات، لم تسفر عن اتفاق، مثلما توقع صدام، في موعد، غايته مارس 1990.

2. أعمال اللجنة السياسية

بينما حُمَّ النشاط إلى إعداد الجيش العراقي للغزو، كانت اللجنة السياسية، تعِد خطة طويلة المدى، من أجل:

أ. إعداد الشعب العراقي، من خلال إغداق الهدايا (فيلات) على ضحايا الحرب العراقية ـ الإيرانية، لمحو آثار الخراب والدمار، التي لحقت بكل منزل عراقي؛ إضافة إلى بعض الإصلاحات السياسية، التي تعَد مكسباً للشعب العراقي، وهي كون الرئيس صدام حسين رئيساً للعراق، مدى الحياة.

ب. تهيئة شعوب العالم، خاصة العربية، لتقبّل حقوق عراقية في الكويت، حان وقتها.

وقُبَيل انتهاء الحرب العراقية ـ الإيرانية، بحوالي شهرين، وفي مؤتمر القِمة العربية، في الجزائر، الذي عُقد في الفترة من 7 إلى 9 يونيه 1988ـ بدا واضحاً أن العراقيين، بدأوا العد التنازلي، لوضع نهاية للحرب ضد إيران. وفي الوقت عينه، بدأ التلميح إلى إثارة المشاكل الحدودية مع امارة الكويت. ففي إحدى الغرف الملحقة بقاعة مؤتمر القِمة، في فندق “الأوراسي”، في الجزائر، انفرد وزير الخارجية العراقي، طارق عزيز، بوزير الخارجية الكويتي، الشيخ الصباح الأحمد الصباح، وقال له: “إننا مقبِلون على مرحلة ما بعد الحرب. وقد كلفتني القيادة العراقية، أن أبلغكم رغبة العراق بحل موضوع الحدود، المعلق بيننا”.

وفي يوم الجمعة، 23 فبراير 1990، يوم وصول الرئيس العراقي إلى عمّان، لحضور مؤتمر قمة مجلس التعاون العربي، صرح إلى التليفزيون الأردني، أن “البلد، الذي يكون له نفوذ في الخليج، يكون له الهيمنة على نفطه. ومن هنا، فإن هذا البلد (العراق) سوف يكون قادراً على ممارسة تفوّقه، كقوة عظمى، حيث لن يكون هناك قوة أخرى، تستطيع منافسته في المنطقة”.

وفي يوم السبت، 24 فبراير 1990، وأثناء افتتاح القمة الرابعة لمجلس التعاون العربي، في عمّان (أي قبل ثلاثة أشهر تقريباً من قمة بغداد الاستثنائية، ونحو خمسة أشهر من اجتياح الكويت)، ألقى الرئيس العراقي كلمة، طرح فيها أبعاد القضية على المجلس، وألمح أن العراق له حقوق لدى امارة الكويت، وأنه لن يقف مكتوف الأيدي، ما دامت الكويت والإمارات، ترفضان إسقاط ديونهما عليه. وأضاف صدام، في جلسة مغلقة، ضمت الزعماء الأربعة لمجلس التعاون العربي، أن العراق، طالب الدولتَين، مراراً، بإسقاط الديون، دون جدوى. ويبدو أنهم، أي الخليجيين، نسوا أو تناسوا، أن العراق كان يدافع عنهم، قبْل أن يدافع عن حقوقه. (أُنظر وثيقة نص كلمة الرئيس العراقي، صدام حسين في افتتاح القمة الرابعة لمجلس التعاون العربي، في عمّان في 24 فبراير 1990)

وانتقلت اللجنة السياسية من مرحلة التلميح إلى مرحلة التصريح:

أ. في 3 مايو 1990، انتقد وزير الخارجية العراقي، طارق عزيز، بعنف، الدولة المسؤولة عن زيادة إنتاج منظمة الدول المصدرة للنفط، “الأوبك”، من دون أن يحدد اسمها، وذلك خلال اجتماع لجنة المراقبة، التابعة للمنظمة، في جنيف. وقالت الأوساط النفطية، إن امارة الكويت، هي إحدى الدول المعنية.

ب. وفي 17 يوليه 1990، اتهم الرئيس العراقي بعض قادة دول الخليج العربية، باتّباع سياسة موالاة لأمريكا، ترمي إلى خفض أسعار النفط الخام. وأوردت وكالة الأنباء العراقية جزءاً من حديث الرئيس صدام حسين، الذي أدلى به، في الجلسة المغلقة للقِمة العربية، التي عقدت في بغداد، في المدة من 28 إلى 30 مايو، يؤكد فيه، أن الحروب يمكن أن تنشب “لأسباب اقتصادية”.

ج. وفي 18 يوليه 1990، نشرت الحكومة العراقية مذكرة، كانت قد أرسلتها، في 15 يوليه، إلى أمين عام الجامعة العربية، تتهم فيها الكويت “بنهب” النفط العراقي، منذ عام 1980، وذلك بضخه من حقل الرميلة، جنوبي العراق، و”بقضم” أراضيه. وطالب العراق بأن تدفع الكويت مليارين وأربعمائة مليون دولار، قيمة النفط “المنهوب”. ووصف تصرف الكويت، بأنه عدوان عسكري على العراق. كذلك، اتهمت بغداد الكويت، بأنها استغلت حرب العراق ضد إيران، في تنفيذ خطة تقدم تدريجي، ومبرمج، في اتجاه الأراضي العراقية.

د. وفي 31 يوليه 1990، بدأت المباحثات العراقية ـ الكويتية، في جدة، على الرغم من النية المبيتة، من قبْل، في غزو الكويت، إمعاناً في التمويه.

هـ. وفي 1 أغسطس 1990، عُلِّقت محادثات جدة، من دون أي اتفاق، وأُعلن إغلاق الحدود البرية، بين العراق والكويت، حتى موعد غير محدد.

و. وفي 2 أغسطس 1990، بدأ الغزو العراقي للكويت.