الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد في ذمة الله عن عمر يناهز 83 سنة

رد: الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد في ذمة الله عن عمر يناهز 83 سنة

files.php
 
رد: الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد في ذمة الله عن عمر يناهز 83 سنة

ch_1_134494903.jpg


فـُـجعنا لما علمنا أن رفقاء السلاح استدرجوا عبان رمضان وقتلوه

القاعدة الشرقية نددت باغتيال عبان ونظمت يوم حداد

مخابرات "الباءات الثلاث" عذبت العموري قبل محاكمته وإعدامه

* بومدين كلف بوتفليقة وبلهوشات ومساعدية وبلحاج بفتح جبهة مالي

* محمدي السعيد كان أغرب قادة الثورة وأشدهم إخلاصا وتعصبا

* محمدي السعيد خطب يوما في المجاهدين فقال: "تحيا الثورة.. يحيا المجاهدون... يحيا ربي"
 
رد: الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد في ذمة الله عن عمر يناهز 83 سنة

مؤامرة العقداء 1958 - 1959

أسالت حادة الكاف، أو كما يسميها البعض خطأ »مؤامرة العقداء« أحيانا، وأحيانا أخرى مؤامرة العموري، الكثير من الحبر. وأدلى برأيه في أسبابها وملابساتها حتى من لا علاقة له بها، لا من قريب ولا من بعيد. ويجدر بي أن أوضح من البداية، أننا في القاعدة الشرقية لم نكن نستسغ كلمة »مؤامرة«. ذلك أن هذه الكلمة بإيجاءاتها السلبية وتوظيفاتها السياسية يمكن أن تقدم فكرة خاطئة عن فصل مأساوي من فصول كفاحنا المسلح، أو أن ترسم صورة مشوهة عن ثورتنا عن طريق تقديمها، وكأنها سلسلة من الدسائس والمؤامرات والمقالب والانقلابات. وهذا غير صحيح تماما. ولأني عشت بعض فصول حادثة الكاف، والتقيت بعض أعضاء الحكومة المؤقتة للتفاوض معهم حول مصير محمد العموري وزملائه قبل إعدامهم، أرى من واجبي الإدلاء بشهادتي في الموضوع.

لم تكن القضية، في الحقيقة، تنازعا على سلطة أو صراع عصبة ضد عصبة أخرى، وإنما الأمر كان متعلقا بخلافات عميقة حول أساليب قيادة الكفاح المسلح وطرق تسيير الثورة سياسيا واختيار القادة، أي مصير الثورة بصفة عامة. وكان محمد العموري ومحمد عواشرية وأحمد نواورة والرائد مصطفى لكحل وأغلب ضباط الولاية الأولى والقاعدة الشرقية مقتنعين أن الثورة انحرفت عن مسارها الأصلي، وأنه يجب التحرك لإصلاح الأوضاع قبل انفلاتها. هكذا تبلورت، شيئا فشيئا، فكرة استعمال العنف ضد القيادة الثلاثية لحملها على مراجعة القرارات التي اتخذتها في حق عمارة بوقلاز ومحمد العموري بعد حل لجنة العمليات العسكرية com. وينبغي لنا أن نرجع قليلا إلى الوراء لوضع حادثة الكاف في سياقها التاريخي الحقيقي بالحديث عن مصير القاعدة الشرقية وما كان يخطط لها في الخفاء.

.

هيئة أركان الشرق

لم تعمّر القاعدة الشرقية، التي ولدت في الآلام والدموع، طويلا، فبعد عامين من نشأتها العسيرة وئدت بطريقة عسيرة. أيضا، مع نهاية سنة 1958. وأسدل الستار عل مآثر وتضحيات قادتها وجنودها. وكان مصير بعض قادتها مأساويا وترك آثارا لا تمحى في نفوس مجاهدي المنطقة وفي مسيرة الثورة ككل. لكن الرهانات التي أحاطت بها منذ تأسيسها حولتها إلى مصدر لأطماع السياسيين وبعض المغامرين ودسائس الطامحين إلى الزعامة.

كانت السنة التي تفككت فيها القاعدة الشرقية مضطربة وخطيرة على أكثر من صعيد فعلى مستوى قيادة لجنة التنسيق والتنفيذ تفاقمت الخلافات بين أعضائها، وانعكست سلبا في الميدان على القدرات القتالية للجيش. وطفت تلك الصراعات إلى السطح، ولم تعد سرا يخفى بعد مقتل عبان رمضان في نهاية 1957. في البداية صدقنا ما أعلنته جريدة »المجاهد« حول استشهاده في ميدان الشرف، لكننا بعد فترة قصيرة فوجئنا بالحقيقة المفجعة، وهي أن رفقاء في السلاح استدرجوه إلى المغرب ليقتلوه، كانت الصدمة عنيفة في صفوف المجاهدين، وندد بوقلاز، رغم خلافه مع عبان رمضان، في رسالة شديدة اللهجة إلى لجنة التنسيق والتنفيذ، بهذا الاغتيال الجبان لأحد رموز الثورة، ورنظم يوم حداد واحتجاج في القاعدة الشرقية.

في تلك الفترة كانت قيادة الجيش الفرنسي ماضية في تنفيذ مخططاتها الرامية إلى عزل جيش التحرير، وقطع الدعم عنه من الخارج وشرعت في تطبيق خطتي وزير الدفاع أندري موريس والجنرال شال. أما على الصعيد السياسي، فقد اتسمت سياسة الجمهورية الخامسة التي وصلت إلى الحكم بفضل المتطرفين وقسم هام من ضباط الجيش الفرنسي بالمزاوجة بين العمليات العسكرية والتنازلات الجزئية لصالح الجزائريين.

وكان اعتلاء ديغول سدة الحكم أخطر مرحلة مرت بها الثورة الجزائرية. وقد انخدع بها بعض القادة السياسيين الذين صدقوا مبادرات ديغول، خاصة بعد زيارته إلى الجزائر في جوان 1958، ثم إعلانه لمشروع قسنطينة، كان مشروع قسنطينة يمثل الجزرة، أما خطة شال الهادفة إلى القضاء على جيش التحرير من خلال تكثيف عمليات مراقبة المناطق الحدودية وتمشيطها فقد كانت بمثابة العصا. وتوج ديغول سياسته باقتراحه الشهير »سلم الشجعان« الذي كان يمثل. بالنسبة إلينا، رفع راية الاستسلام البيضاء، واستبعاد الحوار حول المستقبل السياسي للجزائر.

.
 
رد: الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد في ذمة الله عن عمر يناهز 83 سنة

خطة شال

ويهمنا هنا الحديث عن الهجوم العسكري الضخم الذي شرع الجنرال موريس شال في الإعداد له بعد أن عينه ديغول في 1958 قائدا لأركان الجيش. وكان استراتيجية هذا الجنرال تسعى هذا إلى تحقيق أهداف محددة، هي عزل الولايات الداخلية عن قواعد التموين والتسليح، أي بعبارة أدق فصلها عن القاعدة الشرقية، وعزل السكان عن المجاهدين عن طريق إنشاء محتشدات ومناطق عازلة، مثلما حدث بين شال وموريس، والتخطيط لعمليات واسعة النطاق، مثل عمليات الشرارة Etincelle في الهضاب العليا وجيمال Jumelles في القبائل وعملية الأحجار الكريمة Pierres précieuses في الشمال القسنطيني. ثم بعد ذلك الشروع في تشييد خط مكهرب يحمل اسمه، أصبحنا نسمية فيما بعد »خط الموت« وسخرت فرنسا إمكانات ضخمة لإنجاز هذا السد بوتائر سريعة. وكان الهدف من تشييده تدعيم خط موريس والتضييق على المجاهدين ومنعهم من دخول التراب الوطني وتزويد الداخل بالسلاح والذخيرة وفي الوقت نفسه إنشاء منطقة عازلة أصبحت تدعى No man's land

في مثل هذه الأوضاع الصعبة بدأ التخطيط لتفكيك القاعدة الشرقية، وتمت الخطوة الأولى في النصف الأول من عام 1958 عين اتخذ كريم بلقاسم قرارا متسرعا يقضي بإنشاء لجنة العمليات العسكرية في الحدود الشرقية والغربية، كان الهدف المعلن هو تكليف هذه الهيئة بقيادة العمل المسلح في الداخل، لكنها في الحقيقة بداية لتفكيك القاعدة الشرقية وتصفية مسؤوليها.

برزت الخلافات بين الباءات الثلاثة حتى في تشكيل الكوم COM.

واضطر بوصوف وكريم بلقاسم وبن طوبال إلى الوصول إلى تسوية فيما بينهم من خلال مراعاة مبدأ التمثيل الجهوي ومبدأ تمثيل كل الولايات. وأصبح واضحا أن مبدأ القيادة الجماعية الذي استندت إليه الثورة منذ اندلاعها صار يتلون بحقائق الميدان ولعبة التوازنات.

في الحدود الغربية أنشئت لجنة العمليات العسكرية بقيادة هواري بومدين الذي فرضه بوصوف وعين العقيد الصادق نائبا له، وكانا يشرفان على الكفاح المسلح في الولايات الرابعة والخامسة، أما كوم الشرق، فقد كان بؤرة حقيقية للخلافات والتناقضات المنذرة بانفجار في أقرب الآجال. فلا شيء كان يوحي بضمان أبسط شروط التنسيق والعمل الجماعي بين رئيسه محمدي السعيد - الولاية الثالثة - ومحمد العموري - الولاية الأولى - وعمار بن عودة - الولاية الثانية - وعمارة بوقلاز - القاعدة الشرقية. وكان الخلاف بين بوقلاز وبن عودة على أشده. وكان هذا الأخير ينسق مع بن طوبال لتحييد بوقلاز.

بعد ذهاب بوقلاز إلى الكوم أعيد النظر في قيادة القاعدة الشرقية، وعين الرائد محمد الطاهر عواشرية مسؤولا عنها، والرائد شويشي العيساني نائبا له، وتولى مسؤولية المنطقة صهر بوقلاز رصاع مازوز، يساعده ثلاثة نواب برتبة ملازم أول؛ هم الشاذلي بن جديد ويوسف بوبير وبلقاسم عمورة المعورف ببلصويوي. وأجريت تغييرات مماثلة في المنطقتين الثانية والثالثة اللتين بقيتا تحت مسؤولية عبد الرحمن بن سالم والطاهر الزبيري.

.

إلغاء الكوم

في نهاية سبتمبر من السنة نفسها اتخذت لجنة التنسيق والتنفيذ في اجتماع في القاهرة آخر قرار لها، قبل تعويضها بالحكومة المؤقتة، يقضي بإلغاء الكوم واتهام أعضائه بالتقصير والعجز عن تطبيق قرارات القيادة واللاكفاءة. واتخذت أيضا قرارات تعسفية مجحفة في حقهم، وشعرنا نحن الضباط في القاعدة الشرقية بأن الأمر يتعلق بمكيدة تهدف إلى تصفية مسؤولينا والانتقام منهم. خاصة وأننا لاحظنا نوعا من التمييز في طبيعة العقوبات ودرجاتها. فقط سلطت أقسى العقوبات على قادة الولاية الأولى والقاعدة الشرقية واكتفت اللجنة بعقوبات بسيطة ضد الأعضاء الآخرين، هكذا نزلت رتبة بوقلاز إلى نقيب، ومنعه من ممارسة أي نشاط، وأبعد إلى بغداد، وليس إلى السودان كما جاء في بعض الكتب، كنا نزلت رتبة العموري وأبعد هو الآخر إلى جدة، لكنه لم يلتحق بها، وبقي لاجئا في ليبيا، بينما اكتفت اللجنة بإبعاد بن عودة لمدة ثلاثة أشهر إلى بيروت، أما المسؤول الأول عن الكوم، محمدي السعيد، المتهم الأول بضعف التسيير، فقد ألحق بالحكومة المؤقتة بالقاهرة، ليكلف بعد شهر بقيادة التنظيم الجديد - هيئة أركان الشرق -

لاشك أن عمارة بوقلاز هو من دفع العموري إلى رفض قرارات الحكومة المؤقتة، أو بالأحرى قرارات القيادة الثلاثية، لكنه كان يسعى إلى حل هذه المشكلة بالطرق السلمية وفي الأطر النظامية. غير أن العموري فضل اتباع أسلوب آخر باستعمال القوة. وشرع في تنسيق جهوده للإطاحة بالعسكريين في الحكومة المؤقتة مع أحمد نواورة الذي خلفه على رأس الولاية الأولى ومحمد الطاهر عواشرية، قائد القاعدة الشرقية بعد بوقلاز. وكانت نقطة الخلاف الأساسية هي الإسراع بدخول الجيش إلى التراب الوطني في تلك الظروف الصعبة. لكن نواورة وعواشرية رفضا هذا الأمر واشترطا الإشراف على قواعد الحدود. وأثناء ذلك بدأ العموري يخطط بالتنسيق مع مصطفى لكحل المدعو باليسترو، للعودة إلي تونس، وكان الخطأ الذي ارتكبه العموري هو عقد الاجتماع في تونس بدل عقده داخل القاعدة الشرقية. فقد كان في إمكاننا أن نوفر له الحماية الكافية. خاصة وأن أغلب قادة المناطق الثلاث كانوا يساندون أطروحاته.

وشرع عواشرية في عقد سلسلة من الاجتماعات معنا في المنطقة الأولى والثانية والثالثة في انتظار وصول عميروش والحواس. وكانت الاتهامات التي وجها في تدخلاته تتلخص في أن الحكومة المؤقتة تعيش في تونس حياة بذخ في الوقت الذي يعاني فيه المجاهدون نقصا في السلاح والذخيرة، وطالب بتقديم توضيحات حول اغتيال عبان رمضان، كما طرحات فكرة استبدال فرحات عباس بلمين دباغين، على رأس الحكومة المؤقتة.

علم كريم بلقاسم ومحمود الشريف بوصول العموري إلى الكاف عن طريق طائق تكفل بنقله من طرابلس. ومن المرجح أيضا أن القيادة الثلاثية علمت بما يدبر ضدها عن طريق العيون المندسة في أوساطنا والنواب الذين طردهم الجنود والتحقوا بجيش الولاية الثانية.

جرى الاجتماع بحضور ضباط الولاية الأولى والقاعدة الشرقية، منهم الرائد شويشي العيساني، العقيد أحمد نواورة، مصطفى باليسترو، أحمد دراية، محمد الشريف مساعدية، والرائد بلهوشات. كانت القيادة الثلاثية قد نجحت في إقناع بورقيبة أن المجتمعين في الكاف لا يتآمرون ضد الحكومة المؤقتة فحسب. وإنما يخططون أيضا للإطاحة به واستبداله بصالح بن يوسف، والدليل أن أغلبهم ساند اليوسفيين منذ انطلاق الثورة. فداهم الحرس الوطني التونسي العمارة التي عقد بها الاجتماع واعتقل المجتمعين.

كانت الضربة قاسية بالنسبة إلينا فبعد أيام شرع الحرس الوطني التونسي في نقل الجنود الجزائريين على الحدود لمحاصرتنا وقطع التموين عنا. ووجدنا أنفسنا بين مطرقة جيش الحدود بقيادة علي منجلي وسندان الجيش الفرنسي. إما أن ندخل في حرب الإخوة الأشقاء وإما أن نسلم أنفسنا للعدو. وكلا الخياران مُران وفضلنا الحل السلمي في الأطر النظامية.
 
رد: الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد في ذمة الله عن عمر يناهز 83 سنة

لقاؤنا مع كريم بلقاسم ولخضر بن طوبال

في أثناء ذلك قرر كريم بلقاسم إزاحة رصاع مازوز من قيادة المنطقة الأولى بسبب علاقته العائلية بعمارة بوقلاز، وأوفد عبد القادر شابو محمد علاق وضابطا شابا اسمه صحراوي إلي المنطقة. واستشار شابو قادة النواحي، حداد عبد النور، قارة عبد القادر، والفاضل، حول من يخلف مازوز، فأشاروا عليه بالشاذلي بن جديد. وهكذا عينت قائدا للمنطقة الأولى. وتفاديا لاستفحال الأزمة كلفنا نحن قادة المنطقتين الأولى والثالثة بن سالم بالاتصال بمحمدي السعيد من أجل تنظيم لقاء بممثل عن الحكومة المؤقتة لتوضيح الأمور تجنبا لوقوع مواجهة بين الإخوة الأشقاء. وكان مازوز قد رفض الذهاب رلى تونس وطلب مني الذهاب بدله، وقبل ذلك حاول بوبير بولضويوي الانقلاب على قيادة المنطقة الأولى، لكن الجنود تصدوا لهما بإطلاق النارفي السماء ففرا إلى معسكر الزيتون، أو »جيش الجمهورية« كما كانوا يسمونه وربما كانا من الذين بلغنا الحكومة المؤقتة عن الانقلاب الوشيك.

سافرنا أنا وعبد الرحمن بن سالم والزين نوبلي، رفقة محمدي السعيد الذي كان يتوقف للصلاة عند كل آذان، إلى تونس حيث كانت الجماعة مسجونة، وقابلنا هناك كريم بلقاسم وبن طوبال، وكان بوصوف غائبا. كان كريم وبن طوبال قد أقنعا العموري أن يطلب منا العودة للشرعية، ومازلت أذكر الكلمات التي قالها لنا مترجيا: »باسم الإخوة، باسم المجاهدين، باسم مبادئ الثورة ارجعوا إلى النظام وخلونا أحنا بين يدي الحكومة المؤقتة«.

طرحنا المشكلة على أعضاء الحكومة المؤقتة وأكدنا لهم أن الاجتماع كان مجرد اجتماع استشاري لإصلاح الأوضاع، لكن كريم بن طوبال أصرا على أن العموري وجماعته كانوا يخططون لانقلاب ضد قيادة الثورة خدمة لمصالح أجنبية. طلبنا منهم الإبقاء عليهم في السجن وعدم إعداهم فوافقوا شرط أن نسلمهم أحمد دراية، الذي نجح في الإفلات من قبضة الحرس التونسي ودخل التراب الوطني. خلال اللقاء كان محمد الشريف مساعدية يقف بعيدا، يشير إليَّ وكأنه يريد أن يقول لا تصدقوهم.

لاحظنا آثار التعذيب الذي مارسته مخابرات الثلاثي على وجه العموري. أما عواشرية فقد التفت إلى بن سالم، »أوصيك بالأولاد يا سي بن سالم« لا شك أنه كان يعرف المصير الذي ينتظره، وقيل أن بورقيبة عرض حمايته على العموري، لكن هذا الأخير رفض وفضل أن يسلم أمره لرفقاء السلاح.

عندنا إلى التراب الوطني وسلمنا لهم كما اتفقنا دراية وبعد انتهاء التحقيق أسست محكمة برئاسة هواري بومدين، وكان علي منجلي مدعيا عاما بعضوية قائد أحمد والعقيد الصادق وأعدم العقيد العموري والعقيد نواورة والرائد عواشرية والنقيب مصطفى لكحل، وحكم على الآخرين بأحكام تتراوح بين أربعة أشهر وعامين سجنا، وستكون لهذه الإعدامات انعكاسات خطيرة على معنويات الضباط والجنود الذين لم يعودوا يثقون في الحكومة المؤقتة، وخاصة في الثلاثي، وستتكرر محاولات التمرد والانشقاق والعصيان.

وحين استلم بومدين قيادة الأركانت أطلق سراح بلهوشات ودراية ومساعدية ولخضر بلحاج وكلفهم مع عبد العزيز بوتفليقة بفتح جبهة في مالي.

.

خطة الرائد إيدير

في نهاية 1958 بدأت تصلنا أصداء عن خطة عرفت باسم واضعها الرائد إيدير ولم نكن، والحق يقال، نملك تصورا واضحا عن تفاصيل هذا البرنامج الجديد الذي أعد في ديوان كريم بلقاسم تونس، كما لم ندرك خطورة هذه الخطة إلا بعد تبني كريم لها، واعتمادها للتطبيق دون استشارتنا والأخذ برأينا في الموضوع. فقد كنا أنا وعبد الرحمن بن سالم منشغلين آنذاك بإعادة الانضباط إلى صفوف الوحدات التي كنا مسؤلين عنها في المنطقتين الأولى والثانية بعد حالة التذمر والاستياء التي خلفتها حادثة اعتقال قادة القاعدة الشرقية ومحاكمتهم، ثم بعد ذلك إعدامهم في شهر مارس 1959.،

كانت الخطة في خطوطها العريضة تهدف إلى تكوين جيش عصري جيد التدريب والتجهيز. يعتمد نمط الجيوش الكلاسيكية في المعارك ضد خصم متفوق علينا في العدة والعدد، أي أسلوب المواجهة المباشرة وحرب المواقع والتراتبية الصارمة في مسائل الانضباط، ومن الواضح أن الذي وضع الخطة ومن حاول تطبيقها لم يدرس تجارب الشعوب التي خاضت ثورات تحررية قبلنا.

وكانت نقيض ما كنا نعتمده كأسلوب للقتال، أي حرب العصابات القائمة على إنهاك قدرات الخصم وعنصر المفاجئة والكمائن وعدم مواجهة العدو في حال عدم تكافؤ القوة. وفضلا عن ذلك تجاهلت الخطة أهم شيء ساعدنا على النجاح والصمود. وهو اعتمادنا على الشعب الذي كان مصدر دعمنا.

وأكثر ما يثير الإستغراب هو أن هذه الخطة جاءت بعد خطة شال التي ألحقت أضرارا كبيرة بالوحدات القتالية في الداخلي وعلى الشريط الحدودي من خلال اعتمادها التطويق وقطع الدعم عن جيش التحرير.

كان اعتراضنا أساسا على جوهر الخطة وعلى أدوات وطرق تطبيقها. لقد أحاط كريم نفسه في وزارة القوات المسلحة بضباط لم يمض على فرارهم من الجيش الفرنسي إلا أشهر، ووضع ثقته المطلقة فيهم وفي قدراتهم التقنية على إعادة هيكلة الجيش، أي سلم لهم الوحدات الجامدة على الحدود، في الوقت الذي كنا نحن نطالب بها لمنع تشييد خط شال. ومن الناحية الاستراتيجية كانت خطة إيدير تهدف رغم عدم إعلانها عن ذلك إلى القضاء، أو على الأقل، تحييد المشوشين، كما أصبحوا يسموننا، وبسط اليد على وحدات القاعدة الشرقية تحسبا لدخول التراب الوطني بعد الشروع في مفاوضات محتملة مع الجانب الفرنسي.

لكن هذه الخطة اصطدمت برفض تام ليس منا القادة، لكن من الجنود أيضا. لقد كان عنوان الخطة هو طبق ولا تناقش، متجاهلة حقائق الميدان ونفسية المجاهدين والتركيبة الإجتماعية للوحدات القتالية. وكان أكثر ما يثير الشكوك حول الخطة هو أن واضعها فار من الجيش الفرنسي، والمكلفين بتطبيقها فارون أيضا من الجيش نفسه، تحلقوا في تونس حول كريم ومدير ديوانه.

بعد المحاولات الأولى للشروع في تطبيقها، اتضح أمامنا أن المستهدف الأول هم المجاهدون. فالخطة كانت ترمي إلى إعادة تدريب مجاهدين حملوا السلاح منذ الساعات الأولى لانطلاق الثورة.

وتطبيقا لخطة إيدير رفض محمدي السعيدة مدنا بالجيش الجامد وراء الحدود. ولعله كان يخشى، إن هو زودنا بالسلاح والوحدات، أن نعيد الكرة. فحادثة الكاف كانت لا تزال حية في الأذهان.

فضلت قيادة أركان الشرق بعد فترة تسليم بعد تلك الوحدات إلى الضباط الفارين من الجيش الفرنسي. وهكذا اقتطعت قيادة أركان الشرق جزءا من المنطقة الأولى في ناحية القالة ونصبت هناك فيلقا بقيادة محمد بوتلة، ووضعت بيني وبين عبد الرحمان بن سالم فيلقا آخر على رأسه سليمان هوفمان، وبين بن سالم والزين نوبلي فيلقا ثالثا يقوده سليم سعدي، وبهذه الصورة ضيقت علينا الخناق. وأصبحنا نحن، قادة المناطق الثلاث، محاصرين بهذه الفيالق الجديدة وبالحرس التونسي من جهة الحدود، وبالفيالق الفرنسية المرابطة وراء السدين والتي كان يقودها الجنرال فاكسان والمكونة من خمس فرق من مظليي بيجار وجان بيير وترانكييه وغريهم من قدماء الهند الصينية.

لقد أفرزت خطة إيدير نتائج وخيمة، وأثرت سلبا في قدرات المجاهدين ومعنوياتهم، وأدت إلى وقوع العديد من حالات التمرد والعصيان، مثل تمرد وحدات الولاية الأولى في جبل الشعامبي، وعصيان حمى لولو، والإستسلام المخزي لعلي حمبلي. وكانت في الواقع تعبيرا عن نزوة طائشة للرائد إيدير الذي استغل إخلاص محمدي السعيد، وثقة كريم بلقاسم. لكن هذا الأخير اضطر إلى التراجع عنها نظرا إلى نتائجها الكارثية تحت ضغط بوصوف وبن طوبال.

ومن المؤسف أن يستغل الرائد إيدير طبع محمدي السعيد إخلاصه وماضيه النضالي في سعيه إلى تطبيق مخططه حول إعادة تنظيم الجيش على الحدود التونسية، كما استغل أيضا صداقته مع كريم بلقاسم. كان كريم ملهم مدير ديوانه الرائد إيدير، ومحمدي السعيد والضباط الفارين من الجيش الفرنسي أدوات تطبيقه.

.
 
رد: الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد في ذمة الله عن عمر يناهز 83 سنة

العقيد سي ناصر

أتوقف هنا عن الاسترسال لأتحدث عن قائد هيئة أركان الشرق محمدي السعيد. لا أحد، بالطبع يساوره أدنى شك، في وطنيته وإخلاصه لقضية شعبه. فقد كان من المجاهدين الأوائل الذين لبوا من دون تردد نداء الوطن. وكان كفاحه النزيه مقرونا بورع ديني مثير للدهشة، وطبعا جبليا قبائليا صعب المراص. كل هذه الخصال جعلت منه شخصية متميزة وغريبة الأطوار في آن واحد. وكان شجاعا، بل متهورا أحيانا، لا يتردد أمام أية صعاب أو مخاطر. وكان يصلي في كل الوضعيات، وفي أي مكان، كما كان متقشفا في مأكله ومشربه. وكان مثله الأعلى هو هتلر والحاج الحسيني مفتي القدس، الذي ربما التقاه خلال الحرب العالمية الثانية. وكان لا يتوقف عن الحديث عنه.

مامن شك أن إخلاص محمدي السعيد ووفاءه لا غبار عليهما من الناحية المثالية، غير أنه كان يحتكم إلى أسلوب التخويف والترعيب، بدل احتكامه للإقناع والحجة. كان حقا من طينة المناضلين الذين عانوا ويلات الاستعمار وأهواله. فأصبحت غاية تحرير بلده تبرر وسيلة بلوغ ذلك. كما كانت نظرته إلى الانضباط أقرب إلى الامتثال والطاعة منها إلى الحجة والإقناع. ولعل خدمته في الجيش الألماني جعلته يميل إلى تبني أساليب الجيوش الكلاسيكية، بدل أساليب حرب الأنصار والعصابات، كان شعاره هو »أمر طبق نقاش أو سؤال«. ولم يكن يدرك بأن المجاهدين هم في الحقيقة إخوة يؤمنون بقضية مشتركة، وليسوا جنودا في جيش نطامي. كان الهم الوحيد لمحمدي السعيد هو إجهاض أية محاولة للخروج عن الطاعة. وكان لا يفرق بين الانضباط والخضوع. وكان تصوره لمسائل الانضباط يصلح لجيش كلاسيكي، وليس لمجاهدين يؤمنون بقضية عادلة ومقدسة. ولم يدرك أن المجاهد قبل أن يطبق أمرا يجب أن يفهم وبعد أن يفهم يجب أن يقتنع وبعد أن يقتنع يجب أن يكون الأمر يخدم القضية التي يؤمن بها.

لقد أثبت محمدي السعيد محدودية نظرته وعدم كفاءته واستخفافه بحياة الرجال.

ذات يوم زارنا في المنطقة الأولى وجمعنا له الجنود ليخطب فيهم. صعد فوق طاولة، مسكنا بها أنا وعبد الرحمان بن سالم حتى لا يسقط منها بسبب ثقل وزنه، ثم شرع كعادته في إلقاء خطاب حماسي بصوته الراعد. لم يكن خطيبا مفوها، لكن حماسته كانت تلهب مشاعر الجنود. وكان هذا بالنسبة إليه جزءا هاما من تصوره للتجنيد ورفع المعنويات والانضباط في تلك الفترة العصبية التي اشتد فيها الإحباط. وختم خطابه بالقول: »...تحيا الجزائر...تحيا الثورة...يحيا المجاهدون...« وحين لم يجد ما يقوله صرخ بأعلى صوته: »...يحيا ربي«. ثم أضاف: »لقد اتفقت مع مفتي فلسطين، صديقي الحاج الحسيني، أننا بعد تحرير الجزائر سنحرر فلسطين«.

بعد ذهابه أخذ أحد الضابط يقلده مضيفا: »الجزائر لم نحررها وهو يريد أن يحرر فلسطين«. وبلغ كلام الضابط محمدي السعيد الذي من المؤكد أن له عيونا في صفوفنا تبلغه كل شيء. فاغتنم فرصة زيارة ثانية إلى المنطقة الأولى ليسألني »هل عندك ضابط اسمه عبد المجيد«، أجبته نعم قال »أحضره الآن«. ففهمت أنه يريد أن يعاقبه، فقلت له »إنه اليوم غائب لأنني كلفته بمهمة في الداخل«. وبهذه الصورة نجا ذلك الضابط النحيف من عقوبة مؤكدة.

في إحدى المرات كلفت نائبي السياسي عبد القادر عبد اللاوي أن يتصل بمحمدي السعيد في غار ديما ويخبره أننا نعاني مضايقات الحرس التونسي، وبعض سكان الحدود خلال عبورنا الحدود وأنهم يساوموننا في السلاح والذخيرة والمؤونة، وطلبت منه التدخل رسميا لحل الإشكال مع السلطات التونسية. لكن كم كانت دهشتي حين علمت أن محمدي أمر عبد اللاوي أن يبلغني بقتلهم كلهم. وحين شرح له عبد اللاوي خطورة هذا، خاصة وأننا نتعامل مع سكان عزل على شريط حدودي يمتد على طول 100 كلم، قال له »اقتلوا النصف وخلوا النصف«.

وفي الحقيقة لم يتغير محمدي السعيد كثيرا بعد الإستقلال، فقد قاده إيمانه إلى تبين شعارات الجبهة الإسلامية للإنقاذ وأصبح من أكبر المتحمسين إلى بناء الدولة الإسلامية. وأذكر أنني استقبلت بعد أحداث أكتوبر جماعة من المجاهدين في الرئاسة. وأخذ يحدثني بنفس اللهجة والنبرة التي عرفتها به خلال الكفاح المسلح.

.

استسلام حمبلي

من الفصول المؤملة التي عاشتها الثورة في أواخر 1958 تمرد علي حمبلي، الضاب في المنطقة الخامسة للولاية الأولى. وقد قيل الكثير عن أسباب استلامه لفرقة الثالثة للخيالة. ومن المرجح أنه انتفض ضد الحكومة المؤقتة وضد كريم، ومحمدي السعيد، تحديدا احتجاجا على أساليب قيادة الحرب. احتل حمبلي مع جنوده قمة جبل سيدي أحمد المشرف على منطقة واسعة حتى الحدود التونسية، وبالنظر إلى مناعة المنطقة كان من الصعب إخراجه منها. واستقدم محمدي السعيد قوات دعم من عدة مناطق ومراكز التدريب. وحاصره من الجهة التونسية لأن الفرنسيين، وقد كانوا على علم بالتمرد، حاصروا المنطقة من جهة التراب الجزائري، وقطعوا عنه التموين، وقد بعث حمبلي إنذارا إلى محمدي السعيد يطلب فيه رفع الحصار عن جنوده وإلا سلم نفسه للفرنسيين، لكن محمدي السعيد رفض الإنذار ورفض التحاور معه. وكان يأخذ بنفسه رشاشا من نوع 7 / 12، ويطلق النار بطريقة عشوائية باتجاه الجبل. استسلم حمبلي إلى الجيش الفرنسي. وقد استغل هذا الأخير هذه الحادثة المؤسفة ووظفها للضغط نفسيا ومعنويا على المجاهدي. فكانت الطائرات تحوم فوق المنطقتين الأولى والثانية. وترمي مناشير مقدمة استسلام حمبلي على أنه إنجاز من إنجازات شعار ديغول »سلم الشجعان«، ومناشير أخرى تحذرنا من الباءات الثلاثة ومناشير أخرى تصور لمين دباغين في شكل نسر كاسر.

كما استغل استسلام حمبلي في وسائل الإعلام أبشع استغلال. وقيل أيضا إنه كان وراء بعض الهجومات على مراكز المجاهدين وعلى مركز قيادة الأركان في غار ديماو. كما استغله الجيش الفرنسي في عمله الدعائي، فكان يطوف به في الأسواق والتجمعات السكانية لإقناع السكان بعدم جدوى محاربة فرنسا. مات قبل الاستقلال في ظروف غامضة، ويرجع أن الفرنسيين صفوه بعدما لم يعودوا في حاجة إليه.
 
رد: الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد في ذمة الله عن عمر يناهز 83 سنة

العقيد سي ناصر

أتوقف هنا عن الاسترسال لأتحدث عن قائد هيئة أركان الشرق محمدي السعيد. لا أحد، بالطبع يساوره أدنى شك، في وطنيته وإخلاصه لقضية شعبه. فقد كان من المجاهدين الأوائل الذين لبوا من دون تردد نداء الوطن. وكان كفاحه النزيه مقرونا بورع ديني مثير للدهشة، وطبعا جبليا قبائليا صعب المراص. كل هذه الخصال جعلت منه شخصية متميزة وغريبة الأطوار في آن واحد. وكان شجاعا، بل متهورا أحيانا، لا يتردد أمام أية صعاب أو مخاطر. وكان يصلي في كل الوضعيات، وفي أي مكان، كما كان متقشفا في مأكله ومشربه. وكان مثله الأعلى هو هتلر والحاج الحسيني مفتي القدس، الذي ربما التقاه خلال الحرب العالمية الثانية. وكان لا يتوقف عن الحديث عنه.

مامن شك أن إخلاص محمدي السعيد ووفاءه لا غبار عليهما من الناحية المثالية، غير أنه كان يحتكم إلى أسلوب التخويف والترعيب، بدل احتكامه للإقناع والحجة. كان حقا من طينة المناضلين الذين عانوا ويلات الاستعمار وأهواله. فأصبحت غاية تحرير بلده تبرر وسيلة بلوغ ذلك. كما كانت نظرته إلى الانضباط أقرب إلى الامتثال والطاعة منها إلى الحجة والإقناع. ولعل خدمته في الجيش الألماني جعلته يميل إلى تبني أساليب الجيوش الكلاسيكية، بدل أساليب حرب الأنصار والعصابات، كان شعاره هو »أمر طبق نقاش أو سؤال«. ولم يكن يدرك بأن المجاهدين هم في الحقيقة إخوة يؤمنون بقضية مشتركة، وليسوا جنودا في جيش نطامي. كان الهم الوحيد لمحمدي السعيد هو إجهاض أية محاولة للخروج عن الطاعة. وكان لا يفرق بين الانضباط والخضوع. وكان تصوره لمسائل الانضباط يصلح لجيش كلاسيكي، وليس لمجاهدين يؤمنون بقضية عادلة ومقدسة. ولم يدرك أن المجاهد قبل أن يطبق أمرا يجب أن يفهم وبعد أن يفهم يجب أن يقتنع وبعد أن يقتنع يجب أن يكون الأمر يخدم القضية التي يؤمن بها.

لقد أثبت محمدي السعيد محدودية نظرته وعدم كفاءته واستخفافه بحياة الرجال.

ذات يوم زارنا في المنطقة الأولى وجمعنا له الجنود ليخطب فيهم. صعد فوق طاولة، مسكنا بها أنا وعبد الرحمان بن سالم حتى لا يسقط منها بسبب ثقل وزنه، ثم شرع كعادته في إلقاء خطاب حماسي بصوته الراعد. لم يكن خطيبا مفوها، لكن حماسته كانت تلهب مشاعر الجنود. وكان هذا بالنسبة إليه جزءا هاما من تصوره للتجنيد ورفع المعنويات والانضباط في تلك الفترة العصبية التي اشتد فيها الإحباط. وختم خطابه بالقول: »...تحيا الجزائر...تحيا الثورة...يحيا المجاهدون...« وحين لم يجد ما يقوله صرخ بأعلى صوته: »...يحيا ربي«. ثم أضاف: »لقد اتفقت مع مفتي فلسطين، صديقي الحاج الحسيني، أننا بعد تحرير الجزائر سنحرر فلسطين«.

بعد ذهابه أخذ أحد الضابط يقلده مضيفا: »الجزائر لم نحررها وهو يريد أن يحرر فلسطين«. وبلغ كلام الضابط محمدي السعيد الذي من المؤكد أن له عيونا في صفوفنا تبلغه كل شيء. فاغتنم فرصة زيارة ثانية إلى المنطقة الأولى ليسألني »هل عندك ضابط اسمه عبد المجيد«، أجبته نعم قال »أحضره الآن«. ففهمت أنه يريد أن يعاقبه، فقلت له »إنه اليوم غائب لأنني كلفته بمهمة في الداخل«. وبهذه الصورة نجا ذلك الضابط النحيف من عقوبة مؤكدة.

في إحدى المرات كلفت نائبي السياسي عبد القادر عبد اللاوي أن يتصل بمحمدي السعيد في غار ديما ويخبره أننا نعاني مضايقات الحرس التونسي، وبعض سكان الحدود خلال عبورنا الحدود وأنهم يساوموننا في السلاح والذخيرة والمؤونة، وطلبت منه التدخل رسميا لحل الإشكال مع السلطات التونسية. لكن كم كانت دهشتي حين علمت أن محمدي أمر عبد اللاوي أن يبلغني بقتلهم كلهم. وحين شرح له عبد اللاوي خطورة هذا، خاصة وأننا نتعامل مع سكان عزل على شريط حدودي يمتد على طول 100 كلم، قال له »اقتلوا النصف وخلوا النصف«.

وفي الحقيقة لم يتغير محمدي السعيد كثيرا بعد الإستقلال، فقد قاده إيمانه إلى تبين شعارات الجبهة الإسلامية للإنقاذ وأصبح من أكبر المتحمسين إلى بناء الدولة الإسلامية. وأذكر أنني استقبلت بعد أحداث أكتوبر جماعة من المجاهدين في الرئاسة. وأخذ يحدثني بنفس اللهجة والنبرة التي عرفتها به خلال الكفاح المسلح.

.

استسلام حمبلي

من الفصول المؤملة التي عاشتها الثورة في أواخر 1958 تمرد علي حمبلي، الضاب في المنطقة الخامسة للولاية الأولى. وقد قيل الكثير عن أسباب استلامه لفرقة الثالثة للخيالة. ومن المرجح أنه انتفض ضد الحكومة المؤقتة وضد كريم، ومحمدي السعيد، تحديدا احتجاجا على أساليب قيادة الحرب. احتل حمبلي مع جنوده قمة جبل سيدي أحمد المشرف على منطقة واسعة حتى الحدود التونسية، وبالنظر إلى مناعة المنطقة كان من الصعب إخراجه منها. واستقدم محمدي السعيد قوات دعم من عدة مناطق ومراكز التدريب. وحاصره من الجهة التونسية لأن الفرنسيين، وقد كانوا على علم بالتمرد، حاصروا المنطقة من جهة التراب الجزائري، وقطعوا عنه التموين، وقد بعث حمبلي إنذارا إلى محمدي السعيد يطلب فيه رفع الحصار عن جنوده وإلا سلم نفسه للفرنسيين، لكن محمدي السعيد رفض الإنذار ورفض التحاور معه. وكان يأخذ بنفسه رشاشا من نوع 7 / 12، ويطلق النار بطريقة عشوائية باتجاه الجبل. استسلم حمبلي إلى الجيش الفرنسي. وقد استغل هذا الأخير هذه الحادثة المؤسفة ووظفها للضغط نفسيا ومعنويا على المجاهدي. فكانت الطائرات تحوم فوق المنطقتين الأولى والثانية. وترمي مناشير مقدمة استسلام حمبلي على أنه إنجاز من إنجازات شعار ديغول »سلم الشجعان«، ومناشير أخرى تحذرنا من الباءات الثلاثة ومناشير أخرى تصور لمين دباغين في شكل نسر كاسر.

كما استغل استسلام حمبلي في وسائل الإعلام أبشع استغلال. وقيل أيضا إنه كان وراء بعض الهجومات على مراكز المجاهدين وعلى مركز قيادة الأركان في غار ديماو. كما استغله الجيش الفرنسي في عمله الدعائي، فكان يطوف به في الأسواق والتجمعات السكانية لإقناع السكان بعدم جدوى محاربة فرنسا. مات قبل الاستقلال في ظروف غامضة، ويرجع أن الفرنسيين صفوه بعدما لم يعودوا في حاجة إليه.
 
رد: الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد في ذمة الله عن عمر يناهز 83 سنة

تمرد حمى لولو

حاولت قيادة الحدود في تونس، تطبيقا لخطة الرائد إيدير، جمع جنود مدارس التكوين تمهيدا لدخولهم إلى الجزائر، وكان حمى لولو أول من استجاب إلى هذا النداء على رأس فيلق كامل من المنطقة الثالثة. لكنه حين أراد عبور الحدود وضعوا جنوده في شاحنات وأرسلوهم إلى مراكز التدريب. فأحس المجاهدون بالإهانة. وانتشرت في صفوفهم مشاعر التمرد والعصيان، ورفضوا تطبيق الأوامر. ولم يفهم المجاهدون الذين أثبتوا شجاعتهم في المعارك وتحدوا خط موريس وشهدوا أجساد رفاقهم تصعق بالكهرباء وأشلاءهم تتناثر في حقول الألغام كيف يطلب منهم الآن أن يعاد تدريبهم على يدي ضباط فارين من الجيش الفرنسي. على إثر هذه الإهانة أعلن حمى لولو خروجه عن النظام، ورفض أي أمر يصدر عن قيادة أركان الشرق أو الحكومة الموقتة. وكانت قيادة أركان الشرق قد استخلصت الدرس من استسلام أحمد حمبلي فلم تقطع التموين عن جةنوده. واستمرت هذه الوضعية إلى غاية سنة 1960. ولما استلم بومدين قيادة الأركان العامة تصرف بحكمة، وحاول وضع حد لتمرد حمى لولو عن طريق الحوار والاقتناع. فطلب من عبد الرحمن بن سالم أن يتصل به، لكن حمى لولو رفض استقباله، وأطلق النار عليه من بعيد. لأن حمى لولو كان يلوم بن سالم على عدم اتخاذ موقف من إعدام عواشرية وتسليمه لأحمد دراية للحكومة الموقتة. وباءت المحاولة الثانية التي قام بها الطاهر الزبيري بالفشل أيضا. ثم لجأ هواري بومدين إلي وطلب مني التوسط بينه وبين الفيلق المتمرد، عرفت حمى لولو في سنة 1956 أثناء الإجتماع الذي عقدناه مع أوعمران ولم ألتق به بعد ذلك. وهو من المجاهدين الأوائل الذين سجلوا مآثر كبرى في القاعدة الشرقية. قصدت المكان الذي تحصن به بالمنطقة الثالثة، وحين أخبروه أن الشاذلي بن جديد قدم للتحاور معه استقبلني بحفاوة كبيرة، وأحسن ضيافتي، وقضيت الليلة في معسكره أشرح له الوضعية الجديدة، ونجحت، بحمد الله، في إقناعه بالعودة إلى النظام كما كنا نقول آنذاك. ومازفلت أذكر جملته الأخيرة »أقنعتني، وأثق في كلامك. على جالك أنت نرجع«.

بعد ذلك كلفني بومدين بالاتصال بالفيلق 56، الفيلق الخامس سابقا، الذي رفض جنوده، وأغلبهم من بني صالح، الامتثال لأوامر قيادة الأركان بالتحرك من المنطقة الموجودة بين طبرقة وعين الدراهم والانتشار في منقار البط، وكان قبل ذلك قد انضم إلى جيش الولاية الثانية، أو »جيش الجمهورية«، كما كان يقول عنه قائده. كنت أعرف أن مشاعر العصيان مستشرية في صفوف جنوده وقادة كتائبه، ومع ذلك غامرت بنفسي. حاولت في البداية إقناع قائده عمار شمام بتنفيذ خطة القيادة، لكنه حاول التملص من مسؤوليته بالقول إن قادة الكتائب هم من يرفض تنفيذ الأمر. فتوجهت مباشرة نحو قائد كتيبة، كانت بالقرب منا، محاولا إقناعه بالتخلي عن موقفه. وحين رفض صفعته أمام جنوده. كان من الممكن أن يطلق الجنود النار علي، وهم يشاهدون قائدهم يهان بهذه الطريقة. وعاد في الأخير عمار شمام إلى رشده، وانتشر الفيلق في المكان الذي حددته قيادة الأركان.

.

النهاية المأساوية لكومندوس حيدوش

قبل استلام هواري بومدين مهامه على رأس قيادة الأركان زارنا كريم بلقاسم ومحمدي السعيد بعد لقاء طرابلس،. وعقدا معنا اجتماعا في المنطقة الثانية طرحت خلاله مسألة عبور مسؤولي الولايات والتشكيلات المتواجدة على الحدود التونسية. ثم طلب كريم بلقاسم مني ومن بن سالم أن نقوم بتأمين عبور كتيبة من جنود الولاية الثالثة. وحين شرحنا له صعوبة اختراق خط موريس، وأن هؤلاء الجنود غير مدربين على رشاشات »طومسون« الثقيلة التي يعبرون بها، والتي كانت لا تزال في شحمها داخل الصناديق، وطلبنا منه إمهالنا فترة من الزمن لتدريب الكتيبة وتحضير عبورها في المكان والزمان المناسبين، تدخل محمدي السعيد مخاطبا بن سالم: »يا سي عبد الرحمن تعرف العيش... دير كما العيش خلط وجوز...« ذهلنا أنا وبن سالم من كلامه اللامسؤول وتهوره وساتخفافه بحياة الجنود. ورفضنا رغم إصرارهما عبور الكتيبة لأنها مغامرة غير محمودة العواقب. كنا نرفض أن نلقي بهؤلاء الجنود الشباب إلى المهلكة. لأننا كنا نعرف أن كريم كان يريد أن يحقق نصرا إعلاميا عندما يسمع زملاؤه أن كتيبة عبرت خط موريس بعد زيارته للحدود.

في شهر جوان 1959 اتخذت قيادة أركان الشرق قرارا يقضي بدخول بعض وحدات الولاية الثانية والثالثة بعد تلقيها تدريبا مكثفا في مدارس واد ملاق، وجاء هذا تطبيقا لقرار القيادة لعدم ولايات الداخل بالسلاح والمؤونة والتجهيزات. وهكذا غادر كومندوس حيدوش مركز الزيتون، وكلف بنقل تجهيزات إرسال من نوع Anrgc9 لإعادة ربط الإتصال بين غار دماو والولاية الثالثة، وكذلك كمية هامة من الأسلحة والأدوية والمال. بينما كلف جنود لزهر دعاس، من الولاية الثانية، بمرافقة الكومندوس ودعمه إلى الولاية الأصلية. بعد وصول الوحدتين إلى مركز قيادة المنطقة الأولى، كلفت أحمد ترخوش بالإشراف على العملية وعينت حداد عبد النور، قائد الناحية العسكرية الأولى، والفاضل بوترفة قائد الناحية العسكرية الثانية، بمرافقة الوحدتين كل في الناحية التي يشرف عليها. وطلبت من الوحدتين أن يقطعا وادي سيبوس باتجاه جبل إيدوغ في نفس الليلة التي يعبرون فيها خط موريس بسبب خطورة المنطقة ووعورتها وتواجد حواجز ومراكز مراقبة عديدة للجيش. ورافقهم في هذه المهمة فوج مختص في نسف الألغام واختراق الأسلاك الشائكة، وزودناهم بزورقين مطاطيين لاجتياز مجاري وادي بوناموسة وسيبوس والممستنقعات العديدة بالمنطقة. في اليوم الموالي التحقت الوحدتان بالناحية التي كان يشرف عليها الفاضل بوترفة الذي قادهم إلى جبل بوعباد. أما المرحلة الثانية فأشرف عليها قائد الناحية حداد عبد النور الذي يعرف المنطقة جيدا بحكم أنه ولد بها. كانت المرحلتان صعبتين بفعل تضاريس المنطقة وكثرة المجاري المائية والمستنقعات وانتشار مراكز المراقبة العسكرية.

كل المؤشرات كانت تدل على نجاح العملية: وحدتان عسكريتان قوامهما 130 جندي جيدة التدريب، وقادة عسكريون لهم تجربة طويلة في محاربة العدو ويعرفون المنطقة جيدا، ومرشدون من الولاية الثانية يعرفون مخاضات وادي سيبوس.

نجح أحمد ترخوش وحداد عبد النور والفاضل بوترفة، مع الفوج المختص في الإختراق، في مرافقة الكتيبتين وعبور الخط. لكن كومندوس حيدوش فشل في اجتياز الواد، بالرغم من أوامري بعدم قضاء الليلة في البساتين المحاذية للوادي. حوصر الكومندوس واستقدم العدو تعزيزات من عنابة والملاح ودام الاشتباك يوما كاملا. واستعمل المجاهدون رشاشات MG الألمانية التي كانت بحوزتهم. وبسبب المقاومة الشرسة التي أبداها المجاهدون اضطر العدو إلى استعمال النابالم والدبابات، وشاهد سكان ضواحي عنابة طائرات T6 تقصف من علو منخفض موقع المجاهدين، وشهد المعركة أيضا فوج من الصحافيين الأنجليز، صادف وجوده المعركة في ذلك اليوم، ورغم فشل العبور إلا أنه كان له صدى كبير في الرأي العام العالمي، لأن الصحافيين الإنجليز نقلوا إلى العالم أن فرنسا فشلت في استعادة السلم.

تختلف الروايات حول فشل هذه العملية. البعض يقول إن المرشدين تخلوا عن الكومندوس، والبعض الآخر يقول إنهم ضلوا الطريق واتجهوا نحو عنابة واضطروا عند بداية المعركة إلى الاختفاء بين وادي سيبوس وسيدي سالم. وآخرون يقولون إن حاجزا عسكريا فرنسيا أوقف مواطنا جزائريا دلهم بالخطأ على المجاهدين ظنا منه أنهم فرنسيون.

استشهد أغلب جنود الكومندوس، ولم ينج منهم إلا ثلاثة أو أربعة أفراد. واليوم ينتصب نصب تذكاري فوق القبر الجماعي تخليدا لأرواح هؤلاء المجاهدين البواسل.
 
رد: الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد في ذمة الله عن عمر يناهز 83 سنة

انتهى الجزء الأول

files.php
 
عودة
أعلى