مناهج الكلية من التجديد إلي التجسيد
توطئة
من الصعب أن يتتبّع الكاتب رحلة تطوير مناهج كلية الملك خالد العسكرية، على مدى ربع قرن، تتبعًا مفصليًا، بيد أن هذه الصعوبة لا تحول دون رسم الملامح العامة، وبيان الأطر الكليّة التي نمت خلالها المناهج وتطوّرت دون الغوص في التفصيلات، أو عرض الجزئيات.
من المسلّم به أن كلية الملك خالد العسكرية نشأت لتكون شيئاً مختلفًا عمّا سبقها في الحرس الوطني؛ أي عن المدارس العسكرية آنذاك، وقد كان الأمر كما خُطّط له. ويُعدّ تكوين المناهج وتنفيذها من أهم سمات ملامح التغيّر والتغيير في الوقت ذاته، كمًّا وكيفًا، بوصف تطوير المناهج يتوخّى في نهاية الأمر تحويل المدخلات؛ أي الطلبة، إلى مخرجات تلبّي طموحات الحرس الوطني. وعليه فقد خرجت مناهج الكلية بصورة مختلفة عما سبقها، مستفيدة من جميع الخبرات الأكاديمية، بما في ذلك الإفادة من مناهج الكليات العالمية التي توازيها وتشترك معها في أهدافها العامة، وهذه الإفادة ملمح طبيعي.
ولاستعراض مسيرة المناهج يجب أن نلتفت أولاً إلى الركائز الأصلية، والأسس المكينة التي تقوم عليها مراحل المناهج أيًا كانت. والركائز هي: المهمة، الرؤية، والأهداف العامة والخاصة. هذه الأبعاد هي المنطلقات الرئيسة للبدء بالضرورة في العمل في كل ما يتعلق بالمناهج. وبناءً عليها تبدأ المراحل الرئيسة لبلورة المناهج بدءاً من طرح الأفكار الأوليّة، وانتهاءً بالتشكّل المادي والممارسة الواقعية. ويمكن إجمال هذه المراحل في ثلاث، هي: تخطيط المناهج، وتصميم المناهج، وتقويم المناهج. هذا باختصار عام.
ويكمن في كل بُعد، أو مرحلة، عددًا من الخطوات الفرعية، والأعمال النظرية، والممارسات العملية التي تؤدي بمجموعها إلى تكامل الرؤى، وتلاقح الأفكار، وإغناء البحث بكل ما يصبّ في صالح المناهج، ويحقق أهدافها، ويجسّد أفضل صورة لبلورة مادتها. وهكذا كان الأمر في تطوير مناهج كلية الملك خالد العسكرية، وما زال الأمر ماضيًا طبقًا لمقتضيات المصلحة العامة، ومتطلبات البيئة الخاصة.
وإلى شيء من العرض الموجز لكل مرحلة أو بُعد؛ لنقف على أبرز ملامح هذه المسيرة التطوّرية، والتطويرية معًا.
المهمة والرؤية
تنبثق مناهج أي معقل أكاديمي من مهمته الرئيسة التي تتبلور في أهدافه الكبرى؛ ومنها الأهداف التعليمية العامة. وهنا يصبح الوعي بالمهمة أمرًا لازبًا، إذ يترتب عليها إدراك الحدود المنهجية، ومعرفة المستويات التعليمية التي يمكن أن تعمل ضمنها الكلية؛ ومهمة كلية الملك خالد العسكرية هي: تعليم وتدريب الطالب ليتخرج ضابطًا برتبة ملازم يعمل في الحرس الوطني. وبقراءة المهمة قراءة فاحصة تتبيّن المفاهيم الكبرى التي تؤطّر مناهج الكلية فتصبح السقف الذي يقنّنها، والمعيار الذي يزنها بغيرها من مناهج أخرى، أو مستويات مغايرة. ومن أهم هذه المفاهيم: التعليم، -التدريب، -الطالب، ورتبة ملازم، والحرس الوطني.
وبناء على الوعي بالمهمة، يمكن تصوّر المناهج بوصفها انعكاسًا للمسلمات المنطقية المبنية على تلك المفاهيم، وهي:
% سيتخرج الطالب ضابطًا برتبة ملازم.
% يحتاج إلى تعليم وتدريب.
% سيعمل بعد التخرّج في الحرس الوطني.
وكل مسلّمة أو مقدمة سالفة تستلزم منطقيًا أمرًا، أو أمورًا معيّنة، تسهم في تكوين مناهج الكلية وتطويرها؛ فالمُسلّمة الأولى تستلزم أن الضابط هو قائد، والقائد يتصف بالاحترافية دومًا، فهي غايته التي يتشبث بها في حياته العسكرية، وهي تتجاوز مجرد المعرفة والمهارات الأساسية، كما أن الرتبة (ملازم) تفرض محددات بوصفها قيودًا منهجية لا يجب تجاوز متطلباتها، وهذا ما يشي بطرح السؤال الرئيس: ماذا يحتاج ضابط المستقبل ليكون قائدًا محترفًا؟ ندرك أن الطالب يتوفّر في البدء على سمات شخصية، هي التي أهَّلته ليكون صالحًا للالتحاق بكلية الملك خالد العسكرية. وتعتبر هذه السمات والخصال معينًا يمكن أن يؤثر على صياغة المناهج من جهة، وعلى تأهيل الطالب من جهة أخرى، بما يفضي إلى استحضار ما تستلزمه خصيصة القيادة بوصفها خصيصة الضابط الرئيسة وما تتطلبه، إذ ينعكس ذلك على بلورة متطلباتها في مناهج قيادية خاصة، وبثّ سمات القيادة وخصائصها في حركات بقية المناهج وسكناتها على مختلف تخصصاتها، نظريًا وعمليًا، وفق برامج علمية تتسم بالدقة والمنهجية.
والمسلّمة الثانية تستلزم أنّ تكوين الطالب تكوينًا معرفيًا يتطلب المزج بين بعدين هما، بعدا: التعليم والتدريب؛ فالتعليم يركّز على النواحي الذهنية التفكيرية؛ أما التدريب فيركّز على الإعداد البدني بكل صنوفه وفنونه، ولا يقتصر، بالطبع، على التربية البدنية، كما قد يحدس عنه ذو النظرة القاصرة. وقد أفضى إدراك هذين البعدين إلى تحديد العلوم التي يمكن أن تُعنى بدءاً بكل جانب من هذين الجانبين؛ أي الجانب التعليمي بشقيه العسكري والأكاديمي (المدني)، والحال كذلك بالشق الذي يُعنى بالجانب التدريبي. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل عُمد إلى مزج ما يمكن مزجه من هذين الجانبين، ليصبحا بُعدًا واحدًا ذا وجهين، فهذا وجه نظريْ وذاك وجه عمليّ.
أما المسلّمة الثالثة، فهي تقرِّر البيئة الخاصة التي سوف يعمل فيها الخريج بما لها من سمات معينة، وخصائص مميزة، فضلاً عن تصور علاقاتها بالبيئة العامة أو العالمية، وكذلك بالبيئات الأخرى المحلية. كل ذلك يعتبر بمثابة متطلبات ضرورية يجب الاستجابة لها، وبلورتها، فهي تنعكس على تقرير المناهج؛ لأن تجاوزها أو التقصير في إيفائها حقها سيؤثر حتمًا على قدرة الضابط القيادية وعلى جاهزيته التأهيلية.
بتحليل تلك المسلمات الثلاث المنبثقة أصلاً من مهمة الكلية أمكن أن تؤسس الرؤية الحالية حيال المناهج، وكذلك أسهمت في التأسيس لصياغة رؤية مستقبلية يمكن أن توصف بأنها هي الرؤية الاستراتيجية لما تميزت به من مقبولية، وواقعية، وقابلية للتكيّف وفق المتغيرات المحلية أو العالمية، بالإضافة إلى كونها تقبل التنقيح والتعديل، وكذلك الاستجابة لكل المتطلبات البيئية؛ لأنه ينبني عليها بناء الاستراتيجيات الفرعية الملائمة التي تكفل نجاح عملية تطوير المناهج في المستقبل، مع ضمان تحقيق أفضل الفوائد لطالب الكلية ثم للحرس الوطني. وقد انعكست أبعاد هذه الرؤية في مراحل تطوير المناهج الثلاث، أي: في التخطيط، والتصميم، والتقويم.
تخطيط المناهج:
انطلاقًا من فهم المهمة الحالية، وتمثّل الرؤية المستقبلية، كانت مرحلة تخطيط المناهج هي المرحلة الأولى في سلّم مراحل تطوير المناهج؛ بوصفها المرحلة الطبيعية للبدء في بناء مناهج أي منظمة أكاديمية، وتكتسب أهميتها من كونها تُعدّ الحجر الأساس في كل ما يتعلق بالمناهج. ولم تكن كلية الملك خالد العسكرية بدعًا من هذه المسلمة الأكاديمية، إذ رسمت الخطوط العريضة، وهيّأت الأرضية الصلبة، ووجّهت الجهود البشرية والمادية نحو تحقيق أهدافها. وعليه، فقد بدأ تأسيس المناهج من خلال لجنة يرأسها صاحب السمو الملكي، النقيب آنذاك متعب بن عبدالله بن عبدالعزيز، وبعضوية عدد من خيرة الخبرات العسكرية والمدنية في عملية التخطيط، أي في جميع العمليات الانتقائية التي تتضمن كل ما يمكن أن يوصَى به للطالب ليكوّن زاده المعرفي في الكلية. وقد بدأت تلك اللجنة الموقّرة تخطيط المناهج، بوصفها انعكاسًا لمتقضيات مسلمات مهمة الكلية، وكان ذلك وفق عدد من المراحل الجزئية، وهي: تحليل البيئة، وصياغة الأهداف العامة، وتحديد المقررات التي ترضي تلك الأهداف.
وهكذا كان دأب اللجنة في أعمالها، إذ نظرت إلى كل الأبعاد البيئية التي يمكن أن تسهم في التأثير في عملية بناء المناهج، سواء كان التأثير بعيدًا أو قريبًا، واضعة في الاعتبار تلك الخطوات التطويرية التي يمر بها الحرس الوطني، ومتطلباتها، وانعكاساتها في تحديد الكفاءات والمؤهلات. ولم تغفل اللجنة المستوى الأكاديمي الذي يتميز به الطالب ذلك الحين، وغير مُغفِلةٍ مستواه الثقافي الذي ينمّ عن خلفياته المعرفية الثرية، ومستواه العلمي الراقي، ومدركة الفروقات التي أصبحت علامة بارزة على اتساع الهوة بين طالب الأمس وطالب اليوم، بما في ذلك الفروق الفردية، والقدرات الذهنية، والإمكانات الشمولية التي صاحبت تلك المرحلة. مع الأخذ في الحسبان وفرة أعداد الطلبة، مما يمنح الفرصة بإجراء الفرز والانتقاء. كلّ هذه الأبعاد الذهنية كانت حاضرة في هذه المرحلة، ولم يكن حضورها بالتأكيد حضورًا صوريًا، بل كان حضورًا له مدلوله وأثره الذي انعكس على المناهج في لاحق الأيام.
وانعكاسًا لنتائج تحليل البيئة بدأ تقرير أهداف التعليم والتدريب العامة التي تكفل إعادة تشكيل وتهيئة شخصية الطالب ليغدو قائدًا محترفًا. وقد استأثر التركيز على الاحترافية بالهم الأكبر، بوصفها أسّ القيادة وركيزتها الرئيسة، واستلزم ذلك عدم إغفال أي محور يمكن أن يسهم في بلورتها. ومن ذلك إعداد الطالب إعداداً متكاملاً بوصفه قائدًا عسكريًا، ومواطنًا صالحًا، وعضوًا اجتماعيًا نافعًا. وكان تحديد الأهداف من أهم خطوات مرحلة تخطيط المناهج، وتُستمدُّ هذه الأهداف من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، وخصوصية المملكة العربية السعودية، وتقاليد مجتمعنا السعودي، بالإضافة إلى ما أملته طبيعة العصر ومستجداته. وقد ترتبت الأهداف ترتيبًا هرميًا انطلاقًا من الأهداف العامة، يليها هدف المقرر الواحد، فأهداف دروسه الفرعية، إذ تكوّنت الأهداف في طبقات متراكمة، لتؤدي كل طبقة في المستوى الأدنى إلى تحقيق أهداف الطبقة التي تعلوها، بوصفها هي الطبقة التي تحدد الأهداف العليا، وهكذا دواليك لتصل إلى تحقيق الأهداف العامة التي ترضي في نهاية الأمر متطلبات مهمة كلية الملك خالد العسكرية.
وبما أن الأهداف لا يمكن أن تتحقق إلاّ من خلال محتويات معرفية، فإنه على ضوء تقرير أهداف التعليم والتدريب شرعت اللجنة، أولاً، في تقرير المناهج العامة التي يمكن أن ترضي هذه الأهداف، وخصصت لكل منهج أهدافه وشروطه التعليمية، بجانب ذلك الشروط الزمانية والمكانية. وقد تشكّلت مقررات الكلية في ثلاثة أطر كبرى، وهي:
% المقررات العسكرية.
% المقررات الأكاديمية (المدنية) بشقيها: العلوم البحتة، والعلوم الإنسانية.
% المقررات البدنية.
ويبدو لأول وهلة أنَّ هذه العلوم عديمة الانسجام، كما يوحي بذلك تصنيفها التقليدي، وقد يكون هذا صحيحًا، إلاّ أنّ تحديد الأهداف وتصنيفها جعل من الممكن صهر هذه المتفرقات في بوتقة واحدة بطريقة علمية واضحة المسالك. ولإرضاء الأهداف عمليًا، كان السبيل هو اختيار المقررات بصورة عامة، ثم تحديد محتوياتها المعرفية بطريقة تضمن تحقيق أهداف كل مقرر على حدة، وصولاً إلى ضمان تحقيق الأهداف العامة، ولأجل تحقيق ذلك فقد كان هناك معايير لاختيار المحتوى. ويمكن إجمالها في:
% صلاحية المعارف المنتقاة، من حيث جدّتها، بوصفها تمثّل أحدث ما توصّل إليه البحث.
% ملاءمتها لطبيعة البيئة، وفق نتائج تحليلها، ومدى منفعتها للطالب عمليًا.
% الأهمية، وذلك بمعرفة أولويات العلوم والمعارف في تكوين الطالب، فالضابط، ومدى إمكانية إسهام هذا العلم أو ذاك من خلال الخبرات والمفاهيم.
% الواقعية، وذلك باختيار المحتوى الذي يناسب الوقت المخصص، سواء زمن التعلّم والتدرب العام؛ أي السنوات الثلاث، أو الزمن المخصص لكل مقرّر من هذه المقررات، طبقًا لثقله الأكاديمي وطبيعة مادته العلمية.
تصميم المناهج:
هذه المرحلة هي المرحلة التي تجسّد ربط الأهداف من جهة بالمحتويات المعرفية من جهة أخرى وفق أسلوب محكم، ومعايير واضحة، تأخذ في الحسبان عددًا من العناصر، لتكون في النهاية كيانًا واحدًا متسقًا ذا تدرّج معرفي منضبط ومثمر. وتتضمن هذه المرحلة اختيار المحتوى العلمي، وصياغته، وتوزيع المقررات على الفصول والسنوات وترتيبها، واختيار وسائل التدريب وطرق التعليم.
ويمكن القول إن هناك تنظيمًا منطقيًا لمحتويات المناهج بعامة، ومن أبسط مبادئه الانتقال من المحسوس إلى المجرّد أو المعنوي، ومن المعروف إلى المجهول، ومن البسيط إلى المركّب، وهكذا. ويكفي أن تدريب حركات المشاة هو أول مقرر يتشرّبه الطالب ليولّد فيه قيم الانضباط، والتراصّ، والنظام الفردي، والعمل الجماعي، كما يحقق الألفة، والتنافس الشريف، وغير هذا كثير، متخذاً الطالب من ذاته ميدان التعلّم، وميزان التقويم.
وترتيب المقررات لا يأتي عفو الخاطر، ولا نتيجة لمحض الصدف، بل وفق عملية علمية مدروسة. وقد لا نبالغ إن قلنا إن هذه المرحلة هي من أشقّ مراحل تطوير المناهج، وليست المشقة نابعة، فقط، من صعوبة الموازنة بين المتطلبات والاستجابات، أو بين المدخلات والمخرجات، أو أنها نابعة من مطالب الدقة للتوزيع الزمني من ساعات أكاديمية ومحاضرات. فبالرغم من صحة ذلك، إلاّ أن المشقة تكمن في تحقيق التوازن المعرفي الذي تصطبغ به العلوم والمعارف، بشقيها النظري والعلمي، العسكري والأكاديمي؛ وبما يكفل تهيئة الطالب معرفيًا، وإدراكيًا، ونفسيًا، واجتماعيًا، وبدنيًا، بالإضافة إلى مراعاة متطلبات تأسيس أبعاد القيادة في شخصيته بصقل ملكاته، وتنمية مواهبه، وشحذ همّته، وبناء الثقة في نفسه، وتعويده وتدريبه على صناعة القرار، وامتلاك القدرات للدفاع عنه، وإقناع الآخرين بصلاحيته، أو قبول النقد وتعديل الرأي.
وقد تزداد الصعوبة، متى ما استحضر مطوّرو المناهج علاقة المقررات الوثيقة ببعضها البعض، فمن البدهي أن العلاقات إما علاقات متوالية (التدرّج)، أو علاقات متوازية (التكامل)، فالعلاقات المتوالية هي بناء المعارف والمقررات على بعضها البعض، بحيث تصبح كل معرفة أو مقرر لبنة سابقة للبنة لاحقة في معمار المناهج، بناءً على تدرّج معيار البساطة فالتركيب، أو نقل الطالب من الخبرات البسيطة إلى الخبرات المعقّدة، ويتجسّد ذلك على سبيل المثال في مقررات التكتيك التي تبدأ من مقررات بناء الذات تكتيكيًا، وتدريبها عمليًا؛ أي من مقررات المهارات الفردية، فالمهارات المتقدمة، وصولاً إلى تكتيك المشاة الآلية بصورة متراصة مترابطة يفضي كلّ منها إلى الآخر في سلّميّة معرفية متصاعدة لتتسق مع مقررات الإسناد بجميع فئاته، سواء مقررات إسناد القتال، أو مقررات خدمات إسناد القتال، لتتوّج كل هذه المعارف بمقررات القيادة وواجبات الأركان. وليس الأمر محصورًا في المقررات العسكرية، بل توزّع المقررات الأكاديمية في هذه المرحلة بالطريقة العلاقية نفسها بين مقررات المنهج الواحد، مثل: القرآن الكريم، والثقافة الإسلامية، والكيمياء، والفيزياء، والحاسب الآلي، والرياضيات، وهلم جرّا، إذ لا نجد مقرراً واحدًا لا يربطه بغيره من المقررات رابط المعرفة المتنامية بين مفرداته.
ولا تتوقف العلاقة على هذه المتوالية المعرفية، بل لابد أن يكون هناك علاقة توازٍ بين العلوم والمعارف بغض النظر عن تصنيفها التقليدي، أي بصورة تكاملية، وهنا تكمن الصعوبة في أقوى مراحلها. وما يبرر ذلك، أنها تنحو منحى صياغة شخصية الطلاب صياغةً تتوفّر فيها جميع السمات والخصائص القيادية؛ ليتم التعاضد والتلاقح، مكتسية بالتميّز الاحترافي؛ فالعلوم الإنسانية تتوازى مع العلوم العسكرية، والأمر نفسه مع العلوم البحتة في تناغم مقصود، وتجاذبٍ متعمّد، يختلط فيه الدرس النهاري بآخر ليلي، والجهد البدني بالكدّ الذهني.
أما ما يتعلق بطرق التعليم والتدريب، فقد تم اختيار أحدث الطرق وأكثر الوسائل جودة؛ من وسائل بصرية وسمعية، بالإضافة إلى التركيز على الجانب العملي، ليكتسب الطالب خبراته القيادية، ويؤكّد معلوماته المعرفية عن طريق العمل المحسوس المباشر، سواء في قاعة المحاضرات، أو في ميادين التدريب، بإضفاء الواقع الفعلي على جميع مجريات التدريب، وفق برامج معدّة إعدادًا محكمًا، بطريقة تتسق مع مستوى الطالب الإدراكي، ومتطلبات مرحلته الدراسية. كما يتم توظيف الإمكانات التي يمكن أن تكفل تحقيق المشاهدة الحسّية والملاحظة التجريبية، وصولاً إلى الاعتماد على التفكير المجرّد لحل المشكلات، ومواجهة المواقف الطارئة.
تقويم المناهج:
يُعتبر تقويم المناهج من أهم خطوات التطوير، ويتم ذلك من خلال نظام منضبط يكفل الوقوف على كل ما له علاقة بالمعرفة من جميع جوانبها، وبالأحرى كل ما يشكّل جزءاً من المناهج، ولا يستثنى من ذلك الطالب وأستاذه، إذ لا تقف عملية التقويم على المقررات فحسب، بوصف هذه المرحلة هي مرحلة تشخيص وفحص دقيق. ونتائج التقويم تنبني عليها خطوات تطويرية مهمة في أكثر من اتجاه، طبقًا لمناسبتها، ووفقًا لأهميتها؛ إذ تصبح نتائج التقويم إحدى روافد العملية التطويرية المستقبلية للمناهج، ولكنها ليست الوحيدة.
وبهذا يغدو من السهل التوقُّع، وكذلك الاستجابة لأيّ تغيير في الحرس الوطني، أو البيئة الوطنية، أو العالمية، بما يتناسب مع مهمة الكلية ومع أهدافها العامة، ولتتسق المناهج مع ما يتطلبه إعداد ضابط المستقبل الذي يُنتظر منه أن يعمل في الحرس الوطني بكل كفاءة واقتدار. ومن أبرز التغييرات الناجمة عن تفعيل مرحلة التقويم، تلك الإضافات والتنقيحات التي تستجيب للتغيّرات في الحرس الوطني، كما هو الأمر عند دخول أسلحة حديثة إلى الخدمة، أو تغييرات في العقيدة العسكرية، أو في طرق التدريب. أما في البيئة المحلية، فهناك تغييرات يمكن إدراكها بوصفها نتيجة للتقويم المستمر والمطرد مثل: ثبوت الحاجة لإدخال مناهج الدفاع ضد الحرب النووية، والجرثومية، والكيميائية، بعد حرب تحرير الكويت على سبيل المثال. وليس الأمر يقف عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى تطوير ما يعدّ انعكاسًا لتأثير البيئة العالمية، كما هو الحال في مكافحة الإرهاب وأمن المنشآت، إذ غدا إدراج هذه المقررات من قبيل الضرورة العالمية التي يشترك فيها جميع الناس دون النظر إلى الفوارق الكبرى، إلاّ بقدر ما تمليه خصوصيات الثقافات.
ولا يمكن إغفال التطورات العلمية التي يتضح مدى الحاجة إليها، بوصفها ضرورة عملية، مثل تطوّر نظريات القيادة، بما يتواكب مع قيادة إنسان هذا العصر، بالإضافة إلى شيوع مهارات التواصل وتحسين الذات مثلاً، مما جعل التدريب عليها وإتقانها مطلبًا ضروريًا للقائد، بوصف مهارات التواصل من أساسيات القيادة.
ولا تنحصر مرحلة التقويم في أبعاد المحتوى المعرفي فحسب، بل تتجاوزها إلى ما يتعلّق بزمان التعليم- التدريب ومكانه، وبخصائص المعلم- المدرب ومدى إمكانية تطويرها تطويرًا متناميًا إيجابيًا. وعليه، فالتطوير يقوم على أسس عدة، منها: الشمول، بدءاً بمراجعة أهداف التعليم، ومقرراته وفحصها في ضوء المستجدات الطارئة، والطموحات الجارية. وتُعدّ صفة الاستمرارية من أهم الأسس التي تسم تقويم المناهج، وذلك وفق مواعيد محددة وفواصل زمنية معلومة. وهي مصاحبة لعملية التعلّم، ويتم التقويم من خلال خصيصة التعاون، وهذه إحدى الأسس المركزية فيها، إذ يشترك فيها الطالب، والمعلم، والجناح المختص، إما بمبادرات شفهية تارة أو مكتوبة تارات أخرى، أو من خلال وسائل علمية أخرى، منها اللجان المختصة بمراجعة كل ما يتعلق بالمناهج، واللجان المتفرعة عنها، وكذلك بوسائل متعددة، مثل: الاستبانات، والمقابلات الشخصية، واللقاءات الرسمية وغير الرسمية. وكل ذلك يجري بموضوعية وتنوّع مثمر. ويمكن القول إن هذه المرحلة هي التي تحرك دورة تطوير المناهج مجددًا للعودة إلى نقاط البدء ومواصلة السير نحو تحقيق الأهداف بثبات واتزان، ولكن بمرونة وسلاسة.
نختم بما بدأنا به، بتكرار القول: إنه من المتعذّر تدوين كل ما يتعلق بتطوير المناهج في كلية الملك خالد العسكرية، ولعل ما أشرنا إليه في هذه الشذرات وتلك المتفرقات يصوغ إطارًا عامًا يضيئه عقل القارئ ليستدل به على مكامن العمل ومفاصل الرحلة
توطئة
من الصعب أن يتتبّع الكاتب رحلة تطوير مناهج كلية الملك خالد العسكرية، على مدى ربع قرن، تتبعًا مفصليًا، بيد أن هذه الصعوبة لا تحول دون رسم الملامح العامة، وبيان الأطر الكليّة التي نمت خلالها المناهج وتطوّرت دون الغوص في التفصيلات، أو عرض الجزئيات.
من المسلّم به أن كلية الملك خالد العسكرية نشأت لتكون شيئاً مختلفًا عمّا سبقها في الحرس الوطني؛ أي عن المدارس العسكرية آنذاك، وقد كان الأمر كما خُطّط له. ويُعدّ تكوين المناهج وتنفيذها من أهم سمات ملامح التغيّر والتغيير في الوقت ذاته، كمًّا وكيفًا، بوصف تطوير المناهج يتوخّى في نهاية الأمر تحويل المدخلات؛ أي الطلبة، إلى مخرجات تلبّي طموحات الحرس الوطني. وعليه فقد خرجت مناهج الكلية بصورة مختلفة عما سبقها، مستفيدة من جميع الخبرات الأكاديمية، بما في ذلك الإفادة من مناهج الكليات العالمية التي توازيها وتشترك معها في أهدافها العامة، وهذه الإفادة ملمح طبيعي.
ولاستعراض مسيرة المناهج يجب أن نلتفت أولاً إلى الركائز الأصلية، والأسس المكينة التي تقوم عليها مراحل المناهج أيًا كانت. والركائز هي: المهمة، الرؤية، والأهداف العامة والخاصة. هذه الأبعاد هي المنطلقات الرئيسة للبدء بالضرورة في العمل في كل ما يتعلق بالمناهج. وبناءً عليها تبدأ المراحل الرئيسة لبلورة المناهج بدءاً من طرح الأفكار الأوليّة، وانتهاءً بالتشكّل المادي والممارسة الواقعية. ويمكن إجمال هذه المراحل في ثلاث، هي: تخطيط المناهج، وتصميم المناهج، وتقويم المناهج. هذا باختصار عام.
ويكمن في كل بُعد، أو مرحلة، عددًا من الخطوات الفرعية، والأعمال النظرية، والممارسات العملية التي تؤدي بمجموعها إلى تكامل الرؤى، وتلاقح الأفكار، وإغناء البحث بكل ما يصبّ في صالح المناهج، ويحقق أهدافها، ويجسّد أفضل صورة لبلورة مادتها. وهكذا كان الأمر في تطوير مناهج كلية الملك خالد العسكرية، وما زال الأمر ماضيًا طبقًا لمقتضيات المصلحة العامة، ومتطلبات البيئة الخاصة.
وإلى شيء من العرض الموجز لكل مرحلة أو بُعد؛ لنقف على أبرز ملامح هذه المسيرة التطوّرية، والتطويرية معًا.
المهمة والرؤية
تنبثق مناهج أي معقل أكاديمي من مهمته الرئيسة التي تتبلور في أهدافه الكبرى؛ ومنها الأهداف التعليمية العامة. وهنا يصبح الوعي بالمهمة أمرًا لازبًا، إذ يترتب عليها إدراك الحدود المنهجية، ومعرفة المستويات التعليمية التي يمكن أن تعمل ضمنها الكلية؛ ومهمة كلية الملك خالد العسكرية هي: تعليم وتدريب الطالب ليتخرج ضابطًا برتبة ملازم يعمل في الحرس الوطني. وبقراءة المهمة قراءة فاحصة تتبيّن المفاهيم الكبرى التي تؤطّر مناهج الكلية فتصبح السقف الذي يقنّنها، والمعيار الذي يزنها بغيرها من مناهج أخرى، أو مستويات مغايرة. ومن أهم هذه المفاهيم: التعليم، -التدريب، -الطالب، ورتبة ملازم، والحرس الوطني.
وبناء على الوعي بالمهمة، يمكن تصوّر المناهج بوصفها انعكاسًا للمسلمات المنطقية المبنية على تلك المفاهيم، وهي:
% سيتخرج الطالب ضابطًا برتبة ملازم.
% يحتاج إلى تعليم وتدريب.
% سيعمل بعد التخرّج في الحرس الوطني.
وكل مسلّمة أو مقدمة سالفة تستلزم منطقيًا أمرًا، أو أمورًا معيّنة، تسهم في تكوين مناهج الكلية وتطويرها؛ فالمُسلّمة الأولى تستلزم أن الضابط هو قائد، والقائد يتصف بالاحترافية دومًا، فهي غايته التي يتشبث بها في حياته العسكرية، وهي تتجاوز مجرد المعرفة والمهارات الأساسية، كما أن الرتبة (ملازم) تفرض محددات بوصفها قيودًا منهجية لا يجب تجاوز متطلباتها، وهذا ما يشي بطرح السؤال الرئيس: ماذا يحتاج ضابط المستقبل ليكون قائدًا محترفًا؟ ندرك أن الطالب يتوفّر في البدء على سمات شخصية، هي التي أهَّلته ليكون صالحًا للالتحاق بكلية الملك خالد العسكرية. وتعتبر هذه السمات والخصال معينًا يمكن أن يؤثر على صياغة المناهج من جهة، وعلى تأهيل الطالب من جهة أخرى، بما يفضي إلى استحضار ما تستلزمه خصيصة القيادة بوصفها خصيصة الضابط الرئيسة وما تتطلبه، إذ ينعكس ذلك على بلورة متطلباتها في مناهج قيادية خاصة، وبثّ سمات القيادة وخصائصها في حركات بقية المناهج وسكناتها على مختلف تخصصاتها، نظريًا وعمليًا، وفق برامج علمية تتسم بالدقة والمنهجية.
والمسلّمة الثانية تستلزم أنّ تكوين الطالب تكوينًا معرفيًا يتطلب المزج بين بعدين هما، بعدا: التعليم والتدريب؛ فالتعليم يركّز على النواحي الذهنية التفكيرية؛ أما التدريب فيركّز على الإعداد البدني بكل صنوفه وفنونه، ولا يقتصر، بالطبع، على التربية البدنية، كما قد يحدس عنه ذو النظرة القاصرة. وقد أفضى إدراك هذين البعدين إلى تحديد العلوم التي يمكن أن تُعنى بدءاً بكل جانب من هذين الجانبين؛ أي الجانب التعليمي بشقيه العسكري والأكاديمي (المدني)، والحال كذلك بالشق الذي يُعنى بالجانب التدريبي. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل عُمد إلى مزج ما يمكن مزجه من هذين الجانبين، ليصبحا بُعدًا واحدًا ذا وجهين، فهذا وجه نظريْ وذاك وجه عمليّ.
أما المسلّمة الثالثة، فهي تقرِّر البيئة الخاصة التي سوف يعمل فيها الخريج بما لها من سمات معينة، وخصائص مميزة، فضلاً عن تصور علاقاتها بالبيئة العامة أو العالمية، وكذلك بالبيئات الأخرى المحلية. كل ذلك يعتبر بمثابة متطلبات ضرورية يجب الاستجابة لها، وبلورتها، فهي تنعكس على تقرير المناهج؛ لأن تجاوزها أو التقصير في إيفائها حقها سيؤثر حتمًا على قدرة الضابط القيادية وعلى جاهزيته التأهيلية.
بتحليل تلك المسلمات الثلاث المنبثقة أصلاً من مهمة الكلية أمكن أن تؤسس الرؤية الحالية حيال المناهج، وكذلك أسهمت في التأسيس لصياغة رؤية مستقبلية يمكن أن توصف بأنها هي الرؤية الاستراتيجية لما تميزت به من مقبولية، وواقعية، وقابلية للتكيّف وفق المتغيرات المحلية أو العالمية، بالإضافة إلى كونها تقبل التنقيح والتعديل، وكذلك الاستجابة لكل المتطلبات البيئية؛ لأنه ينبني عليها بناء الاستراتيجيات الفرعية الملائمة التي تكفل نجاح عملية تطوير المناهج في المستقبل، مع ضمان تحقيق أفضل الفوائد لطالب الكلية ثم للحرس الوطني. وقد انعكست أبعاد هذه الرؤية في مراحل تطوير المناهج الثلاث، أي: في التخطيط، والتصميم، والتقويم.
تخطيط المناهج:
انطلاقًا من فهم المهمة الحالية، وتمثّل الرؤية المستقبلية، كانت مرحلة تخطيط المناهج هي المرحلة الأولى في سلّم مراحل تطوير المناهج؛ بوصفها المرحلة الطبيعية للبدء في بناء مناهج أي منظمة أكاديمية، وتكتسب أهميتها من كونها تُعدّ الحجر الأساس في كل ما يتعلق بالمناهج. ولم تكن كلية الملك خالد العسكرية بدعًا من هذه المسلمة الأكاديمية، إذ رسمت الخطوط العريضة، وهيّأت الأرضية الصلبة، ووجّهت الجهود البشرية والمادية نحو تحقيق أهدافها. وعليه، فقد بدأ تأسيس المناهج من خلال لجنة يرأسها صاحب السمو الملكي، النقيب آنذاك متعب بن عبدالله بن عبدالعزيز، وبعضوية عدد من خيرة الخبرات العسكرية والمدنية في عملية التخطيط، أي في جميع العمليات الانتقائية التي تتضمن كل ما يمكن أن يوصَى به للطالب ليكوّن زاده المعرفي في الكلية. وقد بدأت تلك اللجنة الموقّرة تخطيط المناهج، بوصفها انعكاسًا لمتقضيات مسلمات مهمة الكلية، وكان ذلك وفق عدد من المراحل الجزئية، وهي: تحليل البيئة، وصياغة الأهداف العامة، وتحديد المقررات التي ترضي تلك الأهداف.
وهكذا كان دأب اللجنة في أعمالها، إذ نظرت إلى كل الأبعاد البيئية التي يمكن أن تسهم في التأثير في عملية بناء المناهج، سواء كان التأثير بعيدًا أو قريبًا، واضعة في الاعتبار تلك الخطوات التطويرية التي يمر بها الحرس الوطني، ومتطلباتها، وانعكاساتها في تحديد الكفاءات والمؤهلات. ولم تغفل اللجنة المستوى الأكاديمي الذي يتميز به الطالب ذلك الحين، وغير مُغفِلةٍ مستواه الثقافي الذي ينمّ عن خلفياته المعرفية الثرية، ومستواه العلمي الراقي، ومدركة الفروقات التي أصبحت علامة بارزة على اتساع الهوة بين طالب الأمس وطالب اليوم، بما في ذلك الفروق الفردية، والقدرات الذهنية، والإمكانات الشمولية التي صاحبت تلك المرحلة. مع الأخذ في الحسبان وفرة أعداد الطلبة، مما يمنح الفرصة بإجراء الفرز والانتقاء. كلّ هذه الأبعاد الذهنية كانت حاضرة في هذه المرحلة، ولم يكن حضورها بالتأكيد حضورًا صوريًا، بل كان حضورًا له مدلوله وأثره الذي انعكس على المناهج في لاحق الأيام.
وانعكاسًا لنتائج تحليل البيئة بدأ تقرير أهداف التعليم والتدريب العامة التي تكفل إعادة تشكيل وتهيئة شخصية الطالب ليغدو قائدًا محترفًا. وقد استأثر التركيز على الاحترافية بالهم الأكبر، بوصفها أسّ القيادة وركيزتها الرئيسة، واستلزم ذلك عدم إغفال أي محور يمكن أن يسهم في بلورتها. ومن ذلك إعداد الطالب إعداداً متكاملاً بوصفه قائدًا عسكريًا، ومواطنًا صالحًا، وعضوًا اجتماعيًا نافعًا. وكان تحديد الأهداف من أهم خطوات مرحلة تخطيط المناهج، وتُستمدُّ هذه الأهداف من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، وخصوصية المملكة العربية السعودية، وتقاليد مجتمعنا السعودي، بالإضافة إلى ما أملته طبيعة العصر ومستجداته. وقد ترتبت الأهداف ترتيبًا هرميًا انطلاقًا من الأهداف العامة، يليها هدف المقرر الواحد، فأهداف دروسه الفرعية، إذ تكوّنت الأهداف في طبقات متراكمة، لتؤدي كل طبقة في المستوى الأدنى إلى تحقيق أهداف الطبقة التي تعلوها، بوصفها هي الطبقة التي تحدد الأهداف العليا، وهكذا دواليك لتصل إلى تحقيق الأهداف العامة التي ترضي في نهاية الأمر متطلبات مهمة كلية الملك خالد العسكرية.
وبما أن الأهداف لا يمكن أن تتحقق إلاّ من خلال محتويات معرفية، فإنه على ضوء تقرير أهداف التعليم والتدريب شرعت اللجنة، أولاً، في تقرير المناهج العامة التي يمكن أن ترضي هذه الأهداف، وخصصت لكل منهج أهدافه وشروطه التعليمية، بجانب ذلك الشروط الزمانية والمكانية. وقد تشكّلت مقررات الكلية في ثلاثة أطر كبرى، وهي:
% المقررات العسكرية.
% المقررات الأكاديمية (المدنية) بشقيها: العلوم البحتة، والعلوم الإنسانية.
% المقررات البدنية.
ويبدو لأول وهلة أنَّ هذه العلوم عديمة الانسجام، كما يوحي بذلك تصنيفها التقليدي، وقد يكون هذا صحيحًا، إلاّ أنّ تحديد الأهداف وتصنيفها جعل من الممكن صهر هذه المتفرقات في بوتقة واحدة بطريقة علمية واضحة المسالك. ولإرضاء الأهداف عمليًا، كان السبيل هو اختيار المقررات بصورة عامة، ثم تحديد محتوياتها المعرفية بطريقة تضمن تحقيق أهداف كل مقرر على حدة، وصولاً إلى ضمان تحقيق الأهداف العامة، ولأجل تحقيق ذلك فقد كان هناك معايير لاختيار المحتوى. ويمكن إجمالها في:
% صلاحية المعارف المنتقاة، من حيث جدّتها، بوصفها تمثّل أحدث ما توصّل إليه البحث.
% ملاءمتها لطبيعة البيئة، وفق نتائج تحليلها، ومدى منفعتها للطالب عمليًا.
% الأهمية، وذلك بمعرفة أولويات العلوم والمعارف في تكوين الطالب، فالضابط، ومدى إمكانية إسهام هذا العلم أو ذاك من خلال الخبرات والمفاهيم.
% الواقعية، وذلك باختيار المحتوى الذي يناسب الوقت المخصص، سواء زمن التعلّم والتدرب العام؛ أي السنوات الثلاث، أو الزمن المخصص لكل مقرّر من هذه المقررات، طبقًا لثقله الأكاديمي وطبيعة مادته العلمية.
تصميم المناهج:
هذه المرحلة هي المرحلة التي تجسّد ربط الأهداف من جهة بالمحتويات المعرفية من جهة أخرى وفق أسلوب محكم، ومعايير واضحة، تأخذ في الحسبان عددًا من العناصر، لتكون في النهاية كيانًا واحدًا متسقًا ذا تدرّج معرفي منضبط ومثمر. وتتضمن هذه المرحلة اختيار المحتوى العلمي، وصياغته، وتوزيع المقررات على الفصول والسنوات وترتيبها، واختيار وسائل التدريب وطرق التعليم.
ويمكن القول إن هناك تنظيمًا منطقيًا لمحتويات المناهج بعامة، ومن أبسط مبادئه الانتقال من المحسوس إلى المجرّد أو المعنوي، ومن المعروف إلى المجهول، ومن البسيط إلى المركّب، وهكذا. ويكفي أن تدريب حركات المشاة هو أول مقرر يتشرّبه الطالب ليولّد فيه قيم الانضباط، والتراصّ، والنظام الفردي، والعمل الجماعي، كما يحقق الألفة، والتنافس الشريف، وغير هذا كثير، متخذاً الطالب من ذاته ميدان التعلّم، وميزان التقويم.
وترتيب المقررات لا يأتي عفو الخاطر، ولا نتيجة لمحض الصدف، بل وفق عملية علمية مدروسة. وقد لا نبالغ إن قلنا إن هذه المرحلة هي من أشقّ مراحل تطوير المناهج، وليست المشقة نابعة، فقط، من صعوبة الموازنة بين المتطلبات والاستجابات، أو بين المدخلات والمخرجات، أو أنها نابعة من مطالب الدقة للتوزيع الزمني من ساعات أكاديمية ومحاضرات. فبالرغم من صحة ذلك، إلاّ أن المشقة تكمن في تحقيق التوازن المعرفي الذي تصطبغ به العلوم والمعارف، بشقيها النظري والعلمي، العسكري والأكاديمي؛ وبما يكفل تهيئة الطالب معرفيًا، وإدراكيًا، ونفسيًا، واجتماعيًا، وبدنيًا، بالإضافة إلى مراعاة متطلبات تأسيس أبعاد القيادة في شخصيته بصقل ملكاته، وتنمية مواهبه، وشحذ همّته، وبناء الثقة في نفسه، وتعويده وتدريبه على صناعة القرار، وامتلاك القدرات للدفاع عنه، وإقناع الآخرين بصلاحيته، أو قبول النقد وتعديل الرأي.
وقد تزداد الصعوبة، متى ما استحضر مطوّرو المناهج علاقة المقررات الوثيقة ببعضها البعض، فمن البدهي أن العلاقات إما علاقات متوالية (التدرّج)، أو علاقات متوازية (التكامل)، فالعلاقات المتوالية هي بناء المعارف والمقررات على بعضها البعض، بحيث تصبح كل معرفة أو مقرر لبنة سابقة للبنة لاحقة في معمار المناهج، بناءً على تدرّج معيار البساطة فالتركيب، أو نقل الطالب من الخبرات البسيطة إلى الخبرات المعقّدة، ويتجسّد ذلك على سبيل المثال في مقررات التكتيك التي تبدأ من مقررات بناء الذات تكتيكيًا، وتدريبها عمليًا؛ أي من مقررات المهارات الفردية، فالمهارات المتقدمة، وصولاً إلى تكتيك المشاة الآلية بصورة متراصة مترابطة يفضي كلّ منها إلى الآخر في سلّميّة معرفية متصاعدة لتتسق مع مقررات الإسناد بجميع فئاته، سواء مقررات إسناد القتال، أو مقررات خدمات إسناد القتال، لتتوّج كل هذه المعارف بمقررات القيادة وواجبات الأركان. وليس الأمر محصورًا في المقررات العسكرية، بل توزّع المقررات الأكاديمية في هذه المرحلة بالطريقة العلاقية نفسها بين مقررات المنهج الواحد، مثل: القرآن الكريم، والثقافة الإسلامية، والكيمياء، والفيزياء، والحاسب الآلي، والرياضيات، وهلم جرّا، إذ لا نجد مقرراً واحدًا لا يربطه بغيره من المقررات رابط المعرفة المتنامية بين مفرداته.
ولا تتوقف العلاقة على هذه المتوالية المعرفية، بل لابد أن يكون هناك علاقة توازٍ بين العلوم والمعارف بغض النظر عن تصنيفها التقليدي، أي بصورة تكاملية، وهنا تكمن الصعوبة في أقوى مراحلها. وما يبرر ذلك، أنها تنحو منحى صياغة شخصية الطلاب صياغةً تتوفّر فيها جميع السمات والخصائص القيادية؛ ليتم التعاضد والتلاقح، مكتسية بالتميّز الاحترافي؛ فالعلوم الإنسانية تتوازى مع العلوم العسكرية، والأمر نفسه مع العلوم البحتة في تناغم مقصود، وتجاذبٍ متعمّد، يختلط فيه الدرس النهاري بآخر ليلي، والجهد البدني بالكدّ الذهني.
أما ما يتعلق بطرق التعليم والتدريب، فقد تم اختيار أحدث الطرق وأكثر الوسائل جودة؛ من وسائل بصرية وسمعية، بالإضافة إلى التركيز على الجانب العملي، ليكتسب الطالب خبراته القيادية، ويؤكّد معلوماته المعرفية عن طريق العمل المحسوس المباشر، سواء في قاعة المحاضرات، أو في ميادين التدريب، بإضفاء الواقع الفعلي على جميع مجريات التدريب، وفق برامج معدّة إعدادًا محكمًا، بطريقة تتسق مع مستوى الطالب الإدراكي، ومتطلبات مرحلته الدراسية. كما يتم توظيف الإمكانات التي يمكن أن تكفل تحقيق المشاهدة الحسّية والملاحظة التجريبية، وصولاً إلى الاعتماد على التفكير المجرّد لحل المشكلات، ومواجهة المواقف الطارئة.
تقويم المناهج:
يُعتبر تقويم المناهج من أهم خطوات التطوير، ويتم ذلك من خلال نظام منضبط يكفل الوقوف على كل ما له علاقة بالمعرفة من جميع جوانبها، وبالأحرى كل ما يشكّل جزءاً من المناهج، ولا يستثنى من ذلك الطالب وأستاذه، إذ لا تقف عملية التقويم على المقررات فحسب، بوصف هذه المرحلة هي مرحلة تشخيص وفحص دقيق. ونتائج التقويم تنبني عليها خطوات تطويرية مهمة في أكثر من اتجاه، طبقًا لمناسبتها، ووفقًا لأهميتها؛ إذ تصبح نتائج التقويم إحدى روافد العملية التطويرية المستقبلية للمناهج، ولكنها ليست الوحيدة.
وبهذا يغدو من السهل التوقُّع، وكذلك الاستجابة لأيّ تغيير في الحرس الوطني، أو البيئة الوطنية، أو العالمية، بما يتناسب مع مهمة الكلية ومع أهدافها العامة، ولتتسق المناهج مع ما يتطلبه إعداد ضابط المستقبل الذي يُنتظر منه أن يعمل في الحرس الوطني بكل كفاءة واقتدار. ومن أبرز التغييرات الناجمة عن تفعيل مرحلة التقويم، تلك الإضافات والتنقيحات التي تستجيب للتغيّرات في الحرس الوطني، كما هو الأمر عند دخول أسلحة حديثة إلى الخدمة، أو تغييرات في العقيدة العسكرية، أو في طرق التدريب. أما في البيئة المحلية، فهناك تغييرات يمكن إدراكها بوصفها نتيجة للتقويم المستمر والمطرد مثل: ثبوت الحاجة لإدخال مناهج الدفاع ضد الحرب النووية، والجرثومية، والكيميائية، بعد حرب تحرير الكويت على سبيل المثال. وليس الأمر يقف عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى تطوير ما يعدّ انعكاسًا لتأثير البيئة العالمية، كما هو الحال في مكافحة الإرهاب وأمن المنشآت، إذ غدا إدراج هذه المقررات من قبيل الضرورة العالمية التي يشترك فيها جميع الناس دون النظر إلى الفوارق الكبرى، إلاّ بقدر ما تمليه خصوصيات الثقافات.
ولا يمكن إغفال التطورات العلمية التي يتضح مدى الحاجة إليها، بوصفها ضرورة عملية، مثل تطوّر نظريات القيادة، بما يتواكب مع قيادة إنسان هذا العصر، بالإضافة إلى شيوع مهارات التواصل وتحسين الذات مثلاً، مما جعل التدريب عليها وإتقانها مطلبًا ضروريًا للقائد، بوصف مهارات التواصل من أساسيات القيادة.
ولا تنحصر مرحلة التقويم في أبعاد المحتوى المعرفي فحسب، بل تتجاوزها إلى ما يتعلّق بزمان التعليم- التدريب ومكانه، وبخصائص المعلم- المدرب ومدى إمكانية تطويرها تطويرًا متناميًا إيجابيًا. وعليه، فالتطوير يقوم على أسس عدة، منها: الشمول، بدءاً بمراجعة أهداف التعليم، ومقرراته وفحصها في ضوء المستجدات الطارئة، والطموحات الجارية. وتُعدّ صفة الاستمرارية من أهم الأسس التي تسم تقويم المناهج، وذلك وفق مواعيد محددة وفواصل زمنية معلومة. وهي مصاحبة لعملية التعلّم، ويتم التقويم من خلال خصيصة التعاون، وهذه إحدى الأسس المركزية فيها، إذ يشترك فيها الطالب، والمعلم، والجناح المختص، إما بمبادرات شفهية تارة أو مكتوبة تارات أخرى، أو من خلال وسائل علمية أخرى، منها اللجان المختصة بمراجعة كل ما يتعلق بالمناهج، واللجان المتفرعة عنها، وكذلك بوسائل متعددة، مثل: الاستبانات، والمقابلات الشخصية، واللقاءات الرسمية وغير الرسمية. وكل ذلك يجري بموضوعية وتنوّع مثمر. ويمكن القول إن هذه المرحلة هي التي تحرك دورة تطوير المناهج مجددًا للعودة إلى نقاط البدء ومواصلة السير نحو تحقيق الأهداف بثبات واتزان، ولكن بمرونة وسلاسة.
نختم بما بدأنا به، بتكرار القول: إنه من المتعذّر تدوين كل ما يتعلق بتطوير المناهج في كلية الملك خالد العسكرية، ولعل ما أشرنا إليه في هذه الشذرات وتلك المتفرقات يصوغ إطارًا عامًا يضيئه عقل القارئ ليستدل به على مكامن العمل ومفاصل الرحلة