القرضاوي يرد على رسالة الدكتور احمد كمال ابو المجد حول الشيعة والسنة والتمدد الايراني
كتب الدكتور أحمد كمال أبو المجد رسالة للشيخ يوسف القرضاوي حول ما وصف بفتنة الشيعة والسنة ودعوة القرضاوي للحد من التمدد والنفوذ الايراني قائلا
(آلمني وعز علي كثير ما كان من تداعيات ما أدليتم به من حديث يتعلق بتجاوز بعض الإخوة الشيعة لما سميتموه الخطوط الحمراء ... أن لي عندكم دعوة ورجاء أن تسارعوا إلي غلق هذا الملف بغير إبطاء ودون انتظار دعوة من أحد وكأنه ما فتح)
ورد عليه القرضاوي امس بالرسالة التالية :-
سعادة الأستاذ الدكتور أحمد كمال أبو المجد
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
لقد قرأتُ رسالتك المنشورة في صحيفة (الدستور) المصرية، ودقَّقت النظر فيها.
وعجبتُ أن تصدر من مثلك، وأنت السياسي المجرِّب، والقانوني البارع، والإسلامي المعروف، وسليل العائلات الشرعية العريقة أبوَّة وخؤولة.
والذي أدهشني في الرسالة: أنك تخاطبني وكأنك لا تعرفني، ولا تعرف اتجاهي، ولا مواقفي ولا تاريخي الفكري والدعوي، على أننا طالما التقينا في مجالات شتَّى، في مصر، وفي قطر، وفي الجزائر، وفي البحرين، وفي الأردن، وفي روما، وفي غيرها. وما كنتُ يوما من الأيام مهيِّجا ولا داعيا إلى فتنة ولا فُرقة. بل داعية إلى التقريب بين الفرق الإسلامية، وحين سعيتُ إلى تأسيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، دعوتُ فيه ممثِّلين لكلِّ الفرق والمذاهب المتَّبعة والمعروفة في الأمة، التي لم تنشق عن الأمة تماما، ولم تمرُق من الإسلام وعقائده الأساسية.
فدعوتُ إخوة يمثِّلون كلَّ الطوائف والمذاهب الإسلامية: من الزيدية، ومن الإمامية الاثني عشرية، ومن الإباضية، وكان من الذين دعوتهم: آية الله محمد علي تسخيري، الذي عرَفتُه منذ سنين طويلة، وجَّهتُ إليه الدعوة، ورشحتُه لمجلس الأمناء، ثم للمكتب التنفيذي، بل رشحتُه ليكون أحد نوابي، وأوصيتُ بانتخابه، وهذا كلُّه في إطار حرصي على التقريب، والتوحيد، وهو تتمَّة لما قمتُ به في هذا المجال، من المشاركة في مؤتمرات التقريب، التي عُقدت في الرباط، وفي دمشق، وفي البحرين، ثم في الدوحة.
ولكن دعوتي إلى التقريب لم تكن مطلقة، بل كانت مقيَّدة، وكانت مشروطة، فمنذ مؤتمر المغرب، وأنا أبصِّر وأذكِّر بالعقبات التي تقف في سبيل التقريب، وبدون معالجتها يصبح التقريب مجرَّد مؤتمرات تُعقد وتنفض، وتُسفر عن قرارات وتوصيات هي حبر على ورق.
من هذه العقبات التي أكَّدتها في كلِّ مؤتمر:
1. الموقف من القرآن الكريم، وأنه كلام الله المكتوب في المصحف، لا يقبل الزيادة ولا النقصان.
2. الموقف من الصحابة وأمهات المؤمنين، الذين نقلوا إلينا القرآن، وحفظوا لنا السنن، وهم تلاميذ المدرسة المحمدية، وهم الذين فتحوا الفتوح، وأدخلوا الأمم في الإسلام، فلا غرو أن أثنى عليهم القرآن، وأثنى عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعل قرنهم خير القرون بعد قرنه، كما سجَّل لهم التاريخ بطولات وصفحات ومواقف أخلاقية بمداد من نور. فلحساب مَن نشوِّه تاريخ هؤلاء الأبطال؟ ولماذا يريد بعض منا أن يصوِّر تاريخ خير قرون الأمة وكأنه ظلمات بعضها فوق بعض؟
3. التوقف عن نشر المذهب الاعتقادي في البلاد الخالصة للمذهب الآخر. فإنك قد تكسب عشرة أو عشرين أو مئة أو مئتين، أو ألفا أو ألفين، ولكن حين يكتشف المجتمع أنك تحاول تغيير عقائده، ومحاربة مذهبه، سيتَّجه إليك باللعنة، وستقف الملايين كلُّها ضدَّك، ولكن الخطورة أن يتأخر هذا الاكتشاف.
4. الاعتراف بحقوق الأقلية، الدينية والسياسية، سواء كانت الأقلية سنية أم شيعية.
وهذا ما صارحتُ به الإخوة في إيران حين زرتُهم منذ عشر سنوات، في الولاية الثانية للرئيس محمد خاتمي، الذي يتَّمتع بأفق رحب، وعقل متفتِّح، والذي قابل تحيتي بمثلها، حينما حضر إلى الدوحة منذ سنتين للمشاركة في أحد المؤتمرات، وأصرَّ على أن يزورني في بيتي.
كما صارحت المشايخ وآيات الله حيثما لقيتُهم، في طهران، وفي قم، وفي مشهد، وفي أصفهان، المدن التي زرتُها.
من شأن النذير أن يصرخ:
وما تمنيتموه من أن لو كان إعلان موقفي هذا بيني وبين إخواني من علماء الشيعة في إطار محدود، بدل إعلانه على عوام الناس في الصحف, أقول: هذا قد تمَّ يا دكتور خلال أكثر من عشر سنوات, تمَّ في مؤتمرات التقريب, وتمَّ خلال زيارتي لإيران سنة 1988م بيني وبين علماء طهران وقم ومشهد وأصفهان. وتمَّ فيما كتبتُه من بحوث ورسائل آخرها رسالة (مبادئ في الحوار والتقريب بين المذاهب "الفرق الإسلامية"), ولكني وجدتُ أن المخطط مستمر, وأن القوم مصمِّمون على بلوغ غاية رسموا لها الخطط, ورصدوا لها الأموال, وأعدُّوا لها الرجال, وأنشأوا لها المؤسسات، ولهذا كان لابد أن أدقَّ ناقوس الخطر, وأجراس الخطر - يا دكتور - لا تؤدِّي مهمَّتها ما لم تكن عالية الصوت, تُوقظ النائم, وتنبِّه الغافل, وتُسمع القريب والبعيد. أرأيتَ أجراس إنذار الحريق؟ وما تُحدثه من دويٍّ هائل قد يُزعج بعض مرهفي الحساسية, ولكن هذه طبيعتها.
وأنا أردتُ أن أنذر قومي, وأصرخ في أمتي, محذِّرا من الحريق المدمِّر الذي ينتظرها إذا لم تَصْحُ من سكرتها, وتتنبه من غفلتها, وتسدّ الطريق على المغرورين الطامحين الذين يطلقون الشرر فيتطاير, ولا يخافون خطره!
أنا النذير لقومي يا دكتور, والنذير لا يجلس في غرفة مغلقة ويصيح، وسيعلم المخالفون من قومي من قريب أني أنا المصيب وهم المخطئون, ولا أحبُّ أن أتمثَّل بقول الشاعر:
أمرتهمو أمري بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى
فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد!
وقد قال تعالى في شأن قوم: (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ) "القمر: 4، 5".
على أن ما نبَّهت عليه، وما حذَّرت منه - يا دكتور - واضح كلَّ الوضوح, كالشمس في ضحى النهار, لا يحول دونها سحاب ولا دخان.
فالغزو الشيعي للمجتمعات السنية أقرَّ به الشيعة أنفسهم, هل نريد أن نكون ملكيين أكثر من الملك؟
لقد أقرَّ بهذا الرئيس السابق رفسنجاني, والذي يعدُّونه الرجل الثاني في النظام الإيراني في لقائي معه على شاشة الجزيرة في 21/2/2007م.
فقد رفض أن يقول أي كلمة في إيقاف هذا النشاط الشيعي المبيت, وقال: إنسان عنده خير كيف نمنعه أن يبلِّغه؟
ووكالة الأنباء الإيرانية (مهر) اعتبرت انتشار المذهب الشيعي في أهل السنة من (معجزات آل البيت)!
وآية الله التسخيري لم ينكر ذلك, ولكنه اعترض على تسميتي (التبليغ الشيعي) تبشيرا, وهو المصطلح المستعمل في نشر النصرانية, وكأنه يشير بكلمة (تبليغ) إلى أن الشيعي مأمور بتبليغ مذهبه وعقيدته, كما أن الرسول مأمور بتبليغ ما أُنزل إليه من ربه, وكلمة (تبشير) كما ذكرتُ في بياني السابق, مقتبسة من تعبير الإمام محمد مهدي شمس الدين رحمه الله.
وآية الله الشيخ محمد حسين فضل الله, أنكر عليَّ أني لم أغضب من أجل نشر التبشير المسيحي, كما غضبت من أجل نشر التبشير الشيعي, وقد رددتُ على هذا الزعم في بياني السابق.
على أن الواقع العملي هو أصدق شاهد على ما أقول, فها نحن نرى مجتمعات سنية خالصة, لم يكن فيها من عشرين سنة شيعي واحد, ولم يكن فيها أي مشكلة تؤذن بصراع ديني فِرَقِي (طائفي) قد أمسى فيها شيعة يتحدثون وينشطون ويتحرَّكون، ولهم صوت مسموع، ويطمعون أن يزدادوا ويكثروا، ويسعون إلى أن ينموا ويتوسَّعوا.
ومَن يستريب في قولي، فلينظر إلى مصر والسودان وتونس والجزائر والمغرب وغيرها، فضلا عن البلاد الإسلامية في أفريقيا وآسيا، ناهيك بالأقليَّات الإسلامية في أنحاء العالم. بل يجب أن ينظر إلى أرض الإسراء والمعراج فلسطين، التي حاول الشيعة في إيران اختراقها، وفُتن قليل منهم بذلك، كما حدَّثني بعض رؤساء الفصائل، وهذه جريمة لا تُغتفر، لضرورة الفلسطينيين إلى التوحُّد لا إلى مزيد من الانقسام.
متى يكون الوقت مناسبا؟
والقول بأن تحذيري جاء في غير وقته: غير مفهوم. فمتى وقته إذن؟ أبعد خراب البصرة - كما يقال - يكون وقته؟
أعتقد أن هذا هو وقت البيان الواجب، بل ربما تأخَّرنا بعض الوقت، ومن المتَّفق عليه بين الأصوليين: أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
ما الخطر في نشر التشيع في عالم السنة؟
وقد يسأل سائل: وما الخطر في ذلك؟
الخطر في ذلك نراه بأعيننا، ونلمسه بأيدينا، في بلاد الصراع المذهبي (الطائفي) الذي راح ضحيَّته عشرات الألوف ومئات الألوف، كما هو جلي لكلِّ ذي عينين في العراق، مليشيات الموت، وتحريق المساجد والمصاحف، والقتل على الهُويَّة، قتل كل من اسمه عمر أو عثمان أو عائشة، إلى آخر ما شهدناه من مآس تقشعر لها الأبدان.
كما شهدناه في لبنان، وفي اجتياح حزب الله أخيرا لبيروت، وما صاحبه من جرائم لا تكاد تصدَّق.
بل حسبنا ما يجري في اليمن الآن من صراعات دموية بين الحكومة من جهة وبين الحوثيين الذين كانوا زيدية مسالمين ومتآلفين مع إخوانهم الشافعية، فلما تحوَّلوا إلى اثني عشرية، انقلبوا على أعقابهم، يحاربون أهلهم، ويقاتلون قومهم.
وهذا مثل بارز يجسِّد الخطر الذي نخافه ونحذِّر من وقوعه.
الخطر في نشر التشيع أن وراءه دولة لها أهدافها الاستراتيجية، وهي تسعى إلى توظيف الدين والمذهب لتحقيق أهداف التوسُّع، ومد مناطق النفوذ، حيث تصبح الأقليات التي تأسَّست عبر السنين أذرعا وقواعد إيرانية فاعلة لتوتير العلاقات بين العرب وإيران، وصالحة لخدمة استراتيجية التوسع القومي لإيران.
إغلاق الملف:
وأعجب ما قرأتُه في رسالة صديقنا الدكتور كمال أبو المجد، قوله: إن لي عندكم دعوة ورجاء، أن تسارعوا - دون انتظار دعوة من أحد - إلى إغلاق هذا الملف بغير إبطاء، وكأنه ما فُتح!!
ولماذا فُتح إذن؟ أفُتح بدون وعي؟ أم بوعي وبصيرة؟ وهل فُتح لأمر يستحقُّ أن يفتح من أجله أم فُتح عبثا ولهوا، أم اعتباطا ومصادفة؟
إني فتحتُ هذا (الملف) لأني شعرتُ بالخطر يهدِّد أمتي بمزيد من الانقسام في المجتمع الواحد، ومزيد من الصراع، فبادرتُ بتنبيه قومي على الخطر، ورجوتُهم أن ينتبهوا للمآلات وللمخاطر التي يمكن أن تحيق بهم.
إن الرائد لا يكذب أهله، والأمين لا يخون قومه، ولا يسع امرأ يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يغمض العين على ما يجري من حوله من تشييع المجتمع السني، وهو ساكت.
كأنك تريدني يا دكتور، أن أخون ديني ورسالتي، وأن أضلِّل قومي وأمتي، وأن أنقض الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم ليبيّن للناس الحقَّ ولا يكتمونه، وأن أكون شيطانا أخرس، حيث أرى بلاد السنة تنتقص أطرافها أمام الغزو الشيعي، وأقف ساكتا، لأن السكوت من ذهب!
إن المناداة بإغلاق الملف: فرار من المواجهة مع الواقع، والواجب في مثل هذه الحال هو المواجهة والتصدِّي ولكن بالحكمة والاعتدال. وإن كان الدكتور أبو المجد له كتاب (حوار لا مواجهة) ففي بعض المواقف أرى أنه لا بد من المواجهة والحسم. ولكلِّ مقام مقال.
هل نحجر على نشر المذهب؟
وقد يتساءل البعض: هل المطلوب هو الحجر على نشر المذاهب الاعتقادية؟ ونقول: إن هذا إذا كان باتفاق أهل المذهبين الكبيرين: السني والشيعي، فلا حرج. إذ يرى الحكماء من المذهبين أن لا حاجة إلى ذلك، لأن نشر المذهب في جماعة المذهب الآخر يثير حساسية وفتنة وتحفُّزا للمقاومة، وهذا ينافي فكرة التقريب. وهو ما اتَّفق عليه العقلاء من علماء المذهبين في لقاءات ومؤتمرات شتَّى (في الرباط والبحرين والدوحة). وتعاهدوا على ذلك، فيجب احترامه ورعايته، (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ) "الفتح:10".
وأما إذا أُريد إطلاق الحرية في ذلك، فيجب أن يعلن الفريقان ذلك، وأن يتمَّ ذلك في وضح النهار، دون تسلُّل أو عمل في الخفاء، وأن يكون سلاح الجميع الحجَّة والبرهان، لا المال والإغراءات المختلفة. وأن يكون من حقِّ كلِّ فريق الرد العلمي على الفريق الآخر، وأن يسلِّح جماعته بالثقافة الواقية من الغزو. ولا سيما إذا كان غزوا منظَّما يقوم به أفراد مدرَّبون، وتسنده دولة غنية كبيرة ذات رسالة.
فإن أول ما يقوم به الداعي إلى مذهب اعتقادي: أن يهاجم المذهب الآخر، ويبيِّن أنه ضلال وباطل، وأنه ينتهي بصاحبه إلى النار، وأنه لن ينجِّيه من النار إلا اعتناق أصول المذهب الآخر، وهنا يجد المدعو نفسه مضطرًّا للدفاع، وخير وسائل الدفاع الهجوم. فيهاجم مذهب الداعي، ويدلِّل على بطلان أسسه واحدا بعد الآخر. فيقول السني للشيعي مثلا: إن دعوى وصية النبي صلى الله عليه وسلم لعليٍّ بالخلافة له ولذريته من بعده، لا أصل لها في القرآن ولا في السنة الصحيحة، وهي تتنافى مع ولاية الأمة على نفسها، وجعل أمرها شورى، (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) "الشورى:38"، وقوله تعالى لإبراهيم: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَال لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) "البقرة:124".
واتهام الصحابة بكتمان الوصية وخيانة الرسول، واغتصاب حقِّ علي: يناقض ثناء الله عليهم في القرآن في أكثر من سورة، وثناء الرسول عليهم، وثناء التاريخ عليهم، ويتناقض مع موقف عليٍّ الذي كان لهم مشيرا ومعينا، ولم يعلن للناس يوما أن عنده وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو كان هذا حقًّا لم يتنازل الحسن بن علي عن الخلافة التي بُويع بها، ويدعها لمعاوية حقنا لدماء المسلمين، وقد أثنى عليه الرسول الكريم بموقفه.
ودعوى أن عليًّا رضي الله عنه وأحد عشر من ذريته أئمة معصومون لا يجوز عليهم الخطأ: لا دليل عليها من قرآن ولا سنة، وقد أمرنا الله في عدد من آيات كتابه بطاعة الله والرسول، ولم يأمرنا بطاعة الأئمة، إلى آخر ما يقال هنا من الردِّ على الدعاوى والشبهات، وهو كثير وطويل.
ويستطيع السني أن يعلن بكلِّ اعتزاز: أن مذهبه هو الذي يتوافق مع تطلُّعات البشرية المعاصرة إلى التحرُّر والمساواة، دون تمييز لأسرة لها حقُّ حكمهم بغير اختيارهم، فلا وصية لهم ملزمة من السماء، ولا أحد له حقُّ العصمة، فلا يعترض عليه.
لم أَحِدْ عن الوسطية:
بقيت هنا الإجابة عن سؤال مهم وجَّهه إليَّ بعض الإخوة قائلا: إنك كنتَ دائما من دعاة الوسطية والاعتدال، حتى عُرف هذا المنهج بك، وعُرفتَ به، وقال مَن قال عنك من الباحثين والمفكرين: رائد الوسطية. وهو ما نعتقده من خلال مطالعتنا لتراثك ومواقفك، ولكنك في هذه القضية مِلْتَ بقدر ما إلى التشدُّد والمواجهة، فما تفسير ذلك؟
وأحبُّ أن أبيِّن هنا: أني لم أَحِدْ عن منهج الوسطية قيد شعرة، ولكن بعض الإخوة قد يفهمون الوسطية على غير ما فهمتُها. فهم يحسبون أنها الميل إلى التيسير في كلِّ شيء، وأخذ موقف اللين في كلِّ أمر، وهذا ليس بصحيح.
فالوسطية عندي: أن أشدِّد في موضع التشدُّد، وأن ألين في موضع اللين. وأن أحرِّم حيث يجب التحريم، وأن أحلِّل حيث ينبغي التحليل.
ولذا وقفتُ في موضوع (فوائد البنوك) مع المتشدِّدين، ولم أَمِل مع الذين يريدون أن يحلِّلوها بسبب أو آخر، وأصدرتُ كتابي (فوائد البنوك هي الربا الحرام)، وفي كثير من المواقف أتشدَّد تبعا للأدلة، وإن كان التيسير هو الغالب عليَّ.
وفي القضايا المتصلة بالعقيدة، أقف كالجبل الأشم، لا أتزحزح، ولا أتزلزل، ومن هنا كان موقفي من الشيعة والتشيع، وهذه هي الوسطية الحقَّة. وهو ما عبَّر عنه أبو الطيب - فأجاد - بقوله:
ووضع النَّدى في موضع السيف بالعلا
مُضِرٌّ، كوضع السيف في موضع النَّدى!
رسالة إلى المفتونين بإيران:
وأخيرا كنتُ أودُّ من الدكتور أبو المجد أن يوجِّه رسالته هذه - أو رسالة مثلها على الأقل - إلى المفتونين بإيران وحزب الله من قومنا، بل من أصدقائه وأصدقائي، الذين يعز عليَّ أن أراهم في موقف يفتقد الشرعية، والذين لم تحدِّثهم أنفسهم بكلمة نقد يوجِّهونها للذين أسفُّوا في خصومتهم معي، وافترَوا علي بالباطل، فخذلوني حيث تجب النصرة، حتى كدتُ أتمثَّل بقول الشاعر:
وإخوان حسبتهمو دروعا
فكانوها، ولكن للأعـادي!
وخلتهمو سهاما صائبات
فكانوها، ولكن في فؤادي!
كنتُ أود من أبي المجد أن ينصح لهم مخلصا: أن يرفعوا الغشاوة عن أعينهم حتى يبصروا، وينزعوا أصابعهم من آذانهم حتى يسمعوا، أجل، حتى يرَوا ويسمعوا ما يجري في بلاد السنة من حولهم، ولا يعتبروا ذلك شيئا لا يستحقُّ الالتفات، فإن (فقه الموازنات) و(فقه الأولويات) الذي قالوا إنهم أخذوه منِّي، يوجب عليهم أن يعيدوا النظر في (تنزيل هذا الفقه على الواقع)، فمن المهم أن يُعلم أن البلاء الذي لا يمكن تداركه وعلاجه بعد وقوعه مقدَّم فقها وشرعا على البلاء الذي يمكن تداركه ووقوعه. ومن ذلك تغيير اعتقاد المرء من فرقة إلى فرقة، كانتقال المسلم من السنة إلى الشيعة، فهذا إذا وقع لم يمكن تداركه بحال.
وقد كان (العراق) ذا أغلبية سنية كبيرة إلى القرن الثامن عشر، ثم بدأ الزحف المخطَّط في غفلة من الدولة العثمانية. بل كانت (إيران) نفسها سنية، كما يشهد بذلك تاريخ علمائها في التفسير والحديث والفقه والأصول واللغة والأدب والتاريخ وغيرها، ثم أصابها ما أصابها، وغدت اليوم دولة التشيُّع الكبرى في العالم.
ومن أغرب ما قاله هؤلاء الأصدقاء: إن تحذيرنا من الغزو الشيعي لمجتمعات السنة، وقوف مع الاستكبار الأمريكي، أو الاستعمار الصهيوني، ولا تلازم بين هذا وذاك، فنحن نرفض الغزو الشيعي، ونقف في وجه الطغيان الأمريكي، والعدوان الصهيوني، جنبا إلى جنب، ونؤيد المقاومة بكلِّ قوَّة ضد الصهاينة والأمريكان في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان.
وزعمهم أن موقفي المحذِّر من الغزو ينافي الدعوة إلى (الوحدة الإسلامية) غير مسلَّم، فالوحدة الإسلامية إذا لم تقُم على أساس مكين من كتاب الله وسنة رسوله، لن تقوم لها قائمة. ولذا قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) "آل عمران:103". فالوحدة إذا لم تعتصم بحبل الله لا خير فيها، والإسلام يرى أن التفرُّق على الحقِّ خير من الاتحاد على الباطل. ورحم الله ابن مسعود - رضي الله عنه - الذي قال: الجماعة ما وافقت الحقَّ وإن كنتَ وحدك. وحسبنا قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ) "المائدة:2"، ومثله الاتحاد على الإثم والعدوان، منهيٌّ عنه ولا خير فيه.
كنا نتمنَّى من أصدقائنا أن يقولوا كلمة واحدة للذين نشتكي منهم: أن كفُّوا أيديكم عن المجتمعات السنية اليوم، ولنتفرغ جميعا للصهاينة والأمريكان! ولكنهم لم يقولوها.
فهل يُراد منا أن ننام على آذاننا حتى يتم الغزو مهمَّته في عقر دارنا، وتتحوَّل مجتمعاتنا عن معتقداتها، وثوابتها، ونحن في غفلة لاهون، وفي غمرة ساهون؟ وإذا رفعنا أصواتنا محذِّرين ومنذرين كنا مثيري فتنة بين المسلمين؟
وفي الختام، أريد أن أسجل هنا نقطة مهمة، فمن العجيب أن وكالة الأنباء الإيرانية قد صمتت، ومراجع الشيعة قد توارَوا إلى الخلف، وتركوا أهل السنة يردُّ بعضهم على بعض، وهم يتفرَّجون! وهو مشهد مذهل حقًّا: ألا يوجد في المجتمع الشيعي كاتب واحد ينتصر لموقفي، أي لأهل السنة، في إيران أو العراق أو لبنان أو الخليج! على حين أن نفراً من رجال السنة من هنا وهناك - ولا سيما في مصر بلد الأزهر - مَن ركب جواده، وامتشق سلاحه، دفاعا عن الشيعة المظاليم!
اللهم إنا نشهدك على أننا لا نريد إلا الخير والسلام لأمة الإسلام. وكفى بك شهيدا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخوكم
يوسف القرضاوي
كتب الدكتور أحمد كمال أبو المجد رسالة للشيخ يوسف القرضاوي حول ما وصف بفتنة الشيعة والسنة ودعوة القرضاوي للحد من التمدد والنفوذ الايراني قائلا
(آلمني وعز علي كثير ما كان من تداعيات ما أدليتم به من حديث يتعلق بتجاوز بعض الإخوة الشيعة لما سميتموه الخطوط الحمراء ... أن لي عندكم دعوة ورجاء أن تسارعوا إلي غلق هذا الملف بغير إبطاء ودون انتظار دعوة من أحد وكأنه ما فتح)
ورد عليه القرضاوي امس بالرسالة التالية :-
سعادة الأستاذ الدكتور أحمد كمال أبو المجد
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
لقد قرأتُ رسالتك المنشورة في صحيفة (الدستور) المصرية، ودقَّقت النظر فيها.
وعجبتُ أن تصدر من مثلك، وأنت السياسي المجرِّب، والقانوني البارع، والإسلامي المعروف، وسليل العائلات الشرعية العريقة أبوَّة وخؤولة.
والذي أدهشني في الرسالة: أنك تخاطبني وكأنك لا تعرفني، ولا تعرف اتجاهي، ولا مواقفي ولا تاريخي الفكري والدعوي، على أننا طالما التقينا في مجالات شتَّى، في مصر، وفي قطر، وفي الجزائر، وفي البحرين، وفي الأردن، وفي روما، وفي غيرها. وما كنتُ يوما من الأيام مهيِّجا ولا داعيا إلى فتنة ولا فُرقة. بل داعية إلى التقريب بين الفرق الإسلامية، وحين سعيتُ إلى تأسيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، دعوتُ فيه ممثِّلين لكلِّ الفرق والمذاهب المتَّبعة والمعروفة في الأمة، التي لم تنشق عن الأمة تماما، ولم تمرُق من الإسلام وعقائده الأساسية.
فدعوتُ إخوة يمثِّلون كلَّ الطوائف والمذاهب الإسلامية: من الزيدية، ومن الإمامية الاثني عشرية، ومن الإباضية، وكان من الذين دعوتهم: آية الله محمد علي تسخيري، الذي عرَفتُه منذ سنين طويلة، وجَّهتُ إليه الدعوة، ورشحتُه لمجلس الأمناء، ثم للمكتب التنفيذي، بل رشحتُه ليكون أحد نوابي، وأوصيتُ بانتخابه، وهذا كلُّه في إطار حرصي على التقريب، والتوحيد، وهو تتمَّة لما قمتُ به في هذا المجال، من المشاركة في مؤتمرات التقريب، التي عُقدت في الرباط، وفي دمشق، وفي البحرين، ثم في الدوحة.
ولكن دعوتي إلى التقريب لم تكن مطلقة، بل كانت مقيَّدة، وكانت مشروطة، فمنذ مؤتمر المغرب، وأنا أبصِّر وأذكِّر بالعقبات التي تقف في سبيل التقريب، وبدون معالجتها يصبح التقريب مجرَّد مؤتمرات تُعقد وتنفض، وتُسفر عن قرارات وتوصيات هي حبر على ورق.
من هذه العقبات التي أكَّدتها في كلِّ مؤتمر:
1. الموقف من القرآن الكريم، وأنه كلام الله المكتوب في المصحف، لا يقبل الزيادة ولا النقصان.
2. الموقف من الصحابة وأمهات المؤمنين، الذين نقلوا إلينا القرآن، وحفظوا لنا السنن، وهم تلاميذ المدرسة المحمدية، وهم الذين فتحوا الفتوح، وأدخلوا الأمم في الإسلام، فلا غرو أن أثنى عليهم القرآن، وأثنى عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعل قرنهم خير القرون بعد قرنه، كما سجَّل لهم التاريخ بطولات وصفحات ومواقف أخلاقية بمداد من نور. فلحساب مَن نشوِّه تاريخ هؤلاء الأبطال؟ ولماذا يريد بعض منا أن يصوِّر تاريخ خير قرون الأمة وكأنه ظلمات بعضها فوق بعض؟
3. التوقف عن نشر المذهب الاعتقادي في البلاد الخالصة للمذهب الآخر. فإنك قد تكسب عشرة أو عشرين أو مئة أو مئتين، أو ألفا أو ألفين، ولكن حين يكتشف المجتمع أنك تحاول تغيير عقائده، ومحاربة مذهبه، سيتَّجه إليك باللعنة، وستقف الملايين كلُّها ضدَّك، ولكن الخطورة أن يتأخر هذا الاكتشاف.
4. الاعتراف بحقوق الأقلية، الدينية والسياسية، سواء كانت الأقلية سنية أم شيعية.
وهذا ما صارحتُ به الإخوة في إيران حين زرتُهم منذ عشر سنوات، في الولاية الثانية للرئيس محمد خاتمي، الذي يتَّمتع بأفق رحب، وعقل متفتِّح، والذي قابل تحيتي بمثلها، حينما حضر إلى الدوحة منذ سنتين للمشاركة في أحد المؤتمرات، وأصرَّ على أن يزورني في بيتي.
كما صارحت المشايخ وآيات الله حيثما لقيتُهم، في طهران، وفي قم، وفي مشهد، وفي أصفهان، المدن التي زرتُها.
من شأن النذير أن يصرخ:
وما تمنيتموه من أن لو كان إعلان موقفي هذا بيني وبين إخواني من علماء الشيعة في إطار محدود، بدل إعلانه على عوام الناس في الصحف, أقول: هذا قد تمَّ يا دكتور خلال أكثر من عشر سنوات, تمَّ في مؤتمرات التقريب, وتمَّ خلال زيارتي لإيران سنة 1988م بيني وبين علماء طهران وقم ومشهد وأصفهان. وتمَّ فيما كتبتُه من بحوث ورسائل آخرها رسالة (مبادئ في الحوار والتقريب بين المذاهب "الفرق الإسلامية"), ولكني وجدتُ أن المخطط مستمر, وأن القوم مصمِّمون على بلوغ غاية رسموا لها الخطط, ورصدوا لها الأموال, وأعدُّوا لها الرجال, وأنشأوا لها المؤسسات، ولهذا كان لابد أن أدقَّ ناقوس الخطر, وأجراس الخطر - يا دكتور - لا تؤدِّي مهمَّتها ما لم تكن عالية الصوت, تُوقظ النائم, وتنبِّه الغافل, وتُسمع القريب والبعيد. أرأيتَ أجراس إنذار الحريق؟ وما تُحدثه من دويٍّ هائل قد يُزعج بعض مرهفي الحساسية, ولكن هذه طبيعتها.
وأنا أردتُ أن أنذر قومي, وأصرخ في أمتي, محذِّرا من الحريق المدمِّر الذي ينتظرها إذا لم تَصْحُ من سكرتها, وتتنبه من غفلتها, وتسدّ الطريق على المغرورين الطامحين الذين يطلقون الشرر فيتطاير, ولا يخافون خطره!
أنا النذير لقومي يا دكتور, والنذير لا يجلس في غرفة مغلقة ويصيح، وسيعلم المخالفون من قومي من قريب أني أنا المصيب وهم المخطئون, ولا أحبُّ أن أتمثَّل بقول الشاعر:
أمرتهمو أمري بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى
فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد!
وقد قال تعالى في شأن قوم: (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ) "القمر: 4، 5".
على أن ما نبَّهت عليه، وما حذَّرت منه - يا دكتور - واضح كلَّ الوضوح, كالشمس في ضحى النهار, لا يحول دونها سحاب ولا دخان.
فالغزو الشيعي للمجتمعات السنية أقرَّ به الشيعة أنفسهم, هل نريد أن نكون ملكيين أكثر من الملك؟
لقد أقرَّ بهذا الرئيس السابق رفسنجاني, والذي يعدُّونه الرجل الثاني في النظام الإيراني في لقائي معه على شاشة الجزيرة في 21/2/2007م.
فقد رفض أن يقول أي كلمة في إيقاف هذا النشاط الشيعي المبيت, وقال: إنسان عنده خير كيف نمنعه أن يبلِّغه؟
ووكالة الأنباء الإيرانية (مهر) اعتبرت انتشار المذهب الشيعي في أهل السنة من (معجزات آل البيت)!
وآية الله التسخيري لم ينكر ذلك, ولكنه اعترض على تسميتي (التبليغ الشيعي) تبشيرا, وهو المصطلح المستعمل في نشر النصرانية, وكأنه يشير بكلمة (تبليغ) إلى أن الشيعي مأمور بتبليغ مذهبه وعقيدته, كما أن الرسول مأمور بتبليغ ما أُنزل إليه من ربه, وكلمة (تبشير) كما ذكرتُ في بياني السابق, مقتبسة من تعبير الإمام محمد مهدي شمس الدين رحمه الله.
وآية الله الشيخ محمد حسين فضل الله, أنكر عليَّ أني لم أغضب من أجل نشر التبشير المسيحي, كما غضبت من أجل نشر التبشير الشيعي, وقد رددتُ على هذا الزعم في بياني السابق.
على أن الواقع العملي هو أصدق شاهد على ما أقول, فها نحن نرى مجتمعات سنية خالصة, لم يكن فيها من عشرين سنة شيعي واحد, ولم يكن فيها أي مشكلة تؤذن بصراع ديني فِرَقِي (طائفي) قد أمسى فيها شيعة يتحدثون وينشطون ويتحرَّكون، ولهم صوت مسموع، ويطمعون أن يزدادوا ويكثروا، ويسعون إلى أن ينموا ويتوسَّعوا.
ومَن يستريب في قولي، فلينظر إلى مصر والسودان وتونس والجزائر والمغرب وغيرها، فضلا عن البلاد الإسلامية في أفريقيا وآسيا، ناهيك بالأقليَّات الإسلامية في أنحاء العالم. بل يجب أن ينظر إلى أرض الإسراء والمعراج فلسطين، التي حاول الشيعة في إيران اختراقها، وفُتن قليل منهم بذلك، كما حدَّثني بعض رؤساء الفصائل، وهذه جريمة لا تُغتفر، لضرورة الفلسطينيين إلى التوحُّد لا إلى مزيد من الانقسام.
متى يكون الوقت مناسبا؟
والقول بأن تحذيري جاء في غير وقته: غير مفهوم. فمتى وقته إذن؟ أبعد خراب البصرة - كما يقال - يكون وقته؟
أعتقد أن هذا هو وقت البيان الواجب، بل ربما تأخَّرنا بعض الوقت، ومن المتَّفق عليه بين الأصوليين: أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
ما الخطر في نشر التشيع في عالم السنة؟
وقد يسأل سائل: وما الخطر في ذلك؟
الخطر في ذلك نراه بأعيننا، ونلمسه بأيدينا، في بلاد الصراع المذهبي (الطائفي) الذي راح ضحيَّته عشرات الألوف ومئات الألوف، كما هو جلي لكلِّ ذي عينين في العراق، مليشيات الموت، وتحريق المساجد والمصاحف، والقتل على الهُويَّة، قتل كل من اسمه عمر أو عثمان أو عائشة، إلى آخر ما شهدناه من مآس تقشعر لها الأبدان.
كما شهدناه في لبنان، وفي اجتياح حزب الله أخيرا لبيروت، وما صاحبه من جرائم لا تكاد تصدَّق.
بل حسبنا ما يجري في اليمن الآن من صراعات دموية بين الحكومة من جهة وبين الحوثيين الذين كانوا زيدية مسالمين ومتآلفين مع إخوانهم الشافعية، فلما تحوَّلوا إلى اثني عشرية، انقلبوا على أعقابهم، يحاربون أهلهم، ويقاتلون قومهم.
وهذا مثل بارز يجسِّد الخطر الذي نخافه ونحذِّر من وقوعه.
الخطر في نشر التشيع أن وراءه دولة لها أهدافها الاستراتيجية، وهي تسعى إلى توظيف الدين والمذهب لتحقيق أهداف التوسُّع، ومد مناطق النفوذ، حيث تصبح الأقليات التي تأسَّست عبر السنين أذرعا وقواعد إيرانية فاعلة لتوتير العلاقات بين العرب وإيران، وصالحة لخدمة استراتيجية التوسع القومي لإيران.
إغلاق الملف:
وأعجب ما قرأتُه في رسالة صديقنا الدكتور كمال أبو المجد، قوله: إن لي عندكم دعوة ورجاء، أن تسارعوا - دون انتظار دعوة من أحد - إلى إغلاق هذا الملف بغير إبطاء، وكأنه ما فُتح!!
ولماذا فُتح إذن؟ أفُتح بدون وعي؟ أم بوعي وبصيرة؟ وهل فُتح لأمر يستحقُّ أن يفتح من أجله أم فُتح عبثا ولهوا، أم اعتباطا ومصادفة؟
إني فتحتُ هذا (الملف) لأني شعرتُ بالخطر يهدِّد أمتي بمزيد من الانقسام في المجتمع الواحد، ومزيد من الصراع، فبادرتُ بتنبيه قومي على الخطر، ورجوتُهم أن ينتبهوا للمآلات وللمخاطر التي يمكن أن تحيق بهم.
إن الرائد لا يكذب أهله، والأمين لا يخون قومه، ولا يسع امرأ يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يغمض العين على ما يجري من حوله من تشييع المجتمع السني، وهو ساكت.
كأنك تريدني يا دكتور، أن أخون ديني ورسالتي، وأن أضلِّل قومي وأمتي، وأن أنقض الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم ليبيّن للناس الحقَّ ولا يكتمونه، وأن أكون شيطانا أخرس، حيث أرى بلاد السنة تنتقص أطرافها أمام الغزو الشيعي، وأقف ساكتا، لأن السكوت من ذهب!
إن المناداة بإغلاق الملف: فرار من المواجهة مع الواقع، والواجب في مثل هذه الحال هو المواجهة والتصدِّي ولكن بالحكمة والاعتدال. وإن كان الدكتور أبو المجد له كتاب (حوار لا مواجهة) ففي بعض المواقف أرى أنه لا بد من المواجهة والحسم. ولكلِّ مقام مقال.
هل نحجر على نشر المذهب؟
وقد يتساءل البعض: هل المطلوب هو الحجر على نشر المذاهب الاعتقادية؟ ونقول: إن هذا إذا كان باتفاق أهل المذهبين الكبيرين: السني والشيعي، فلا حرج. إذ يرى الحكماء من المذهبين أن لا حاجة إلى ذلك، لأن نشر المذهب في جماعة المذهب الآخر يثير حساسية وفتنة وتحفُّزا للمقاومة، وهذا ينافي فكرة التقريب. وهو ما اتَّفق عليه العقلاء من علماء المذهبين في لقاءات ومؤتمرات شتَّى (في الرباط والبحرين والدوحة). وتعاهدوا على ذلك، فيجب احترامه ورعايته، (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ) "الفتح:10".
وأما إذا أُريد إطلاق الحرية في ذلك، فيجب أن يعلن الفريقان ذلك، وأن يتمَّ ذلك في وضح النهار، دون تسلُّل أو عمل في الخفاء، وأن يكون سلاح الجميع الحجَّة والبرهان، لا المال والإغراءات المختلفة. وأن يكون من حقِّ كلِّ فريق الرد العلمي على الفريق الآخر، وأن يسلِّح جماعته بالثقافة الواقية من الغزو. ولا سيما إذا كان غزوا منظَّما يقوم به أفراد مدرَّبون، وتسنده دولة غنية كبيرة ذات رسالة.
فإن أول ما يقوم به الداعي إلى مذهب اعتقادي: أن يهاجم المذهب الآخر، ويبيِّن أنه ضلال وباطل، وأنه ينتهي بصاحبه إلى النار، وأنه لن ينجِّيه من النار إلا اعتناق أصول المذهب الآخر، وهنا يجد المدعو نفسه مضطرًّا للدفاع، وخير وسائل الدفاع الهجوم. فيهاجم مذهب الداعي، ويدلِّل على بطلان أسسه واحدا بعد الآخر. فيقول السني للشيعي مثلا: إن دعوى وصية النبي صلى الله عليه وسلم لعليٍّ بالخلافة له ولذريته من بعده، لا أصل لها في القرآن ولا في السنة الصحيحة، وهي تتنافى مع ولاية الأمة على نفسها، وجعل أمرها شورى، (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) "الشورى:38"، وقوله تعالى لإبراهيم: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَال لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) "البقرة:124".
واتهام الصحابة بكتمان الوصية وخيانة الرسول، واغتصاب حقِّ علي: يناقض ثناء الله عليهم في القرآن في أكثر من سورة، وثناء الرسول عليهم، وثناء التاريخ عليهم، ويتناقض مع موقف عليٍّ الذي كان لهم مشيرا ومعينا، ولم يعلن للناس يوما أن عنده وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو كان هذا حقًّا لم يتنازل الحسن بن علي عن الخلافة التي بُويع بها، ويدعها لمعاوية حقنا لدماء المسلمين، وقد أثنى عليه الرسول الكريم بموقفه.
ودعوى أن عليًّا رضي الله عنه وأحد عشر من ذريته أئمة معصومون لا يجوز عليهم الخطأ: لا دليل عليها من قرآن ولا سنة، وقد أمرنا الله في عدد من آيات كتابه بطاعة الله والرسول، ولم يأمرنا بطاعة الأئمة، إلى آخر ما يقال هنا من الردِّ على الدعاوى والشبهات، وهو كثير وطويل.
ويستطيع السني أن يعلن بكلِّ اعتزاز: أن مذهبه هو الذي يتوافق مع تطلُّعات البشرية المعاصرة إلى التحرُّر والمساواة، دون تمييز لأسرة لها حقُّ حكمهم بغير اختيارهم، فلا وصية لهم ملزمة من السماء، ولا أحد له حقُّ العصمة، فلا يعترض عليه.
لم أَحِدْ عن الوسطية:
بقيت هنا الإجابة عن سؤال مهم وجَّهه إليَّ بعض الإخوة قائلا: إنك كنتَ دائما من دعاة الوسطية والاعتدال، حتى عُرف هذا المنهج بك، وعُرفتَ به، وقال مَن قال عنك من الباحثين والمفكرين: رائد الوسطية. وهو ما نعتقده من خلال مطالعتنا لتراثك ومواقفك، ولكنك في هذه القضية مِلْتَ بقدر ما إلى التشدُّد والمواجهة، فما تفسير ذلك؟
وأحبُّ أن أبيِّن هنا: أني لم أَحِدْ عن منهج الوسطية قيد شعرة، ولكن بعض الإخوة قد يفهمون الوسطية على غير ما فهمتُها. فهم يحسبون أنها الميل إلى التيسير في كلِّ شيء، وأخذ موقف اللين في كلِّ أمر، وهذا ليس بصحيح.
فالوسطية عندي: أن أشدِّد في موضع التشدُّد، وأن ألين في موضع اللين. وأن أحرِّم حيث يجب التحريم، وأن أحلِّل حيث ينبغي التحليل.
ولذا وقفتُ في موضوع (فوائد البنوك) مع المتشدِّدين، ولم أَمِل مع الذين يريدون أن يحلِّلوها بسبب أو آخر، وأصدرتُ كتابي (فوائد البنوك هي الربا الحرام)، وفي كثير من المواقف أتشدَّد تبعا للأدلة، وإن كان التيسير هو الغالب عليَّ.
وفي القضايا المتصلة بالعقيدة، أقف كالجبل الأشم، لا أتزحزح، ولا أتزلزل، ومن هنا كان موقفي من الشيعة والتشيع، وهذه هي الوسطية الحقَّة. وهو ما عبَّر عنه أبو الطيب - فأجاد - بقوله:
ووضع النَّدى في موضع السيف بالعلا
مُضِرٌّ، كوضع السيف في موضع النَّدى!
رسالة إلى المفتونين بإيران:
وأخيرا كنتُ أودُّ من الدكتور أبو المجد أن يوجِّه رسالته هذه - أو رسالة مثلها على الأقل - إلى المفتونين بإيران وحزب الله من قومنا، بل من أصدقائه وأصدقائي، الذين يعز عليَّ أن أراهم في موقف يفتقد الشرعية، والذين لم تحدِّثهم أنفسهم بكلمة نقد يوجِّهونها للذين أسفُّوا في خصومتهم معي، وافترَوا علي بالباطل، فخذلوني حيث تجب النصرة، حتى كدتُ أتمثَّل بقول الشاعر:
وإخوان حسبتهمو دروعا
فكانوها، ولكن للأعـادي!
وخلتهمو سهاما صائبات
فكانوها، ولكن في فؤادي!
كنتُ أود من أبي المجد أن ينصح لهم مخلصا: أن يرفعوا الغشاوة عن أعينهم حتى يبصروا، وينزعوا أصابعهم من آذانهم حتى يسمعوا، أجل، حتى يرَوا ويسمعوا ما يجري في بلاد السنة من حولهم، ولا يعتبروا ذلك شيئا لا يستحقُّ الالتفات، فإن (فقه الموازنات) و(فقه الأولويات) الذي قالوا إنهم أخذوه منِّي، يوجب عليهم أن يعيدوا النظر في (تنزيل هذا الفقه على الواقع)، فمن المهم أن يُعلم أن البلاء الذي لا يمكن تداركه وعلاجه بعد وقوعه مقدَّم فقها وشرعا على البلاء الذي يمكن تداركه ووقوعه. ومن ذلك تغيير اعتقاد المرء من فرقة إلى فرقة، كانتقال المسلم من السنة إلى الشيعة، فهذا إذا وقع لم يمكن تداركه بحال.
وقد كان (العراق) ذا أغلبية سنية كبيرة إلى القرن الثامن عشر، ثم بدأ الزحف المخطَّط في غفلة من الدولة العثمانية. بل كانت (إيران) نفسها سنية، كما يشهد بذلك تاريخ علمائها في التفسير والحديث والفقه والأصول واللغة والأدب والتاريخ وغيرها، ثم أصابها ما أصابها، وغدت اليوم دولة التشيُّع الكبرى في العالم.
ومن أغرب ما قاله هؤلاء الأصدقاء: إن تحذيرنا من الغزو الشيعي لمجتمعات السنة، وقوف مع الاستكبار الأمريكي، أو الاستعمار الصهيوني، ولا تلازم بين هذا وذاك، فنحن نرفض الغزو الشيعي، ونقف في وجه الطغيان الأمريكي، والعدوان الصهيوني، جنبا إلى جنب، ونؤيد المقاومة بكلِّ قوَّة ضد الصهاينة والأمريكان في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان.
وزعمهم أن موقفي المحذِّر من الغزو ينافي الدعوة إلى (الوحدة الإسلامية) غير مسلَّم، فالوحدة الإسلامية إذا لم تقُم على أساس مكين من كتاب الله وسنة رسوله، لن تقوم لها قائمة. ولذا قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) "آل عمران:103". فالوحدة إذا لم تعتصم بحبل الله لا خير فيها، والإسلام يرى أن التفرُّق على الحقِّ خير من الاتحاد على الباطل. ورحم الله ابن مسعود - رضي الله عنه - الذي قال: الجماعة ما وافقت الحقَّ وإن كنتَ وحدك. وحسبنا قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ) "المائدة:2"، ومثله الاتحاد على الإثم والعدوان، منهيٌّ عنه ولا خير فيه.
كنا نتمنَّى من أصدقائنا أن يقولوا كلمة واحدة للذين نشتكي منهم: أن كفُّوا أيديكم عن المجتمعات السنية اليوم، ولنتفرغ جميعا للصهاينة والأمريكان! ولكنهم لم يقولوها.
فهل يُراد منا أن ننام على آذاننا حتى يتم الغزو مهمَّته في عقر دارنا، وتتحوَّل مجتمعاتنا عن معتقداتها، وثوابتها، ونحن في غفلة لاهون، وفي غمرة ساهون؟ وإذا رفعنا أصواتنا محذِّرين ومنذرين كنا مثيري فتنة بين المسلمين؟
وفي الختام، أريد أن أسجل هنا نقطة مهمة، فمن العجيب أن وكالة الأنباء الإيرانية قد صمتت، ومراجع الشيعة قد توارَوا إلى الخلف، وتركوا أهل السنة يردُّ بعضهم على بعض، وهم يتفرَّجون! وهو مشهد مذهل حقًّا: ألا يوجد في المجتمع الشيعي كاتب واحد ينتصر لموقفي، أي لأهل السنة، في إيران أو العراق أو لبنان أو الخليج! على حين أن نفراً من رجال السنة من هنا وهناك - ولا سيما في مصر بلد الأزهر - مَن ركب جواده، وامتشق سلاحه، دفاعا عن الشيعة المظاليم!
اللهم إنا نشهدك على أننا لا نريد إلا الخير والسلام لأمة الإسلام. وكفى بك شهيدا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخوكم
يوسف القرضاوي
نص رسالة الدكتور احمد كمال ابو المجد
------------------------
فضيلة العالم الجليل الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي
تحية طيبة، وأسأل الله تعالي أن يتم نعمته عليكم، صحة موفورة وعافية تامة، وصدراً منشرحاً، وبالاً مستريحاً، وأموراً ميسرة موفقة بعبادته ورعايته.. وهي كما تعلمون فضيلتكم «نعَِم» كبري لا أعرف ولا يعرف أحد بعدها مطلباً لسائل، وبعد.
فقد آلمني وعز عليَّ كثيراً، كما آلم الكثيرين وعز عليهم ما كان من تداعيات ما أدليتم به من حديث يتعلق بتجاوز بعض الأخوة الشيعة لما سميتموه «الخطوط الحمراء» التي ينبغي وقوف الجميع عند حدودها في ممارستهم النشاط الدعوي والاجتهاد الفقهي، حفاظاً علي وحدة الأمة، وإبقاء علي روح المودة التي يتعذر في غيابها التعاون علي مواجهة الأخطار الجسام التي يتعرض لها المسلمون أفراداً وشعوباً وجماعات، في سياق «التدافع» والصراع الذي يشهده هذا العصر المحير.
ولقد آلمنا ـ بوجه خاص ـ ما تعرضتم له فضيلتكم من جانب بعض الأقلام والألسنة من تجريح لا يغتفر ولا يعذر أصحابه، ولا يليق بمكانة العلم والعلماء، وكثير من أصحاب هذه الأقلام وتلك الألسنة لا يخفي عليهم ما يوجبه أدب الحوار علي أطرافه والمشاركين فيه من عفة القلم واللسان، مهما كانت بواعث الخروج علي تلك العفة، وأخشي أن أكون مصيباً تماماً في اعتقادي أن هناك من يحرص الحرص كله علي تعميق هذا الخلاف وتوظيفه توظيفاً ماكراً خبيثاً يصدر عن رغبة ملحة في «تفكيك» كيان الأمة وتبديد طاقتها وإيقاع علمائها ومجتهديها بعضهم ببعض، وصرفها بذلك كله عن مواجهة التحديات التي تواجهها داخل حدودها ومن وراء تلك الحدود.
وأنا لا ألتفت إلي الذين يشرحون أقلامهم وألسنتهم لمهاجمة كل من يتحدث عن «المؤامرة» كتفسير ـ جزئي علي الأقل ـ لكثير مما يواجه أمتنا من تحديات وما تتعرض له من حملات.. والمسألة في حقيقتها عندي أن البعض يعرفون الكثير عن تخطيط وإعداد الذين يحرصون علي تصفية كيان أمتنا وإقصائها عن ساحة المنافسة والسباق، وأن البعض الآخر لا يعرفون شيئاً عن هذا التخطيط، وقديماً قيل ـ بحق ـ إن من لم ير ليس حجة علي من رأي.
أستاذنا الجليل.. إن ما وقع، لا يعدو في حقيقته أن يكون خلافاً في الرأي والتقدير بين فضيلتكم وبين آخرين من إخوانكم وأبنائكم ممن يحملون الرسالة التي تحملونها، وتؤرقهم الهموم العامة التي تؤرق فضيلتكم، وهم يحملون لكم محبة خالصة، ووداً يتمنون ألا يخدشه خلاف عارض، وتقديراً واحتراماً شخصياً وموضوعياً لم يتخلوا عنه، ولكن يبقي أن التشاور فضيلة وفريضة، وأن اتساع الصدر للخلاف الذي يدار بروح طيبة، وعبارات لائقة واجب تعلمنا منكم أنه أدب من آداب الإسلام، ومكرمة من مكارم الأخلاق.. ولن نغفر لأنفسنا أبداً أن نشارك بالصمت والسلبية في تحول الخدش الذي وقع إلي جرح غائر يحتاج التآمه إلي زمن طويل.
إن الذين أقلقتهم بعض ما أدليتم به علي الملأ من رأي، قد تساءلوا ـ محققين في ذلك ـ عن أمرين أستأذن في أن أضعهما أمام فضيلتكم:
أولهما: إننا علي إطار ما نتعرض له جميعاً ويتعرض له الإسلام من حملة تشوية ورغبة في الإزاحة والإزالة، نحتاج إلي خط دفاع مترابط متماسك وإلي أن تظل جبهتنا كالبنيان المرصوص، وقد كان ممكناً طوال الوقت أن تثار قضية «الخطوط الحمراء» في اجتماع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وفيه من فيه الإخوة الشيعة الحكماء والعقلاء، أما إثارة القضية الشائكة الدقيقة التي عرضتم لها فضيلتكم علي الملأ، فقد كان محتماً أن تستدعي ردود أفعال: بعضها هادئ وعاقل ومسئول، وبعضها دون ذلك، وهذا ما وقع فعلاً، ولا تزال حلقاته تتداعي وتتواصل في بعض الصحف وفي كثير من الفضائيات ومواقع الإنترنت.
ثانياً: أن توقيت هذه التصريحات جاء مثيراً للقلق والإشفاق من عواقبها.. فالحملة علي الإسلام والمسلمين لا تزال في ذروتها وأسلحة المهاجمين فيها أمضي من أسلحة المسلمين مجتمعين، فكيف إذا تفرقوا، وأنفقوا ما بقي لديهم من طاقة وجهد في ملاسنة وحروب كلامية تجنح فيها العبارات، وتطيش بعض الكلمات، فتفسد علي العقول والضمائر أمرهما حتي يصير فرطاً لقد كان جهد فضيلتكم وجهادكم سعياً لتوحيد الأمة في إطار القاعدة الذكية الحصيفة من أننا «نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه»، كان هذا المبدأ جديراً بإرجاء فتح باب الحوار حتي يمهد له في أجواء أخوية صافية بمصارحة ومكاشفة وشيء من عتاب أخوي رقيق.
إنني يا فضيلة أستاذنا الجليل أشارك القلقين قلقهم وإشفاقهم الشخصي والموضوعي من غضبكم الحاد عليهم، وأدعوكم باسم الله تعالي، جامع الناس جمعاء، ونحن منهم، ليوم لاريب فيه وباسم الإسلام الذي نري فيه، بعين اليقين، منبع المنابع والمنهل الفياض بالعدل والحق والخير والرحمة والسلام، وكل ما يتطلع إليه الخلفاء العقلاء من إصلاح إنساني شامل يملأ الدنيا نوراً ويملأ حياة الناس بهجة وسروراً.
وباسم علمكم الذي زاد وربا بعد أن أضفتم إلي نشاطكم الدعوي الذي وصلت أصداؤه إلي جميع الناس، اجتهاداً فقهياً رصيناً يجمع بين المعرفة الدقيقة بالأحكام والنصوص الدالة عليها، وبين مقاصد تلك النصوص وحكمتها الكبري، ومن اجتماع حكمة الداعي إلي الحق ببصيرة المجتهد العارف لواقع الحق وأحوال الناس تنزل الرحمة التي بعث بها الأنبياء والمرسلون، وهي رحمة ـ علم الله ـ تسع أهل الدنيا جميعاً، مسلمين وغير مسلمين.
واسأل الله تعالي ـ مع محبيكم والمنتفعين بعلمكم وجهادكم ـ أن يمد في عمركم حتي نجني ثمرة هذه الوسطية التي تميزتم بها والتي ستظل ـ بإذن الله ـ تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
إن لي عندكم دعوة ورجاء أن تسارعوا ـ دون انتظار دعوة من أحد ـ إلي غلق هذا الملف بغير إبطاء، وكأنه ما فتح، وأن تستأنفوا اجتهادكم وجهادكم بنفس راضية، تعمرها السماحة والود.
وإن ضاق صدركم عن هذا وهو ما أسأل الله تعالي ألا يكون، فإن الأمر كل الأمر، لله تعالي وحده من قبل ومن بعد.
وأستأذن في ختام هذه الرسالة أن أتجاوز موضوعها العارض لأتوجه بكلمة إلي كل من نحبهم من أهل القبلة الواحدة، والدين الواحد،.
إننا جميعاً ـ سُنة وشيعة ـ لم نعد معذورين بين يدي الله عن مواصلة الانقسام التاريخي الذي بدأ بعد معركة كربلاء، فالهموم التاريخية كلها قد مضي عليها زمان طويل، وهموم الحاضر لها لون خاص ومذاق ـ علي مرارته ـ جديد، نعم إن تذويب الرواسب التاريخية أمر بالغ العسر، ومن الحكمة التسليم بأنه يحتاج إلي جهود سنوات لمحو آثار ما صنعته القرون، ولكن ذلك وحده هو الطريق ولم يعد أمامنا نحن المسلمين، إلا أن يرتفع علماؤنا من السنة والشيعة إلي الأفق العالي الرفيع الذي تدعوهم إليه مسئوليتهم أمام الله، وهم عند أهل السنة والشيعة ـ علي السواء ـ ورثة الأنبياء فيتوجهون إلي معالجة أمور الحاضر والمستقبل في إطار من «مصالح المسلمين» وكل المسلمين متوقفين عند اجترار الماضي وإغراق العامة في مآسيه وإلا فنحن ـ وإياهم ـ في انتظار مأساة هائلة تحل بنا جميعاً.. وتهون إلي جوارها فاجعة كربلاء، سوف يكون الشهيد فيها هذه المرة الأمة كلها وليس الإمام.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أحمد كمال أبوالمجد
------------------------
فضيلة العالم الجليل الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي
تحية طيبة، وأسأل الله تعالي أن يتم نعمته عليكم، صحة موفورة وعافية تامة، وصدراً منشرحاً، وبالاً مستريحاً، وأموراً ميسرة موفقة بعبادته ورعايته.. وهي كما تعلمون فضيلتكم «نعَِم» كبري لا أعرف ولا يعرف أحد بعدها مطلباً لسائل، وبعد.
فقد آلمني وعز عليَّ كثيراً، كما آلم الكثيرين وعز عليهم ما كان من تداعيات ما أدليتم به من حديث يتعلق بتجاوز بعض الأخوة الشيعة لما سميتموه «الخطوط الحمراء» التي ينبغي وقوف الجميع عند حدودها في ممارستهم النشاط الدعوي والاجتهاد الفقهي، حفاظاً علي وحدة الأمة، وإبقاء علي روح المودة التي يتعذر في غيابها التعاون علي مواجهة الأخطار الجسام التي يتعرض لها المسلمون أفراداً وشعوباً وجماعات، في سياق «التدافع» والصراع الذي يشهده هذا العصر المحير.
ولقد آلمنا ـ بوجه خاص ـ ما تعرضتم له فضيلتكم من جانب بعض الأقلام والألسنة من تجريح لا يغتفر ولا يعذر أصحابه، ولا يليق بمكانة العلم والعلماء، وكثير من أصحاب هذه الأقلام وتلك الألسنة لا يخفي عليهم ما يوجبه أدب الحوار علي أطرافه والمشاركين فيه من عفة القلم واللسان، مهما كانت بواعث الخروج علي تلك العفة، وأخشي أن أكون مصيباً تماماً في اعتقادي أن هناك من يحرص الحرص كله علي تعميق هذا الخلاف وتوظيفه توظيفاً ماكراً خبيثاً يصدر عن رغبة ملحة في «تفكيك» كيان الأمة وتبديد طاقتها وإيقاع علمائها ومجتهديها بعضهم ببعض، وصرفها بذلك كله عن مواجهة التحديات التي تواجهها داخل حدودها ومن وراء تلك الحدود.
وأنا لا ألتفت إلي الذين يشرحون أقلامهم وألسنتهم لمهاجمة كل من يتحدث عن «المؤامرة» كتفسير ـ جزئي علي الأقل ـ لكثير مما يواجه أمتنا من تحديات وما تتعرض له من حملات.. والمسألة في حقيقتها عندي أن البعض يعرفون الكثير عن تخطيط وإعداد الذين يحرصون علي تصفية كيان أمتنا وإقصائها عن ساحة المنافسة والسباق، وأن البعض الآخر لا يعرفون شيئاً عن هذا التخطيط، وقديماً قيل ـ بحق ـ إن من لم ير ليس حجة علي من رأي.
أستاذنا الجليل.. إن ما وقع، لا يعدو في حقيقته أن يكون خلافاً في الرأي والتقدير بين فضيلتكم وبين آخرين من إخوانكم وأبنائكم ممن يحملون الرسالة التي تحملونها، وتؤرقهم الهموم العامة التي تؤرق فضيلتكم، وهم يحملون لكم محبة خالصة، ووداً يتمنون ألا يخدشه خلاف عارض، وتقديراً واحتراماً شخصياً وموضوعياً لم يتخلوا عنه، ولكن يبقي أن التشاور فضيلة وفريضة، وأن اتساع الصدر للخلاف الذي يدار بروح طيبة، وعبارات لائقة واجب تعلمنا منكم أنه أدب من آداب الإسلام، ومكرمة من مكارم الأخلاق.. ولن نغفر لأنفسنا أبداً أن نشارك بالصمت والسلبية في تحول الخدش الذي وقع إلي جرح غائر يحتاج التآمه إلي زمن طويل.
إن الذين أقلقتهم بعض ما أدليتم به علي الملأ من رأي، قد تساءلوا ـ محققين في ذلك ـ عن أمرين أستأذن في أن أضعهما أمام فضيلتكم:
أولهما: إننا علي إطار ما نتعرض له جميعاً ويتعرض له الإسلام من حملة تشوية ورغبة في الإزاحة والإزالة، نحتاج إلي خط دفاع مترابط متماسك وإلي أن تظل جبهتنا كالبنيان المرصوص، وقد كان ممكناً طوال الوقت أن تثار قضية «الخطوط الحمراء» في اجتماع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وفيه من فيه الإخوة الشيعة الحكماء والعقلاء، أما إثارة القضية الشائكة الدقيقة التي عرضتم لها فضيلتكم علي الملأ، فقد كان محتماً أن تستدعي ردود أفعال: بعضها هادئ وعاقل ومسئول، وبعضها دون ذلك، وهذا ما وقع فعلاً، ولا تزال حلقاته تتداعي وتتواصل في بعض الصحف وفي كثير من الفضائيات ومواقع الإنترنت.
ثانياً: أن توقيت هذه التصريحات جاء مثيراً للقلق والإشفاق من عواقبها.. فالحملة علي الإسلام والمسلمين لا تزال في ذروتها وأسلحة المهاجمين فيها أمضي من أسلحة المسلمين مجتمعين، فكيف إذا تفرقوا، وأنفقوا ما بقي لديهم من طاقة وجهد في ملاسنة وحروب كلامية تجنح فيها العبارات، وتطيش بعض الكلمات، فتفسد علي العقول والضمائر أمرهما حتي يصير فرطاً لقد كان جهد فضيلتكم وجهادكم سعياً لتوحيد الأمة في إطار القاعدة الذكية الحصيفة من أننا «نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه»، كان هذا المبدأ جديراً بإرجاء فتح باب الحوار حتي يمهد له في أجواء أخوية صافية بمصارحة ومكاشفة وشيء من عتاب أخوي رقيق.
إنني يا فضيلة أستاذنا الجليل أشارك القلقين قلقهم وإشفاقهم الشخصي والموضوعي من غضبكم الحاد عليهم، وأدعوكم باسم الله تعالي، جامع الناس جمعاء، ونحن منهم، ليوم لاريب فيه وباسم الإسلام الذي نري فيه، بعين اليقين، منبع المنابع والمنهل الفياض بالعدل والحق والخير والرحمة والسلام، وكل ما يتطلع إليه الخلفاء العقلاء من إصلاح إنساني شامل يملأ الدنيا نوراً ويملأ حياة الناس بهجة وسروراً.
وباسم علمكم الذي زاد وربا بعد أن أضفتم إلي نشاطكم الدعوي الذي وصلت أصداؤه إلي جميع الناس، اجتهاداً فقهياً رصيناً يجمع بين المعرفة الدقيقة بالأحكام والنصوص الدالة عليها، وبين مقاصد تلك النصوص وحكمتها الكبري، ومن اجتماع حكمة الداعي إلي الحق ببصيرة المجتهد العارف لواقع الحق وأحوال الناس تنزل الرحمة التي بعث بها الأنبياء والمرسلون، وهي رحمة ـ علم الله ـ تسع أهل الدنيا جميعاً، مسلمين وغير مسلمين.
واسأل الله تعالي ـ مع محبيكم والمنتفعين بعلمكم وجهادكم ـ أن يمد في عمركم حتي نجني ثمرة هذه الوسطية التي تميزتم بها والتي ستظل ـ بإذن الله ـ تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
إن لي عندكم دعوة ورجاء أن تسارعوا ـ دون انتظار دعوة من أحد ـ إلي غلق هذا الملف بغير إبطاء، وكأنه ما فتح، وأن تستأنفوا اجتهادكم وجهادكم بنفس راضية، تعمرها السماحة والود.
وإن ضاق صدركم عن هذا وهو ما أسأل الله تعالي ألا يكون، فإن الأمر كل الأمر، لله تعالي وحده من قبل ومن بعد.
وأستأذن في ختام هذه الرسالة أن أتجاوز موضوعها العارض لأتوجه بكلمة إلي كل من نحبهم من أهل القبلة الواحدة، والدين الواحد،.
إننا جميعاً ـ سُنة وشيعة ـ لم نعد معذورين بين يدي الله عن مواصلة الانقسام التاريخي الذي بدأ بعد معركة كربلاء، فالهموم التاريخية كلها قد مضي عليها زمان طويل، وهموم الحاضر لها لون خاص ومذاق ـ علي مرارته ـ جديد، نعم إن تذويب الرواسب التاريخية أمر بالغ العسر، ومن الحكمة التسليم بأنه يحتاج إلي جهود سنوات لمحو آثار ما صنعته القرون، ولكن ذلك وحده هو الطريق ولم يعد أمامنا نحن المسلمين، إلا أن يرتفع علماؤنا من السنة والشيعة إلي الأفق العالي الرفيع الذي تدعوهم إليه مسئوليتهم أمام الله، وهم عند أهل السنة والشيعة ـ علي السواء ـ ورثة الأنبياء فيتوجهون إلي معالجة أمور الحاضر والمستقبل في إطار من «مصالح المسلمين» وكل المسلمين متوقفين عند اجترار الماضي وإغراق العامة في مآسيه وإلا فنحن ـ وإياهم ـ في انتظار مأساة هائلة تحل بنا جميعاً.. وتهون إلي جوارها فاجعة كربلاء، سوف يكون الشهيد فيها هذه المرة الأمة كلها وليس الإمام.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أحمد كمال أبوالمجد
منقول/الدار العراقية