بسم الله الرحمن الرحيم
د. أحمد صبحى منصور
الحج أشهر معلومات
يمكنك أن تحج خلال أربعة أشهر ، من أول ذى الحجة الى نهاية ربيع الأول.
أى نحن الآن فى شهر ربيع الأول. يمكنك أن تحج الان حسب شريعة القرآن الكريم .
كيف ذلك ؟ إقرأ هذا المقال..
أولا :
1 ـ بقراءة السطور السابقة سيهتاج المتعصبون لما وجدوا عليه آباءهم. لقد تعودوا على أن موسم الحج هو بضعة أيام فقط فى بداية شهر ذى الحجة تنتهى بما يعرف بعيد الأضحى ،ثم عليهم أن ينتظروا عاما آخر لقدوم الموسم التالى.
2 ـ لو قلت لهم إن عنوان المقال ( الحج أشهر معلومات ) ليس اختراعا من المؤلف ، ولكنه قول رب العالمين فى القرآن لانهالوا ـ كالعادة ـ عليك وعلى المؤلف شتما. فالقرآن الكريم لا يهمهم إذا تعارض مع ما وجدوا عليه آباءهم.
3 ـ لو قلت لهم : ان أساس التشريع الاسلامى هو التيسير ورفع الحرج وحفظ النفس ورعاية الناس ، ولا يتأتى هذا مع حشر ملايين الناس فى وقت واحد فى مكان واحد بحيث يموت كل عام منهم بالمئات .. وأن الحل هو فى قوله تعالى ( الحج أشهر معلومات ) ..أيضا لن تنال منهم إلا السب والتجريح، لأن ما وجدوا عليه آباءهم من الثوابت التى تهون من أجلها أسس التشريع الاسلامى ، وحياة الملايين..!!
4 ـ الطريق الوحيد لاسكاتهم هو الاستدلال بما قاله أئمتهم فى دينهم الأرضى. عندها سينظرون اليك نظر المغشى عليه من الموت ..
فهل قال أئمة الدين السنى : أن موسم الحج مدته اسبوع واحد فقط ؟ أم قالوا إنه أشهر وليس مجرد أيام ؟..
الواقع إنهم قالوا أن موسم الحج أشهر ، وأنه عندهم فى دينهم الذى ابتدعوه ـ يصح تأدية الحج خلال تلك الأشهر.
تعالوا بنا الى ما قاله أئمة الدين السنى عن أشهر الحج :
5 ـ يروى البخارى حديث ابن عمر " أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشرة أيام من ذى الحج " وقال ابن عباس " ومن السنة أن لا يحرم بالحج إلا فى أشهر الحج " ( البخارى 2/173 ) .
ويروى الشافعى حديث جابر بعدم جواز الحج قبل أشهر الحج ، وأشهر الحج عند الشافعى هى شوال وذو القعدة وذوالحجة ( الأم 2/132 ) ويؤكد نفس المعنى ابن كثير فى تفسيره ،ويقول " .. وهو الحج أشهر معلومات شوال وذوالقعدة وذوالحجة " .
ويقول ابن كثير عن إختلاف المذاهب فى وقت الحج " بعضهم يرى بصحة الأحرام بالحج فى جميع شهور السنة ، وهذا مذهب مالك وأبو حنيفة وابن حنبل وإسحق بن راهوية والنخعى والثورى والليث بن سعد . وذهب الشافعى إلى أنه لا يصح الحج إلا فى أشهره واستدل بقوله سبحانه وتعالى " الحج أشهر معلومات " وبحديث جابر " لا ينبغى لأحد أن يحرم بالحج إلا فى أشهر الحج " ( تفسير ابن كثير 1/236 ، 235 ).
* المستفاد مما قالوه أن الحج عندهم أشهر وليس مجرد أيام ، وأنه يجوز الاحرام بالحج خلال تلك الأشهر. وعليه فان حشر الناس بالملايين فى مكان واحد ووقت واحد وتعريض حياتهم للموت مما يتناقض مع الدين السنى الأرضى نفسه..
** المستفاد أيضا أن أئمة الدين السنى الأرضى مع اتفاقهم على أن الحج أشهر، فانهم ـ كالعادة ـ اختلفوا فى تحديد مدة موسم الحج.
ولكن هل ما قالوه عن أشهر الحج صحيح ؟
تعالوا بنا الى القرآن الكريم ـ المرجعية الوحيدة لدين الله تعالى السماوىـ لنتعرف منه على الاجابة الصحيحة.
ثانيا :
وتيسرا على القارىء سنجعل الموضوع فى سؤال وجواب.
1 ــ يقول رب العزة: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ) (البقرة /197 ) فما معنى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ )؟
يعنى أن موسم الحج الذى يمكن ان تؤدى خلاله فريضة الحج هو أشهر معلومات معروفات للعرب وقت نزول القرآن الكريم. أى هناك أشهر معلومة للحج يعلمها العرب ومن أدى فريضة الحج فى هذه الأشهر فعليه أن يلتزم بواجبات الحج والأحرام عند بيت الله .
2 : وكيف تكون تلك الأشهر معلومات للعرب وقت نزول القرآن ثم يحدث تناسيها والاختلاف فيها كما جاء فى كلام الفقهاء والمذاهب.؟
كانت تلك الأشهر معلومات للعرب لأنها هى نفس الأشهر الحرم التى كانوا يلتزمون فيها باداء فريضة الحج ، والتى كانوا يلتزمون فيها بعدم الاقتتال ، ثم إذا أحلوا القتال فيها أو فى بعضها أعلنوا ذلك فى محافلهم و كان منها سوق عكاظ. وهذا هو النسىء ، الذىجعله رب العزة زيادة فى الكفر. قال تعالى (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ ...َ ) ( التوبة 37 ).ومع أن النسىء كان زيادة فى الكفر أو كفرا متطرفا إلا إنه كان يعرف الأشهر الحرم مبدئيا ويعترف بحرمتها ، ويلتزم بذلك غالبا ، ويستحل بعضها أحيانا ـ ولكن يعلن ذلك.
ولكن المسلمين فى معظم تاريخهم لم يعترفوا بالأشهر الحرم ، ولم يحدث بعد قيام الدولة الأموية أن توقف القتال بين المسلمين احتراما للأشهر الحرم ، ثم تناسوها تماما ، وعندما تذكرها الفقهاء فى العصر العباسى قاموا بتحريفها،وأضافوا اليها ما ليس منها وألغوا منها ما هو أصل فيها. وامتد نفس التحريف و التخريف الى البيت الحرام بعد الشهر الحرام. وهكذا يأتى وصف الله تعالى للأشهر الحرم بأنها ( أشهر معلومات ) صفعة للدين السنى الذى جعل تلك الأشهر (مجهولات ) بعد أن كانت ( معلومات )
3 : ما معنى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ.)
قوله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ) يعنى أن فريضة الحج تستغرق أياما معدودات. ويمكن تأدية الفريضة فى هذه الأيام المعدودات فى أى وقت خلال الأشهر الأربعة الحرم.
4 : ولكن الله تعالى قال في الآية الأخيرة عن الحج فى السورة: (وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى ..َ) ( البقرة 203 ) فماهى العلاقة بين الأشهر المعلومات والأيام المعدودات ؟
الأيام المعدودات هى المدة التى تكفى قضاء مناسك الحج خلال أشهر الحج أو موسم الحج الذى يستمر أربعة أشهر كل عام . ولأن تشريع الاسلام يقوم على التيسير ورفع الحرج فإن الله تعالى يبيح للمضطر أن يبدأ الحج قبل ميعاده بيومين أى فى التاسع والعشرين و الثلاثين من ذى القعدة أو أن يتأخر عن نهايته بيومين أى فى الأول و الثانى من ربيع الآخر.
وتخيل أن يأتى هذا التسهيل و التيسير حين كان الحجاج وقتها بالالاف ، فما هو الحال فى يومنا والحجاج بالملايين ..!! هنا نتعرف على جناية الدين السنى على أصحابه وعلى الاسلام و المسلمين..!!
5 ـ فما هى أشهر الحج الحقيقية ؟
من خلال سورة التوبة نتعرف على الأشهر الحرم الحقيقية، ففيها نزل إعلان البراءة من كل المشركين المعتدين وأعطاهم مهلة أربعة أشهر هى الأشهر الحرم ليكفوا عن الاعتداء ، وأذيع ذلك الإعلان يوم الحج الأكبر ، أى بداية موسم الحج.
تقول الاية الأولى من سورة التوبة: ( بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ) هذا إعلان البراءة. وتقول الاية الثانية : (فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ) وهذه هى المهلة : أربعة أشهر. تقول الآية الثالثة : (وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ..) وهنا بداية المهلة أو الأذان ؛ يوم الحج الأكبر، أى بداية موسم الحج. ثم تقول الاية الخامسة : (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ .. ) وهنا نهاية المهلة. وهنا أيضا التوضيح بأن مهلة الأربعة أشهر هى نفسها الأشهر الأربعة الحرم التى يحرم فيها القتال، وأنها تبدأ بموسم الحج، ثم تستمر متتابعة الى انسلاخ الأشهر الحرم كلها .والمفهوم أن يسرى مفعول الآذان – أو الأنذار – فى الشهور التالية لتكون الأشهر الحرم هى " ذو الحجة ، محرم ، صفر ، ربيع أول " فليس معقولا أن ينذرهم الله بأربعة أشهر سابقة هى شوال وذى القعدة ..!!
وقوله تعالى (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ) معناه أن الأشهر الحرم تبدأ بذى الحجة وتنتهى بربيع الأول .وذو الحجة اشتق أسمه من بداية موسم الحج للبيت الحرام ، وربيع الأول لأنه الشهر الرابع فى الأشهر الحرم ، وكلمة ( إنسلخ ) تفيد التتابع . أى أن الأشهر الحرم تأتى متتابعة متلاحقة .
ومصطلح الانسلاخ جاء فى قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ ) ( يس 37 ) فالله تعالى يسلخ النهار من الليل فيحل الظلام . والنهار ينسلخ بالتتابع ومرة واحدة ،ولا تبقى أجزاء من النهار تأتى بعد الظلام إذن كيف يكون رجب من الأشهرالحرم ؟!! ، وكيف يكون شوال وذى القعدة منها ؟؟!!...
الحج خلال تلك الأشهر الحرم المعلومات للعرب هو ما كانت عليه ملة ابراهيم عليه السلام ، وهو الذى بوّأ الله تعالى له مكان البيت ، فأعاد بناءه مع ابنه اسماعيل ، وهو الذى أعلن الدعوة الى الحج. ( البقرة 125 ـ الحج 26 ـ )
ثم قام العرب فى الجاهلية بتحريف مناسك الحج والنسىء في أشهره الحرم فنزل القرآن الكريم يصحح ويوضح وييسر .
وبعد نزول القرآن الكريم فان الشيطان لم يقدم استقالته ، ولذلك عاد التحريف فى الأديان الأرضية للمسلمين متشعبا فى فريضة الحج وفى الأشهر الحرم. ولهذا نكتب هذا المقال .
6 ـ فما الذى جعل الحج ينحصر خلال العشرة أيام الأولى من شهر ذى الحجة ؟
الصراعات السياسة والحربية هى السبب، فعلى هامشها نشأت الأديان الأرضية للمسلمين، وأهتمت تلك الأديان الأرضية باقامة الاحتفالات و المواسم الدينية لتجتذب الأتباع. فللدين السنى أعياده ، وكذلك للدين الشيعى و الدين الصوفى ، ولكل دين الموالد أو الأعياد المقدسة التى تقام على أضرحة أئمته أو ذكراهم ، و بالتالى بدأ الحج الى أضرحة الأولياء و الأئمة. ومع اختلافهم فى تلك الأعياد و الموالد و تقديس البشر و الحجر فقد اتفقوا على إقامة عيدين مرتبطين بعبادتين اسلاميتين ، وهما عيد الفطر بعد انتهاء صوم رمضان وعيد الأضحى بعد انتهاء الحج الذى حصروه فى العشرة ايام الأولى من شهر ذى الحجة.
وكان ذلك كله على حساب الكعبة و الحج والشهر الحرم.
* فقد أنشأت أديان المسلمين الأرضية كعبات تحج اليها تنافس الحج للكعبة . فابتدع الدين السنى الحج الى ما أسموه ( المسجد النبوى ) فى المدينة والمسجد الأقصى فى القدس ، ومنعوا الحج الى غيرذلك . ومع أن الجميع فى الأديان الأرضية قد اتفقوا على تقديس ما يسمى بقبر النبى محمد وجعل زيارته من أساس الحج عندهم إلا أن الشيعو الصوفية أضافوا كعبات خاصة بهم ـ أى أضرحة وقبور مقدسة ـ يشدون اليها الرحال تحديا لمقولة ( لا تشد الرحال إلا الى ..)
فالشيعة لهم مدن كاملة مقدسة من كربلاء الى النجف ـ وحاليا (قم). أما التصوف فقد انتشرت به الأضرحة كالنبات الشيطانى لتغطى معظم مدن المسلمين ، بل وزحفت الى المساجد القديمة المنشأة قبل ظهور التصوف مثل مسجد الفسطاط فى مصر. واعتاد الناس الحج الى تلك الأضرحة ، وكان يقال أن من زار الضريح الفلانى كذا مرة فكأنما حج للكعبة. و يتم في هذا الحج تقريبا نفس مناسك الحج للبيت الحرام ، والتفاصيل فى كتابنا ( السيد البدوى بين الحقيقة و الخرافة) وسننشره على موقع أهل القرآن قريبا ـ إن شاء الله تعالى.
ولأن شهور العام لا تتسع لتأدية مناسك الحج لكل هذه الكعبات كان لا بد من حصر الحج الاسلامى للكعبة فى أيام بدلا من شهور. ولهذا جرى الاكتفاء بالحج خلال موسم الافتتاح فقط ، اى خلال ( الحج الأكبر )وتناسوا إباحة الحج طيلة الشهر الحرم ، بل تناسوا الأشهر الحرم أساسا بسبب الاقتتال المستمر بين المسلمين والذى لم يتوقف منذ العصر الأموى وحتى الان.
وهناك سبب آخر..
بالحروب الأهلية بين المسلمين انتقلت حركة الأحداث إلى عواصم جديدة فى الكوفة ثم دمشق ثم بغداد والفسطاط والقاهرة ، وبالتدريج أقفرت الجزيرة العربية منذ القرن الثالث وتم تهميشها فتحولت الى الحياة الجاهلية، وبدأت الغارات على قوافل الحجاج مما استلزم أن يتجمع الحجاج فى مسيرة واحدة فى وقت واحد ويقوم على حمايتهم جيش يقوده أمير للحج. وبذلك كانت وفود الحجيج من كل مكان تأتى فى شكل حملات عسكرية لتحمى الحجاج من غارات البدو ، خصوصا بعد أن إنتشرت المذاهب الشيعية المتطرفة بين قبائل العرب ، فصاروا عماد القرامطة وقبلها حركة الزنج. ومعلوم ما فعله القرامطة بالحجاج وبيت الله الحرام ، وقفزت غارات القرامطة إلى عناوين التاريخ لإرتباطها بحركة سياسية ، أما الغارات العادية للقبائل فقد كانت من الأنشطة العادية التى قبعت بين سطور التاريخ .ولحماية قوافل الحجاج كان لا بد من تجميع الوفود القادمة للحج لتكون فى موسم الإفتتاح فقط . واستمرهذا كل عام على مدار القرون فأصبح أهم الثوابت التى وجدنا عليها آباءنا.!!.
ويضاف إلى ذلك أن الخلفاء و السلاطين حرصوا على إستغلال موسم الحج للدعاية السياسية فى عصر لم يكن الإتصال فيه بين الولايات ميسورا، وصار الحج من الأدوات السياسية التى تستلزم حشد الجماهير فى وقت محدد ، وكان حرص الناس شديدا على رؤية مواكب الخلفاء والسلاطين وقت تجمعهم فى موسم الحج ـ الذى هو فى الأصل مجرد ( بداية الموسم ) أو ( الحج الأكبر ). وبذلك ترسب فى الشعور أن الحج هو فى تلك الأيام القليلة فى بداية شهر ذى الحجة فقط . ونسى المسلمون قوله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ) ويحتاجون الان الى من يقنعهم بأن الحج فعلا أشهر معلومات. وتلك هى جناية السياسة وأديان المسلمين الأرضية على شعيرة الحج الاسلامية والأشهر الحرم .
7 ـ نعود الى الحج الاسلامى و الأشهرالأربعة الحرم التى يستطيع المسلم خلالها تأدية الحج فى ايام معدودات. نريد توضيحا اكثر للعلاقة بين الحج والأشهر الأربعة الحرم .
لله سبحانه وتعالى حرم مكانى هو البيت الحرام ولله سبحانه وتعالى حرم زمانى هو الأشهر الأربعة الحرم.
لله تعالى فى الزمان حرم يجب على الناس الامتناع عن الظلم فيه ، يقول تعالى (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ) ( التوبة 36 ) من المفروض الامتناع عن الظلم فى كل وقت وزمان ، ولكن الامتناع يجب أن يكون إكثر إلزاما فى أشهر الله الحرم.
فى المكان جعل الله تعالى له حرما للناس جميع، ومن سافر اليه أو من دخله كان آمنا أى يجب تأمينه أثناء رحلته لهذا البيت الحرام، وإذا كان فيه: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً) ( البقرة 125 ) (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ) ( آل عمران 96).
والنسق القرآنى يجمع بين الحرم الزمانى والمكانى فى الحديث عن وجوب تأمين القادمين للحج والهدى أو الأنعام المقدمة هديا لاطعام ضيوف الله تعالى فى الحرم المكانى ، وحتى القلائد أى العلامات التى توضع على تلك الأنعام المهداة لله تعالى تمييزا لها على غيرها ، وتأمين كل من يدخل البيت الحرام وكل من يعيش فيه ، بل الصيد . (المائدة: 1 : 2 ، ـ 97ــ ).
8 ـ و ما معنى الاحرام
الاحرام بالحج هو أن تجمع بين الحرم المكانى و الحرم الزمانى والحرم الانسانى معا.
فقد تحج فى الأشهر الحرم وفى البيت الحرام ولكن لا يقبل الله تعالى الحج الذى أديته لأنك أغفلت حرما آخر لله تعالى ـ هو القلب . فالقلب البشرى هو الحرم الثالث لله تعالى فى داخلك، فيحرم فيه مخالفة أوامر الله تعالى ـ أثناء الحج ـ ولو بمجرد النية، وهذا معنى أن يكون القلب حرما إنسانيا لله تعالى.
9 ـ شيئا فشيئا أرجوك.. هذا يستلزم شرحا قرآنيا..
لنتدبر قوله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ) .
أن الله تعالى يأمر من يؤدى فريضة الحج أثناء الأشهر الحرم المعلومات أن يمتنع عن الرفث ، والفسوق و الجدال. أى يمتنع ليس فقط عن المعاصى مثل الفسوق ولكن أيضا عن بعض المباحات مثل الرفث ـ أى الحديث الجنسى مع الزوجة و الفعل الجنسى معها، ويمتنع أيضا عن أى نوع من الجدال فى أى موضوع. وليس ذلك فقط ، بل عليه أن يراقب قلبه وجوارحه لتنغمس فى الخيروليتزود فى هذه التجربة الايمانية بالتقوى، وليعلم أن الله تعالى يراقب قلبه وخواطر نفسه. كل تلك الأوامر و النواهى مقصود بها تطهير القلب الانسانى ، ليكون الحب فيه لله تعالى خالصا، ولتكون النية فيه لله تعالى خالصة ، ولتكون العبادة فيه لله تعالى خالصة. وبهذا يسمو القلب الانسانى لأن يكون حرما خالصا للخضوع للخالق جل وعلا.
ولا بد أن يعبر اللسان عن ذلك الاخلاص فلا يذكر غير الله تعالى فى وقت الحج بحيث ينسى أهله الذين تركهم وجاء للحج، بل يستمر ذلك حتى بعد أداء المناسك، يقول تعالى (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ) ( البقرة 200 )
والحج كله ذكر لله تعالى وتعظيم له واستغراق فى التقوى بحيث يكون الحج ـ بهذا الاحرام ـ قد جمع بالتقوى القلبية بين الحرم الزمانى و الحرم المكانى معا، و تفرغ المؤمن فترة الحج لتحسين علاقته بربه فى أيام لا يذكر فيها إلا اسم الله تعالى وحده ـ ويتفرغ قلبه فيها لله تعالى وحده.
ولأن الحج هو أن يتطهر القلب من أى مشاعر شريرة تغضب الله تعالى فان رب العزة يهدد كل من يأتى الى الحج محتفظا بنوايا شريرة ، يقول تعالى (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الحج 25 ). أى أن الله تعالى يتوعد ذلك الذى ينوى ـ مجرد النية ـ فعل السوء و الظلم. يتوعده بعذاب اليم. لأن الحاج يجب أن يتطهر قلبه ليكون فى مستوى الزمان (الأشهر الحرم) ومستوى المكان (البيت الحرام) فهذا هو الحج أو الاحرام بالحج.
ولأن المقصد من الحج هو تعلم التقوى ـ أى تطهير القلب ليسمو الى عظمة المكان والزمان ـ فان الله تعالى يوجب على الحاج أن يدفع فدية إذا قصّر فى الأوامروالنواهى فى الحج ، وهى بطبيعتها أوامر استثنائية. الروعة هنا ـ فيما يخص تعليم الحج تطهير قلبه ـ أن الله تعالى يسند تطبيق العقوبة الى الحاج نفسه، أى ليس لسلطة بشرية ولكن للمخطىء نفسه ، عليه أن يلتزم بينه وبين نفسه بالاقرار بالذنب و أن يقوم بدافع ذاتى بالتكفير عنه. وهو يفعل كل ذلك فى تعامل خاص بينه وبين ربه جل وعلا. لا يعلم سريرته الا الله تعالى ، ولا يعلم اخلاصه أو عصيانه غير الله تعالى.
لنقرأ فى هذا أروع تشريع نزل للبشر ، يقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) ( المائدة 94). فى الاية الأولى إختبار الاهى للمؤمنين فى موضوع الصيد المحرم وقت الاحرام وفى البيت الحرام. ستأتى حيوانات الصيد من غزال وظبيان تسير بين الناس. وهنا سيظهر كل حاج على حقيقته ، تدخل عليه غزالة فى بيته وهو وحده ، فهل يخشى الله تعالى أم لا؟
ثم تجعل الاية التالية عقوبة لمن قتل الصيد متعمدا ، هى أن يقدم هديا لله تعالى بنفس حجم ما قتل من الصيد طبقا لما يحكم به إثنان من الموثوق بهما. الروعة هنا فى قوله تعالى (متعمدا) ليس فقط فى ان الناسى و المكره لا عقوبة عليه ـ ولكن لأن تقدير التعمد مبنى على نية الشخص نفسه. الجانى نفسه هو الذى يقرر إن كان متعمدا أو ناسيا. وهو فيما يقرر مسئول أمام ربه. وتلك هى أروع ملامح الشفافية فى التعامل مع الله تعالى. وتلك هى مدرسة التقوى فى الحج ، والتى يتدرب فيها المؤمن على تطهير قلبه بالاحرام ليكون مناسبا لعظمة المكان والزمان.
ولكى يتدرب المؤمن فى الحج على تطهير قلبه بالاحرام ليكون مناسبا لعظمة المكان والزمان فان الله تعالى يكرر الأمر بتعظيم حرمات الله أثناء الحج، ولنقرأ ماجاء فى سورة الحج من خطاب وجدانى فى تشريعات الحج يدعو لتطهير القلوب : (الحج 26 : 37 ) ومنه قوله تعالى (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ) (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج 30 ، 32) . وتعظيم حرمات الحج ومشاعره هى فعلا من تقوى القلوب، وبتقوى القلوب تتحقق الحكمة من الحج ـ ويتحقق الهدف منه.وبتعانق القلب الطاهر المتقى ( الحرم الانسانى ) مع الحرم المكانى و الحرم الزمانى تتم فريضة الحج، ويتحقق (الاحرام ) الحقيقى.
10 ـ هل للحج بهذا الجمع بين الحرمات الثلاث (الانسانى و الزمانى والمكانى) صلة بمعنى الاسلام وجوهره ؟
نعم. ان الاسلام فيما يخص القلب و العقيدة هو الاستسلام لله تعالى، والتسليم له بالطاعة المطلقة مثلما فعلت الملائكة حين أمرها الله تعالى بالسجود لآدم فاطاعت بدون جدال أو سؤال.
ومخلوقات الله تعالى نوعان فيما يخص التسليم و الاستسلام لله تعالى. هناك مخلوقات مخلوقة على الطاعة المطلقة، لا حرية لأنها هى مجبورة على الاستسلام التام لله تعالى. يستوى فى ذلك الكواكب و النجوم والذرات والخلايا. جعل الله تعالى مدارات للأفلاك السماوية والاليكترونات حول نواة الذرة. ولا يستطيع أحدها أن يتعدى المدارالمرسوم له: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) ( يس 38 ). وهناك مخلوقات أتاح الله تعالى لها الحرية فى الطاعة أو المعصية كالملائكة فى هذه الدنيا و البشر و الانس والجن. الغريب ان الانسان فيه جزء جسدى خاضع تماما لله تعالى ، وقد أعطى الله تعالى قيادة هذا الجسد للنفس الانسانية ، وهى تملك الحرية فى الطاعة و المعصية، وهى تتحرك بالجسد فى حركتها نحو الطاعة ونحو المعصية، ولكنها لا تملك التحكم فى حتميات الميلاد والرزق و الموت والمصائب.
المهم أن الانسان بنفسه يملك الاختيار بين الطاعة و المعصية، وإذا كان الله تعالى يقول (وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) ( آل عمران 83) فالانسان فيه جزء بشرى أسلم لله كرها وإجبارا وهو الجسد ، وفيه جزء نفسى يملك الاختيار. (عضلة ) القلب الحسى الجسدى داخل الجسد الانسانى أسلمت كرها لله تعالى ، إذ تظل تنبض دون توقف أو أجازة الى أن يأتيها الأمر الالهى بالتوقف والموت. أما القلب المعنوى وهو النفس فهى حرة فى الطاعة وفى المعصية. وإذا أطاعت الله تعالى فهى طاعة طوعية. وهذا هو معنى الحج.
11 ـ لم أفهم .. ما هى العلاقة بين الحج والاستسلام الطوعى لله تعالى ؟ وما صلة هذا بحديثك عن حرمة الزمان والمكان والزمان .. والخلايا و النواة و الاليكترون ..الخ ؟..
ألله تعالى أعطانا حرية أن نستسلم لأوامره طوعا أو أن نعصاها. وهو يريدنا أن نطيعه طواعية شأن الاليكترون الذى يطيع الله تعالى فيظل فى دورانه حول النواة الى أن يأتيه أجله المحدد، وبنفس طاعة الأفلاك السماوية التى تظل تدور حول مركزها الى ان تتدمر بأمر الاهى. يريدنا الله تعالى أن نطيعه طوعا بارادتنا. فاذا فعلنا ذلك فزنا فى اختبار يوم القيامة.
وحتى نتعود على الطاعة تأتى مدرسة الحج لنقوم فيها تطوعا بتقليد ما تفعله الكائنات الأخرى التى فطرها الله تعالى على الطاعة. وفى الحج يتم تطهير قلب الانسان ـ أى النفس ـ من كل ما يغضب الله، ويتم ذلك طواعية. و بها يتعانق الحرم الانسانى مع الحرم الزمانى مع الحرم المكانى، وتتحد فى طاعة للمولى جل وعلا.
12 ـ جميل . ولكن لا زلت لا أفهم العلاقة بين الحج والذرة والاليكترون و الكواكب والنجوم والمدارات..
الاليكترون يطوف حول النواة فى طاعة مطلقة للرحمن خالقه. والقمر يطوف حول الأرض فى طاعة مطلقة للخالق جل وعلا. والأرض ومعها قمرها وكواكب المجموعة الشمسية تدور حول الشمس ، والشمس ومجموعتها من الكواكب تدور حول مركز مجرة درب اللبانة الذى لا اعرفه. ومجرة درب اللبانة بكل ما فيها من بلايين النجوم تدور مع بلايين المجرات الأخرى حول مركز الكون المرئى لنا، كل ذلك طاعة للخالق جل وعلا. وفى الحج نحن نقوم طواعية بالطواف حول الكعبة نحاكى باختيارنا تلك المخلوقات التى جبلها الله تعالى على الطاعة.
13 ـ ولكن هذا يعنى أننا نطوف حول مركز الأرض بنفس طواف الاليكترون حول نواة الذرة ، ودوران المجموعة الشمسية حول مركزها وهو الشمس ..ألخ ..