رغم أن الإمبريالية مذمومة الآن، إلا أنها كانت وسيلة الحكم الطبيعية خلال معظم التاريخ المسجل، وكان انهيار الامبراطوريات دوما حدثا مليئا بالفوضى، سواء في الصين والهند منذ العصور القديمة حتى بدايات القرن العشرين، أو في أوروبا عقب الحرب العالمية الأولى.
إن الانهيار الذي نراه في العالم العربي اليوم، حيث تنتشر الفوضى في أجزاءٍ من شمال افريقيا، شبه الجزيرة العربية، والشام؛ يتعلق في الواقع بالنهاية الأخيرة للإمبريالية. استيلاء الدولة الإسلامية على تدمر، وهي مدينة كانت تمر بها القوافل قديما وإحدى اكثر المواقع الأثرية المذهلة بصريا في الشرق الأدنى، يؤكد فقط تلك النقطة. تجسد تدمر كيف كانت المنطقة تاريخيا تحددها طرق التجارة بدلا من الحدود الثابتة. يبرهن الاستيلاء عليها بواسطة البرابرة كيف يعود العالم إلى ذلك الواقع السائل.
إنها تحديدا ثلاثة أنظمة إمبريالية تلك التي نشاهد انهيارها الآن في الشرق الأوسط.
أولا، تظهر الفوضى الشرق أوسطية ان المنطقة لم تجد بعد حلا لانهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى. لمئات السنين، كان لدى السنة والشيعة، العرب واليهود، المسلمين والمسيحيين، في سوريا الكبرى وبلاد ما بين النهرين؛ القليل من النزاعات الحدودية. خضع الجميع لحاكمٍ امبراطوري في اسطنبول، والذي حماهم من بعضهم البعض. انهار ذلك النظام في 1918، مطلقا شيطان النزاعات القومية والعرفية والطائفية حول من يسيطر على أي مساحة مساحة من الأراضي عند أي خط حدود تحديدا.
ثانيا، أدى الانهيار الداخلي للعراق في أوج سقوط صدام حسين، الانهيار الداخلي لسوريا في أوج الربيع العربي، وصعود الدولة الإسلامية، إلى نهاية الحدود التي اقامتها الإمبريالية الأوروبية، وبالتحديد البريطانية والفرنسية، في الشام.
ثالثا، أسس نهج النأي بالنفس الواضح للرئيس باراك أوباما مقابل تلك التطورات لنهاية دور أمريكا كقوةٍ عظمى في تنظيم والحفاظ على استقرار للمنطقة. كانت الولايات المتحدة، تذكّر، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية امبراطورية عالمية في كل شيء عدا الاسم. (لا يطرح أحد، ربما، تلك النقطة غير المريحة بشكلٍ أكثر شمولية من جون داروين المؤرخ بجامعة أكسفورد في كتابه بعد تيمورلنك: صعود وسقوط الامبراطوريات العالمية، 1400-2000، الصادر عام 2007).
وليست فقط القوى الإمبريالية هي التي ذوت وتركت الفوضى محلها. فقد أنهى سقوط صدام حسين في العراق، معمر القذافي في ليبيا، وحصر رقعة سيطرة نظام بشار الأسد على دويلة محاصرة؛ حقبة زعماء ما بعد الاستعمار، والذين ارتبط حكمهم طبيعيا بإرث الإمبريالية. فبعد كل شيء، حكم هؤلاء الطغاة حسب الحدود التي أقامها الأوروبيون. ولأن تلك الحدود الإمبريالية لم تتوافق عادةً مع الحدود الإثنية أو الطائفية، فقد احتاجت تلك الأنظمة الدكتاتورية هوياتٍ علمانية من أجل تجاوز الانقسام المجتمعي. كل هذا قد تم محوه بوحشية.
للأسف، لم يكن ما يدعى بالربيع العربي متعلقا بمولد الحرية ولكن انهيار السلطة المركزية، والذي لا يخبر بشيء عن جاهزية تلك الدول، سواء كانت مصطنعة أو غير ذلك، لمشقة الديمقراطية.
من بين تلك الدول التي تأثرت بالاضطراب، كان هناك نوعين يمكن تمييزهما. أولا، هناك تلك التكتلات العتيقة من الحضارة. إنها أماكن كانت دولا بشكلٍ أو آخر منذ ما يرجع إلى العصور القديمة، وقد طورت هيئاتٍ صلبة من الهوية العلمانية التي ارتفعت فوق العرقيات والطوائف الدينية. المغرب، تونس، ومصر هم الأبرز في تلك الفئة. إذا نظر المرء إلى خريطةٍ للمدن الرومانية على امتداد الساحل الشمالي لأفريقيا، فسوف يرى أنها مزدحمة بالمستعمرات حيث تقع تلك الدول، وخالية تقريبا من المستعمرات في المساحات الشاسعة ما بين الجزائر وليبيا. بكلماتٍ أخرى، فإن تونس والمغرب ومصر قابلون للتحديد تاريخيا. ايا ما كانت الجلبة وتغيرات النظام التي يمرون بها على مدار الربيع العربي فإن هوياتهم كدول لم تكن ابدا محل سؤال. لذا فإن القضية في تلك الدول كانت من يحكم واي نوع من الحكومات يجب أن يوجد، وليس إذا ما كانت دولة أو حكومة مركزية ممكنة أم لا.
المجموعة الثانية من الدول الشرق أوسطية هي أكثر اضطرابا من سابقتها. تأخذ تلك هيئة تعبيرات جغرافية غامضة وهي أماكن ذات هويات أضعف بكثير – وفي الواقع، فإن الكثير منها لديه هويات اخترعها الإمبرياليون الأوروبيون. تعد ليبيا، سوريا، والعراق، أبرز تلك الدول. لأن الهوية في تلك الحالات كانت هشة، فقد كانت أكثر أشكال السلطوية خنقا لازمة لمجرد الحفاظ على تماسك تلك الدول. ذلك هو السبب الجذري للطبيعة المتطرفة لأنظمة القذافي والأسد وصدام حسين، والتي مارست مستوياتٍ من القمع أشد كثيرا من تلك التي مارسها حسني مبارك في مصر وزين العابدين بن علي في تونس. الجزائر، وهي ايضا دولة اصطناعية اخترعها الفرنسيون بشكلٍ اساسي، مرت بحكمٍ سلطوي متباعد وغير مثمر، وتواجه الآن انتقالا غير محدد العواقب بسبب الصحة المتدهورة لحاكمها، عبد العزيز بوتفليقة، والذي ظل في السلطة من 1999. الأردن، ايضا، هي تعبير جغرافي غامض، لكنها تمتعت بحكمٍ معتدل من خلال عبقرية العائلة الهاشمية الحاكمة والدعم الاقتصادي والأمني الهائل الذي استقبلته تلك الدولة الصغيرة من الولايات المتحدة وإسرائيل. اليمن ايضا ربما تكون تكتل حضاري عتيق، لكنه كان دائما منقسما بين العديد من الممالك المختلفة بسبب طبيعة تضاريسه الوعرة، لذا فقد كان حكم البلاد كوحدةٍ واحدة دائما شبه مستحيل.
فقط أنظمة شمولية خانقة تستطيع السيطرة على تلك الدول الاصطناعية التي نشأت من تعبيراتٍ جغرافية غامضة. عندما انهارت تلك الأنظمة فقد تركت وراءها فراغا كاملا. لأنه بين النظام في الأعلى والقبيلة والعائلة الكبيرة في الأسفل، قد نزعت تلك الأنظمة كافة المؤسسات الاجتماعية والسياسية الوسيطة منذ زمنٍ طويل. كانت الشمولية هي الإجابة الوحيدة لنهاية الإمبريالية الغربية في تلك الدول الاصطناعية، وانهيار الشمولية هو السبب الرئيسي الآن لفوضى الشرق الأوسط.
رافق ذلك النهيار للتعبيرات الجغرافية الغامضة والضعضعة الأقل حدة للتكتلات الحضارية العريقة صعود قوى اقليمية محلية مثل إيران، تركيا، والسعودية. إيران هي حضارة عالمية عظيمة من العالم القديم من ناحية وما دون دولة متطرفة وقاسية من ناحيةٍ أخرى. هذا هو سبب فعاليتاه الديناميكية حول المنطقة. كانت تتمركز امبراطورية فارسية بشكلٍ أو بآخر على الهضبة الإيرانية منذ العصور القديمة. لذا، بدلا من مواجهة مشكلات هوية سياسية حقيقية مثل العرب، فإن الإيرانيين يتمتعون بثقةٍ ثقافية بالنفس تقارن بتلك التي توجد لدى الهنود والصينيين.
لكن في نفس الوقت، تمثل المجموعة الضيقة من الملالي المتطرفين الذين يديرون حكومة طهران ما دون دولة أقرب إلى الجماعات الجهادية مثل الدولة الإسلامية، حزب الله، القاعدة، وجيش المهدي السابق. لذا تستطيع إيران العمل بأسلوبٍ غير تقليدي. أجادت إيران دورة الوقود النووي، دربت قواتٍ متطرفة ومسلحة تقاتل عنها بالوكالة في الشام، وأدارت بذكاء مفاوضاتٍ مع خصمها الرئيسي، الولايات المتحدة. لذا فإيران لم ترث جزئيا الفراغ الذي تركه اختفاء الامبراطوريات العثمانية والأوروبية والأمريكية.
بينما إيران هي عقدة القوة الشيعية في الشرق الأوسط الطائفي حديثا، فإن السعودية هي العقدة السنية. السعودية، مقارنةً بإيران، هي نتاج مصطنع لعائلةٍ سعودية ممتدة واحدة. لا توافق الدولة التي تحكمها العائلة السعودية جغرافيا شبه الجزيرة العربية إلى الحد الذي توافق به إيران الهضبة الإيرانية. رغم ذلك، استطاع آل سعود شق طريقهم بشكلٍ مبهر عبر العقود خلال تغيراتٍ اجتماعية شديدة في الداخل ووضعٍ أمنيٍ صاخب في الخارج. وتشير التغييرات الأخيرة رفيعة المستوى التي صممها الملك الجديد سلمان وتضمنت تغيير ولي العهد ووزير الخارجية، إلى العزم التام لتلك السلالة الحاكمة على إعادة ضبط سياساتها حتى لا تدع إيران تهيمن على المنطقة.
جددت حملة القصف السعودية ضد رجال القبائل الحوثيين المدعومين إيرانيا في اليمن وتكثيف دعم الرياض للمتمردين السوريين المعادين لإيران (بمساعدة تركيا وقطر) هو رد فعل على ما تراه السعودية اتفاقا نوويا أمريكا إيرانيا وشيك الحدوث. بالفعل، يدخل السعوديون إلى حساباتهم الإمكانية القوية لتلك الصفقة، ولذا فإن القصف في اليمن والضغط الأخير على نظام الأسد الموالي لإيران في سوريا يمثل – قبل أن يكون واقعا – الشرق الأوسط ما بعد الإتفاق النووي. ذلك الإتفاق، إذا حدث بالفعل، ورغم أنه محدود بالقضايا النووية، سوف يتم رؤيته بشكلٍ مبرر بعض الشيء كبداية لنوعٍ من التقارب الأمريكي الإيراني الأكثر شمولا: بمصطلحاتٍ إقليمية، إنها قوة إمبريالية عالمية آفلة تتفق مع قوةٍ محلية صاعدة.
لإحتواء إيران ما بعد الإتفاق، سوف تحتاج الولايات المتحدة ليس فقط تعزيز السعودية، وإنما مصر وتركيا ايضا. قوات الأمن المصرية تحت قيادة الزعيم المصري العسكري فعليا عبدالفتاح السيسي هي بالفعل متحالفة بهدوء مع قوات الأمن الإسرائيلية في غزة، سيناء، وأماكن أخرى. تحتاج أمريكا إلى مصرٍ قوية – سواء ديمقراطية أم لا – كحليفٍ معادٍ لإيران لتعزيز السعودية. وبينما تركيا تحت حكم الرئيس رجب طيب أردوغان لا يتم اعتبارها عادةً كبلدٍ داعمٍ لأمريكا، فإن تركيا قويةً بنفسها تساعد ايضا في موازنة القوة الإيرانية. التدافع ما بين تلك القوى المحظوظة جغرافيا وتاريخيا من أجل الهيمنة الإقليمية سوف يحدد النظام الجديد لما بعد الإمبريالية.
ربما يسعى الرئيس الأمريكي الجديد في 2017 إلى إعادة النفوذ الإمبريالي الغربي، تحت اسمٍ آخر، بالطبع. لكن هو أو هي سوف يكون مقيدا بالإنهيار الفعلي للسلطة المركزية عبر الشرق الأوسط والذي بدأ بسقوط صدام حسين واستمر خلال سنوات ما بعد الربيع العربي. كانت الدكتاتوريات العربية القوية عبر المنطقة متوافقة مع المصالح الأمريكية، لقد وفرت عنوانا واحد في كل بلد يمكن لأمريكا أن تذهب إليه في حالة حدوث أزمة إقليمية. لكن الآن هناك القليل من ذلك. في عدة دول، ليس هناك ببساطة أي شخص يتولى المسؤولية يمكننا أن نعبر له عن مخاوفنا. الفوضى ليست فقط مشكلة أمنية وإنسانية، لكنها عائق شديد لإسقاط القوة الأمريكي.
لذا فإن مستقبل الشرق الأوسط على المدى القريب وربما المتوسط من الأرجح أن يكون قاتما. سوف تحارب الدولة الإسلامية الآن ميليشيات إيران الشيعية، تماما كما حارب عراق صدام السني إيران الخميني الشيعية في الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت من 1980 حتى 1988. تلك الحرب، والتي استمرت طوال تلك المدة، جسدت جزئيا قرار إدارة ريجان المتعمد بعدم التدخل – مثال آخر للسلطة الإمبريالية الضعيفة، لكنه ناجح، حيث أنه سمح لريجان بالتركيز على أوروبا والمساعدة في إنهاء الحرب الباردة.
في ذلك الوقت كانت دولا تخوض حربا؛ أما الآن فإنها ما دون دول. منحت الإمبريالية النظام، مهما كانت رجعية. التحدي الآن يتمثل في إقامة الديمقراطية بشكلٍ أقل بشكلٍ أقل من كونه إعادة إقامة النظام. لأنه بدون نظام، ليس هناك حرية لأي شخص.
Source Link
إن الانهيار الذي نراه في العالم العربي اليوم، حيث تنتشر الفوضى في أجزاءٍ من شمال افريقيا، شبه الجزيرة العربية، والشام؛ يتعلق في الواقع بالنهاية الأخيرة للإمبريالية. استيلاء الدولة الإسلامية على تدمر، وهي مدينة كانت تمر بها القوافل قديما وإحدى اكثر المواقع الأثرية المذهلة بصريا في الشرق الأدنى، يؤكد فقط تلك النقطة. تجسد تدمر كيف كانت المنطقة تاريخيا تحددها طرق التجارة بدلا من الحدود الثابتة. يبرهن الاستيلاء عليها بواسطة البرابرة كيف يعود العالم إلى ذلك الواقع السائل.
إنها تحديدا ثلاثة أنظمة إمبريالية تلك التي نشاهد انهيارها الآن في الشرق الأوسط.
أولا، تظهر الفوضى الشرق أوسطية ان المنطقة لم تجد بعد حلا لانهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى. لمئات السنين، كان لدى السنة والشيعة، العرب واليهود، المسلمين والمسيحيين، في سوريا الكبرى وبلاد ما بين النهرين؛ القليل من النزاعات الحدودية. خضع الجميع لحاكمٍ امبراطوري في اسطنبول، والذي حماهم من بعضهم البعض. انهار ذلك النظام في 1918، مطلقا شيطان النزاعات القومية والعرفية والطائفية حول من يسيطر على أي مساحة مساحة من الأراضي عند أي خط حدود تحديدا.
ثانيا، أدى الانهيار الداخلي للعراق في أوج سقوط صدام حسين، الانهيار الداخلي لسوريا في أوج الربيع العربي، وصعود الدولة الإسلامية، إلى نهاية الحدود التي اقامتها الإمبريالية الأوروبية، وبالتحديد البريطانية والفرنسية، في الشام.
ثالثا، أسس نهج النأي بالنفس الواضح للرئيس باراك أوباما مقابل تلك التطورات لنهاية دور أمريكا كقوةٍ عظمى في تنظيم والحفاظ على استقرار للمنطقة. كانت الولايات المتحدة، تذكّر، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية امبراطورية عالمية في كل شيء عدا الاسم. (لا يطرح أحد، ربما، تلك النقطة غير المريحة بشكلٍ أكثر شمولية من جون داروين المؤرخ بجامعة أكسفورد في كتابه بعد تيمورلنك: صعود وسقوط الامبراطوريات العالمية، 1400-2000، الصادر عام 2007).
وليست فقط القوى الإمبريالية هي التي ذوت وتركت الفوضى محلها. فقد أنهى سقوط صدام حسين في العراق، معمر القذافي في ليبيا، وحصر رقعة سيطرة نظام بشار الأسد على دويلة محاصرة؛ حقبة زعماء ما بعد الاستعمار، والذين ارتبط حكمهم طبيعيا بإرث الإمبريالية. فبعد كل شيء، حكم هؤلاء الطغاة حسب الحدود التي أقامها الأوروبيون. ولأن تلك الحدود الإمبريالية لم تتوافق عادةً مع الحدود الإثنية أو الطائفية، فقد احتاجت تلك الأنظمة الدكتاتورية هوياتٍ علمانية من أجل تجاوز الانقسام المجتمعي. كل هذا قد تم محوه بوحشية.
للأسف، لم يكن ما يدعى بالربيع العربي متعلقا بمولد الحرية ولكن انهيار السلطة المركزية، والذي لا يخبر بشيء عن جاهزية تلك الدول، سواء كانت مصطنعة أو غير ذلك، لمشقة الديمقراطية.
من بين تلك الدول التي تأثرت بالاضطراب، كان هناك نوعين يمكن تمييزهما. أولا، هناك تلك التكتلات العتيقة من الحضارة. إنها أماكن كانت دولا بشكلٍ أو آخر منذ ما يرجع إلى العصور القديمة، وقد طورت هيئاتٍ صلبة من الهوية العلمانية التي ارتفعت فوق العرقيات والطوائف الدينية. المغرب، تونس، ومصر هم الأبرز في تلك الفئة. إذا نظر المرء إلى خريطةٍ للمدن الرومانية على امتداد الساحل الشمالي لأفريقيا، فسوف يرى أنها مزدحمة بالمستعمرات حيث تقع تلك الدول، وخالية تقريبا من المستعمرات في المساحات الشاسعة ما بين الجزائر وليبيا. بكلماتٍ أخرى، فإن تونس والمغرب ومصر قابلون للتحديد تاريخيا. ايا ما كانت الجلبة وتغيرات النظام التي يمرون بها على مدار الربيع العربي فإن هوياتهم كدول لم تكن ابدا محل سؤال. لذا فإن القضية في تلك الدول كانت من يحكم واي نوع من الحكومات يجب أن يوجد، وليس إذا ما كانت دولة أو حكومة مركزية ممكنة أم لا.
المجموعة الثانية من الدول الشرق أوسطية هي أكثر اضطرابا من سابقتها. تأخذ تلك هيئة تعبيرات جغرافية غامضة وهي أماكن ذات هويات أضعف بكثير – وفي الواقع، فإن الكثير منها لديه هويات اخترعها الإمبرياليون الأوروبيون. تعد ليبيا، سوريا، والعراق، أبرز تلك الدول. لأن الهوية في تلك الحالات كانت هشة، فقد كانت أكثر أشكال السلطوية خنقا لازمة لمجرد الحفاظ على تماسك تلك الدول. ذلك هو السبب الجذري للطبيعة المتطرفة لأنظمة القذافي والأسد وصدام حسين، والتي مارست مستوياتٍ من القمع أشد كثيرا من تلك التي مارسها حسني مبارك في مصر وزين العابدين بن علي في تونس. الجزائر، وهي ايضا دولة اصطناعية اخترعها الفرنسيون بشكلٍ اساسي، مرت بحكمٍ سلطوي متباعد وغير مثمر، وتواجه الآن انتقالا غير محدد العواقب بسبب الصحة المتدهورة لحاكمها، عبد العزيز بوتفليقة، والذي ظل في السلطة من 1999. الأردن، ايضا، هي تعبير جغرافي غامض، لكنها تمتعت بحكمٍ معتدل من خلال عبقرية العائلة الهاشمية الحاكمة والدعم الاقتصادي والأمني الهائل الذي استقبلته تلك الدولة الصغيرة من الولايات المتحدة وإسرائيل. اليمن ايضا ربما تكون تكتل حضاري عتيق، لكنه كان دائما منقسما بين العديد من الممالك المختلفة بسبب طبيعة تضاريسه الوعرة، لذا فقد كان حكم البلاد كوحدةٍ واحدة دائما شبه مستحيل.
فقط أنظمة شمولية خانقة تستطيع السيطرة على تلك الدول الاصطناعية التي نشأت من تعبيراتٍ جغرافية غامضة. عندما انهارت تلك الأنظمة فقد تركت وراءها فراغا كاملا. لأنه بين النظام في الأعلى والقبيلة والعائلة الكبيرة في الأسفل، قد نزعت تلك الأنظمة كافة المؤسسات الاجتماعية والسياسية الوسيطة منذ زمنٍ طويل. كانت الشمولية هي الإجابة الوحيدة لنهاية الإمبريالية الغربية في تلك الدول الاصطناعية، وانهيار الشمولية هو السبب الرئيسي الآن لفوضى الشرق الأوسط.
رافق ذلك النهيار للتعبيرات الجغرافية الغامضة والضعضعة الأقل حدة للتكتلات الحضارية العريقة صعود قوى اقليمية محلية مثل إيران، تركيا، والسعودية. إيران هي حضارة عالمية عظيمة من العالم القديم من ناحية وما دون دولة متطرفة وقاسية من ناحيةٍ أخرى. هذا هو سبب فعاليتاه الديناميكية حول المنطقة. كانت تتمركز امبراطورية فارسية بشكلٍ أو بآخر على الهضبة الإيرانية منذ العصور القديمة. لذا، بدلا من مواجهة مشكلات هوية سياسية حقيقية مثل العرب، فإن الإيرانيين يتمتعون بثقةٍ ثقافية بالنفس تقارن بتلك التي توجد لدى الهنود والصينيين.
لكن في نفس الوقت، تمثل المجموعة الضيقة من الملالي المتطرفين الذين يديرون حكومة طهران ما دون دولة أقرب إلى الجماعات الجهادية مثل الدولة الإسلامية، حزب الله، القاعدة، وجيش المهدي السابق. لذا تستطيع إيران العمل بأسلوبٍ غير تقليدي. أجادت إيران دورة الوقود النووي، دربت قواتٍ متطرفة ومسلحة تقاتل عنها بالوكالة في الشام، وأدارت بذكاء مفاوضاتٍ مع خصمها الرئيسي، الولايات المتحدة. لذا فإيران لم ترث جزئيا الفراغ الذي تركه اختفاء الامبراطوريات العثمانية والأوروبية والأمريكية.
بينما إيران هي عقدة القوة الشيعية في الشرق الأوسط الطائفي حديثا، فإن السعودية هي العقدة السنية. السعودية، مقارنةً بإيران، هي نتاج مصطنع لعائلةٍ سعودية ممتدة واحدة. لا توافق الدولة التي تحكمها العائلة السعودية جغرافيا شبه الجزيرة العربية إلى الحد الذي توافق به إيران الهضبة الإيرانية. رغم ذلك، استطاع آل سعود شق طريقهم بشكلٍ مبهر عبر العقود خلال تغيراتٍ اجتماعية شديدة في الداخل ووضعٍ أمنيٍ صاخب في الخارج. وتشير التغييرات الأخيرة رفيعة المستوى التي صممها الملك الجديد سلمان وتضمنت تغيير ولي العهد ووزير الخارجية، إلى العزم التام لتلك السلالة الحاكمة على إعادة ضبط سياساتها حتى لا تدع إيران تهيمن على المنطقة.
جددت حملة القصف السعودية ضد رجال القبائل الحوثيين المدعومين إيرانيا في اليمن وتكثيف دعم الرياض للمتمردين السوريين المعادين لإيران (بمساعدة تركيا وقطر) هو رد فعل على ما تراه السعودية اتفاقا نوويا أمريكا إيرانيا وشيك الحدوث. بالفعل، يدخل السعوديون إلى حساباتهم الإمكانية القوية لتلك الصفقة، ولذا فإن القصف في اليمن والضغط الأخير على نظام الأسد الموالي لإيران في سوريا يمثل – قبل أن يكون واقعا – الشرق الأوسط ما بعد الإتفاق النووي. ذلك الإتفاق، إذا حدث بالفعل، ورغم أنه محدود بالقضايا النووية، سوف يتم رؤيته بشكلٍ مبرر بعض الشيء كبداية لنوعٍ من التقارب الأمريكي الإيراني الأكثر شمولا: بمصطلحاتٍ إقليمية، إنها قوة إمبريالية عالمية آفلة تتفق مع قوةٍ محلية صاعدة.
لإحتواء إيران ما بعد الإتفاق، سوف تحتاج الولايات المتحدة ليس فقط تعزيز السعودية، وإنما مصر وتركيا ايضا. قوات الأمن المصرية تحت قيادة الزعيم المصري العسكري فعليا عبدالفتاح السيسي هي بالفعل متحالفة بهدوء مع قوات الأمن الإسرائيلية في غزة، سيناء، وأماكن أخرى. تحتاج أمريكا إلى مصرٍ قوية – سواء ديمقراطية أم لا – كحليفٍ معادٍ لإيران لتعزيز السعودية. وبينما تركيا تحت حكم الرئيس رجب طيب أردوغان لا يتم اعتبارها عادةً كبلدٍ داعمٍ لأمريكا، فإن تركيا قويةً بنفسها تساعد ايضا في موازنة القوة الإيرانية. التدافع ما بين تلك القوى المحظوظة جغرافيا وتاريخيا من أجل الهيمنة الإقليمية سوف يحدد النظام الجديد لما بعد الإمبريالية.
ربما يسعى الرئيس الأمريكي الجديد في 2017 إلى إعادة النفوذ الإمبريالي الغربي، تحت اسمٍ آخر، بالطبع. لكن هو أو هي سوف يكون مقيدا بالإنهيار الفعلي للسلطة المركزية عبر الشرق الأوسط والذي بدأ بسقوط صدام حسين واستمر خلال سنوات ما بعد الربيع العربي. كانت الدكتاتوريات العربية القوية عبر المنطقة متوافقة مع المصالح الأمريكية، لقد وفرت عنوانا واحد في كل بلد يمكن لأمريكا أن تذهب إليه في حالة حدوث أزمة إقليمية. لكن الآن هناك القليل من ذلك. في عدة دول، ليس هناك ببساطة أي شخص يتولى المسؤولية يمكننا أن نعبر له عن مخاوفنا. الفوضى ليست فقط مشكلة أمنية وإنسانية، لكنها عائق شديد لإسقاط القوة الأمريكي.
لذا فإن مستقبل الشرق الأوسط على المدى القريب وربما المتوسط من الأرجح أن يكون قاتما. سوف تحارب الدولة الإسلامية الآن ميليشيات إيران الشيعية، تماما كما حارب عراق صدام السني إيران الخميني الشيعية في الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت من 1980 حتى 1988. تلك الحرب، والتي استمرت طوال تلك المدة، جسدت جزئيا قرار إدارة ريجان المتعمد بعدم التدخل – مثال آخر للسلطة الإمبريالية الضعيفة، لكنه ناجح، حيث أنه سمح لريجان بالتركيز على أوروبا والمساعدة في إنهاء الحرب الباردة.
في ذلك الوقت كانت دولا تخوض حربا؛ أما الآن فإنها ما دون دول. منحت الإمبريالية النظام، مهما كانت رجعية. التحدي الآن يتمثل في إقامة الديمقراطية بشكلٍ أقل بشكلٍ أقل من كونه إعادة إقامة النظام. لأنه بدون نظام، ليس هناك حرية لأي شخص.
Source Link