ثورة 14 تموز

إنضم
19 سبتمبر 2008
المشاركات
5
التفاعل
0 0 0
يبقى التاريخ دوماً إحدى أهم أدوات القياس لطبيعة الحوادث وقوانينها وإسقاطاتها، جنباً إلى جنب مع المتغيرات التي تفعل فعلها بالتراكم من جهة، وباختلاف الطبائع والزمان والمكان من جهة أخرى. من هنا فائدة استحضار مثال العلاقات المصرية ـ الأميركية 58 ـ 63 كأقرب نموذج لما تتشكل عليه الآن العلاقات الإيرانية ـ الأميركية:
لسنوات ثلاث سبقت ثورة 14 تموز العراقية، فعلت واشنطن ما في وسعها لغواية واحتواء وعقاب وإسقاط نظام يوليو، طلباً لصلح مصري مع إسرائيل والتحاق مصري بمنظومة الأحلاف الغربية.
كان الربع الأخير من عام 56 هو الاستثناء الوحيد والمهم في هذا السجل الحافل، فرضه خروج بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على السيد الأميركي بغزوهم الثلاثي لمصر، ما اضطره، أي السيد، لعقابهم وفرض إجلائهم عما احتلوه، ورغم اتفاقه معهم على الهدف ـ تدمير نظام جمال عبد الناصر ـ بفارق أن يتم من خلاله وبطريقته وتوقيته ولمصلحته وحده لا شريك له.
والحاصل أن إعادة تقويم شاملة اضطرت إليها واشنطن صيف 58، فارضة عليها التوقف عن تدابير العداء، والتحول إلى تعايش متربص مع حركة القومية العربية، تأتت من عاملين:
الأول هو استحالة مقاومة المد القومي الذي اكتسح المنطقة وألهبها، بما لا يقاس بميزان حرارة، لذا «فما عجزت عن ضربه تقبّله على مضض»، وتدبّر أمرك معه إلى أن يحين الحين.
والثاني هو نشوء ظرف جديد في العراق قفز فيه إلى السطح نفوذ شيوعي عارم إثر ثورة تموز وصل ذراه شتاء ـ ربيع 59، مما أخاف واشنطن والقاهرة في آن وفرض عليهما وقفاً لإطلاق النار والتفاتاً إلى الخطر المشترك في أرض السواد.
لم يعنِ ذلك بالقطع أن العلاقة تحولت من الصراع إلى الوفاق، وإنما هو الصراع بوتيرة أدنى تسـمح بقدر من التعايش المهادن، والذي تجلى ثانية في اتفاق القاهرة ـ واشنطن في يونيو 61 على عدم السماح لعبد الكريم قاسم بضم الكويت إلى العراق.
في الوقت ذاته، كانت واشنطن تدبر في ليل لانقلاب الانفصال السوري، بهدف توجيه ضربة قاصمة لفكرة الوحدة العربية من جهة، وإعادة عبد الناصر إلى حدود مصر فقط (كما حدث لمحمد علي عام 1840) تمهيداً لمحاولة تطويعه من جديد، أو الخلاص منه مرة وإلى الأبد. نجح انقلاب الانفصال، وفشل السعي للتحجيم عند وادي النيل... وتلك قصة أخرى.
لنقس مجريات تلك الفترة 58 ـ 59 على ما يجري الآن بين واشنطن وطهران:
لا حاجة للقول إن وجود نظام طهران هو من أساسه أمرّ من المرارة على حلق واشنطن، لسبب جليّ وهو أنه ليس نظاماً تابعاً ـ كما حال الملكيات العربية أو نظام القاهرة ـ ولا سيما وهو يحكم بلداً يكفيه أنه برزخ الوصل بين قزوين والخليج، ومفتاح الولوج الجنوبي إلى آسيا الوسطى، وقبلة 150 مليون مسلم شيعي المذهبية والسياسية، وبوابة جنوب آسيا الغربية، ومربض موارد طبيعية هائلة الحجم.
رعت واشنطن في فترة الثورة الأولى محاولات انقلاب عسكري (مثال الطيارين ـ يوليو 80)، ثم أغوت الرئيس العراقي صدام حسين بغزو إيران، بغرض استنزاف الجارين في حرب ضروس تبطل صلاحيتهما الجيوستراتيجية في الإقليم لأمد طويل، ثم حاولت اللعب على أوتار المعادلة السياسية الحاكمة في طهران عبر الرهان على التجديديين بزعامة رفسنجاني، وهو ما تجلى في عملية تسليح إيران بصواريخ تاو 85/ 86، ثم في الصبر على رفسنجاني عله يشيل الزير من البير لمصلحتها خلال التسعينات، وهو ما عوّلت عليه أكثر مع خاتمي بعد 97.
ترافق ذلك مع إعمال سياسة احتواء شبه مطبقة منذ ما بعد حرب 91، شملت ميادين الاقتصاد والتبادل والثقافة، وهدفت إلى إضعاف النظام وإرباكه، وتسميم آبار علاقاته مع المنظومة الأوروبية... وإن تخللها تعاون تكتيكي محدود في البوسنة 93 ـ 95 عندما التقت رغبتا البلدين على إنجاد مسلميها، لأسباب عقائدية إيرانياً، ولحسابات جيوستراتيجية أميركية، فحواها عدم تمكين سلاف الجنوب من الصرب الأرثوذكس لكونهم الامتداد الأوروبي لروسيا السلافية الأرثوذكسية.
خاب فألها طوال تلك السنين، لواقع أن القاسم المشترك الأدنى لدى أهل النظام يحظر الاحتراب، ولأن ملكة الدهاء عندهم تبعث القدرة على إجراء الحسابات الفائقة الدقة، وخصوصاً عندما يكون أمن النظام في الميزان.
ثم حصل متغير مهم في 11 أيلول 2001.
قبله ولقرابة أعوام خمسة، رعت واشنطن بواسطة المخابرات العسكرية الباكستانية المشتركة (
isi) إيصال حركة طالبان إلى السلطة في أفغانستان بأمل إيقاف انهيارها الأمني فيه وتحوّلها إلى مصنع المخدرات العالمي، ورهاناً على تجاوبها مع مشاريع أنابيب النفط والغاز من وسط آسيا إلى جنوبها، وأيضاً تهديداً لإيران من خاصرتها الشرقية بنظام شديد العداء للشيعة يستطيع مع الوقت أن يحرك ورقة السنة في الداخل الإيراني.
لكن السباق بين واشنطن وتنظيم القاعدة على روح وعقل طالبان حسم لمصلحة الأخير لأسباب عقائدية بالدرجة الأولى، ومالية في المقام التالي، ما أخرج طالبان من رهان الوعد إلى خانة الخصم.
لم يؤثر ذلك على تنغيصها لإيران، والتي تصورت في رد أميركي حاسم على طالبان/ القاعدة إثر 11 أيلول فرصة العمر للخلاص منهما دون مشقة، وبرغم ما يحمله في طياته من وجود مقلق إلى الغرب منها.
تعاونت طهران إلى آخر المدى عشية وأثناء وغداة الغزو الأميركي لأفغانستان، وهي التي ـ بشراكة هندية وروسية ـ ملكت النفوذ المؤثر على التحالف الشمالي، وضمنه شيعة الهزارة، ولديها الحدود الطويلة مع الغرب الأفغاني.
كانت الفرصة سانحة في ضوء ذلك التعاون لتحويله إلى تعايش مهادن، لكن اندفاعة واشنطن الهائجة طلباً لهيمنة كونية شاملة بذريعة 11 أيلول أفقدتها حس العقلانية الأدنى، ما جعلها تضع طهران على مرمى الهدف، حالما انتفت حاجتها إلى عونها الأفغاني بعد انقضاء شهور قلائل.
وصلت تلك الاندفاعة إلى ذراها بقرار غزو العراق، ثم الانزياح على جانبيه فتحاً للقلعة الإيرانية وابنة عمها السورية بأقل التكاليف. ما كان في حيلة إيران ردع واشنطن عن مشروعها العراقي، ولا سيما أنّ نظام بغداد في عرفها رأس البلاء الذي يحرم التدخل لمصلحته (تكراراً لسالفة 91).
قدّرت طهران أن الأميركي قادم ويحمل في خلده من نوايا السوء مثنى وثلاثاً، وهي واقعاً تفضل صدَّاماً مضعفاً ضعيفاً على بوش مستأسد هائج، لكن الخطر ـ وإن اقترب ـ يحمل في طياته فرصة لرهن أمن قواته، وهي التي في متناولها، بيدها، وفرصة تمكين حلفائها في الشيعية السياسية العراقية من الصعود إلى سدة الحكم، وصياغة عراق مسالم حليف يسد إلى الأبد منافذ التهديد من الغرب.
عملت طهران وفق قاعدة الانتفاع من الخصم لحين التمكن، ثم الالتفات إلى إخراجه من الجوار عبر وسائل العصيان والإعاقة، بل والنار عند الحاجة، لينتفي مع خروجه هذا الخطر الجسيم القادم من الغرب. ويحسن بنا عند هذه النقطة محاولة تبيّن أهداف ومرامي النظام الإيراني الاستراتيجية بدءاً من 11 شباط 1979، وصولاً إلى اللحظة الراهنة:
1 ـ توطيد وتأبيد النظام الإسلامي في إيران، على تنوع مدارسه وفرقه وفصائله.
2 ـ تأمين ذلك ببناء قدرة ردع شامل تكفل درء أي احتمالات مهددة من الخارج، أو حتى من الداخل.
3 ـ امتلاك دور ونفوذ حاسمين في إدارة الصراع العربي ـ الصهيوني، بشكل شبه مباشر (حزب الله اللبناني)، وغير مباشر (الحلف مع سوريا والتعاضد مع فصائل المقاومة الفلسطينية)... وبالتحديد في إقليم الشام ميدان هذا الصراع.
4 ـ تأمين انتفاء أي تهديد استراتيجي من دول الجوار وبالذات العراق.
5 ـ ربط التجمعات المسلمة الشيعية في بلدانها بطهران مصدر إلهام وتوجيه ورعاية لها: يشمل ذلك فضلاً عن العراق ولبنان، إقليم الخليج وأفغانستان وجنوب آسيا واليمن وأذربيجان.
والجدير باللحظ أن حيزاً وازناً من ثروات الطاقة العالمية يربض في أقاليم وبلدان يغلب عليها ثقل ديموغرافي شيعي راجح (خوزستان ـــ عربستان، والحيزان الإيراني والآذري من بحر قزوين... والبصرة وأذربيجان والإحساء والبحرين، هذا دون احتساب أبو ظبي وقطر وعمان والكويت، وهي التي تفتقد ذاك الرجحان وإن عجّت بنسب غير قليلة من مواطنيها المسلمين الشيعة). ليس غرضها تعظيم أرقام شيعة المسلمين فوق ما هي الآن، بقدر ما ترمي إلى تمكين جماعاتهم بديلاً عن حال الاستضعاف الذي يعتريهم وبالأخص في الجزيرة والخليج. هم الآن 11% من جملة المسلمين، ولن يتحولوا صعوداً ولا هبوطاً، فرواسي التاريخ أصلب من أن تهزها رواغب أو مكاره.
6 ـ قيادة عالم الإسلام، بغالبيته السنّية الكاسحة وأقلّيته الشيعية الوازنة، لتكون طهران مهوى عقول وأفئدة بنيه، ومرجعيتهم السياسية والحضارية بامتياز. وبقوة المثل لا بغيره، ولا سيما أنّها تقصر عن امتلاك سبل الفتح كما حال الأقدمين.
هنا، وفي العقل الباطن للمؤسسة الحاكمة الإيرانية، تعتمل قناعة أن طهران بمفردها لا تقدر على متطلبات القيادة لسببين: أنها غير عربية، وأنها شيعية. تلك القناعة هي ما يحفزها على الدوام على الفوز بحليف أو حلفاء عرب يشكلون رافعة ومهمازاً لمشروع القيادة هذا، حتى لو أضحى ثنائي الرأس بل والجسد. لذا فسوريا ونظامها، وعلى الطريق العراق ونظامه هما من الأهمية ما يفوق أي قياس، ثم أن التماس الجغرافي مع إسرائيل من الشمال والجنوب، وربما الوسط، مسألة لا تفريط فيها ولا تهاون. حاجتها لشريك عربي إذاً ماسة، بل وشرط نجاح للمشروع إياه.
7 ـ الشراكة في قيادة العالم الثالث مع مراكز استقطاب أخرى تنبث في أرجائه من خارج حوضه المسلم.
8 ـ السعي إلى بناء علاقات تحالفية مع قطبي أوراسيا الكبيرين، أي روسيا والصين، تؤمن دريئة حماية ووشائج تكامل طاقوي وتجاري وتقني.
9 ـ الدأب على إيصال واشنطن للتسليم بديمومة النظام، وبحتمية اعتلائه تلك المصاف الثمانية السالفة الذكر، وبحتمية التعايش معه على تلك الأسس تعايشاً سلمياً لا يقتل الديب ولا يفني الغنم.
كيف تصرّفت طهران وفق تلك الثوابت بعد غزو العراق؟
البادي أن طهران فوجئت نسبياً بأمرين: اقتصار مدة الدفاع العراقي ضد الغزو على أسابيع ثلاثة، ثم نشوب المقاومة العراقية، السنّية الطابع، بسرعة وقدرة فاقتا أي توقع.
قلبت الأمر على وجوهه فارتأت أن الوقت مناسب للقيام بمبادرة صلح مع واشنطن تتوج أذنها للشيعية السياسية العراقية بالتعاون مع الاحتلال الأميركي، وتأخذ في الاعتبار سابق تعاونها مع شقيقه الاحتلال الأميركي لأفغانستان، وتضع حداً لحالة التوجس وتجلياتها الاحتوائية ومناخها الصراعي.
للوهلة الأولى يبدو لمطالع المبادرة الإيرانية ـ عبر وساطة سويسرية ـ في مايو 2003 أن طهران أراقت ماء وجهها إلى درجة التنازل عن الأساسيات طلباً لرضى واشنطن. والحق أن قراءة متأنية تخلو من عوارض حول أو ازدواج الرؤية تنبئ بتمسكها بكل رأسمالها الاستراتيجي مع مرونة تكتيكية في كيفية الحفاظ عليه وتثميره. والثابت أن طهران بدأت منذ عام 88، وبالأخص بعد حرب 91، بالسعي لامتلاك تقنية نووية وفق الطريقة اليابانية (أي إمكان تحويل التقنية إلى تسلح في شهور إذا دعت الحاجة، والاستنكاف عن ذلك إن انتفت).
وما إن شمت طهران رائحة غزو العراق ـ بل وقبله من هياج أميركي في أعقاب 11 أيلول ـ إلا تسارعت خطواتها لإحراز تلك التقنية مهما كان الثمن.
لم يكن وارداً توقع أن ترد واشنطن بالإيجاب على مبادرة مايو 2003، إذ بلغت شهيتها حد التلمظ على الكعكة الإيرانية، وقبلها البقلاوة السورية، مع سيل لعاب حاد... لا بل هي قررت ومضت منذ بداية 2004 في شن حرب خفية متعددة الوسائل على إيران طلباً لإجبارها على وقف مشروعها النووي، وبما يحمله ذلك من ذل انكسار، يقود إلى انهيار سمعة، يودي إلى تهاوي نظام. وهو بالضبط ما يشتهيه صانع القرار الأميركي، أي باختصار قطع رأس النظام، لا ذبح الخيار النووي بحد ذاته. فذاك الخيار مقبول لو حكم إيران نظام كالشاه أو ضياء الحق، أما الملالي فهم ممن لا يستأمن على دجاجة، وعندهم ما عندهم من مطامح إقليمية وإسلامية وعالمثالثاية وتحالفية.
خاضت واشنطن ـ ولا تزال تخوض ـ تلك الحرب بحزمة وسائل شملت: تناثر مفارز من القوات الخاصة الأميركية في أرجاء الهضبة الإيرانية رصداً لأثر لتسليح نووي وزرعاً لعيون قد تأتي ساعة تفعيلها ذات يوم، وإعداد متمردين من الكرد والبلوش يرفعون السلاح على الدولة ويكبدون حرسها الثوري خسائر ذات بال، وتدابير حصار مالي وتقني متنوعة، وحرمان إيران من مرور خطوط أنابيب نفط وغاز من دول قزوين إلى بحر العرب، ونكوص هندي ـ تحت الضغط ـ عن مد أنابيب من إيران إلى الهند، وتحريك عرب خوزستان تمرداً وترك أذربيجان سخطاً واهتياجاً، وتوطيد وجود إسرائيلي في شمال العراق الكردي ليكون موطئاً لتخريب في الداخل متصاعد، وتوظيف مجاهدي خلق من قاعدتهم العراقية ليكونوا رأس حربة في العمليات السرية ضد النظام.
مضى على شن تلك الحرب قرابة السنوات الأربع، وهي مدة تفي بغرض التقويم الذي هو بكلمة واحدة: صفر. والثابت أن الحرب السرية كانت مقدمة ما انتوته واشنطن منذ ما بعد غزو العراق وهو الحرب المسلحة التي تفضي إلى دك أساسات النظام وانهياره. والثابت أن خطط تلك الحرب نوقشت على مدى مئات الساعات جيئة ورواحاً دون أن يصل النقاش إلى قرار نهائي بالمضي إليها بعد.
كان سلاح الجو ـ وما زال ـ هو الوحيد المبايع لخيار الحرب، فيما يبدو سلاح البر المعارض الرئيس له. أما سلاح مشاة البحرية فهو أقرب إلى الأخير من سواه، فيما غلب على سلاح البحرية تردد متهيب يتعرج في مساره ويتلوى دون حاسم قرار، وإن بتفضيل للتروي. بتوازٍ مع احتراب عسكر البنتاغون، كانت وكالة المخابرات المركزية في الطليعة من أخطبوط المجمع الأمني نأياً عن، بل وتسفيهاً لخيار الحرب، لما ينطوي عليه من مخاطر جمة قد تفيض عن مردوده.
كانت الطلقة الأولى في معركة المحذرين من الحرب إقالة دونالد رامسفيلد في نوفمبر 2006، والطلقة شبه الأخيرة تقدير مجمع المخابرات الاستراتيجي في ديسمبر 2007، والذي أعاق صقور الإدارة نشره لشهور ستة في محاولة مكلومة لمغالبة «حمائم» المؤسسة.
والحاصل أن سير الحوادث في أفغانستان، مع خلفيتها الباكستانية، ينبئ بسقوط خيار الحرب إن واصلت طالبان تقدمها إلى الشمال والغرب الأفغاني، ولا سيما إذا تصاحب ذلك مع تصاعد قدرة القاعدة/ طالبان الباكستانية غرب باكستان، بما قد يطبق على القوات الأطلسية بين فكي كماشة تذكر بحروب تقادم على أزمانها ما ينوف عن قرن ونصف قرن.
أكاد أقول إن «التطور» الطالباني قد يلجئ واشنطن إلى طلب عون كل من روسيا وإيران، في تكرار مطابق لما جرى في أيلول 2001، وخصوصاً مع اعتبار أن القاعدة/ طالبان هما صداع روسي وإيراني يتلمس حدود الصرع الأميركي.
هل توافق إيران على النجدة؟
قراءتي أنها ستوافق مقابل ثمن عراقي ملموس، يتلخص في جدول انسحاب أميركي لا يزيد على عام أو عامين. وحتى في حالة كهذه، فإن المسألة لن تتعدى حدود المقايضة ـ واحدة بواحدة ـ لتصل إلى صفقة شاملة من بيروت إلى كويتا.
أمر ذلك لا بد له أن ينتظر متغيرين: مزيد من تعاظم القدرة الإيرانية الذاتية والحليفة، ومزيد من تناقص القدرة الأميركية بل والأطلسية عموماً.
في انتظار تطورات الحوادث، هدّأت طهران من وتيرة العمل المقاوم في العراق ـ أي نشاطات جيش المهدي ـ توقّياً لغيظ أميركي لاسع لا مدعاة لتهييجه بعد... مع تسعير مكتوم لقدرات هذا الجيش اقتداءً بمسيرة حزب الله قبل زهاء العقدين.
طهران تقترب من حواف استنفاد «الفائدة» ـ إن وجدت ـ من الاحتلال الأميركي للعراق لسببين اثنين: الأول، أن العراق يتحول إلى قاعدة انطلاق للتآمر على الداخل الإيراني، بما يعدل صيرورته مصيدة موقوتة للاحتلال ذاته في يد طهران... بل ويفيض. والثاني، أن استمرار الاحتلال وصفة كارثية لاستمرار، بل وتصاعد، الصراع السنّي ـ الشيعي داخل العراق، ثم تمدده إلى الجوار العربي فضلاً عن جنوب آسيا، وهو حال يتهدد مشروع القيادة الإيراني للإقليم وعالم الإسلام والعالم الثالث كله في آن، بل يصل حتى إلى أعماق الجوف الإيراني بما فيه من شعور غبن عند سنّته، وهم 15% من الأمّة الإيرانية.
لن يهدأ بال لواشنطن ـ المؤسسة إلا بإعادة استحواذ إيران، لتكون معبرها إلى الاصطراع مع روسيا والصين بشروط أفضل، وقناتها إلى استنقاذ إسرائيل من موازن إقليمي لدود تحسيناً لشروط وكالتها على الإقليم، وجسرها إلى طرح عالم الإسلام أرضاً لنصف قرن تستنفد خلاله طاقته على السطح وتحته، وتحقن أوعيته بجرعات التخدير المفقد للحس والحركة، منتزعة منه مخالبه وأنيابه، ومعيدة صياغة فكره وفؤاده على هواها.
ستخلد الى هدأة مستدامة فقط حينما توقن، بما يقطع أي شك، أنها عاجزة عن بلوغ مأربها، وأن المحال هو تغيير الحال لما تريده وتهواه، وأن كلمة سواء مع إيران بدءاً، ومع عالم الإسلام تلواً ـ وفي القلب منه أمّة العرب ـ هي الممكن الوحيد والمتاح... بل والكريم. لحينها ستفعل واشنطن المستحيل لقلب المائدة من جديد.
أننسى أن ما بدا صلحاً ودوداً بينها وبين حركة القومية العربية بدأ خريف 58 انتهى إلى ركام بتوجيهها لها ضربة خاطفة تحت الحزام تمثلت في الانفصال السوري في خريف 61؟ ألم تلبث أن خاضت حرب المرتزقة في اليمن بإسناد سعودي ـ أردني ـ باكستاني ـ إيراني ـ إسرائيلي استنزافاً للجيش المصري العامل هناك، ثم وصلت حدّ أمر إسرائيل بشن حرب شاملة على مصر طلباً لتدمير نظام جمال عبد الناصر، وبتحريض سعودي وتواطؤ أردني ومشاركة بريطانية.
القصد... أن اضطرار واشنطن للعدول عن امتشاق السلاح في وجه إيران سيتطلب مضاعفة مجهودها الحربي دون إطلاق نار، بانتظار لحظة سانحة تنقل لها الخبر السعيد: استعادة ملكوت طهران.
واللافت أن مأزق صانع القرار الأميركي حول إيران هو في كونه حبيس واحد من خيارين: إما استجماع عزمه في مشهد ملؤه النار والدم يلج فيه عتبة استعمال السلاح النووي التكتيكي في مواجهة صفرية: كله أو لا شيء، وإما أن يمضي على طريق حصار أحادي طويل أشبه ما يكون بحصار الصين 49 ـ 71، والذي تكسرت نصاله على حواف طاولة بنغ بونغ وأضحى أثراً بعد عين.
ليس من خيار ثالث: لا حصار دولي شامل، ولا «ثعلب» هضبة، ولا «أوزاريك» ولا «أجاكس» ولا صدام إقليمي. الحرب ـ حتى مع النووي ـ لن تفي بالمراد، والحصار الأعرج ـ بالقطع ـ أعجز من هز شعرة في رأس طهران. ثمّ إن الباقي من الزمن... ساعة.
 
اخي الموضوع عكس ماهو بالعنوان حاول التركيز على الجانب الجمالي والابتعاد عن المواضيع الطويلة لان الغالبية لن تتمكن من اكمالها وهكذا لن تجد التفاعل المطلوب وشكرا على الموضوع
 
عودة
أعلى