متغيّرات التاريخ الصعبة نحوَ المستقبل / د. سيّار الجَميل

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,781
التفاعل
17,898 114 0
متغيّرات التاريخ الصعبة نحوَ المستقبل

الدكتور سيّار الجَميل


" التمزّقات التي تعاني منها مجتمعاتنا، مع جبال من ركامات الكراهية والأحقاد واجتياح الأوبئة والأمراض السايكولوجيّة الموروثة مع التاريخ، قد فجّرت مجتمعاتنا من أعماقها" .
" أتوقّع أن ثلاثين سنة قادمة ستمرّ على مجتمعاتنا، وهي تنتقل من سيئ إلى أسوأ " .

تجتاز مجتمعاتنا العربيّة، اليوم، مرحلة تاريخيّة صعبة جدّاً من متغيّرات التاريخ، وهي تمرّ بطور انتقالي طويل في تاريخنا. ربما لا يدرك الجميع أبعاده ومساحاته ومسافاته، لكن علاماته كانت قد بدأت منذ ثلاثين سنة مضت، أي مع سنة 1979، وهي أخطر سنة في القرن العشرين، واجتزنا تضاعيف القرن العشرين، مع بدء تحوّل أساسي، ليس في تاريخنا نحن فحسب، بل في تاريخ العالم، عندما صعق العالم بأحداث غريبة يوم 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وما لحق بها من تداعيات صعبة في كلّ من أفغانستان 2002، والعراق 2003.

ومنذ تلك اللحظة التاريخيّة المريرة، بدأ العالم يتغيّر باتجاهات خطيرة، وبدأت مجتمعاتنا تسلك مسالك أخرى، غير التي ألفتها على مدى ثلاثين سنة مضت، بكلّ ما عشناه خلالها من أزمات ومشكلات ووقائع وحروب أهليّة وإقليميّة، وبكلّ ما مارسته الديكتاتوريات العربيّة المعروفة من دعارات وبطش وانتهاكات، وكلّ ما انتاب مجتمعاتنا من كوارث وآلام ومآس، وبكلّ ما انشغل به العرب من تفاهات وهموم، ومن عبث في إشعال قضايا ابتعدوا فيها عن قضاياهم المركزيّة. وعندما اشتعلت الثورات العربيّة، كانت تحمل في واجهاتها شعارات مدنيّة سليمة، وهي تهدف، بطموحاتها، نحو التغيير السياسيّ الذي سيعمل على التغيير الاجتماعي والاقتصادي، وإن أسهل الطرق وأنجعها للتغيير السياسي هو الديمقراطيّة، وراح الجميع يستخدم الديمقراطيّة، ومن حقهم استخدامها، لكن السؤال: هل من حقّ مَن لا يؤمن بها مجرّد توظيفها للوصول إلى السلطة، كما هو حال العراق والجزائر وليبيا واليمن ومصر وغيرها؟ وهل كانت مجتمعاتنا مؤهّلة لممارسة الظاهرة حتّى بالحدّ الأدنى؟ وجاء الجواب سريعاً، بأن هرع إلى ميدان التغيير مَن أراد افتراس الثورات العربيّة، أو سرقتها، لصالحه، والدخول في نفق زمني طويل من صراع التناقضات.
تركنا القرن العشرين وراءنا، بعد أن تشبّعت مجتمعاتنا بكلّ ترسبّاته وتجاربه المريرة، ومراحله القاسية، على الرغم من أن بعضهم يتحسّر على تلك الأيام واللحظات الجميلة التي عاشها في القرن العشرين، حتّى مع كلّ أوبئته الأيديولوجيّة ومتغيّراته السياسيّة وانقلاباته العسكريّة وحكوماته الفاشيّة. إنه على الرغم من كون السياسة مبعثرة ومتصادمة ومتنازعة، كانت المجتمعات العربيّة متماسكة وموحّدة وطنيّاً، ولها هموم قوميّة واحدة، وتشغل بالها قضيّة مركزيّة واحدة.

اليوم لا، فالتمزّقات التي تعاني منها مجتمعاتنا، مع جبال من ركامات الكراهيّة والأحقاد واجتياح الأوبئة والأمراض السايكولوجية الموروثة مع التاريخ، قد فجّرت مجتمعاتنا من أعماقها، ويتكاثر المتوحّشون، اليوم، بشكل لا يصدق، مذ بدأ التصادم والصراع، لأسباب طائفيّة وعقدية بأثواب سياسيّة، متخذة لها أساليب سياسيّة صعبة جداً، بل وإنها تمارس قوّتها وسطوتها باسم الدين مرّة، وباسم الطائفة مرّة، وباسم التاريخ والجغرافيات مرّات ومرّات.

لم تمرّ مجتمعاتنا العربيّة، بالذات، في مرحلة مهمّة من تحوّلات الطور الانتقالي لها، بحيث تخلق الظروف الاجتماعيّة الملائمة للتغيّر المستمر، فهي لا تنظر إلى الحياة، اليوم، نظرة تقدميّة، نحو الأمام، بل إنها تؤمن إيماناً أعمى بالنظرة الأخروية التي لا ترى إلا نهايات الأشياء، وتكاد أغلب مجتمعاتنا العربيّة تدور في هذا المأزق، من دون أيّة محاولة للخروج منه. وعليه، إن التغيير لن يحصل كما يتوقّع المرء بمثل هذه السهولة التي حمل شعاراتها أبناء الثورات العربيّة الأخيرة. وإذا سألني سائل عن التغيير الحاصل في ما يسمى بالمجتمعات "التقليدية"، أقول إنها تعيش التغيير، لكن وتيرته، كما تبدو، بطيئة جداً بالمعايير الحضرية. انّ أهم مرتكز أساسيّ للمجتمعات الحيّة هو "التنظيم" و"الإنتاج"، فكيف إن غاب هذا العنصر الحيوي، أو ذاك، في النظام الاجتماعي العربي، وما الذي يستوجب التخطيط له، في إعداد تدابير التربية والتعليم والإدارة أو التنمية والإعلام؟
للوعي بهذا العنصر التاريخي أهميّة خاصة، نظراً لأنّ الأوبئة التاريخيّة التي تجتاح مجتمعاتنا العربيّة أقوى بكثير من دول وديكتاتوريات وجيوش وأسلحة. إنها أوبئة تجد حواضنها في كلّ مجتمعاتنا التي تسيرّها العواطف والتقاليد البالية، وغالباً ما تشيع "الظاهرة"، ويتقبّلها الناس عاطفياً من دون التفكير في تجارب الآخرين على الأرض، فهم يؤمنون بما توارثوه، فكلّ مَن يحمل هذا "الموروث" يصفّقون له، بل ويندمجون معه. وهذا يعني أنهم يديرون العجلة أكثر نحو الوراء، وعليه، فإن التغيير طويل المدى، وإن بدائل الطور الانتقالي لم تحضر بعد!

لا أعتقد أنها ستحضر بسهولة، بل أتوّقع أن ثلاثين سنة قادمة ستمرّ على مجتمعاتنا، وهي تنتقل من سيئ إلى أسوأ أولاً، وإنّ الأوبئة التاريخية ستنتشر في أصقاع العالم ثانياً، لأنّ العالم كان غبيّاً، منذ البداية، في التعامل مع منظمّات وأحزاب ودول وكيانات وحركات متخلّفة وجائرة. وأيضاً، مع غياب الوعي وانغماس تفكير الناس (حتى من جاليات في الغرب)، فهم يتلهّفون عاطفيّاً من أجل تحقيق حلم وهمي، يعتقدون باستعادته من جديد، من خلال الخلف الجديد الذي يتبع السلف القديم.
على العالم أن يستعدّ لمواجهة صدمات قادمة، وأن يفكرّ بمصيره القادم، وهو يعيش بين ثقافة التمدّن وثقافة التوحّش! لا بد أن نفكر ما الذي سيحدث في تضاعيف القرن الحادي والعشرين في مجتمعاتنا والعالم أجمع. مجتمعاتنا تعاني، اليوم، من سياسات بليدة، وانقسامات حادة، بفعل الفكر المتخلّف وسياسات التوحّش والإرهاب. مجتمعاتنا التي تتمزّق يوماً بعد آخر، ويتشظى الناس بقتلهم، أو تفجيرهم، أو تهجيرهم أو إفراغ مدن كاملة من موزاييكها الديني والعرقي جرائم لا تغتفر. مدن كاملة غدت موحشة مهدّمة، يعشقها الغزاة الجدد من هذا الطرف او ذاك ، وهم الذين سحقوها ودمروها، فكيف سينشأ جيل جديد، اليوم، على مدى ثلاثين سنة مقبلة؟ جيل يتربى على مآسي البلاء العظيم؟ وسيتعلّم ممارسات هذه الطواطم المتوحشّة، أو الحاقدة على كلّ العصر؟ وهي مصممّة على الزحف نحو كلّ العالم!

إننا بحاجة ماسة إلى تحليل العمليّات التاريخية والتغييرات على أيدي مفكرّين ومختصين عقلانيين وحقيقيين، لفهم الاتجاهات الحالية والعمليّات التي تجري. وينبغي إحضار مهارات سوسيولوجيّة وأنثروبولوجيّة لها أهميتها الخاصة في فهم الماضي، لا سيّما في مجتمعاتٍ بات فيها الماضي المصدر الرئيسي للحياة وتشويه المستقبل، وإنها لم تزل متوهمة بأن حلول مشكلات هذا العصر كامنة في الماضي، وما يشاع سياسياً ويطغى إعلاميا ويكرّس تربوياً بأن ثمّة حقيقة واحدة، يمكنها أن تكون المنقذ من الضلال. كانت هذه الأفكار الميّتة قد راجت في القرن العشرين، لكنها اليوم تمشي على الأرض، وتتفّقس وتتوالد بشكل لا يمكن تصديقه. إن غياب فهم الحاضر قد قام بتشويه عمليّة التحليل باقتراح مختلف أنواع التدابير، وتوفير مستلزمات الحداثة، لتدمج في نظام التغيير القائم على التقدّم والاستنارة، لا على اتباع هذا القادم، أو ذاك من بواطن العصور الوسطى.

نشرت في صحيفة العربي الجديد ، لندن ، يوم الاثنين 8 ديسمبر / كانون الاول 2014
 
عودة
أعلى