جاسوس إسرائيل دخل مصر لإجهاض برنامج الصواريخ المصريّة
حصان بن غوريون في القاهرة (1-2)
القاهرة - صلاح الإمام
في 6 يوليو (تموز) عام 1961، احتفلت إسرائيل بإطلاق صاروخها الأول بعيد المدى، وأطلقت عليه «شافيت ـ 2» للإيحاء بأن ثمة {شافيت ـ 1}. لكن بعد عام تقريبا في 21 يوليو(تموز) عام 1962 ولمناسبة العيد العاشر لثورة يوليو، احتفلت مصر بإطلاق أربعة صواريخ بعيدة المدى، اثنين من طراز «الظافر» ومداه 175 ميلا، واثنين من طراز «القاهر» ومداه 350 ميلا. لم يحاول الرئيس جمال عبد الناصر إخفاء الهدف من تلك الصواريخ، وأصبح فخورا بأنها تستطيع إصابة أهدافها حتى مدينة بيروت، وهو ما يعني إمكان وصولها الى أي شبر في إسرائيل.
كان من تداعيات ذلك سيطرة حالة من الخوف والهلع داخل إسرائيل، وكان الرعب سيكون أكبر لو علم الإسرائيليون ما تخفيه عنهم حكومتهم واكتشفته يومها، وهو أن المخابرات الإسرائيلية فوجئت تماما بتلك الخطوة الثورية من قبل مصر وزعامتها المتمثلة في عبد الناصر، اذ لم يكن لدى الموساد أي معلومات مسبقة عن ذلك التطور المذهل داخل مصر.
قال رئيس الوزراء الإسرائيلي لرئيس مخابراته أيسر هاريل معنفًا وموبخًا: «لماذا تنفق إسرائيل تلك الأموال كلها على مخابراتها، إذا كنا سنحصل على معلوماتنا فجأة من خطاب عام يلقيه عبد الناصر؟ كل ما يلزمنا مجرد راديو ترانزستور وليس جهاز مخابرات بتلك الضخامة».
صرخ بن غوريون في وجه رئيس الموساد قائلا: «أريد تعبئة المخابرات الإسرائيلية هنا وحول العالم فورا، كي تمدني بتقرير عاجل عن الصواريخ التي صنعتها مصر وفوجئنا بها، وأريد أن يكون التقرير على مكتبي هنا قبل ثلاثة أشهر كحد أقصى، إنني من الآن لا أنام الليل منذ أعلن عبد الناصر خبر تلك الصواريخ، وسأظل لا أنام الى أن تأتوني بالتقرير, فلا بد من منع مصر بأي ثمن من صناعة الصواريخ».
سرعان ما بدأت المخابرات الإسرائيلية في جمع المعلومات. بدأت القصة كلها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حينما بدأ الضباط السابقون في الجيش الألماني المهزوم يبحثون عن مكان يلجأون إليه، فهرب بعضهم إلى الشرق، وبعضهم الآخر إلى الغرب، بعدما اختار ضباط الفيلق الإفريقي الذي كان يقوده روميل التسلل للعمل كمستشارين ومدربين للجيش المصري. هكذا، عام 1951 وصل إلى مصر الجنرال الألماني السابق ويلهلم فارم باشر مع مجموعة صغيرة من زملائه، عارضين خدماتهم على الحكومة المصرية، وقد أدوا عملهم بنجاح، اذ إنه بعد ثورة يوليو طلبت منهم قيادة الثورة الاستمرار في عملهم.
كان الشخص الأكثر أهمية في مجموعة الضباط الألمان هو الدكتور ويلهام فوس، الذي جاء معه إلى مصر بواحد من آباء صناعة الصواريخ الألمانية وهو رولف أنجل، ووضعه على رأس شركة مصرية اسمها «كيرفا»، أقامتها الحكومة المصرية لتكون مسؤولة عن تصميم الصواريخ التكتيكية وصناعتها، ثم قام أنجل بدوره بإقناع مهندس إلكترونيات ألماني كان يعمل في معمل الأبحاث الألماني السري للصواريخ الموجهة يدعى بول جورك بالذهاب معه الى القاهرة.
لم تجد تلك المجموعة من العقول الألمانية الأجور المجزية التي تحلم بها، فقرر الجنرال فارم باشر الرحيل عن مصر عام 1958، وحذا حذوه زملاؤه، ثم قامت مصر بحل شركة كيرفا.
مواهب ألمانيّة لكن عام 1959 قرر عبد الناصر أن تعيد مصر المحاولة، واختار اللواء محمود خليل أحد المديرين السابقين للمخابرات العسكرية، كي يصبح مسؤولا عن برنامج عالي السرية ينفذه «مكتب البرامج العسكرية الخاصة»، بهدف إمداد مصر بأحدث الأسلحة، خصوصا الطائرات النفاثة والصواريخ، التي يمكن تصنيعها محليًا، كي لا تستمر مصر في اعتمادها على الدول الأجنبية للحصول على الأسلحة اللازمة لها، وكان السبب المباشر الذي أدى الى التطور في موقف الحكومة المصرية هو التقارير العاجلة التي تلقتها مصر وتفيد بوجود تعاون سري بين إسرائيل وفرنسا لصناعة الصواريخ، ومنذ ذلك الحين أصبح سباق الوقت محمومًا بين مصر وإسرائيل.
على رغم مرور سنوات كثيرة على الحرب العالمية الثانية، إلا أن ألمانيا كانت لا تزال أرضا خصبة لالتقاط المواهب العلمية التي بدأ اللواء خليل يبحث عنها، وطبقا لاتفاقيات القوى الأربع المنتصرة في الحرب (أميركا، الاتحاد السوفياتي ـ إنكلترا ـ فرنسا) كانت ألمانيا ممنوعة من صناعة أية صواريخ أو طائرات خاصة بها، فكان أي خبير ألماني في صناعة الأسلحة الجوية مضطرا للبحث عن عمل خارج ألمانيا إذا كان يريد الاستمرار في ممارسة تخصصه.
بسبب تلك الظروف الخاصة، لقي الإعلان الذي نشر في عدد من الصحف الألمانية استجابات عدة، يقول الإعلان: «صناعة جوية في شمال إفريقيا تطلب متخصصين وخبراء»، وجاءت الإستجابات سريعة من علماء ألمان بارزين.
في الوقت نفسه، وقّع اللواء خليل عقدا مع ويلي ميسر شميث لبناء مصنع طائرات، بعدها عثر على الرجل المثالي لإدارة المصنع، وهو فرديناند براندو، مهندس نمساوي بارز كان الروس قبضوا عليه أثناء الحرب وعقدوا معه صفقة، وهي أن يصنع هو وفريقه موتورًا روسيًا متعدد المهام، مقابل السماح له بالعودة الى بلاده، ونجح براندو فعلا في تصميم موتور قوة 12 ألف حصان!! استخدمه الروس في طائرات النقل العملاقة طراز {توبوليف ـ 114}، وسمح له الروس بالعودة إلى بلاده.
مع حلول عام 1960، كانت صناعة الطائرات المصرية أصبحت جاهزة للعمل، وكان مصنع الطائرات الجديد الذي حمل اسم «المصنع 136» أوشك على التمام قرب القاهرة، وبالقرب منه أقيم «المصنع 135» لتصميم الطائرات، وكان ثمة اتجاه كبير في مصر نحو صناعة الصواريخ، خصوصا بعد ورود الأخبار بأن إسرائيل تتعاون مع فرنسا لتصنيع الصواريخ، فأصبح المشروع المصري الجديد الأكثر أهمية وسرية وهو «المصنع 333» لصناعة الصواريخ الذي أنشئ ضمن مشروع الحي السكني الجديد (مدينة نصر)، واتخذت الضوابط كلها لمنع احتمالات اختراقه، فأصبح محصنا تماما ضد أي اختراقات لمخابرات أجنبية، خصوصا المخابرات الإسرائيلية، وكان ذلك أول خطوات النجاح.
وجد اللواء خليل العلماء الألمان الذين يحتاجهم في معهد حكومي «شتوتغارت»، هو معهد يعمل في أبحاث الجو بالأقمار الصناعية وما شابه ذلك، وكان معظم العلماء الألمان يشعرون بخيبة أمل بسبب تخلّف بلادهم الشديد وراء أميركا والاتحاد السوفياتي، في مجال أبحاث ما بعد الحرب، ووجد رئيس المعهد فرصة كبرى أمامه في العرض الذي طرحه عليه اللواء خليل على رغم أن الحكومة الألمانية كانت تمنع المعهد من أداء أي أعمال لحساب دولة أجنبية، لكن عرض مصر كان مغريا، واستطاع الدكتور ايوجين سانجر أن يجند معظم أساتذة المعهد للعمل معه في مصر، ونجح الموساد في الحصول على معلومات مبكرة عن وصول تلك المجموعة من العلماء الألمان إلى مصر، لكن المخابرات الإسرائيلية افترضت أنهم سيعملون في مصنع الطائرات المصري.
كانت مصر تعلن، كغطاء، أن مصنعي 135 و136 يصنعان طائرات التدريب، لكن المخابرات الإسرائيلية حصلت على معلومات مختلفة تفيد بأن مصر تبذل جهدها الأكبر لإنتاج طراز خاص من الطائرات النفاثة ذات الأداء العالي وتصلح للعمل كطائرات مقاتلة، بل وأكدت تقارير الموساد بأن مصر بدأت فعلا تضع نموذجا وتصميما خاصا لتلك الطائرة المقاتلة الجديدة.
عام 1961 أصبح لدى المخابرات الإسرائيلية ما يكفي من المعلومات عن النشاط الذي يجري لحساب مصر، في معهد شتوتغارت في ألمانيا، إلى الدرجة التي جعلت الحكومة الإسرائيلية تتقدم باحتجاج رسمي إلى الحكومة الألمانية، التي ضغضت بدورها على مدير المعهد كي ينهي تعاقده مع الحكومة المصرية، وكان من نتيجة ذلك أن قدم عدد من علماء المعهد استقالاتهم وسافروا الى مصر وتفرغوا تماما للعمل لحسابها.
بدأت الموساد تدريجيا تتوصل إلى معلومات أكثر خطورة، اذ عرفت أن الحكومة المصرية وعدت علماء معهد شتوتغارت بمبلغ مليوني مارك إذا نجحوا في صناعة صاروخ لحسابها، وأن أكثر من ربع المبلغ سيكون من نصيب الدكتور سانجر مدير المعهد، والذي كان تلقى فعلا مبلغا تحت الحساب، ثم توصلت المخابرات الإسرائيلية أيضا إلى معرفة الشركات الوهمية التي أقامتها مصرفي سويسرا لذلك الغرض، ونوع المعدات العلمية التي تشحن إلى مصر بواسطة تلك الشركات.
على رغم ذلك كله لم يكن أحد في الموساد يأخذ محاولات مصر بجدية، ولم تكن الموساد تعرف بعد حينما اكتشفت مهمة الدكتور سانجر أن مصر كانت تختبر فعلا أجهزة الوقود السائل اللازمة للصواريخ الجديدة، التي تزن من أربعة إلى عشرين طنا، وهي طراز وسط بين الصاروخ الألماني القديم V-2 وبين الصاروخ الفرنسي الحديث «فيروتيك». فشلت المخابرات الإسرائيلية تماما في التوصل إلى المعلومات الجوهرية، ونجحت المخابرات المصرية في فرض السرية الكاملة على تفاصيل المشروع الذي كان يخضع لإشراف الرئيس عبد الناصر شخصيًا.
من هنا، كان شعور إسرائيل بالذهول الكامل والمفاجأة المشلة، حين أعلن عبد الناصر نجاح مصر فعلا في إطلاق طرازين جديدين من صاروخي الظافر والقاهر، وشعرت إسرائيل بالغيظ الشديد وهي ترى عبد الناصر يستعرض 20 صاروخا مغطاة بالعلم المصري خلال العرض العسكري للجيش عام 1962، شعرت الحكومة الإسرائيلية بالرعب بسبب تلك المفاجأة ، ومن هنا كانت ثورة بن غوريون على مدير مخابراته بسبب فشلها في الحصول على أية معلومات عن المشروع المذهل.
معلومات خطيرة خلال فترة قصيرة عبأت فيها المخابرات الإسرائيلية أجهزتها كافة، وقعت في أيديها وثيقة مهمة للغاية، إنها رسالة من البروفسور بيلز، الذي تولى العمل بعد الدكتور سانجر المشرف على المشروع ، موجهة إلى كامل عزب مدير المصنع 333، ومؤرخة في 24 مارس (آذار) 1962، يطلب فيها بيلز من عزب مبلغ ثلاثة ملايين وسبعمائة ألف فرنك سويسري، لشراء أجهزة لخمسمائة صاروخ من طراز 2، وأربعمائة صاروخ من طراز 5.
أسرع رئيس الموساد الإسرائيلي بالمعلومات الخطيرة إلى رئيس حكومته بن غوريون، وهنا وقع خلاف بين أيسر هاريل رئيس الموساد ومائير أميت رئيس المخابرات العسكرية، الذي قدم تقريره إلى شيمون بيريز نائب وزير الدفاع، فأسرع الأخير بدوره يحمله إلى بن غوريون.
لم يكن ثمة خلاف على خطورة التطور المصري في صناعة الصواريخ، ولا خلاف على ضرورة أن تعمل إسرائيل بالطرق كلها على منع مصر من الاستمرار في بحوثها لإنتاج صواريخ خاصة بها تواجه بها صواريخ إسرائيل، التي أطلقتها قبل عام، واستعانت بفرنسا في صناعتها، لكن الخلاف الرئيس بين الموساد والمخابرات العسكرية أصبح يكمن في الوقت المتاح لمنع مصر من صناعة صواريخها الخاصة بها، كان الموساد يرى أنه لا يوجد وقت متاح وأن تلك الصواريخ تمثل خطرا ملحا عاجلا، أما المخابرات العسكرية فكانت ترى أن مصر ما زال أمامها سنوات عدة قبل أن تحل مشكلة أجهزة التوجيه اللازمة للصواريخ، وبالتالي فإسرائيل تملك وقتا كافيا للتفكير في وسائل ناجحة لحرمان مصر من تحقيق النجاح في تلك المهمة الشاقة.
بناء على وجهة نظر الموساد، طلب رئيسها من بن غوريون أن يثير الأمر بنفسه وعلى وجه السرعة مع كونراد اديناور مستشار ألمانيا الغربية، وأن يوجه إليه إنذارا علنيا بسحب كل المواطنين الألمان الذين يعملون في مشروع الصواريخ المصرية فورا، وإلا فستتأثر العلاقات الإسرائيلية الألمانية تماما، إذا استمر هؤلاء العلماء الألمان في عملهم بمصر.
لكن المشكلة كانت: ماذا إذا لم تنجح تلك الوسيلة في إخراج العلماء الألمان من مصر؟ المهم هو إيقاف مشروع الصواريخ المصري وليس إساءة العلاقات مع ألمانيا، فاستقر رأي الحكومة الإسرائيلية على أن تجرب أولا أسلوبا آخر للضغط على ألمانيا الغربية، فكتب شيمون بيريز رسالة إلى فرانك جوزيف شتراوس، وزير الدفاع الألماني، يبلغه فيها بخطورة وجود العلماء الألمان في مصر، ويعبر عن اقتناعه بأن الحكومة الألمانية لا بد من تتصرف بحزم حينما تعرف أن ألمانيا إذا سمحت بوجود علمائها في مصر إنما تساعد الإتحاد السوفياتي ومصر في تدمير إسرائيل.
طوارئ في الموساد لكن تلك الخطوة لم تهدئ من هلع رئيس الموساد، والمشكلة أن بن غوريون ومعه مجموعة من الضباط تلاميذه مثل شيمون بيريز وموشي ديان ورئيس المخابرات العسكرية، كانوا يريدون انتهاز الفرصة للحصول على مساعدة أوروبا لإسرائيل في برنامجها النووي، ومن ثم لم يريدوا أن تؤدي أزمة الصواريخ المصرية إلى قطيعة كاملة مع ألمانيا الغربية، التي تملك الكثير لتساعد به إسرائيل، وأصبح الموساد معبأ بكامل أجهزته في حالة طوارئ مستمرة، لجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن البرنامج المصري لصناعة الصواريخ، وكان ما يريده أيسر هاريل رئيس الموساد هو دليل مباشر كي يقنع المخابرات العسكرية بخطورة السماح لمصر بالمضي في برنامجها لصناعة الصواريخ، وفي شهر سبتمبر (أيلول) عام 1962 حصل رئيس الموساد على ما اعتقد أنه يكفيه.
استطاع أحد عملاء الموساد أن يأتي إليها بمعلومات جديدة عن البرنامج المصري، وهو الأمر الذي زاد على الهيستريا التي أصيبت بها أجهزة إسرائيل كلها بسبب برنامج الصواريخ المصري، اذ بدأت المخابرات المركزية الأميركية تتعاون مع الموساد في كشف أكبر قدر ممكن من المعلومات عن الصواريخ المصرية، وهكذا أصبح عملاء المخابرات المركزية الأميركية داخل مصر يجمعون المعلومات عن الصواريخ المصرية لحساب إسرائيل، بل وبدأت الحكومة الأميركية تحاول الضغط على مصر للسماح لها بالتفتيش على صناعتها العسكرية المتطورة، بعدها اقترح أيسر هاريل حلا جذريا، قال إنه على ضوء فشل الحكومة الألمانية في إرغام رعاياها من العلماء العاملين في برنامج الصواريخ المصري على الرحيل من مصر، فلا بد من إرغامهم على ذلك بالقوة وبالإرهاب وبأية وسيلة !! وأضاف: «لا بد من أن يعرف أولئك العلماء الألمان أن رحلتهم إلى القاهرة معناها بالنسبة إلينا رحيلهم إلى الجبهة الأمامية ضدنا... رحلة إلى خط النار».
كان معنى كلام رئيس الموساد وضع خطة شاملة للاغتيالات في مصر، تقوم المخابرات العسكرية بدراسة كل تفاصيلها والتحضير لها بمنتهى العناية، وأصبح اسم تلك الخطة «عملية داموكليس»، وهدفها إعلان الحرب على برنامج الصواريخ المصري كي لا ينجح أبدا.
كانت المعلومات الأساسية لإسرائيل عن برنامج الصواريخ المصرية تأتي من أهم عميل للمخابرات الإسرائيلية داخل مصر ذاتها، وهو وولف غانغ لوتز، أرسلته المخابرات الإسرائيلية إلى مصر عام 1960 تحت غطاء أنه خبير وتاجر خيول عربية، وتأكيدا لذلك كان لا بد من أن تكون له مزرعته الخاصة به وفيها إسطبل للخيول العربية، وكان الدور الذي رسمته له المخابرات الإسرائيلية وتولت تدريبه عليه طويلا في تل أبيب هو أن يتصرف كرجل ثري من ألمانيا يعشق الخيول العربية وينفق عليها ببذخ.
لوتز هذا يهودي ألماني ولد عام 1921، هاجر مع أمه إلى فلسطين عام 1933، وعند نشوب الحرب العالمية الثانية تطوع في الجيش البريطاني، حيث قضى معظم خدمته في مصر وشمال أفريقيا، وبالتالي أجاد الحديث بالعربية إلى جانب العبرية والإنكليزية، ثم انضم الى الجيش الإسرائيلي وحارب معه ضد مصر عام 1956، ووصل إلى رتبة ميجور, وبعدها أصبح عضوا في المخابرات الإسرائيلية، ودخل القاهرة عام 1960، قادمًا من ألمانيا بجواز سفر ألماني صحيح، ليكون واحدا من العملاء السريين للموساد في مصر.
نجح لوتز فورًا في تدبير من يقدمه إلى نادي الفروسية المصري بالجزيرة في قلب القاهرة، ووقتها كان الرئيس الفخرى للنادي اللواء يوسف علي غراب، الضابط المسؤول عن قوة الشرطة المصرية كلها، ومن ثم كان يتمتع بتأثير ونفوذ كبيرين.
بعدها بستة أشهر، استدعت المخابرات الإسرائيلية لوتز الذي أصبح اسمه الحركي في أرشيفها «الحصان»، فسافر إلى أوروبا كي يقدم تقريرا عن مدى تقدمه إلى رئيس الموساد، الذي سافر بنفسه للقائه كأهم عميل له في مصر.
كانت المخابرات الإسرائيلية تنفق على لوتز ببذخ شديد نظرا الى أهميته الضخمة لخطة إسرائيل المضادة للصواريخ المصرية، أصبح أمل إسرائيل الوحيد في الحصول على معلومات عن برنامج الصواريخ المصري وتحطيمه. كانت عملية «داموكليس» السرية التي خططتها المخابرات الإسرائيلية تتركز على إرغام العلماء الألمان في مصر على الرحيل بأقصى سرعة، لأن تلك هي الطريقة الوحيدة لإيقاف البرنامج المصري لصناعة الصواريخ، وفي سبيل ذلك كانت الخطة تتضمن استخدام الأسلحة كافة بما في ذلك الاغتيال، وكان على لوتز أو «الحصان» أن يقدم إلى المخابرات الإسرائيلية المعلومات الأساسية عن العلماء الألمان الموجودين في مصر: من هم، أين يسكنون، بمن يختلطون، ماذا يفعلون تحديداً؟ وما هي المرحلة التي بلغوها من البرنامج المصري؟
كيف نجح لوتز في تنفيذ مهمته؟ ذلك ما سنعرفه غدًا.
غداً
• خطة الاغتيالات الكبرى لعلماء الصواريخ الألمان
• قصة القبض على «الحصان»
جمال عبد الناصر أثناء الاحتفال باطلاق القاهر والظافرلحظة اطلاق الصاروخ الظافربن جوريونأسير هاريل رئيس المخابرات الإسرئيلية «من 1952 – 1963»
حصان بن غوريون في القاهرة (1-2)
القاهرة - صلاح الإمام
في 6 يوليو (تموز) عام 1961، احتفلت إسرائيل بإطلاق صاروخها الأول بعيد المدى، وأطلقت عليه «شافيت ـ 2» للإيحاء بأن ثمة {شافيت ـ 1}. لكن بعد عام تقريبا في 21 يوليو(تموز) عام 1962 ولمناسبة العيد العاشر لثورة يوليو، احتفلت مصر بإطلاق أربعة صواريخ بعيدة المدى، اثنين من طراز «الظافر» ومداه 175 ميلا، واثنين من طراز «القاهر» ومداه 350 ميلا. لم يحاول الرئيس جمال عبد الناصر إخفاء الهدف من تلك الصواريخ، وأصبح فخورا بأنها تستطيع إصابة أهدافها حتى مدينة بيروت، وهو ما يعني إمكان وصولها الى أي شبر في إسرائيل.
كان من تداعيات ذلك سيطرة حالة من الخوف والهلع داخل إسرائيل، وكان الرعب سيكون أكبر لو علم الإسرائيليون ما تخفيه عنهم حكومتهم واكتشفته يومها، وهو أن المخابرات الإسرائيلية فوجئت تماما بتلك الخطوة الثورية من قبل مصر وزعامتها المتمثلة في عبد الناصر، اذ لم يكن لدى الموساد أي معلومات مسبقة عن ذلك التطور المذهل داخل مصر.
قال رئيس الوزراء الإسرائيلي لرئيس مخابراته أيسر هاريل معنفًا وموبخًا: «لماذا تنفق إسرائيل تلك الأموال كلها على مخابراتها، إذا كنا سنحصل على معلوماتنا فجأة من خطاب عام يلقيه عبد الناصر؟ كل ما يلزمنا مجرد راديو ترانزستور وليس جهاز مخابرات بتلك الضخامة».
صرخ بن غوريون في وجه رئيس الموساد قائلا: «أريد تعبئة المخابرات الإسرائيلية هنا وحول العالم فورا، كي تمدني بتقرير عاجل عن الصواريخ التي صنعتها مصر وفوجئنا بها، وأريد أن يكون التقرير على مكتبي هنا قبل ثلاثة أشهر كحد أقصى، إنني من الآن لا أنام الليل منذ أعلن عبد الناصر خبر تلك الصواريخ، وسأظل لا أنام الى أن تأتوني بالتقرير, فلا بد من منع مصر بأي ثمن من صناعة الصواريخ».
سرعان ما بدأت المخابرات الإسرائيلية في جمع المعلومات. بدأت القصة كلها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حينما بدأ الضباط السابقون في الجيش الألماني المهزوم يبحثون عن مكان يلجأون إليه، فهرب بعضهم إلى الشرق، وبعضهم الآخر إلى الغرب، بعدما اختار ضباط الفيلق الإفريقي الذي كان يقوده روميل التسلل للعمل كمستشارين ومدربين للجيش المصري. هكذا، عام 1951 وصل إلى مصر الجنرال الألماني السابق ويلهلم فارم باشر مع مجموعة صغيرة من زملائه، عارضين خدماتهم على الحكومة المصرية، وقد أدوا عملهم بنجاح، اذ إنه بعد ثورة يوليو طلبت منهم قيادة الثورة الاستمرار في عملهم.
كان الشخص الأكثر أهمية في مجموعة الضباط الألمان هو الدكتور ويلهام فوس، الذي جاء معه إلى مصر بواحد من آباء صناعة الصواريخ الألمانية وهو رولف أنجل، ووضعه على رأس شركة مصرية اسمها «كيرفا»، أقامتها الحكومة المصرية لتكون مسؤولة عن تصميم الصواريخ التكتيكية وصناعتها، ثم قام أنجل بدوره بإقناع مهندس إلكترونيات ألماني كان يعمل في معمل الأبحاث الألماني السري للصواريخ الموجهة يدعى بول جورك بالذهاب معه الى القاهرة.
لم تجد تلك المجموعة من العقول الألمانية الأجور المجزية التي تحلم بها، فقرر الجنرال فارم باشر الرحيل عن مصر عام 1958، وحذا حذوه زملاؤه، ثم قامت مصر بحل شركة كيرفا.
مواهب ألمانيّة لكن عام 1959 قرر عبد الناصر أن تعيد مصر المحاولة، واختار اللواء محمود خليل أحد المديرين السابقين للمخابرات العسكرية، كي يصبح مسؤولا عن برنامج عالي السرية ينفذه «مكتب البرامج العسكرية الخاصة»، بهدف إمداد مصر بأحدث الأسلحة، خصوصا الطائرات النفاثة والصواريخ، التي يمكن تصنيعها محليًا، كي لا تستمر مصر في اعتمادها على الدول الأجنبية للحصول على الأسلحة اللازمة لها، وكان السبب المباشر الذي أدى الى التطور في موقف الحكومة المصرية هو التقارير العاجلة التي تلقتها مصر وتفيد بوجود تعاون سري بين إسرائيل وفرنسا لصناعة الصواريخ، ومنذ ذلك الحين أصبح سباق الوقت محمومًا بين مصر وإسرائيل.
على رغم مرور سنوات كثيرة على الحرب العالمية الثانية، إلا أن ألمانيا كانت لا تزال أرضا خصبة لالتقاط المواهب العلمية التي بدأ اللواء خليل يبحث عنها، وطبقا لاتفاقيات القوى الأربع المنتصرة في الحرب (أميركا، الاتحاد السوفياتي ـ إنكلترا ـ فرنسا) كانت ألمانيا ممنوعة من صناعة أية صواريخ أو طائرات خاصة بها، فكان أي خبير ألماني في صناعة الأسلحة الجوية مضطرا للبحث عن عمل خارج ألمانيا إذا كان يريد الاستمرار في ممارسة تخصصه.
بسبب تلك الظروف الخاصة، لقي الإعلان الذي نشر في عدد من الصحف الألمانية استجابات عدة، يقول الإعلان: «صناعة جوية في شمال إفريقيا تطلب متخصصين وخبراء»، وجاءت الإستجابات سريعة من علماء ألمان بارزين.
في الوقت نفسه، وقّع اللواء خليل عقدا مع ويلي ميسر شميث لبناء مصنع طائرات، بعدها عثر على الرجل المثالي لإدارة المصنع، وهو فرديناند براندو، مهندس نمساوي بارز كان الروس قبضوا عليه أثناء الحرب وعقدوا معه صفقة، وهي أن يصنع هو وفريقه موتورًا روسيًا متعدد المهام، مقابل السماح له بالعودة الى بلاده، ونجح براندو فعلا في تصميم موتور قوة 12 ألف حصان!! استخدمه الروس في طائرات النقل العملاقة طراز {توبوليف ـ 114}، وسمح له الروس بالعودة إلى بلاده.
مع حلول عام 1960، كانت صناعة الطائرات المصرية أصبحت جاهزة للعمل، وكان مصنع الطائرات الجديد الذي حمل اسم «المصنع 136» أوشك على التمام قرب القاهرة، وبالقرب منه أقيم «المصنع 135» لتصميم الطائرات، وكان ثمة اتجاه كبير في مصر نحو صناعة الصواريخ، خصوصا بعد ورود الأخبار بأن إسرائيل تتعاون مع فرنسا لتصنيع الصواريخ، فأصبح المشروع المصري الجديد الأكثر أهمية وسرية وهو «المصنع 333» لصناعة الصواريخ الذي أنشئ ضمن مشروع الحي السكني الجديد (مدينة نصر)، واتخذت الضوابط كلها لمنع احتمالات اختراقه، فأصبح محصنا تماما ضد أي اختراقات لمخابرات أجنبية، خصوصا المخابرات الإسرائيلية، وكان ذلك أول خطوات النجاح.
وجد اللواء خليل العلماء الألمان الذين يحتاجهم في معهد حكومي «شتوتغارت»، هو معهد يعمل في أبحاث الجو بالأقمار الصناعية وما شابه ذلك، وكان معظم العلماء الألمان يشعرون بخيبة أمل بسبب تخلّف بلادهم الشديد وراء أميركا والاتحاد السوفياتي، في مجال أبحاث ما بعد الحرب، ووجد رئيس المعهد فرصة كبرى أمامه في العرض الذي طرحه عليه اللواء خليل على رغم أن الحكومة الألمانية كانت تمنع المعهد من أداء أي أعمال لحساب دولة أجنبية، لكن عرض مصر كان مغريا، واستطاع الدكتور ايوجين سانجر أن يجند معظم أساتذة المعهد للعمل معه في مصر، ونجح الموساد في الحصول على معلومات مبكرة عن وصول تلك المجموعة من العلماء الألمان إلى مصر، لكن المخابرات الإسرائيلية افترضت أنهم سيعملون في مصنع الطائرات المصري.
كانت مصر تعلن، كغطاء، أن مصنعي 135 و136 يصنعان طائرات التدريب، لكن المخابرات الإسرائيلية حصلت على معلومات مختلفة تفيد بأن مصر تبذل جهدها الأكبر لإنتاج طراز خاص من الطائرات النفاثة ذات الأداء العالي وتصلح للعمل كطائرات مقاتلة، بل وأكدت تقارير الموساد بأن مصر بدأت فعلا تضع نموذجا وتصميما خاصا لتلك الطائرة المقاتلة الجديدة.
عام 1961 أصبح لدى المخابرات الإسرائيلية ما يكفي من المعلومات عن النشاط الذي يجري لحساب مصر، في معهد شتوتغارت في ألمانيا، إلى الدرجة التي جعلت الحكومة الإسرائيلية تتقدم باحتجاج رسمي إلى الحكومة الألمانية، التي ضغضت بدورها على مدير المعهد كي ينهي تعاقده مع الحكومة المصرية، وكان من نتيجة ذلك أن قدم عدد من علماء المعهد استقالاتهم وسافروا الى مصر وتفرغوا تماما للعمل لحسابها.
بدأت الموساد تدريجيا تتوصل إلى معلومات أكثر خطورة، اذ عرفت أن الحكومة المصرية وعدت علماء معهد شتوتغارت بمبلغ مليوني مارك إذا نجحوا في صناعة صاروخ لحسابها، وأن أكثر من ربع المبلغ سيكون من نصيب الدكتور سانجر مدير المعهد، والذي كان تلقى فعلا مبلغا تحت الحساب، ثم توصلت المخابرات الإسرائيلية أيضا إلى معرفة الشركات الوهمية التي أقامتها مصرفي سويسرا لذلك الغرض، ونوع المعدات العلمية التي تشحن إلى مصر بواسطة تلك الشركات.
على رغم ذلك كله لم يكن أحد في الموساد يأخذ محاولات مصر بجدية، ولم تكن الموساد تعرف بعد حينما اكتشفت مهمة الدكتور سانجر أن مصر كانت تختبر فعلا أجهزة الوقود السائل اللازمة للصواريخ الجديدة، التي تزن من أربعة إلى عشرين طنا، وهي طراز وسط بين الصاروخ الألماني القديم V-2 وبين الصاروخ الفرنسي الحديث «فيروتيك». فشلت المخابرات الإسرائيلية تماما في التوصل إلى المعلومات الجوهرية، ونجحت المخابرات المصرية في فرض السرية الكاملة على تفاصيل المشروع الذي كان يخضع لإشراف الرئيس عبد الناصر شخصيًا.
من هنا، كان شعور إسرائيل بالذهول الكامل والمفاجأة المشلة، حين أعلن عبد الناصر نجاح مصر فعلا في إطلاق طرازين جديدين من صاروخي الظافر والقاهر، وشعرت إسرائيل بالغيظ الشديد وهي ترى عبد الناصر يستعرض 20 صاروخا مغطاة بالعلم المصري خلال العرض العسكري للجيش عام 1962، شعرت الحكومة الإسرائيلية بالرعب بسبب تلك المفاجأة ، ومن هنا كانت ثورة بن غوريون على مدير مخابراته بسبب فشلها في الحصول على أية معلومات عن المشروع المذهل.
معلومات خطيرة خلال فترة قصيرة عبأت فيها المخابرات الإسرائيلية أجهزتها كافة، وقعت في أيديها وثيقة مهمة للغاية، إنها رسالة من البروفسور بيلز، الذي تولى العمل بعد الدكتور سانجر المشرف على المشروع ، موجهة إلى كامل عزب مدير المصنع 333، ومؤرخة في 24 مارس (آذار) 1962، يطلب فيها بيلز من عزب مبلغ ثلاثة ملايين وسبعمائة ألف فرنك سويسري، لشراء أجهزة لخمسمائة صاروخ من طراز 2، وأربعمائة صاروخ من طراز 5.
أسرع رئيس الموساد الإسرائيلي بالمعلومات الخطيرة إلى رئيس حكومته بن غوريون، وهنا وقع خلاف بين أيسر هاريل رئيس الموساد ومائير أميت رئيس المخابرات العسكرية، الذي قدم تقريره إلى شيمون بيريز نائب وزير الدفاع، فأسرع الأخير بدوره يحمله إلى بن غوريون.
لم يكن ثمة خلاف على خطورة التطور المصري في صناعة الصواريخ، ولا خلاف على ضرورة أن تعمل إسرائيل بالطرق كلها على منع مصر من الاستمرار في بحوثها لإنتاج صواريخ خاصة بها تواجه بها صواريخ إسرائيل، التي أطلقتها قبل عام، واستعانت بفرنسا في صناعتها، لكن الخلاف الرئيس بين الموساد والمخابرات العسكرية أصبح يكمن في الوقت المتاح لمنع مصر من صناعة صواريخها الخاصة بها، كان الموساد يرى أنه لا يوجد وقت متاح وأن تلك الصواريخ تمثل خطرا ملحا عاجلا، أما المخابرات العسكرية فكانت ترى أن مصر ما زال أمامها سنوات عدة قبل أن تحل مشكلة أجهزة التوجيه اللازمة للصواريخ، وبالتالي فإسرائيل تملك وقتا كافيا للتفكير في وسائل ناجحة لحرمان مصر من تحقيق النجاح في تلك المهمة الشاقة.
بناء على وجهة نظر الموساد، طلب رئيسها من بن غوريون أن يثير الأمر بنفسه وعلى وجه السرعة مع كونراد اديناور مستشار ألمانيا الغربية، وأن يوجه إليه إنذارا علنيا بسحب كل المواطنين الألمان الذين يعملون في مشروع الصواريخ المصرية فورا، وإلا فستتأثر العلاقات الإسرائيلية الألمانية تماما، إذا استمر هؤلاء العلماء الألمان في عملهم بمصر.
لكن المشكلة كانت: ماذا إذا لم تنجح تلك الوسيلة في إخراج العلماء الألمان من مصر؟ المهم هو إيقاف مشروع الصواريخ المصري وليس إساءة العلاقات مع ألمانيا، فاستقر رأي الحكومة الإسرائيلية على أن تجرب أولا أسلوبا آخر للضغط على ألمانيا الغربية، فكتب شيمون بيريز رسالة إلى فرانك جوزيف شتراوس، وزير الدفاع الألماني، يبلغه فيها بخطورة وجود العلماء الألمان في مصر، ويعبر عن اقتناعه بأن الحكومة الألمانية لا بد من تتصرف بحزم حينما تعرف أن ألمانيا إذا سمحت بوجود علمائها في مصر إنما تساعد الإتحاد السوفياتي ومصر في تدمير إسرائيل.
طوارئ في الموساد لكن تلك الخطوة لم تهدئ من هلع رئيس الموساد، والمشكلة أن بن غوريون ومعه مجموعة من الضباط تلاميذه مثل شيمون بيريز وموشي ديان ورئيس المخابرات العسكرية، كانوا يريدون انتهاز الفرصة للحصول على مساعدة أوروبا لإسرائيل في برنامجها النووي، ومن ثم لم يريدوا أن تؤدي أزمة الصواريخ المصرية إلى قطيعة كاملة مع ألمانيا الغربية، التي تملك الكثير لتساعد به إسرائيل، وأصبح الموساد معبأ بكامل أجهزته في حالة طوارئ مستمرة، لجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن البرنامج المصري لصناعة الصواريخ، وكان ما يريده أيسر هاريل رئيس الموساد هو دليل مباشر كي يقنع المخابرات العسكرية بخطورة السماح لمصر بالمضي في برنامجها لصناعة الصواريخ، وفي شهر سبتمبر (أيلول) عام 1962 حصل رئيس الموساد على ما اعتقد أنه يكفيه.
استطاع أحد عملاء الموساد أن يأتي إليها بمعلومات جديدة عن البرنامج المصري، وهو الأمر الذي زاد على الهيستريا التي أصيبت بها أجهزة إسرائيل كلها بسبب برنامج الصواريخ المصري، اذ بدأت المخابرات المركزية الأميركية تتعاون مع الموساد في كشف أكبر قدر ممكن من المعلومات عن الصواريخ المصرية، وهكذا أصبح عملاء المخابرات المركزية الأميركية داخل مصر يجمعون المعلومات عن الصواريخ المصرية لحساب إسرائيل، بل وبدأت الحكومة الأميركية تحاول الضغط على مصر للسماح لها بالتفتيش على صناعتها العسكرية المتطورة، بعدها اقترح أيسر هاريل حلا جذريا، قال إنه على ضوء فشل الحكومة الألمانية في إرغام رعاياها من العلماء العاملين في برنامج الصواريخ المصري على الرحيل من مصر، فلا بد من إرغامهم على ذلك بالقوة وبالإرهاب وبأية وسيلة !! وأضاف: «لا بد من أن يعرف أولئك العلماء الألمان أن رحلتهم إلى القاهرة معناها بالنسبة إلينا رحيلهم إلى الجبهة الأمامية ضدنا... رحلة إلى خط النار».
كان معنى كلام رئيس الموساد وضع خطة شاملة للاغتيالات في مصر، تقوم المخابرات العسكرية بدراسة كل تفاصيلها والتحضير لها بمنتهى العناية، وأصبح اسم تلك الخطة «عملية داموكليس»، وهدفها إعلان الحرب على برنامج الصواريخ المصري كي لا ينجح أبدا.
كانت المعلومات الأساسية لإسرائيل عن برنامج الصواريخ المصرية تأتي من أهم عميل للمخابرات الإسرائيلية داخل مصر ذاتها، وهو وولف غانغ لوتز، أرسلته المخابرات الإسرائيلية إلى مصر عام 1960 تحت غطاء أنه خبير وتاجر خيول عربية، وتأكيدا لذلك كان لا بد من أن تكون له مزرعته الخاصة به وفيها إسطبل للخيول العربية، وكان الدور الذي رسمته له المخابرات الإسرائيلية وتولت تدريبه عليه طويلا في تل أبيب هو أن يتصرف كرجل ثري من ألمانيا يعشق الخيول العربية وينفق عليها ببذخ.
لوتز هذا يهودي ألماني ولد عام 1921، هاجر مع أمه إلى فلسطين عام 1933، وعند نشوب الحرب العالمية الثانية تطوع في الجيش البريطاني، حيث قضى معظم خدمته في مصر وشمال أفريقيا، وبالتالي أجاد الحديث بالعربية إلى جانب العبرية والإنكليزية، ثم انضم الى الجيش الإسرائيلي وحارب معه ضد مصر عام 1956، ووصل إلى رتبة ميجور, وبعدها أصبح عضوا في المخابرات الإسرائيلية، ودخل القاهرة عام 1960، قادمًا من ألمانيا بجواز سفر ألماني صحيح، ليكون واحدا من العملاء السريين للموساد في مصر.
نجح لوتز فورًا في تدبير من يقدمه إلى نادي الفروسية المصري بالجزيرة في قلب القاهرة، ووقتها كان الرئيس الفخرى للنادي اللواء يوسف علي غراب، الضابط المسؤول عن قوة الشرطة المصرية كلها، ومن ثم كان يتمتع بتأثير ونفوذ كبيرين.
بعدها بستة أشهر، استدعت المخابرات الإسرائيلية لوتز الذي أصبح اسمه الحركي في أرشيفها «الحصان»، فسافر إلى أوروبا كي يقدم تقريرا عن مدى تقدمه إلى رئيس الموساد، الذي سافر بنفسه للقائه كأهم عميل له في مصر.
كانت المخابرات الإسرائيلية تنفق على لوتز ببذخ شديد نظرا الى أهميته الضخمة لخطة إسرائيل المضادة للصواريخ المصرية، أصبح أمل إسرائيل الوحيد في الحصول على معلومات عن برنامج الصواريخ المصري وتحطيمه. كانت عملية «داموكليس» السرية التي خططتها المخابرات الإسرائيلية تتركز على إرغام العلماء الألمان في مصر على الرحيل بأقصى سرعة، لأن تلك هي الطريقة الوحيدة لإيقاف البرنامج المصري لصناعة الصواريخ، وفي سبيل ذلك كانت الخطة تتضمن استخدام الأسلحة كافة بما في ذلك الاغتيال، وكان على لوتز أو «الحصان» أن يقدم إلى المخابرات الإسرائيلية المعلومات الأساسية عن العلماء الألمان الموجودين في مصر: من هم، أين يسكنون، بمن يختلطون، ماذا يفعلون تحديداً؟ وما هي المرحلة التي بلغوها من البرنامج المصري؟
كيف نجح لوتز في تنفيذ مهمته؟ ذلك ما سنعرفه غدًا.
غداً
• خطة الاغتيالات الكبرى لعلماء الصواريخ الألمان
• قصة القبض على «الحصان»
جمال عبد الناصر أثناء الاحتفال باطلاق القاهر والظافرلحظة اطلاق الصاروخ الظافربن جوريونأسير هاريل رئيس المخابرات الإسرئيلية «من 1952 – 1963»